بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
- ١ -[صدر الرسالة وأبوابها والكلام في ماهية الحب]
[صدر الرسالة]
قال أبو محمد عفا الله عنه: أفضل ما ابتدئ به حمد الله ﷿ بما هو أهله، ثم الصلاة على محمد عبده ورسوله خاصة وعلى جميع أنبيائه عامة، وبعد - عصمنا الله وإياك من الحيرة، ولا حملنا ما لا طاقة لنا به، وقيض لنا من جميل عونه دليلًا هاديًا إلى طاعته، ووهبنا من توفيقه أدبًا صارفًا عن معاصيه، ولا وكلنا إلى ضعف عزائمنا، وخور قوانا، ووهاء بنيتنا، وتلدد آرائنا، وسوء اختيارنا، وقلة تمييزنا، وفساد أهوائنا - فإن كتابك وردني من مدينة المرية إلى مسكني بحضرة شاطبة، تذكر من حسن حالك ما يسرني، وحمدت الله ﷿
1 / 84
عليه واستدمته لك، واستزدته فيك؛ ثم لم ألبث أن اطلع علي شخصك وقصدتني بنفسك، على بعد الشقة وتنائي الديار وشحط المزار وطول المسافة وغول الطريق؛ وفي دون هذا ما سلى المشتاق، ونسى الذاكر، إلا من تمسك بحبل الوفاء مثلك، ورعى سالف الأذمة ووكيد المودات وحق النشأة ومحبة الصبا، وكانت مودته الله تعالى.
ولقد أثبت بيننا من ذلك ما نحن عليه حامدون وشاكرون.
وكانت معانيك في كتابك زائدة على ما عهدته من سائر كتبك، ثم كشفت إلي بإقبالك غرضك، وأطلعتني على مذهبك، سجية لم تزل عليها من مشاركتك لي في حلوك ومرك، وسرك وجهرك، يحدوك الود الصحيح الذي أنا لك على أضعافه، لا أبتغي جزاء غير مقابلته بمثله؛ وفي ذلك أقول مخاطبًا لعبيد الله بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أمير المؤمنين الناصر ﵀ في كلمة لي طويلة وكان لي صديقًا: [من الطويل] أودك ودًا ليس فيه غضاضة ... وبعض مودات الرجال سراب وأمحضك النصح الصريح وفي الحشا ... لودك نقش ظاهر وكتاب فلو كان في روحي سواك اقتلعته ... ومزق بالكفين عنه إهاب وما لي غير الود منك إرادة ... ولا في سواه لي إليك خطاب
1 / 85
إذا حزته فالأرض جمعاء والورى ... هباء وسكان البلاد ذباب وكلفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة، لا متزايدًا ولا مفننًا، لكن موردًا لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره، فبدرت إلى مرغوبك، ولولا الإيجاب لك لما تكلفته، فهذا من العفو، والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غدًا، وغن كان القاضي حمام بن أحمد حدثني عن يحيى ابن مالك بن عائذ بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: أجموا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونًا لها على الحق؛ ومن أقوال الصالحين من السلف المرضي: من لم يحسن يتفتى لم يحسن
1 / 86
يتقرأ.
وفي بعض الأثر: أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.
والذي كلفتني فلا بد فيه من ذكر ما شاهدته حضرتي، وأدركته عنايتي، وحدثني به الثقات من أهل زماني، فاغتفر لي الكناية عن الأسماء فهي إما عورة لا نستجيز كشفها، وإما نحافظ في ذلك صديقًا ودودًا ورجلًا جليلًا وبحسبي أن اسمي من لا ضرر في تسميته ولا يلحقنا والمسمى عيب في ذكره، إما لاشتهار لا يغني عنه الطي وترك التبيين، وإما لرضى من المخبر عنه بظهور خبره وقلة إنكار منه لنقله.
سأورد في رسالتي هذه أشعارًا قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها - علي أني سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهب المتحلين بقول الشعر، وأكثر من ذلك فإن إخواني يجشمونني القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم.
