[1 - سورة الفاتحة]
[1.1-7]
قال الشيخ - رحمه الله ونفعنا به وبعلمه في الدارين -: سميت الفاتحة لمعنيين:
أحدهما: أن الله تعالى بها فتح أبواب خزائن الحقائق التي ما فتح أبوابها لأحد من العالمين على حبيبه ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب بعد أن أودع فيه حقائق جوامع الكلام التي أنزلها على جميع أنبيائه ورسله - عليهم السلام - يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين
[الأنعام: 59].
والثاني: أنها هي فاتحة فتوحات هذا الكتاب بأن الله تعالى ضمن فيها: حقائق مراتب الربوبية ومراتب العبودية، ومراتب الأمور الدنيوية ومراتب الأمور الأخروية التي هذا الكتاب مشتمل عليها سنجمع دقائق مبانيها.
1- فمراتب الربوبية عشرة:
أولها: مرتبة الاسم؛ بأن له تعالى أسماء.
والثاني: الذات.
والثالث: الصفات.
فهذه المراتب الثلاثة حاصلة في { بسم الله الرحمن الرحيم } [الفاتحة: 1].
والرابع: الثناء.
والخامس: الشكر.
وهما حاصلان في { الحمد } [الفاتحة: 1].
والسادس: الألوهية بمعنى الخالقية، وهي حاصلة في { لله } [الفاتحة: 1].
والسابع: الربوبية بالوحدانية في الخالقية، وهي حاصلة في { رب العالمين } [الفاتحة: 1].
والثامن: الملكية بالمالكية، وهي حاصلة في { ملك } [الفاتحة: 1].
والتاسع: المعبودية بالألوهية والوحدانية، وهي حاصلة في { يوم الدين } [الفاتحة: 1].
والعاشر: الهداية بالحق والإنعام من الأزل إلى الأبد، وهي حاصلة في { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 1].
2- وكذلك في مرتبة العبودية عشرة:
أولها: معرفة الله تعالى بهذه المراتب.
والثاني: الإقرار بالربوبية لله تعالى وبعبودية نفسه له.
والثالث: معرفة النفس وخلوها عن مراتب الربوبية.
والرابع: العلم باحتياجه إلى الله تعالى واستغناء الله تعالى عنه.
والخامس: عبادة الله تعالى على ما هو أهله بأمره.
والسادس: الاستعانة بالله تعالى في عبوديته بالتوفيق والقدرة والتعلم والإخلاص.
والسابع: الدعاء بالخضوع والخشوع والشوق والمحبة، فإنه خلق لهذا كما قال تعالى:
قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعآؤكم
[الفرقان: 77] وقال تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
والثامن: الطلب لوجدان الله تعالى وصفاته ونعمه، وهو المقصد الأعلى والمنية القصوى.
والتاسع: الاستهداء عنه ليهتدى به وينعم عليه بإرشاده طريق الهداية.
والعاشر: الاستدعاء منه بأن ينعم عليه، ويديم نعمته عليه ، ولا يغضب فيرده إلى الضلالة والغواية.
وهذه المراتب كلها حاصلة في { وإياك نستعين } إلى آخر السورة فافهم جدا.
3- ومراتب الأمور الدنيوية أربعة:
الملك والملك والتصرف فيهما بالملكية والمالكية، وفاتحة الكتاب مشتملة على هذه المراتب كلها كما أشرنا إلى طرف منها، وسنبينها في تفسيرها إن شاء الله تعالى، ولهذا المعنى أيضا سميت أم الكتاب؛ لأن أم الكتاب في الحقيقة مصدر حقائق كل دين، وكتاب ومنشأ دقائق كل حكم وخطاب، كقوله تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب
[الرعد: 39].
وأما الحكمة في أن الله تعالى جعل افتتاح كتابه بحرف الباء واختياره على سائر الحروف لا سيما على الألف بأنه أسقط الألف من ال " اسم " وأثبت مكانه الباء، وقال: { بسم } فعشرة معان:
أحدها: إن في الألف ترفعا وتكبرا وتطاولا، وفي الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا، فالألف لما تكبرت وضعها الله تعالى والباء لما تواضعت رفعها الله تعالى كما ورد في الحديث:
" من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله "
وقد ورد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن يأتي الجبل ليسمعه كلامه، فتطاول كل جبل طمعا أن يكون محلا لموسى عليه السلام، وتصاغر طور سيناء في نفسه " متى أستحق أن أكون محلا لقدم موسى عليه السلام في وقت المناجاة؟ " فأوحى الله تعالى إلى موسى: " أن ائت ذلك الجبل المتواضع الذي ليس يرى لنفسه استحقاقا " فكذلك حال الباء مع الألف.
وثانيها: إن الباء مخصوصة بالإلصاق، وتصل كل حرف بخلاف أكثر الحروف خصوصا الألف؛ لأن الألف مخصوصة بالقطع وتكون منقطعة عن الحروف كلها، فلما كانت الباء واصلة للرحم في الحروف وصلها الله تعالى، ولما كانت الألف قاطعة الرحم عن الحروف قطع الله معها كما روى عبد الله بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يحكي عن ربه - جل ثناؤه -:
" أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته "
حديث صحيح.
وثالثها: إن الباء مكسورة أبدا فلما كانت فيها كسرة وانكسار في الصورة والمعنى وجدت شرب العندية من الله تعالى واسمه دون الألف كما قال تعالى:
" أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ".
ورابعها: إن في الباء وإن كانت في الظاهر تساقط وتكسر، ولكن في الحقيقة رفعة درجة وعلو همته وهي من صفات المصدقين، وفي الألف ضدها. أما رفعه درجتها فبأنها أعطيت نقطة وليست للألف هذه الدرجة، وأما علو الهمة فإنه لما عرضت عليه النقطة ما قبلت إلا واحدا بسكون حاله كحال موحد لا يقبل إلا واحدا، وعابد لا يعبد إلا معبودا واحدا، وقاصد لا يقصد إلا مقصودا واحدا ومحب لا يحب إلا محبوبا واحدا.
وخامسها: إن للباء صدقا في طلب قربة الحق ونيل المقصود الحقيقي لا يوجد في غيرها من الحروف وذلك أنها لما وجدت درجة حصول النقطة وبلغت هذه المرتبة وضعتها تحت قدمها؛ لصدقها في طلب المقصود الحقيقي والمطلوب الأصلي، وما تفاخرت بها بل أعرضت عنها حتى بلغت مقصدها الأقصى ومقصودها الأعلى، فالباء مخصوصة من سائر الحروف بوضع النقطة تحتها ولا تناقضها الجيم وإن كانت تحتها نقطة واحدة؛ لأن نقطة الجيم في وضع الحروف ليست تحتها بل هي وسطها وكذلك الباء، وإنما موضع النقطة تحتها عند اتصالهما بحرف آخر لئلا تشبها بالخاء والثاء بخلاف الباء فإن نقطتهما موضوعة تحتها وإن كانت مفردة غير متصلة بحرف آخر.
وسادسها: إن الألف حرف العلة وهو معلول لا يتحمل الحركة، والباء حرف صحيح غير معلول يتحمل الحركة وحالهما كما أن الله عرض الأمانة على أهل السماوات والأرض من الملائكة وغيرهم
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72] فأمر الملائكة بالسجود له فأبى إبليس واستكبر فلعنه الله وأسقطه عن قربته وطرده عن جواره وحضرته، واصطفى آدم من بريته واجتباه لقربته وزاد في علو درجته وهداه إلى محبته ومعرفته.
وسابعها: إن الباء حرف تام متبوع في المعنى وإن كان ناقصا منكسرا تابعا في الصورة، والألف حرف ناقص تابع في المعنى وإن كان تاما متبوعا في الصورة ألا ترى أنك إذا نظرت إلى صورة وضع الحروف وجدت الألف مقدما على الباء متبوعا له، وإذا قلت الباء وجدت الألف تابعا وإذا قلت الألف لم تجد للباء تبعية فالابتداء بالمتبوع التام في المعنى والناقص المنكسر التابع في الصورة أولى من الابتداء بمن هو على مثل هذا.
وثامنها: إن الباء حرف عامل يعمل ويتصرف في غيره، فظهر لها من هذا الوجه قدر وقدرة فصلحت للابتداء، والألف ليس بعامل ولا متصرف في غيره فليس له هذا القدر والقدرة، فما صلح للابتداء والاقتداء.
وتاسعها: إن الباء حرف في صفاته مكمل لغيره، فكماله في صفاء نفسه بأنه للإلصاق والاستعانة والإضافة، وفيه تواضع إذا لم تقبل من الحركات إلا الكسرة، وله علو وقدر في تحميل الغير بأن يخفض الاسم التابع له ويجعله مكسور الصفات نفسه بحيث كل اسم يجيء خلف الاسم التابع له يكون مسكورا بالإضافة، والذي يجيء بعده يكون مكسور بالصفة إلى غير النهاية كما دخل على الاسم، وجعل ميم بسم مكسورة، وجعل الهاء من الله مكسورة بالإضافة، والنون من الرحمن مكسورة بالصفة، والميم من الرحيم أيضا مكسورة بالصفة لو شئت هلم جرا، فالكامل المكتمل أولى بالإمامة والتقدم من الألف الذي هو ناقص معلوم في نفسه منقص معلل لغيره، فإنه لو دخل في الفعل الماضي يجعله مهموز الفاء معتل العين ناقص اللام.
وعاشرها: إن الباء حرف شفوي تفتح الشفة به ما لم تفتح بغيره من الحروف؛ لأن بالميم وإن كان شفويا لا تفتح الشفة به كما تفتح بالباء حسا، وكان أول انفتاح فم الذرة للإنسانية في عهد
ألست بربكم
[الأعراف: 172] بالباء في جواب { بلى } فلما كان الباء أول حرف نطق به الإنسان وفتح به فمه، وكان مخصوصا بهذه المعاني اقتضت الحكمة الإلهية اختيارها من سائر الحروف، فاختيارها ورفع قدرها وإعلاء شأنها وأظهر برهانها وأعز سلطانها وجعلها مفتتح كتابه ومبتدأ كلامه وخطابه، وأعطاها رفعة الألف وقامته وتقدمه على الحروف وإمامته فحذف الألف في { بسم الله } وطول باؤه لإظهار تعظيمها وتفخيمها؛ إذ منها مرتبة الألف وأثبتها مكانه وقرنها باسم ذاته وصفاته، وجعلها معدن إشاراته ومنبع كراماته مع بريته.
كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الباء بره بأوليائه، والسين سره مع أصفيائه، والميم منته على أهل ولائه، وأخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن عيسى ابن مريم عليه السلام أرسلته أمه إلى الكتاب يتعلم فقال له المعلم: قل: { بسم الله } ، فقال عيسى: وما { بسم الله } فقال: ما أدري! فقال: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم منته ".
وأخبرنا الثعلبي ثنا أبو القاسم بن حسين بن محمد يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الوراق يقول في { بسم الله }: إنها روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة:
* الباء على ستة أوجه:
" بارئ " خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
والله على كل شيء قدير
[البقرة: 284].
" بصير " ، " باسط " رزق خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
ويبقى وجه ربك
[الرحمن: 27].
" باعث " الخلق بعد الموت للثواب والعقاب، من العرش إلى الثرى، بيانه:
وأن الله يبعث من في القبور
[الحج: 7].
" بار " بالمؤمنين من العرش إلى الثرى بيانه:
إنه هو البر الرحيم
[الطور: 28].
* والسين على خمسة أوجه:
" سميع " لأصوات خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى
[الزخرف: 80].
" سيد " قد انتهى سؤدده من العرش إلى الثرى، بيانه:
الله الصمد
[الإخلاص: 2].
" سريع " الحساب مع خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
والله سريع الحساب
[البقرة: 202].
" سلام " على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
السلام المؤمن
[الحشر: 23].
" ستار " ذنوب عباده من العرش إلى الثرى، بيانه:
غافر الذنب وقابل التوب
[غافر: 3].
* والميم على اثنى عشر وجها:
" ملك " الحق من العرش إلى الثرى، بيانه:
الملك القدوس
[الحشر: 23].
" مالك " خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
قل اللهم مالك الملك
[آل عمران: 26].
" منان " على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
بل الله يمن عليكم
[الحجرات: 17].
" مجيد " على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
ذو العرش المجيد
[البروج: 15].
" مؤمن " أمن خلقه من العرش إلى الثرى ، بيانه:
وآمنهم من خوف
[قريش: 4].
" مهيمن " اطلع على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
المؤمن المهيمن
[الحشر: 23].
" مقتدر " على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
وكان الله على كل شيء مقتدرا
[الكهف: 45].
" مقيت " على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
وكان الله على كل شيء مقيتا
[النساء: 85].
" مكرم " أوليائه من العرش إلى الثرى، بيانه:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70].
" منعم " على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
[لقمان: 20].
" مفضل " عما خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
إن الله لذو فضل على الناس
[البقرة: 243].
" مصور " خلقه من العرش الى الثرى، بيانه:
الخالق البارىء المصور
[الحشر: 24].
قال الشيخ المحقق مصنف الكتاب رحمه الله تعالى: الباء بلاؤه لأنبيائه وأحبائه، والسين سلامه لأوليائه وأصفيائه، والميم معروفة مع أهل ولائه في ابتلائه ومعرفة مبتلاه بالابتلاء، وإنه لأوليائه وأصفيائه ومنته على أهل سلامته بآلائه ونعمائه وسلامة القلب وصفائه.
قال رحمه الله تعالى: قيل: ما المناسبة في حمل هذه الحروف على هذه المعاني؟
قلنا: إن مناسبة حمل الباء على البلاء في ابتداء كلامه وابتداء خطابه أن الإنسان في أصل الجبلة وبدء الخلقة خلق مجبولا على الابتلاء، قال الله تعالى:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه
[الإنسان: 2] إنما بنى أمر خلقته على الابتلاء؛ لأنه خلق للمحبة والولاء، كما قال تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، والمحبة مظنة الابتلاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحب الله عبدا ابتلاه وإذا أحبه حبا شديدا اقتناه فإن صبر ورضي اجتباه، قيل: يا رسول الله وما اقتناه؟ قال: لا يبقي له مالا وولدا ".
وإن مناسبة حمل السين على السلامة في المرتبة الثانية من افتتاح الكتاب، فلمعنيين:
أحدهما: أن السلامة مرتبة لأهل البلاء؛ لأن البلاء على نوعين: بلاء المحبة وبلاء النعمة، فبلاء المحبة على نوعين: بلاء المحبة وبلاء المحنة، وبلاء النعمة على نوعين: بلاء الرحمة وبلاء النقمة، فأما بلاء المحبة فمخصوص بالأنبياء والأولياء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم بالأمثل فالأمثل "
، فمنهم من يختص ببلاء المحنة كما كان حال أيوب عليه السلام، ومنهم من يختص بلاء النعمة كما كان حال سليمان عليه السلام واعلم أن الطريق إلى الله تعالى على جادة المحنة أقرب من جادة المنحة؛ لأن غبار بلاء المحنة بناء خلص الأنبياء والأحباء أبرز، فنزه النبوة والمحنة عن تدنس غش معدن الإنسانية، وبموت الحسية الحيوانية.
كما جاء: البلاء للولاء كاللهب للذهب، فأهل المحنة مجذوبون بجذبة البلاء واصلون إلى المبلي غير منقطعين في رتبة البلاء بالغون إلى كعبة وصال المحبوب، ألا ترى أن أيوب عليه السلام كيف وصل بجذبة
مسني الضر
[الأنبياء: 83]، إلى مشاهدة كمال
وأنت أرحم الراحمين
[الأنبياء: 83]، وذلك لأنه تمسك بيد الصبر على جذبة الضر فمسه الضر إلى الضار، فأنسته لذة مشاهدة الضار عن شهود ألم الضر، فأرى أن الضر كان جذبة فوصله إلى الضار فعرفها أنها رحمة في صورة بلاء المحنة رحمه بها محبوبه وخلصه من حبس وجوده، فقال:
مسني الضر
[الأنبياء: 83]، أي أفنيتني عني بضاريتك
وأنت أرحم الراحمين
[الأنبياء: 83]، الواو فيه واو الحال أي: في هذا الحال أرحم علي من جميع الراحمين؛ لأن رحمة الرحماء على المرحومين بالنعمة والمنحة في الظاهر لدفع الفقر والمرض وذلك أيضا بلاء؛ بلاء النعمة لبعضهم رحمة وهم أهل الوفاء، ولبعضهم نقمة وهم أهل الجفاء، كما قال تعالى:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
[الكهف: 7].
فأهل الوفاء: أوفوا بما عهدوا الله على ترك الشهوات النفسانية والزينة الدنيوية حتى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة
[التوبة: 111].
وأهل الجفاء: نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وافسدوا استعدادهم بالركون إلى زينة الدنيا، واتباعهم الهوى أولئك هم الخاسرون؛ فصارت عليهم النعمة في الظاهر نقمة في الحقيقة، فالنعمة توجب الإعراض، كما قال تعالى:
وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه
[الإسراء: 83].
ومس الضر يوجب الإقبال إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى:
وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض
[فصلت: 51] فأنت رحمة علي بدفع النعمة والصحة على أنها مظنة الإعراض، وأفنيتني بك عني فلما جاوز الضر حده آل إلى ضده، فما أبقي الضر مني شيئا، وما بقي الضر كالنار إذ لم تبق من الحطب شيئا لا تبقى النار، فإذا لم يبقى الضر ما بقي إلا الرحمة، فبنظر الرحمة نظرت إليك فرأيتك رحمة أرحم الراحمين، فإذا تحققت هذا فاعلم أن المرتبة الثانية من بلاء المحنة لأهل السلامة كما كان حال أيوب وإبراهيم ويونس وغيرهم من الأنبياء - عليهم السلام - في المرتبة الثانية السلامة.
وأما المعنى الثاني: في حمل السين على السلامة في المرتبة الثانية فهو أنا ذكرنا أن الباء في افتتاح الكتاب إشارة إلى البلاء لأهل الولاء، وقررنا أن الإنسان لا يخلو من البلاء بحال، وأثبتنا أن البلاء على نوعين بلاء المحبة وبلاء النعمة، فبلاء النعمة ما يكون مع سلامة الدين والدنيا لأهلهما، فالسين بعد باء البلاء إشارة إلى أهل الصفاء كما ذكر. فإن قيل: ما الفرق بين بلاء المحنة وبلاء النعمة التي هي الرحمة وكلاهما السلامة في الدنيا والآخرة؟ قلنا: الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن بلاء المنحة وإن كانت السلامة ولكن يخلو بها صاحبها من المحنة.
إما في ابتداء أمره: كما كان حال إسماعيل ويوسف - عليهما السلام - ابتلاهما الله تعالى بالمحنة في حال عبادتهما فخلصهما منها بعد ذلك وأعطاهما النبوة والملك كما حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام:
رب قد آتيتني من الملك
[يوسف: 101].
أما في أثناء أحواله: كما كان لإبراهيم عليه السلام ابتلاه الله تعالى بذبح ولده ورميه في المنجنيق إلى نار نمرود حتى خلصه الله من ذبح الولد بعد التسليم عند الامتحان كقوله تعالى:
فلما أسلما وتله للجبين
[الصافات: 103]، وكقوله:
وفديناه بذبح عظيم
[الصافات: 107]، وخلصه عن النار بقوله:
قلنا ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69].
وأما في آخر عهده: كما كان حال زكريا ويحيى وجرجيس - عليهم السلام - كانت فتنتهم في آخر عمرهم، ولهذا كان بلاء المحنة وبلاء المنحة مخصوصين بالأنبياء والأحباء؛ لأنهما فرع بلاء المحبة وهم مخصوصون بالمحبة وأهل المحبة لا ينفكون عن المحنة والمنحة، ولا يخلو أهل المنحة في بعض الأحوال من المحنة عن المنحة وإن كان الغالب على أحوالهم المحنة أو المنحة بخلاف أهل بلاء النعمة، فإنه يمكن أهل بلاء الرحمة منهم أن يستديم نعمته في سلامة الدين والدنيا، ولهذا أثبتناهم في المرتبة الثانية بإشارة السين السلامة لهم وهم الأولياء والأصفياء مع أنه يمكن أن يصيب بعضهم المصائب والمحن نادرا.
الفرق الثاني: أن سلامة أهل بلاء المنحة غير سلامة بلاء أهل بلاء النعمة، وإن كانت سلامة بلاء النعمة داخلة في سلامة بلاء المنحة وهما شريكان في اسم السلامة لا في المعنى؛ لأن سلامة بلاء النعمة راجعة إلى البدن والمال والأولاد والأقرباء والأحباء في الدنيا، والآخرة راجعة إلى عبور الصراط والنجاة من النار والدخول في دار السلامة كما قال تعالى:
ادخلوها بسلام آمنين
[الحجر: 46].
وسلامة أهل بلاء المنحة وهم أهل المحبة من الأنبياء والأولياء في العبور من النعمة إلى المنعم ومن البلاء إلى المبلي ومن دار السلام كما قال تعالى في شرح عبورهم عن الجنة إلى مليك الجنة:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55] أي: في عبورهم في جنات ونهر إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، والإشارة في قوله تعالى:
قلنا ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69] لهذه السلامة مودع في ترك سلامة أهل بلاء النعمة، وإنما قوله تعالى للنار:
كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69] كان بعد أن ألقي إبراهيم في النار لتخليص إبريز الخلة عن دنس التفات لغير الخليل، وإن كان إبراهيم عليه السلام في بدء مقام الخلة نظر إلى غير خليله بنظر العداوة، وقال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، وأعرض عن الأغيار وقال:
إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام: 79] وسعى على قدم العبودية إلى حضرة الربوبية:
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99].
واعلم أن الطريق إليه بغير هدايته منسد، فأحال بعد إقامته شروط العبودية هداية الربوبية عليه، قال: { سيهدين } ليهديه الله إليه بقدم الوصال كما هداه بنظر التوحيد متى رأى القمر بازغا قال:
هذا ربي
[الأنعام: 76]، إلى أن قال:
لا أحب الآفلين
[الأنعام: 76]،
إني وجهت وجهي
[الأنعام: 79] لأن الهداية بالنظر والتوحيد هداية أهل البداية، والبداية بالقدم والوصول إلى الوحدة هداية أهل النهاية، وبين النظر والقدم مسالك ومهالك كثيرة وقد انقطع فيها خلق عظيم من العلماء المتقين، وأعزة السالكين وهلك فيها جمهور الحكماء المتفلسفين اللهم إلا عبادك منهم المخلصين المجذوبين بجذبات المحبة من الأنبياء والمرسلين وأوليائك المحفوظين على صراط المستقيم والدين القويم كما خلصت بفضلك ورحمتك خليلك عليه السلام حين ابتليته بالإلقاء بالنار ليتخلص بالكلية من آفة التفاته كما تخلص من آفة الالتفات إلى المال والولد فلما ألقي في النار أدركته العناية الأزلية، وخلصت إبريز خلته عن آفة الالتفات إلى غير خليله من نفسه ومن الوسائط كلها حتى جبريل حين تلقاه في الهواء ليمتحن إبريز خلته: " بمحك هل لك من حاجة " ، فيرى هل هو صاف خالص أم فيه بقية روحانية بعد بذل الجسم والروح تتعلق بالمناسبة الروحانية بجبريل عليه السلام فاشتعلت نار الخلة بكبريت الغيرة وأحرقت بقيته الغيرية، فاشتعلت منها شعلة: " أما إليك فلا " فرجع جبريل عليه السلام بخفي حنين، فعبر عن مقاطع الوسائط بدلالية نور الخلة في خفاء العناية وصل الخليل إلى الجليل بالسلامة، فالنار كانت واسطة تخليصه وتمحيصه بترك سلامة أهل بلاء النعمة لنيل سلامة أهل بلاء المنحة وهي الوصول إلى المليك بالسلام.
وكذلك الفرق بين بلاء أهل المنحة وبين بلاء أهل النعمة أن بلاء المحنة يكون الامتحان لأحباء في دار الدنيا كما كان محنة أيوب عليه السلام فلا يدفع أنها تنقضي في دار الدنيا صورة ومعنى، وإما تنقضي في الدنيا بالمعنى وبالموت صورة. بخلاف بلاء النعمة فإنه إما يدفع في الدنيا والآخرة صورة ومعنى وإما أن يكون في الدنيا بالمعنى لا بالصورة بأن يكون في التنعم ويكون في الآخرة بالصورة والمعنى.
وأما مناسبة حمل الميم في المرتبة الثالثة من حروف بسم على معروفه مع أهل بلائه وولائه في أثناء ابتلائه، وعلى منته على أهل سلامة في الابتلاء بآلائه ونعمائه فظاهر، فإنه لو لم يكن معروفه ومع أهل بلائه بنعمة الصبر لزال قدمهم عن جادة العبودية ورؤية رحمة الربوبية في عين البلاء وانقطع نظريهم بحجاب البلاء عن الجمع كما كان في حق الأكثرين من المخذولين.
قال تعالى:
وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن
[الفجر: 16] فرؤية الإهانة في البلاء من الخذلان، والصبر ليس من شأن الإنسان لأن الإنسان خلق من عجل، والصبر من الله تعالى كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127] فالبلاء لأهل الولاء المنحة نعمة الصبر كقوله تعالى:
ولنبلونكم بشيء من الخوف
[البقرة: 155]، إلى قوله:
وبشر الصابرين
[البقرة: 155]، أي: بشر بأن هذا البلاء ليس للإهانة كما كان في حق أهل الخذلان بل للإعانة على نيل درجة الصبر ليستحقوا به الصلاة والرحمة والهداية من الله تعالى، وإن أيوب عليه السلام وجد مرتبة الصابرين ونعم العبد بمعروف الصبر من الله تعالى، كما قال تعالى:
إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب
[ص: 44]، وكذلك لو لم تكن منته على أهل السلامة في بلاء النعمة المنحة الشكر ورؤية النعم من المنعم لزالت قدمهم عن الجادة كما كان حال قارون وفرعون؛ انقطع نظريهم لحجاب البلاء في النعمة عن المنعم قال قارون:
قال إنمآ أوتيته على علم عندي
[القصص: 78].
وقال فرعون:
أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي
[الزخرف: 51]، وقال:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24]، وهذه الآفة مذكورة في جبلة كل إنسان كما قال تعالى:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7]، وإنما تخلص من هذه الورطة من تخلص بمنته عليه في عطية نعمة الصبر والشكر، فبقوة الصبر لا ينفق نعمة الله في معصية، وبقوة الشكر ينفقها في سبيل الله تعالى ويستعين بهما على طاعته ليصفو ويسلم قلبه عن كدورات الطغيان المنتهى عن الاستغناء، ويتنور بنور الشكر والصبر، فيرى بصر بصيرته بذلك النور نعمة الشكر من الشكور ونعمة الصبر من الصبور وهو الله تعالى، فبقدر الصبر والشكر يصل السالك إلى الصبور والشكور كما قيل: خطوتان وقد وصلت، وإن سليمان عليه السلام نال مرتبة العبدية بامتنان نعمة الشكر ودعوة
وهب لي ملكا
[ص: 35] كانت لاستكمال نعمة الشكر، وإنما أيوب وسليمان - عليهما السلام - اشتركا في نيل مقام نعم العبد لأن كل واحد منهما كان مخصوصا بالاتصاف بصفة من صفات الله وهي الصبور والشكور، فلما اشتركا في الاتصاف بصفات الله تعالى اشتركا في مقام نعم العبدية، والله أعلم.
ثم اعلم أن في { بسم الله الرحمن الرحيم } أربع مراتب: الاسم والذات وصفة الجلال وصفة الجمال، وهذه هي مراتب الموجودات كلها فإنها أربعة أقسام: الألوهية والروحانية والجسمانيات والحيوانيات، وهي كل ذي روح، ففي الباء في أول هذه المراتب الأربع إشارة إلى أن وجود هذه العوالم لي وليس لغيري وجود حقيقي إلا بالاسم. فللعالم، أعني ما سوى الله تعالى، بالاسم والمجاز وجود لا بالمعنى والحقيقة، وإلى هذا إشارة بعضهم بقوله: " ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله فيه " ، وأوضح من هذا قول بعضهم: " ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله قبله ".
وصرح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله "
حديث متفق على صحته، فتحقيق { بسم الله الرحمن الرحيم } أن وجودي بذاتي وهو الله وصفاتي كلها - التي هي إما من قبيل الجلال أو من قبيل الجمال -، فبذاتي قائمة وما سواي وهو العالم اسم موجود بإيجادي وقائم بقيوميتي
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
[يس: 83]. وفيه أخرى وهي: أن الخلائق محجوبون عن الله تعالى بحجاب أسماء أنفسهم وحجاب أسماء ما سواهم من العالم، وقد تصوروا لكل اسم مسمى فوقعوا في تيه الشرك والتفرقة، وتاهوا في بيداء الضلالة وزلت قدمهم عن الصراط المستقيم وجادة التوحيد والوحدة والوحدانية، فلما عبروا بقدم الصدق في المتابعة عن حجب الأسماء وقطعوا مفاوزها بتعلم
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] الذي كان آدم مخصوصا به، وعلموا أن لا طائل تحتها عرفوا أن هذه الأسماء على الأشياء كلها
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان
[النجم: 23].
ولكشف هذا القناع كان دعاء النبي: صلى الله عليه وسلم
" اللهم أرنا الأشياء كما هي "
لأن كل شيء بحسب نظر المظاهر أسماء بإزاء معنى يلائمه، كما سمي آدم لأنه من أديم الأرض فهذا الاسم يلائم لآدم عليه السلام في الظاهر، وله في الحقيقة اسم آخر بإزاء اسم حقيقي، فلما أودع الله تعالى فيه ما يلائم لتلك الحقيقة وذلك قوله تعالى:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30] فسماه بمناسبة المعنى الحقيقي المودع: خليفة.
فكذلك لكل شيء في الظاهر اسم وفي الحقيقة اسم آخر والآدمي مخصوص بتعليم الأسماء كلها دون الملك وغيره، فلما خلصوا عن حبس حمل الأسماء ورفعوا حجبها وصلوا إلى الله تعالى، وإذا وصلوا إلى الله تعالى منعوا من جلاله وهو الرحمن وتمتعوا من جماله وهو الرحيم في تقدم الأسماء، وأما تقدم الاسم في " بسم " فلوجوه:
منها ما قيل: للتبرك والتيمن.
ومنها ما قيل: للفرق بين التيمن واليمين.
ومنها ما قلت: أن له الأسماء الحسنى، وبحسب كل اسم له صفة فإطلاق اسم المطلق شامل لكل اسم من الأسماء وأصلها من الصفات، وليس لله صفة إلا يدل عليها اسم، فعلى هذا وقع الابتداء بما يدل على كل اسم وصفة والباقية للتضمين أي: ابتدائي بأسمائي وصفاتي كلها وأنا الرحمن الرحيم الذي لي تكونت الكائنات وظهر الموجودات إذ بي أسباب معايش أنواع المخلوقات عامة بالرحمانية وأرتب درجات معاد أهل الكرامات والقربات خاصا بالرحمة.
ومنها: أن تقدم الاسم لتزكية النفوس وتصفية القلوب عن كل اسم ورسم، ولتحلية الأسرار بأنوار الله تعالى لأن التحلية لا تكون إلا بعد التزكية؛ لقوله تعالى:
قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى
[الأعلى: 14-15] أي: يزكي نفسه بذكر اسم ربه ويجلي روحه بتحلية الصلاة والمناجاة مع ربه عز وجل.
ومنها: أن المحب لما تعلم اسم المحبوب نسي اسم نفسه، كما كان حال مجنون قيل: ما اسمك؟ قال: ليلى، وكذلك كان عصيان آدم نسيانه فلما علمه الرب الأسماء كلها لقوله تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31]، نسي اسم نفسه بأنه خليفة الله تعالى، واسم إبليس بأنه عدو له، واسم الشجرة وأنه منهي عنها فاعتذر لله تعالى، فقال:
فنسي ولم نجد له عزما
[طه: 115]، وكذلك حال ابن منصور لتحقق في نظره أن كل شيء ما خلا الله باطل، فعلم أن الله هو الحق فنسي عند سطوة تحقق اسم الحق نسي نفسه، فلما جاء الحق زهق الباطل، قيل له: من أنت؟ قال: أنا الحق! فقدم الاسم هاهنا ينسي العبد عند تحقق اسمه اسم ما سواه، فيتجلى له الله تعالى حقيقة لا اسما ولا رسما، كما قال تعالى:
واذكر ربك إذا نسيت
[الكهف: 24] أي: إذا نسيت غير الرب.
وأما الإشارة إلى تحقيق تفسير كلمة { الله } قلنا كلمة الله مبنية على أربعة أحرف: الألف ولامين وهاء، وحرفان منها متفقان في الجنسية متصلان، وحرفان مختلفان مفترقان، والمتفقان أحدهما متحرك والثاني ساكن لمجموعها في الصورة والمعنى دال على الإشارة إلى صفتيه ونعمتيه، أما صفتاه فهما الظاهر والباطن، وأما نعمتاه فنعمة ظاهرة ونعمة باطنة، وأما صفتاه الظاهر والباطن وهما مختلفان فيدل عليهما حرفان مختلفان الألف والهاء؛ لأن الألف للإظهار والهاء للإضمار، كقولك: لست، تدل على النفي، فإذا دخلت الألف فيه وتقول: ألست، تدل على الإظهار والإثبات وإذا أدخلت الهاء في آخر الكلمة يكون للإضمار، كقولك: داره، لصاحب الدار مضمر ليس بظاهر، فالألف إشارة إلى صفة الظاهر، والهاء إشارة إلى صفة الباطن، والحرفان المتفقان وهما اللامان يدلان على نعمتيه فإنهما متفقان في الجنسية، كما قال تعالى:
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
[لقمان: 20]، هذا في الصورة.
وأما في المعنى إلى أن نعمه واحدة الآن؛ أي: نعمتان آلائه نعمتاه فالتشديد فيه للتفخيم، فالإشارة في هذه اللفظة إلى أن الله تعالى مع عباده نعمتين: نعمة الظاهر ونعمة الباطن، فاللنعمة الظاهرة معنيان، أحدهما: نعمة إظهارك بالإيجاد بعدما كنت مخفيا في العدم، والثاني: نعمة إلباس صورتك في الظاهر بعدما كنت مخفيا في عالم الأرواح كما قال
ولقد خلقناكم ثم صورناكم
[الأعراف: 11] أي: خلقناكم في عالم الأرواح ثم صورناكم في عالم الأجسام.
وكذلك للنعمة الباطنة معنيان.
أحدهما: نعمة إبقائك في الوجود.
والثاني: نعمة إعطائك الروح الشريف، فإن عظمة الألوهية وعزة الوحدانية كانت مقتضية للتفرد بالوجود ونفي الشركة مطلقا إلا أن الرحمة الواسعة كانت مقتضية الإيجاد، فسبقت رحمته غضبه بإيجاد الخلق بالصفة الرحمانية التي هي عامة في حق جميع الموجودات بالإيجاد وبإبقائها بالصفة الرحيمية، فالإشارة في تحقيق حق كلمة الله أنه أربعة أحرف وبحسب كل حرف له نعمة، فلو لم تكن نعمة الأربعة المناسبة للحروف لما كان للموجودات وجود أصلا، أما مناسبة النعم الأربعة مع الحروف الأربعة فهي ما بينا أن النعمة نعمتان: نعمة ظاهرة ونعمة باطنة، وللنعمة الظاهرة معنيان، وللنعمة الباطنة معنيان كما مر ذكرها، وبينا أن الحروف على نوعين متفقان ومختلفان، واحد منهما متحرك والثاني ساكن، فالمتحرك من أحد حرفيها مناسب لنعمه الظاهرة من المعنيين المذكورين، والساكن مناسب لنعمة الباطنة، ولم لم يكن بين ذاته وبين ذوات المكاشفين بصفات جماله وجلاله حجب الأثواب الرحمانية والرحيمية واسطة لاحترقت ذواتهم وتلاشت أجسادهم كما قال صلى الله عليه وسلم:
" حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ".
وهذا كما أن الله تعالى لما أراد بالحكمة البالغة أن ينتفع أهل الأرض بنور الشمس وحرارتها وخواصها جعل بين الشمس وبين الأرض فلك الزمهرير وهو الهواء البارد، ثم البحر المحيط من الماء البارد واسطة حتى يندفع قوة الحرارة ببرودتهما، ولو لم يكن ذلك لاحترقت الأرض ومن عليها فلإفشاء هذا السر وكشفه هذه الحقيقة على أسرار شاكري نعمائه، جعل توقيع بسم الله الرحمن الرحيم في صدر كتابه الكريم ليتحقق لهم أن الخلق حجاب الاسم محجوبون عن الله تعالى، فلما عبروا بجذبات ألطافه عن حجاب الاسم وصلوا إلى المسمى وهو الله فيتجلى لهم بالألوهية، فإذا أرادت سطوة التجلي أن تمحقهم بالكلية فأدركتهم الصفة الرحمانية والرحيمية فتبقيهم بلا هم.
والمختار عندنا: أن كلمة الله أعظم الأسماء من وجوه:
الأول: أن الأخبار تدل على هذا وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد فإذا رجل يصلي يقول:
" اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الصمد الذي لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب... "
الحديث.
وأما ما روى أبي ابن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" هو في قوله: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [البقرة: 255] أو في قوله: { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [آل عمران: 2] "
فالأخبار دالة على أن الاسم الأعظم مودع في الدعاء والآيتين ولا بد أن يكون مكررا في كل آية منهما وفي الدعاء هو الحي القيوم، فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الاسم الأعظم في هاتين الآيتين علمنا أن ذلك هو الحي القيوم قلنا فلما نظرنا ما وجدنا الاسم المكرر في الآيتين والدعاء إلا اسم الله، فتحقق بناء أن الاسم الأعظم هو الله.
وأما الجواب عن قول من احتج بالآيتين على أن الاسم الأعظم في إحدى الآيتين ووجد فيهما: فلو كان للحصر لكان " أو " للشك هاهنا، ولو كانت للشك لما وجد إلا في آية منهما دون الأخرى، كقولنا: زيد في هذا الدار أو في هذه، فلا بد وأن يكون في دار واحدة فلما وجد في الآيتين، وما نفي عما سواها علمنا أنه يحتمل أن يوجد في موضع آخر كما وجدنا في الدعاء في الحديث.
والثاني: أن الاسم على نوعين: اسم الذات واسم الصفة، فكما أن الذات أشرف من الصفة، فكذلك اسم الذات أشرف وأعظم من اسم الصفة، وقد بينا أن هذا الاسم - أعني الله - اسم الذات وغيره من الأسماء الصفات فتعين أن يكون هو الاسم الأعظم.
والثالث: أن الصفات داخلة في الذات، والذات ليس بداخل في الصفات، فأسماء الصفات تكون داخلة في اسم الذات، ولا يكون اسم الذات داخلا في أسماء الصفات، فعلمنا أن الاسم الأعظم هو اسم الذات لا أسماء الصفات، وهذا الاسم متعين للذات.
والرابع: أن من عزة هذا الاسم وعظمته لا يجمع ولا يثنى ولا يسقط منه الألف واللام عند النداء حتى لا يتغير حروف لفظه بخلاف جميع الأسماء، وهذا دليل واضح على أنه الاسم الأعظم.
والخامس: أنه لو سقط منه حرف كان الباقي أسماء الله تعالى، فإنك إن أسقطت الهمزة بقي " لله " وهو من صفات الله، قال الله تعالى:
لله ملك السموت والأرض
[النور: 42]، وإن أسقطت اللام الأولى بقي " له " وهو أيضا من صفات الله تعالى، قال الله تعالى:
له ملك السموت والأرض
[الفرقان: 2]، وإن أسقطت الثانية بقي " هو " وهو أيضا من صفات الله تعالى، قال الله تعالى:
هو الله الخالق
[الحشر: 24]، فلما لم توجد هذه الخاصية في الأسماء غيره علمنا أنه الاسم الأعظم.
والسادس: أن الله تعالى لما علم حبيبه صلى الله عليه وسلم عند إثبات وحدانيته ونفي الإلهية من غير ذاته، قال:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19] فلو كان اسم أعظم غير من هذا لعلمه حبيبه مكان هذا خصوصا عند نفي الشركة عن ذاته جل جلاله.
والسابع: أن لهذا اسم خصوصية في الإيمان؛ لأن الإيمان بدونه لا يصح كقولك: " لا إله إلا الله " ولو قلت بدل الله أسماء من أسماء الصفات لا يصح إسلامه فظهر أنه أعظم الأسماء.
والثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقتال على قبول هذا الاسم كما قال:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله "
فكانت النجاة عن الدركات موقوفة على هذا الاسم، والفوز بالدرجات موقوفا على هذا الاسم، وصون النفس عن القتل والمال عن النهب والولد عن الأسر موقوفا على هذا الاسم، فوجب أن يكون هذا الاسم أعظم الأسماء.
والتاسع: أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم عند الإعراض عن كل ما سوى الله، والإقبال بالكلية إليه بذكر هذا الاسم، وقال:
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
[الأنعام: 91]، فدل على أن هذا الاسم أعظم الأسماء.
والعاشر: أن الله تعالى لتعظيمه لهذا الاسم صانه عن تسمية غيره بهذا الاسم، ومن عظمة هذا الاسم لم يتجاسر أحد من المنكرين ومن أعداء الدين أن يتعلقوا بهذا الاسم ويسموا آلهتهم به أو غيرها، كما قال تعالى:
هل تعلم له سميا
[مريم: 65]؛ أي: هل تعلم شيئا له اسم الله سوى الله، فلعزة هذا الاسم عند الله تعالى وكرامته عليه ما أنعم على أحد تسميته، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعزة كنيته عنده نهى عن التكني بكنيته قال صلى الله عليه وسلم:
" تسموا باسمي ولا تسموا بكنيتي "
فبهذا علمنا أنه أعظم الأسماء.
والحادي عشر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن "
، فاختصاص بهذين الاسمين بالمحبة لا شك أنه لاختصاص اسميه الله والرحمن، كما خص هذين الاسمين بالذكر في الدعاء عن الأسماء كلها بقوله تعالى:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
[الإسراء: 110]، وذلك يدل على أنهما أشرف وأعظم من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن؛ لأنه قدمه في الذكر أولا وثانيا، ولأن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة واسم الله يدل على الألوهية والقهر والعظمة والعزة وغيرها من الصفات، فثبت بهذا أن اسم الله أعظم الأسماء وأحبها إلى الله تعالى، والله أعلم.
والثاني عشر: أن الله تعالى أمر عباده بملازمة ذكر هذا الاسم وجعله سبب الفلاح، كقوله تعالى:
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
[الجمعة: 10]، ومدح العباد على مداومته، وقال تعالى:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
[آل عمران: 191]، وجعل مفاتح الجنة ثمنها كما قال النبي: صلى الله عليه وسلم
" مفتاح الجنة لا إله إلا الله "
، وقال:
" ثمن الجنة لا إله إلا الله "
؛ بل جعل حقيقة مفتاح قلوب عباده المخلصين وبه فتح روزنة قلوب الطالبين إلى عالم الأرواح، وبه نور أنوار المحبين بأنواع الجمال، وبه أزاح عن أسرار المحققين أستار صفات الوجود بتدلي صفات الجلال؛ ليهتدوا إلى شاطئ وادي أيمن الوصال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا "
، وقد تحقق للمتمسكين بعروته الوثقى أنهم به نالوا ما أرادوا، ووجدوا ما طلبوا، وأعطوا ما سئلوا، وأجيبوا إذا دعوا فعرفوه أنه الاسم الأعظم.
والثالث عشر: أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صرح بفضل ذكر هذا الاسم على ذكر الأسماء كلها بقوله:
" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله "
، فلو كان اسم أعظم من الله لكان هو الأفضل.
والرابع عشر: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" قال موسى عليه السلام: يا رب علمني شيئا أذكرك فأدعوك به، قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقول لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله "
، حديث صحيح، فهذا صريح بأنه ليس شيء أعز وأعظم من كلمة الله.
والخامس عشر: أن هذا الاسم عند أكثر العلماء وكبار القراء لا سبيل للعقل إلى كيفية اشتقاقه، وثبت أيضا أن كنه الحق لا سبيل للعقول إلى معرفته، فكان لهذا الاسم زيادة مناسبة مع أن هذا المسمى من هذا الوجود وسائر الأسماء ليس كذلك، فوجب أن يكون هذا الاسم أعظم الأسماء، ولهذا افتتح كتابه الكريم والقرآن العظيم بهذا الاسم وجعله مبدأ خطابه وأثبته في صدر كتابه؛ ليعلم أن ما أنزل في هذا الكتاب من أسماء الصفات والحمد والثناء وإظهار الآيات وإثبات الحجج وذكر الآلاء والنعماء والأوامر والنواهي والوعد والوعيد والإخبارات والآثار والقصص والمواعظ والعلوم والإشارات والرموز والألفاظ والمعاني والنكت واللطائف والأسرار والدقائق والقراءات والمحكمات والمتشابهات والآيات الناسخات والمنسوخات وغير ذلك من موجبات الرحمة والعقوبة والهداية والضلالة كله صادرة عنه، كما أن سلطانا يبعث منشورا إلى ممالكه ومماليكه يكتب بأحب أسمائه إليه وأعظم ألقابه لديه في طغر منشوره؛ ليعلم أن جميع الأحكام الواردة في المنشور صادرة عنه، فلما كان توقيع المنشور الإلهي موشحا باسم الله علمنا أنه أحب أسمائه وأعظمها قدرا، واكتفينا بهذا المقدار من شرح فضائل هذا الاسم وإقامة البينات على شرفه وعظمته؛ إذ هو بحر زاخر ولا آخر له يستغرق فيه العقول والأوهام ولا تضبطه العلوم والأفهام، كما قال تعالى:
وما قدروا الله حق قدره
[الأنعام: 91]، أي: لم يعرفوا كنه ذات الله حق معرفته وكذلك لم يعرفوا كنه اسم الله حق معرفته.
