قد عُلم مما تقدم ان حقيقة كل أمور التكوين والخلق ونشأة الانسان أمرٌ يفوضه السلَفُ الى الله تعالى، ويكتفون بظاهر اللفظ فيه.
اما الخلف فيلجأون الى التأويل، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل.
وقد مضت سنّة الله في كتابه ان يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة، تقريبًا للأفهام. ومن ذلك انه عرّفنا قيمة أنفسنا، وما أُدعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات. فعلينا والحال هذه ان تجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق. . بذلك تظهر حكمته فينا، ونشرف، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم ومعنى سجودهم لأصلنا.
فمجمل الآيات السابقة ان هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الارض أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك. وقدّر الملائكة انه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى اعلمهم الله ان علمهم لم يحط بمواقع حكمته. ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم الا طائفة محدودة منها. لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه الا روحًا واحدًا هو مبعث الشر، أبى الخضوع واستكبر عن السجود. فكان بذلك من الكافرين.
ومجمل الآيات هنا: ان الله تعالى لما خلق آدم وزوجته أسكنهما الجنة وقال لهما: اسكنا فيها، وكُلا منها ما تشاءان، من اي مكان وأي ثمر، ولا تقربا شجرة معينة، لتأكلا منها، وإلا كنتما من الظالمين العاصين. لكن ابليس الحاسد لآدم، الحاقد عليه، أخذ يغريهما بالأكل من تلك الشجرة حتى زلاَ فأكلا منها. عند ذلك أخرجهما الله مما كان فيه من النعم وأمرهما أن يعيشا في هذه الارض، وذرّيتهما من بعدهما، ويكون بعضهم لبعض عدوّا. وأبلغهم أن لهم في الأرض استقرارًا، وتيسيرًا للمعيشة الى أجل معين، لأن هذه الدنيا فانية والدار الآخرة هي الباقية.
﴿فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ يعني ان الله تعالى ألهمه بعض الدعاء وهي قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ فتاب عليه، اي رجع عليه بالرحمة والقبول ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ الذي يقبل التوبة عن البعد اذا اقترف ذنبًا ثم ندم على ما فرط منه. انه هو الذي يحفّ عباده بالرحمة اذا هم أساؤوا ورجعوا اليه تائبين.
وقد جاءت هذه الآيات ليعتبر الخلقُ ببيان الفطرة الآليهة التي فَطَر الله عليها الخلق، الملائكة والبشر، وليدركوا ان المعصية من شأن البشر، فكأنه تعالى يقول: لا تأسَ يا محمد على القوم الكافرين، ولا تبخع نفسك على ان لم يؤمنوا برسالتك، إن الضعف موجود في طبائعهم.
1 / 18