وكفاني أني ذاكر لك ما عرض لي مما يشاكل ما نحوت نحوه وناسبه إلي.
والتزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدك، والاقتصار على ما رأيت أو صح عندي بنقل الثقات، ودعني من أخبار الأعراب المتقدمين، فسبيلهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي مطية سواي، ولا أتحلى بحلي مستعار، والله المستغفر والمستعان لا رب غيره.
1 / 87
(٢) [أبواب الرسالة]
وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين بابًا: منها في أصول الحب عشرة: فأولها هذا الباب؛ ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من احب في النوم، ثم باب فيه ذكر من احب بالوصف، ثم باب فيه ذكر من احب من نظرة واحدة، ثم باب فيه ذكر من لا يصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الاشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير.
ومنها في أغراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر بابًا - وإن كان الحب عرضًا، والعرض لا يحتمل الأعراض، وصفة، والصفة لا توصف، فهذا على مجاز اللغة في إقامة الصفة مقام الموصوف، وعلى معنى قولنا: وجودنا عرضًا أقل في الحقيقة من عرض غيره وأكثر وأحسن وأقبح، في إدراكنا لها [و] علمنا انها متباينة في الزيادة والنقصان من ذاتها المرئية والمعلومة، إذ لا تقع فيها الكمية ولا تجزي، لأنها لا تشغل مكانًا - وهي: باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السير، ثم باب الكشف والاذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب
1 / 88
من احب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب القنوع، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب الضنى، ثم باب الموت.
ومنها في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب وهي: باب العادل، ثم باب الرقيب، ثم باب الواشي، ثم باب الهجر، ثم باب البين، ثم باب السلو.
ومن هذه الأبواب الستة بابان لكل واحد منهما ضد من الأبواب المتقدمة الذكر، وهما: باب العاذل، وضده باب الصديق المساعد؛ وباب الهجر، وضده باب الوصل.
ومنها أربعة أبواب لا ضد لها من معاني الحب وهي: باب الرقيب، وباب الواشي، ولا ضد لهما إلا ارتفاعهما.
وحقيقة الضد ما إذا وقع ارتفع الأول، وإن كان المتكلمون قد اختلفوا في ذلك، ولولا خوفنا إطالة الكلام فيما ليس من جنس الكتاب لتقصيناه -، وباب البين وضده تصاقب الديار - وليس التصاقب من معاني الحب نتكلم فيها - وباب السلو، وضده الحب بعينه، إذ معنى السلو ارتفاع الحب وعدمه.
ومنها بابان ختمنا بهما الرسالة، وهما: باب الكلام في قبح المعصية، باب في فضل التعفف، ليكون
1 / 89
خاتمة إيرادنا وآخر كلامنا الحض على طاعة الله ﷿، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مفترض على كل مؤمن.
لكن خالفنا في نسق بعض هذه الأبواب هذه الرتبة المقسمة في درج هذا الباب الذي هو أول أبواب الرسالة، فجعلناها على مباديها إلى منتهاها واستحقاقها في التقدم والدرجات والوجود، ومن أول مراتبها إلى آخرها، وجعلنا الضد إلى جنب ضده فاختلف المساق في أبواب يسيرة والله المستعان.
وهيئتها في الإيراد: أولها هذا الباب الذي نحن فيه وفيه صدر الرسالة وتقسيم الأبواب والكلام في باب ماهية الحب، ثم باب علامات الحب، ثم باب من أحب في النوم، ثم باب من أحب بالوصف، ثم باب من أحب من نظرة واحدة، ثم باب من لا يحب إلا مع المطاولة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الاشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير، ثم باب طي السر، ثم باب إذاعته، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب العاذل، ثم باب الوصل، ثم باب الهجر، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب البين، ثم باب القنوع، ثم باب الضنى، ثم باب السلو، ثم باب الموت، ثم باب قبح المعصية، ثم بابا فضل التعفف.