فأما لو سأل سائل فيما اخترنا بأن الاسم الأعظم هو قولنا " الله ": أن من شأن الاسم الأعظم أنه من دعا الله به أجاب، وإذا سئل به أعطي، فنحن ندعو به ونسأل فلم نر أثر الإجابة في أكثر الأوقات قلنا الجواب عنه وجهين:
أحدهما: أن للدعاء أدبا وشرطا لا يستجاب الدعاء إلا بها كما أن للصلوات آدابا وشرائط لا تصح إلا بها، فأول شرائطه أن يصلح باطنه باللقمة الحلال فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر
" الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام ثم يمد يده إلى الله يا رب يارب فأنى يستجاب له "
حديث صحيح، وقد قيل: الدعاء مفتاح السماء وأسنانه لقمة الحلال، وآخر شرطه أن يدعو بالإخلاص وحضور القلب، قال الله تعالى:
دعوا الله مخلصين له الدين
[يونس: 22]، فإن حركة الإنسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب ولو أنه على الباب وصوت الحارس على السطح،أما إذا كان حاضرا في الحضرة كان له الشفيع، ولا نطول الكلام في هذا فإنه ليس مكانه.
والوجه الثاني: أن الاسم وإن كان في نفسه معظما؛ ولكن يؤول فائدة عظيمة إليك إذا قلت بالتعظيم وتعظيمه يكون بقدر صفاء نيتك وعلو همتك في الذكر عن تطهير قلبك من الحظوظ الدنيوية والأخروية، فإنك لو ذكرته بحظ من الحظوظ النفسانية بالروحانية يقع الذكر تبعا لحظك فالعظمة تكون للحظ لا للاسم، فمهما تخلصت سريرتك عن لوث الحظوظ يبقي الذكر طبيا معظما لا يتعلق بحظ من الحظوظ يصعد إلى المذكور، كقوله تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر: 10].
والعمل الصالح أن تطهر ذكرك عن الحظوظ، وتراقبه بالحقوق ليكون حظك من الذكر المذكور ومن الاسم المسمى وهو أعظم الحظوظ، فيكون ذكرك أعظم الأذكار والاسم المذكور أعظم الأسماء، ففي هذه الحالة بكل اسم دعوت الله يكون الاسم الأعظم والدعاء مستجابا؛ لأن دعوته له وما طلبت منه إلا هو فوجدته؛ لأنه قال:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60]، أي: اطلبوني تجدوني كما قال تعالى:
" ألا من طلبني وجدني "
فافهم جدا.
قوله: { الرحمن الرحيم } قال أبو عبيدة: هما صفتان لله تعالى معناهما ذو الرحمة، ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان. قلت: اختلف العلماء في معنى الرحمة فقال بعض المحققين: الرحمة من صفات الذات وهي إرادته إيصال الخير ودفع الشر، والإرادة صفة الذات، وهو المختار عندي؛ لأنه تعالى لو لم يكن موصوفا بهذه الصفة لما خلق الموجودات، فلما خلق الخلق علمنا أن رحمته صفة ذاتية؛ لأن الخلق إيصال خير الوجود إلى المخلوق ودفع شر العدم عنه، فإن الوجود خير كله والعدم شر كله، وقال الآخرون: الرحمة من صفات الفعل وهو نفس إيصال الخير ودفع الشر بدون إيصال الخير محال، قلت: وأيضا الخير بدون الإرادة المتقدمة في حق الباري سبحانه وتعالى محال؛ لأن إيصال الخير فعل والفعل مسبوق بالإرادة من الفاعل المختار فثبت بهذا أن الله تعالى كان في الأزل هو الرحمن الرحيم.
وذكر أبو حامد الغزالي - رحمه الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" تخلقوا بأخلاق الله "
، وهذا يقتضي أن يكون للعبد من كل اسم من أسماء الله حظ يليق بها.
فأقول: حظ العبد من اسم الرحمن الرحيم أن يكون العبد كثير الرحمة.
واعلم: أن كل من كان إلى العبد أقرب كان إيصال الخير والرحمة إليه أوجب، وإن أقرب الناس إليه نفسه، فوجب أن يرحم نفسه ثم يرحم غيره: " أبدأ بنفسك ثم بمن تعول " ، فأما رحمته مع نفسه فإما أن يكون في الأمور الروحانية أو في الأمور الجسمانية.
أما في الأمور الروحانية: فاعلم أن للنفس قوتين نظرية وعملية، فأما القوة النظرية فإيصال الرحمة إليها يتزكيتها عن الجهل وتحليتها بالعلم الحقيقي وهو معرفة الله كشفا وشهودا معرفة عيانية لا بيانية، بل عينية لا عيانية، فافهم جدا. وأما القوة العملية فصونها في الإخلاء عن طرفي الإفراط والتفريط، وإلزامها المواظبة على التوسط بين الطرفين بأوامر الشريعة ونواهيها على قانون الطريقة.
وأما في الأمور الجسمانية فقسمان: الأمور المطلوبة بالذات والمطلوبة بالعرض، أما المطلوبة بالذات: فهي اللذات الجسمانية وهي محصورة في المطعوم والمنكوح، وقد قال تعالى:
كلوا واشربوا ولا تسرفوا
[الأعراف: 31]، فالرحمة على البدن هو الامتناع من الإسراف. وأما المطلوبة بالعرض: فهو المال، والرحمة فيه قوله تعالى:
والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما
[الفرقان: 67]، فهذه مقاصد كل أحد من الرحمة على نفسه: وأما رحمته على غيره فاعلم أن كمال الإنسان في كمال العبودية، وكمال العبودية في رعاية حقوق الربوبية وإيصال الحظوظ إلى البرية ورفع الأذية كما قال صلى الله عليه وسلم:
" التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله "
وكان آخر وصيته صلى الله عليه وسلم في آخر حياته:
" الصلاة وما ملكت أيمانكم ".
وقال بعض المشايخ: مجامع الخيرات محصورة في أمرين: الصدق مع الحق والخلق مع الخلق. ومما يدل أن هذه المرتبة أعظم المراتب وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة، فقال تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 17]، وقال:
بالمؤمنين رءوف رحيم
[التوبة: 128]، وقال:
فبما رحمة من الله لنت لهم
[آل عمران: 159]، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فبدأ في الذكر بوصف أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالرحمة، فقال:
" أرحم أمتي بأمتي أبو بكر "
والقول في خصوصية الرحمن دون سائر الصفات من وجوه:
أولها: أنه أخص أسماء الصفات إلى الذات؛ لأن الأسماء على نوعين أسماء صفات اللطف وأسماء صفات القهر، وللرحمن خصوصيته بالصفتين بأن يوجد منه اللطف والقهر كما يوجد من الذات المقدسة، ويوجد منه الإيجاد والإفناء كما يجيء، وهذا من خصائص الذات الإلهي دون سائر الصفات، فثبت أنه أخص الأسماء.
وثانيها: أن له مناسبة مع الذات دون سائر الصفات، وهي أن اسم الذات وهو الله كما لا يجوز على غيره، فكذلك اسم الرحمن لا يجوز على غير الله، ولهذا المناسبة صار مخصوصا بالذكر في الدعاء مع ذكر الله تعالى بقوله:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
[الإسراء: 110].
وثالثها: أن الرحمن أقرب إلى اسم الله من سائر الأسماء، يدل على هذا القرآن والحديث أما القرآن فقوله تعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم } [الفاتحة: 1] ذكر بعد اسم الله الرحمن لقربته إلى الله، وأما الحديث ما روي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن لله تسع وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم... "
الحديث. ذكر بعد اسم الله الرحمن وقدمه على سائر أسماء الصفات فعلمنا أنه أقرب الأسماء إلى الله، وأما الفرق بين الرحمن والرحيم وإن كانا اسمين مشتقين من الرحمة أن الرحمن من صفة جلاله، والرحيم من صفة جماله، والفرق بينهما أن الجلال متوسط بين الذات الإلهي الذي من شأنه القهر والعزة التي اقتضت ونفي شركة الوجود بين صفة الجمال التي من شأنها اللطف والرحمة التي اقتضت الإيجاد والإبقاء، فنسبة أحد طرفي الجلال إلى قهارية الذات فيه طرف من القهر، وبنسبة أحد طرفيه إلى رحيمية الجمال فيه رحمة، فالرحمة فيه تغوث بقوة القهارية، فصارت أقوى من رحيمية الجمال، فأعطيت المبالغة في الرحمة والقهر فيه صار مسبوقا ومغلوبا بلطف الرحمة بقوله تعالى:
" سبقت رحمتي غضبي "
، وفي رواية:
" غلبت رحمتي غضبي "
، فالقهر المسبوق بالرحمة والرحمة المقوية بالقهر هو الرحمن الرحيم المبالغ في الرحمة، فثبت أن الرحمن من صفة الجلال، والرحيم من صفة الجمال، ولهذا جاء الرحمن واسطة بين الله والرحيم في { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وإذا كان الرحمن متوسط بين القهر الصرف وبين اللطف المحض فتارة بالقهر يقتضي الإفناء وتارة باللطف يقتضي الإثبات، كما أخبر الله تعالى عن صفة إفنائه بقوله:
ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمن
[الفرقان: 25-26].
وأخبر عن صفة إيجاده وإثباته بقوله:
الذي خلق السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن
[الفرقان: 59] أي: الذي ظن هو الرحمن فظهر أن الرحمن أكثر مبالغة في الرحمة من الرحيم، وفيه طرف من هيبة الألوهية وهو مخصوص دون الرحيم، فالحمد لله شامل الثناء والشكر والمدح، أما الثناء فيكون بذكر الصفات الحميدة إذا قلت: هذا رجل كريم، فقد أثبت عليه والشكر يكون على النعمة من المنعم بأي معروف أولاك به.
وقال تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم: 7] أي: في النعمة والمدح أن تذكر الرجل بجميع ما فيه من الخصال الحميدة وتنفي عنه جميع الصفات النقيصة التي لم تكن فيه، وليس من شأن المخلوقين أن يحمدوا الله بهذه المعاني الثلاثة الحقيقية إلا تقليدا ومجازا، أما الثناء فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خوطب ليلة المعراج: يا نبي إني على علم أن هذا ليس من شأن المخلوقين، فقال:
" لا أحصي ثناء عليك "
وعلم أنه لا بد له من امتثال الأمر وإظهار العبودية، فقال:
" أنت كما أثنيت على نفسك "
فهذا ثناء بالتقليد لأنه أثنى عليه بثنائه الذي أثنى الله به على نفسه في الأزل ثناء يليق بذاته وصفاته الأزلية على التحقيق، ولم يبلغ علم مخلوق حادث كنه صفة من صفات الله تعالى الأزلية، كما قال تعالى:
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255]، حتى يثني عليه بمعرفة كنه صفة من صفاته؛ لأن الثناء فرع المعرفة فما أثنى أحد على الله تحقيقا إلا تقليدا، فافهم جدا.
وأما الشكر أيضا فلا يتحقق الإنسان بشكر أنعم الله إلا برؤية العجز عن القيام بأدائه كما حكي عن داود عليه السلام أنه قال: " إلهي كيف أشكرك وأنا لا أصل شكرك إلا بنعمتك؟ فأوحى الله إليه: الآن شكرتني " وذلك لأن توفيق الشكر نعمة موجبة للشكر فلا نهاية لنعمه، فكيف يدرك الشكر المحادث النعمة التي هي غير متناهية؛ لقوله تعالى :
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34]؟
وأما المدح فلا يمكن الإنسان أن يمدح الحق حقيقة أيضا؛ لأن المدح يدل على كمال معرفة الذات والصفات حتى لا يذكره على ما هو به، وذلك محال؛ لقوله تعالى:
وما قدروا الله حق قدره
[الزمر: 67]، فلهذا حمد نفسه بالثناء والشكر والمدح، وقال: { الحمد لله رب العالمين } [الفاتحة: 2] أي: له أن يحمد ذاته الأزلي الأبدي بالحمد الأزلي الأبدي، والحمد لا يصلح إلا له فهو محمود بحمده أزلا وأبدا، والحمد له أما الحمد لله إشارة إلى ثناء ذاته بالإلهية، { رب العالمين } [الفاتحة: 2]، إشارة إلى شكر أنعام الربوبية على ربوبيته.
{ الرحمن الرحيم * ملك يوم الدين } [الفاتحة: 3-4]، إشارة إلى مدح ذاته لجميع صفات لطفه وقهره وجماله وجلاله في كماله وملكه بمالكيته وملكيته في الدنيا والآخرة قبل خلقها، وفيه دلالة على أنه ما أثنى وما شكر وما مدح الله أحدا إلا الله تعالى، كما قال بعض المشايخ: ما قال أحدا الله إلا الله، فلما عجز الخلق عن الثناء والشكر والمدح، فالثناء للسان والشكر للأركان؛ لقوله تعالى:
اعملوا آل داوود شكرا
[سبأ: 13]. والمدح للجنان. فشكر اللسان يعصمك من سيف السلطان ويسلمك من آفة الكفران، وشكر الأركان ينجيك من دركات النيران ويبلغك إلى درجات الجنان، ومدح الجنان يقربك إلى الرحمن ويشرفك بخلع الغفران، فالحمد بمعنى الثناء على نوعين: ثناء الذات بالوحدانية والفردانية الأزلية الأبدية في الألوهية، وثناء الصفات بأنهما موصوفة بصفات الكمال منزهة عن النقصان والزوال.
والحمد بمعنى الشكر على نوعيه: شكر الذات وشكر الصفات؛ فشكر الذات على نعمة الوجود، وشكر الصفات على بذل الوجود. والحمد بمعنى المدح على نوعين: مدح الذات بنفي الذات في الوجود إلا ذاته، ومدح الصفات ببذل الأوصاف وإفنائها في صفاته لتكون باقيا بهويته لا بأنانيتك. { رب العالمين } [الفاتحة: 2]، فربوبيته بمعنى الخالقية والمالكية والسيدية عامة، وبمعنى التربية خاصة بحسب أنواع الموجودات متفاوتة؛ فهو مربي الأشباح بأنواع نعمه، ومربي الأرواح بأصناف كرمه، ومربي نفوس العابدين بأحكام الشريعة، ومربي قلوب المشتاقين بآداب الطريقة، ومربي أسرار المحبين بأنواع الحقيقة ، وهو مدبر كل أمر حكيم من الأزل إلى الأبد، وهو متم نعمته الظاهرة والباطنة في الدنيا والعقبى على عباده والمؤمنين، كما قال تعالى:
وأتممت عليكم نعمتي
[المائدة: 3].
ومتم أنوار الأسرار الطالبين كما قال تعالى:
والله متم نوره
[الصف: 8]، وهو المنعم على الموجودات بأنعام الإيجاد عامة، ونعمة الهداية خاصة؛ لقرب اختصاصه بإجابة الدعاء؛ لأن الله تعالى أمر عباده بالدعاء ووعدهم عليه الاستجابة بقوله تعالى:
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60]، ثم علمهم كيف يدعونه وبأي اسم يدعونه بقوله تعالى:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية
[الأعراف: 55].
وذكر في مواضع كثيرة من القرآن بصيغة الدعاء كقوله تعالى:
ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
[البقرة: 201]، وأمثاله كثيرة وألهم الله أنبياءه ورسله - عليه السلام - عند طلب الحاجة وإجابة الدعاء أن يدعوا بهذا الاسم؛ أولهم آدم عليه السلام الرحمة كما قال تعالى:
فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه
[البقرة: 37]، قيل كانت قوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا
[الأعراف: 23]، فأجابه وتاب عليه وهدى، ثم دعا نوع عليه السلام قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
[نوح: 26]، ثم دعا إبراهيم عليه السلام وقال:
رب أرني كيف تحيي الموتى
[البقرة: 260]، ثم دعى موسى عليه السلام وقال:
ربنا اطمس على أموالهم
[يونس: 88]، ثم دعا يوسف عليه السلام وقال:
رب قد آتيتني من الملك
[يوسف: 101]، ثم دعا سليمان عليه السلام وقال:
رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي
[ص: 35]، ثم دعا زكريا عليه السلام وقال:
رب إني وهن العظم مني
[مريم: 4]، ودعا يحيى عليه السلام وقال:
واجعله رب رضيا
[مريم: 6]، ثم دعا عيسى عليه السلام وقال:
اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء
[المائدة: 114]، ثم أمر الله حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعوه وقال:
رب زدني علما
[طه: 114]، ثم ندب المؤمنين في مواضع القرآن أي قوله: ربنا، وغير هذا من الأنبياء والأولياء دعوه بهذا الاسم فأجابهم بفضله وكرمه؛ لعزة هذا الاسم وعظمته، فالله تعالى لما أكرم هذه الأمة وأقامهم مقام المناجاة معه، وأمرهم بالدعاء ووعدهم عليه بالإجابة، من على حبيبه صلى الله عليه وسلم وأمته بالسبع المثاني بقوله تعالى:
ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم
[الحجر: 87] وفيه إشارة شريفة ودقيقة لطيفة وهي أن الله تعالى من عليه بفاتحة الكتاب كما من عليه بجميع القرآن، والسر فيه أن جميع حقائق وأصول معانيه مندرجة في الفاتحة، كما ذكرناه فجعل فاتحة الكتاب ديباجة مناجاة العبد من الرب في الصلاة.
وبدأ افتتاحها بأسمائه الحسنى وصفاته العلى قال: { بسم الله الرحمن الرحيم } [الفاتحة: 1]، ثم ثنى بحمد ذات الألوهية، وثلث بنعت صفة ربوبية التي هي من خصوصية الإجابة حيث قدمت على الدعاء كما مر ذكره، وقال: { الحمد لله رب العالمين } [الفاتحة: 2].
ثم أكد التحميد لله بالثناء والتحميد وقال: { الرحمن الرحيم * ملك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 3-5]، ثم أعقبها سؤال حاجة فقال: ولعبدي ما سأل. ومن غاية اختصاص الرب بإجابة الدعاء، حتى أن إبليس بعد ما لعن وطرد دعا الله تعالى بهذا الاسم، وقال:
رب فأنظرني إلى يوم يبعثون
[الحجر: 36]، فأجابه ربه لعظمة هذا الاسم وقال:
فإنك من المنظرين
[الحجر: 37]، ولكنه ما وفق تصرفه في تحصيل نعمة ولايته بل كان حقه استدراجا وكيدا، كما قال تعالى:
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين
[القلم: 44-45].
فالمسكين إبليس لو كان من أهل الكرامة وفق لقوله:
رب فأنظرني
[الحجر: 36]، بدل انظرني ولإجابة الله تعالى:
فإنك من المنظرين
[الحجر: 37]، بدل قوله: إنك من المنظرين، من خصوصية هذا الاسم شموله صفات لا يشملها غيره من الأسماء بمقتضى اللغة منها ما يدل على المدح لذاته وهو السيد لقوله تعالى:
اذكرني عند ربك
[يوسف: 42] أي: عند سيدك وكذلك المالك قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل:
" أرب إبل أم رب غنم؟ فقال: من كل ما أتاني الله فأكثر وأطيب ".
ومنها: ما يدل على أنه خالق؛ لقوله إخبارا عن موسى عليه السلام في جواب فرعون حين قال:
وما رب العالمين * قال رب السموت والأرض وما بينهمآ
[الشعراء: 23-24].
ومنها: ما يدل على كمال رحمته ولطفه في حق العالمين جميعا عاما وفي حق الإنسان خاصا وفي حق الخواص خصوصا، أما في حق العالمين فتربيتهم بأغذيتهم وأسباب بقاء وجودهم، وفي حق الإنسان خاصا وهو أنه يربى ذرات وجودهم بألبان ألطاف ربوبيته عند الميثاق، وقال:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، وبرحمة ربوبيته خلقهم وبلطف ربوبيته خاطبهم، وبكرم ربوبيته أسمعهم وأبصرهم، وبسر ربوبيته أنطقهم وبفضل ربوبيته أعلمهم، وبعناية ربوبيته أشهدهم، حتى قالوا: { بلى } وجعل بحكمة تدبير ربوبيته إقرارهم بذر التوحيد، وفي خواص الخواص من الأنبياء والأولياء فبأن يربي بذر توحيدهم في أرض قلوبهم بماء الشريعة والأديان ورياح الإيمان والإيقان وأنوار شموس الإحسان والعرفان وبقيمة الربوبية يتم عليهم مشاهدة جماله وكاشفة جلاله.
كما قال تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم:
ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
[الفتح: 2]، ثم شرف أمته ببركة متابعته بهذه التشريفات وأنعم عليهم بهذه الكرامات والدرجات عند طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في تقديم ذكره ومقامه { رب العالمين * الرحمن الرحيم * ملك يوم الدين } [الفاتحة: 2-4]، الرحمن الرحيم فائدة التكرار فيهما من وجهين، أحدهما: أن ذكرهما في بسم الله الرحمن الرحيم هو مبدأ الكتاب ومفتتح الخطاب بأنه هو الرحمن الرحيم بأن دعاكم بالإلهية إلى الطاعة والعبادة، وإنما دعاكم ليغفر لكم بالرحمانية والرحيمية؛ لقوله تعالى:
يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم
[إبراهيم: 10].
وأما ذكرهما في الفاتحة عقيب الحمد لله رب العالمين الذي هو المدح
" يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى علي عبدي... "
الحديث فثبت أنهما في الفاتحة للثناء فذكرهما في البسملة من الله تعالى؛ لاستمالة قلوب العباد على العبودية بالرحمة والغفران، وفي الفاتحة من العباد للثناء على الله تعالى وبالجمال والجلال للقربة والرضوان، والثاني: ذكرهما في البسملة لتسكين الهيبة ورفع الدهشة من عظمة اسم الله تعالى عن عباده كما كان حال موسى عليه السلام حين خاطبه: ب
إني أنا الله
[القصص: 30] كادت تزهق نفس موسى من هيبة استماع اسم الله، فانبسط معه على بساط العزة لإزاحة الدهشة والإراحة من الوحشة بقوله تعالى:
وما تلك بيمينك يموسى
[طه: 17]، ولأن يستأنس برحمانية ورحيمية نفوس العباد إلى عبادة الله تعالى، وتطمئن قلوبهم بذكر الله كما قال تعالى:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28]، ليستعدوا بذلك لمناجاته وليستحقوا المدح والثناء على ذاته وصفاته، فيناجونه في الصلاة ويذكرونه بالدعاء ويرفعون إليه الحاجة؛ ليهديهم إلى نيل الدرجات ورتب القربات.
{ ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4]، الإشارة فيه إلى أن الدين في الحقيقة الإسلام، يدل عليه قوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
[آل عمران: 19]، والإسلام على نوعين: الإسلام بالظاهر وإسلام بالباطل، فإسلام الظاهر بإقرار اللسان وعمل الأركان لقوله تعالى:
ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات: 14]، وقال صلى الله عليه وسلم: في جواب جبريل عليه السلام: ما الإسلام؟ قال:
" الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا "
فهذا الإسلام جسداني والجسداني ظلماني، ويعبر عن الليل بالظلمة، وأما الإسلام الباطن فانشراح القلب والصدر بنور الله بقوله تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، فهذا الإسلام الروحاني نوراني ويعبر عن اليوم بالنور، فالإسلام الجسداني يقتضي إسلام الجسد لأوامر الله تعالى، ونواهيه، والإسلام الروحاني يقتضي استسلام القلوب والروح لأحكامه الأزلية وقضائه وقدره، فمن كان موقوفا عند الإسلام الجسداني، ولم يبلغ مرتبة الإسلام الروحاني فهو بعد في سير نعمة الدين مترف ومتحير، فيرى ملوكا وملاكا كثيرة كما كان حال الخليل عليه السلام فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال:
هذا ربي
[الأنعام: 76] وتنفس سعادته وطلعت شمس الإسلام الروحاني من وراء جبل نفسه عن شوق القلب صبح فهو على
نور من ربه
[الزمر: 22] واضح في كشف يوم الدين، فيكون ورد وقته: " أصبحنا وأصبح الملك لله " ، فيشاهد بعين اليقين بل يكاشف حق اليقين أن الملك لله ولا مالك إلا مالك يوم الدين، فإذا تجلى له النهار وكشف بالمالك جهارا يخاطبه وجاها ويناجيه شفاها { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 5].
الكلام فيه على ثلاثة أوجه:
أولها: على الخطاب لأنه رجع من الغيبة إلى الخطاب، وإنما رجع إلى الخطاب من الغيبة؛ لأنه ليس بين المملوك ومالكه إلا حجاب ملك نفس المملوك، فإذا عبر عن حجاب ملك النفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس، كما قيل عن أبي يزيد أنه في بعض مكاشفاته قال: إلهي كيف أجد السبيل إليك؟ قال له ربه: دع نفس وتعال. فللنفس أربع صفات لها من كل صنف حجاب آخر، وهي: الأمارية واللوامية والملهمية والمطمئنة، فأمر العبد المملوك بأن يذكر مالكه بأربع صفات الإلهية والربوبية والرحمانية والرحيمية، فيعبر بعد مدح الإلهية وشكر الربوبية وثناء الرحمانية وتمجيد الرحيمية وقوة جذبات هذه الصفات الأربع عن حجب ممالك الصفات الأربع للنفس، فيخلص عن ظلمات ليلة دين نفسه لطلوع صبح صادق يوم الدين { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4]
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
[الانفطار: 19] فيبقي العبد عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، وهو كل على مولاه فيرحمه مالكه ويذكره بسنة عادة كرمه على قضية وعده
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، ويناديه ويخاطب نفسه:
يأيتها النفس المطمئنة
[الفجر: 27]، ثم يجذبه من غيبة نفسه إلى شهود مالكية ربه بجذبة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز، كما قرأ بعضهم: { ملك يوم الدين } نصبا على نداء { إياك نعبد }.
وثانيها: في معنى: { نعبد } وتحقيقه أن نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، وقيل العبادة سياسة النفس على حمل المشاق في الطاعة وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة، يقال: طريق معبد إذا كان مذللا، موطوءة بالأقدام وبعير إذا كان مطليا بالقطران، ويسمى العبد عبدا لذله وانقياده لمولاه.
قلت: حد العبادة على ما قال ليس بحد تام؛ لأن للملائكة عبادة وليست عبادتهم سياسة النفس على حمل المشاق في الطاعة والعبادة الحقيقية خلوص النفس عن كل حظ من الحظوظ الدنيوية والأخروية ليعبد الله بالحق لا للحظ لقوله تعالى:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5].
وثالثها: في خصوصية قوله تعالى: { نعبد } أن النفس دنياوية تعبد هواها لقوله تعالى:
ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى
[النازعات: 40-41]، والروح قربي تعبد القربة والعندية لقوله تعالى:
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، والسر حضرتي تعبد الحق تبارك وتعالى لقوله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:
" الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
، فلما أنعم الله تعالى على عبده بنعمة الصلاة قسمها بينه وبين عبده، كما قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها إلي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل "
، فيقرب العبد بنصفه إلى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على صفات جماله وجلاله، ويقرب الرب على مقتضى كرمه وإنعامه كما قال:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، بنصفه إلى خلاص عبده من عبودية الأغيار بإخراجه عن ظلمات بعضها فوق بعض من هوى النفس ومراد القلب وتعلق الروح بغير الحق إلى نور وحدانيته وشهود فردانيته. فأشرقت أرض النفس وسماوات القلب وعرش الروح وكرسي السر بنور ربها فآمنوا كلهم أجمعون بالله الذي خلقهم وهو مالكهم وملكهم، وكفروا بطواغيتهم التي يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى، وجعلوا كلهم واحدا وقالوا: { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 5] نستوفقك ونطلب المعونة منك على عبادتك على أمورنا كلها.
قال أبو بكر الوراق: { إياك نعبد } لأنك خلقتنا { وإياك نستعين } لأنك هديتنا، قلت: { إياك نعبد } لأنك المعبود { وإياك نستعين } لأنك المقصود، وأيضا: { إياك نعبد } لأنك المطلوب { وإياك نستعين } لأنك المحبوب، { إياك نعبد } لأنك مالك { وإياك نستعين }؛ لأن ما سواك هالك { إياك نعبد } على نعمتك { وإياك نستعين } على معرفتك، { إياك نعبد } لأنك قلت: لنا عبادي، { وإياك نستعين }؛ لأنك لنا إليك هادي { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6]، الهداية على ثلاثة أوجه: هداية العام، وهداية الخاص، وهداية الأخص أما هداية العام فإنه هدى جميع الحيوانات إلى جلب منافعها ودفع مضارها بقوله:
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه: 50].
وقال تعالى:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين
[البلد: 8-10]، وأما هداية الخاص فهو هداية المؤمنين إلى الجنة لقوله تعالى:
يهديهم ربهم بإيمانهم
[يونس: 9]، وأما هداية الأخص فهي هداية الحقيقة التي من الله وقوله تعالى:
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99].
فقال الله تعالى:
يجتبي إليه من يشآء
[الشورى: 13]، بهذه الهداية إلى الله تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي "
، وفي قوله تعالى:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7]، إشارة إلى هذا المعنى أي كنت ضالا عني في تيه وجودك فطلبتك بجودي، وجذبتك بفضلي، وهديتك بجذبات عنايتي ونور هدايتي إلي، وجعلتك نورا وأنزلت إليك نورا فأهدي بك إلي من أشاء من عبادي، فمن اتبعك وطلب رضاك فنخرجهم من ظلمات وجود السوى إلى نور الروحاني، ونهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله
[المائدة: 15-16].
واعلم: أن الصراط المستقيم هو الدين القويم، وما يدل عليه القرآن العظيم وهو خلق سيد المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين كما قال تعالى:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم: 4]، ثم قال تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
[الأنعام: 153]، وهو على نوعين:
[الأول]: صراط مستقيم إلى الجنة؛ لقوله تعالى:
والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم
[يونس: 25]، أي: إلى الجنة، فهذا لأصحاب اليمين؛ لقوله تعالى:
وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين * في سدر
[الواقعة: 27-28].
والثاني: صراط مستقيم إلى الله؛ لقوله تعالى:
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
[الشورى: 52]،
صراط الله
[الشورى: 53] وهذا للسابقين؛ لقوله تعالى:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون
[الواقعة: 10-11]، وفي الآيتين إشارة إلى من هدي إلى صراط مستقيم فهو من السابقين المقربين، وإن كل ما يكون لأصحاب اليمين يكون له وهو سابق على أصحاب اليمين فما يكون للمقربين من شهود الجمال وكشف الجلال وهذه المرتبة خاصة لسيد المرسلين وخاتم النبيين ومتابعة لقوله:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف: 108].
{ صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 7]، الإشارة فيه إلى طريق من أنعمت عليهم بكشف الحقيقة ، وتكرار الصراط إشارة إلى أن الصراط الحقيقي صراطان:
صراط من العبد إلى الرب، وصراط من الرب إلى العبد؛ فالذي من العبد إلى الرب طريق مخوف كم قطع فيه القوافل وانقطعت به الرواحل، ونادى [رب] العزة لأهل العزة لطلب رد السبيل لقوله تعالى حكاية عن قاطع هذا الطريق وتقطع هذا الفريق:
لأقعدن لهم صراطك المستقيم
[الأعراف: 16].
والذي من الرب إلى العبد فطريق آمن، وبالأمان كائن قد سلمت قوافله وبالنعم محفوفة منازلة ويسيرون فيه سيارته ويقادون بالسلاسل قادته
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين...
الآية [النساء: 69].
أنعم الله على أسرارهم بأنوار العناية وعلى أرواحهم بأسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم في قمع الهوى وقهر الطبع، وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وفي مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاءة.
{ صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 7]، بالنعمة الظاهرة والباطنة كما قال تعالى:
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
[لقمان: 20]، وأما النعمة الظاهرة فبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، وأحكام الشرائع وتوفيق قبول دعوة الرسل، وإجابة الحق واتباع السنة واجتناب البدعة وانقياد النفس لأوامر الشرع ونواهيه والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية، والنعمة الباطنة فإن الله تعالى أنعم على أرواحهم في بداية الفطرة بإضافة رشاش نوره لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطاه فقد ضل "
فكان فتح باب صراط الله إلى العبد رشاش ذلك النور وأول الغيث رش ثم ينسكب، فالمؤمنون ينظرون بذلك النور المرشوش إلى مشاهدة الغيب وينظرون الغيث ويستغيثون: { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6]، وهو { صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 7]، بجذبات ألطافك وفتحت عليهم أبواب فضلك ليهتدوا بك إليك فأصابوا بما أصابهم منك بك { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } [الفاتحة: 7]، قال الواحدي: { غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7]، بالمخالفة والعصيان { ولا الضآلين } [الفاتحة: 7]، عن السنة.
قلت: هم الذين أخطأهم ذلك النور حين رش عليهم من نوره فضلوا في تيه هوى النفس، وتاهوا في ظلمات الطبع والتقليد فغضب عليهم من اليهود ولعنهم بالطرد حتى لم يهتدوا إلى الشرع والتحقيق، ودفعوا عن الصراط المستقيم عن المرتبة الإنسانية التي خلق فيها الإنسان في أحسن تقويم ومسخوا قردة وخنازير صورة ومعنى أيضا، { غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7]، بالخذلان { ولا الضآلين } بالنسيان لما وقعوا عن الصراط في سير البشرية مشوا بشرك الشرك كالنصارى فاتخذوا الهوى إلها
قالوا إن الله ثالث ثلاثة
[المائدة: 73]،
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67]، وأيضا { غير المغضوب عليهم } بالغيبة بعد الحضور والمحنة بعد السرور، والظلمة بعد النور نعوذ بالله من الحور بعد الكور { ولا الضآلين } في الفسق والفجور.
{ غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7]، بالرجوع عن الصراط المستقيم فنودوا: (وأهدوهم إلى سواء الجحيم)، { ولا الضآلين } [الفاتحة: 7]، عن كرم الكريم ورحمة الرحيم بالإعراض عن الدين القويم، المحرومين عن القلب السليم وجنات النعيم باستحقاق العذاب الأليم، غير المغضوب عليهم بالاحتباس في المنازل والانقطاع عن القوافل، ولا الضالين بالصدور عن المقصود. وفصل في { آمين } والتائبين سنة بعد ولا الضالين كان في الصلاة وخارج الصلاة، روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } [الفاتحة: 7]، " آمين، خفض بها صوته "
حديث حسن.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" (آمين) ختم رب العالمين على عباده المؤمنين "
، قلت فيه إشارات:
منها: أن العبد يكتب كتابه بقلم فعله وكل حركة تصدر منه فهي حرف وكل عمل كلمة تكتب في كتاب طاعته ومعصية فكم من كتاب قد كتب طاعة ومعصية وسعد به ملك اليمين أو الشمال، فلما بلغ الحضرة لم يجد فيها حرفا، أما السيئات فقد محتها الحسنات، كما قال تعالى:
إن الحسنات يذهبن السيئات
[هود: 114]، وأما الطاعات فقد أحبطها الرياء والشرك لقوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65]، فإن الله تعالى من غاية كرمه مع عباده جعل آمين خاتمة كتاب صلاة العبادة حتى لا يمحوها شيء من الأشياء فيبقي بها مختوما ثابتا إلى يوم الجزاء فإنه يمحو الله ما يشاء ويثبت، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" كل الختم على الكتاب "
، ومنها أن الله تعالى قال:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ".
فالإشارة فيه أن للعبد نصفه من الحمد والثناء والدعاء؛ فيبقي نصف من الإجابة والهداية والرحمة والعفو والمغفرة والرضوان والنجاة من النيران ورفعة الدرجات من الجنان وكرامة بقاء الرحمن فختمت على ما سأل بخاتم: { آمين } ليوم يقوم الناس لرب العالمين يقال في قبول القوم ختم به عليه.
ومنها: أن العبد محجوب عن الله تعالى بحجاب أنانيته ووجدان وجوده، ووجوده مركب عن الروحاني العلوي والجسماني السفلي، فالشرع إنما جاء ليخرجه من ظلمات حجابه الجسماني السفلي إلى نور الروحاني العلوي؛ لأن من بقي فيها فهو في سفلي من النار لقوله:
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها
[آل عمران: 103]، فمن نجا من ظلمات نار سفلي وجوده ووصل إلى نور جنة علو وجوده فهو بعد محجوب بحجاب النور العلوي لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة "
فالروحاني بالنسبة إلى الجسماني نوراني؛ ولكن بالنسبة إلى نور القديم ظلماني كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق في ظلمة ".
فالنور الحقيقي هو الله تعالى وما سواه مخلوق ظلماني، وكمال العبد في العبودية بالخروج عن ظلمات أنانيته إلى نور هويته وفقدان وجوده في وجدان وجود الحق، والحكمة في بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب في الأوامر والنواهي وجميع أحكام الشرع وآدابه مقصورة على هذا المعنى، ولهذا ذكر الله تعالى في مواضع من القرآن
ليخرجكم من الظلمات إلى النور
[الحديد: 9]، وإن أخرج قومك من الظلمات إلى النور فالله تعالى بجوده وكرمه جمع أصول ما في الكتب المنزلة في سور القرآن، وأودع حقائق ما في سور القرآن في سورة فاتحة الكتاب؛ بل في المراتب العشر للربوبية كما ذكرنا محصورة في المراتب الأربعة إلى قولنا: الهداية من الأزل إلى الأبد؛ لأن العبد كان محتاجا إلى هدايته في الأزل بأن يهديه إلى الوجود وهي لو لم تكن هدايته لكان ضالا في تيه العدم وهذا أحد معاني قوله تعالى:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7].
فلما هدى العبد بهداية: " كن " فخرج عن ضلالة العدم إلى هدى الوجود الروحاني فكان ضالا في عالم الأرواح، كما قيل: ضل الماء في اللبن، فاحتاج إلى هدايته ليخرجه بهداية
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29] من ضلالة الروحاني إلى هدى عالم الجسماني إلى أن بلغ كمال مرتبة الإنسانية بالبلوغ والعقل، فيضل في تيه أنانية الوجود فيحتاج إلى هدايته بالرجوع إلى الصراط المستقيم الذي جاء عليه من العدم إلى الوجود حتى يرجع عليه من الوجود إلى العدم فقوله: { اهدنا } طلب أسباب الرجوع وهي في صورة النبي والشرع، وفي الحقيقة جذبة الحق ليهديه بهذه إلى العدم وفناء الوجود، كما هداه إلى الوجود بالنفخة ليهتدي إلى واجب الوجود وهذا معنى آخر من معاني:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7].
فكما أنه لا نهاية لواجب الوجود فكذلك لا نهاية لهدايته إلى معرفته إلى الأبد؛ فالله تعالى جعل العروج إلى العدم من شأن الإنسان بنفسه إلا بالذي أوجده وإنزاله إلى أسفل سافلين ليعرج بها إلى أعلى عليين العدم، فعلى الله التعريج وعلى العبد التسليم، وتسليم العبد بالإيمان والعمل الصالح لقوله:
إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت
[التين: 6]، وجزاء الأعمال الصلاة فلهذا قال تعالى:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي... "
الحديث.
فالعبد يقرب إلى الله بصدق النية وبحمده وشكره على ما أولاه من نعمه ويستهديه به إليه والحق تعالى يأخذه منه إليه ويفنيه عنه، ويبقيه به بالأمر، ويرفع رسوم أنانيته بسطوة تجلي هويته فيفقد الوجود فقدانا لا يجده أبدا ويجد المفقود وبعد أن لا يفقده أبدا؛ لأنه صار ملكه لقوله تعالى:
" ولعبدي ما سأل "
، ذكره بلام التمليك فيختم الله تعالى بعد بخاتم آمين فهذا هو الإشارة إلى مقام عباده المخلصين بأنه خاتم ليس لأحد من العالمين أن يتصرف فيه أو يفك ختم رب العالمين، ولهذا يئس إبليس عن التصرف فيهم، وقال:
إلا عبادك منهم المخلصين
[ص: 83] والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تفسير عين الحياة
يا طالب تفسير بطن سورة فاتحة الكتاب، اعلم أولا أسماءها الأربعة وهي: سورة الحمد، والسبع المثاني، وأم القرآن، وفاتحة الكتاب؛ وتيقن أن الحمد ناسوتي، والسبع المثاني اسم ملكوتي، وأم القرآن جبروتي، وفاتحة الكتاب اسم لاهوتي، فإذا أطلعت على أساميه، بعد إطلاعك على مطلع النقطة الواقعة تحت باء البسملة في الأصل الأول، وعلى حد البسملة في الأصل الثاني؛ فافهم تفسير بطن البسملة مختصرا موجزا مجزءا عن تفاصيلها، بأن الكتاب الحقيقي يقول ابتداء بالاسم الناسوتي الأثري، الدال على ذات المسمى اللاهوتي، ألوف بالصفة الجبروتية والفعل الملكوتي في تحرير كتاب جامع الحساب، وتقرير الرطب واليابس المتفرق في مفردات محاسبات ممالك الغيب والشهادة؛ لإظهار الكنز المخفي في الألف المخفي في { بسم } [الفاتحة: 1]، الذي هو مظهر للألف المخفي في { الرحمن } [الفاتحة: 1]، الذي هو من لام { الله } [الفاتحة: 1] وهائه، وأتبين بالابتداء بالاسم الأثري أن دار الكسب عالم الناسوت، وبالختم على { الرحيم } [الفاتحة: 1] العقلي أن دار الإقامة والجزاء عالم الملكوتي؛ ليمكن الشقيقة الناسوتية قبول الفيض من الدقائق الجبروتية بواسطة الملكوتي، وللدقيقة الملكوتية قبول الفيض من الحقائق اللاهوتية بواسطة الجبروت، وتشتغل الشقيقة الناسوتية بحمده المسطور في سورة الحمد الناسوتي الموصل لها، لا الحمد المخصوص بالسبع المثاني الشامل فيضه لبياضة دقائق اللطائف السبعة وسواديتها، المنوطة بها الشقيقة الناسوتية المرباة في البدن المجعول.
وفي هذا السر يعرف سبب إطلاق السبع المثاني عليها، ويطلع على معنى السبع ومعنى المثاني، فإذا أحمدته اللطائف السبع في المرتبة البياضية والسوادية مثنى بلسان الإنسان الغيبي، والأنس الشهادي تلهم دقائقها الحمد الجبروتي المخزون في أم القرآن، ثم تلهم حقائقها الحمد اللاهوتي المستحق للذات المكنون في فاتحة الكتاب، مما أشار إليه صاحب المقام المحمود في حديث الشفاعة بقوله:
" ألهمت بمحامد لا تحضره إلا أن تلحقا بحقائق القرآن المكنونة في هذه السورة "
سميت فاتحة الكتاب؛ لأنها تفتتح كل شيء عالم اللاهوت، ولدقائقه المخزونة فيها سميت أم الكتاب؛ لأن أم الكتاب جبروتي وهو أصل الكتب، ولدقائقه المستورة فيها سميت سبع المثاني؛ لأن اللطائف السبعة غيبية ملكوتية تحدث بلسان البياض والسواد، ولشقائقه المسطورة فيها سميت سورة الحمد الواجب الناسوتي قراءتها في الصلاة، التي هي معراج المؤمن فيها يناجي رب العالمين سميت سورة الحمد؛ فينبغي حينئذ أن يعرف معنى بطن هذه السورة يتضح منك القرآن في المعراج وقت المناجاة، وتصلح بأن تكون صلاة مقسومة بينك وبين ربك، كما جاء في الحديث:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } ، أقول: حمدني عبدي إلى أن قال: { اهدنا الصراط المستقيم } أقول: سألني عبدي، ولعبدي ما سأل "
، وجعل الصلاة قراءة سورة الحمد، وحسبك هذا الحديث في وجود قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة بطنه.
على سبيل الإجمال هو أن يعلم بأن الله الحميد المحمود أراد أن يعلم الخلق بحميده؛ ليحمدوه في عالم الشهادة والغيب، ويجعلوا أنفسهم مستحقين لسلام الحق ورحمته وبركاته، { الحمد لله رب العالمين } [الفاتحة: 2]، ووصف الله الذي هو المتجلي في العقد الأول الآحادي اللاهوتي للحقائق بصفة الدال عليها اسم الرب، الذي هو المتجلي في العقد الرابع إلا في الناسوتي؛ ليمكن للشقائق الآلافية التمتع بحقائق الحمد والانتفاع بها، وسره قريب من سر الابتداء في البسملة بالاسم الناستوي، وإفشاء من حد القرآن مما لست مأذونا في بيانه.
ثم وصف ب { الرحمن } [الفاتحة: 3]، المتجلي بالعقد الثاني المعشراتي الجبروتي للدقائق القائمة بالحقائق؛ ليحمدوه على رحمته العامة الشاملة لجميع الموجودات بعد حمدهم على ربوبيته في الأطوار المختلفة.
ثم وصف ب { الرحيم } [الفاتحة: 3]، المتجلي بالعقد الثالث، المائي الملكوتي للدقائق المنوطة بالدقائق القائمة بالحقائق؛ ليحمدوه رحمته الخاصة المحيطة بالمؤمنين في الدار الآخرة، قوله:
وكان بالمؤمنين رحيما
[الأحزاب: 43]، يدل على صدق هذا البيان، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهذا التقرير شاهد عدل، وهو قوله:
" يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ".
ثم وصف ب { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4]؛ ليتيقنوا بأن أسماءه أزلية قبل خلق الخلق وظهور العالم، وكان مبدعا خالقا قبل الإبداع والخلق، كما أنه مالك يوم الدين قبل إظهاره، ويبالغوا في تحميده بعد تيقنهم بيوم الدين والجزاء، وأنه يدينهم في ذلك اليوم.
