بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فتح بتيسير الوصول إلى أصول
1 / 193
الشريعة الغراء، وشرح الصدور بنور الاهتداء إلى محجتها الزهراء، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أفضل المرسلين حبيب الله أبي القاسم محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين وصحابته هداة الدين.
وبعد:
فقد يسر الله الكريم الرءوف الرحيم، بإتمام «تيسير الوصول إلى
1 / 194
منهاج الأصول» فجاء بحمد الله كنزًا مدفونًا ينفق من تبره، وبحرًا مشحونًا يستغنى (بفرائد دره.
لكنه مبسوط لكثرة تحقيقاته، وإيضاح منهاجه، وحل مشكلاته، فأردت اختصاره على طريقة متوسطة، حاوية لنفائسه المستنبطه
1 / 195
ترتفع عن الإقلال المخل، وتنحط عن الإطناب الممل، وافية ببسط عبارة المتن
المشكلة، وتفصيل إشاراته المجملة، وذكر المحتاج إليه من القيود والأمثلة، وإظهار الضمائر والمتعلقات المعضلة، ومن الله الكريم أستمد الصواب والتوفيق إلى ما به يحصل جزيل الثواب وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 196
بسم الله الرحمن الرحيم
تقدس من تمجد بالعظمة والجلال، وتنزه من تفرد بالقدم والكمال، عن مناسبة الأشباه والأمثال، ومصادمة الحدوث والزوال».
افتتح المصنف (رحمه الله تعالى) كتابه بعد التيمن بالبسملة بالثناء على الله -تعالى- أداء لحق شيء مما يجب عليه من شكر نعمائه، إلى تأليف هذا المختصر، أثر من آثارها، ولم يأت بالمنهج المعروف، إما تفننًا في العبارة؛ لأن ما أتى به في هذه الخطبة مشتمل على «الحمد لله»، ولا ينافيه ما أخرجه أبو داود
1 / 197
وغيره من حديث أبي هريرة ﵁ -من قوله ﷺ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع».
لأن معناه: الافتتاح بما يدل على المقصود من حمد الله تعالى، لأن الخطبة يتعين فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه، أو جعل المصنف (تقدس إلى آخره) بيانًا للبسملة، لأن من كان معبودًا بالحق لا محالة
1 / 198
يكون متصفًا بصفات الكمال، منزهًا عن صفات النقص.
ولأن في العبارة الغريبة لذة ليست في المشهورة.
هذا وقد صرح المصنف فيما سيجيء بقوله: نحمده.
«وتقدس» من القدس، وهو الطهارة لغة.
والقدوس: فعول منه صفة من صفات الله تعالى، وهو المنزه عن
1 / 199
كل وصف يدركه حس، أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يفضي به تفكير، فهو منزه عن أوصاف كمال الخلق، كما هو منزه عن أوصاف نقصهم، بل كل صفة تتصور للخلق، فهو مقدس عنها وعما يشبهها ويماثلها.
قال الحلواني: (ومعنى: تقدس) أخذ القدس، أي: الطهارة التي تليق بجنابه لذاته، أي اختصت ذاته بالقدس، من غير عدم سابق (ولا صنع صانع).
وآثره على «قدس» و«انقدس»، لأن كثرة المباني تدل على كثرة
1 / 200
المعاني، (فأفاد المبالغة: أي في اختصاصه بالطهارة).
ولأن فيه فخامة تملأ الفم، واختار صفة الماضي لدلالته على تحقيق مدلوله.
(قال بعضهم): وقدم الصفات السلبية على الإيجابية؛ لأن إثبات الإيجابية، التي هي الكمال تتوقف عند التطهير من النقائص.
1 / 201
ولا يبعد أن يقصد من السلبية التمدح أيضًا، فتكون السلبية من صفات الكمال.
وقوله: «من تمجد»: يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة أي الذي أو شيء، وتمجد صلته أو صفته، (ومن مع صلته أو صفته) في محل رفع لأنه فاعل تقدس (أو تمجد).
(قيل: وأتى بكلمة «من» إيماءً إلى أن صلتها المجد والشرف التام الحاصل له بحسب عظمة الصفات وكبرياء الذات، بلغت إلى مرتبة إذا لوحظت تعين إسنادها إلى الله -تعالى -بحيث لا مجال للوهم أن ينسبها لغيره.
فإذن لا فرق في التعبير عن خصوصية الذات بين الاسم العلمي وغيره، على أن كلمة من تفيد فخامة ليست في غيرها).
وتمجد، قال الحلواني: أي أخذ المجد لذاته كما تقدم، (أي
1 / 202
اتصف بالعظمة والجلال).
والمجيد: الشريف لذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، فكأن شرف الذات إذا قارنه حسن الأفعال سمي مجيدًا.
والمجد: الشرف التام الكامل، وهو لله -تعالى -في ذاته وصفاته وأفعاله.
والمجد: السعة وكثرة الخير.
والباء: في قوله بالعظمة للملابسة والمصاحبة لا للسببية، أي: مجده مصاحب للعظمة والجلال.