[الكلام في ماهية الحب]
: الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة.
وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله ﷿.
وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم
1 / 90
بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبد الله ابنه أشهر من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غزلان أن بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله ﵁ وعن جميعهم وامتناعه عن التعرض للولد
1 / 91
من غيرها.
ومثل هذا كثير، ولولا ان حقوقهم على المسلمين واجبة - وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وغنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم - لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل.
وأما كبار رجالهم ودعائهم دولتهم فأكثر من أن يحصوا، واحدث ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظفر عبد الملك بن أبي عامر بواجد، بنت رجل من الجنانين حتى حمله حبها أن يتزوجها، وهي التي خلف عليها بعد فناء العامريين الوزير عبد الله بن مسلمة، ثم تزوجها بعد قتله رجل من رؤساء البربر.
ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن ميمون القرشي الحسني أخبرني أن نزار بن معد صاحب مصر لم ير ابنه منصور بن نزار الذي ولي الملك بعد وادعى الإلهية إلا بعد مدة من مولده، مساعدة
1 / 92
لجارية كان يحبها حبًا شديدًا، هذا ولم يكن له ذكر ولا يرث ملكه ويحيي ذكره سواه.
ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد استغني بأشعارهم عن ذكرهم؛ وقد ورد من خبر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وشعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد جاء من فتيا ابن عباس ﵁ ما لا يحتاج إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود.
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود رحمه
1 / 93
الله عن بعض أهل الفلسفة: الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها.
وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأب يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار - كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرف الإنسان فيسكن إليها، والله ﷿ يقول) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها «الأعراف: ١٨٩) فجعل علة السكون أنها منه.
ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة،
1 / 94
ونحن نجد كثيرًا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيدًا لقلبه عنه (١) .
ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا انه شيء في ذات النفس.
وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها، فمن ودك لأمر ولي مع انقضائه، وفي ذلك أقول: [من الطويل] ودادي لك الباقي على حسب كونه ... تناهى فلم ينقص بشيء ولم يزد وليست له غير الإرادة (٢) علة ... ولا سبب حاشاه يعلمه أحد إذا ما وجدنا الشيء علة نفسه ... فذاك وجود ليس يفنى على الأبد وإما وجدناه لشيء خلافه ... شطر ثانيفإعدامه في عدمنا ما له وجد ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضروب (٣)، فأفضلها: محبة المتحابين في الله ﷿، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب (٤)، وإما لفضل علم بمنحه الإنسان؛ ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر (٥) يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع (٦) في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان
_________
(١) قارن بقول ابن الجوزي: وإذا كان سبب العشق اتفاقًا في الطباع بطل قول من قال ان العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة وإنما يكون العشق لنوع مناسبة وملاءمة ثم قد يكون الشيء حسنًا عند شخص، غير حسن عند آخر (ذم الهوى: ٣٠٠) .
(٢) تعبير " الارادة " هنا لا أضنه يعني " الارادة الإنسانية " وإنما التقدير الإلهي، أي ان ذلك شيء مرتب في طبيعة النفس، حسب التوفيق الإلهي، ولهذا عبر عن هذا الموقف بقوله: " الشيء علة نفسه ".
(٣) هنا يوسع ابن حزم في مفهوم " الحب "، حتى يصبح معنى الاتصال بين أجزاء النفوس ليس اتصالًا بين ذكر وانثى، وإنما هو اتصال بين الأجزاء المتشابهة في كل صعيد، وعلى هذا الفهم، سيمضي في كل رسالته؛ فجهة العشق التي علتها اتصال النفوس ليست إلا وجهًا واحدًا من وجوه المحبة، وقارن بما ورد في رسالة في مداواة النفوس (رسائل: ١٣٨) .
(٤) روضة المحبين: في أصل المذهب.
(٥) روضة المحبين: ومحبة البر.
(٦) روضة المحبين: ومحبة لطمع.
1 / 95
عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس.
فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت.