ثم أخبرهم بأن الحمد الحقيقي لا يصدر إلا من العبد الحقيقي بقوله تعالى : { إياك نعبد } [الفاتحة: 5]؛ ليعبدوه مخلصين ويحمدوه موقنين بألا معبود سواه، وتقديم المفعول على الفعل يفيد الاختصاص؛ ولأجل هذا السر قدم المفعول في العبادة والاستعانة، وكرر بقوله: { وإياك نستعين } [الفاتحة: 5]؛ لئلا يستعينوا إلا بمعبودهم ويتيقنوا بألا مستعان إلا هو؛ ليمكن لهم الحمد على معبوديته ومستعانيته، ومن يستعين بغير معبوده يشرك في الحمد غيره، وهذا شرك حقيقي غفل عنه الخواص فضلا عن العوام، ويقول من يستعين به المستعين بلسان الحال، فاطلب الاستعانة ممن تعبده وتحمده، وما أحسن ما قال صاحب قدم صدق:
استعانة المخلوق بالمخلوق كاستعانة المسجون بالمسجون، اللهم إلا أن المتبعين في المحققين الذين نظروا بعين الوحدة في الكثرة، وعلموا أن الآثار الكثيرة ظاهرة عن الأفعال الصادرة عن الصفات القائمة بالذات، وجعلوا الناس كالبنيان يشد بعضهم بعضا، ويستعين بأثر الحق الظاهر من فعل الحق الصادر من صفة الحق القائمة بذات الحق بالحق في الحق، ولا يمكن الوصول إلى هذا المقام إلا على سبيل التدريج، وهو بأن يترك الاستعانة من غير الحق مدة مديدة في الوسط، حتى تصح منهم الاستعانة بأثر الحق في الانتهاء، ولا يضرها في مقام الوحدة، فإذا استعنت في حمد الله بالمستعان المعبود المالك الرحيم الرحمن الرب الله المحمود، وحمدته على تعليمه إياك؛ فيزداد في التعليم على قضية
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم: 7]، ويعلمكم بعد أداء حق الحمد المقدور للبشر سؤال ما كان الناس أحوج إليه في دينهم ودنياهم، وهو: الهداية إلى الصراط المستقيم، والثبات عليه بقوله: { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6]، وهو أدق من الخط الموهوم بين الظل والضياء والهداية إليه، والثبات عليه لا يمكن إلا بتوفيق الحق.
ثم ينبهكم بأن الصراط المستقيم الذي هدى إليه خواص عباده، وأنعم عليهم بالاستقامة عليه هو الذي ما كان شرقيا صاحب تفريط وما كان غربيا، صاحب إفراط بقوله: { صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 7] بالاستقامة بعد الهداية، { غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7] من أهل الإفراط، { ولا الضآلين } [الفاتحة: 7] من أهل التفريط؛ ليكونوا خائفين من مكره، راجين من كرمه؛ حتى يجوزوا على الجسر ويدخلوا دار السلام ويشرفوا بالسلام، كما أخبرنا الله الملك السلام في الكلام القديم:
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين
[الزمر: 73].
والخوف والرجاء جناحان للطائر فوق الجسر، إن لم يكن له جناح الخوف لهوى في زمهرير الأمن، فإن لم يكن له جناح الرجاء لهوى في نار اليأس، وهذان الجناحان أثران ظاهران من فعل القهر وفعل اللطف الصادرين من صفة لطيفية وقهارية، وقلب المؤمن بين إصبعي لطفه وقهره يقلبه كيف يشاء، وإلى هذا السر أشار خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في مناجاته حيث قال:
" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك "
، وهاتان الصفتان ثابتتان لذات الله ذي الجلال والإكرام، فمن يأمن مكر الله وقهره فهو من الخاسرين المفرطين، ومن ييأس من روح الله ولطفه فهو من الكافرين المفرطين، ومن يفرح من لطفه ويخف من قهره من الفائزين الثابتين على الصراط المستقيم في دار التلوين، التي الاستقامة فيها أشد وأشق على النفس من الدخول في النار؛ ولأجل هذا أعدل الخلق مزاجا
" شيبتني سورة هود "
، ومراده أمر الله إياه بالاستقامة بقوله
فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك
[هود: 112]، فحق له التشيب؛ رأفة على من معه، وخوفا على تقصيرهم في الاستقامة، فإذا علمت هذه الفوائد فخذ نصيبا من فوائد أسمائه الحسنى المبسوطة في بساط هذه السورة، وهي المنعم الهادي المستعان المعبود المالك الرحيم الرحمن الرب الله المحمود.
وتيقن أنه تعالى ينتبه باسم المحمود لطيفة بغيبة القارئ، وباسم الله لطيفة طفلية، وباسم الرب لطيفة جنينية، وباسم الرحمن لطيفة خلقية، وباسم الرحيم لطيفة لحمية، وباسم المالك لطيفة عظمية، وباسم المعبود لطيفة حط مضغية، وباسم المستعان لطيفة علقية، وباسم الهادي لطيفة نطفية، وباسم المنعم لطيفة سلالية عن سر النقطة الأحدية، التي هي مظهر للنقطة الذاتية، وعن سر الحياتية والسمعية والبصرية والمتكلمية والعلمية والمريدية والقديرية والحكيمية والواحدية، والأسماء المطهرة في هذه السورة دالة على حضرة النقطة الأحدية وحضرات صفاتها الأربع، فمن يطلع على أسرار هذه الأسامي العشرة المظهرة والمضمرة، المدرجة في درج فاتحة الكتاب، المخصوص بالنبي الأمي صاحب لواء الحمد في المقام المحمود، ويعبده حق عبادته في الشهادة والغيب بحمده، حق حمده باللطائف السبع على وفق الشرع، مخالفا للطبع بقدر الوسع يؤذن بالدخول في الحضرة العظمى، التي هي منتهى مأرب الحجاج في المعراج، والداخل فيها إن شرف بالطهارة الكبرى يكون آمنا من المكر والاستدراج.
وحمد اللطيفة القالبية: اشتغال جوارحها وأعضائها في عبودية الحق.
وحمد اللطيفة النفسية: ترك هواها بالإعراض عن الدنيا، والإقبال على المولى في النعماء والبلوى؛ بحيث لا يمكن للشيطان إلقاء خاطر في ردعها من الخواطر، التي كانت فيها مخالفة الله تعالى.
وحمد اللطيفة القلبية: حفظ المرآة عن إفشاء سر ما يشاء، في هذه المرآة.
وحمد اللطيفة الروحية: ترك غيرتها على اللطيفة القلبية؛ لقلة التفاتها إليها لكثرة اشتغالها بمراقبة المرآة، وإقامتها محاذاة الوجه.
وحمد اللطيفة الخفية: حيرتها في مشاهدة ما في المرآة من الآيات البينات.
وحمد اللطيفة الحقيقة طالعة سوى الحق في الكتاب المسطور بقاف قلم؛ فإنه صاحب المقام المحمود، الآخذ من دال ذوات روحانية أحمدية ميم مداد نورانية محمدية؛ ليظهر على لام لوح قدمه صور ما في كنز القدم وصورها، يأخذ الفيض من الاسم المحمود الشامل للمعارف محمدا مفصلا، الحاوي وولايته بدال الدوائر الأربع في الموقف الأعظم، ومن اسم الله بألوهيته في عالم اللاهوت، ومن اسم الرب بربوبيته في عالم الناسوت، ومن اسم الرحمن برحمته في عالم الجبروت، ومن اسم الرحيم برحمته الخاصة في عالم الملكوت، ومن اسم المالك بعزته في المواقف الآثارية، ومن المعبودية بسلطنته في المواقف الأفعالية، ومن اسم المستعان بقيوميته في المواقف الصفاتية، ومن اسم الهادي برأفته في المواقف الذاتية، ومن اسم المنعم بمنعميته في المواقف النقطية وسرها، بقبول المعبود المحمود هدية الحمد منها في الخواص والمحاضر والحضرات يتبين في سيماء حاله، وعلامة قبول الإذن بالدخول في الحضرة العظمى: حصول الطهارة الكبرى.
ولولا ملالة طبعي من الكتابة؛ لبينت بطون القرآن من أوله إلى آخره في هذه السورة الواحدة، الجامعة لمفرقات الأحكام السياسية والطهارية والعبادية الشاملة للمواعظ، والأمثال والحكم المخصوصة باللطائف السبع، وتربيتها في أطوارها المختلفة، وسبب ظهور الملالة مطايا الهمم عن السير في طلب معاني الأمور، وأخذ فيض ضياء العالم من منبع النور، وعدم من يفهم ما كتبته منذ عشرين سنة، وقلة التفات الناس الناسي مبدأه ومعاده إلى المعارف الرحمانية، وكثرة اشتغال الخلق بمزخرفات المتفلسفين وطامات المتصوفين وترهات الحسوميين مما يستنكف منه، مقتفو آثار [الفلاسفة] عن متابعي سنن السنن الإسلامية من علماء الربانية، وقصور همة الفقهاء والحكماء والمشايخ، هداهم إلى الصراط المستقيم على الذات العاجلة والطلاب والسلاك، أعلى الله همتهم على المكاشفات السرية والمشاهدات الروحية والتجليات الصورية والنورية.
اللهم { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 6-7]، نعمة الإيمان الغيبي، { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } [الفاتحة: 7]، ممن حرم نعمة الإيمان الشهودي، آمين يا رب العالمين؛ أي: استجب دعائي ولا تخيب رجائي، وصلى الله على خير خلقه سيدنا وقرة أعيننا: محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذا أول المجلد الرابع والعشرين من كتاب " مطلع النقط ومجمع اللفظ " ، ومن الطور المجلد العشرون منه، وعدد مجلدات " مطلع النقط " من غير تفسير موافقة ثمان وعشرون، و " تفسير المواقف " وهي مائة وإحدى وثلاثون ألفا ومائة وإحدى وثلاثون، وقد كتبت بإلهام شرح موقفين منها إن ورد علي قياسا عليهما يكون ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسة وستين مجلدا كل مجلد أربعون كراسا عشرة أوراق كل ورقة أربعون سطرا.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-5]
{ الم } [البقرة: 1]، قال الشيخ الإمام مصنف الكتاب رحمه الله:
يحمل أن يكون { الم } وسائر الحروف المقطعة من قبيل المواضعات المعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهم، وقد وضعها الله مع نبيه صلى الله عليه وسلم في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل عليه السلام ولا غيره، يدل على هذا ما روي في الأخبار:
" أن جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى: { كهيعص } [مريم: 1]، فلما قال: { ك } [مريم: 1]، قال: النبي علمت، فقال: { ه } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال: { ي } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال: { ع } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال : { ص } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال جبريل عليه السلام: كيف علمت ما لم أعلم ".
وفي الحروف المقطعة إشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يسعه الحروف والكلمات؛ لأن الكافر غير متناه، والحروف والكلمات متناهية؛ وذلك لأن الصبيان يعلمون أولا الحروف المقطعة الفارغة من معاني القرآن، ولكنها دالة على كلمات القرآن وبها يهتدى إلى قراءة القرآن، ثم يعلمونهم المركبات من الحروف، ثم يعلمون القرآن كلاما وسورا، فيفقهون منها المعاني كل واحد على قدر علمه، وفهمه ومعرفته وصدق نيته وصفاء طويته، ومواهب الحق في حقه؛ فيظن بعض الظانين منهم إذا انقطعت الكلمات والسور المعدودة أن كلام الله انقطع ومعانيه تناهت، فالله سبحانه وتعالى بكمال حكمته أنزل بعد الكلمات والسور الحروف المقطعة بعضها مركبة بالكتابة مقطعة بالقرآن مثل { الم } و { الر } وغيرها.
وبعضها مفردة مقطعة بالكتابة والقرآن مثل { ص } و { ق } و { ن } ليعلموا أن كلام الله القديم والقرآن العظيم لا تحويه الكلمات المعدودة ولا تحصيه السور المحدودة، فإن الحروف المقطعة تدل على ما تدل عليه الكلمات من المعاني، والكلمات منحصرة معدودة ودلالة الحروف عليها غير منحصرة معدودة؛ لأن هذا يشير إلى أن الحروف المقطعة لو ركب بعضها بعضا إلى الأبد لا ينقضي كلام الله تعالى، ولا يضيق نطاق نطق الحروف عن توسع محيط الكلام الأزلي؛ لأنه فرق ظاهر بين الحروف المقطعة وبين الحروف المحدثة جمعا.
والكلمات القائمة بالحروف المحدثة منحصرة، ومعاني الحروف القائمة بالكلام القديم غير متناهية ولا منحصرة لقوله تعالى:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
[الكهف: 109]، وفي الحروف المقطعة إشارة أخرى، وهي: أن المركبة بالكتابة تشير إلى أن إلباس كسوة الحروف المحدثة في الكلام القديم لقصور فهم الإنسان، والمفردة منها تشير إلى أن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبدي غير ذي عدد، وتجدد الآيات والكلمات والسور العربية والعبرية والسريانية إنما جعلت كسوة الكلام الفرداني المنزه ليفهم الخلق لقوله تعالى:
وكذلك أوحينآ إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى
[الشورى: 7].
قال الشيخ الإمام رحمه الله: والإشارة في تحقيق { الم } أن جميع ما ذكرنا في تفسير الفاتحة من طلب الهداية إلى حضرة الربوبية والخلاص من ظلمات الوجود والوصول إلى الوحدانية وإجابة الحق تعالى دعاء العبد في إفنائه عن حجاب أنانيته بشهود كشف هويته، والمودع في الفاتحة مناجاة بين العبد والرب، ولكل مناج موضع خاص للمناجاة كما كان الطور ميثاق مناجاة موسى عليه السلام لقوله تعالى:
ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه
[الأعراف: 143].
وكان المعراج مقام مناجاة نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9]، وكان مقام مناجاة المؤمنين الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الصلاة معراج المؤمن "
فكما أن الصلاة بغير فاتحة غير تامة، فكذلك من قرأ الفاتحة في غير الصلوات تكون مناجاته غير تامة وقد سمى الله فاتحة الكتاب صلاة، وقال:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين إلى قوله: ولعبدي ما سأل "
إذا قرأها في الصلاة وإذا تحققت هذا فاعلم أن هذه الصلاة التي ذكرت في القرآن ثلث القيام لقوله تعالى:
وقوموا لله قنتين
[البقرة: 238].
والركوع لقوله تعالى:
واركعوا مع الركعين
[البقرة: 43]، والسجود لقوله تعالى:
واسجد واقترب
[العلق: 19]، فالألف إشارة إلى القيام، واللام إشارة الركوع، والميم إشارة إلى السجود، يعني: من قرأ فاتحة الكتاب التي هي مناجاة العبد مع الله في الصلاة التي هي معراج المؤمنين ليجيبه الله بالهداية التي طلب منه بقوله: { اهدنا } فيكون له أم الكتاب هدى بلا شك، ولهذا قال عقيب: { الم * ذلك الكتاب } [البقرة: 1-2]، للغائب فلو كانت الإشارة بذلك الكتاب إلى القرآن تعالى هذا الكتاب { لا ريب فيه هدى } [البقرة: 2]، أي: أم القرآن إذا قرئت في الصلاة وناجى به العبد ربه، وسأل منه الهداية بقوله { اهدنا } لا شك فيه أنه يهدي لما سأل؛ لأنه قال: ولعبدي ما سأل، منه هاهنا ما كان بالإشارة والتعريض لقوله { هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة } [البقرة: 2-3].
وفي: { ذلك الكتاب } إشارة أخرى أي: كتاب العهد الذي أخذ يوم الميثاق بإقرار العبد على التوحيد ليوم التلاق ، يدل على هذا قرينة { الم } الألف واللام حرفان مقدمان من قوله
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، والميم المؤخر عنه الحرف الآخر من قوله: { بربكم } معناه في عهد:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، أخذت منكم ذلك الكتاب في الميثاق على التوحيد في الربوبية وعلى العبودية بالعبادة لي دون غيري؛ لقوله تعالى:
ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
[يس: 60-61]، أي: هاديا إلى صراط مستقيم التوحيد والعبودية التي لا شرك فيها لغيري، وإلى محبتي للمتقين أي: للمؤمنين الموقنين يدل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } [البقرة: 3]، أي: يوقنون وقد شرط الله تعالى على الهداية بالتقوى قال: { هدى للمتقين } [البقرة: 2]، فالهداية تكون على قدر التقوى والتقوى على ثلاثة أوجه: تقوى العام عن الشرك والكفر والبدع، وتقوى الخاص عن الذنوب والعصيان، وتقوى الأخص عن ملاحظة غير الرحمن، فهداية العام بالإسلام والإيمان، وهداية الخاص بالإيقان والإحسان، وهداية الأخص بكشف الحجب ومشاهدة العيان ليتقي على نفسه بربه، كما قال تعالى:
فاتقوا الله يأولي الألباب
[المائدة: 100].
والمتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من ميثاقه ووصلوا بها ما أمر الله به أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرة وباطنا وانقطعوا عما نهاهم الله عنه من منهيات الشرع ظاهرا وباطنا، يدل على هذا قوله تعالى:
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة: 40]، إلى قوله
وإيي فاتقون
[البقرة: 41]، معناه إذ أنتم أقررتم بربوبيتي بقولكم { بلى } يوم الميثاق فأوفوا بعهدي الذي عاهدتموني عليه وهو العبودية الخالصة أوف بعهدكم الذي عاهدك عليه: الهداية إلي، وحقيقة التقوى الإعراض عن الدنيا والعقبى بالإقبال على المولى يؤمنون بالغيب؛ أي: بنور غيبتي وهو من الله في قلوبهم نظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فشاهد وصدقوا قوله وآمنوا به كما قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن ينظر بنور الله "
واعلم أن الغيب غيبان، غيب غاب عنك وغيب غبت عنه، فالذي غاب عنك عالم الأرواح فإنه كان حاضرا حين كنت فيه بالروح وكذرة وجودك في
ألست بربكم
[الأعراف: 172].
واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعاون الأرواح من الأنبياء والأولياء وغيرهم، فغاب عنك إذا تعلقت بالقلب، ونظرت بالحواس الخمس إلى المحسوسات عن عالم الأجسام، وأما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب، وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد: 4] أنت بعيد عنه وهو قريب منك، كما قال تعالى:
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
[ق: 16].
وكذلك الإيمان مراتب؛ فأول مرتبة: تصديق القلب بحقائق الغيب بلا ريب، كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان "
، وعلى ما أخبرنا أبو المظفر عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني قال: أخبرنا أبو الحسن مسعود بن محمود الغانمي، قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي منصور الخليل، أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي، ثنا أحمد عيسى بن أحمد العقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن يزيد عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر - يعني بالبصرة - معبد الجهني، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة، فقلنا: لو لقينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلسألنه عن القدر، فلقيناه عبد الله بن عمر، فالتقيته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر عندنا ناس يعتقدون هذا العلم ويطلبونه ويزعمون أن الأقدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت لهم فأخبرهم أني برئ منهم ومن ربهم براء،
" والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه في سبيل الله ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ".
ثم قال: حدثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ما برئ عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبتيه تمس ركبتيه فقال: " يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت: قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرنى عن الإيمان. قال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال: صدقت. قال فأخبرنى عن الإحسان. قال: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". قال: فأخبرنى عن الساعة. قال: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل ". قال: فأخبرنى عن أمارتها. قال: " أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان ". قال: ثم انطلق؛ فلبثت مليا ثم قال لى: " يا عمر أتدرى من السائل؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه "
، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، واتفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعلى ما أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي المقري، أخبرنا العباس بن محمد الطوسي، أنا أبو محمد الناوي، ثنا الحسن بن علي إمام عصره، حدثني محمد بن سعيد قال: خبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الخيري، أخبرنا أبو محمد بن علي السيد المحجوب حدثني بن علي ابن موسى الرضا حدثني إلى موسى بن جعفر، حدثني جعفر بن محمد الصادق، حدثني أبي محمد بن علي السجاد، حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين، حدثني أبي الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة، حدثني أبي علي ابن أبي طالب سيد الأوصياء، حدثني محمد بن عبد الله سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم قال:
" الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول ".
والمرتبة الثانية من الإيمان: أن تؤمن بغيب الغيب، ولهذا الإيمان مرتبتان :
فالمرتبة الأولى: أن يتخلص قلبه بالنور الغيبي الذي هو من الله تعالى عن تعلقات الجسمانيات وحجب آفات النفس وصفاتها، ويهدي إلى عالم الأرواح كما كان أول العهد يوم الميثاق؛ فالغيب الروحاني لا يبقي له غيب؛ لأنه ارتفعت الحجب وصار حضورا وشهودا لقوله تعالى:
ومن يؤمن بالله يهد قلبه
[التغابن: 11]، أي: من كان إيمانه بنور الله يهد قلبه إلى الله؛ فيشاهد القلب ما كان الروح يشاهده في عالم الأرواح، وما كانت الذرة تشاهده يوم الميثاق، ويسمع من خطاب الرب ما كانت تسمع، ويتنور بنور تنورت الذرة به، ويتنسم من نفحات ألطاف الحق ما تنسمت؛ فالإيمان الغيبي يصير عينا؛ فيكتب الله تعالى الإيمان بنور غيب الغيب في قلبه، كما قال تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22]، فيتنور ذلك القلب لإيمان، ويتأيد ذلك الروح ويشاهد أنوار الفضل الإلهي فيشتاق شوق موسى بقوله لأهله:
امكثوا
[طه: 10]، وهو الروح والجسم
إني آنست نارا
[طه: 10]، فيرتقي عن عالم الأرواح ويقول:
لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلمآ أتاها نودي
[طه: 10-11]، من شاطئ وادي الإيمان، وهو حضائر القدس في البقعة المباركة، وهي القلب من الشجرة، وهي السر
أن يموسى
[القصص: 30]، وهو المحب المشتاق
إني أنا الله رب العالمين
[القصص: 30]، الذي خلقت العالمين وربيت خواص عبادي بألبان المحبة عن ثدي
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]؛ " أنا المحبوب؛ فأين أنت يا محب؟! أنا المطلوب؛ فأين أنت يا طالب؟! ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا أشد شوقا إلى لقاءهم ".
فلما دارت كؤوس الملاطفات، وأقداح المكاشفات بين المحب والمحبوب جعل يتساكر المحب ويتخامر مع المحبوب بلسان الانبساط على بساط القرب يقول:
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]، ليصير الإيمان عيانا والغيب عينا، نودي من سرادقات العزة: ما هذه العزة! ألم تعلم بأنه عالم الغيب وغيب الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا، فإنك مع أحديتك لن تطيق شهود أحديتي، وإن أتجلى فإنك
لن تراني
[الأعراف: 143]، وإن لم تؤمن بأن مع تجلي أنانيتي لا يستقر أنانيته شيء
ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني
[الأعراف: 143]، مع استقرار جبل أنانيتك على مكان وجودك
فلما تجلى ربه للجبل جعله
[الأعراف: 143]، للجبل
جعله
[الأعراف: 143]، جبل أنانيته
دكا وخر موسى
[الأعراف: 143]، نفس المحب عن الوجود
صعقا فلمآ أفاق
[الأعراف: 143]، عن سكر شراب وجود الأنانية شاهد تحقيق قوله
لن تراني
[الأعراف: 143]، مع حجاب وجود الأنانية، فتاب عن ذنب الأنانية إليه، وآمن إيمان المرتبة الثانية الذي هو هويته، وقال:
تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف: 143]، بأن هويتك غيب، لا يعلم الغيب إلا الله، فالإيمان بهذا الغيب يكون بقدر غيبوبة الأنانية بشهود غيب الغيب، وكلما ازداد غيبوبته ازداد إيمانه، والغيبة لا تحصل إلا بجذبات شواهد الغيب، وهي مودعة في إدامة إقامة الصلاة؛ فلهذا قال عقيب الذين يؤمنون بالغيب قوله: { ويقيمون الصلوة } [البقرة: 3]، والغيب ما لا تدركه الحواس الخمس الظاهرة وتدركه الحواس الخمس الباطنة، وهي: العقل والقلب والروح والسر والخفي يدل عليه قوله تعالى:
علم الغيب والشهدة
[الأنعام: 73]، فالشهادة ما تدركه الحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والذوق والشم واللمس، وما تدركه الحواس الباطنة فهو غيب، وهي الأمور الأخروية { ويقيمون الصلوة } [البقرة: 3]، أي: يديمونها.
قال الشيخ: بداية الصلاة إقامة ثم إدامة؛ فإقامتها المحافظة عليها بمواقيتها، وإتمام ركوعها وسجودها وحدودها وحقوقها ظاهرا وباطنا، وكل شيء واظب على شيء وقام به فهو مقيم، يقال: أقام فلان حج الناس، وأقام القوم سيوفهم إذا استعملوها ولم يعطلوها، وإدامتها بدوام المراقبة وجميع التهمة في التعرض لنفحات ألطاف الربوبية التي هي مودعة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها "
، وصورة التعرض والأمر بها صورة جذبة الحق بأن يجذب صورتك عن الاستعمال بغير العبودية، وسر الصلاة حقيقة التعرض، ففي كل شرط من شروط صورتها، وركن من أركانها، وسنة من سننها، وأدب من آدابها، وهيئة من هيئاتها سر يشير إلى حقيقة تعرض لها فمن شرائطها:
الوضوء: ففي كل أدب وسنة وفرض منها سر يشير إلى طهارة يستعد بها لإقامة الصلاة.
ففي غسل اليدين: إشارة إلى تطهير نفسك عن تلوث المعاصي، وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية، كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
وثيابك فطهر
[المدثر: 4]، جاء في التفسير أي: قلبك فطهر.
وغسل الوجه: إشارة إلى نضارة وجه همتك عن دنس حب الدنيا، فإنه رأس كل خطيئة وسنبين تمامه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة، وفيه إشارة إلى الإعراض عما سوى طلب الحق والتوجه إلى حضرة الربوبية لطلب القربة والمناجاة.
ورفع اليدين: إشارة إلى رفع يد الهمة عن الدنيا والآخرة، والتكبير لتعظيم الحق بأنه أعظم من كل شيء في قلب العبد طلبا ومحبة وعظما وعزة.
ومقارنة النية مع التكبير: إشارة إلى أن صدق النية في الطلب ينبغي أن يكون مقرونا بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا يطلب منه إلا هو، فإن طلب منه غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب إلا الله تعالى، فلا تجوز صلاته الحقيقية كما لا تجوز صلاة الصورة إلا بتكبير الله، فإن الدنيا أكبر والعقبى أكبر، فلا تجوز حتى يقول الله أكبر، وكذلك في الحقيقة.
وفي موضع اليمنى على اليسرى، ووضعهما على الصدر: إشارة إلى إقامة رسم العبودية بين يدي مالكه، وحفظ القلب عن محبة ما سواه.
وفي افتتاح القراءة بوجهه إشارة إلى توجيهه للحق خالصا عن شرك طلب غير الحق.
وفي وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها إشارة إلى حقيقة تعرض العبد في الطلب لنفحات ألطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين، وطلب الهداية، وهي جذبة الإلهية التي توازي جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقومة بين العبد والرب نصفين.
والقيام والركوع والسجود: إشارة إلى رجوعه إلى عالم الأرواح، ولكن الغيب كما جاء منه فأول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم الحيوانية ثم بالإنسانية؛ فالقيام من خصائص الإنسان والركوع من خصائص الحيوان، والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى:
والنجم والشجر يسجدان
[الرحمن: 6]، وللعبد في كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران، والحكمة في تعلق الروح العلوي النوراني بالجسد السفلي الظلماني كان هذا الربح؛ لقوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:
" خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم "
لتربح الروح في كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد في مراتب العلو، وإن كان قد ابتلي أولا ببلاء الخسران كما قال تعالى:
والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر: 1-3]، فبنور الإيمان، وعمل صالح الصلاة يتخلص خسران التكبر والتجبر الإنساني الذي من خاصيته إن تكامل في الإنسان يظهر منه
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24]، ويفوز بربح علو الهمة الإنسانية التي إذ أكملت في الإنسان لا يلتفت إلى كون في طلب المكون كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم:
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 16-18]، فإذا تخلص من تكبر الإنسان يرجع من القيام الإنساني إلى الركوع الحيواني للانكسار والخضوع؛ فالركوع يتخلص من خسران حالة الصفة الحيوانية، ويفوز بربح ليس الحادث، وتحمل الأذى والختم، ثم يرجع من الركوع الحيواني إلى السجود النباتي فبالسجود ويتخلص من خسران الذلة النباتية، والدناءات السفلية، ويفوز بربح الخشوع الذي يتضمن الفلاح الأبدي والفوز العظيم السرمدي.
كما قال تعالى:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون
[المؤمنون: 1-2]، فالخشوع أكمل آلة للروح في العبودية قد حصل في تعلقه بالجسد الترابي ليس لأحد من العالمين هذا الخشوع، وبهذا السر أبين الملائكة وغيرهم أن يحمل الأمانة وأشفقن منها وحملها الإنسان باستعداد الخشوع، وكمل خشوعه بالسجود؛ إذ هو غاية التذلل في صورة الإنسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلي وعروجه إلى العالم الروحاني العلوي برجوعه من مراتب الإنسانية الحيوانية والنباتية، وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وإنفاق الموجود في أنانية الوجود الذي هو من شرط المصلين؛ كقوله تعالى: { ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون } [البقرة: 3]، أي: من أوصاف الوجود ينفقون يبذلون للحق النصف المقسوم بين العبد والرب، فإذا بلغ السيل زباه والتعرض منتهاه أدركته العناية الأزلية بنفحات ألطافه، وهداه إلى درجات قرباته، فكما كانت جذبة الحق سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة خطاب؛ إذن فجذبة الحق للمؤمن تكون في صورة خطاب:
واسجد واقترب
[العلق: 19]، ففي التشهد بعد السجود إشارة إلى الخلاص من حجب الأنانية والوصول إلى شهود جمال الحق بجذبات الربانية؛ ثم بالتحيات مراتب رسول العباد في الرجوع إلى حضرة الملوك بمراسم تحفة الحق الثناء، والتحنن إلى اللقاء.
وفي التسليم عن اليمين والشمال إشارة إلى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين إلى النعيم الجنان، وعن الشمال إلى الشهوات واللذات، وهو مقام المناجاة والدرجات والقربات مستغرقا في بحر الكرامات مقيدا بقيد الجذبات؛ كما قال تعالى:
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
[الفرقان: 63]، فأهل الصورة بالسلام يخرجون من إقامة الصلاة، وأهل الحقيقة بالسلام يدخلون في إدامة الصلاة؛ لقوله تعالى:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج: 23]، فقوم يقيمون الصلاة، ويحافظون عليها، وقوم يديمون الصلاة والصلاة تحفظهم؛ كما قال تعالى:
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45]، فهم { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون } [البقرة: 3]، يؤمنون بما لهم في الغيب معد لقوله تعالى:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
فعلموا إنما هو المعد لهم لا تدركه الأبصار ولا الآذان ولا القلوب التي رزقهم الله تعالى، وليس بينهم وبين ما هو المعد لهم حجاب إلا وجودهم وأوصاف وجودهم، فاشتاقوا إلى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم، فأنسوا من جانب طور صلواتهم نارا؛ لأن صلواتهم بمثابة الطور للمناجاة والصلاة؛ قيل: اشتقاقها من الصلاة، وهي النار قاله الخراز، وفي قوله تعالى:
فلما جآءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين
[النمل: 8]، فجعلوا ما رزقهم الله تعالى من أوقاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقون عليها، ويقيمون الصلاة حتى تؤدوا حق أنتم، وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردا، ومن لم يكن نارا أتحرق على نار جهنم الصلاة حطب وجوده، ووجود كل من يعبد من دون الله؛ فلا بد له من الحرقة بنار جهنم الآخرة، والفرق بين النارين: أن نار الصلاة: تحرق لب وجودهم الذي به محجوبون عن الله تعالى، وتبقي وجوههم وهو الصلاة، والحجاب من لب الوجود لا من جلده، وهذا شر عظيم لا يطلع عليه إلا أولو الألباب المحرقة، ونار جهنم: تحرق جلود وجود وجوههم، وتبقي لب وجودهم لا جرم ولا رفع الحجب عنهم
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين: 15]؛ لأن اللب باق والجلد وإن احترق بنية اللب كما قاله تعالى:
كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها
[النساء: 56]، فمن أتقن لب الوجود، وما بينا منه لب الوجود من المال والجاه في سبيل نار الصلاة والقربة إلى الله تعالى ينفق الله عليه، وجود نار الصلاة كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
" أنفق أنفق عليك "
فبقي بنار الصلاة بلا أنانية الموجود فتكون صلاته دائمة بفوز نار الصلاة يؤمن بما أنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{ والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } [البقرة: 4] أي: لما كشف عن المؤمنين حجب أنانية الوجود ونظروا بنور نار الصلاة أبصروا ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي صورة، وما ابتلي حقيقة، وهو (أوحى إلى عبد ما أوحى)؛ فعرفوا حقيقته فآمنوا به وبما أنزل على الأنبياء قبله كما قاله تعالى في حق قوم:
سمعوا مآ أنزل إلى الرسول
[المائدة: 83]، فبنور العناية عرفوا الحقيقة فآمنوا به
وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
[المائدة: 83]، ومن تخلص عن ذل الحجب يجد عزة الإيقان بالأمور الأخروية، وكان مؤمنا بها من وراء حجاب صار موقنا بها بعد رفع الحجاب؛ كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا "؛ لأنه قد كشف عنه الغطاء الوجودي فلا يحجب غطاء المحسوسات الدنيوية عن أمور الأخروية، فبكشف الحجب يتخلصون عن مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإيقان، كما قال تعالى: { وبالآخرة هم يوقنون } [البقرة: 4]، ولكن هذا خاص أن يوقنوا بالآخرة دون ما أنزل على الأنبياء من الكتب، فإنهم لا يتخلصون عن مرتبة الإيمان بالله، وكتبه أبدا، وهذا سر عظيم، وما رأيت أحدا فرق بين هاتين المرتبتين؛ وذلك لأنه يمكن للإنسان أن يشاهد الأمور الأخروية كلها إما بطريق الكشف في الدنيا، وإما بطريق المشاهدة في الدنيا، وإما بطريق المشاهدة في العقبى؛ فيصير موقنا بها بعد ما كان مؤمنا كما قال تعالى:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق: 22].
فأما ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ولا يمكن لأحد أن يشاهده بالكلية؛ لأنه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدات، وإن فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين؛ بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا عن مرتبة الإيمان بما شاهدوا بعد،
ولا يحيطون به علما
[طه: 110] إلى الآباء،
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255].
{ أولئك على هدى من ربهم } [البقرة: 5]، ذكر هدى بالنكرة أي: على كشف من كشوف ربهم ونور من أنواره، وسر من أسراره، ولطف من ألطافه، وحقيقة من حقائقه؛ فإن جميع ما أنعم الله به على أنبيائه وأوليائه بالنسبة إلى ما عنده من كمال ذاته وصفاته وإنعامه وإحسانه؛ فقطرة من بحر محيط لا يعتريه القصور من الانفاق أبدا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يمين الله ملأى لا تغيظها نفقة، سحاء الليل والنهار "
وفيه إشارة لطيفة وهي: بذلك الهدى آمنوا { بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } [البقرة: 4]، { وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 5]، يعني الذين يخلصون عن حجب الوجود بنور نار الصلاة، وشاهدوا بالآخرة وجذبتهم العناية بالهداية إلى مقامات القربة، وسرادقات العزة فما نزلوا بمنزل دون لقائه، وما حطوا رحالهم إلا بعنايته، فازوا بالسعادة العظمى والمملكة الكبرى، ونالوا الدرجة العليا وحققوا قول الحق
إن إلى ربك الرجعى
[العلق: 8].
[2.6-10]
{ إن الذين كفروا } [البقرة: 6]، أي: حجروا ربوبيتي بعد إقرارهم في عهد
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، بإجابة { بلى } ستروا صفاء قلوبهم برين ما كسبوا من أعمالهم الطبيعية النفسانية، وأفسدوا حسن استعدادهم من فطرة الله التي فطر الناس عليها باكتساب الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية، كما قال تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14]، وذلك أن أرواحهم النفيسة لما نظروا بروزنة الحواس الخمس إلى عالم الصورة الحسية حجبت عن مألوفاتها ومجارياتها، ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها، ولهذا سمي الإنسان إنسانا؛ لأنه أنيس، فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيس خسيسا، فاستحسن ما استحسنته النفس واستلذ بما استلذت به النفس، واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطعت عنه الأغذية الروحانية ونسي حضائر القدس وجوار الحق ورياض الأنس، ولهذا سمي الناس ناسا لأنهم نسوا فتاهوا في أودية الخسران فاستهواهم الشيطان في الأرض حيران، ولما نسوا الله بالكفر فنسيهم بالخذلان حتى غلب عليهم الهوى، وواقعهم في مهالك الردى، فأصبحوا بنفوس أصبى وقلوب مولى.
{ سوآء عليهم ءأنذرتهم } [البقرة: 6]، بالوعد والوعيد وخوفهم بالعذاب الشديد { أم لم تنذرهم } [البقرة: 6]، لم تحذرهم { لا يؤمنون } [البقرة: 6]، بما أخبرتم ودعوتهم إليه وأنذرتهم عليه؛ لأن روزنة قلوبهم إلى عالم الغيب منسدة بغشاوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مغفولة عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى:
أم على قلوب أقفالهآ
[محمد: 24] فما تشموا روائح الإنس من رياض القدس، بل هبت عليهم ريح ضرر الشقاوة من جهة حكم السابقة، وأدركهم بالختم على أقفالها كما قال تعالى: { ختم الله على قلوبهم } [البقرة: 7]، في الختم إشارة إلى بداية سوابق أحكام القدر بالسعادة والشقاوة على وفق الحكمة والإرادة الأزلية للخليقة، كما قال تعالى:
فمنهم شقي وسعيد
[هود: 105]، مع حسن استعداد جميعهم بقبول الإيمان والكفر، ولهذا لما خاطب الحق ذراتهم بخطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، قالوا: { بلى } جميعا، ثم أودع الله الذرات في القلوب والقلوب في الأجساد، والأجساد في الدنيا في ظلمات ثلاث، وكانت روزنة القلوب كلها مفتوحة إلى عالم الغيب بواسطة الذرات المودعات التي سمعت خطاب الحق، وشاهدت كمال الحق إلى وقت ولادة كل إنسان كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "
وفيه إشارة إلى أن الله يكل الأشقياء إلى تربية الوالدين في معنى الدين حتى يلقونهم تقليد ما ألفوا عليهم آباءهم من الضلالة فيضلوهم، كما قال تعالى:
أنتم وآبآؤكم في ضلال مبين
[الأنبياء: 54]، فكانت تلك الشقاوة المقدرة مضمرة في ضلالة التقليد والصفات النفسانية الظلمانية والهوى والطبيعة، ثم جعل تأثيرها وظلمتها ورينها يندرج إلى القلوب؛ فيقسيها ويسودها ويغطيها، ويسد روزنتها إلى الذرات فيعميها ويصمها حتى لا يبصر أهل الشقاوة ببصر الذرات من الحق ما كانوا يبصرون ولا يسمعون بسمع الذرات من الحق ما كانوا يسمعون، فينكرون على الأنبياء ويكفرون بهم وبما يدعونهم إليه، فيختم الله شقاوتهم بكفرهم هذا ويطبع به على قلوبهم، كقوله تعالى
بل طبع الله عليها بكفرهم
[النساء: 155]، فسر القدر مستور لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيظهر آثار السعادة بإقرار السعداء ويظهر آثار الشقاوة بإنكار الأشقياء وكفرهم من القدر، كالبذر في الأرض مستور فتظهر الشجرة منه وهو في الشجرة مستور، فيخرج مع الأغصان من الشجرة وهو في الأغصان مستور، حتى يخرج مع الثمرة من الأغصان وهو في الثمرة مستور، حتى يظهر من الثمرة فيختم ظهور البذر بالثمرة فكذلك سر القدر، وهو بذر السعادة أو الشقاوة مستور في علم الله تعالى، فتظهر شجرة وجود الإنسان منه والسعادة والشقاوة مستورة فيها فتخرج مع أغصان الأخلاق وهي مستورة فيها، فتخرج مع ثمرة الأعمال وهي الإقرار والإنكار والإيمان والكفر، فيختم ظهور سر القدر وهو السعادة أو الشقاوة بثمرة الإيمان أو الكفر، فيظهر سر القدر عند الختم بالسعادة أو الشقاوة، فالذين { ختم الله على قلوبهم } إنما ختم بخاتم كفرهم.
وإن كان نقش خاتمهم هو الأحكام الأزلية وسر القدر حتى حرموا من دولة الوصال وبه ختم { وعلى سمعهم } [البقرة: 7] حتى لم يسمعوا خطاب الملك ذي الجلال { وعلى أبصرهم غشاوة } [البقرة: 7]، من العمى والضلال، فلم يشاهدوا ذلك الجمال والكمال فلهم حرمان مقيم { ولهم عذاب عظيم } [البقرة: 7]، لأنهم منعوا من مرادهم وهو العلي العظيم، فعظم العذاب يكون على قدر عظمة المراد الممنوع منه.
ثم بعد ذكر المؤمنين وأحوالهم والكافرين وأفعالهم ذكر المنافقين وأقوالهم وأعمالهم وخصالهم بقوله: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } [البقرة: 8]، والناس هم الذين نسوا الله ومعاهدته يوم الميثاق فمنهم من يقول آمنا بالله بلسانه
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
[آل عمران: 167]، فإن الإيمان الحقيقي ما يكون من نور الله الذي يقذفه الله في قلوب خواصه، وقوله تعالى: { وباليوم الآخر } [البقرة: 8] أي: بنور الله يشاهد الآخرة فيؤمن به، فمن لم ينظر بنور الله لا يكون مشاهد العالم الغيب، فلا يكون مؤمنا بالله وباليوم الآخر.
ولهذا قال: { وما هم بمؤمنين } [البقرة: 8] أي: بالذي يؤمنون من نور الله تعالى. وفيه معنى آخر: وما هم بمستعدين للهداية إلى الإيمان الحقيقي؛ لأنهم من غاية الغلالة والخذلان { يخادعون الله والذين آمنوا } [البقرة: 9] أي: يمكرون بالله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر لينالوا من الله والمؤمنين منافع الإيمان من الأمان عن القتل والنهب والأسر وغير ذلك من تظلم مصالح الدنيا، والإشارة في تحقيق الآية أن الله تعالى لما قدر لبعض الناس الشقاوة في الأزل ثمر بذر سر القدر المستور في أعمال ثمرة مخادعة الله في الظاهر ولا يشعر أن مخادعته نتيجة بذر سر القدر بطريق تزيين الدنيا في نظره وحب شهواتها في قلبه كما قال تعالى:
زين للناس حب الشهوات
[آل عمران: 14]، فالخدع بزينة الدنيا وطلب شهواتها عن الله تعالى وطلب السعادة الأخروية فعلى الحقيقة هو المخادع الممكور.
كما قال تعالى:
يخادعون الله وهو خادعهم
[النساء: 142]، فعلى هذا: { وما يخدعون إلا أنفسهم } [البقرة: 9]، حقيقة في صورة مخادعتهم الله والذين آمنوا؛ لأنهم كانوا قبل مخادعتهم الله مستوجبين النار بكفرهم مع إمكان ظهور الإيمان عنهم، فلما شرعوا في إظهار النفاق بطريق المخادعة نزلوا بقدم النفاق الدرك الأسفل من النار وبطلوا استعداد قبول الإيمان وإمكانه عن أنفسهم، فكانت مفسدة خداعهم ومكرهم راجعة إلى أنفسهم { وما يشعرون } [البقرة: 9] أي: ليس لهم الشعور بسر القدر الأزلي، وأن معاملتهم في المكر والخداع من نتائجه؛ لأن { في قلوبهم مرض } [البقرة: 10]، ومرض القلب مانعهم من شعور سر القدر، والإشارة في تحقيق الآية أن سر مرض قلوبهم إنما كان من بذر تقدير شقاوتهم في الأزل، فأنبت شجرة الشك والنفاق في قلوبهم بماء حب الدنيا، فأحبهم وأعمى أبصارهم حتى لم يبق لقلوبهم الشعور بالآفات، ولو كانت قلوبهم سالمة من هذه العاهة والمرض لعلموا أن مفسدة نفاقهم ومخادعتهم راجعة إليهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يظهر نفاقهم وبه يفضحهم عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى يوم القيامة، ويزيد شؤم نفاقهم في مرض قلوبهم، كما قال تعالى: { فزادهم الله مرضا } [البقرة: 10]، وأما في الآخرة فلا ينفعهم المال والبنون وما يمكر بهم في الدنيا بسبب نفاقهم الذي يزيد في مرض قلوبهم، وإنما تكون منفعتهم هناك في القلب السليم لا في المال السليم، كما قال تعالى:
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء: 88-89]، فللمنافق لما أفسد بالنفاق على نفسه سلامة قلبه لسلامة ماله وأهله لا ينفعه أهله وماله، ولكن يزيد نفاقه وكذبه في ألم عذابه، كما قال تعالى: { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } [البقرة: 10]، ففيها وفي قراءة من قرأ: { كانوا يكذبون } دلالة على أن لكذبهم ونفاقهم عذابا ولتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم عذابا آخر، فيكون ألم عذابهم بالنسبة إلى الكفار ضعفين، نظيره قوله تعالى:
وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا
[الأحزاب: 67]، أنهم ضعفين من العذاب يعني عذاب الضلالة والإضلال فاختصاص المنافقين بالدرك الأسفل من النار لهذا المعنى، فإنهم مع الكفار مشتركون في دركات النار، وهم مختصون بالدرك الأسفل بمزيد نفاقهم على الكفر، والله أعلم.
وفي الآيات الثلاث إشارات ودلالات أخر؛ وهي قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [البقرة: 8]، إشارة إلى أهل الغفلة والنسيان من المسلمين يظنون أنهم مؤمنون حقا وإنما هم مؤمنون باللسان والتقليد، وهم يحسبون أنهم آمنوا بالتحقيق، فما هم بمؤمنين حقيقة بل هم مسلمون، كما قال تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات: 14]، والإيمان الحقيقي نور إذا دخل القلب، فيظهر على المؤمن حقيقة، كما كان لحارثة لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كيف أصحبت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا قال: يا حارثة إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهارها وأسهرت ليلها واستوت عندي حجرها وذهبها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتضاغون، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم ".
