ثم قفينا.... بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
[الحديد: 27]، وقوله تعالى:
إنا أنزلنا إليك الكتاب
[النساء: 105] { شرعة } سميت لأنها شرعت أى أظهرت وبينت أو شرعت أى وضعت لتقصد ويؤخذ منها كماء دائم على وجه الأرض يقصد للشرب والاستقاء وغير ذلك يتوصل بها إلى حياة القلب والحياة الأبدية كالماء للبدن، أو لأنها طريقة إلى رضى الله والجنة وطريق إلى العمل بما يثبت ذلك { ومنهاجا } طريقا واضحا واسعا فالملة شريعة باعتبار تلك المعاني ومنهاج باعتبار وضوحه واتساعه، وإذا فسرنا الشريعة بالظهور فقد زاد لفظ منهاج لها سعة، أو الشرعة العبادة والمنهاج أحكام الدين، ولأمة موسى شريعة ولأمة عيسى شريعة تضم إليها أمة موسى ولمن وجد في زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثه من اليهود والنصارى والعرب وغيرهم شريعة هى القرآن والسنة وما يؤخذ منهما وكذ لكل أمة قبل سيدنا موسى عليه السلام شريعة، والدين واحد وهو التوحيد لا يختلف ومكارم الأخلاق واجتناب مساوئها والإقرار بحقيقة ما جاء من الله، ولا شريعة بعد البعثة المحمدية سوى الملة المحمدية، وتدل الآية أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وكذا بين الشرائع وقيل هما واحد والعطف لاختلاف الصفة أو للتأكيد كقول عنترة: أقوى وأقفر بعد أم الهيثم، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق الواسع، وقيل المنهاج أصول الدين والشرعة فروعه، وضعف وقيل الشرعة النبى والمنهاج الكتاب.
وقيل: المنهاج الدليل والشرعة الطريق مطلقا { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } على دين واحد لا يلحق نسخ شريعة، وقيل لو شاء الله لجعلكم على دين الإسلام كلكم ولا يشرك منكم أحد، ولا يناسبه قوله تعالى { ولكن ليبلوكم } ليظهر مطيعكم وعاصيكم خارجا طبق علمه { فيما آتاكم } فإن المعنى ولكن خالف بين شرائعكم ليبلوكم فيما آتاكم من الشرائع ولا يصح أن يقال ولكن لم يجعلكم كلكم مسلمين ليبلوكم فيم آتاكم من الشرائع ويظهر المطيع والعاصى فإن فرض الحمل على دين الإسلام وأنه الأمة الواحدة ينافى تعدد الشرائع فافهم، وقيل لو شاء اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، وقيل لو شاء الله تعالى لم يبعث نبيا فيتعبدكم بعقولكم، ويوفق بينها، وليس الشرائع مجرد ابتلاء بل نظر للصلاح لهم كما يدل له قوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } سارعوا إلى الخيرات بمسابقة من الافتعال الذى بمعنى التفاعل، افعلوا طاقتكم في الخيرات وهي الأعمال الصالحات من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه كما يفعل كل من المتنافسين مع الآخر { إلى الله مرجعكم جميعا } أى لأن رجوعكم بالبعث إلى الله لا إلى غيره وهو لا يخفى عنه شيء من مبادرة المبادر وتقصير المقصر فيجازيه على ذلك كما قال { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين إن فلانا مبادر للحق ثوابه الجنة وفلانا مقصر مبطل عقابه النار وجميعا حال من الكاف المضاف إليها المصدر الميمى إضافة مصدر لفاعله من رجع اللازم أو لمفعوله من رجع المتعدى، ولو كان هذا المصدر لا ينحل إلى حرف المصدر والفعل إذ لا يصح أن يقال إلى الله أن ترجعوا جميعا.