وإنك لتجد الإنسان السالي بزعمه، وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا واعتاده الطرب واهتاج له الحنين.
ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، من شغل البال والخبل والوسواس وتبدل الغرائزالمركبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنحول والزفير وسائر دلائل الشجا، ما يعرض في العشق، فصح بذلك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني.
فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية، إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد، فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لعمري معارضة صحيحة، ولكن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية فلم تحس بالجزء الذي كان متصلًا بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة.
ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغنيطس والحديد.
فقوة جوهر المغنيطس المتصلة بقوة جوهر الحديد لم تبلغ من
1 / 96
تحكمها ولا من تصفيتها أن تقصد إلى الحديد على انه من شكلها وعنصرها، كما أن قوة الحديد لشدتها قصدت إلى شكلها وانجذبت نحوه، إذ الحركة أبدًا إنما تكون من الأقوى، وقوة الحديد متروكة الذات غير ممنوعة بحابس، تطلب ما يشبهها وتنقطع إليه وتنهض نحوه بالطبع والضرورة وليس بالاختيار والتعمد.
وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب، إذ لم يبلغ من قوته أيضًا مغالبة الممسك له مما هو أقوى منه.
ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظم جرم المغنيطس ووازت قواه جميع قوى جرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود.
وكالنار في الحجر لا تبرز على قوة النار في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حجرها لا تبدو ولا تظهر.
ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق [في] الصفات الطبيعية، لابد في هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة، فانظر هذا تره عيانًا، وقول رسول الله ﷺ يؤكده: " الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف "، وقول مروي عن أحد الصالحين:
1 / 97
" أرواح المؤمنين تتعارف ".
ولذلك ما اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل له في ذلك فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه.
وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلمًا، فلم يزل يحتج عن نفسه حتى أظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء فما لك وله فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل غير أني أجد لنفسي استثقالًا لا أدري ما هو.
فأدي ذلك إلى افلاطون.
قال: فاحتجت أن أفتش في نفسي وأخلاقي شيئًا أقابل به نفسه وأخلاقه مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع في، فما هو إلا أن حركت هذه الموافقة وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحل كل ما أجد في نفسي له.
وأما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئًا من
1 / 98
أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة؛ وإن للصور لتوصيلًا عجيبًا بين أجزاء النفوس النائية.
وقرأت في السفر الأول من التوراة أن النبي يعقوب ﵇ أيام رعيه غنمًا للابان خاله مهرًا لابنته شارطه على المشاركة في إنسالها، فكل بهيم ليعقوب وكل أغر للابان، فكان يعقوب ﵇ يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفًا ويترك نصفًا بحاله، ثم يلقي الجميع في الماء الذي ترده الغنم، ويتعمد إرسال الطروقة في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين، نصفا بهما ونصفًا غرًا.
وذكر عن بعض القافة أنه أتي بابن أسود لأبيضين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما عير شك، فرغب ان يوقف على الموضع الذي اجتمعا عليه، فأدخل البيت الذي كان فيه مضجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورة أسود في الحائط، فقال لأبيه: من قبل هذه الصورة أتيت في ابنك.
وكثيرًا ما يصرف شعراء أهل الكلام هذا المعنى في اشعارهم، فيخاطبون المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيار وغيره من المتكلمين، وفي ذلك أقول شعرًا منه: [من البسيط]:
1 / 99
ما علة النصر في الأعداء نعرفها ... وعلة الفر منهم إذ يفرونا إلا نزاع نفوس الناس قاطبة ... إليك يا لؤلؤًا في الناس مكنونا ومن كنت قدامه لا ينثني أبدًا ... فهم إلى نورك الصعاد يعشونا ومن تكن خلفه فالنفس تصرفه ... إليك طوعًا فهم دأبًا يكرونا ومن ذلك أقول: [من الطويل]
أمن عالم الأملاك أنت أم آنسي ... أبن لي فقد أزرى بتمييزي العي أرى هيئة إنسية غير أنه ... إذا أعمل التفكير فالجرم علوي تبارك من سوى مذاهب خلقه ... على انك النور الأنيق الطبيعي ولا شك عندي أنك الروح ساقه ... إلينا مثال في النفوس اتصالي عدمنا دليلًا في حدوثك شاهدًا ... نقيس عليه أنك مرئي ولولا وقوع العين في الكون لم نقل ... سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي وكان بعض أصحابنا يسمي قصيدة لي " الإدراك المتوهم " منها: [من المتقارب] .