{ يخادعون الله } [البقرة: 9] أي: بأعمالهم ويطلبون منافع الدنيا والآخرة ولا يطلبونه { وما يخدعون إلا أنفسهم } [البقرة: 9]، بغير الله عن الله { وما يشعرون } [البقرة: 9]، وليس لهم شعور بهذا الخداع والحرمان عن الله بغير الله
في قلوبهم مرض
[المائدة: 52]، الالتفات إلى غير الله، ولو كانت قلوبهم سليمة من هذه العلة والمرض لشاهدوا جمال الحق فأحبوه حبا شديدا، ولم تبق محبة غير الله في قلوبهم، كما قال تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة: 165].
{ فزادهم الله مرضا } [البقرة: 10] أي: فزاد مرض الالتفات على مرض خداعهم فحرموا عن الوصول والوصول { ولهم عذاب أليم } [البقرة: 10]، من حرمان الوصول إلى الله تعالى بما كانوا يكذبون، إنا أمنا بالله.
[2.11-17]
ثم ذكر من خصال هؤلاء الممكورين ما يدل على أنهم من المغرورين بقول تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } [البقرة: 11]، إلى { لا يعلمون } [البقرة: 13] والإشارة في تحقيق الآيتين أن الإنسان - وإن خلق مستعدا لخلافة الأرض -، ولكنه في بداية الخلقة معلول الهوى والصفات النفسانية فيكون مائلا إلى الفساد.
كما أخبرت عنه الملائكة:
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30]، فبأوامر الشريعة ونواهيها تخلص جوهر الخلافة عن معدن نفس الإنسان، فأهل السعادة وهم المؤمنون ينقادون للداعي إلى الحق، ويقبلون الأوامر والنواهي، وأهل الشقاوة وهم الكافرون والمنافقون يمرقون من الدين ويتبعون الهوى، { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } أي: لا تسعوا في إفساد حسن استعدادكم وصلاحيتكم للخلافة في الأرض باتباعكم الهوى وحرصكم على الدنيا { قالوا إنما نحن مصلحون } [البقرة: 11]، لا يقبلون النصيحة ويدعون الصلاحية غافلين عن حقيقتها، فكذبهم الله تعالى بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون } [البقرة: 12]، يفسدون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم { ولكن لا يشعرون } [البقرة: 12]، لهم بإفساد حالهم وسوء أعمالهم وعظم وبالهم من خسارة حسن صنيعهم وادعائهم الصلاح على أنفسهم، كما قال تعالى:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا
[الكهف: 103].
{ وإذا قيل لهم آمنوا } [البقرة: 13] أي: أهل الغفلة والنسيان { كمآ آمن الناس } [البقرة: 13] أي: بعض الناسين منكم الذين تفكروا في آلاء الله وتدبروا بعد عهد:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، ومعاهده على التوحيد والعبودية، فتذكروا تلك العهود والمواثيق، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به { قالوا } [البقرة: 13]، أهل الشقاوة منهم { أنؤمن كمآ آمن السفهآء } [البقرة: 13]، فكذلك أحوال أصحاب الغفلات تدعي الإسلام إذا دعوا من الإيمان التقليدي الذي وجدوه بالميراث إلى الإيمان الحقيقي بصدق الطلب، وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع عن الخلق والتمادي في الباطل، ينسبون أرباب العلويات وأصحاب المقامات العالية إلى السفه والجنون، وينظرون إليهم بنظر العجز والذلة والمسكنة، ويقولون نترك الدنيا كما تركوه هؤلاء السفهاء من الفقراء لنكون محتاجين إلى الخلق كما هم محتاجون، ولا يعلمون أنهم هم السفهاء؛ لقوله تعالى: { ألا إنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون } [البقرة: 13]، فهم السفهاء لمعنيين أحدهما: أنهم يبيعون الدين بالدنيا والباقي بالفاني لسفههم وعدم رشدهم.
والثاني: أنهم سفهوا أنفسهم ولم يعرفوا حسن استعدادهم للدرجات العلى والقربة والزلفى، فرضوا بالحياة الدنيا ورغبوا عن مراتب أهل الفناء ومشارب أولي النهى، كما قال تعالى:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
[البقرة: 130]، فإن " من عرف نفسه فقد عرف ربه " ومن عرف ربه ترك غيره وعرف أهل الله وخاصته فلا يرغب عنهم، ولا يسبهم إلى السفه وينظر إليهم بالعزة، فإن الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الأطمار، ووجوههم المسفرة عند الله كالشموس والأقمار، ولكن تحت قباب الغيرة مستورون، عن نظر الأغيار محجوبون.
وذكر المنافقون وأهل الغفلة بخصال أردأ من الأولى بقوله: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا } [البقرة: 14]، إلى { يعمهون } [البقرة: 15] والإشارة في تحقيق الآيتين أن المنافقين لما أرادوا أن يجمعوا بين غيرة الكفار وصحبة المسلمين، وأن يجمعوا بين مفاسد الكفر ومصالح الإيمان، وكان الجمع بين الضدين غير جائز، فبقوا بين الباب والدار
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
[النساء: 143]، وكذلك حال المتمنين الذين يدعون الإرادة ولا يخرجون عن العادة، ويريدون الجمع بين مقاصد الدارين ويتمنون أعلى مراتب الدين، ويرتعون في أسفل مراتب الدنيا، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وإذا أقبل الليل من حيث أدبر النهار من هنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ليس الدين بالتمني "
وقال:
" بعثت لرفع العادات ودفع الشهوات ".
وقد قيل: الدنيا والآخرة امرأتان ضرتان، فمن يطلب الجمع بينهما فممكور، ومن يدعي الجمع بينهما فمغرور، ومن كان له في كل ناحية خليط ومن كل زاوية من قلمه ربيط كان نهبا لأطوار يتقاوم قوم وينزل في قلبه كل فقه فقلبه أبدا خراب لا يهنأ له عيش دلالة في التحقيق. وليس من رام مع متابعة الهوى البلوغ إلى الدرجات العلى فهو كالمستهزئ بطريق هذا الفريق، وكم في هذا البحر من أمثاله غريق، فظاهر الأمر يقتضي أنهم { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون } [البقرة: 14]، ولكن حقيقة الأمر تدل على أن: { الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [البقرة: 15]، لأن دواعي استهزائهم بأهل الدين وازدرائهم بأرباب اليقين من نتائج الخذلان، فإن الله يكلهم إلى أنفسهم فتأمرهم النفس الأمارة للاستهزاء وتحملهم على الازدراء فلو لم نجد لهم الحق وأدركتهم الرحمة لما أمرتهم بسوء الاستهزاء والازدراء، كما قال:
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53] ومن الخذلان { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [البقرة: 15]، أي يمهلهم في طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوزوا في طلبها حد الاحتياج إليها ويفتح أبواب المقاصد الدنيوية عليهم يستغنوا بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانهم.
كما قال تعالى:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7]، فكانت جزاء سيئة ترددهم في الدين وثوابهم في طلب الاستهزاء وجزاء سيئة الاستهزاء الخذلان والإمهال إلى أن طغوا وجزاء سيئة الطغيان العمى ، فيترددون في الضلالة متحيرين لا سبيل لهم إلى الخروج إلى الحق وجزاء سيئة العمى قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } [البقرة: 16].
والإشارة في تحقيق الآية أن من نتيجة طغيانهم وعمههم أن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأشربوا في قلوبهم الضلالة واستودعت عن حسن استعدادهم الفطري القابل للضلالة والهداية حتى يطلب قابليته الهداية وبدلت بالضلالة، ولما كان لهم هذا الحال من نتيجة معاملتهم أضاف الفعل إليهم وقال: { ولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } [البقرة: 16].
وإنما قال بلفظ الاشتراء لأنهم خربوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع إليه، وتمسكوا بالضلال تمسك الملاك فلا يمكنهم الرجوع إلى الهدى ولا يكون لهم دواء غير الرجوع؛ إذ هم اختاروا الضلالة على الهدى { فما ربحت تجارتهم } [البقرة: 16]، لأن خسران من رضي بالدنيا ظاهر، ومن آثر الدنيا والعقبى على الله المولى فهو أشد خسرانا وأعظم حرمانا، فإذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحنا بنار الجحيم والعذاب الأليم فما نملك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت عنه الأوقات وبقي في أسر الشهوات، لا إلى قلبه رسول ولا لروحه وصول لا من الحبيب إليه وقود ولا لسره معه شهود، فهذا هو المصاب الحقيقي إذا فاته مولاه الذي فاته بفواته سواه فإن لكل شيء بدل والله لا بدل له قال بعضهم: كنت السواد لناظري فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر فجزاء اشترائهم الضلالة بالهدى إعواز ربح السعادة والفوز بالنعيم المقيم، وخسران بيع الهدى بوجدان العذاب الأليم؛ بل لفقدان الاهتداء على الصراط المستقيم إلى الله العلي العظيم الكريم الرحيم.
كما قال: { وما كانوا مهتدين } [البقرة: 16]، لإبطالهم حسن استعداد قبول الهداية فالمثل كما قال تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } [البقرة: 17]، والإشارة في تحقيق الآية أنه مثل المريد الذي له بداية جميلة ليسلك طريق الإرادة مدة وتبعني بمقاساة شدائد الصحبة برهة حتى تنور بنور الهداية فاستوقد نار الطلب، { أضآءت ما حوله } [البقرة: 17]، فرأى أسباب السعادة والشقاوة فتمسك بحبل الصحبة فلازم الخدمة والخلوة، وعزفت نفسه عن الدنيا وأقبل على قمع الهوى، فشرقت له من صفاء القلب شوارق الشوق، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق، فأمن مكر الله وانخدع بخداع النفس فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس، ثم رجع القهقرى إلى ما كان من حضيض الدنيا، فغابت شمسه وأظلمت نفسه، وانقطع حبل وصاله قبل وصوله وأخرج من جنة نواله بعد دخوله فبقدمي سأمه وملاله عاد إلى أسوأ حاله.
كما قال تعالى:
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
[الزمر: 47] وكما قيل:
حين قر الهوى وقلنا سررنا
وحسبنا من الفراق أمنا
بعث البين رسل في خفاء
فأبادوا من شملنا ما جمعنا
[2.18-22]
فحاصل أحوالهم بعد انقطاع حبالهم قوله تعالى: { صم } [البقرة: 18]، يعني بأذن قلوبهم التي سمعوا بها خطاب الله تعالى يوم الميثاق، { بكم } [البقرة: 18]، بتلك الألسنة التي أجابوا ربهم بقولهم بلى، { عمي } [البقرة: 18]، بالأبصار التي شاهدوا جمال ربوبيته فعرفوه { فهم لا يرجعون } [البقرة: 18]، إلى منازل حضائر القدس؛ بل إلى ما كانوا فيه من رياض الأنس، وذلك لأنهم سدوا روزنة قلوبهم التي كانت مفتوحة إلى عالم الغيب يوم الميثاق بتتبع الشهوات واستيفاء اللذات والخدعة والنفاق، فما هبت عليهم من جانب القدس الرياح وما تنسموا نفحات الأرواح، فمرضت قلوبهم ثم أرسل إليهم الطبيب الذي أنزل الداء وأنزل معه الدواء، كما قال تعالى:
وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين
[الإسراء: 82]، الذين يصدقون الأطباء ويقبلون الدواء، فلم يصدقوهم ولم يقبلوا ظلما على أنفسهم فصار الدواء داء والشفاء وباء، كما قال تعالى:
ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
[الإسراء: 82]، فلما لم يكونوا أهل الرحمة وأدركتهم اللعنة الموجبة للصمم والعمى بقوله تعالى:
أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم
[محمد: 23].
ثم ضرب لهم مثلا آخر بقوله تعالى: { أو كصيب من السمآء } [البقرة: 19]، الآيتين والإشارة في تحقيق الآيتين أن الله تعالى نسبه في حال متمني هذا الحديث واشتغالهم بالذكر وتتبع القرآن في البداية وتجددهم في الطلب ما يفتح لهم من الغيب إلى أن تظهر النفس الملائكية وتقع في آفة الفترة والوقفة بمن يكون في المفازة سائرا في ظلمة الليل والمطر، وشبه الذكر، والقرآن بالمطر؛ لأنه ينبت الإيمان والحكمة في القلب كما ينبت الماء البقلة، { فيه ظلمت } [البقرة: 19]، أي: مشكلات ومتشابهات وشبهات تظهر للسالك الذاكر في أنحاء السلوك ومعان دقيقة لا يمكن حلها وفهمها والخروج عن عهدة آفاتها إلا لمن كان له عقل منور بنور الإيمان مؤيد بتأييد الرحمن كما قال تعالى:
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2].
فكما أن السير لا يمكن في الظلمات إلا بنور السراج كذلك لا يمكن السير في حقائق القرآن ودقائقه ولا في ظلمات البشرية إلا بنور الهداية الربوبية، ولهذا قال تعالى: { أضآء لهم مشوا فيه } [البقرة: 20]، يعني: نور الهداية { وإذآ أظلم عليهم قاموا } [البقرة: 20] يعني: ظلمة البشرية. قوله تعالى: { ورعد } [البقرة: 19]، خوف وخشية ورهبة تتطرق إلى القلوب من هيبة جلال الذكر والقرآن كما قال تعالى:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله
[الحشر: 21].
{ وبرق } [البقرة: 19]، وهو تلألؤ أنوار الذكر والقرآن تهتدي إلى القلوب فتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتظهر، فسببها حقيقة القرآن والدين فتعرفها القلوب بقوله تعالى:
وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول
[المائدة: 83]، ولما لاحت لهم أنوار السعادة خرجوا من ظلمات الطبيعة وتمسكوا بحبل الإرادة لينالوا درجات الفائزين ولكن { يجعلون أصبعهم } [البقرة: 19]، الفاسدة وأمانيهم الباطلة، { في آذانهم } [البقرة: 19]، الواعية { من الصوعق } [البقرة: 19]، دواعي الحق { حذر } [البقرة: 19]، من { الموت } [البقرة: 19]، موت النفس لأن النفس سمكة حياته بحر الدنيا وماء الهوى لو أخرجت لماتت في الحال، وهذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم:
" موتوا قبل أن تموتوا ".
{ والله محيط بالكفرين } [البقرة: 19]، فيه إشارة إلى أن الكافر الذي له حياة طبيعة حيوانية لو مات بالإرادة عن مألوفات الطبيعة لكان أحياه الله بأنوار الشريعة كما قال تعالى
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122].
فلما لم يمت بالإرادة { والله محيط بالكفرين } [البقرة: 19]، أي: مهلكهم ومميتهم في الدنيا بموت الصورة وموت القلب، وفي الآخرة بموت العذاب فلا يموت فيها ولا يحيى، { يكاد البرق } [البقرة: 20]، أي: نور الذكر والقرآن { يخطف أبصرهم } [البقرة: 20]، أي : أبصار نفوسهم الأمارة بالسوء { كلما أضآء لهم مشوا فيه } [البقرة: 20]، سلكوا طريق الحق بقدم الصدق { وإذآ أظلم عليهم } [البقرة: 20]، ظلمات صفات النفس وغلب عليهم الهوى مالوا إلى الدنيا { قاموا } [البقرة: 20] أي: وقفوا عن السير وتحيروا وترددوا وتطرقت إليهم الآفات واعترتهم الغرات واستولى عليهم الشيطان وسولت لهم أنفسهم الشهوات حتى وقعوا في ورطة الهلاك.
{ ولو شآء الله } [البقرة: 20]، أي ولو كانت مشيئته وإرادته أن يهديهم { لذهب بسمعهم وأبصرهم } [البقرة: 20]، أي: بسمع نفوسهم الذي تنظر إلى زينة الحياة الدنيا وزخارفها كقوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
[السجدة: 13]، { إن الله على كل شيء قدير } [البقرة: 20]، أي: قادر على سلب أسماعهم وأبصارهم حتى لا يسمعوا الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ولا يبصروا المزخرفات الدنياوية، والمستلذات الحيوانية لكيلا يغتروا بها ويبيعوا الدين بالدنيا، ولكن الله يفعل بحكمته ما يشاء ويحكم بعزته ما يريد، فلما أتم الكلام مع المؤمنين والكافرين والمنافقين خاطب الناس عموما أجمعين بقوله تعالى: { يأيها الناس } [البقرة: 21]، إلى { وأنتم تعلمون } [البقرة: 22] والإشارة في تحقيق الآيتين أن الله تعالى خاطب الناسي عهوده يوم الميثاق والإقرار بربوبيته ومعاهدته ألا يعبدوا إلا إياه، فخالفوه ونقضوا عهده وعبدوا الطواغيت من الأصنام والدنيا والنفس والهوى والشيطان فزلت قدمهم عن جادة التوحيد ووقعوا في ورطة الشرك والهلاك فبعث إليهم الرسول وكتب إليهم الكتاب وأخبرهم عن النسيان والشرك ودعاهم إلى التوحيد والعبودية.
{ اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21]، يعني: ذراتكم وذرات من قبلكم يوم الميثاق وأخذ مواثيقكم بالربوبية والتوحيد والعبادة فأوفوا بعهد العبودية بتوحيد اللسان وتجريد القلب وتفريد السر وتزكية النفس بترك المحظورات وإقامة الطاعات المأمورات، { لعلكم تتقون } [البقرة: 21]، عن ترك عبادة غير الله فيوفي الله بعد الربوبية بالنجاة من الدركات ورفع الدرجات بالجنات والإكرام بالقربات والكرامات في الآخرة، كما أكرمكم في الدنيا.
{ الذي جعل لكم الأرض فرشا والسماء بنآء } [البقرة: 22]، فيه إشارة إلى تعريفه نفسه بالقدرة الكاملة ومنته على عباده وعزة عباده عنده وفضيلتهم على جميع المخلوقات من عباده بأن جعل لهم بنفسه فراشا كالأرض ودنيا كالسماء، وأما عزة عباده عنده بأن خلق السماوات والأرض وما فيها لأجلهم وسخرها لهم لقوله تعالى:
وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا منه
[الجاثية: 13]، فكان وجود السماوات تبعا لوجودهم وما كان وجودهم تبعا لوجود شيء إلا وجوده، ولهذا السر أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم عليه السلام وحرم على آدم وأولاده السجود لغير الله، ليظهر أن الملائكة وإن كانوا قبل وجود آدم أفضل الموجودات فلما خلق آدم عليه السلام جعله مسجودا للملائكة ليكون هو أفضل المخلوقات وأكرمهم على الله تعالى ومتبوع كل شيء والكل تابع له.
قال تعالى: { وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرت رزقا لكم } [البقرة: 22]، تحقيقه أن الماء هو القرآن، وثمراته: الهدى والتقى والنور والرحمة والشفاء والبركة واليمن والسعادة والقربة والحق واليقين والنجاة، والرفعة والصلاح الفلاح والحكمة والموعظة والحلم والعلم والآداب والأخلاق والعزة، والغنى والتمسك بالعروة الوثقى والاعتصام بحبل الله المتين، وإجماع كل خير وختام سعادة زهوق باطل الوجود الإنساني عند مجيء تجلي حقيقة الصفات الربانية لقوله تعالى:
قل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء: 81]، فأخرج بماء القرآن هذه الثمرات من أرض قلوب عباده فكما أن الله من على عباده بإخراج الثمرات وقال: { فأخرج به من الثمرت رزقا لكم } [البقرة: 22] وكان للحيوان فيها رزق؛ ولكن يتبعه الإنسان كما قال تعالى:
متاعا لكم ولأنعامكم
[النازعات: 33].
كذلك القرآن بثمراته كان رزقا مختصا بالإنسان وللملائكة والجن كان لهم فيه رزق ولكن بتبعية للإنسان وهذا مما لا تدركه العقول المشوبة بالوهم والخيال؛ بل تدركه العقول المؤيدة بتأييد الفضل والنوال.
قوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أندادا } [البقرة: 22]، فيه ثلاثة معان:
أولها: أن هذا الذي جعلت لكم من خلق أنفسكم وخلق السماوات والأرض ما فيها ليس شأن أحد غيري، { وأنتم تعلمون } [البقرة: 22]، فلا تجعلوا لي أندادا في العبودية.
وثانيها: إني جعلت السماوات والأرض والشمس والقمر كلها واسطة أرزاقكم وأسبابها وأنا الرازق فلا تجعلوا الوسائط أندادا لي،
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر
[فصلت: 37].
وثالثها: إني خلقت الموجودات وجعلت لكل شيء حظا في شيء آخر وجعلت حظ الإنسان في محبتي ومعرفتي، وكل محظوظ لو انقطع عنه حظه لهلك فلا تنقطعوا عن حظوظكم من محبتي ومعرفتي بأن تجعلوا لي أندادا وتحبونهم كحب الله.
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة: 165]، فالأنداد وهي الأحباب غير الله تعالى: فوصف الذين لم ينقطعوا عن حظ محبته بالإيمان وقال:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة: 165]، يعني: الذين اتخذوا من دون الله أندادا في المحبة ما آمنوا حقيقة وإن زعموا الإيمان فافهم جدا ولا تغتر بالإيمان التقليدي الموروثي حتى تقبح على هذا المحل.
ثم ذكر اختصاص نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم بالعبودية الخالصة مطلقا لقوله تعالى:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا
[البقرة: 23]، الآيتين، والإشارة في تحقيق الآيتين أن الله تعالى جعل إعراض المعرضين واعتراض المعترضين فباب غيرته وسرادقات عزته لحبيبه المرسل، وكتابه المنزل لئلا يشاهد المعرضون عن الله حبيبه، ولا يطالع المعترضون على الله كتابه، فلم يزدهم بيان النبي صلى الله عليه وسلم وإعجاز القرآن إلا ريبا على ريب وخسارا على خسار، كما قال تعالى:
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
[يونس: 101].
[2.23-28]
حجبوا عن مشاهدة الحبيب صلى الله عليه وسلم ومنعوا عن طاعة الكتاب قال لهم: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [البقرة: 23] سماه بالعبد المطلق ولم يسم غيره إلا بالعبد المقيد باسمه كما قال تعالى:
واذكر عبدنآ أيوب
[ص: 41]، وذلك أن كمال العبودية ما تهيأ لأحد من العالمين وهو كمال حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وكمال العبودية في كمال الحرية عما سوى الله تعالى وهو مختص بهذه الكرامة كما أثنى الله تعالى عليه بذلك وقال:
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 16-17]، فلما اختص بهذه الحرية أكرمه باسم العبد المطلق كما قال تعالى:
فأوحى إلى عبده
[النجم: 10] إنما ذكره في هذه الآية بعبدنا أمر في الآيات المتقدمة بالعبودية الخالصة وترك الأنداد، ولقوله
اعبدوا ربكم
[البقرة: 21]، وقوله تعالى:
فلا تجعلوا لله أندادا
[البقرة: 22]، أي: أحبابا من الدنيا والهوى والنفس وشهواتها من المراتع الحيوانية والآخرة ونعيمها والروح وما لو فاتها من المستحسنات الروحانية وما صح لأحد من العالمين من هذه المرتبة من العبودية الخالصة إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم فذكره في هذا المعرض وسماه بعبدنا مطلقا.
وقال تعالى:
إن كنتم في شك
[يونس: 104] مما أنعمنا على عبدنا محمد لحسن استعداده في كمال العبودية بإنعام الوحي ونعمة القرآن، { فأتوا بسورة من مثله } [البقرة: 23]، مثل القرآن من أنفسكم { وادعوا شهدآءكم } [البقرة: 23]، الحاضرين معكم يوم الميثاق لأنكم وأنهم ومحمد صلى الله عليه وسلم كنتم جميعا مستمعين لخطاب،
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، مجتمعين في جواب { بلى } ، فلو كان محمد قادرا على إتيان القرآن من تلقاء نفسه فهو وأنتم في الاستعداد الإنساني الفطري سواء، فأتوا بالقرآن من تلقاء أنفسكم أيضا.
{ من دون الله إن كنتم صدقين } [البقرة: 23]، إنه لقوله من عنده والذي يدل عليه قوله
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف: 110]، يعني: في الاستعداد البشري
يوحى إلي
[الكهف: 110] ولكن خصصت بالوحي.
ثم أخبر عن عجزهم بالإتيان بمثل القرآن في الاستقبال { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [البقرة: 24] أي: لا تقدرون أنتم ولا من يجيء بعدكم أبدا لأن " لن " للتأبيد وهذا من جملة معجزات القرآن، { فاتقوا النار التي وقودها الناس } [البقرة: 24]، هي صفة القهر وصورة غضب الحق كما جاء في الحديث الصحيح:
" قال الله للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ".
{ التي وقودها الناس } [البقرة: 24]، أنانية الإنسان التي نسيان الله من خصوصيتها { والحجارة } [البقرة: 24]، أي: الذهب لأن به تحصيل مرادات النفس وشهواتها وما يميل إليه الهوى، فعبر عما يعبده أنانية نفس الإنسان بالحجارة؛ لأن أكثر الأصنام كانت من الحجارة وعن أنانيته الإنسان بالناس؛ لأنه طلبت غير الله تعالى وعبدته لنسيان الحق ومعاهدة يوم الميثاق، ثم جعل وقودها الناس لقوله تعالى
إنكم وما تعبدون من دون الله
[الأنبياء: 98].
ولا يظنن جاهل أن مثل هذه التحقيقات تدل على إبطال ما هو المفهوم من ظاهر الآية وإبطال ما قرره العلماء والكبراء من المعاني الظاهرة! حاشا وكلا؛ ولكن قال صلى الله عليه وسلم:
" إن للقرآن ظهرا وبطنا "
فظاهره يدل على ما فسره العلماء، وباطنه يدل على تحقيق أهل التحقيق بشرط أن يكون موافقا للكتاب والسنة ويشهدان عليه بالحق فإن كل حقيقة لا يشهد عليها الكتاب والسنة فهي إلحاد وزندقة لقوله تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين
[الأنعام: 59].
قوله تعالى: { أعدت للكفرين } [البقرة: 24]، أي: خلقت وهيأت للكافرين خاصة، ولكن يتطهر المذنبون بها لعبورهم بتبعية الكافرين كما أن الجنة خلقت وعدت للمتقين خاصة ولكن يدخلها المذنبون من أهل الإيمان بعد تطهيرهم بورود النار والعبور عليها بتبعية المتقين، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى:
" خلقت الجنة وخلقت لها أهلها وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلقت النار وخلقت لها أهلها وبعمل أهل النار يعملون "
فلما ذكر الكفار وتخويفهم ذكر المؤمنين وبشرهم بالجنان وقرب الجوار بقوله تعالى: { وبشر الذين آمنوا } [البقرة: 25]، الإشارة في تحقيق الآية إن الله تعالى بشر الذين آمنوا وهم صنفان: خواص وخواص الخواص، فالخواص آمنوا بالنور الغيبي الروحاني المشاهد في غيب الأمور الأخروية.
{ وعملوا الصلحت } [البقرة: 25]، أي: الصالحات التي تنبت بذر الإيمان في القلوب يدل عليه قوله تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر: 10]، وهي الطاعة التي ذكرت في الآيات الثلاث من أول السورة وغيرها، { أن لهم جنت تجري من تحتها الأنهر } [البقرة: 25] أي: يحصل لهم من نتائجها هذه الجنات والثمرات.
وخواص الخواص آمنوا بنور الغيب الرباني وشاهدوا ما آمنوا به وعاينوا ما شاهدوا وكوشفوا بحقائقه، فقد حصلت لهم جنات القربة معجلة من بذر الإيمان الحقيقي وأعمالهم الصالحة القلبية والروحية والسرية بالتوحيد والتجريد والتفريد جنات من أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص، والهدى والقناعة والعفو والمروءة والفتوة والمجاهدات والمكائد والشوق والذوق والرغبة والرهبة، والخوف والخشية والرجاء والصفاء والوفاء والطلب والإرادة والمحبة والحياء والكرم والسخاوة والشجاعة، والعلم والمعرفة والغرس والرفعة والقدرة والحلم والعفو والرحمة والهمة العالية، وغيرها من المقامات والأخلاق تجري من تحتها مياه العناية والتوفيق والرأفة والعطف والفضل.
{ كلما رزقوا منها } [البقرة: 25]، أي: من هذه الأشجار { من ثمرة } [البقرة: 25]، من ثمرات المشاهدات والمكاشفات والمعاينات والموافقات والألطاف والأسرار والإشارات والإلهامات والمكالمات والأنوار والحقائق وغيرها من المواهب والأحوال { رزقا } [البقرة: 25]، أي: عطفا وختما وعطية { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } [البقرة: 25]، وذلك لأن أصحاب المشاهدات شاهدوا أحوالا شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهدتهم فيظن بعضهم من المتوسطين أن هذا المشاهد هو الذي شاهده قبل هذا فتكون الصورة تلك الصورة؛ ولكن المعنى حقيقة أخرى مثاله شاهد السالك نورا في صورة نار كما شاهد موسى عليه السلام نور الهداية في صورة نار كما قال:
إني آنست نارا
[طه: 10]، فتكون تارة تلك النار نار صفة غضب كما كان لموسى عليه السلام إذ اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته نارا أو تارة يشاهد النار وهي صفة الشيطنة، وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها، وتارة تكون
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة: 6-7] فتخرق عليهم بيت وجودهم
إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة
[الهمزة: 8-9] فالصورة النارية المشاهدة مشابهة بعضها ببعض.
كما قال تعالى: { وأتوا به متشبها } [البقرة: 25]، ولكن السالك الواصل يجد من كل نار منها ذوق صفة أخرى كما مر في ثمار الجنة فافهم واغتنم فإنك لم تجد ولا تجد هذه الحقائق والمعاني في كتب أخرى.
{ ولهم فيهآ أزوج } [البقرة: 25]، أي: لأرباب الشهود في جنات القربات أزواج من أبكار الغيب { مطهرة } [البقرة: 25]، من ملامسة الأغيار
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن
[الرحمن: 56].
{ وهم فيها } [البقرة: 25]، في اقتضاء، فهم { خلدون } [البقرة: 25]، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن من العلوم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله فإذا نطقوا بها لا ينكرها إلا أهل الغرة بالله ".
واعلم أن كل شيء يشاهد في الشهادات كما أن له صورة في الدنيا له معنى حقيقي في الغيب ولهذا كان النبي صلى الله وعليه وسلم يسال الله تعالى بقوله:
" أرنا الأشياء كما هي "
فتكون في الآخرة صورة الأشياء وحقائقها حاصلة، ولكن الحقائق والمعاني على الصورة غالبة فترى في الآخرة صورة شيء بعينه فتعرفه فتقول: { هذا الذي رزقنا من قبل } [البقرة: 25] فيكون الاسم والصورة كما كانت ولكنها في ذوق آخر غير ما كنت تعرفه ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس شيء في الجنة مما في الدنيا غير الأسماء، وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها، إذا طعنت تفجر دما فاللون لون الدم والعرف عرف المسك "
فالآن لون ذلك الدم في الشهادة حاصل ولكن عرفه في الغيب لا يشاهد، ففي الآخرة يشاهد الصورة الدنيوية والمعاني الغيبية فافهم جدا واغتنم.
ذكر بعد إظهار الحقائق في الأمثلة المتناسبة لتفهم المعاني المتشابهة قوله تعالى: { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا } [البقرة: 26]، إلى قوله: { الفسقين } [البقرة: 26]، { إن الله لا يستحى } أي: لا يبالي الله أن يضرب مثلا { ما بعوضة } [البقرة: 26]، أي: يلبس المعاني كسوة الأمثلة لبيان البعوضة { فما فوقها } [البقرة: 26]، في الحقارة والصغر أو فوقها في الكبر كالذباب والعنكبوت وذلك لأن في كل شيء من العرش العظيم والذرة الحقيرة لله تعالى آية تدل العباد إلى المعبود، وتهدي القاصد إلى المقصود ففي البعوضة دلالات وآيات إذا جاعت قويت وطارت، وإذا شبعت تشققت وتلفت فهذه تدل على الإنسان فإنه إذا جاع رجع إلى الله تعالى، وإذا أشبع يتبع الهوى كما قال تعالى:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض
[الشورى: 27].
وقال تعالى:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7]، ومنها أن البعوضة خلقت على صورة الفيل وفيها معان:
منها: أن القدرة على إيجاد كل واحد منها غير منقادة ليس خلق أحدها بأهون على الله تعالى من الأخرى.
ومنها: أن البعوضة إذا أعطيت على قدر حجمها الحقير كل آلة وعضو أعطيت الفيل الكبير القوي.
وفيه إشارة إلى حال الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق كل شيء على صورته "
أي: على صفته فعلى قدر صفة الإنسان أعطاه الله من كل صفة من صفات جلاله وجماله أنموذجا ليشاهد في مرآة صفات نفسه كمال صفات ربه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من عرف نفسه فقد عرف ربه "
، ليس لشيء من المخلوقات هذه الكرامة المختصة بالإنسان.
كما قال تعالى:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70]، وفيها وفي أمثالها دلالات يطول شرحها فقس الباقي على نداء { فأما الذين آمنوا } [البقرة: 26]، بنور الإيمان يشاهدون المعاني والحقائق في صورة الأمثلة { فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا } [البقرة: 26]، جحدوا الحق ظلمة إنكارهم غشاوة أبصارهم فما شاهدوا الحقائق في كسوة الأمثلة كما أن العجمي لا يشاهد المعاني في كسوة اللغة العربية فيسأل عن الحيرة: " ماذا أراد العربي بهذه اللفظة " ، فكذلك الكفار والجهال عند تحيرهم في إدراك حقائق الأمثال قالوا: { فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا } [البقرة: 26]، فبجهلهم زاد إنكارهم على الإنكار فتاهوا في أودية الضلالة بقدم الجهالة.
{ يضل به كثيرا } [البقرة: 26]، ممن أخطأه رشاش النور في بدء الخلقة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل "
، فمن أخطأه ذلك النور في عالم الأرواح فقد أخطأه نور الإيمان هاهنا، ومن أخطأه نور الإيمان فقد أخطأه نور القرآن فلا يهتدي، ومن أصابه ذلك هناك أصابه هاهنا نور الإيمان، ومن أصابه نور الإيمان فقد أصابه نور القرآن، ومن أصابه نور القرآن فهو ممن قال: { ويهدي به كثيرا } [البقرة: 26]، وكان القرآن لقوم شفاء ونعمة لأن كلامه صفة شاملة للطف والقهر؛ فبلطفه هدى الصادقين، وبقهره أضل الفاسقين بقوله: { وما يضل به إلا الفسقين } [البقرة: 26]، والفاسق الخارج من إصابة رشاش النور في بدء الخلقة.
ثم أخبر عن نتائج ذلك الخروج ونقض العهد كما قال تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه } [البقرة: 27]، الذين ينقضون عهد الله الذي عاهدوه يوم الميثاق على التوحيد والعبودية والإخلاص من بعد ميثاقه، { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } [البقرة: 27]، من أسباب السلوك الموصل إلى الحق وأسباب النقل والانقطاع عن غير الخالق.
كما قال تعالى:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8]، أي: انقطع إليه انقطاعا كاملا عن غيره { ويفسدون في الأرض } [البقرة: 27]، أي: يفسدون بذر التوحيد الفطري في أرض طينتهم بالشرك والإعراض عن قبول دعوة الأنبياء، وسقي بذر التوحيد بالإيمان والعمل الصالح { أولئك هم الخسرون } [البقرة: 27]، خسروا استعداد كمالية الإنسان المودعة فيهم كما تخسر النواة في الأرض استعداد النخلية المودعة فيها عند عدم الماء لقوله تعالى:
والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر: 1-3].
ثم أخبر عن كمال جرأتهم بنسيان نعمة اختراع وجودهم وكفرانهم كما قال تعالى: { كيف تكفرون بالله } [البقرة: 28]، والإشارة في تحقيق الآية أن قوله تعالى: { كيف } خطاب التهديد للكافرين عموما وخطاب التوحيد للمؤمنين خصوصا وخطاب التشريف للأنبياء اختصاصا، فتهديد الكافرين { كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا } [البقرة: 28]، نطفا في أصلاب آبائكم { فأحيكم } [البقرة: 28]، بنفخ الروح فيكم في أرحام أمهاتكم، { ثم يميتكم } [البقرة: 28]، عند مفارقة نفوسكم عن أبدانكم.
{ ثم يحييكم } [البقرة: 28]، عند نفخ الصور والبعث عن القبور { ثم إليه ترجعون } [البقرة: 28]، بالسلاسل والأغلال، ثم يسحبون في النار على وجوههم. وفيه إشارة أخرى: كيف تكفرون بالله أي: لا تكفرون بالله وإنما تكفرون بأنبيائه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث، والجنة والنار، يدل عليه قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله } [البقرة: 28] وبأنبيائه لأنكم { وكنتم أموتا } [البقرة: 28] ذرات في صلب آدم فأحياكم بأخراجكم عن صلبه وأسمعكم لذلك خطاب:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، وأذاقكم لذات الخطاب ووفقكم للجواب بالصواب حتى قلتم: { بلى } رغبة لا رهبة { ثم يميتكم } [البقرة: 28] بالرجعة إلى أصلاب آبائكم، وإلى عالم الطبيعة الإنسانية { ثم يحييكم } [البقرة: 28] ببعثة الأنبياء وقبول دعوته { ثم إليه ترجعون } [البقرة: 28] بدلالة الأنبياء وقدم التوحيد على جادة الشريعة إلى درجات الجنان والنعيم المقيم.
وأما خطاب التشريف للأنبياء والأولياء بقوله تعالى: { كيف تكفرون } [البقرة: 28]، أي: لا تكفرون وكنتم في العدم، فأحياكم بالتكوين في عالم الأرواح ورشاش النور فخمر طينة أرواحكم بماء نور العناية، وتخمير الطينة أربعين صباح الوصال، { ثم يميتكم } [البقرة: 28] بالمفارقة عن شهود الجمال إلى معبرة الحسن والخيال، كما قيل:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
{ ثم يحييكم } [البقرة: 28] أما الأنبياء فبنور نور الوحي لقوله تعالى:
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى: 52]، وأما الأولياء فبروح روح الإيمان لقوله تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22].
{ ثم إليه ترجعون } [البقرة: 28] أما الأنبياء فبالعروج لقوله تعالى:
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 28]، فلما أثبت أن الرجوع إليه أمر ضروري؛ إما بالاختيار كقراءة يعقوب ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم، وأما بالإضطرار كقراءة الباقين أشار إلى أن الذي ترجعون إليه { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } [البقرة: 29] أي: ما خلقكم لشيء وخلق كل شيء لكم؛ بل خلقكم لنفسه كما قال تعالى:
واصطنعتك لنفسي
[طه: 41] معناه: لا تكن لشيء غيري فإني لست لشيء غيرك، فبقدر ما تكون لي أكون لك، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من كان لله كان الله له "
وليس لشيء من الموجودات هذا الاستعداد أي: أن يكون هو لله على التحقيق وأن يكون الله له، وفي هذا سر عظيم وإفشاء سر الربوبية كفر، فلا تشتغل بم الك عمن أنت له فتبقى بلا هو بلا هو.
[2.29-33]
قوله تعالى: { ثم استوى إلى السمآء } [البقرة: 29]، أي: شرع في تسويتها { فسوهن سبع سموت } [البقرة: 29]، مستويات على مصالح الأرض ومنافع الخلق فيه، إشارة إلى أن وجود السماوات والأرض تبعا لوجود الإنسان؛ لأنه قال: { خلق لكم ما في الأرض جميعا } [البقرة: 29]، أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما فيهن وسواهن على وفق مصالحك وانتفاعك من وسلوكك وتربيتك فيهن، كذلك
الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شآء ركبك
[الانفطار: 7-8] بنفخ روحه فيك.
كما قال تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، ثم سواك بالوحي والإلهام بقبول فيض تجلي صفاته تعالى فيك لك كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق آدم فتجلى فيه "
، قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53].
قوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم } [البقرة: 29]، أي: عالم في خلق كل شيء كيف خلقه ولأي شيء خلقه، وكل ذرة من مخلوقاته وكل شيء من موجوداته يسبح ذاته وصفاته ويشهد بأحديته وصمديته ويقول:
ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك
[آل عمران: 191]، فلما ذكر أن السماوات والأرض خلقت للإنسان أخبر أن الإنسان لماذا خلق بقوله تعالى: { وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30]، والإشارة في تحقيق الآية: أن الله تعالى إنما قال { إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30]، ولم يقل: إني خالق معنيين: أحدهما: إن الجاعلية أعم من الخالقية فإن الجاعلية هي الخالقية وشيء آخر وهو أن يخلقه موصوفا بصفة الخلافة إذ ليس لكل مخلوق هذا الاختصاص كما قال تعالى:
يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض
[ص: 26] أي: خلقتك مستعدا للخلافة فأعطيناكها، والثاني: إن للجعلية اختصاصا بعالم الأمر وهو الملكوت وهو ضد عالم الخلق لأنه هو عالم الأجسام والمحسوسات، كما قال تعالى:
ألا له الخلق والأمر
[الأعراف: 54]، أي: الملك والملكوت؛ فإنه تعالى حين ذكر ما هو مخصوص بعالم الأمر جعله بالجعلية لامتياز الأمر عن الخلق كما قال تعالى:
الذي خلق السموت والأرض وجعل الظلمت والنور
[الأنعام: 1]، فالسماوات والأرض لما كانت من الأجسام والمحسوسات ذكرها بالخلقية، والظلمات والنور لما كانت من غير المحسوسات ذكرها بالجعلية، وإنما قلنا إن الظلمات والنور من الملكوتيات لقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، فإنما هي من الملكوتيات لا من المحسوسات، والظلمات والنور التي من المحسوسات فإنها داخلة في السماوات والأرض فافهم جدا.
فكذلك ما أخبر الله تعالى عن آدم مما يتعلق بجسمانيته ذكره بالخلقية، كما قال تعالى:
إني خالق بشرا من طين
[ص: 71]، وما أخبر عما يتعلق بروحانية ذكره بالجعلية فقال تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30]، وفي: { إني جاعل } إشارة أخرى وهو إظهار عزة آدم على الملائكة لينظروا إليه ينظر التعظيم ولا ينظروا إليه بما يظهر منه ومن أولاده من أوصاف البشرية فإنه تعالى يقول:
ولذلك خلقهم
[هود: 119] وسماه خليفته، وما شرف شيئا من الموجودات بهذه الخلقة والكرامة وإنما، سمي خليفة لمعنيين:
أحدهما: أنه يخلق عن جميع المخلوقات ولا يخلفه المكونات بأسرها، وذلك لأن الله تعالى جمع فيه ما في العالم كله من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات والدنياويات والأخرويات والجماديات والنباتيات والحيوانيات والمكونيات، فهو بالحقيقة خليفة كل العوالم، وأكرمه باختصاص كرامة:
ونفخت فيه من روحي
[ص: 72] وما أكرم بها أحدا من العالمين، وأشار إلى هذا المعنى بقوله:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70] فلهذا الاختصاص ما صلحت الموجودات كلها أن تكون خليفة لآدم عليه السلام وللحق تعالى.
والثاني: أنه يخلف عن وجود الحق في الحقيقة؛ لأن وجود الإنسان يدل على وجود موجده كالبناء يدل على وجود الباني، وتخلف وحدانية الإنسان عن وحدانية الحق ذاته، وصفاته عن صفاته فتخلف حياته عن حياته، وقدرته، وإرداته عن إرادته، وسمعه عن سمعه، وبصره عن بصره وكلامه عن كلامه وعلمه عن علمه ولإمكانية روحه عن الإمكانية ولجهته تفهم إنشاء الله، وليس لنوع من المخلوقات أن يخلف عنه كما يخلف آدم عليه السلام وإن كان فيهم بعض هذه الصفات؛ لأنه لا تجتمع صفات الحق في أحدكم وتجتمع في الإنسان ولا تتجلى صفة من صفاته لشيء كما يتجلى لمرآة قلب الإنسان وصفاته.
فأما الحيوانات وإن كان لها بعض هذه الصفات ولكن ليس لها علم بوجودها وموجدها، وأما الملائكة فإنهم وإن كانوا عالمين بوجود موجدهم؛ ولكن لا يبلغ علمهم إلى أن يعرفوا أنفسهم بجميع صفاتها ولا الحق بجميع صفاته، ولهذا قولوا: { سبحنك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ } [البقرة: 32].
وأما الإنسان فله الخلافة صورة ومعنى؛ أما صورة فلأن له علما بوجود موجده ويبلغ علمه إلى أن يعرف نفسه بجميع صفاته والحق سبحانه بجميع صفاته ولهذا كان مخصوصا بمعرفة نفسه بالخلافة وبمعرفة جميع أسماء الله تعالى. وأما معنى؛ فليس في العالم مصباح يستضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته في الأرض خلافة عنه إلا مصباح الإنسان ، فإنه مستعد لقبول فيض نور الله تعالى لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب والزجاجة في مشكاة الجسد، وفي زجاجة القلب زيت الروح يكاد زيتها يضيء من صفات الله تعالى العقل، ولو لم تمسسه نار النور في مصباح السر فتيلة الخفي.
فإذا أراد الله تعالى أن يجعل في الأرض خليفة يتجلى بنور جماله لمصباح السر الإنساني فيهدي لنوره فتيله حتى من يشاء، فيستنير مصباحه بنار نور الله تعالى فهو على نور من ربه، فيظهر خليفة الله في أرضه فتظهر أنوار صفاته فيه هذا العالم فيأتي بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة لمستحقها وبالعزة والقهر والغضب والانتقام لمستحقها كما قال تعالى:
يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26].
وقال لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
بالمؤمنين رءوف رحيم
[التوبة: 128]، وقال في حقه وحق المؤمنين:
محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم
[الفتح: 29]، ولا تظهر هذه الصفات على الحيوان ولا على الملك، وناهيك عن هذا حالة هاروت وماروت ولما أنكروا على ذرية آدم عليه السلام اتباع الهوى والقتل والظلم والفساد، قالوا: لو كنا بدلا منهم خلفاء الأرض ما كنا نفعل مثل ما يفعلون، فالله تعالى أنزلهما الأرض وألبس عليهما لباس البشرية، وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك والقتل بغير الحق، والزنا وشرب الخمر.