[5.49]
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } إن مفسرة لمعطوف على أنزلنا إليك الكتاب، أى أمرناك أن احكم أو أوحينا إليك أن احكم، ثم رأيت أنه اعترض بأنه لم يحفظ حذف المفسر بأن، قلنا هذا لصحته معنى أولى من جعلها مصدرية دخلت على الطلب إذ لا معنى لذلك، فعندى لا يدخل حرف المصدرية على الأمر والنفى لأن المصدر له خارج والأمر والنهى طلب لا خارج له فلا تقدر وبأن احكم عطفا على بالحق ولا وأمرناك بأن احكم وما أوهم ذلك مؤول فكذلك لا يصح أن تجعل مصدرية ويعطف المصدر على الكتاب أى أنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم، أو على الحق أى بالحق وبالحكم وليس ذكر الحكم هنا تكريرا لأن الأول في الرجم وهذا فى الدماء والديات، ولأن هذا فى قول أحبار اليهود اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وإن بينا وبين قومنا خصومة فاحكم لنا عليهم نؤمن بك فنزل قوله تعالى { واحذرهم أن يفتوك عن بعض ما أنزل الله إليك } إلخ مع قوله تعالى: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } ، ثم إنه لا مانع من أنه ذكر الحكم تأكيدا ومصدر يفتن بدل اشتمال من الهاء أو مفعول من أجله على حذف المضاف المستكمل لشروطه أى مخافة أن يفتنوك أى مخافة فتنتهم إياك، واستدل بالآية على جواز الغلط والنسيان في حق الرسل لأنه أمر بالحذر، وعمد قبول فتنتهم لا تتوهمه منه صلى الله عليه وسلم { فإن تولوا } عما أنزل إليك وأرادوا غيره أو أمسكوا عنه وعن غيره { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم } يعاقبهم في الدنيا بالقتل والسبى والجلاء، أجلى النضير وقتل قريظة وأعم من ذلك ما عدا قينقاع وأهل خيبر { ببعض ذنوبهم } هو ذلك التولى وعبر عنه بالبعض تعظيما له بالإبهام، ويعاقبهم عليه وعلى سائر ذنوبهم في الآخرة لأن المصيبة كفارة لمن لم يصر، وذكر البعض مضافا للذنوب إشعار بأن لهم ذنوبا كثيرة يكفى واحد منها في الأخذ، وأبهم البعض تعظيما له وهو التولى وإن بعضا منها أيا كان يوجب إهلاكهم في الدنيا والباقى في الآخرة، وقيل المراد بالبعض الكل كما يعكس ولا يمنع من إرادة الكل كون الإصابة في الدنيا لجواز أن يصيبهم بمصيبة واحدة في الدنيا بذنوبهم كلها ويعاقبهم بها كلها في الآخرة لأنهم أصروا، والآية دليل على أن الله أراد المعصية كما أراد الطاعة لأنه لا يريد إصابتهم إلا وقد أراد معصيتهم بأن نهاهم ولم ينتهوا { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } خارجون عما أمر الله به أو عن ترك ما نهى عنه إنكار له أو تشهيا، والمراد أن مثل هؤلاء اليهود كثير وهم من لم يزدجر ولم يأتمر وأما التمرد في الفسق والاعتداء فيه فلا دلالة في الآية عليهما، اللهم إلا على معنى أثبتنا القصاص فى التوراة وقررناه في الإنجيل وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما ومع ذلك كله لم يؤمنوا به وخرجوا عنه.
[5.50]
{ أفحكم الجاهلية يبغون } الفاء عاطفة لما بعدها وللهمزة قبلها على الجملة قبل هى أن كثيرا إلخ، أو فإن تولوا إلخ، أو عاطفة على جملة مقدرة بعد الهمزة أى أيتولون عن قبول حكمك فيبغون حكم الجاهلية، فإن حكم مفعول يبغون، وبخهم الله على طلب حكم الجاهلية وأنكر لياقته وهو المداهنة والميل عن الحق إلى الهوى مع أن الله أنزل التوراة والإنجيل والقرآن على خلافه، ويقال نزلت في النضير إذ طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقيهم على أن دية أحدهم تامة على القرظى ودية القرظى عليهم نصف، وفي قريظة إذ قالوا النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل النضير منا أعطونا سبعين وسقا تمرا وإن قتلنا منهم أخذوا مائة وأربعين وسقا وجراحتنا نصف جراحتهم فاقض بيننا فقال صلى الله عليه وسلم:
" لا فضل لأحدكم على الآخر في دم ولا عقل - أى دية - ولا جرح "
Page inconnue