ترى كل ضد به قائمًا ... فكيف تحد اختلاف المعاني فيا أيها الجسم لا ذا جهات ... ويا عرضًا ثابتًا غير فان نقضت علينا وجوه الكلام ... فما هو مذ لحت بالمستبان وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضًا بلا سبب.
والحب - أعزك الله - داء عياء وفيه الدواء منه على قدر
1 / 100
المعاناة (١)، وسقام مستلذ وعلة مشتهاة لا يود سليهما البرء ولا يتمنى عليلها الإفاقة؛ يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة، وسيأتي كل ذلك مخلصًا في بابه إن شاء الله.
خبر: ولقد علمت فتى من بعض معارفي قد وحل في الحب وتورط في حبائله، وأضر به الوجد، وأنصبه (٢) الدنف، وما كانت نفسه تطيب دعاؤه إلا بالوصل والتمكن ممن يحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظن بسقيم لا يريد فقد سقمه ولقد جالسته يومًا فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني، فقلت له في بعض قولي: " فرج الله عنك " فلقد رأيت أثر الكراهية في وجهه؛ وفي مثله أقول من كلمة طويلة: [من البسيط] وأستلذ بلائي فيك يا أملي ... ولست عنك مدى الأيام انصرف إن قيل لي تتسلى عن مودته ... فما جوابي إلا اللام والألف خبر: وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشي المعروف بالشبانسي (٣)، من ولد الإمام هشام
_________
(١) في طبعة بتروف وغيرها: المعاملة؛ وما أثبته هو قراءة برشيه.
(٢) هذه هي قراءة برشيه؛ وفي مختلف الطبعات: " وأنضحه الدنف " وليس في معاني لفظ " أنضح " ما يمكن توجيهه نحو هذا المعنى.
(٣) محمد بن قاسم بن محمد بن اسماعيل بن هشام بن محمد بن هشام بن الوليد بن هشام الرضى بن عبد الرحمن بن معاوية القرشي المرواني المعروف بالشبانسي، كان عالمًا بالآداب متقدمًا في البلاغة والكتابة، استقر بعد الفتنة بطليطلة كاتبًا للرسائل بها، وتوفي سنة ٤٤٧ (التكملة ١: ٣٨٩) ولأبيه القاسم بن محمد الشبانسي ترجمة في الجذوة: (٣١٠) والبغية رقم: ١٢٩٦ وكان الأب أيضًا أديبًا شاعرًا، سجن في أيام المنصور فكتب إليه بقصيدة يستعطفه فيها فرق له وأطلقه؛ ولأخيه عبد الرحمن ترجمة في التكملة رقم: ١٥٤٩؛ وقد تصحفت كلمة " الشبانسي " في طبعات الطوق وتنبه لها غرسيه غومس (انظر ترجمته للطوق: ١٠٣ الحاشية رقم: ٢) .
1 / 101
ابن عبد الرحمن بن معاوية أنه لم يحب أحدًا قط، ولا أسف على إلف بان منه، ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خلق.
1 / 102
- ٢ - باب علامات الحب
وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي.
فأولها إدمان النظر؛ والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها.
فترى الناظر لا يطرف، ينتقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال، كالحرباء مع الشمس، وفي ذلك أقول شعرًا منه: [من الطويل] فليس لعيني عند غيرك موقف ... كأنك ما يحكون من حجر البهت (٢)
1 / 103