قال قتادة: ما مر عليهما شهر حتى افتتنا فشربا الخمر، وسفكا الدم، وزنيا، وقتلا، وسجدا للصنم. فثبت أن الإنسان مخصوص بالخلافة وقبول فيض نور الله تعالى، فلو كان للملائكة هذه الخصوصية لم تفتتن بهذه الأوصاف المذمومة الحيوانية والسبعية، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومين عن مثل هذه الأوصاف والأخلاق وكانت لازمة لصفاتهم البشرية؛ لكن بنور التجلي تنور مصباح قلوبهم واستنارت بنور قلوبهم جميع مشكات جسدهم ظاهرا وباطنا، وأشرقت الأرض بنور ربها فلم تبق لظلمات هذه الصفات مجالا للظهور مع استعلاء النور. فالملائكة من بدء الأمر لما نظروا إلى جسد آدم عليه السلام شاهدوا ظلمات البشرية والحيوانية والسبعية في ملكوت الجسد بالنظر الملكوتي الملكي ولم تكن تلك الصفات غائبة عن نظرهم.
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } [البقرة: 30]، فقولهم هذا يدل على معان مختلفة؛ أن الله تعالى أنطقهم بهذا القول ليتحقق لنا أن هذه الصفات الذميمة في طينتنا مودعة في جبلتنا مركبة فلا نأمن عن مكر أنفسنا الأمارة بالسوء ولا نعتمد عليها وما نبرؤها، كما قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام:
ومآ أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53].
ومنها: لنعلم أن كل عمل صالح نعمله ذلك بتوفيق الله تعالى إيانا وفضله ورحمته وكل فساد وظلم نعمله هو من شؤم طبيعتنا وخاصة طينتا، كما قال الله تعالى:
مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك
[النساء: 79]، وكل فساد وظلم لا يجري علينا، ولا يصدر منا فذلك من حفظ الحق وعصمة ربه لقوله:
إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53].
ومنها: لنعلم أن الله تعالى من كمال فضله وكرمه قد قبلنا بالعبودية والخلافة وقال من حسن عنايته في حقنا مع الملائكة المقربين: { إني أعلم ما لا تعلمون } [البقرة: 30]، من رحمته والتقطع عن خدمته.
ومنها: لنعلم أن فينا استعداد أمر عظيم وبناء جسيم ليس للملائكة به علم وهو سر الخلافة فلا نتغافل عن هذه السعادة ونتقاعد عن هذه السيادة ونسعى في طلبها حق السعي.
ومنها: أن الملائكة إنما { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } [البقرة: 30]، لأنهم نظروا إلى جسد آدم قبل نفخ الروح، فشاهدوا بالنظر الملكي في ملكوت جسده المخلوق من العناصر الأربعة المتضادة صفات البشرية والبهيمية والسبعية التي تتولد من تركيب أضداد العناصر كما شاهدوها في أجساد الحيوانات والسباع الضاريات؛ بل عاينوها فإنها خلقت قبل آدم عليه السلام، فقاسوا عليها أحواله بعد أن شاهدوها وحققوها، وهذا لا يكون غيبا في حقهم، وإنما يكون غيبا لنا لأننا ننظر بالحس، والملكوت يكون لأهل الحس غيبا، ومنا من ينظر بالنظر الملكوتي فيشاهد الملائكة والملكوتيات بالنظر الروحاني كما قال تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض
[الأنعام: 75]، وقال تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السموت والأرض
[الأعراف: 185]، فحينئذ لا يكون غيبا، فالغيب ما غاب عنك وما شاهدته فهو شهادة، فالملكوت للملائكة شهادة والحضرة الإلهية لهم غيب، وليس لهم الترقي إلى تلك الحضرة، وإن في الإنسان صورة من عالم الشهادة المحسوسة، وروحا من عالم الغيب الملكوتي المنزه عن المحسوس، وسرا مستعدا لقبول فيض النور الإلهي، بالترقية يترقى من عالم الشهادات إلى عالم الغيب وهو الملكوت، وبسر المتابعة ومخصوصيتها يترقى من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت والعظمة وهو غيب الغيب، ويشاهد بنور الله تعالى المستفاد من سر المتابعة أنوار الجمال والجلال في خلافة الحق عالم الغيب، كما أن الله تعالى هو عالم الغيب والشهادة
فلا يظهر على غيبه أحدا
[الجن: 26] أي: الغيب المخصوص وهو غيب الغيب { أحدا } يعني من الملائكة إلا من ارتضى من رسول يعني من الإنسان، فهذا هو السر المكنون والمدفون في استعداد الإنسان الذي كان الله يعلمه منه والملائكة لا يعلمونه.
كما قال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } [البقرة: 30]، ومنها أن الملائكة لما نظروا إلى كثرة طاعتهم واستعداد عصمتهم، ونظروا إلى نتائج الصفات النفسانية استعظموا أنفسهم واستصغروا آدم وذريته، فقالوا: { قالوا أتجعل فيها } [البقرة: 30]، يعني في الأرض { خليفة } [البقرة: 30]، مع أنه { يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [البقرة: 30]، يعني نحن من هذه الأوصاف أحق بالخلافة منه، كما قال بنو إسرائيل حين بعث لهم طالوت ملكا قالوا:
أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال
[البقرة: 247]، فأجابهم الله تعالى بأن استحقاق الملك ليس بالمال إنما هو بالاصطفاء والبسطة في العلم والجسم، وقال:
إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشآء
[البقرة: 247].
فكذلك هاهنا أجابهم الله تعالى بقوله: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } [البقرة: 30] لأنه فضله بقوله:
إن الله اصطفى ءادم
[آل عمران: 33]، وبقوله { وعلم ءادم الأسمآء كلها } [البقرة: 31]، وبقوله:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص: 75] ليعلم أن استعداد تلك الخلافة واستحقاقها ليس بكثرة الطاعة، ولكنه مالك الملك والملكوت يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، فلما تفاخرت الملائكة بطاعتهم على آدم عليه السلام من الله تعالى على آدم بعلم الأسماء ليعلموا أنهم أهل الطاعة والخدمة، فإنه أهل الفضل والمنة، وأين أهل الخدمة من أهل المنة، فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له ليعلموا أن الله تعالى مستغن عن طاعتهم وبمنته على آدم صار مسجدا لهم ليعلموا
وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 29] وفي قوله تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } [البقرة: 30]، إشارة أخرى إلى أنه كما يدل على أن لآدم عليه السلام فضائل لا يعلمها الملائكة فكذلك رذائل أوصاف مذمومة لا يعلمها الملائكة؛ لأنهم لا يعلمون منه أوصافا مذمومة يعني من نتائج النفس الأمارة عند نتائج نظر الروح إلى النفس حاله استعمال الشرع من العجب والرياء والسمعة والخسران واشتراء الحياة الدنيا بالآخرة والابتداع والزيغوغة واعتقاد السوء وغير ذلك مما لا يشاركه الحيوانات.
ثم أخبر عن فضله مع آدم عليه السلام بقوله: { وعلم ءادم الأسمآء كلها } [البقرة: 31]، إلى قوله { وما كنتم تكتمون } [البقرة: 33]، والإشارة في تحقيق الآية أن الله تعالى فضل آدم على الملائكة بفضائل جمة؛ منها: اختصاصه بتعليم الأسماء كلها ذكر الأسماء بالألف واللام وهي لاستغراق الجنس فيقتضي أن لا يكون شيء إلا وآدم يعلم اسمه وقوله: { كلها } أي: بكليتها، وهي حقائق بالمسميات ومعناها.
وعلم آدم الأسماء والمسميات في حقائقها؛ مثاله أن الله تعالى علمك اسم الغنم فما اقتصر منه على جزء هذا الاسم؛ بل علمك أسماءه كلها؛ بأن علمك ببصرك اسم لون أبيض أم أسود، وعلمك اسم صوته بسمعك، واسم ريحه بشمك، واسم طعمه بذوقك، واسم لينه وخشونته بلمسك، وكذلك جميع أسماء صفاته وأخلاقه، وخواص منافعه ومضاره، علمك بقولك وفعلك، وعملك بإيمانك اسم خلقه، فلكل جزء من أجزائه اسم ولون وطعم ورائحة وصفة وخاصة وماهية وحقيقة أخرى لا يعلمها إلا الإنسان ؛ لأنه خلق في أحسن تقويم لإدراك صورة الأشياء ومعانيها وحقائقها، وإن له بحسب كل شيء عن الجملة المذكورة آلة مدركة لذلك الشيء كما هي، وليس للملائكة هذه المدركات كلها إلا ما يتعلق بالقوة المدركة العقلية الملكية؛ فلهذا لما قال: { ثم عرضهم على الملئكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صدقين } [البقرة: 31] أي: إن كان لكم على آدم فضيلة بالتسبيح والتقديس { قالوا سبحنك } [البقرة: 32]، أقروا له بالفخر والاعتذار عن الاعتراض وتنزيها لله أن يفرض في حكم من أحكامه { لا علم لنآ } [البقرة: 32]، بالأسماء وحقائقها { إلا ما علمتنآ } [البقرة: 32]، مما أعطيتنا من النظر الملكوتي { إنك أنت العليم } [البقرة: 32]، الذي أحاط بكل شيء علما
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255]، { الحكيم } [البقرة: 32]، فيما حكمت وقدرت ودبرت الخلافة لآدم لا راد لحكمك ولا مفر من قضائك.
فظهرت فضيلة آدم عليهم بفنون هذه العلوم وبعجزهم عن الإتيان بمثلها، فكما أن القرآن كان دليلا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفضيلته على الكافرين بإعجازهم عن إتيان مثله كذلك علم الأسماء، كان دليلا على خلافة آدم عليه السلام وفضيلته على الملائكة بإعجازهم عن إتيان مثله، وهذه الفضيلة كانت لآدم عليه السلام بعد تعلمه لأسماء المخلوقات، فلم يكن مستحقا لسجودهم بهذا المقدار، فما أقام استحقاقه للسجود كان بتعلم أسماء الله تعالى وصفاته بتعليم الله إياه بأن يجعل ذاته وصفاته مرآة قابلة لتجلي صفات جماله وجلاله تبارك وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق آدم فتجلى فيه "
، فالتجلي فيه التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته، وهذا هو سر الخلافة على الحقيقة؛ لأن المرآة تكون خليفة المتجلي فيه وقوله تعالى: { أنبئوني بأسمآء هؤلاء } [البقرة: 31] أي: أسماء المخلوقات دون أسماء الله وصفاته { إن كنتم صدقين } [البقرة: 31]، في دعواكم بالفضيلة على آدم لتسبيحكم وتقديسكم؛ أي: لأن الفضيلة ليست بمجرد هذا فإن ذرات الموجودات مسبحات بحمدي كما قال تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44]، وإنما الفضيلة في العلم لأن الطاعة من صفات الخلق، والعلم من صفات الحق، فالفضيلة لمن له صفة الحق والخلق جميعا أولى منها بمن له صفة الخلق فحسب، وهذا أحد أسرار الخلافة بأن يخلف عن الخلق بصفاتهم ويخلف عن الحق بصفاته.
وقوله تعالى: { قال يآءادم أنبئهم بأسمآئهم } [البقرة: 33]، معان مختلفة:
منها: إن من دلائل فضيلة آدم واستحقاقه لخلافة الحق احتياج الملائكة إليه بإنبائه الأسماء، وكان آدم عليه السلام أول الأنبياء وأول ما بدأ بإنباء الملائكة بأمر الحق، وهذا من جملة ما كان الله يعلمه من آدم ولا يعلمون الملائكة منه، فقالوا: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } [البقرة: 30]، وكان الإنباء بأسمائهم من إصلاح حالهم لا من الإفساد.
ومنها: أنه تعالى قال: { أنبئهم } ما قال: علمهم لأنه ما كان لهم من استعداد للتعلم؛ لأن التعلم موجب الترقي في العلم، كما قال تعالى:
والذين أوتوا العلم درجات
[المجادلة: 11]، فكلما ازداد علما ازداد درجة وليس للملائكة الترقي في الدرجات لقوله:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات: 164]، ولما كان آدم مستعد للترقي فقال في حقه: { وعلم ءادم الأسمآء كلها } [البقرة: 31].
ومنها: أنه تعالى قال: { أنبئهم بأسمآئهم } [البقرة: 33]، وما قال بأسماء كلها، كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام وإلا لكان هذا الأمر تكليفا بما لا يطاق، وليس هذا من سنة الله تعالى؛ لقوله
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
[البقرة: 286]، على أنا نقول لو كلف يجوز ولا يكون منه ظلما، ولكنه لا يكلف فإنه ليس من سنته
ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الأحزاب: 62] وإنما قلنا أنه كان في حق آدم التكليف بما لا يطاق لأن الملائكة غير مستعدين لإنباء الأسماء كلها؛ لأن الأسماء على ثلاثة أقسام: منها أسماء الروحانيات والملكوتيات وهي مقام الملائكة ومرتبتهم، فلهم علم بعضها واستعداد أيضا لإنباء بما لا علم لهم بها، فإن الروحانيات والملكوتيات لهم شهادة كالجسمانيات لنا، والقسم الثاني: منها أسماء الجسمانيات وهي مرتبة دون مرتبتهم فيمكن إنباءهم؛ لأن الجسمانيات لهم كالحيوانات بالنسبة إلينا فإنها مرتبة دون مرتبة الإنسان فيمكن للإنسان الإنباء بأحوالها، والقسم الثالث: منها أسماء الإلهيات وهي مرتبة فوق مرتبة الملائكة، كما قال تعالى:
يخافون ربهم من فوقهم
[النحل: 50]، فلا يمكن للإنسان أن ينبئهم بها، ولا يمكن لهم الإنباء بما فوق ما علمهم الله منها؛ لأنها غيبهم وليس لهم الترقي إلى الغيب، ولهم مقام معلوم لا يتجاوزون عنه، وكذلك يمكن لهم النزول إلى هذا العالم، وذلك أيضا بالأمر لقوله تعالى:
وما نتنزل إلا بأمر ربك
[مريم: 64]، ولا يمكن لهم الترقي من سدرة المنتهى إلى عالم الجبروت؛ لأنهم أهل الملكوت كما قال جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى ليلة المعراج
" لو دنوت أنملة لأحترقت ".
{ فلمآ أنبأهم بأسمآئهم } [البقرة: 33] أي: بأسماء معرضهم على الملائكة وبأنفسهم، وإنما كان آدم عليه السلام مخصوصا بعلم الأسماء دون الملائكة، وهم محتاجون إليه بإنباء أسمائهم وأسماء غيرهم؛ لأن آدم عليه السلام كان بالحقيقة أفضل العالم وخلاصته، وكان روحه بذر شجرة العالم، وشخصه ثمرة شجرة العالم، ولهذا خلق شخصه بعد تمامه بما فيه كخلق الثمرة بعد تمام الشجرة، وكما أن الثمرة تعبر عن أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة، كذلك آدم عبر على أجزاء الشجرة الموجودات علوها وسفلها، وكان في جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة، فسمي كل شيء منها باسم يلائم تلك المنفعة والمضرة والمصلحة والمفسدة بعلم علمه الله تعالى واختص به من الملائكة، وغيرهم هذا من جملة ما كان الله يعلم من آدم عليه السلام والملائكة لا يعلمونه.
وكان من كمال حال آدم عليه السلام أن أسماء الله تعالى جاءت على منفعته ومضرته ومصلحته ومفسدته فضلا عن أسماء غيره، وذلك أنه لما كان مخلوقا كان الله خالقا، ولما كان مرزوقا كان الله رازقا، ولما كان عبدا كان الله معبودا، ولما كان معيوبا كان الله ستارا، ولما كان مذنبا كان الله غفارا، ولما كان تائبا كان الله توابا، ولما كان منتفعا كان الله نافعا، ولما كان متضررا كان الله ضارا، ولما كان ظالما كان الله عدلا، ولما كان مظلوما كان الله منتقما له، فعلى هذا قس الباقي، فلما أظهر من آدم ما كان خفيا ومغيبا فيه من إنباء الأسماء، قال الله تعالى: { قال ألم أقل لكم } [البقرة: 33]، حين قلتم: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [البقرة: 30]، { إني أعلم غيب السموت } [البقرة: 33]، أي غيب أهل السماوات وهم الملائكة وغيبهم ما غاب عنهم من احتياجهم لآدم في إنباء الأسماء { والأرض } [البقرة: 33]، أي غيب أهل الأرض هو آدم وغيبه ما كان مغيبا مخفيا فيه من إنباء الملائكة بالأسماء { وأعلم ما تبدون } [البقرة: 33]، من الطعن في آدم واستحقاقه الخلافة، وإظهار طاعتكم بالتسبيح والتقديس تفاخرا به على آدم عليه السلام: { وما كنتم تكتمون } [البقرة: 33]، من غيرتكم على آدم، وحسبان استحقاقكم الخلافة.
فلما أظهر عليهم من أمر آدم خلاف ما تصوروا فيه ومن أمرهم غير ما توهموه، أمرهم بالسجود لآدم إظهارا لاستغنائه عن طاعات المخلوقين وعصيانهم وشركهم وكفرانهم؛ لأنه ليس كفران ومعصية أكبر من السجود لغيره، واستغفارا لله باعتراضهم عليه وقالوا: { قالوا أتجعل فيها } [البقرة: 30]، واعتذارا من آدم عليه السلام عن قولهم { من يفسد فيها } [البقرة: 30]، وانكسارا لأنفسهم بإظهار { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [البقرة: 30].
[2.34-40]
ثم أخبر بقوله تعالى: { وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لأدم } [البقرة: 34]، والإشارة في تحقيق الآية أن في قوله { اسجدوا } ثلاثة معان:
أحدهما: إنكم تسجدون لله بالطبيعة الملكية والروحانية { اسجدوا لأدم } [البقرة: 34]، خلافا للطبيعة بل تعبدوا رقا وانقيادا للأمر وامتثالا للحكم.
والثاني: { اسجدوا لأدم } [البقرة: 34]، تعظيما لشأن خلافته وتكريما لفضيلته المخصوصة به، وذلك لأن الحق تعالى يتجلى فيه، فمن يسجد له فقد سجد لله تعالى، كما قال تعالى في حق حبيبه صلى الله عليه وسلم:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10].
والثالث: { اسجدوا لأدم } [البقرة: 34]، أي: لأجل آدم عليه السلام وذلك لأن طاعتهم وعبادتهم ليست موجبة لثوابهم وترقي درجاتهم، وفائدتها على الحقيقة راجعة إلى الإنسان لمعنيين.
أحدهما: إن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة، ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر، وينزجر عن الإباء والاستكبار كيلا يلحق به اللعن والطرد كما لحق بإبليس، ويكون مقبولا ممدوحا مكرما كما كان الملائكة في امتثال الأمر؛ لقوله تعالى:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6]، والثاني: إن الله تعالى من كمال فضله ورحمته مع الإنسان جعل همة الملائكة في الطاعة والتسبيح والتحميد مقصورة على استعداد المغفرة للإنسان، كما قال تعالى:
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض
[الشورى: 5]، فلذلك أمرهم بالسجود لأجلهم وليستغفرا لهم { فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } [البقرة: 34] أي: سجد الملائكة لأنهم خلقوا من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" خلقت الملائكة من نور "
والنور من شأنه الانقياد والطاعة، { إلا إبليس أبى } سجد وأبى لأنه خلق من النار والنار من شأنها الاستكبار وطلب العلو طبعا { وكان من الكفرين } [البقرة: 34]، لأنه ستر الحق على آدم عليه السلام ولهذا أيضا سمي إبليس؛ لأنه يلبس الحق وأصل الكفر الستر.
ثم أخبر عن تمام نعمته على آدم وكرمه في حقه بعد سجود الملائكة وطرد إبليس لأجله لقوله: { وقلنا يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } [البقرة: 35]، والإشارة في تحقيق الآية أن فيها إشارات ومعاني منها: { يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } [البقرة: 35] أي: بعد أن سجدت لك الملائكة ولعنت لأجلك إبليس جعلت الجنة مسكنك وجعلت منك زوجك ولتسكن إليها وتسكن معك في الجنة، فأسكنا في الجنة { وكلا منها } [البقرة: 35] أي: من أثمار أشجارها ونعمها وألوان أطعمها { رغدا حيث شئتما } [البقرة: 35]، فتمت نعمتي لديكما ووجبت طاعتي عليكما { ولا تقربا هذه الشجرة } [البقرة: 35]، تقربا التي وطاعة لي لتكونا من المطيعين لأمري ونهيي والموفين بعهدي، وإلا { فتكونا من الظلمين } [البقرة: 35]، فلما قبلتما قولي وما أوفيتما بعهدي وعصيتما أمري وظلمتما على أنفسكما، فهذا منكما من خصوصية الظلومية الجهولية ظلوم بأنه مظلم نفسه جهولا بأنه لا يعلم أن ظلمه عائد إلى نفسه، كما قال تعالى:
وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[البقرة: 57].
ومنها: إشارة بأن أبحت لك يا آدم نعيم الجنة وما كان فيها، وما كان لك فيها حق لأنك ما عملت عملا تستحق به الجنة، فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها وهي كلها لي وأنا خلقتها، فإن لم تعطينها وتطمع فيها أيضا، فاعلم
إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد
[العاديات: 6-8].
ومنها: لتعلم أن لك همة عالية لا يسعها الجنة بما فيها، فإني أوهبتك الجنة منفردا وحيدا وأبحت لك نعيمها مع كثرة تنوعها دون شجرة واحدة، فما رضيت نفسك بها وما قنعت بها حتى تفرقت في تلك الشجرة، ولو كانت مكانها ألف جنة أخرى لم يكفها، وكانت جهنم حرصا تقول هل من مزيد ولا تملأ حتى يضيع الجبار فيها قدمه، فهنالك تمتلئ وتتردى بعضها إلى بعض وتقول: " قط قط " فافهم جدا.
ومنها: إنه يشير بقوله تعالى: { يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } [البقرة: 35]، إلى أن الجنة مرتع النفس البهيمية الحيوانية، وغاية مطلبها وهمتها ونهاية نهمتها وشهوتها، ولكن فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين { وكلا منها رغدا حيث شئتما } [البقرة: 35]، واقنعا بها واستريحا، ولا توقدا نار الفتنة على أنفسكما، ولا تصبا من قرية الجنة ماء الجنة على رأسكما { ولا تقربا هذه الشجرة } [البقرة: 35] أي: شجرة المحبة قد غرست لأجل آدم عليه السلام على الحقيقة؛ لقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، وإنما نهى عنها لمعنيين:
أحدهما: للعزة والدلال المحبوبي، فإنها من ثمة الحزن وكمالية الجمال.
وثانيهما: نهي التحريض والحث عليها، فإن الإنسان حريص على ما يمنع منه. نقل أن آدم عليه السلام ما أكل من الجنة شيء آخر إلا من هذه الشجرة، ولو لم ينه عنها لعله ما فرغ إليها من كثر أنواع المستلذات النفسانية، وكانت المحبة غذاء روحانيا قد كره منها، وحرضه عليها بنهيه عنها، وهذا كان كحال موسى عليه السلام، فلما أراد الله تعالى أن يشوقه إلى جماله ويبتليه ببلاء طلب الرؤية، ويفتح به هذا الباب على المحبين كلمه تكليما بلا واسطة جبريل عليه السلام لما أسكره بأقداح الكلام، وأذاقه لذة شراب السماع، وقربه اشتياقا إلى جماله وطمع في رؤيته، ورجا وصاله، فلما طمع في رؤيته ألقى جلباب الحياء وقال:
رب أرني
[الأعراف: 143]، ثم تروى برواة الكبرياء، وأتزر بإزار العظمة والعلاء وقال:
لن تراني
[الأعراف: 143]، فكذلك حال آدم عليه السلام خلصه بيده، ونفخ فيه من روحه واسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة في جواره وزوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة كل جميل من جمال الله تعالى، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ودله عليه نهيه ومنعه عنها، وقال: { يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } [البقرة: 35]، إلى { فتكونا من الظلمين } [البقرة: 35]، على أنفسكما باستجلاب محنة المحبة لأن المحبة والمحنة متلازمان، والبلاء والولاء توءمان، والجنة دار السلام والسلامة، فلما ذاقا الشجرة أخرجا من دار السلام فثبتا على زعم الحسود وبيننا حديث كطيب المسك شيب به الخمر، فلما أضاء الصبح فرق بيننا، وأتى نعيم لا تكدره الدهر.
ثم أخبر عن ذلتهما بعد عزتهما بقوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } [البقرة: 36]، والإشارة فيها أن آدم عليه السلام أصبح محمول العناية، مسجود الملائكة، متوجا بتاج الكرامة، ملبسا بلباس السعادة، في وسطه نطاق القربة، وفي جيده طوق الزلفة، لا أحد فوقه في الرتبة ولا شخص معه في الرفعة، يتوالى عليه حلاوة النداء كل لحظة، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء فانقلب العصا، فلم يمس حتى نزع لباسه، وسلب استئناسه تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج بغير مكث ولا بحث { فأزلهما } يد التقدير بحسن التدبير { الشيطان عنها } أي: عن تلك العزة والقرابة، وكان الشيطان المسكين في هذا الأمر كذئب يوسف لما اخذ بالجناية ولطخ فمه بدم كذب، وإخوته قد ألقوه في غيابة الجب، فأخذ الشيطان لعدم العناية ولطخ خرطومه بدم نصح كذب { فأخرجهما مما كانا فيه } من السلامة إلى الملامة، ومن الفرح إلى الترح، ومن النعمة إلى النقمة، ومن المحبة إلى المحنة، ومن القربة إلى الغربة، ومن الألفة إلى الكلفة، ومن الوصلة إلى الفرقة، وكان قبل أكل الشجرة مستأنسا بكل شيء ومؤانسا مع كل أحد، ولذلك سمي إنسانا، فلما ذاق شجرة المحبة استوحش من كل شيء، واتخذ كل أحد عدوا، وهكذا شرط صحة المحبة عداوة ما سوى المحبوب، فكما أن ذات المحبوب لا تقبل الشركة في التعبد كذا لا تقبل الشركة في المحبة، ولهذا قال { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } [البقرة: 36]، وكذا كان حال الخليل في البداية يتعلق بالكوكب والقمر والشمس، ويقول:
هذا ربي
[الأنعام: 76]، فلما ذاق شجرة الخلة قال:
لا أحب الآفلين
[الأنعام: 76]،
إني بريء مما تشركون
[الأنعام: 78]،
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77].
فلما استقرت حبة المحبة كالبذر في قلب آدم وجعل الله شخص آدم مستقر قلبه، وجعل الأرض شخصه وقال: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [البقرة: 36] أي: التمتع والانتفاع ببذر المحبة بماء الطاعة والعبودية إلى حين إدراك ثمرة المعرفة؛ كقوله تعالى:
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها
[إبراهيم: 25].
وعلى التحقيق ما كانت ثمرة شجرة المخلوقات إلا المعرفة؛ لقوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56]، أي: ليعرفون، ثمرة المعرفة - وإن ظهرت على أغصان العبادة - ولكن لا تنبت إلا من حبة المحبة كما أخبر النبي عليه السلام:
" أن داود عليه السلام قال: يا رب لماذا خلقت الخلق؟ قال: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف "
، فثبت أن بذر المعرفة هو المحبة، فاعلم واغتنم لعلك تشم رائحة فتسعد.
ثم أخبر عن أمطار الإلهام من سحاب الفضل والإنعام على أرض قلب آدم لإنبات حبة المحبة، وتميز شجرة المعرفة بقوله تعالى: { فتلقى ءادم من ربه كلمت } [البقرة: 37].
والإشارة في تحقيق الآية: أن أول نبت مطرت أمطار الربانية من حبة المحبة في قلب آدم، وطينة الإنسان كان نبات:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23]؛ لأنه أبصر بنور الإيمان أنه ظالم لنفسه إذا أكل حبة المحبة، ووقع في شبكة المحنة والذلة، وإن لم يعنه ربه بمغفرته، ويفنه برحمته لم يتخلص من حضيض بشريته الذي أهبط إليه، ويخسر رأس مال استعداد السعادات الأزلية، ولم يمكنه الرجوع إلى ذروة مقام القربة فاستغاث إلى ربه وقال مضطرا، وكانت الحكمة في إبعاده بالهبوط والاضطرار، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، فبسابقة العناية أخذ بيده وأفاض عليه بحال رحمته: { فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } [البقرة: 37]، للتائبين فأخرج من آيات الكلمات شجرة الاجتباء، وأظهر على دوحتها زهرة التوبة، وأثمر منها ثمرة الهداية، وهي المعرفة كما قال تعالى:
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
[طه: 122].
ثم أخبر عن سر الهبوط مشروطا بالشروط لقوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعا } [البقرة: 38]، الآيتين والإشارة فيهما: أن الله تعالى لما ابتلى آدم بالهبوط إلى الأرض بشر بأن إلهامه ووحيه بالهدى لا ينقطع عن ذريته هداهم بواسطة أنبيائه ووحيه، وإنزال كتبه { فإما يأتينكم مني هدى } [البقرة: 38]، فمن آتاه منك ومنهم من إلهامي ووحيي ورسولي وكتابي { فمن تبع هداي } [البقرة: 38]، كمن اتبع آدم بالتوبة، والنوح بالبكاء، والاستغفار، وتربية بذر المحبة بالطاعة، والعبودية حتى يثمر التوحيد والرفعة { فلا خوف عليهم } [البقرة: 38]، في المستقبل من وبال إفساد بذر المحبة من طينة الصفات الحيوانية والسبعية، وإبطال استعداد السعادات أبدية باستيفاء التمتعات الدنياوية { ولا هم يحزنون } [البقرة: 38]، على هبوطهم إلى الأرض لتربية بذر المحبة؛ إذ هم راجعوا بتتبع الهداية وجذبات العناية إلى أعلى ذروة حظائر القدس كما قال تعالى:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق: 8]، ثم ذكر من كفر بهداه وجعل النار سواه، وقال { الذين كفروا } [البقرة: 39]، أي: ستروا بذر المحبة بتعلقات الشهوات النفسانية، وظلموا أنفسهم بتكذيب الآيات البينات من الجهالة الإنسانية متى أفسدوا الاستعداد الفطري { وكذبوا بآيتنآ } [البقرة: 39]، على معجزات أنبيائنا بالوحي والإلهام والرشد في تربية بذر المحبة، وتثمير الشجرة الإنسانية بثمار التوحيد والمعرفة والبلوغ إلى درجات القربات، ونعيم الجنان والغرفات { أولئك أصحب النار } [البقرة: 39]، نار جهنم ونار القطيعة { هم فيها خلدون } [البقرة: 39]؛ لأنهم خلدوا في أرض الطبيعة، واتبعوا أهواءهم فما نبت بذر محبتهم بماء الشريعة؛ فبقوا بإفساد استعدادهم في دركات نار الجحيم وخسران النعيم خالدين مخلدين.
ثم أخبر عن اختصاص بني إسرائيل ووعودهم بلسان النعيم وعهودهم بقوله تعالى: { يبني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [البقرة: 40]، من النعمة الظاهرة والباطنة.
فالظاهرة: نعمة الوجود والصحة والرزق وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب، وإظهار الدلائل والمعجزات.
والباطنة: إخراج ذراتكم من صلب آدم وتسميعكم خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، وتوفيقكم لجواب { بلى } واستعدادكم للعقل، وهدايتكم للإيمان عليكم وآبائكم { وأوفوا بعهدي } [البقرة: 40]، الذي آخذت منكم يوم الميثاق على التوحيد وإخلاص من العبودية { أوف بعهدكم } [البقرة: 40]، وهو الهداية إلى الصراط المستقيم، وفيه معنى آخر وهو: أوفوا بعهدي الذي خصصت بالإنسان دون الخلق - وهو محبتهم إياي - أوف بعهدكم الذي خصصتكم به، وهو محبتي إياكم، كما قال تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، { وإيي فارهبون } [البقرة: 40]، أي: فإن أحببتم غيري؛ فأرهبوا من فوات حظكم من قربتي ومحبتي وشهود جمالي، وكشف أسراري، ودقائق معرفتي، وحقائق وصلتي.
[2.41-45]
ثم أخبر عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل عليه حذر الفوات تلك السعادة؛ لقوله تعالى: { وآمنوا بمآ أنزلت } [البقرة: 41].
والإشارة فيها: أن الله تعالى أمرهم بالإيمان بالقرآن وبمن أنزل عليه القرآن، وهو محمد صلى الله عليه وسلم { مصدقا لما معكم } [البقرة: 41]، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، والقرآن مصدق ومقرر لما معكم من التوراة، والإيمان بموسى عليه السلام { ولا تكونوا أول كافر به } [البقرة: 41]، أول من يجحده ويسن سنة الكفر، فإن وزر المقتدي يكون على المبتدي كما يكون على المقتدي { ولا تشتروا بآيتي } [البقرة: 41]، من كشف الحقائق والأسرار والمشاهدات والأنوار { ثمنا قليلا } [البقرة: 41]. من مشارب النفس؛ يعني: الذي يرى المؤمنين في الآفاق وفي أنفسهم بالالتفات إلى حركات ومعاملات توجب الحجب والأستار بالركون إلى شيء من الأحوال والمقامات، فتقطعوا طريق ظهور الحق والوصول إليه على أنفسكم بالاختيار { وإيي فاتقون } [البقرة: 41] أي: اتقوا بي مني وفروا إلي مني لتسلموا من مكري وقهري وكيد أنفسكم وضلالتها.
ثم أخبر عن تأكيد الاتقاء وترك الاشتراء بقوله تعالى: { ولا تلبسوا الحق بالبطل } [البقرة: 42]، الآيتين والإشارة في تحقيق الآيتين أي: لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بما سوى الله تعالى كما قال صلى الله عليه سلم قال:
" إن أصدق ما قالته العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".
{ وتكتموا الحق } [البقرة: 42] أي: ولا تكتموا الحق بالتفاتكم إلى غير الله { وأنتم تعلمون } [البقرة: 42]، أنه ليس لغير الله وجود حقيقي { وأقيموا الصلوة } [البقرة: 43]، بمراقبة القلوب وملازمة الخضوع والخشوع، { وآتوا الزكوة } [البقرة: 43]، وأصل الزكاة الطهارة والنماء والزيادة أي: بالغوا في تزكية النفس عن الحرص الدنيوي والأخلاق الذميمة وتطهير القلب عن رؤية السيئة، وترك مطالبة ما سوى الله فإنه مع طلب الحق زيادة والزيادة على الكمال نقصان { واركعوا مع الركعين } [البقرة: 43] أي: اقتدوا مع الانكسار ونفي الوجود بالمنكسرين الباذلين الوجود لنيل الجود.
ثم أخبر عن فريق منهم بقوله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [البقرة: 44]، والإشارة فيها أنها شاملة لمن يحرض الناس على طلب الحق ومعاملة الصدق ويحذرهم الدنيا والهوى وينبئهم عن آفاتها، وهو تباعد عن ذلك، ولا ينتهي بنفسه مثل العلماء السوء والملتبسين الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ولا ينتهون عنه، { وأنتم تتلون الكتب } [البقرة: 44] أي: تقرؤون القرآن { أفلا تعقلون } [البقرة: 44]، معناه ولا تفهمون فحواه كي تنتهوا عن أفعالكم الردية وتعملوا بأقوالكم السنية.
ثم أخبر عما يخرجهم إلى الحق وترك الباطل بقوله تعالى: { واستعينوا } [البقرة: 45]، والإشارة فيها أن قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر } [البقرة: 45]، عن شهوات النفس ومتابعة هواها { والصلوة } [البقرة: 45] أي: دوام الوقوف والتزام العكوف على باب الغيب وحضرة الرب، { وإنها } [البقرة: 45] أي: الاستعانة بهما { لكبيرة } [البقرة: 45]، أمر عظيم وشأن صعب { إلا على الخشعين } [البقرة: 45]، وهم الذين تجلى الحق لأسرارهم فخشعت لأنفسهم كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا تجلى الله لشيء خضع له ".
[2.46-51]
وقال تعالى:
وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا
[طه: 108] فالتجلي يورث الألفة مع الحق ويسقط الكلفة عن الخلق، { الذين يظنون } [البقرة: 46] أي: يوقنون بنور التجلي { أنهم ملقوا ربهم } [البقرة: 46]، أنهم يشاهدون كمال الحق، { وأنهم إليه رجعون } [البقرة: 46]، بجذبات الحق الذي جذبه منها توازي عمل الثقلين.
ثم أخبر عن تأكيد ذكر النعمة لتجديد المنة بقوله تعالى: { يبني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [البقرة: 47]، والإشارة في تحقيق الآية أن الخطاب في قوله تعالى: { يبني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [البقرة: 47]، ظاهره عام وباطنه خاص مع قوم منهم قد علم الله فيهم خيرا، فأسمعهم خطابه في السر، فذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليهم، وهي استعداد قبولهم رشاش نوره يوم خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من خاصة قبول ذلك الرشاش كما قال صلى الله عليه وسلم:
" فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل ".
{ وأني فضلتكم على العلمين } [البقرة: 47] أي: بهذه النعمة عند رش النور على من لم يصبهم ذلك النور مع العالمين { واتقوا يوما } [البقرة: 48] أي: عذاب يوم يخوف الله العام بأفعاله، كما قال تعالى: { واتقوا } [البقرة: 48]، ويخوف الخاص بصفاته كقوله تعالى:
أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون
[النحل: 23]، وقوله تعالى:
ليسأل الصادقين عن صدقهم
[الأحزاب: 8]، ويخوف خاص الخاص بذاته لقوله تعالى:
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران: 28]، وقوله تعالى:
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران: 102].
{ لا تجزي نفس عن نفس شيئا } [البقرة: 48]،
والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 19] { ولا يقبل منها شفعة } [البقرة: 48]، في حق نفسها ولا في حق غيرها بغير الإذن، كقوله تعالى:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة: 255]، { ولا يؤخذ منها عدل } [البقرة: 48] أي: عدل لأنه
ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى
[النجم: 39-40]، والسعي المشكور إنما يكون هاهنا { ولا هم ينصرون } [البقرة: 48]، لأنهم ما نصروا الحق هاهنا وقد قال تعالى:
إن تنصروا الله ينصركم
[محمد: 7].
ثم أخبر عن أنواع نعمته وأصناف كرمه معهم بقوله تعالى: { وإذ نجينكم من آل فرعون } [البقرة: 49]، والإشارة فيها أن النجاة من آل فرعون النفس الأمارة بالسوء، وهي صفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة في يوم: { يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم } [البقرة: 49]، الروح والقلب بذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة، واستحياء نساء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية لا تكن إلا بتنجية الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لا ينجي أحدكم عمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته "
{ وفي ذلكم } [البقرة: 49] أي: في استيلاء صفات النفس على القلب والروح { بلاء من ربكم عظيم } [البقرة: 49]، في الخير والشر فمن يهدي الله ويصلح باله حتى يرجع إلى الله تعالى في طلب النجاة فينجيه الله تعالى ويهلك عدوه، ومن يضلله يخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا، فيرديه الله تعالى ويغلب عدوه.
ثم أخبر تعالى عن نعمته العظمى تارة بعد أخرى بقوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر } [البقرة: 50]، والإشارة فيها أن البحر هو الدنيا، ماؤه شهواتها ولذاتها وموسى هو القلب وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة، وقومه صفات النفس وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلونهم، وهم سائرون إلى الله تعالى من العدو وهم خلفهم وبحر الدنيا أمامهم، ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من العبور على البحر، ولو يخوضون البحر بلا ضرب عصا، " لا إله إلا الله " على يد موسى القلب، فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن، لغرقوا كما غرق فرعون وقومه، ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم يكن لها معجزة انفلاق البحر، فلما أن ضرب موسى القلب بعصا الذكر بإذن الله تعالى مرة بعد أخرى ينفلق بحر الدنيا بنفي لا إله، ويتفرق ماء شهواته يمينا وشمالا ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا، فيصير يابسا من ماء الشهوات، فيخوض موسى القلب وصفاته، فيتجاوزون وتنجيهم عناية: " إلا الله " إلى ساحل:
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم: 42] وقيل لفرعون النفس:
أغرقوا فأدخلوا نارا
[نوح: 25]، فافهم جدا،
" فإن للقرآن ظهرا وبطنا ".
ثم أخبر بعد العبور عن ميعاد الحصول في ميقات القرب والوصول بقوله تعالى: { وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة } [البقرة: 51]، الإشارة فيها معنيان: عدد الأربعين في الميعاد لاختصاصه في الكمالية ذلك؛ لأن مراتب الأعداد أربع الآحاد والعشرات والمئات والألوف، والعشرة عدد في نفسها كاملة لقوله تعالى:
تلك عشرة كاملة
[البقرة: 196]، وإذا ضعفت العشرة أربع مرات، وهو أكمل مراتب الأعداد يكون أربعين، وهو كمال الكمال، وهو عدد أيام تخمير طينة آدم عليه السلام لقوله تعالى:
" خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا "
فللأربعين خاصية وتأثير لا توجد في غيرها من الأعداد .
كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال:
" حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك... " "
الحديث كما أن انعقاد الطلسم الجسماني على وجه الكنز الروحاني كان مخصوصا بالأربعين، كذلك يكون انحلاله باختصاص الأربعين
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23].
ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه "
وإنما اختصاص الليل بالذكر في قوله: { أربعين ليلة } فلمعنيين:
أحدهما: أن لليل خصوصيته في التعبد والتقرب لقوله صلى الله عليه وسلم:
" أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل "
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا... " "
الحديث، ولهذا المعنى قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
ومن الليل فتهجد به نافلة لك
[الإسراء: 79]، وقال تعالى:
سبحان الذى أسرى بعبده ليلا
[الإسراء: 1].
والآخر: أنه لو ذكر اليوم دون الليل لظن موسى عليه السلام أنه موعود بالتعبد في النهار دون الليل، وإنما الليل جعل للاستراحة والسكون لقوله تعالى:
هو الذي جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا
[يونس: 67]، فلما اختص الليل بالذكر علم موسى عليه السلام أن التعبد في الليل والنهار جميعا.
ثم أخبر عن نعمة عفوه عنهم مع ما يصدر من المظالم منهم بقوله تعالى:
ثم عفونا عنكم
[البقرة: 52]، والإشارة فيها أن الله تعالى لما أراد أن يخرج جوهر الشكورية التي هي من صفات الربانية من معدن الإنسانية أنعم عليهم بإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة.
فمن نعمه الظاهرة: ما ذكر في الآيات السابقة بقوله تعالى:
يبني إسرائيل اذكروا
[البقرة: 40].
[2.52-57]
ومن نعمه الباطنة: ما ذكر في قوله تعالى: { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } [البقرة: 52] أي: من بعد عبادتكم العجل { لعلكم تشكرون } [البقرة: 52]، والشكر على ثلاثة أوجه: شكر بالأقوال، وشكر بالأعمال، وشكر بالأحوال.
فشكر الأقوال : أن يتحدث بالنعم مع نفسه إسرارا ومع غيره إظهارا ومع ربه افتقارا، كما قال تعالى:
وأما بنعمة ربك فحدث
[الضحى: 11]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" التحدث بالنعم شكر ".
وشكر الأعمال: أن يعرف نعمة الله تعالى في طاعته ولا يعصيه بها، ويتدارك ما فاته من الطاعات وبادر من المعاصي؛ لقوله تعالى:
اعملوا آل داوود شكرا
[سبأ: 13].
وشكر الأحوال: أن يتجلى المنعم بالصفة الشكورية على سر العبد، فلا يرى إلا المنعم في النعمة والشكور في الشكر، ويرى المنعم في النعمة من المنعم، والشكر في الشكر والشكر من الشكور، ويرى وجوده وشكر النعمتين من نعم المنعم ورؤية النعمة، فتكون نعمة وجوده مرآة جمال المنعم، ويكون شكره مرآة جمال الشكور، ورؤية النعمة والمنعم نعمة أخرى إلى غير نهاية، فيعلم ألا يقوم بأداء شكره ولا يشكره إلا الشكور
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور
[الشورى: 23].
ثم أخبر عن إيتاء الكتاب أنها نعمة أخرى في هذا الباب بقوله تعالى: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون } [البقرة: 53]، والإشارة فيها أن الله تعالى آتى لموسى الكتاب وهي التوراة والفرقان وهو نور النبوة والحكمة يؤتيها الله تعالى أنبياءه مع الكتاب، فيفرقون بها بين الحق والباطل للأمة، ويبينون بها الكتاب، ويعلمهم الحكمة لقوله تعالى:
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة
[الأنعام: 89]، وقوله تعالى:
ويعلمكم الكتاب والحكمة
[البقرة: 151]، قال صلى الله عليه وسلم:
" أوتيت القرآن ومثله معه "
، { لعلكم تهتدون } لكي تهتدوا بنور الكتاب ونور حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن موعظته إلى التوبة الحقيقية، وهي الرجوع إلى الله تعالى بقتل النفس الأمارة التي تعبد عجل الهوى؛ كيلا يحتاجوا إلى قتل النفس في الصورة. فلما لم يهتدوا إلى هذه التوبة بالتعريض، أمرهم بالتصريح بقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه } [البقرة: 54]، والإشارة فيها أن لكل قوم عجلا يعبدونه من دون الله؛ قوم يعبدون عجل الدرهم والدينار قال صلى الله عليه وسلم:
" تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة "
، وقوم يعبدون عجل الشهوات، وقوم يعبدون عجل الجاه، وعجل الهوى وهذه بغضها الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم:
" ما عبد إله أبغض على الله من الهوى ".
