{ يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة } أصفياء تطلعونهم على سركم، وبطانة الرجل من يفشى إليه سره ثقة به، وهو مفرد يستعمل فى الواحد والاثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، مستعار من بطانة الثوب والفراش، بمعنى الجانب الباطن منه { من دونكم } معشر المسلمين، مفعول ثان إن تعدى لاثنين، وإلا تعلق به، ومن للابتداء { لا يألونكم خبالا } لا يقصرون لكم فى الفساد، والألو فى الشىء التقصير فيه، ألا يألوا ألوا قصر، وتعدى لاثنين مع أنه لازم لتضمنه معنى منع أو نقص، أو حذف حرفين، أي لا يألون لكم في خبال، نزلت فى من يوالى من المؤمنين والمنافقين اليهود، لنحو قرابة أو صداقة من الجاهلية، ورضاع وجوار، أو يوالى المشركين كذلك، ومن يوالى المنافقين لنحو ذلك، ومعنى قول أبى حيان، إنه تمييز محول عن المفعول به مع أنه لازم، أنه محول عن المفعول به الذى بواسطة الجار، أى لا يقصرون لكم خبالا { ودوا } تمنوا { ما عنتم } عنتكم أى مشقتكم،لا يقصرون فى فساد دينكم ودنياكم، فإن هجزوا عن التأثير فحب ذلك وتمنيه غير زائل عن قلوبهم { قد بدت } ظهرت لكم، وقيل، فيما بينهم يظهرون عداوة المسلمين، والصحيح الأول { البغضآء } العداوة { من أفواههم } ظهرت علامة العداوة فى كلامهم الخارج من أفواههم كالغيبة والبهت { وما تخفى صدرهم } من البغضاء { أكبر } مما بدا على ألسنتهم، وذلك، أن من شأنهم أن يضمروا ما فى صدورهم من بغض المؤمنين، ويتحرزوا عن ظهوره، ومع ذلك ينفلت عن ضرورة فهم ما يعلم به، فما يظهر أقل مما خفى فى قلوبهم، المفرد فم، وميمه بدل من واو فوه، ولام الكلمة هاء، وعينها واو، والجمع التكسيرى يدل لذلك، وكذا التصغير على فويه، والنسب على فوهى { قد بينا لكم الأيآت } العلامات الدالة على البغضاء لكم { إن كنتم تعقلون } ما بينا لكم، أو كنتم من أهل التمييز.
[3.119]
{ هآأنتم أولآء تحبونهم } ها للتنبيه وأولاء منصوب على التخصيص، أو منادى بحرف محذوف على القلة لأنه اسم إشارة، وتحبونهم خبر أنتم، وأولاء خبر، وتحبونهم خبر ثان، وأنتم وأولاء وواو تحبون للمخاطبين من المؤمنين في موالاة الكفار، وإن جعلنا أولاء للكفار فهو مبتدأ خبره تحبونهم، أو منصوب على الاشتغال، والجملة خبر أنتم وأولاء إشارة { ولا يحبونكم } فهم في كفرهم أصلب منكم في إيمانكم، فهذا توبيخ للمخاطبين { وتؤمنون بالكتاب كله } كتب الله كلها، لا ببعضها دون البعض، أو لا ببعض الكتاب وكفر بباقيه، كفعل اليهود والنصارى، كأنه قيل، تؤمنون بكتبهم ولا يؤمنون بكتابكم، والعطف على تحبونهم، وتجوز الحالية على تقدير المبتدأ، أى تحبونهم والحال أنتم بؤمنون بكتب الله كلها، كتبهم وغيرها وهم لم يؤمنوا بالقرآن فقد أخطأوا ولم ينصفوا { وإذ لقوكم قالوا ءامنا } أظهروا مقتضى الإيمان ,هم أهل الكتاب المشركون، وهو صلى الله عليه وسلم عالم بأ،هم لم يصدقوا، كالنطق بكلمة الإخلاص، وكالصلاة منافقه وتغريرا { وإذا خلوا } منكم { عضوا عليكم } أى لكم، أى لأجلكم { الأنامل من الغيظ } أى اشتد عليهم ائتلاف المؤمنين وعلبتهم لأجل الغيظ، إذ لم يقدروا على التشفى واحتاجوا إلى المداراة، أو من للابتداء، ولا بد أن يكون عض الأنامل كناية عن الغيظ، لقوله من الغيظ، إلا أن يقال مجموع ذلك كناية، ووجهه عض الأنامل كثير من الغضبان، فجعل كناية