يقول لنا ديكارت: «كنت حينذاك في ألمانيا حيث دعتني الحروب التي ما تزال ناشبة فيها» وكلنا يعلم الحكاية المشهورة عن «المدفأة» التي لجأ إليها، ومع ذلك فلست أريد أن أحرم نفسي لذة قراءتها، يقول: وفيما كنت عائدا من تتويج الإمبراطور، أقصد إلى الجيش، وقفتني بداية الشتاء في محلة لم يكن لي بها حديث يلهيني، ولم يكن لي بحمد الله شواغل أو أهواء تدخل الاضطراب على نفسي، فكنت أقضي سحابة يومي في حجرة دافئة مغلقة علي وحدي أقلب أفكاري، وكان من أول ما خطر لي أن المصنوعات المركبة من قطع عدة والتي اشترك فيها صناع عديدون، كثيرا ما لا تحوي من الكمال بقدر ما تحويه المصنوعات الخارجة من يد صانع واحد، ويستنتج ديكارت من ذلك أنه كما أن البيت الذي يبنيه بناء واحد أجمل من البيت الذي يشترك في بنائه بناءون عديدون، وكما أن المدينة التي تشيدها أجيال متعاقبة أقل نظاما من المدينة التي تشيد دفعة واحدة، فإن العلوم لما كانت قد تكونت شيئا فشيئا فهي خلو من كل يقين، وليست تعلم النظام الحقيقي، ومن ثمة فيجب أن يشرع واحد في إقامتها من جديد وفي ترتيبها.
إن ما تعلنه لنا عبارات «المقالات» على ما فيها من تلميح وحذر إنما هو ثورة علمية حقا، فهي ترمي إلى استبعاد كل ما عمل من قبل وإلى استئناف الفلسفة كأن أحدا لم يفلسف، وإلى تجديد البناء، أو بعبارة أدق: إلى البناء لأول مرة ونهائيا، بناء المجموعة الحقة للعلوم، المجموعة الحقة للعالم.
إن المشروع من العظمة بحيث يتولانا الذهول من جرأة ديكارت، ولكن ديكارت يسير في حديثه بهدوء فيقول: «وفكرت أنا كنا أطفالا قبل أن نصير رجالا، وقضينا زمنا طويلا تحت سيطرة شهواتنا ومعلمينا، وللشهوات والمعلمين تأثيران متعارضان في أكثر الأحيان لا يوجهاننا إلى الخير دائما، فيكاد يستحيل والحالة هذه أن تكون أحكامنا نقية ثابتة كما لو كان أتيح لنا استخدام العقل كاملا منذ ميلادنا، ولم يحكمنا إلا العقل.»
أجل كان يكون جميلا جدا لو كنا منذ ميلادنا متمتعين بالعقل كاملا لا بالعقل الذي نحن حاصلون عليه اليوم في سن النضوج والذي ملؤه الأخطاء، بل بالعقل الذي كنا نحصل عليه حينذاك، العقل الكامل «الجوهري» كما كان يجب أن يكون عليه، كما كان يحصل عليه رجل مثل آدم يخلق بالغا بعقل خارج من يدي الطبيعة، أو الله مباشرة؛ إذا لما كنا ندعه يقع في الخطأ، ولما كان يطرأ عليه أي وهم يحجب ضوءه الطبيعي.
وليست هذه الفكرة بجديدة، إنها آتية من شيشرون، وأغلب الظن أنه استمدها من آخر، ولكن أحدا من بين جميع الذين قالوا بها - حتى بيكون - لم يكن جادا فيها. أريد أن أقول: إن أحدا لم ينشئ برنامجا للعمل من هذا الأسف الأفلاطوني إلا ديكارت، فقد شرع جادا أن يعيد للعقل نقاءه وكماله «الفطريين» ليذهب بالطبيعة الإنسانية إلى أعظم درجة من الكمال، وهو يقول:
ولأجل تنقية العقل من شوائبه بدا لي أن خير ما أصنع إنما هو أن أشرع في أن أنتزع من فكري كل الآراء التي كنت صدقتها لذلك الوقت؛ لأحل محلها آراء خيرا منها، أو نفس الآراء بعد أن ألائم بينها وبين عقلي.
ثورة عقلية أو بالأحرى ثورة روحية تسند الثورة العلمية وتعلن بجرأة منقطعة النظير قوة العقل وقيمته وسلطانه المطلق.
أجل إن ديكارت سيحاول أن يحد من هذا السلطان الذي أعلنه وأن يتلافى ضرره، وسيقول لنا مخلصا كل الإخلاص: إن نقد العقل لا يجب ولا يمكن أن يتناول الحقائق الدينية، أي الحقائق الموحاة من حيث إنها بماهيتها أسمى من العقل، وسيحاول حصر الدمار ونفض يديه من النتيجة المؤلمة التي قد تنتج والتي ستنتج بالفعل.
لم يكن ديكارت بالرجل الثوري، بل كان يحرص مخلصا على الطمأنينة العامة والنظام العام، فإنه كان بحاجة إليهما ليستطيع متابعة أبحاثه العلمية، وكان يحرص بالأخص على طمأنينته الشخصية، ولست ألومه في ذلك، لقد كان من السهل على بوسويه أن يسميه «الفيلسوف الشديد الحرص» فلم يكن بوسويه يستهدف لخطر، ولم يكن أتى بشيء يذكر، ولعل ديكارت لم يستهدف لخطر، ولكنه جاء بكنز، فليس من المستغرب أن يطلب الطمأنينة؛ لذلك هو يسرع إلى توفيرها لنفسه، وهذا دليل واضح على أنه كان يعلم خيرا من أي إنسان ما لمنهجه من قيمة «كلية».
هو يقول إنه لا يقصد إلى إصلاح الدولة ولا الهيئات العامة الكبرى، بل لا يقصد إلى إصلاح «نظام العلوم» أي مناهج المدارس، فإنه لا يعنيه، يقول: «لا أستطيع بحال أن أقر أصحاب الأمزجة القلقة الذين لا يدعوهم داع من حسب أو مال للعناية بالشئون العامة، فلا يخلون مع ذلك من تصور إصلاحات جديدة، ولو كنت أعلم أن شيئا من هذا الكتاب من شأنه أن يحمل الناس على أن يظنوا بي مثل هذا الجنون لكنت آسف جدا لنشره.» على أن أفكاره ملكه الخاص، وله كل الحق أن يصنع بها ما يشاء، وهو يقول لنا إنه لا يريد بحال أن يجاوز ذلك الحد، بل لا يريد إصلاح أفكار الآخرين، وإنما يقتصر على إصلاح أفكاره ليس غير، «للذين قسم لهم الله من نعمه أكثر مما قسم له أن يتوخوا أغراضا أسمى»، أما هو فغرضه يكفيه.
Page inconnue