وقال تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية: 23]، فأرسل الله تعالى نبيه موسى قلب كل سعيد لقوله تعالى: { يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } [البقرة: 54]، ارجعوا إلى الله تعالى بالخروج عما سواه، ولا يمكنكم إلا بقتل النفس { فاقتلوا أنفسكم } [البقرة: 54]، بقمع الهوى لأن الهوى هو حياة، وبالهوى عبد ما عبد من دون الله على الحقيقة، وبالهوى ادعى فرعون الربوبية، وعبد بنو إسرائيل العجل، وبالهوى أبى واستكبر إبليس، وبه أكل آدم من الشجر، وبه عبدت الكواكب والأصنام.
وفيه معنى آخر: { فتوبوا إلى بارئكم } ارجعوا إليه للاستنصار على قتل النفس بنهيها عن هواها، فاقتلوا أنفسكم بنصر الله وعونه، فإن قتل النفس في الظاهر تيسر للمؤمنين والكافرين، وأما قتل النفس في الباطن وقهر ما قهر صعب لا يتيسر إلا خواص الحق بسيف الصدق ونصر الحق، ولهذا جعل مرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء بقوله تعالى:
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين
[النساء: 69].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من غزو يقول:
" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "
وذلك لأن المجاهد إذا قتل سيف الكفار يستريح من النصب والتعب بمرة واحدة، وإذا قتل بسيف الصدق في يوم ألف مرة تحيى نفسه على بصيرة أخرى وتزداد في مكرها وخداعها وحيلها، فلا يستريح المجاهد طرفة من جهادها، ولا يأمن مكرها. وبالحقيقة: النفس صورة مكر الحق
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
[الأعراف: 99].
{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } [البقرة: 54] يعني: قتل النفس بسيف الصدق ألف مرة خير لكم؛ لأن بكل قتلة رفعة درجة لكم عند بارئكم، فأنتم تقربون إلى الله تعالى بقتل النفس وقمع الهوى وهو يتقرب إليكم بالتوفيق للتوبة والرحمة عليكم، كما قال تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، وذلك قوله تعالى: { فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم } [البقرة: 54]، أخبر عن سوء أعمالهم بمقالهم في قوله تعالى: { وإذ قلتم يموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [البقرة: 55]، الآيتين، الإشارة فيهما أن مطالبة الرؤية جهرة هي تعرض مطالعة الذات المقدسة، فتوجب سوء الأدب وترك الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقاوة، فمن سطوات العظمة والعزة أخذتهم الرجفة والصعقة إظهارا للعدل، ثم من سنة الكرم قاصد عليهم بحال النعم إسبالا للستر على هيئات العبيد والخدم فقال: { فأخذتكم الصعقة وأنتم تنظرون } [البقرة: 55]، { ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } [البقرة: 56]، إظهارا للفضل.
ثم أخبر عن نتائج الكرم بأنواع النعم بقوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى } [البقرة: 57]، والإشارة: لما ابتلاهم بألسنة العزة وأدبهم بسوط القوة، أدركهم بالرحمة في وسطة الكربة، فأكرمهم بالإنعام وظللهم بالغمام ومن عليهم بالمن وسلاهم بالسلوى، فما ازدادوا بشؤم الطبيعة ولؤم الوقيعة إلا في البلوى، كما قيل: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 57]، بأمر الشرع { وما ظلمونا } [البقرة: 57]، إذ تصرفوا فيها بالطبع { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [البقرة: 57]، بالحرص على الدنيا ومتابعة الهوى.
[2.58-63]
ثم أخبر عن خروجهم من تيه البلاء ودخولهم قرية الابتلاء لقوله تعالى: { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } [البقرة: 58]، الآيتين والإشارة فيهما: أن الله تعالى لما علم من طينة الإنسان أن الأفعال والأقوال الطبيعية تنبت وتقوي ظلمة البشرية، وتزيد في حجب الروح العلوي أمرهم بالأفعال والأقوال الشرعية التي مودعة فيهما أنوار الشرع؛ لتكون مزيلة لتلك الظلمات الطبيعية، فلما أراد بنو إسرائيل أن يدخلوا قرية ويأكلوا من ثمارها وهذه القرية { فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا } [البقرة: 58] ليكون سجودكم مكفرا لخطايا أعمالكم الطبيعية { وقولوا حطة نغفر لكم خطيكم وسنزيد المحسنين } [البقرة: 58]، الذين يطيعوننا في أنوار إيمانهم وإحسانهم.
فلما أخبر بنو إسرائيل سوء أفعالهم وبدلوا ما أمروا من مقالهم وظلموا على أنفسهم بأعمالهم وأقوالهم، { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا } [البقرة: 59]، بالقول والعمل { رجزا من السمآء } [البقرة: 59]، عذابا مهلكا في الدنيا وحجابا مبعدا في الآخرة { بما كانوا يفسقون } [البقرة: 59]، عن أمر ربهم ويتبعون أهواء أنفسهم، كذا من لم يعرف قدر النعماء يقرع باب البلاء لتجري عليه أحكام القضاء فامتحن بأنواع المحن والوباء.
ثم أخبر عن إتمام النعماء بإجابة الدعاء عند الاستسقاء بقوله تعالى: { وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر } [البقرة: 60]، والإشارة فيها أن الروح الإنساني وصفاته في عالم الغيب بمثابة موسى وقومه وهو يستسقي ربه ليرويها من ماء الحكمة والمعرفة، وهو مأمور بضرب عصا " لا إله إلا الله " ، ولها شعبتان من النفي والإثبات، فتتقدان نورا عند استيلاء ظلمات صفات النفس، وقد حمل من جنة حضرة العزة على حجر القلب الذي كالحجارة أو أشد قسوة، { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } [البقرة: 60]، من ماء الحكمة لأن كلمة: " لا إله إلا الله " اثنا عشر حرفا كل حرف عين { قد علم كل أناس مشربهم } [البقرة: 60]، سبط من أسباط الصفاء الإنساني، وهم اثنا عشر سبطا من الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة والقلب والنفس، ولكل واحد حيث ساقه سائقه، وقاده قائده، فمشرب عذب فرات ومشرب ملح أجاج؛ فالنفوس ترد مناهل المنى والشهوات، والقلوب تشرب من مشارب النفي والطاعات والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي
وسقاهم ربهم شرابا طهورا
[الإنسان: 21] والخطي بخطى الاضمحلال في حقيقة الذات.
{ كلوا واشربوا } [البقرة: 60]، كل واحد منكم { من رزق الله } [البقرة: 60]، بأمره ورضاه، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [البقرة: 60]، ترك الأمر واختيار الغرور، وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على الآخرة واختيارها على المولى.
ثم أخبر عن علامة نفس الإنسان وخستها ودناءة سمتها بقوله تعالى: { وإذ قلتم يموسى لن نصبر على طعام واحد } [البقرة: 61]، والإشارة فيها أنه هكذا حال من لم يرض بقضائه، ولم يشكر على نعمائه، ولم يصبر على بلائه يكله إلى نفسه بالخذلان، ويرده إلى مقاساة الذل والهوى فيلقي جلباب الحياء، ويقطع حبل الوفاء بسكين الجفاء، ويبيح سفك دماء الأنبياء.
روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لقد كانت بنو إسرائيل تقتل في الغداة الواحدة ثلاثمائة نبي، ثم يقوم سوق بقتلهم من آخر النهار، وما يكترثون بقتلهم، منهم من كان يأمر بالحق فينشر بالمنشار، ومنهم من كان يرجم "
ويقال: كان بنو إسرائيل متفرقي الهموم ومشتتي المقصود، ولم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد ولم يكتفوا في تدينهم بمعبود واحد، حتى قالوا لموسى عليه السلام لما رأوا قوما ما يعبدون الصنم:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138] هكذا صفة أرباب التفرقة يجدون الصبر مع الواحد شديد، قال الله تعالى:
وإذا ذكرت ربك في القرءان
[الإسراء: 46]،
وحده ولوا على أدبرهم نفورا
[الإسراء: 46] فكما أن بني إسرائيل لم يصبروا على طعام واحد كان ينزل عليهم من السماء، وقال لموسى عليه السلام من خساسة طبعهم وركاكة عقلهم: { فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض } [البقرة: 61]، كذلك نفس الإنسان من خسة طينتها ودناءة همتها لم تصبر على طعام واحد يطعمها الرب الواحد واردات الغيب وإلهامات الرب، كما كان يصبر نفس النبي صلى الله عليه وسلم ويقول:
" لست كأحدكم فإني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
بل تقول لموسى القلب: { فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت } أرض البشرية { من بقلها } [البقرة: 61]، الشهوات الحيوانية { وقثآئها } [البقرة: 61]، اللذات الجسمانية.
{ قال أتستبدلون الذي هو أدنى } [البقرة: 61]، من البقول الدنيوية الفانية { بالذي هو خير } [البقرة: 61]، أي: الباقيات الأخروية التي خير عند ربك { اهبطوا مصرا } [البقرة: 61]، القالب السفلي من مقامات الروح العلوي { فإن لكم ما سألتم } [البقرة: 61]، من المطالب الدنيوية والمقاصد الردية.
{ وضربت عليهم الذلة والمسكنة } [البقرة: 61]، كالبهائم والأنعام بل هم أضل سبيلا؛ لأنهم { وبآءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } [البقرة: 61]، من الواردات الغيبية والمكاشفات الروحية ويئسوا منها وطلبوا غيرها { ويقتلون النبيين بغير الحق } [البقرة: 61] أي: يتركون ما يفتح الله لهم من أنباء الغيب في مقام الأنبياء إضرارا بهم { ذلك } [البقرة: 61] يعني: حصول هذه المقامات، { بما عصوا } [البقرة: 61]، ربهم في نقض العهد وتبدل المجهود في طاعة المقصود { وكانوا يعتدون } [البقرة: 61]، من طلب الحق في مطالبة ما سواه.
ثم أخبر عن حال أهل السلامة من ثبت منهم على الاستقامة بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [البقرة: 62]، والإشارة فيها بقول تعالى: { إن الذين آمنوا } [البقرة: 62]، من مدعي الإسلام وغيرهم { والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } [البقرة: 62] يعني: كان نور الله نور قلبه حتى آمن بذلك النور، كما قال تعالى:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق "
، كذلك هاهنا من آمن بالله من جملة المذكورين فبي يؤمن لا بالتقليد والرسم والعادة والاقتداء بالآباء وأهل البلد { فلهم أجرهم } [البقرة: 62] أي: ثوابهم وجزاؤهم { عند ربهم } [البقرة: 62] أي: مقام العندية والوصول، { ولا خوف عليهم } [البقرة: 62]، من حجب الأنانية { ولا هم يحزنون } [البقرة: 62]، بالأنانية لأن بها ينقطع الطالب عن المطلوب ويحتجب المحب عن المحبوب، ولذلك قال تعالى:
ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62]، لأن الولي من أخرجه الله من ظلمات الأنانية والاثنينية إلى نور الوحدة والهوية، كما قال تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، فافهم جدا.
وفيه معنى آخر { من آمن بالله واليوم الآخر } [البقرة: 62]، بمعنى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وعمل صالحا للقبول، فمعناه عمل على متابعة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من يعمل على غير متابعة دين الإسلام لم يكن عمله صالحا للقبول، ويدل عليه قوله تعالى:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران: 85].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو أدركني عيسى ابن مريم ثم لم يدخل شريعتي ومنهاج ديني لأكبه الله على وجهه في النار "
، ما استغنى [بنبوته] فكيف أنتم: { فلهم أجرهم عند ربهم } [البقرة: 62]، لا عند غيره من الجنة والنار { ولا خوف عليهم } [البقرة: 62]، فيما يرجعون إليه { ولا هم يحزنون } [البقرة: 62]، على ما كانوا عليه، أو جعلهم الله من المقبولين له.
ثم أخبر عن الميثاق عنهم وأن آبائهم عند رفع الطور فوقهم لابتلائهم بقوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } [البقرة: 63]، إلى قوله:
وموعظة للمتقين
[البقرة: 66] والإشارة فيها أن أخذ الميثاق كان عاما في عهد
ألست بربكم
[الأعراف: 172] ولكن قوما أجابوه شوقا وقلقا، وقوما أجابوه خوفا وفرقا، ليتحقق أن الأمر بيد الله في كلتا الحالتين، يسمع خطابه من يشاء موجبا للهداية ويسمع من يشاء موجبا للضلالة، فإنه لا برهان أظهر من رفع الطور عيانا، فلما أوبقهم الخذلان لم يكن ينفعهم البرهان والعيان في قوله تعالى: { خذوا مآ ءاتينكم بقوة } [البقرة: 63]، إشارة إلى أن أخذ ما يؤتي الله تعالى من الأوامر والنواهي وسائر الطاعات والعلوم وغير ذلك لا يمكن بقوة الإنسانية إلا بقوة ربانية وتأييد إلهي كما كان في حق يحيى عليه السلام قوله تعالى:
ييحيى خذ الكتاب بقوة
[مريم: 12]، ربانية لأنه كما كان في حال صباه، ولم يكن له قوة نفسانية لقوله تعالى:
وآتيناه الحكم صبيا
[مريم: 12].
{ واذكروا ما فيه } [البقرة: 63] أي: في كتاب الله تعالى من الرموز والإشارات والدقائق والحقائق { لعلكم تتقون } [البقرة: 63]، بالله عما سواه { ثم توليتم من بعد ذلك } [البقرة: 64] أي: أعرضتم عن طريق الاتباع للشريعة لاستيلاء القوة الطبيعية، وبعد أخذ الميثاق وسلوك طريق الوفاء ابتلاء من الله تعالى.
[2.64-68]
{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته } [البقرة: 64]، وهو سبق العناية في البداية وتوفيق أخذ الميثاق بالقوة في الوسط، وقبول التوبة وتوفيقها والثبات عليها في النهاية، { لكنتم من الخاسرين } [البقرة: 64]، المصرين على العصيان المغبونين بالعقوبة والخسران، والمبتلين بذهاب الدنيا والعقبى ونكال الآخرة والأولى، كما كان حال المصرين منكم والمعتدين بقوله تعالى: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } [البقرة: 65]، بالخذلان وتقديم العصيان { فقلنا لهم } [البقرة: 65]، قهرا وفرا { كونوا قردة } [البقرة: 65]، أمرا منا وحكما جزما { خاسئين } [البقرة: 65]، مردودين إلى دركات الحيوانات والسبعيات.
{ فجعلناها نكالا } [البقرة: 66]، فضيحة وغيره { لما بين يديها } [البقرة: 66]، لمن تكون في زمانهم وعهدهم { وما خلفها } [البقرة: 66]، ومن يكون بعد زمانهم إلى يوم القيامة فيعتبرون ويتعظون بهم المؤمنون المتقون عن البلايا بالرجوع إلى الحق عند الابتلاء.
كما قال تعالى: { وموعظة للمتقين } [البقرة: 66]، فهذا البلاء والخسران جزاء فمن لم يعرف قدر الإحسان ويكافئ النعم بالكفران يرد من عزة الوصال إلى ذل الهجران ورسوم الصدود والخذلان، وكانت عقوبة الأمم بالمسخ والخسف على الأجساد، وهذه الأمة بالخسف والمسخ على القلوب، وعقوبات القلوب أشد من عقوبات النفوس، قال الله تعالى:
ونقلب أفئدتهم وأبصرهم
[الأنعام: 110]، هكذا حال من لم يتأدب في خدمة الملوك ينخرط في إيتاء السلوك، ومن لم يتخط بساط القربة بقدم الحرقة يستوجب الحرمان ويستجلب الخسران ويبتلى بسياسة السلطان.
ثم أخبر عن ابتلائهم بذبح البقرة إظهارا لسر القدرة بقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } [البقرة: 67]، إلى قوله
وما كادوا يفعلون
[البقرة: 71] والإشارة في تحقيق الآيات الخمس في قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } [البقرة: 67]، إشارة إلى ذبح بقرة النفس البهيمية، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني، وهذا هو الجهاد الأكبر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بقوله:
" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "
، ويقوله للمجاهد نفسه، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" موتوا قبل أن تموتوا "
، أيضا إشارة إلى هذا المعنى.
{ قالوا أتتخذنا هزوا } [البقرة: 67] أي: تستهزئ بنا في ذبح النفس وليس هذا من شأن كل ذي نفس دنية { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة: 67]، الذين يظنون أن ذبح النفس أمر هين ويستبعد له كل تابع الهوى وعابد الدنيا { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } [البقرة: 68]، أن يبين { إنها بقرة } [البقرة: 68]، نفس تصلح للذبح بسيف الصدق فإشارة إلى بقرة نفس { لا فارض } [البقرة: 68]، في سن الشيخوخة متعجزا عن سلوك الطريق لضعف المشيب وحملا لقوى النفسانية، كما قال بعض المشايخ: الصوفي بعد الأربعين نادر.
{ ولا بكر } [البقرة: 68]، في سن الشباب فإنه بشهوته سكره { عوان بين ذلك } [البقرة: 68] أي: عند كمال العقل والكهولة تعبد الشيخوخة، وتجنن رعونة الشباب كقوله تعالى:
حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
[الأحقاف: 15]، { فافعلوا ما تؤمرون } [البقرة: 68]، فإنكم إذا تقربتم إلى الله تعالى بما أمرتم فإن الله يتقرب إليكم بما وعدتم ، فإنه لا يضيع أجر من أحسن عملا في الشيب والشباب.
[2.69-74]
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } [البقرة: 69] يعني: لون بقرة نفس تصلح للذبح في الجهاد { قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها } [البقرة: 69] يعني: صفرة زين لا صفرة شين كما هي سيما الصالحين { تسر الناظرين } [البقرة: 69]، من نظر إليها يشاهدها في غرتهم، قد ألبست من آثر الطاعات ويطالع من طلعتهم أثار شواهد
سيماهم في وجوههم من أثر السجود
[الفتح: 29] وقوله عليه صلى الله عليه وسلم:
" أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله ".
{ إن البقر تشابه علينا } [البقرة: 70]، إشارة إلى كثرة تشبه الباطلين بزي الطالبين وكسوتهم وهيئاتهم { وإنآ إن شآء الله لمهتدون } [البقرة: 70]، إلى الصادق منهم فالاهتداء يتعلق بمشيئة الله تعالى وبدلالته، كما كان حال موسى والخضر - عليهما السلام - فلو لم يدل الله موسى عليه السلام لما وجده قوله تعالى: { قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض } [البقرة: 71]، إشارة إلى نفس الطالب الصادق التي لا تحتمل الذلة بأن تثير بآلة الحرص أرض الدنيا بطلب زخارفها، وتتبع هوى النفس وشهواتها، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" عز من قنع وذل من طمع "
وقال:
" ليس للمؤمن أن يذل نفسه ".
{ ولا تسقي الحرث } [البقرة: 71]، حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وعند الحق، كقوله تعالى:
ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20] { مسلمة لا شية فيها } [البقرة: 71] أي: نفس مسلمة من آفات صفاتها مستسلمة لأحكام ربها ليس فيها غير الله ولا مقصد لها إلا الله، كما وصفهم الله تعالى بقوله:
للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله
[البقرة: 273] إلى
إلحافا
[البقرة: 273] قوله تعالى: { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [البقرة: 71].
ثم أخبر عن قتلهم القتيل وإحياء القتيل بقوله تعالى: { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها } [البقرة: 72]، الآيتين والإشارة في تحقيقهم: أن قوله تعالى: { وإذ قتلتم نفسا } فيها إشارة إلى قتل النفس، وإن القتيل هو القلب الروحاني، وإن إحياءه في قتل النفس البهيمية، كما قال قائلهم:
أقتلوني يا ثقاتي
إن قتلي حياتي
وكما أشار بعضهم:
سر بالإرادة تحيى بالطبيعة
أو مت بالطبيعة تحيي بالحقيقة
{ فادارأتم فيها } فشككتم واختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أم من النفس الأمارة بالسوء.
{ والله مخرج ما كنتم تكتمون } [البقرة: 72]، بإحالة النفس إلى الشيطان ومكرها إلى الدنيا وزينتها والشيطان والدنيا يخيلان إلى النفس الأمارة وهواها { فقلنا اضربوه ببعضها } [البقرة: 73]، وكما أن الله تعالى أراد أن يحيي قتيلهم ليفصح بالشهادة على قاتله أمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيى فيخبر بقاتله فكذلك إذا أراد الله أن يحيي قتيل قلب الإنسان أمر بقتل حيوان النفس بسيف المجاهدات ليحيى قتيل قلبه بأنوار الشهادات كقوله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122].
وكما أن البقرة بعد ذبحها ضرب على القتيل قام بإذن الله تعالى، وقال: قتلني فلان، كذلك من ضرب لسان النفس المذبوح بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر يحيي الله قلبه بنوره فيقول،
ومآ أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53].
{ كذلك يحيي الله الموتى } [البقرة: 73]، يحيي الله الأجساد في الآخرة والقلوب في الدنيا، { ويريكم آياته } [البقرة: 73]، دلالة مع الخواص وبراهينه مع أخص الخواص، كما قال تعالى في خواص المؤمنين
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، وقال في يوسف عليه السلام وهو أخص الخواص:
وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف: 24] { لعلكم تعقلون } [البقرة: 73]، فأثبت الله تعالى العقل لمن كان مستعدا لرؤية آياته باستحقاق إرادة الله تعالى آياته لا برؤية نفسه، فإن العقل الحقيقي هو المستفاد من أنوار مواهب الله تعالى، كما قال تعالى:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40]، وقال في الذين لهم عقل المعاش دون المستفاد:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون
[البقرة: 18].
ثم أخبر عن أهل هذه الشقاوة ووصفهم بالقساوة بقوله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } [البقرة: 74]، والإشارة في تحقيق الآية أن اليهود وإن شاهدوا عظيم الآيات، وطالعوا واضح البينات فحين لم تساعدهم العناية ولم توافقهم الهداية لم تزدهم كثرة الآيات إلا قسوة على قسوة، ولم تنزلهم من مكامن التقدير إلا شقوة على شقوة، وذلك لأن الله تعالى أراهم الآيات الظاهرة فرأوها بنظر الحس، ولم يرهم البرهان الذي يراه القلب فيعجزهم عن التكذيب والإنكار، يدل عليه قوله تعالى:
وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف: 24].
وسئل الحسن ابن منصور رحمه الله عن البرهان فقال: البرهان واردات ترد على القلوب تعجز النفوس عن تكذيبها، فهكذا حال بعض المغرورين الممكورين من يدعي الطلب إذا لم يكن لهم شيخ كامل واصل حين شرعوا في الرياضة وأخذوا في المجاهدات بترك اللذات والشهوات يلوح لهم من صفاء الروحانية ظهور بعض الآيات وخرق العادات، فإذا لم يكن مقارنا برؤية البرهان ليكون مؤيدا بالتأييد الإلهي مؤكدا بالعناية الأزلية لم يزدهم إلا العجب والغرور والخسران والقساوة والطغيان، وأكثر ما يقع هذا للرهبان والمتفلسفة الذين استدرجهم الحق بالخذلان من حيث لا يعلمون، وإنما شبه قلوبهم بالحجارة للقسوة وعدم اللين للذكر الحقيقي كقوله تعالى:
ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله
[الزمر: 23]، والذكر الحقيقي ما يتداركه الحق بذكره كقوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152].
ثم بين أنها دون الحجارة بقوله: { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } [البقرة: 74]، والإشارة فيها إلى مرتبة القلوب في القسوة؛ بعضها بمرتبة الحجارة التي تنفجر منها الأنهار، وهو قلب تظهر عليه تغلبات أنوار الروح لصفائه بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهابين والكهنة.
وبعضها بمرتبة { وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء } [البقرة: 74]، وهو قلب تظهر عليه في بعض الأوقات عند انخراق حجب البشرية من أنوار الروح، فيريد بعض الآيات والمعاني المعقولة، كما يكون لبعض الفلاسفة والشعراء.
وبعضها بمرتبة { وإن منها لما يهبط من خشية الله } [البقرة: 74]، وهو قلب فيه بعض الصفاء فيكون بقدر صفائه قابل عكس أنوار الروح من وراء الحجب، فيقع فيه الخوف والخشية كما يكون لبعض أهل الإيمان.
وأهل هذه المراتب مشتركة بين قلوب المسلمين وغيرهم، فالفرق بينهم أن أحوال هذه المراتب للمسلمين مؤيدة بنور الإسلام، فتزيد في قربهم وعلوهم ودرجاتهم ولغيرهم غير مؤيدة بالإيمان، فتزيد في غرورهم وردهم واستدراجهم، والمسلمون مخصوصون من غيرهم بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق دون غيرهم، كما قال تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، وسيجيء شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى، وبعض القلوب بمرتبة الحجارة القاسية التي لا يؤثر فيه القرآن والأخبار والحكمة والموعظة لقوله تعالى: { أو أشد قسوة } [البقرة: 74]، وهذا القلب مخصوص بالكافر والمنافق، فإنه قلب مختوم عليه وفيه الدلالة على أن القلوب على فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم بالابتكار والجحود واستيلاء حب الدنيا وزخارفها وتتبع الشهوات ولذاتها تقسوا وتشتد قسوتها، كقوله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } [البقرة: 74].
{ وما الله بغافل عما تعملون } [البقرة: 74] أي: يجازيكم عاجلا وآجلا، فأما عاجلا: بأن يجعل إنكاركم سبب غفلة وقسوة قلوبكم فيقسيها بأعمالكم الفاسدة ويطبع عليها بطابع إنكاركم وجحودكم كما قال تعالى:
بل طبع الله عليها بكفرهم
[النساء: 155]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما من قلب إلا هو بين أصبعين من أصابع الرحمن، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه "
وأما أجلا: فيعاقبكم يوم القيامة على قدر سيئات أعمالكم، كما قال تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40].
[2.75-81]
ثم أخبر عن اليأس من إيمانهم بغاية خذلانهم بقوله تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [البقرة: 75]، إلى قوله تعالى: { وما يعلنون } [البقرة: 77]، والإشارة في تحقيق الآيات بمجرد سماع الكلام من الله تعالى وإن كان بلا واسطة لا يحصل الإيمان الحقيقي، فإن الفريق الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، ولو كان لهم من الإيمان الحقيقي حاصل ما حرفوا كلام الله وهم يعلمون العلم الحقيقي أنه حق، وهذا يدل على أن علم الرجل ويقينه ومعرفته ومكالمته مع الله تعالى لا يفيد الإيمان الحقيقي إلا أن يزكيه الله تعالى بفضله ورحمته كما قال تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا
[النور: 21]، وإن الله تعالى كلم إبليس وخاطبه بقوله :
إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص: 75]، وما أفاده الإيمان الحقيقي إذا لم يكن مؤيدا من الله بفضله ورحمته قال في حقه:
وكان من الكفرين
[البقرة: 34].
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [البقرة: 76] يعني: إذ لم يكن سماع الكلام يفيد الفريق منهم فكيف يفيد هؤلاء منا: { وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحآجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون } [البقرة: 76]، وهم من جهلهم وغفلتهم: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } [البقرة: 77]، فيطلع رسوله على أسرارهم، وهذا أحد معاني إعجاز القرآن؛ يخبرهم عن مخفيات ضمائرهم ومجيبات سرائرهم { وما يعلنون } [البقرة: 77]، من تصديق بلا تحقيق وهم من عمى بصائر قلوبهم لا يبصرون المعجزات ولا يؤمنون بها.
ثم أخبر عن غاية جهلهم وخسة عقلهم بقوله تعالى: { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [البقرة: 78]، الآيتين، الإشارة فيهما: أن اليهود متفاوتون في مراتب كفرهم، فقوم منهم أميون لا يعلمون الكتاب ما هو في الحقيقة إلا أماني أي: ما يتمنون من عند أنفسهم كما قال تعالى:
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان
[الشورى: 52]، وكما قال صلى الله عليه وسلم:
" ليس الدين بالتمني "
فبعضهم أحسن درجة وأكثر جهلا، ركنوا إلى التقليد المحض، ولا يمكنهم استيفاء شهوة، بل اعترضوا بظنون فاسدة وتخمينات مبهمة، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها دون معرفة معانيها وإدراك أسرارها وحقائقها، وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدعي الإسلام، ومنهم: من أكثر شأنه ما يتمناه في نفسه ولا يساعده مكان إلا بظنون وتخمين، ومنهم: من يعتمد على كتب الأوائل وأقاويلهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة ويكتبونه بأيديهم { ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا } [البقرة: 79]، من الحطام الدنيوية والوجاهة عند الناس { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [البقرة: 79]، من الكفر والإلحاد عن الحق والاعتقاد السوء، وإغواء الخلق وإضلالهم، كما قال تعالى:
قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا
[المائدة: 77]، في هذه الآيات أيضا إشارة إلى بعض المنتمين إلى هذه الطائفة من مدعي الإخلاص في الصحبة في طريق الحق، فينضم إلى الأولياء وأرباب القلوب ظاهرا، ثم يصدق له الإرادة ويميل إلى أهل الغفلة، وله مع هذه الطريقة جانب؛ كلما دعته هواتف الحظوظ يسارع إلى الإجابة طوعا، وإذا قادته دواعي الحق يتكلف كرها من الحالة ما لم يختص نيته، وما أشد ندمه فيما أؤخر عن الله تعالى إن لم يصلح طويته حين اشترى بالحقوق الباقية الحظوظ الفانية.
ثم أخبر عن وساوسهم الشيطانية وهواجسهم النفسانية بقوله: { وقالوا لن تمسنا النار } [البقرة: 80]، إلى قوله: { خالدون } البقرة: 81]، والإشارة فيها: أن بعض المغرورين بالعقل من ضلال الفلاسفة وجهال الطبائعية وغيرهم نوط غفلتهم وغلبات مغاليط ظنونهم، قد ظنوا أن قبائح أعمالهم وفضائح أفعالهم وأقوالهم لا تؤثر في صفاء أرواحهم، وتغيير أحوالهم، فإذا فارقت الأرواح إلى حضائر القدس، ولا يصحبها شيء من نتائج الأعمال.
{ إلا أياما معدودة } [البقرة: 80]، وذلك من فطام الأرواح عن ألبان التمتعات الحيوانية، وهذا ظن فاسد وكفر صريح من وسواس الشيطان وهواجس النفوس وليس بمعقول؛ لأن العاقل يشاهد حسا وعقلا أن تتبع الشهوات الحيوانية واستيفاء اللذات النفسانية تورث الأخلاق الذميمة من الحرص والأمل والحسد والبغض والغضب والبخل والكبر والكذب وغير ذلك؛ إن هذه وإن كانت من صفات النفس الأمارة بالسوء؛ فتصير بالمجاورة والشعور بأخلاق الروح ويتدنس بها، ويتكدر صفاؤه، ويتبدل أخلاقه الروحانية الملكية من الحلم والكرم والمروة والصدق والحياء والعفة والصبر والشكر وغير ذلك بالأخلاق الحيوانية السبعية الشيطانية، وإن الذي يرتاض نفسه بالمجاهدات وترك الشهوات وينهاها عن المألوفات والمستلذات، ويمنعها عن الأخلاق المذمومات تورث هذه المعاملات مكارم الأخلاق وصفاء القلب ورقة النظر وصدق الفراسة وإصابة الرأي ونور العقل وعلو الهمة وغلو السر وشوق الروح وتحننه إلى وطنه الأصلي، وغير ذلك من المقامات العلية والأحوال السنية، فلا يشك العاقل في أن الروح المتبع للنفس الأمارة، كما يكون للعوام، لا يكون مساويا بعد المفارقة مع الروح المتبع لإلهامات الحق كما يكون للخواص؛ لقوله تعالى:
أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم
[الملك: 22]، وبعضهم قالوا: وإن تكدرت الأرواح بقبائح أفعال الأشباح فدنست بقدر تعلقاتها بمحبوبات طباعهم فبعد المفارقة بقيت في العذاب أياما معدودة على قدر انقطاع التعلقات عند وزر الكدورات، ثم يتخلص من العذاب ويرجع إلى حسن المآب، وهذا خيال فاسد، وكذبهم الله تعالى بقوله: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } [البقرة: 81]، تظهر على مرآة قلبه بقدرها دينا، فإن تاب محي عنه، وإن لم يتب ويصر على السيئات حتى إذا أحاطت بمرآة قلبه زين السيئات بحيث لا يبقى فيه الصفاء الفطري، وخرج منه نور الإيمان وضوء الطاعات فأحبط أعماله الصالحات وأحاط به الخطيئات { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 81]، والذي يدل على هذا قوله تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14]، ومن كان في قلبه ذرة من الإيمان فلم يحط به خطيئته، وإن كان من أهل الكبائر يخرج من النار، ولا يخلد فيها بالشفاعة الشافعين، وجاء في الحديث الصحيح:
" يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فيكون مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات ".
وفيه أيضا إشارة إلى بعض أرباب الطلب فمن يركن بنفسه في أثناء الطلب إلى شيء من الزخارف الدنيا ويميل إلى شيء من شهواتها، فيظهر عليه الشيطان بذلك فيوسوس له؛ ليقطع عليه الطلب ويغره بمعاملاته وزهده وعزلته فيوقعه في ورطة العجب فينظر إلى نفسه بنظر التعظيم وإلى الخلق بنظر التحقير فيهلك المغرور، أو يغتر ببعض الأحوال التي تظهر على أهل الطلب في أثناء السلوك من الوقائع الصادقة والروايات الصالحات، وشيء من المشاهدات الروحانية الرحمانية، فيظن المغرور الممكور أن ليس وراء عيان هذه المقامات قرية، وأنه بلغ مبلغ الرجال البالغين ووصل إلى مقام الواصلين، فيسكن عن الطلب وتعتريه الآفات حتى أحاطت به خطيئته فيبقى بهذه الواقعة في نار الطبيعة ويرجع قهقرى إلى أسفل الطبيعة نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
[2.82-87]
{ والذين آمنوا } [البقرة: 82]، من أهل الطلب بأن المنازل إلى المقصد، وإن كانت متناهية، فإن السير في المقصد غير متناه { وعملوا } [البقرة: 82]، على قانون الشريعة بإشارة شيخ الطريقة { الصالحات } [البقرة: 82]، وهي المبلغات إلى الحقيقة أولئك أصحاب الوصول إلى جناب الأصول خالدين فيها بالسير إلى أبد الآباد، وكذلك من اكتسب اعتقادا فاسدا من المتفلسفة على خلاف الشريعة وأحاطت به خطيئته فيبقى عليه إلى إن يموت
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[البقرة: 81] أبد الآباد، ولن تنفعهم المجاهدات ولا النظر في المعقولات ولا الاستدلال بالشبهات، والذين آمنوا منهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات من المأمورات وغير المنهيات، { أولئك أصحاب الجنة } [البقرة: 82]، وأهل الدرجات والغرفات في الجنات { هم فيها خالدون } [البقرة: 82].
ثم أخبر الميثاق والعبودية على الإطلاق بقوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم } [البقرة: 84]، إلى قوله: { ولا هم ينصرون } [البقرة: 86] والإشارة فيها { وإذ أخذنا ميثاقكم } [البقرة: 84] أي: في عهد
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، { لا تسفكون دمآءكم } [البقرة: 84]، بامتثال أوامر الشيطان في استجلاب حظوظ النفس، فإنه يسعى في إراقة دماء قلوبكم، كما قال بعضهم:
إلى حتفي سعى قدمي
أرى قدمي أراق دمي
وكذلك لا تسفكون بتربص الشيطان بينكم تسفكوا دماءكم بعضكم دماء بعض، كما قالت الملائكة في حقكم:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30]، { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } [البقرة: 84]، غير دينكم الذي كنتم عليه في أصل الفطرة { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } [البقرة: 84]، بقولكم: { بلى } شهدنا والذي يدل على هذا التأويل، قوله تعالى:
ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين
[يس: 60]، { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [البقرة: 85]، باستيفاء حظوظ النفس ولذاتها وشهواتها، فإن المجرمين اقتضوا بأيديهم حتفهم وآثروا باختيارهم ما فيه هلاكهم واستئصالهم، قال بعضهم:
بعين نفسي أصبت نفسي
فالله بيني وبين عيني
{ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } [البقرة: 85]، فيعاون بعضكم بعضا على الإعراض عن الله تعالى والتساعد في مزاولة الحظوظ والخروج عن مقامات الحقوق فآفات أحوالكم غير لازمة عليكم بل هي متعدية عنكم إلى إخوانكم وقرنائكم { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } [البقرة: 85] أي: مضرتكم لإخوانكم على بلائهم مظاهرة الشيطان ونصرته عليهم بما فيه هلاك أنفسهم.
{ وإن يأتوكم أسارى } [البقرة : 85]، وهم أصناف شتى فمن أسير في قيد الهوى فإنقاذه بأن يدله على الهدى، ومن أسير بقيد حب الدنيا فخلاصه في إخلاص ذكر المولى، ومن أسير بقى في قيد الوسواس فقد استهواه الشيطان ففداؤه أن يرشده إلى اليقين بلوائح البراهين لتنقذه من الشكوك والظنون والتخمين ويخرجه من ظلمة التقليد وما تعود بالتلقين، ومن أسير تجده في أسر هواجس نفسه ربيط زلاته ذلك أسير في إرشاده إلى إقلاعها وإعانته وإنجازه على ارتداعها، ومن أسير تجده في أسر صفاته وحبس وجوده فنجاته في أن تدله على الحق فيما تحل عنه وثاق الكون، ومن أسير تجده في قبضة الحق فبجزائه ليس لأسراهم فداء ولا لقتلهم قود ولا لربيطهم خلاص، ولا لبطشهم مناص ولا عنهم بدل ولا معهم جدل، ولا إليهم لغيرهم سبيل ولا لديهم إلا بهم دليل ولا منهم فرار ولا معهم قرار: { أفتؤمنون ببعض الكتاب } [البقرة: 85] أي: بالذي سمعتموه من ربكم في أول الخطاب بقوله تعالى:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، آمنتم وقلتم { بلى }.
{ وتكفرون ببعض } [البقرة: 85] أي: بالذي عاهدتم عليه عند أخذ الميثاق ألا تعبدوا غيره من الشيطان والدنيا والنفس والهوى { فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي } [البقرة: 85]، وهو عمى القلب عن المشاهدة والعمى في تيه الباطل { في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } [البقرة: 85]، وهو المبالغة في عمى القلب، كما قال تعالى:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء: 72] { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا } [البقرة: 86]، نعيمها ولذاتها وشهواتها { بالآخرة } [البقرة: 86]، برفعة درجاتها وعلو عرفانها { فلا يخفف عنهم العذاب } [البقرة: 86]، برحمة رب العالمين { ولا هم ينصرون } [البقرة: 86]، بشفاعة الشافعين.
ثم أخبر عن كمال فضله وغاية جهلهم وسنة عدله بقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب } [البقرة: 87]، والإشارة فيها أنا وصلنا لهم الخطاب وأردفنا رسولا بعد رسول والجميع دعوا إلى واحد لكنهم أصغوا إلى دعاء الداعين بسمع الهوى، فما استلذته النفوس قبلوه وما استثقلته أهواءهم هجروه، وهذا حال أكثر البطالين الذين تلبسوا وتشبهوا بالطالبين الصادقين بعضهم بالزي واللباس وبعضهم بالعلم والوعظ والاقتصاص قبول الناس في هذا مع أهل البصيرة من المشايخ الواصلين والعلماء الراسخين يصغون إلى كلماتهم وإشاراتهم ليسمع الهوى فما استحلته نفوسهم قبلوه، وما استكرهته أهواءهم واستغرتهم عقولهم نبذوه وراء ظهورهم بل طعنوا فيه وشنعوا عليه بجهالتهم ونكره لمقالهم، فيكذبون فريقا منهم قرارا عن تحمل أعباء الطلب ويقاتلون فريقا بالجدال وإثارة الفتنة حسدا وإنكارا والفتنة أشد من القتل.
[2.88-93]
ثم أخبر عن إنكارهم واستهزائهم بقوله تعالى: { وقالوا قلوبنا غلف } [البقرة: 88]، والإشارة فيها أنت المريد إذا ابتلي في أثناء الطلب بالوقفة والفترة ما دام متمسكا بذيل الإرادة لا يضره أحد بل يرجى رجوعه إلى صدق الطلب بمدد هذا الشيخ، فأما إذا زلت قدمه عن جادة الإرادة فأظهر الاعتراض والإنكار على شيخه ويعرض عنه حتى أدركته رد ولاية الشيخ وطرده، فابتلي بموت القلب فلا يرجي رجوعه إلى صدق الطلب حتى قال الجنيد رحمه الله: من قال لأستاذه لم لا يفلح أبدا.
ثم أخبر عن نتائج إنكارهم بقوله تعالى: { ولما جآءهم كتاب من عند الله } [البقرة: 89]، الآيتين الإشارة فيهما أن بعض إقرار الزهاد والمتقشفين من أهل العلم في كل زمان يتمنون أن يتبركوا بأحد من الأولياء والعلماء المخصوصين بالمكاشفات والمشاهدات والعلوم اللدنية، ويتوسلون بهم إلى الله تعالى عند رفع حوائجهم في مصالح دعائهم ويظهرون محبته عند الخلق، فلما وجدوا واحدا من هذا القوم ما عرفوا قدره وحدوده وطعنوا فيه وأنكروا على كلماته وأظهروا عداوته فيكون حاصل أمرهم فيه الطرد من غيرة ولاية والبعد من الله باللعن.
{ بئسما اشتروا به أنفسهم } [البقرة: 90]، أن ينكروا على أولياء الله { أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا } [البقرة: 90]، فتح الله لهم من حقائق العلوم حسدا { أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب } [البقرة: 90]، من رد ولاية الأولياء { على غضب } [البقرة: 90]، من الله لأوليائه فإنه في الحديث الصحيح:
" من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب وأنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لحرده "
وللمنكرين { وللكافرين عذاب مهين } [البقرة: 90]، في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالهوان عند أهل النظر الواقفين على أحوالهم وبالحرمان عن تنسم نغمات ألطاف الحق، وفي الآخرة بالخسران والفضوح وإن الإنكار على أهل العرفان يورث الحرمان والخسران.
ثم أخبر عن إصرارهم على جحودهم بقوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } [البقرة: 91]، والإشارة فيها أنه إذا قيل للمنكرين اعتقدوا مواهب الحق التي ألهمها الله إلى أوليائه من أسرار القرآن ومعانيه وحقائقه هي مؤكدة بالبراهين من الآيات والأخبار المنقولة من المشايخ المتقدمين سمحت نفوسهم ببعض ما التمس منهم مما يوافق عقولهم وأهواءهم، وقالوا: تعتقد القرآن وما بعد له ظاهرا، ثم ينكرون بما وراء حظوظهم مع أنه الحق من ربهم محققا لما معهم من العلوم الظاهرة قال الله تعالى في جوابهم: فلو تقاتلوا وتجادلوا أولياء الله إن كنتم معتقدين للقرآن، فإن ما نطق به الأولياء فهو من أسرار القرآن وحقائقه، فالذي ينكرها فلا يكون معتقدا للقرآن بحقيقته والمقاتلة مع الأولياء مقاتلة مع الأنبياء والإنكار على كلماتهم يكون إنكارا على القرآن بحقيقة؛ لقوله تعالى:
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذآ إفك قديم
[الأحقاف: 11].
ثم كرر الإخبار عن إصرارهم على الجحود مع وضوح الآيات من موسى عليه السلام وغلوهم في حب العجل بقوله تعالى: { ولقد جآءكم موسى بالبينات } [البقرة: 92]، الآيتين والإشارة فيهما أن الأنبياء - عليهم السلام - يدعون العباد إلى التوحيد وإقرار العبودية عن كل مشهود ومحدود ومعدود، ولكنهم لم يحتجوا إلا بعبادة ما لا يليق بقصر نظرهم وخسة همتهم، فقوم عبدوا الصنم وقوم عبدوا الهوى، وقوم عبدوا الدنيا، وإنهم قد ظلموا على أنفسهم بوضعهم عبادتها في غير معبودا مع أن الله تعالى أخذ ميثاقهم بعبوديته من غير شرك، ورفع فوقهم طور الأمانة التي عرضها وحملها الإنسان في الميثاق الأول، وقال: { خذوا مآ ءاتينكم } [البقرة: 93]، من خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، { بقوة } [البقرة: 93]، بشوق وصدق في جواب بلى { واسمعوا } [البقرة: 93]، الخطاب يسمع الإجابة في الثبات على العبودية { قالوا سمعنا } [البقرة: 93]، اجبنا بقولهم بلى { وعصينا } [البقرة: 93] أي: بالثبات والاستقامة { وأشربوا في قلوبهم } [البقرة: 93]، حب عجل الدنيا { بكفرهم } [البقرة: 93]، بزلة أقدامهم عن صراط مستقيم العبودية بالميل إلى الدنيا وحب الدنيا رأس كل خطيئة، كما أن الكفر رأس كل خطيئة { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } [البقرة: 93]، أن تعبدوا عجل الدنيا { إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 93]، حقيقة لا مجازا بالرسم والعادة فإن من علامة الإيمان ما أخبر عنه حارثة حين
" سأله النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا قال: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهارها وأسهرت ليلها واستوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يزاورون وإلى أهل النار يتضاغون وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، فقال: أصبت فألزم ".
[2.94-99]
ثم أخبر عن كمال جهلهم وغرورهم إن اليهود ادعوا الاختصاص عن الله تعالى بالأشياء، فكذبهم الله تعالى بقوله: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } [البقرة: 94]، إلى قوله { والله بصير بما يعملون } [البقرة: 96] والإشارة في تحقيق الآيات أن من علامات الاشتياق تمني الموت على بساط العوافي، ومن وثق أن الجنة له فلا محب له ليشتاق إليها، وفيه معنى آخر وهو من أمارة أن يكون المرء من أهل الجنة تمنيه الموت لقوله تعالى: { فتمنوا الموت } [البقرة: 94]، قال عقيب ادعائهم أنهم أهل الجنة بفاء التعقيب يعني { إن كنتم صادقين } [البقرة: 94]، موقنين من أهل الجنة حقيقة، فتمني الموت يكون بوصف حالكم.