والعظيم من صفات الله -تعالى -: بمعنى أنه أعظم من كل
1 / 203
عظيم (في نفاذ حكمه، وكمال قدرته، وقهره، وسلطانه، وأعظم من كل) عظيم في أن العقول لا تصل إلى كنه صمديته.
والجليل: هو الموصوف بنعوت الجلال.
ونعوت الجلال هو العز، والملك، والتقديس، والعلم، والقدرة، وغيرها من الصفات.
فالجامع لجميعها هو الجليل المطلق وهو الله -تعالى -.
قال الغزالي: وكأن الجليل يرجع إلى كمال الصفات، والعظيم إلى كمال الذات، والصفات جميعها منسوبًا إلى إدراك البصيرة (إذ كان
1 / 204
بحيث يستغرق البصيرة) ولا تستغرقه البصيرة. انتهى
وصفات الله تعالى ثبوتية: كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والبقاء.
وسلبية: مثل ليس بجسم ولا عرض ولا في مكان.
1 / 205
قال الحلواني: فأشار المصنف ﵀ بالعظمة إلى الصفات الثبوتية، وبالجلال إلى الصفات السلبية، (وأخر الصفات السلبية) رعاية للسجع.
أو يقال: صفاته -تعالى -صفات لطف، وصفات قهر، تسمى بصفات الجمال والجلال، فأشار بالعظمة إلى صفات الجمال أي اللطف، وأشار بالجلال إلى صفات القهر. وجمع بينهما ليكون العبد بين الخوف والرجاء.
قال العراقي:
1 / 206
والمحفوظ «تقدس من تمجد بالعظمة والجلال»
وذكر الشيخ تقي الدين السبكي إنها: والجمال.
وقال: ومشاهدة صفة الجمال تثير المحبة ومشاهدة صفة الجلال تثير الهيبة، والعظمة تثير الهيبة أيضًا.
فلذلك قرن المصنف العظمة بالجمال، لتفيد معنى زائدًا على الجلال انتهى.
1 / 207
وعطف المصنف قوله: «وتنزه» على قوله: «تقدس»؛ أنهما فعليتان وإعرابه كما مر.
قال الحلواني: ومعنى تنزه أي: أخذ في النزاهة أي الطهارة لذاته.
(كما تقدم).
وتفرد قال الحلواني: أي أخذ الفردانية لذاته كما مر، أي ذاته منفردة لا يشاركه شيء في القدم الذاتي فلا يكون وجوده عن الغير، وصفاته قديمة غير مسبوقة بالعدم.
1 / 208
(وتحقيقه: أن التفعل في تفرد وفي سائر ما أورده من تقدس ونحوه، ليس لمطاوعة فعل آخر، كما يقال: علمته فتعلم، بل المراد التلبس بالشيء كما يقال في المحسوسات: تقمص فيقال: في المعاني: تفعل على معنى اتصافه به، أعني من غير تكلف، ويجوز أن يكون لمطاوعة فعل، وذلك أن معنى قدس: اعتقد التطهر فالمطاوعة في لفظ «تقدس» على معنى المعتقد تقديسه، أي أنه أقام له من الحجج
1 / 209
والبراهين ما يلزم الخلق اعتقاد تنزيهه عن كل نقص فهذا معنى المطاوعة هنا لا التأثير، فمطاوعة كل شيء بحسبه، ومن هذا يعلم حسن عدول المصنف عن الإتيان بأصل الوصف إلى صيغة التفعل؛ لأنه أبلغ إذ فيه الإيماء إلى قيام الدليل على ذلك الوصف.
والكمال، قيل: هو فوق التمام.
والكمال المطلق: هو الذي يكون كلما يمكن حاصلًا له بالفعل وهو الله تعالى.
والمناسبة: اتحاد في النسبة.
والأشباه: جمع شبه -بكسر الشين وسكون الباء -وهو اتحاد في الصفات.
والأمثال: جمع مثل -بكسر الميم وسكون الثاء -وهو اتحاد في تمام
1 / 210
الماهية (كذا قيل).
وقال في الصحاح: يقال هذا مِثْلُه ومَثَلُه كما يقال: شبهه وشبهه بمعنى والمصادمة الوصول من الطرفين.
والحدوث: كون الشيء بعد ما لم يكن.
والزوال: الفناء.
1 / 211
ويجوز أن يتعلق قوله عن مناسبة بقوله: تقدس، أي تقدس أن تكون صفاته مناسبة لصفات غيره، وذاته أن تكون مماثلة لذات غيره.
وقوله: ومصادمة الحدوث والزوال متعلقًا بقوله: «تنزه» أي: تنزه أن يصل الحدوث إلى صفاته فلا تكون صفاته حادثة بل قديمة، وتنزه ذاته أن يكون له زوال وفناء، ففيه لف ونشر مرتب.
وصدر مجموع النشرين بكلمة «من» وعطف أحدهما على الآخر.
وأحال التعيين على ذهن السامع لأنه لا يخفى عليه أن الأول متعلق بالفقرة الأولى والثاني بالثانية.
1 / 212