عن الغيظ، { قل } يا محمد، أو ياكل مؤمن، بألسنتكم قولا يسمعونه، أو يوصل إليهم، إذ لا أقطع للحب من جرح اللسان، وقيل المراد يقل، الأمر باعتقاد بغضهم وتشديد عداوتهم، والدعاء بإهانتهم، وازدياد غيظهم، أو دوامه، وأصله حاصل، وإنما تطلب الزيادة والمداومة إلى أن يموتوا، ويلزم من دعاء ازدياد غيظهم إلى الهلاك دعاء موتهم بالغيظ، ويلزم من قوة الإسلام دعاء ازدياد غيظهم إلى الهلاك { موتوا بغيظكم } بسببه أو معه، غير مفارق لكم، ولا ترون ما يسركم من افتراق المؤمنين وكونهم مغلوبين، وهذا دعاء بدوام ما يغيظهم وازدياده، وهو ائتلاف المؤمنين وغلبتهم، لا دعاء بدوام كفرهم، والأمر للتهوين، إذ ليس فى طاقتهم أن يموتوا، ولو كانوا لم يطاوعوا الآمر به، وأنت خبير بأن ذلك دعاء بدوام الخير للمؤمنين، وقد قيل، هذا من كناية الكناية، إذ عبر بدعاء موتهم من الغيظ عن ملزومه الذى هو دعاء بازدياد غيظهم إلى حد الهلاك، وعبر بازدياد غيظهم عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعزة أهله { إن الله عليم بذات الصدور } أى بخصلة أو اعتقادة، أو مضمرات، أو خواطر صاحبة الصدور، وليس فى كلام العرب ذات الشىء بمعنى نفس الشىء، فلا تفسر الآية به، وهذا من جملة المقول، أمره الله أن يقوله لهم، أو مستأنف أو تعليل لقل، أو لمحذوف، اى لا تعجب من اطلاعى إياك على سرائرهم، فإنه لا يخفى عنه ما فى القلوب من غيظ وشدته وغير ذلك من كل ما يخطر فى القلوب.
[3.120]
{ إن تمسسكم } تصلكم، تشبيها بمس اليد { حسنة } إما أن تخرج عن الوصفية فيكون بمعنى منفعة أو نعمة من أمور الدنيا، كنصر وغنم وخصب وإما أن بتقى عليها، وكأنه قال: خصلة حسنة، وهى ما ذكر من خير الدنيا { تسؤهم } تغمهم وتكدر عليهم حالهم وتحزنهم { وإن تصبكم سيئة } مضرة، أو خصلة سيئة كما مر من شر الدنيا { يفرحوا بها } هذا آخر أوصافهم، فمن قوله: وإذا لقوكم إلى هنا أوصاف لهم كما قبله، كأنه قيل: بلغوا الغاية فى عداوتكم، فكيف توالونهم، فاجتنبوهم، المس أقل من الإصابة، فإذا ساءهم أقل خير نالكم فغيره أولى، وإذا فرحوا بمصيبة عظيمة فغيرها مما هو أعظم أولى، ولذلك غير بالمس فى موضع، وبالإصابة فى آخر { وإن تصبروا } على عداوتهم ومضراتهم ومشاق التكليف { وتتقوا } ربكم، بترك موالاتهم وما حرم الله { لا يضركم } بحفظ الله الموعود للصابر المتقى، ويتوسط أخذ الحذر، وهو من الله أيضا { كيدهم } أى احتيالهم فى إيصال المكروه إليكم { شيئا } أى ضيرا، لضعفه، مع مالكم من الأجر عليه فى الآخرة { إن الله بما يعملون } من الكيد وسائر المعاصى { محيط } علما، فيجازيهم.
[3.121]
{ و إذ غدوت } اذكر لنفسك وأصحابك، لأجل ماترتب على غدوك، أو اذكر الحادث إذ غدوت { من أهلك } أهل المدينة، الأوس والخزرج، أمره بالذكر ليعلم أصحابه عاقبة الصبر وسوء المخالفة إذ خالفوك فاشتغلوا بطلب الغنائم، وقد أمرتهم ألا يبرحوا فى ثغر أحد، وظنوا الأمر كأمر بدر، وإنما نصروا يوم بدر وغنموا ببركة صبرهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بخلاف يوم أحد فخالفوه أمره، فكان القتل والأسر فيهم، فهذا تقرير لقوله:
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا
[آل عمران: 120]، فإن لم يصبروا وخالفوا أمرك نصر عليهم العدو، وتقرير لقوله:
لا تتخذوا بطانة من دونكم
Page inconnue