ثم قال تعالى: { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } [البقرة: 95]، من سوء الأفعال والأقوال والأحوال؛ يعني: أن لا يكون تمني الموت من نتائج معاملات السوء التي توجب النار، وفيه إشارة إلى النار باب علوم الظاهر المنكرين على أرباب علوم الباطن يزعمون أنهم من أهل النجاة والدرجات دون الأئمة المحققين، فجعل الله تعالى أمارة أهل النجاة السلامة من الحياة الدنيا وتمني الموت، وهذا وصف حال السالك الصادق والمحقق العاشق، كما قال بعضهم:
أقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
وحال المنكرين من أهل الأهواء والبدع والعلماء الحريصين على الدنيا بخلاف هذا، فإنهم لن يتمنوه أبدا قال تعالى : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } [البقرة: 96] لأن المشرك وإن كان حريصا على الحياة، ولكن لم يكن له خوف العذاب لإنكاره البعث ولمنكر المعرفة حرص الحياة وخوف العذاب، فيكون أحرص على الحياة من المشرك، وفيه أن حب الحياة من نتيجة الغفلة عن الله، فأشدهم عنه غفلة أحبهم للبقاء في الدنيا وحال المؤمن على ضده فالعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده والعبد الآبق لا يريد الرجوع إلى سيده، وفي الحديث الصحيح:
" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه "
أي: محبة العبد للقاء نتيجة محبة الله للقاء العبد كقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
ثم أخبر عن غاية خذلانهم من عداوتهم لجبريل لقوله تعالى: { قل من كان عدوا لجبريل } [البقرة: 97]، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى خص النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الأنبياء بإنزال القرآن على قلبه، فإن جميع الكتب كان ينزل ظاهرا جملة واحدة في الألواح والصحائف مكتوبة.
* فمن فوائد ضرورة القرآن معجزة بأن يأتي بمثل هذا القرآن الذي لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله لآية.
ومنها: أن القرآن لما أنزل على قلبه صلى الله عليه وسلم أنزل عليه آية وآيات أو سورة بدفعات في مدة ثلاث وعشرين سنة من سني النبوة؛ ليتصف قلبه بأخلاق القرآن، وما أشير إليه فيه ويتأدب بآدابه كما روي عن عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها حين سئلت ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقول:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم: 4]، قالت: " كان خلقه القرآن " كقوله تعالى في جواب الكفار حين قالوا لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة قال تعالى:
كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا
[الفرقان: 32]، ومنها أن القرآن لما نزل أنزل على قلبه صار قلبه خاشعا خاضعا من خشية الله تعالى حتى قال:
" أنا أعلمكم بالله وأخشاكم منه "
، وهذا من خصائص إنزال القرآن على قلبه لقوله تعالى:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله
[الحشر: 21]، ولو كانت التوراة أنزلت على قلب موسى عليه السلام لا في الألواح ما ألقى الألواح في حال الغضب، وما يحتاج إلى صحبة الخضر عليه السلام لتعلم العلم اللدني.
وقوله تعالى: { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكافرين } [البقرة: 98] أي: عدواتهم لله وملائكته لأن الله وملائكته عدو لهم يعني عداوتهم لله نتيجة عداوة الله تعالى لهم كقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، فإن محبة المؤمنين نتيجة محبة الله تعالى لهم؛ لأن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة، فلما نظر الله تعالى بنظر القهر والجلال والخذلان إلى ذات الكافرين، وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي، صار ذلك النظر بذر شجرة شقاوتهم فأثمرت الشجرة شجرة العداوة لله تعالى وملائكته، وكذا أحوال المؤمنين على الضد من هذا.
ثم قال تعالى في جواب ابن صوريا حين قال: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها بقوله: { ولقد أنزلنآ إليك آيات بينات } [البقرة: 99]، إلى قوله: { لا يؤمنون } الآيتين والإشارة فيهما أن معجزة كل نبي كان ظهورها على الأنبياء في الظاهر كإحياء الطيور لإبراهيم عليه السلام واليد والعصا لموسى عليه السلام وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى عليه السلام فهم والخلق في مشاهدتها سواء، وكان معجزة النبي صلى الله عليه وسلم إنزال الآيات البينات على قلبه فكان ظهورها في نفسه صلى الله عليه وسلم أولا، ثم تظهر على الخلق ثانيا بعد أن صارت خلقه، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة "
حديث متفق على صحته.
فالآيات البينات هي أنواع معجزات القرآن منها: جزالة لفظه، وفصاحة عبارته، وبلاغة نظمه الذي عجز عنها فصحاء العالم وبلغاؤه من حين نزوله إلى الآن، ومنها: أن الله تعالى جمع بلفظ معاني وحكم كثيرة في الألفاظ يسيرة، ومنها: إيجاز الكلام في إشباع من المعنى فالكلمة القليلة الحروف منه تضمن كثيرا من المعاني والحقائق وأنواعا من الأحكام بحيث لا يتصور مثله من غير الله تعالى، ومنها: إدراج ما اشتملت عليه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم السلام - فيه من الأحكام والمواعظ والحكم مع ما تضمنه ما لم يشتمل عليه الكتب المنزلة سواه كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" أوتيت جوامع الكلم "
، ومنها: أن الله تعالى أنزل فيه ما أكمل به الدين وأتم به نعمته على عباده من أحكام الشريعة وآداب الطريقة وأسرار الحقيقة بحيث لم يترك دقيقة يحتاج إليها الكاملون الواصلون البالغون في أثناء سلوكهم وسيرهم إلى الله تعالى إلا أودعها فيه، كما قال تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين
[الأنعام: 59]، هذا مما يعجز عنه جميع الخلائق، ومنها: الإخبار عن شهود الأشياء الكامنة في الغيب إلى يوم القيامة فظهر كثير منها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى الآن كما أخبر عنه القرآن وغير ذلك من الآيات الواضحات.
{ وما يكفر بهآ إلا الفاسقون } [البقرة: 99]، الخارجون عن نور الروحانية إلى الظلمات البشرية الحيوانية وشدت عن إدراك بصائرهم، وسبق الشقاوة من الله تعالى قسمتهم؛ فكما لا عقل لمن يجحد أن النهار نهار، فكذلك لا إدراك لمن لم يساعده من الحق أنوار واستبصار لا جرم كلما عاهدوا عهدا كان يشوشهم سابق التقدير لهم وينقص عليهم حق التدبير فيهم والله غالب على أمره، ولما جحدوا رسل الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر والإلهامات، فكذبوا رسولهم الذي آتاهم في الظاهر، فيا جهلا ما فيه شظية من العرفان، ويا حرمانا قارنه خذلان، حيث كذبوا رسله ورفضوا بارة كتابه واتبعوا السحر.
[2.100-105]
كما أخبر عنهم بقوله: { ولمآ جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } [البقرة: 101]، الآيات الثلاث والإشارة في تحقيقها أن الروح الإنساني في أصل الفطرة كان مناسبا للأرواح الملكية في استماع خطاب الحق واستماع مكالمته قبل هبوط إلى العالم الجسماني، كما أخبر عنه بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، قالوا { بلى } وأخذ منهم العهد على هذا، ثم نبذ ذلك العهد فريق منهم بعد هبوطهم إلى العالم الجسماني بتعلقات الحيواني وتتبعات النفساني، ولما جاءهم رسول من إلهامات الحق موافق لما معهم من كتاب العهد والميثاق عند استماع الخطاب { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله } [البقرة: 101]، الذي ألهموا والذي عاهدوا عليه { ورآء ظهورهم } [البقرة: 101]، بترك العمل به { كأنهم لا يعلمون } [البقرة: 101]، في أصل الفطرة { واتبعوا ما تتلوا الشيطين } [البقرة: 102]، النفوس { على ملك سليمن } [البقرة: 102]، الروح الذي هو خليفة الله في أرضه أي: ما حدثت به أنفسهم استهوتهم الشياطين وغرتهم به أنه من سليمان الروح { وما كفر سليمن } [البقرة: 102]، الروح { ولكن الشيطين } [البقرة: 102]، النفس والهوى { كفروا يعلمون الناس السحر } [البقرة: 102]، من تخيلات الهواجس وتمويهات الوساوس التي تملي النفس ببيان وهو بمثابة السحر لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن من البيان لسحرا "
{ ومآ أنزل } [البقرة: 102]، فتنة وخذلانا من العلوم { على الملكين ببابل هروت ومروت } [البقرة: 102]، أي: الروح والقلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى أرض العالم الجسماني بالخلافة؛ لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الدنيا واتباعا خداعها؛ فوقعا في شبكة الشهوات التي ركبت فيها ابتلاء وامتحانا، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل وزينا ببغي الدنيا الدنيوية، وعبدا صنم الهوى وعلقا منكسين رءوسها بالالتفات إلى السفليات، وإعراضهما عن العلويات
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
[الصف: 5]، وفي كبتها عن استقامتها وحرما عن سماع خطاب الحق، وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية ابتليا بإنزال أباطيل العلوم الضارة المؤدية إلى التفرقة مثل شبهات زنادقة الفلاسفة من قدم العالم وسلب الاختيار عن الله ونفي العلم بالجزئيات عنه وأمثال هذه الكفريات التي زلت بهما أقدام خلق كثير عظيم في الجاهلية والإسلام، وكذلك شبهات أهل الأهواء والبدع التي يكفر بها بعضهم بعضا ويقتلون عليها فإنها علوم يجب الاستعاذة منها لقوله صلى الله عليه وسلم:
" اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع "
، ومع هذا من خصوصيته الروحية الملكية { وما يعلمان من أحد حتى يقولا } [البقرة: 102]، من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية والقوى البشرية التي يلهماها { إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } [البقرة: 102]، مرء القلب وزوج دينه، وفي هذه القصة إشارة أخرى إلى أن من مال في هذا الطريق إلى تمويه وتلبيس وإظهار دعوى تلبيس، فهو يستهزئ بمن اتبعه ويلقيه في جهنم بباطله ويصده بتمويه ظلماته عن طريق رشده، ومن اعتبر عبر بالسلامة فتارة ومن تهتك بالجنوح إلى أباطيله تهتك إشارة ظهر لذوي البصائر أغواره { وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله }؛ لأن الضار هو الله تعالى ولكن الجرم أنهم { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم } [البقرة: 102] أي: باعوا بالحظوظ النفسانية الحقوق الروحانية { لو كانوا يعلمون } [البقرة: 102]، غاية ما خسروا من دولة الإيمان وسعادة العرفان ونهاية ما يصيرون إليه من العقاب والحرمان { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } [البقرة: 103]، بما أعد الله لخواص عباده مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما يستمدون به إلى استجلاب الحظوظ وترك الحقوق، وأثروا الإقبال على الله ما شغلهم عن الله لا يثبتوا على ما لهم فيه خير وخير الدارين، ووصلوا إلى غير الكونين ولكنهم كبتهم وصرفهم سطوات القهر فأثبتهم في مواطن العجز.
ثم أخبر عن خيانة عقائد اليهود ومكائدهم بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم } [البقرة: 104]، الآيتين والإشارة فيهما إلى أن أثر العناية في حق الأولياء يظهر في كل شيء من أخلاق قلوبهم وأوصاف نفوسهم وأعمال أبدانهم وأقوال لسانهم، ففي عهد النبوة وأيام دولة الرسالة كان في قولهم: راعنا للنبي صلى الله عليه وسلم شائبة ترك أدب نهوا عنه وفي قولهم: انظر فارا عن أدب أمروا به، وأما بعد عهد النبوة وانقطاع الوحي فأكرموا بخواطر الزماني وإلهامات الرباني ودلوا بها على الفجور والتقوى بقوله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس: 7-8]، وعلى الضدين هذا في حق الأعداء ظهور أثر الخذلان عليهم فإن قصورهم في جميع أحوالهم من أعمالهم وأقوالهم قصور خشية وعلى مناهجهم بينوا فيما يأتون ويذرون، ومن نتائج خذلانهم يحسدون أولياء الله على ما آتاهم الله من فضله وما يردون أن ينزل عليهم من خير من ربهم { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته } [البقرة: 105]، بأصناف ألطافه { من يشآء والله ذو الفضل العظيم } [البقرة: 105]، لا ينقص مثقال ذرة من بحر أفضاله بأن يفيض على العالمين سجال نواله.
[2.106-112]
ثم أخبر تعالى عن كمال فضله في حق عباده بقوله: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } [البقرة: 106]، الآيتين والإشارة فيهما أن تبدل أحوال أهل العناية في أثناء السلوك ومقام الوصول لترقيهم من مقام إلى فوقه وتقلبهم من حال إلى حال أعلى منه، فتحن باطنهم أبدا خبره، ويختم وصلهم أبدا ظاهره، فلا ننسخ من آثار عبادتهم شيئا إلا بدلنا منها شيئا من أقمار الربوبية قائدا أسرارهم في الترقي وأقدارهم في الزيادة بحسن القبول، بل ترقيهم عن محل العبودية إلا أقمناهم يشاهدون من شواهد الألوهية، وفيه إشارة إخرى وهي: أن أرباب السلوك عند الترقي من مقام إلى مقام ربما يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في صورة لطيفة كستهما للتحلية بحسب صفاء الوقت وعلو المقام، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون تلك المشاهدة فيه فيظن لك العزيز أنه حجب عن ذلك المقام والحال فأشار بقوله: { ما ننسخ من آية } [البقرة: 106] من آيات المقام { أو ننسها } بأن نمحوها من إدراك خيالك إلا { نأت بخير منها } من تلك المشاهدة { أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [البقرة: 106] أي: قادر على أمثال هذا { ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض } [البقرة: 107]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تعلم؛ إذ شاهدت ليلة المعراج بعين اليقين وكوشفت بحق اليقين أنه سبحانه كيف يجذب أوليائه عن شهود ملكه إلى رؤية ملكه، ثم يأخذ من مطالعة ملكه لشهود فيأخذهم من رؤية الآيات إلى كشف الصفات، ومن كشف الصفات إلى عين الذات ثم يمحوهم عن العيان وسيمتهم { وما لكم من دون الله من ولي } [البقرة: 107]، يتوله لكم أمثال هذا { ولا نصير } [البقرة: 107]، ينصركم على هذا.
ثم أخبر عن مكائدة المشركين واليهود وافترائهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } [البقرة: 108]، والإشارة فيها أن طبيعة الإنسان تنافي اللطف الرباني حتى لو وكل الأولون والآخرون إلى أنفسهم لا يؤمن منهم أحد أبد؛ لأن الإيمان نور
يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35] وكان قوم موسى عليه السلام في الأولين يؤذون موسى عليه السلام بكثرة السؤال مع ظهور الآيات ورؤية المعجزات، وكان قوم محمد صلى الله عليه وسلم في الآخر يؤذونه مع نزول الآيات الواضحات بسؤالات المجادلات، إلا أن الله تعالى خاطب مستعدي الإيمان في الأزل بخطاب
يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى
[الأحزاب: 69]، كما خاطب النار:
ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69]، فكانت كما أمرت فكذلك آمنوا، وما كانوا يؤذون رسوله بالسؤال وغيره فأما مستعدي الكفر، فما أدركهم الخطاب ولا لسان الكتاب وبدلوا الكفر بالإيمان وضلوا عن سواء صراط الله تعالى، وتاهوا في بيداء طبيعة الإنسان بقدم تمتعات الحيوان، فلم يقدروا على الرجوع بقدم العبودية إلى عالم الربوبية.
ثم أخبر تعالى عن حسد اليهود والحسد لا يسود بقوله تعالى: { ود كثير من أهل الكتاب } [البقرة: 109]، والإشارة فيهما أن من أدركه الخذلان ولحقه الخسران، وإن يرد أهل الإيرادات عن طريق إمكان ويقطع عليهم سبيل التهمة ويوردهم مورد السلامة، وهذا من نتائج الحسد كما كان لإبليس فلما طرد عن الباب سعى في إخراج آدم من الجنة وأزله وأضله عن طريق الصواب، فمن أفل له كوكب عنايته كيف يرضى لأحد بطلوع شمس الهداية؟ ولكن الله ولي كفاية لأهل الولاية وكذلك حال المريد في البداية لو شمر عن ساق الطلب سيف العناية مما أن لم يساعده التوفيق في سلوك هذا الطريق عيانوا سر التعيين بالظواهر من أهل علم القال المحرومين من أنواع علوم الحال يمنعون هؤلاء من السلوك بتمويهات الشكوك، فلا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح والتخويف والفجر والتهديد بالفقر حتى يقلبوهم إلى سبيل الطغيان بقوم الكفران من بعد ما تبين لهم حقيقة الدين يكاشفه نور اليقين، فطريق أهل الحقيقة أن يعفوا عنهم لأنهم معذورون إذا لم يذوقوا حلاوة ما أذاقهم الله تعالى، وتصفحوا عن مساوئ أخلاقهم وعلى قلوبهم ومعاريض كلامهم، فإنهم معذورون إذ لم يهتدوا بأنوار ما هداهم الله حتى يأتي الله بأمره فيهم من الهدى والرد، إن الله قادر على كل أمر من قبل المريد إلى الثبات على قدم الصدق بالعبودية مع الحق واستعمال الخلق وبذل المجهود في طلب المقصود، فإن من يبذل جهده فعن قريب يفتح الله عليه طريقه.
كما أخبر تعالى بقوله: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } [البقرة: 110]، والإشارة فيها أن كل من كان مشارا إليه في علم الله تعالى عند الخطاب { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } في الأزل أقام الصلاة وأتى الزكاة الآن { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه } [البقرة: 110]، كل طاعة بدنية وقلبية ومالية { عند الله } [البقرة: 110]، في أم الكتاب مبرما أزليا ليقضي الله أمرا كان مفعولا يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
كان ذلك في الكتاب مسطورا
[الإسراء: 58]، وفيه معنى آخر تجدوه عند الله أي: تجدوا تلك الطاعات والخيرات موجبة لكم القربات في مراتب العندية في مقعد صدق عن مليك مقتدر، وفيه معنى آخر { وما تقدموا لأنفسكم } أي: تقربتم به إلى الله تجدوه عند الله بتقربه إليك كما قال:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، فالواجب على المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات واتقاء بأن ما يقدمه من جياد المجاهدات يرى ثمرته في آخر الحالات، فإن المجاهدات تورث المشاهدات.
ثم أخبر تعالى عن دعاوي باطلة لليهود وبقوله تعالى: { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } [البقرة: 111]، الآيتين الإشارة فيهما أن كل ممكور مغرور يظن النجاة نفسه، ونيل الدرجات سهمه، وهو مصر على حسابه أن ليس أحد في نصابه { تلك أمانيهم } [البقرة: 111]، الكاذبة وشهواتهم الغالبة { قل هاتوا برهانكم } [البقرة: 111]، من الأعمال الظاهرة والأحوال الباطلة { إن كنتم صادقين } [البقرة: 111]، في دعواكم بإتيان البرهان من إظهار معناكم، فإن مجرد الإحسان دون تحقيق البرهان لا يأتي بحاصل ولا يجود بطائل، ثم بين برهان أهل الحق ودعوى الصدق بقوله: { بلى من أسلم وجهه لله } يعني: أهل الحق من يكون توجهه بالكلية إلى الله خالصا لله لا لطمع الجنة ولا لخوف النار لقوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها ما { وهو محسن } ، في توجهه بمزاولة الحسنات القالبية والقلبية ويكون نظره في جميع الحالات يرى في تعبده التوفيق من الله تعالى وذهابه إليه وفي الهداية إليه والهدايات منه، فإن
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "
وقال الخليل عليه السلام:
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، { فله أجره عند ربه } [البقرة: 112]، فله الوصول إلى مقام عندية الرب { ولا خوف عليهم } [البقرة: 112]، على مخلصي الحق في توجههم إلى الله تعالى من قطاع الطريق كقوله:
إلا عبادك منهم المخلصين
[الحجر: 40]، { ولا هم يحزنون } [البقرة: 112]، على ما فاتهم في طلب عند وجدان الحق.
[2.113-118]
ثم أخبر تعالى عن بطلان دعوى اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بقوله تعالى: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } [البقرة: 113]، والإشارة فيها أن أكثر الحسد والحقد والتباغض يكون بين جهال العلماء الذين مقصدهم في تعلم المباحات مع السفهاء والمحاربات مع العلماء وطلب الرئاسة وقبول الخلق وجمع المال، فإذا ناظر بعضهم قال هذا لصاحبه: ما أنت على شيء، وقال هذا لصاحبه: ما أنت على شيء، كما جرت العادة بين سفهاء الفرق وطعن كل واحد منهم مذهب الآخر بالجهل والتعصب حتى يكفر بعضهم بعضا { وهم يتلون الكتاب } [البقرة: 113]، القرآن ويدعون العلماء { كذلك قال الذين لا يعلمون } [البقرة: 113]، العلم والدين والقرآن من الزنادقة والفلاسفة وأهل الملل والكفرة { مثل قولهم } [البقرة: 113]، للمسلمين ما أنتم على شيء { فالله يحكم } [البقرة: 113]، بين المسلمين من أهل السنة والجماعة وبين أهل البدعة والأهواء المختلفة { يوم القيامة } [البقرة: 113]، يوم قيامة الحق { فيما كانوا } [البقرة: 113]، من الحق { فيه يختلفون } [البقرة: 113]، بالباطل.
ثم أخبر تعالى عن الظلم المركوز في طبيعة الإنسان بقوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [البقرة: 114]، الآيتين والإشارة فيهما: أن - عند أهل النظر - مساجد الله التي يذكر فيها اسمه: النفس والقلب والروح والسر والخفي وهو سر السر وذكر مسجد منها مناسب لذلك.
فذكر مسجد النفس: الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات، وملازمة السيئات.
وذكر مسجد القلب: التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه التمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات، كما أوحى الله تعالى لداود عليه السلام:
" حذر وأنذر قومك من أكل الشهوات فإن قلوب أهل الشهوات عني محجوبة ".
وذكر مسجد الروح: والشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمساكنات.
وذكر مسجد السر: المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه الركون إلى الكرامات والقربات.
وذكر مسجد الخفي: بذل الوجود وترك الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [البقرة: 114]، هذه المساجد { أن يذكر فيها اسمه } [البقرة: 114]، اسم الله بهذه الأذكار ومن أقدم على هذا المنع فقد { وسعى في خرابهآ } [البقرة: 114]، أي: خرب هذه المساجد { أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين } [البقرة: 114]، هذه المساجد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب { لهم في الدنيا خزي } [البقرة: 114]، من ذل الحجاب { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [البقرة: 114]، لحرمانهم عن جوار الله العلي العظيم.
ثم أخبر عن فتحه ملكه وسعة فضله بقوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب } [البقرة: 115]، والإشارة فيها أن الله تعالى منزه عن الجهات، فالشرق والغرب بالنسبة إلى حضرته متساويان إذ ليس الاعتبار بتوجه الصورة إلى جهة من الجهات، وأن تعين جهة الكعبة لجمع همم القلب وبقوة التوهم فللوهم في جمعية القلب حالة التوجه أثر عظيم، وإنما الاعتبار لتوجه القلب بجمع الهمم إلى الله تعالى فلكل قلب وجهة هو موليها فإذا خص توجه القلب إلى الله بالإعراض عما سواه { فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع } [البقرة: 115]، فضله ورحمته كل شيء لقوله تعالى:
ألا إنه بكل شيء محيط
[فصلت: 54]، { عليم } [البقرة: 115]، أحاط بكل شيء علمه، وفيه إشارة أخرى إلى أن القلوب مشارق هبوب الأشواق ومغاربها والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق لظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة فإذا تجلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال، وإذا استولى سلطان الحقيقة على مماليك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمات والضياء، وليس عند الله صباح ولا مساء وتلاشت العبدية في كعبة العندية ونودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ورفعت القبلة وما بقي إلا الله: { فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم } [البقرة: 115]، يوسع القلب لمن يشاء من عباده ليسعه { عليم } يوسع القلب لسعته بلا كيف ولا حيف كما قال تعالى:
" لا يسعني قلب عبدي المؤمن ".
ثم أخبر عن قصر نظر أهل الشرك بقوله تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه } [البقرة: 116]، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى أظهر مما قالوا غاية ظلومية الإنسان وجهوليته كما قال تعالى:
كبرت كلمة تخرج من أفواههم
[الكهف: 5]، وأظهر كمال حلمه إذ لم ينتقم في الحال كما قال تعالى:
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة
[النحل: 61]، وفي قوله: { سبحنه } سبعة معان:
أولها: التنزيه؛ نزه ذاته من تهمة الولد كما نزه عن عائشة رضي الله عنها عن تهمة الإفك بقوله:
سبحانك هذا بهتان عظيم
[النور: 16].
وثانيها: التعجب؛ تعجب به العباد كيف يتخذ الله الولد وله ما في السماوات عبيد ملكه، وكيف يقول مثل هذا القول مخلوق في حق خالقه، وكيف يحلم عنهم ويمهلهم في مكانهم كقوله تعالى:
ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك
[آل عمران: 191]، وقال تعالى:
سبحان الذى أسرى بعبده ليلا
[الإسراء: 1].
والثالث: التسخير أي: يسخر له ما في السماوات والأرض وسخرهما لعبيده، كما قال تعالى:
سبحان الذي سخر لنا هذا
[الزخرف: 13].
ورابعها: الخلق أي: من خلق السماوات والأرض وما فيهن كقوله تعالى:
سبحان الذي خلق الأزواج كلها
[يس: 36].
وخامسها: القدرة، كقوله تعالى: من بيده ملكوت السماوات والأرض، وما فيهن الإبقاء والإفناء ما ينبغي له أن يتخذ ولدا كقوله تعالى:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
[يس: 83].
وسادسها: التوبة أي: سبح لله ذرات الملكوتيات توبة واستغفار بلسان الحال، عما قال بعضها بلسان القال: اتخذ الله ولدا بقوله تعالى:
سبح لله ما في السموت والأرض وهو العزيز الحكيم
[الحديد: 1] أي: هو أعز من أن يتخذ ولدا حكيم بأن لا يفعل مثل هذا، كما قال تعالى:
سبحانك تبت إليك
[الأعراف: 143].
وسابعها: الدعاء أي:
تسبح له السموت السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44]، ودعاء وتضرعا وابتهالا وتخشعا واعتذارا وتواضعا وانكسارا واعترافا بظلم من قال هذا القول على أنفسهم، ولولا تضرعهم ودعائهم تكاد السماوات تتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا، كما قال تعالى في حق يونس عليه السلام:
فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون
[الصافات: 143-144] أي: من الداعين وكان من دعائه قوله تعالى:
فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء: 87]، فكذلك قوله تعالى: { بل له ما في السموت والأرض كل له قانتون } [البقرة: 116] أي: كل ذرة من ذراتها وإعواز بقوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44].
ثم أخبر عن كمال تنزيهه وقدرته بقوله تعالى: { بديع السموت والأرض } [البقرة: 117]، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى نزه، ذاته أن يكون له ولد باسمه البديع عند أهل الحقيقة من لا مثل له ولا شبيه له يقال: هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل، فالله ولي الموجودات بهذا الوصف ؛ لأنه يمنع أن يكون له مثل أزلا وأبدا وولد الشيء يكون مثله وشبهه، فلهذا قال تعالى في موضع آخر:
بديع السموت والأرض أنى يكون له ولد
[الأنعام: 101] يعني: لو كان له ولد لما كان بديعا إذا كان له شبيه، ولهذا نفى الكفر عن أحديته عند تنزيه ذاته تعالى عن الولد والوالد وقوله:
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4]، وقال تعالى: تأكيدا لمعنى القدرة { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } [البقرة: 117]، معناه الولادات تكون بامتداد الزمان والزمان عبارة عن نقل حركات الفلك، والأفلاك من جملة مخترعاته إذ هو { بديع السموت والأرض وإذا قضى أمرا } ، أراد خلق شيء وإيجاده { فإنما يقول له كن فيكون } [البقرة: 117]، بكلام قديم { كن } وهو أمر قديم فيه تتعلق القدرة القديمة وفق الإرادة القديمة بالشيء المحدث فيوجد بالصفة المخصوصة في الوقت المعلوم، فيكون كما أراد، فأنى حاجته بالولادة والولد تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم أخبر عن جهل أهل العناد بقوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينآ آية } [البقرة: 118]، الآيتين والإشارة فيهما أن الذين لا يعلمون أن الله متكلم من الأزل إلى الأبد بكلام قديم واحد، وكلامه متعلق بجميع المكونات أمر التكوين، وهو خطاب { كن } فأسمع السماوات والأرض خطابه: أئتيا طوعا أو كرها، فسمعت، وقالت أتينا طائعين ويرى سائر المكلفين أمر التكليف، فقالوا: { لولا يكلمنا الله أو تأتينآ آية } [البقرة: 118]، وما علموا أن الله يكلمهم على الدوام، ولكن لهم آذان لا يسمعون بها، وإنهم عن السمع لمعزولون، ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم كما أسمع قوما أخبر عنهم، كما أخبر عنهم
وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
[المائدة: 83]، فالسمع الحقيقي يزيد معرفة القلب وكل قلب يكون حيا بحياة معرفة الحق يسمع كلام الحق وللقلوب الميتة قال تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، ولو أسمعهم خطابه بسمع الظاهر وقلوبهم ميتة لتولوا عنه وعنهم معرضون، كما أسمع نفرا من قوم موسى عليه السلام خطابه فلم يطيقوا سماعه بعدما رأوا من عظيم الآيات وأن الله أماتهم ثم أحياهم حرفوا وبدلوا فما تغني الدلائل، وإن وضحت فيمن حقت له الشقاوة وسبقت الموتى مثل هؤلاء أشار بقوله تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [البقرة: 118]، في الموت من حياة المعرفة.
وقال تعالى في حق من أحيى قلبه بحياة المعرفة
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122]، وإليهم أشار بقوله تعالى: { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } [البقر ة: 118]، فإن في الآيات التي أظهرها وأراها قلوب الأحياء من عباده كقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق
[فصلت: 53]، ما يزيح العلة من الأغيار ويشفي الغلة من الأخيار ولكن
لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46].
[2.119-124]
ثم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن كمال عنايته فيه وحال مخالفيه بقوله تعالى: { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } [البقرة: 119]، والإشارة فيها: { إنا أرسلناك بالحق } شواهد دليله قوله أن الله هو الحق يعني: أرسلناك بنا مبشرا للمؤمنين وهذا الاختصاص خصصتك به من بين سائر الأنبياء؛ لأنهم كانوا مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار، وأنت مبشر بالله ومنذر بالله دليل هذا القول قوله تعالى:
إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب: 45-46]، الحقيقية بشر من أجابك ومن اتبعك بالوصول إلى الله، وأنك سراج تبين طريق الوصول إلى الله، وأنذر من لم يجيبك بالانقطاع عن الله { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } [البقرة: 119]، الذين زلت أقدامهم عن الصراط المستقيم.
ثم أخبر تعالى عن جهالة أهل الضلالة بقوله تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [البقرة: 120]، والإشارة فيها أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم غاية جهالتهم وغلوهم في ضلالتهم أنهم يرجون رجوعه إلى ملتهم والصلاة إلى قبلتهم، وأشار إليه أن لا تبالي برضائهم إذا حصل لك رضانا، فأظهر عداوتهم وأعلى التبرؤ عنهم ولا تمهلهم { قل إن } [البقرة: 120]، طريق { الهدى } [البقرة: 120]، الذي هداني { هدى الله } [البقرة: 120]، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه { ولئن اتبعت أهوآءهم } [البقرة: 120]، حرصا على أن يتبعوك ويقبلوا دينك ويؤمنوا بك
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف: 103] { بعد الذي جآءك من العلم } [البقرة: 120]، بأنك لا تهدي من أحببت { ما لك من الله من ولي } [البقرة: 120]، في هدايتهم { ولا نصير } [البقرة: 120]، على استتباعهم فكن بنا لنا متبرئا عما سوانا، وقبلها إشارة أخرى أنه لن ترضى عن روح السالك يهود نفسه ولا نصارى هواه حتى تتبع ملتهم، يوافقهم في طلب الشهوات النفسانية وتتبع لذات الجسمانية، وتخلع عن الصفات الروحانية، قل إن هدى الله الذي دعاني إليه من التخلق بأخلاقه والتنور بأنواره هو الهدى، لا الذي تدعونني إليه من الصفات البهيمية والحيوانية والأخلاق الشيطانية، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من الإلهامات الربانية وواردات الألطاف الإلهية والمكاشفات الروحانية ما لك من الله من ولي في الخلاص عن الدركات السفلية، ولا نصير على نيل الدرجات العلية، وإياك أن تلحظ هذه الكرامات الواردات من تلك الحضرة بعين التقصير وبميل هواجس النفس إلى طرف تقصير فتعمى حينئذ عمى لا يصلح عنك بعده قادح ولا يفتح بابه عليك فاتح، فإن الأنفاس الرحمانية والنفحات الربانية لا تهب عن كل أرضي وسمائي ولا تمر على كل ماء وهواء إلا من قبل بمن الإيمان ولا تمر إلا على أرواح هي أدعية القرآن لا يدري ما مصحوبها إليك ومنشورها إلا عليك إلا هي حوامل آلاء ونعماء وبر ووفاء وود وصفاء معها تحف الربوبية وطرف الخصوصية ومحو العبودية واستيلاء الألوهية.
ثم أخبر عن أهل الإيمان الحقيقي بقوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتب } [البقرة: 121]، والإشارة آتينا هاهنا بمعنى أعطينا أي: الذي أعطيناهم الكتاب دراية وفهما وقبولا { يتلونه حق تلاوته } [البقرة: 121]، يدل على هذا قوله تعالى:
ولقد آتينا موسى الكتاب
[البقرة: 87]، وقوله تعالى:
وآتينا عيسى ابن مريم البينات
[البقرة: 253]، وقوله تعالى:
ولقد آتيناك سبعا من المثاني
[الحجر: 87]، كلها بمعنى الإعطاء فالفرق بينهما بمعناه وغير معناه أن الذي بمعنى الإعطاء إضافة إلى نفسه فقال { وآتينا } وبمعنى غيره ذكره بصيغة ما لم يسم فاعله فقال تعالى :
أوتوا الكتاب
[آل عمران: 19]، كقوله تعالى:
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب
[آل عمران: 19].
وقوله تعالى:
وما تفرق الذين أوتوا الكتاب
[البينة: 4]، وأمثاله أي: يتدبرون ويتفكرون في معانيه وأسراره وحقائقه ولطائفه وظاهره وباطنه فإن للقرآن ظهرا وبطنا يدل على هذا قوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته } [البقرة: 121]،
أفلا يتدبرون القرآن
[النساء: 82]، { أولئك يؤمنون به } [البقرة: 121]، الإيمان الحقيقي ما يكون من إعطاء الله حقائق كتابه لقلوب عباده ليتلوه حق تلاوته ويؤمن به والدليل على هذا قوله تعالى:
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22]، { ومن يكفر } [البقرة: 121]، أي: ومن ينكر هذا المعنى ويجحد { به } [البقرة: 121]، ولا يعرف قدر معاني القرآن وحقائقها ويقنع بما ظهر عنده من لغة العرب والأحكام الظاهرة والقصص فقد مر حقائق ما أشار إليه الله عز وجل بقوله
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي
[الكهف: 109]، { فأولئك هم الخسرون } [البقرة: 121].
ثم أخبر تعالى عما أنعم به على اليهود وما عرفوا بقوله تعالى:
يبني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
[البقرة: 40]، الآيتين الإشارة فيهما أن يتذكر النعمة المضافة إلى نفسه التي من خصائصها أن ينعم الله بها على عباده بما يفضلهم على العالمين
واتقوا يوما
[البقرة: 48]، فهاهنا الاتقاء من عذاب يوم
لا تجزي نفس عن نفس شيئا
[البقرة: 48]، من العذاب من نفس مثله
ولا يقبل منها شفعة
[البقرة: 48] أي: فداء من نفس دون نفس ولا ينفعها شفاعة؛ لأنها لم تكن أهلا للشفاعة
ولا هم ينصرون
[البقرة: 48]، بدفع العذاب عنهم أبدا؛ لأنهم أبطلوا استعداد قبول فيض النصرة عن أنفسهم باتباع الهوى وترك التقوى.
ثم أخبر تعالى عن أهل التقوى وتارك الهوى بقوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } [البقرة: 124]، والإشارة فيها أن الولاء مظنة البلاء، فإن إبريز الولاء لا يبرز من معدن الإنسان الذي هو محل الابتلاء إلا بالتهاب نار الهوى، كما قيل البلاء للولاء كاللهب للذهب، فأصدقهم ولاء أشدهم بلاء، فلما ابتلي الخليل عليه السلام بكلمات هي أحكام النبوة ولوازم الرسالة وموجبات الخلقة فوفى { فأتمهن } [البقرة: 124].
أما أحكام النبوة: فما ابتلاه الله تعالى بالخصال العشرة في جسده كما ذكره في تفسير الآية، وأما لوازم الرسالة فمنها الصبر عن صدمات المكروهات وفقدان المألوفات، كما قال تعالى:
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل
[الأحقاف: 35]، فصبر على كل مكروه وحادثة في ماله وولده ونفسه، وعن كل مألوف فقده في المال بالبذل وفي الولد بالذبح وفي النفس بالفداء.
وأما موجبات الخلة: فمنها التبرؤ عما سوى الخليل، ورفع الوسائط فيما بينه وبين الخليل، والتسليم والرضا تحت تصرفات الخليل فيما أراده له الخليل.
أما التبرؤ فقوله:
إني بريء مما تشركون
[الأنعام: 78]، وأما العداوة فإنه قال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77].
وأما رفع الوسائط فقوله حين عرضه جبريل عليه السلام في الهوا وهم يعذبونه في لجة الهلاك، وما الرضا ففي ذبح الولد قد أظهر الرضا، بما أمره وما راجع الحق تعالى في ولده كما راجعه نوح عليه السلام في ولده
إن ابني من أهلي
[هود: 45]، فأخبره تعالى كمال رضاه بقوله:
فلما أسلما وتله للجبين
[الصافات: 103] فلما خرج عن عهده إتمام كلمات الابتلاء فزيد له في الاصطفاء والاجتباء وأكرم بكرامة الأنبياء والاقتداء بقوله تعالى: { قال إني جاعلك للناس إماما } [البقرة: 124]، وقد قيل: وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان وفي قوله تعالى: { قال إني جاعلك } [البقرة: 124]، معنيان:
أحدهما: { قال إني جاعلك للناس إماما } [البقرة: 124]، تهدي الناس إلى طريق خلتي بأقوالك وأفعالك وأخلاقك على طريق هدايتك إليها بعد أن أسلموا لأحكام منا كما أسلمت وصبروا على بلائنا كما صبرت وأيقنوا بآياتنا كما أيقنت يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا
[السجدة: 24].
والثاني: جاعلك إماما لمن يدعي محبتي ويريد خلتي أبدا ليقتدى بك فيما ابتليتك من موجبات الخلة ذكره بأداء حقوقها والخروج عن عهدة شرائطها كما أجرى منك والذي يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31].
ثم التمس الخليل عليه السلام من الله تعالى إمامة لأوليائه { قال ومن ذريتي } [البقرة: 124]، فأخبر تعالى أنها ليست باستحقاق فما نسب أو باستحقاق سبب، وإنما هي باستعداد أزلي وقسم سرمدي { قال لا ينال عهدي الظالمين } [البقرة: 124] أي: غير المستعدين لقبول هذه الكرامة الله أعلم حيث يجعل رسالته من ذريتك، وغرهم إذ ليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها فإنه لا ادخار لها عن أحد وإن كان كافرا كما كان في أهل ملكه لما دعوت، فقلت:
وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر
[البقرة: 126]، قال: ومن كفر فليس بالدنيا من الخطر ما يمنعها من الكفار ولكن عهدي لا ينال إلا الخواص من عبادي وأخص.
[2.125-130]
ثم ندب هذه الأمة في اتخاذ مقام الخلة أشار بقوله تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [البقرة: 125]، الإشارة فيها أن البيت هو القلب كما جاء أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام وقال:
" يا داود فرغ بيتا أسكن فيه فقال: وكيف يا رب فقال: فرغ لي قلبك "
وكذلك قوله تعالى:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
فمعناه إذ جعلنا القلب الإنساني مثابة يرجعون إليه طلابي وزواري، كما يرجعون إلى الكعبة في الصورة وأمنا للسالك من تصرفات الشيطان ومكائده حين بلغ منزل القلب، وحصل له سلوك مقاماته وإن الشيطان لا يقدر على دخول القلب؛ لأن القلب خزانة الحق والخزانة محروسة بحراسة قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وإنما جولان الشيطان في ميادين الصدور لقوله تعالى:
يوسوس في صدور الناس
[الناس: 5].
{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [البقرة: 125] يعني: إذا وصلتم إلى كعبة القلب اجعلوا مقام الخلة قبلة توجهكم فيكون قصدكم وذهابكم إلي لا إلى سواي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، وكانت ملته
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، ومما يدل على المعنى الذي جرى في الآية قوله تعالى: { وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل } [البقرة: 125]، والإشارة فيها أنه لما شرف البيت بإضافة إلى نفسه لقوله بيتي أكرمه بكرامات مخصوصة عن غيره من المساجد:
أولها: أنه كان أول بيت وضع للناس من بيوت الله تعالى.
وثانيها: عين موضعه بمكة خير المواضع بإرسال جبريل عليه السلام وقد خلق الله تعالى موضع البيت بألفي عام.
وثالثها: أمر الخليل عليه السلام ببنائه بيده.
ورابعها: جعله مباركا على زواره ومستقبليه.
وخامسها: وهو سبب هداية لقوله تعالى:
وهدى للعالمين
[آل عمران: 96].
وسادسها: جعله حرما لا يصاد صيده ولا يقطع شجره.
وسابعها: مأمنا لا تجد جان يأوي إليه ويغفر ذنوب من دخل فيه قال تعالى:
حرما آمنا
[القصص: 57].
وثامنها: جعلها قبلة حبيبه، وقال:
فول وجهك شطر المسجد الحرام
[البقرة: 144]، وقبلة أمته
وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
[البقرة: 144].
وتاسعها: جعله حجة ركنا من أركان الإسلام وقال الله:
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
[آل عمران: 97].
وعاشرها: جعله منزل الرحمة ومقسمها لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله في كل يوم وليلة مائة وعشرين رحمة تنزل على هذا البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين ".
والحادي عشر: جعل طوافه عبادة وموجبا للرحمة.
والثاني عشر: جعل النظر إليه عبادة وموجبا للرحمة.
والثالث عشر: جعل جواره جوار الله.
والرابع عشر: جعل محل الآيات البينات.
والخامس عشر: جعل صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه من المساجد.
والسادس عشر: جعله ملجأ الخلق ومعادا يعودون إليه لا يقضون منه وطرا كلما انصرفوا اشتاقوا إليه قال تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا } [البقرة: 125].
السابع عشر: جعله مغناطيس القلوب بجذبها من المسافة البعيدة فالقلوب مشتاقة إليه وإلى أهله لما قال تعالى:
فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم
[إبراهيم: 37].
والثامن عشر: جعل له كرامة ظاهرة وآية مبينة أن الطير يقع على حيطانه ولا يطير فوقه ولا روث في حرمه مع كثرة الحمام.
والتاسع عشر: جعله معظما مبجلا في الجاهلية والإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى اليوم، وكانوا يعظمونه ويقصدونه ويزورونه ويقربون به أهل الأديان والملل كلها حتى الكفر والشرك.
وعشرونها: جعل فيه الحجر الأسود وهو ياقوتة من يواقيت الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الحجر الأسود يمين الله في أرضه "
شرفه الله بهذه الكرامة بما لا يحصى ولكن اقتصر على مخافة التطويل والإشارة في قوله تعالى: { وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل } [البقرة: 125]، أنا عاهدنا معهما في الميثاق على تطهير القلب عن أدناس تعلقات الكونين واقتصار ملاحظة الأغيار فإنه بيتي، وإنما أضافه إلى نفسه ليكون مخصوصا به عما سواه ولا يكون لغيره فيه مأوى ولا سكنى.
ولو كان الأمر بالتطهر مقصورا على بيت الكعبة لكفى الخطاب إلى أحدهما دون الآخر كقوله تعالى:
وأذن في الناس بالحج
[الحج: 27]، فلما كان الأمر بذلك مشتملا على تطهير كلا البيتين خاطبهما به، وأما الطائفون فواردات الحق وإلهاماته وإشاراته ومحادثاته ولوامع أنواره وطوالع أسراره ووفور مواهبه فحملتها بلسان قوم الأحوال، وهي التي تطوف حول القلوب المطهرة من الملوثات السليمة من الآفات، وأما العاكفون فأنوار معرفته ومحبته وحقائق صفاته وأخلاقه فجملتها المقام فالأحوال تكون لأصحاب التلوين ولأرباب التميكن والمقام ولا يكون إلا لأرباب التمكين، وأما الركوع والسجود فإشارة إلى قلب الصفاء المطهرة وهي الإرادة والصدق والإخلاص والخضوع والخشوع والدعاء والتضرع والابتهال والانكسار والتواضع والخوف والرجاء والصفاء والوفاء والتسليم والرضا والخشية والهيبة والتوكل والتفويض فحملتها العبودية.
ثم أخبر عن دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة وأهلها من شرف البيت بقوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت وإسمعيل } [البقرة: 126-127]، والإشارة فيها أنه كما كان في بدء أمر البيت أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في الجنة استوحش، فأنزل الله تعالى ياقوتة من يواقيت الجنة لها بابان باب شرقي وباب غربي، وفيها قناديل من الجنة فكذلك لما هبط الروح إلى أرض الجسد فقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حضرة القدس استوحش فأنزل الله ياقوتة من يواقيت حضرة القدس لها بابان إلى حضرة رب العالمين يطلع منه شوارق الألطاف، وباب غربي إلى مغرب الجسد منه تخرج الشوارق إليه وفيه قناديل من جنة حضرة القدس، وهو العقل وأنزل حجرة الذرة المخاطبة بخطاب:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، منورا بنور جواب { بلى } وهو الإيمان الفطري وهو الحجر الذي لقمه كتاب العهد يوم الميثاق، وهو يمين الله في أرضه وهو الذي يلزم أن يصافح ويقال إيمانا بوعدك ووفاء بعهدك فلما كان أيام طوفان آفات الصفات البشرية الطفولية إلى أوان البلاغة ودار تنور الشهوة رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابع يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع وأخفى حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس فلما أمر إبراهيم الروح بعد البلوغ ببيت القلب السكينة التي ينزل الله تعالى في قلوب عباده ولو كان نبيا من الأنبياء لقوله تعالى:
أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين
[التوبة: 26].
وقال تعالى:
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين
[الفتح: 4] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة المارة تجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام، وتناولها بيد الصدق إبراهيم الروح وهو بيتي إلى أن يبلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى: وإن لك عندي وديعة فخذها مخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه وكان أبيض فلما لمسه حضيض اللذات الدنياوية ومشركوا الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسود، فلما أتما رفع قواعد بيت القلب رجعا إلى الحضرة بصدق النية وما سألا ربهما من الأجرة إلا تقبل العبودية: { ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم } [البقرة: 127]، بما يحتاج إليه مما نعلم ومما لا نعلم.
ثم أخبر تعالى عن صدق التجائهما وخلوص دعائهما بقوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ } ، والإشارة فيها أن إبراهيم الروح وإسماعيل النفس المطمئنة سألا ربهما بعد فراغهما من عمارة القلب أن يجعل سعيهما مشكورا، ويجعلهما مسلمين منقادين للأحكام الظاهرة والباطنة، فأما الظاهرة: فهي أحكام الشريعة وأما الباطنة: فهي الأحكام الأزلية الحقيقية التي جف القلم بها قالا: { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ } أي: المتولدات منا من الصفات الروحانية والصفات النفسانية { أمة مسلمة لك } ، حتى لا يتحرك عرق منا إلا بانقياد أوامرك ونواهيك، ولا يخطر ببالنا خاطر إلا بإلهاماتك ودواعيك ولا يكون لنا خلق إلا تخلقنا به من أخلاقك { وأرنا مناسكنا }؛ إذ لا سبيل إلى معرفة [مقتدراتك] إلا بإعلام [أوقاتك]، { وتب علينآ } ، بتوفيق ترك حظوظنا والقيام بأداء حقوقك بعد القيام بجميع ما أمترنا حتى لا تلاحظ حركاتنا وسكناتنا، ونرجع إليك عن شهود أفعالنا واستجلاء أحوالنا لئلا يكون يخطر الشرك الخفي بوهم منا { إنك أنت } ، وأنا بك لا بنا فلا يكون رجوعنا إلا إليك لأنك { التواب } ، فارجع بنا إليك بك فارحمنا فإنك { الرحيم }.
ثم أخبر تعالى عن إلحاحهما في الدعاء بقوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } ، والإشارة فيها أن الرسول الخارجي لا يسمع من لم يكن له في القلب رسول قلبي بوارد من الحق سبحانه ويكون القلب به حيا كما قال تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، وقال تعالى:
لينذر من كان حيا
[يس: 70]، فالقلب الحي بنور ورد الحق ليسمع بذلك النور كلام الرسول الخارجي ويفهمه ويقبله فسر القلب الذي هو قابل فيض نور وارد الحق يكون الرسول بين الحق والعبد، فيأخذ الأسرار والمعاني والحكم والمواعظ من نور وارد الحق ويبلغها إلى القلب والنفس وسائر الأمة المسلمة من الأوصاف والأخلاق.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
" واعظ الله في قلب كل مؤمن "
فمعنى الآية أفض على سر القلب أنوار وارد فضلك ليكون رسولا في الآمة المسلمة من الأوصاف الإنسانية وأخلاقها وأعمالها منهم، فيأخذ رسالات أنوار وارداتك ويبلغ إليهم { يتلوا عليهم } ، بلسان الأنوار { آيتك } ، وارداتك { ويعلمهم } أسرار { الكتب } ، ومعانيه وحقائقه ولطائفه { والحكمة } ، وهي كل خبر معنوي يؤتيهم الله بوارد فضله سرا فيخصه بذلك دليله قوله تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة: 269]، فإن قيل على هذا كيف يعلمهم الحكمة النبي صلى الله عليه وسلم وأثبت أن الحكمة من مواهب الحق؟ فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه يعلمهم من الحكمة التي أتاه الله ويدعوهم بها إلى سبيل الحق بيانه قوله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
[النحل: 125].
وثانيهما: شرائط الإسلام وواجبات الشرع فيها يهدي الله قلوبهم ويفتح عليهم أبواب الحكمة لقوله تعالى:
ومن يؤمن بالله يهد قلبه
[التغابن: 11]، وقال تعالى:
وإنك لتهدي
[الشورى: 52]، وقوله تعالى: { ويزكيهم } ، فيه إشارة إلى أن تزكية أوصاف الخلق لا يمكن إلا بتحلية أخلاق الحق، وذلك أيضا من أنوار وارد الفضل لقوله تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشآء
[النور: 21].
{ إنك أنت العزيز } ، والعزيز هو المنيع الذي لا يهدي إليه إلا بهدايته ولا يوصل إليه إلا بجذبات عنايته { الحكيم } ، أي: ذو الحكمة يعني ليست الحكمة من صفات الخلق إنما هي من صفات الحق فمن لم يؤته الحكمة يكون على وصف جهولية
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72].
ثم أخبر تعالى عن وصف من نبذ الملة وما فيه من العلة بقوله: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [البقرة: 130]، إشارة إلى أنه من يرغب من ملة إبراهيم الروح وهي التوحيد بالكلية للحق، والتبرؤ عما سواه في تصحيح الخلة إلا النفس الأمارة التي من خصوصيتها الظلومية والجهولية فبجهلها لا يعرف قدر مقام الروح واختصاصه بالقرب واستحقاقه للخلة، ولا يعرف أيضا خسته نفسها وعملها وضلالتها المذمومة، وإن هلاكها في هواها فترغب إلى متابعة هواها وتحصيل لذاتها وشهواتها وترغب عن مطاوعة الروح في طلب الحق { ولقد اصطفيناه في الدنيا } [البقرة: 130]، على كل شيء خلقناه { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة: 130]، لقبول نور الله الذي هو مخصوص به من العالمين في قبوله وإلى هذا أشار بقوله
وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72]، فافهم جدا.
[2.131-136]
ثم أخبر تعالى عن كمال تسليمه وحسن استعداده بقوله: { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [البقرة: 131]، الإشارة فيها أن الروح الإنساني مخصوص من العالمين بالاستسلام لقبول أنوار فيض رب العالمين بلا واسطة والاستعداد والاستحقاق لخطاب ربه: أسلم لنور فيضي وفيض نوري، فيستسلم لقوله ويقول: { أسلمت لرب العالمين } [البقرة: 131] أي: لنور رب العالمين وبيانه قوله تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، وليس لغير الإنسان كرامة أن يكون على نور من ربه إلا بواسطة، هذا سر عظيم وشرحه يطول وأنت ملول.
ثم أخبر عن وصيته لبنيه أن يدينوا بدينه لقوله تعالى: { ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب } [البقرة: 132]، والإشارة فيها أن إبراهيم الروح يوصي أبناء ذريته من القلب وصفاته والنفس وصفاتها والقوى البشرية والحواس الخمس والأعضاء والجوارح، فإنها متولدات بعضها من بعض على الحقيقة لملته وهي الخلة عن التبرؤ عن غير الخليل في العبودية والخلة { يابني إن الله اصطفى لكم الدين } [البقرة: 132]، فيه إشارة شريفة وإشارة لطيفة، يعني لولا فضل الله عليكم ورحمته اصطفاؤه لكم الدين فلقوله تعالى:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
[فاطر: 32]، فقال لولا أورثنا واصطفينا وإلا ما للتراب ورب الأرباب.
{ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [البقرة: 132]، فيه إشارة إلى أنكم للفناء فلا تفنوا إلا في استسلام وجوهكم لنار نور نور الله وهي نار وقودها الناس والحجارة، فإن اشتعال نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنما هي تكون بعد استسلام حطب الوجود لها فيه، إنها عليهم موصدة في عمد ممددة، فمن لم يستسلم اليوم لنار الخلة والمحبة بالاختيار فلا بد غدا يلقى في نار الغضب.
ثم أخبر عن تأثير الوصية في أولاده وأولاد أولاده بقوله تعالى: { أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } [البقرة: 133]، والإشارة فيها أن الله تعالى استجاب دعاء إبراهيم في أولاده وأولاد أولاده إذ قال:
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك
[البقرة: 128]، وأظهر استجابته بإيصاء يعقوب وإقرار ولده وولد ولده لإبراهيم عليه السلام وأولاده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم "
فجروا كلهم صلوات الله عليهم على منهاج واحد في التوحيد والاستسلام توارثوا ذلك خلفا على سلف، فهم أهل بيت الزلفة ومستحقوا القربة، والمطهرون من قبل الله. وفيه إشارة أن الله تعالى إذا تجلى لروح عبد مخلص متضرع إليه محب له يظهر آثار تجليه على قلبه وسره ونفسه وقواه وحواسه وجوارحه وجميع أعضائه فيستسلمون له بكليتهم وخضعوا له فيعبدون كلهم إلها واحدا، وإن كان كل واحد منهم يعبد إلها آخر من قبل من الهوى والدنيا والآخرة كقوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية: 23]، وليستسلم كل واحد في العبودية لما يناسب حاله.
ثم أخبر أن كسب كل واحد يفيده وينفعه بقوله تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت } [البقرة: 134]، والإشارة فيها أن معاملة كل إنسان تنفعه ولا تضره، لا ينفع عمل نبي وسعيه لأولاده ولا لغيرهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" يا فاطمة يا بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئا ".
وكقوله تعالى:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه
[الإسراء: 13]، قال تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم: 39]، فمن لم يساعده التوفيق لأعمال العبادة لا تنفعه أعمال الآباء والأجداد { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } [البقرة: 135]، إلى قوله:
وهو السميع العليم
[البقرة: 137] والإشارة في تحقيق الآيات أن يهود الشيطان الإنساني، فإن لكل إنسان شيطان كما جاء في الحديث، ونصارى الهوى والنفسانية، ويدعو كل واحد منهم الأمة المسلمة من طينة الإنسان إلى دينه ويقول: كونوا على ديني فلا دين إلا ديني فيناديهم منادي ألطاف الحق { قل بل ملة إبراهيم } [البقرة: 135]، الروح { حنيفا } [البقرة: 135]، مائلا إلى الحق: { وما كان من المشركين } [البقرة: 135]، الملتفتين إلى غير الحق { قولوا آمنا بالله ومآ أنزل إلينا } [البقرة: 136]، من أنوار الواردات وإلهامات { ومآ أنزل إلى إبراهيم } [البقرة: 136]، الروح من تجلي صفات الحق { وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } [البقرة: 136]، المتولدات من الروح { ومآ أوتي موسى } [البقرة: 136]، القلب { وعيسى } [البقرة: 136]، السر.
{ وما أوتي النبيون } [البقرة: 136]، وهم المدركات الروحانية والعقلية { من ربهم } [البقرة: 136]، من مكاشفات الأسرار الربانية ومشاهدات الأنوار الإلهية { لا نفرق بين أحد } [البقرة: 136]، في الإيمان بما أنزل إليهم وما أوتي كل واحد { منهم } [البقرة: 136]، إذ هو من أصناف ألطاف الحق { ونحن له مسلمون } [البقرة: 136].
[2.137-142]
{ فإن آمنوا } [البقرة: 137] يعني يهود الشيطان كما أسلم شيطان محمد صلى الله عليه وسلم ونصارى الهوى { بمثل مآ آمنتم به فقد اهتدوا } [البقرة: 137]، فإن الشيطان إذا آمن يكون للسالك بمثابة جبريل عليه السلام فيعرج به إلى سدرة المنتهى، وهي أعلى المراتب الروحانية فلا يستبعد هذا من الشيطان فإنه جبريل الأصل فبالإباء والاستكبار صار شيطانا رجما، فإن أسلم وترك الإباء وسجد لآدم الروح، فرجع إلى أصل خلقته، ونصارى الهوى إذا رجما، فإن آمنت تكون المحبة والشوق والعشق وتكون للسالك بمثابة الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها يصل السالك إلى الحق ويعرج من سدرة المنتهى.
ولهذا قال بعض المشايخ: لولا الهوى ما سلك أحد طريقا على الله تعالى { وإن تولوا فإنما هم في شقاق } [البقرة: 137]، يعني العداوة والمخالفة من شر الشيطان والهوى { فسيكفيكهم الله } [البقرة: 137]، يا سالك شرهما وشرك من هو من قبليهما فلا تلتفت إليهم { وهو السميع } [البقرة: 137]، بمقالاتكم { العليم } [البقرة: 137]، بحالاتكم ومعاملاتكم.
ثم أخبر أن معالجة المؤمن بصبغة الله لا يغيرها بقوله تعالى: { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة } [البقرة: 138]، إلى قوله: { مخلصون } [البقرة: 139] والإشارة فيها أنه كما أن للكفر صبغة فللدين صبغة، وصبغة الدين هي صبغة الله فليس العبرة فيما يتكلفه الخلق، وإنما العبرة فيما يتصرفه الحق، فنصيب الأشباح من صبغة الله توفيق القيام بالأحكام وحظ القلوب تصديق المعارف بالعوارف في كفل الأرواح منها شهود الأنوار وكشوف الأسرار، وحق الأسرار منها فناء ليكون من صبغة الخلق بقاء التمكن في صبغة الله { ومن أحسن من الله صبغة } فإنها أزلية أبدية لا تغير فيها { ونحن له عابدون } [البقرة: 138]، يعني لصبغة أحكام أزليته منقادون بصبغة أنوار أبديته مكاشفون { قل أتحآجوننا في الله } [البقرة: 139]، وأنتم بحجب الخلقية وأستار أوصاف البشرية تحتجبون.
{ وهو ربنا } [البقرة: 139]، يربينا بحجر العناية بألبان الهداية { وربكم } [البقرة: 139]، يربيكم بألبان الخذلان في حجر الكفر والعصيان من إغواء الشيطان { ولنآ أعمالنا } [البقرة: 139]، مثمرة القبول والنجاة { ولكم أعمالكم } [البقرة: 139]، مثمرة الرد والهلاك لأنه { ونحن له مخلصون } [البقرة: 139]، لا غيره وأنتم مخلصون لغيره لا له، وما أمرنا نحن ولا أنتم إلا أن نعبد الله مخلصين لقوله تعالى:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5].
ثم أخبر عن إقرارهم وكتمان شهادتهم بقوله تعالى: { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [البقرة: 140]، والإشارة فيها أن للنفس والشيطان تسويلات سولت لهم أنفسهم، فمنها: تخيلهم أن إبراهيم الروح وأتباعه كانوا لركونهم إلى شيء من الدنيا وزينتها وشهوات النفس وهواها على ملة يهودية الشيطان ونصرانية النفس والهوى { قل أأنتم أعلم } [البقرة: 140]، بأحوال الروح وأتباعه { أم الله } [البقرة: 140]، الذي خلقهم وركب فيهم خاصية تنافي جبلة النفس والشيطان، وأما الروح وأتباعه فيتصرفون في الدنيا وزينتها والشهوات النفسانية ولذاتها عند بلوغهم حدود الرجال البالغين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله بقوة ربانية وبصيرة روحانية لا بشهوة حيوانية واستيفاء لذة نفسانية
قد علم كل أناس مشربهم
[الأعراف: 160] ويكون لهم ذلك ممدا في العبودية ومجدا في طريق الربوبية.
كما قال تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
[الأعراف: 32] على أن الله تعالى يتجلى ببعض صفاته على روح العبد فيظهر عكس أنوار الربوبية في مرآة القلب، فينعكس منها فيتنور بشعاعها هواء النفس ويقع على ضوء الشعاع على أرض الصدر فيقف الشيطان والنفس على كرامة الله الروح وأتباعه ويشاهدون آثار ألطاف الحق معهم، ولكي يكتمون ما شاهدوا ظلما وعدوانا كقوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون } [البقرة: 140]، أيها الشيطان والنفس من الإنكار والتمرد وأيها الروح وأتباعه من التبرؤ عن الأغيار في العبودية والتقرب في العبودية والتقرب إلى حضرة الربوبية وأتباعه من التبرؤ عن الأغيار في العبودية والتقرب إلى حضرة الربوبية بالتجرد والتفرد.
ثم أخبر الفريقين عن سلوك الطريقين بقوله تعالى: { تلك أمة قد خلت } [البقرة: 141]، والإشارة فيها أن الروح وأتباعه قد خلت ديار الجسمانيات، فإنهم قطعوا مفاوز النفوس والأشباح وعبروا بحار الملكوت والأرواح وبذلوا ليحصلوا وانفصلوا فأدركتهم جذبات العناية، وأوفت لهم الكيل بلا نهاية، فوجدوا ما طلبوا وسعدوا بما كسبوا فيها أنتم أيها الشيطان والنفس وأتباعكم فأوقرتم ظهوركم بالإثم والعدوان، وأعظمتم الإساءات إلى أنفسكم بالمنع والحرمان فهلموا إلى ربكم بالمعذرة إن كانت لكم، وهاتوا حجتكم وإن كانت معكم، إلا فبعدا وسحقا لكم، ولما طلبتم فتلك { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } [البقرة: 141]، { ولا تسألون } [البقرة: 141]، كل فرقة منكم { عما كانوا يعملون } [البقرة: 141]، فرقة أخرى كقوله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164].
ثم أخبر عن إنكار المعرضين بالباطل وإعراض الجاحدين عن الحق بقوله تعالى: { سيقول السفهآء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [البقرة: 142]، والإشارة فيها أن من سفاهة الغيبة وجهالة أصحاب الحجة إذا خفيت عليهم أحوال أرباب القلوب، ومشاهداتهم في الغيوب وتصريفهم الحق من حال إلى حال، وتحريفهم من أفعال إلى أفعال يعترضون على حركاتهم وسكناتهم، ويطعنون في كل شيء من معاملاتهم؛ لأنهم ينظرون إليهم بعين الاستقباح وهمتهم الاستفضاح.
وقال تعالى: { قل لله المشرق والمغرب } [البقرة: 142]، فإن شرقوا فلله وإن غربوا فبالله، فلا توجه لقلوبهم إلا إلى وجه الله { يهدي من يشآء } [البقرة: 142]، من أوليائه وأحبائه { إلى صراط مستقيم } [البقرة: 142]، لقائه بآلائه ونعمائه.
[2.143-148]
ثم أخبر عن كمال فضله مع هذه الأمة وحكمة تحويل القبلة بقوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } [البقرة: 143]، والإشارة فيها أن الله تعالى جعل بمحض العناية والكرم هذه الأمة وسطا عند الأمم وجعل في هذه الأمة هذه الطائفة بهم يمطرون وبهم يرزقون وهم القطب، وعليهم المركز وبهم حفظ الله جميع الأقطار فمن قبلته قلوبهم فهو المقبول المقبل ومن ردته قلوبهم فهو المدبر المردود؛ لأنهم شهود الحق يشاهدون وينظرونه به ويبصرون ويطالعون ولهذا قال: { لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } [البقرة: 143]، فكما أن للرسول صلى الله عليه وسلم مقاما أعلى من مقاماتهم وشهودا فوق شهادتهم، فيكون شهيدا عليهم فكذلك لهم مقام أعلى من مقامات الناس فيكونون مشرفين على سرائرهم مطلعين على ما في ضمائرهم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان فيشهدون عليهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنتم شهداء الله في أرضه "
وقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران: 110]، فلا يخفى أن هذا من سيرة القوم وإن كانوا أغرب من عنقاء مغرب اليوم، ولما أراد الله أن يميز بين المحق الموافق وبين المقلد المنافق حكم في أمر القبلة بالتحويل ليكبر على من نظر بعين التفرقة حكم التبديل، كقوله تعالى: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } [البقرة: 143]، ومن نظر بعين الحقيقة فيهديه الله للتسليم في العبودية فيستسلم لأحكام الربوبية، ثم قال تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة: 143] أي: من كان لله بجميع أوصافه كان الله له بجميع ألطافه: { إن الله بالناس لرءوف رحيم } [البقرة: 143]، من قرع باب رأفته فتح الله له أبواب رحمته.
ثم أخبر عن علة تحويل القبلة بقوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السمآء } [البقرة: 144]، والإشارة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم من مكان تأدبه بآداب أدبه ربه بها لم يكن يظهر مع الله سؤاله، ولا يستدعي باللسان مأموله رعاية الآداب القربة؛ إذ أوحى الله تعالى إليه:
" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق مسألة السائلين "
ومن كون نفقته على هذه الأمة كان يدخر دعوته المستجابة:
" فدعا كل نبي دعوته وادخرت دعوتي شفاعة لأمتي "
، فلما قدر الله تعالى شرف الكعبة أن تكون قبلته وقبلة أمته، فانعكس مسطور الكتاب من الكعبة في مرآة قلب النبي صلى الله عليه وسلم فظهر فيه داعية استقبال القبلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وكان تقلب قلبه إلى الله تعالى وتقلب وجهه إلى السماء لأنه كان قمر جبريل عليه السلام، فقال تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها } [البقرة: 144]، فالحبيب يترك سؤاله بطلب رضائه والرب يطلب رضاء رسوله بإنجاز مأموله { فول وجهك شطر المسجد الحرام } [البقرة: 144]، يعني ول قلبك رب المسجد الحرام بقلب الوجه إلى المسجد الحرام.
{ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم } [البقرة: 144]، أي: وجوه قلوبكم { شطره } [البقرة: 144] أي: إلى الله إن كنتم في البيوت أو في المساجد { وإن الذين أوتوا الكتاب } [البقرة: 144]، من أهل العلوم الظاهرة { ليعلمون أنه الحق من ربهم } [البقرة: 144]، علما لا ينتفعون به ليكون حجة لهم بل حجة عليهم { وما الله بغافل عما يعملون } [البقرة: 144]، تأييدا للأولياء وتهويلا للأعداء.
ثم أخبر عن ثبات الأعداء على قدم الكفر وثبات الأولياء على قدم الإيمان بقوله تعالى: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } [البقرة: 145]، والإشارة فيها أن الحكم السابق الأزلي سبق للأولياء بالقبول والإيمان وللأعداء بالرد والخذلان وبينهما برزخ لا يبغيان، ولئن أتيت يا محمد أهل الخذلان بكل آية { ما تبعوا قبلتك } [البقرة: 145]، ولا يزيدهم إلا الطغيان { ومآ أنت بتابع قبلتهم } [البقرة: 145]، لأنك على بصيرة وهم عميان، { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } [البقرة: 145]، وإن كانوا كلهم أهل الأهواء لأنهم مختلفون الآراء { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جآءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } [البقرة: 145]، معناه أن أتباع أهل الأهواء ممن سبقت لهم العناية الأزلية وهو عالم بها ظلم وعدوان، وهذا من شيم أرباب الخسران والضدان لا يجتمعان.
ثم أخبر عن معرفتهم النبي صلى الله عليه وسلم وجحود بعضهم بقوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب } [البقرة: 146] أي: أعطيناهم الكتاب دراية وفهما، { يعرفونه } [البقرة: 146]، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بنور فهم الكتاب بقوله تعالى:
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى: 52]، { كما يعرفون أبناءهم } [البقرة: 146]، بنور الحس ونور الباطن أقوى من المعرفة من النور الظاهر فمن كان مصباح قلبه منورا بنور الكتاب، والإيمان إذا نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم والولي يعرفهم بسيماهم.
كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:
تعرفهم بسيماهم
[البقرة: 273]، كما كان حال عبد الله ابن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونظرت إلى وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب { وإن فريقا منهم } [البقرة: 146]، المعرفة ما عرفوه حق معرفته وجحدوا به لقوله تعالى:
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظلمين بآيات الله يجحدون
[الأنعام: 33]، ثم قال: فأنت بتحقيق الحق
فلا تكونن من الممترين
[الأنعام: 114]، بعدما حق الحق
فلا تكونن من الممترين
[الأنعام: 114]، في حق حقه ولا في حق نفسك تفهم هذه الدقيقة إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر أن لكل أهل ملة قبلة بقوله تعالى: { ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات } [البقرة: 148]، والإشارة فيها بمعنيين:
أحدهما: إن لكل شخص على حدة قبلة مناسبة لاستعداد جبل هو عليها موليها، هذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم:
" اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
وثانيهما: إن لكل شيء من الإنسان قبلة هو موليها إن وكل إليه فقبلة البدن هي بالتلذذ بالحواس الخمس من المأكول والمشروب والمشموم والمسموع والمبصر والملموس والمركوب والمنكوح وأمثاله، وقبلة النفس هي الدنيا وزينتها ورفعتها والحرص في جمعها والتفاخر بها والتكبر لها وأشباه ذلك، وقبلة القلب هي الآخرة ونعيمها ودرجاتها وأنواع التمتعات بها، وقبلة الروح هي القربة والزلفة والشوق والمحبة وما هو من هذا القبيل، وقبلة السر التوحيد والمعرفة وكشف العلوم والمعاني والأسرار، وما يناسب ذلك ولو وكل واحد من هؤلاء إليه حتى أقبل البدن إلى قبلته وأقبلت النفس إلى قبلتها فكانا يزاحمان القلب والروح والسر في إقبالهم إلى قبلتيهم ويشغلانهم عن ذلك، وما صح لهم أن يقبلوا على قبلتهم بل يحولانهم إلى قبلتهما ويسبقا بهم، فلما وكلهم الله إليهم أمروا جميعا أن يخرجوا من طباعهم وأهوائهم ويطيعوا ربهم في إقبالهم إلى القبلة بأمره فاستبقوا الخيرات.
{ أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } [البقرة: 148]، فجعل قبلة البدن الكعبة، وقبلة النفس الطاعة والعبودية وترك الهوى، وقبلة الهوى وقبلة القلب الصدق والإخلاص والإيمان والإيقان والإحسان، وقبلة الروح التسليم والرضاء والصبر على مر القضاء، وقبلة السر الفناء في الله والبقاء بالله والكينونة مع الله على ما أراد الله بلا إعراض ولا اعتراض وأشار بقوله { فاستبقوا الخيرات } على أنكم إذا شرعتم بشرط العبودية في الطاعة فيما لكم به قدرة واستطاعة من { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } بجذبات الألوهية إلى أينما لم تكونوا بالله { إن الله على كل شيء قدير } [البقرة: 148]، من أشياء الإنسان { قدير } [البقرة: 148]، أن يفنيه به، فافهم جدا.
[2.149-154]
ثم أخبر عن قبلة أهل هذه المسألة بقوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } [البقرة: 149]، إلى { تهتدون } [البقرة: 150] والإشارة فيها أن الخطاب تكرر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الآيتين، ومن حيث خرجت فلا بد لتكرار من فائدة وهي أن الخروج الأول إشارة إلى الخروج من حجب الجهات معناه حين خرجت وتخلصت من حجب الجهات.
فول وجهك شطر المسجد الحرام
[البقرة: 144] أي: إلى جهة المسجد الحرام لئلا يتعلق قلبك بالمسجد وبالجهات فإنه حرام على قلبك التوجه والتعلق بغيري { وإنه للحق من ربك } [البقرة: 149] يعني: التوفيق لهذا المعنى لحق من الله فلا سبيل للحق إليه إلا به { وما الله بغافل عما تعملون } [البقرة: 149]، ليس عنكم غافلا حتى تعملوا بغير توفيقه والخروج الثاني إشارة إلى الخروج من الوجود لاندفاع الاثنينية وثبوت الوحدة، معناه: إذا خرجت من حجب وجود الأنانية بسطوات تجلي صفة الوحدانية { فول } وهذا أمر التكوين يعني كن موليا بسطوات التجلي وجه ذاتك شطر الفناء لتبقى بصاحب المسجد الذي وصفه بالحرام لمعنيين:
أحدهما حرام لمن دخله الخروج أبدا لقوله تعالى:
ومن دخله كان آمنا
[آل عمران: 97]، من الخروج.
والثاني حرام على غيرك الوصول إلى هذا المقام لأنه المقام المحمود وهو مخصوص بك والمحمود هو الله، فافهم جدا.
ثم عمم الخطاب وقال:
وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
[البقرة: 144]، وفيه معنيان:
أحدهما: وحيثما كنتم أيها المؤمنون يعني أي حال تكونون خرجتم من الحجب أو لم تخرجوا
فولوا وجوهكم شطره
[البقرة: 144]، الهاء كناية عنه.
والثاني:
فولوا وجوهكم شطره
[البقرة: 144]، الهاء كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني يكون توجهكم إلى متابعته في الخروج عن حجب الوجود واقتداء به في الوصول إلى عالم الشهود { لئلا يكون للناس عليكم حجة } [البقرة: 150]، يعني الأوصاف الإنسانية لا تكون عليكم منازعة في سلوك طريق الحق ولا تمنعكم بحجج الدواعي عن الحق إذا كنتم في حقارة المتابعة.
{ إلا الذين ظلموا منهم } [البقرة: 150]، يعني: صفة ظلومية النفس الأمارة والشيطان الظالم يزاحمانكم في أثناء السلوك في بعض الأوقات، وذلك لا يخلو من مصالح وحكمة { فلا تخشوهم } [البقرة: 150]، فإنهم لا يقدرون على قطع طريقكم بدرقة الإخلاص في ظله راية المتابعة { واخشوني } [البقرة: 150] يعني: لا تأمنوا مكري في حالة من الحالات ومقام من المقامات وكونوا واثقين بفضلي وإحساني وإنعامي { ولأتم نعمتي عليكم } [البقرة: 150]، نعمة المتابعة وإتمامها بالوصال إلى الحضرة، والإشارة في إضافة النعمة إلى نفسه وإتمامها أي: إخراج السالك عن ظلمات حجب وجوده إلى نور عالم ربوبيته كقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] هو الله تعالى.
ثم قال تعالى: { ولعلكم تهتدون } [البقرة: 150]، يعني: بعد خروجكم عن حجب الوجود تهتدون إلى شهود صفات جمالي وجلالي في ظل لواء متابعة من لا يصل أحدا إلى هذا المقام إلا في ظل لوائه، كما أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم:
" آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر ".
ثم أخبر عن إتمام النعمة أنه يبعث رسول النعمة بقوله: { كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم } [البقرة: 151]، والإشارة فيها أنها متعلقة بما قبلها وبما بعدها أما تعلقها بما قبلها فقوله تعالى: { واخشوني ولأتم نعمتي عليكم } [البقرة: 150]، كما مر تقديره وإن إتمام النعمة بتوفيق متابعة النبي صلى الله عليه وسلم لكي تهتدوا في ظل متابعته إلى الوصول إلى حضرة الجلال { كمآ أرسلنا فيكم } [البقرة: 151]، في أنفسكم، كقوله تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات: 21] { رسولا } [البقرة: 151] أي: واسطة بيني وبينكم منكم أي: من أجزاء وهو السر الإنساني كالرسول يحمل رسالتي بقبول أنوار الفيض الوارد مني ويبلغها إلى أجزائكم، والسر في مشكاة الجسد الإنساني بمثابة الفتيلة في مصباح الزجاجة القلب هو القابل لنور نار الله، إذا تجلى بنور الربوبية عند صفاء زيت الروحانية عن أدناس الصفات الإنسانية والكدورات الجسمانية وخمود نيران آفات الشهوات الحيوانية تنور فتيلة السر بنور نار الإلهية فتصير زجاجة القلب كأنها كوكب دري توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية الأرواح ولا غربية الأشباح وهي الكلمة الطيبة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار، نور الله على نور الروحانية يهدي الله لنوره من يشاء وهو السر.
{ يتلوا عليكم } [البقرة: 151]، على ظاهر مشكاة الجسد ظاهرا { آياتنا } [البقرة: 151]، الآيات وباطنا { ويزكيكم } [البقرة: 151]، من مذمومات الأوصاف والأخلاق { ويعلمكم الكتاب } [البقرة: 151]، ويعلم كل واحد منكم عقيب استعداده في قبول الأنوار الإلهية وهو كلام الله وصفاته القديمة، يعني: يتخلق بخلق من أخلاق الله تعالى: { والحكمة } [البقرة: 151]، وهي أسرار الشريعة وأما تعلق الآية بما بعدها وهو { كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا } [البقرة: 151]، { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } [البقرة: 152]، والإشارة فيها أن ذكر العبد لله من نتيجة ذكر الله العبد من وجهين:
أحدهما: خطاب الحق مع العبد بقوله: { فاذكروني } كلام أزلي ذكرهم به قبل وجودهم والخطاب على الحقيقة مع الذاكرين الله في علمه القديم فالآن من ذكر الله هو المخاطبون لا الغافلون فذكره نتيجة ذكر الله في الأزل.
والثاني: أن الله تعالى أمرهم بالذكر مع فاء التعقيب بقوله: { فاذكروني أذكركم } [البقرة: 152]، فيه تقديم وتأخير معناه أذكركم فاذكروني كقوله تعالى:
رضي الله عنهم ورضوا عنه
[المائدة: 119]، فإن رضاهم عنه نتيجة رضاه عنهم وكقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
واعلم أن للذكر مراتب وللذاكر أيضا مراتب: ذكر اللسان، وذكر الأركان، وذكر النفس، وذكر القلب، وذكر الروح، وذكر السر.
فذكر اللسان: بالإقرار أذكركم بالاختيار، وذكر الأركان: باستعمال الطاعات أذكركم بالكرامات، وذكر النفس: بالاستسلام للأوامر والنواهي، فاذكروني بالاستسلام أذكركم بنور الإسلام، وذكر القلب: بتبديل الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الكريمة فاذكروني بالأخلاق أذكركم بالاستغراق، وذكر الروح: بالتفريد والمحبة فاذكروني بالتفريد والمحبة أذكركم بالتوحيد والقربة وذكر السر: ببذل الوجود والفناء فاذكروني ببذل الوجود والفناء أذكركم بنيل الشهود والبقاء، وهذا حقيقة قوله تعالى الحديث الرباني:
" وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي "
وهذا هو الذكر الحقيقي أن يجعل الذاكر مذكورا، والمذكور ذاكرا بل يكون الذاكر والمذكور واحد كما قال تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر: 16]، وكما قال قائلهم:
رق الزجاج ورقت الخمر
فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنها خمر ولا قدح
وكأنها قدح ولا خمر
ولا يحل هذا المشكل إلا في صورة مثال مناسب مثل حال الفراش أن يبدل نفسه بشعلة الشمع والاشتعال بشعلة الشمع في نفسه بالحرقة عليها، وذكر للفراش باشتعال في نفسه نفس الفراش في نفسه، فلا يبقى التميز بين الشمع والفراش، فإن طلبت الفراش وجد الشمع، وإن طلبت الشمع وجدت الفراش، كما قيل:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حلنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
فلما بذل الفراش للشمع وجوده نال من وجود الشمع مقصوده، وهو تحقيق قوله تعالى:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش "
، حديث صحيح رباني، واعلم أن جزاء الذاكر بالذكر فضيلة مخصوصة بهذه الأمة { فاذكروني أذكركم واشكروا لي } [البقرة: 152]، أشكر لكم على نوعين: شكر النعمة، وشكر المنعم، وشكر النعمة أيضا على نوعين: نعمة ظاهرة من صحة البدن وسلامة الحواس والمال فشكرها أن يستعان بها على الطاعة بما يناسب كل واحد منها، ولا يستعان بها على المعصية، ونعمة الباطن بقوله تعالى:
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة
[لقمان: 20]، وهي المعاني الواردة على القلوب، وشكره بدوام المراقبة والتزام المحافظة للاستزادة.
وشكر المنعم أيضا على نوعين: شكر رؤية نعمة التوفيق من المنعم لمعبودية المنعم، وشكر نعمة وجود المنعم ببذل وجوده لوجدان جود وجود المنعم وثنائه في شهوده، ووجدان جوده لا يزيد في عينكم عنكم وشهودي لكم ولا تكفرون بترك طلب الزيادة، فإن ألطافي مع خواص عبادي غير متناهية
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ
[النحل: 18] وأداء شكرها كما قال داود عليه السلام:
" إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك، فأوحى الله إليه الآن قد شكرتني ".
ثم أخبر عن إقامة الشكر بإدامة الصبر بقوله تعالى: { يآأيها الذين آمنوا استعينوا } [البقرة: 153]، والإشارة فيها بأن من ترك الكفران بالقيام بأداء الشكر، وآمن بالعجز عن أداء الشكر استعينوا على أداء الشكر { بالصبر } [البقرة: 153]، مع الله وهو من أعمال القلب { والصلاة } [البقرة: 153]، وهي من أعمال البدن؛ لتكونوا عمال الشكر، كما قال تعالى:
اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى تورمت قدماه فقيل:
" يا رسول الله أتعمل هذا، وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا "
فبملازمة أعمال القلب والبدن وهي الصبر والصلاة يعينه الله على القيام بحق الشكر { إن الله مع الصابرين } [البقرة: 153]، بالعون والنصرة.
ثم أخبر عن باذل الحياة المجازي لنيل الحياة الحقيقي بقوله تعالى: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } [البقرة: 154]، والإشارة فيها أن لا تحسبوا أن من يقتل من أهل الجهاد الأكبر نفسه بسيف جلال الله في سبيل الله بالفناء في الله أموات، وإن فنيت أوصاف وجودهم، فإنهم أحياء بشهود موجودهم، ومن كان فناؤه في الله كان بقاؤه بالله، فتارة يفنيهم بسطوات تجلي صفات الجلال، وتارة يحييهم بنفحات ألطاف الجمال، فإنهم بين روضة وبين غدر يسرحون في رياض الجمال ولكن لا تشعرون أحوالهم ولا تطلعون على حالهم.
[2.155-160]
{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع } [البقرة: 155]، إلى { هم المهتدون } [البقرة: 157] والإشارة فيها أن البلاء والابتلاء من الله تعالى لاستخراج جواهر الأخلاق الإنسانية من معادنها؛ لأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة بيانه قوله تعالى:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
[الكهف: 7]، والأعمال من نتائج أخلاق النفس، فالسنة في استخراج جواهر الشكر الابتلاء بالنعمة كما كان لسليمان عليه السلام فأخرج منه بها الشكر وقال تعالى:
إنه كان عبدا شكورا
[الإسراء: 3]، والسنة في استخراج جواهر الصبر البلاء بالمحبة، كما كان لأيوب عليه السلام فأخرج منه بها الصبر وقال تعالى:
إنا وجدناه صابرا نعم العبد
[ص: 44]، فيبتلي الرجل على حسب دينه فمنهم من يبتليهم الله بالخوف، وقال: { بشيء من الخوف } يعني ببعضه والسر فيه أن يكون البلاء لأهل العناية بقدر فوته، واستطاعته في النعمة والمحبة يستخرج منه الشكر والصبر، وهما جوهران من معادن الروحانية ولو زاد على قدرة القوة والاستطاعة في النعمة والمحنة ما يخرج إلا ضد الشكر والصبر، وهما الكفران والجزع وهما جوهران من معادن النفسانيات لأهل الرد.
ولهذا قال تعالى:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
[الحجر: 21] أي: بقدر قدرة أهل القبول والعناية وعدم قوة أهل الرد والسخط، ومنهم من يبتليهم الله بالجوع { والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } [البقرة: 155]، أو ببعض دون بعض من هذه الجملة أو بمجموعها، ثم قال: { وبشر الصابرين } [البقرة: 155]، بشارة في الحال، أما في الحال فبشر الصابرين على الخوف بالتوكل واليقين والشجاعة، وعلى الجوع بتزكية النفس وتنقية القلب وتصفية الروح وتحلية السر، وعلى نقص الأموال بدفع الحرص والغفلة، وإزالة حب الدنيا فإنه رأس كل خطيئة، وحصول القناعة وهي كنز لا يفنى ومال لا ينفد وشعار الصالحين، وهو العضد وعلى نقصان الأنفس إن كان بالمرض بكفارة الذنوب، وإن كان بموت الأقرباء بقطع التعلقات والتجرد عن العلائق، وعلى آفة الثمرات بالخلف من الله تعالى في الحال، وأما في الحال فبشره بالنجاة من العذاب والدرجات والثواب بغير حساب كقوله تعالى:
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
[الزمر: 10]، وفيه معنى آخر في غاية اللطافة وهو بشر الصابرين بأني لهم معهم في كل حال من حالات الصبر وتصبرهم على المصائب وتخلقهم بخلق من أخلاقه، وهو الصبر ولو لم يكن معهم باللطف والعناية لما قدروا على الصبر يدل على هذا قوله تعالى:
والله مع الصابرين
[البقرة: 249]، وقال تعالى:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127]، والصبر هاهنا محمول على ثلاثة أوجه: صبر بالأمر، وصبر بالاختيار، وصبر الاضطرار.
أما الصبر بالأمر: ففي الآية إضمار بقوله تعالى: { ولنبلونكم بشيء } [البقرة: 155] يعني: ولنبلونكم بأوامر هذه الأشياء، فالأمر بالخوف كقوله تعالى:
وخافون إن كنتم مؤمنين
[آل عمران: 175]، والأمر بالجوع بصيام شهر رمضان، والأمر بنقصان المال بأداء الزكاة، والأنفس بالجهاد في سبيل الله، والثمرات بأداء العشر منها.
وأما الصبر بالاختيار: ففي قوله تعالى: { ولنبلونكم بشيء } [البقرة: 155]، إشارة إلى أنا نخبركم هل تختارون { بشيء من الخوف } [البقرة: 155]، الخوف بأن يخافوا من الله ويفروا منه إليه، والجوع فتجوعون تقربا إلى الله تعالى، كما كان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم:
" أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وصبرت، وإذا شبعت ذكرتك وشكرتك "
ونقص من الأموال فتخرجون عنها بتركها والإنفاق في سبيل الله، والأنفس فبذل الروح في طلب الحق، والثمرات فبالغذاء في طريق الحق كل ثمرة أثمرته شجر الوجود حتى الولد كما كان حال الخليل عليه السلام في صحيح مقام الخلة ببذل المال والنفس والولد.
وأما الصبر بالاضطرار: وهو الصبر على المصائب التي تقع من غير الاختيار كما سبق ذكره.
ثم نعت الصابرين بقوله: { إذآ أصابتهم مصيبة } [البقرة: 156] يعني: بالأمر أو بالاختيار أو بالاضطرار، كما ذكرنا { قالوا إنا لله } [البقرة: 156] أي: ليس لنا وجود حقيقي تملكه بل وجودنا مجازي، وله مالك له الوجود الحقيقي { وإنآ إليه راجعون } [البقرة: 156]، ببذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي في مقام العندية، فيخرج من عندنا ببذل ما عندنا؛ ليدخلنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فإن ما عندنا ينفد وما عند الله باق { أولئك عليهم صلوات } [البقرة: 157]، جذبات { من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } [البقرة: 157]، المفلحون بجذبات الحق إلى مقام العندية والتخلق بخلق من الأخلاق، وهو الصبر وهو الذي يشير به الصابرون بقوله تعالى: { وبشر الصابرين } [البقرة: 155] أعني: صلوات بجذبات الحق والاهتداء بها إلى مقام العندية.
ثم أخبر عن شعائر الله بقوله تعالى: { إن الصفا والمروة من شعآئر الله } [البقرة: 158]، والإشارة فيها أن الله تعالى شعائر الظاهر دالة على شعائر الباطن؛ لتستدل العبد بإقامة مراسم شعائر الله في الظاهر بالصفاء والمروة من شعائر الله في الباطن، فالصفا السر والمروة الروح، وللسالك بينهما سعي فساعة يسعى صفاء السر بقطع التعلقات عن الكونين، والتفرد عن التقلين تبتلا إلى الله تعالى لقوله تعالى:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8]، وساعة ليسعى في مروة الروح وهي إيصال الخير إلى جميع الأجزاء الإنسانية من الداخلية والخارجية، الباطنية والظاهرية بمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر في الطاعة، وتقديم الخيرات إلى نفسه وأهله وعياله والعالمين بأسرهم، والإشارة في سبع مراتب أن لظاهر الإنسان سبعة أركان ولباطنه سبعة أطوار، فكذلك العالم سبعة أقاليم { فمن حج البيت } [البقرة: 158]، بيت القلب في طلب الرب { فلا جناح عليه } [البقرة: 158]، خرج { أن يطوف } [البقرة: 158]، بصفا السر فإنه تعظيم أمر الله، ويسعى { بهما } [البقرة: 158]، في مروة الروح فإن الشفقة على خلق الله يكون من شعائر الله، ويصل بركات سعيه إلى سبعة أركانه الظاهرة، وسبعة أطواره الباطنة، وإلى سبعة أقاليمهم كقوله تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم: 39]، وأن سعيه سوف يرى، ولهذا قال تعالى: { ومن تطوع خيرا } [البقرة: 158] يعني: في حق نفسه أو حق غيره { فإن الله شاكر } [البقرة: 158]، يأخذ الواحد من الأعمال الفانية، ويعطي العشر إلى سبع مائة ضعف إلى ما لا يرى من الحسنات الباقية، بل يأخذ الوجود المجازي ويعطي الوجود الحقيقي { عليم } [البقرة: 158]، بنيات العباد في تقربهم إليه، فيقرب إليهم بقدر صفاتهم في الطاعات، ومردتهم في الخيرات، كقوله تعالى في الحديث الرباني:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته أهرول "
، وهذا من حقيقة صفة الشكورية، ومن كمال رأفته وغاية عاطفته مع أهل محبته وصفوته إن آثار أقدامهم وساعات أيامهم أشرف الأمكنة وأعز الأزمنة، فتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار، وإلى تلك المشاهد والأطلال تشد الرواحل والرحال، كما قال قائلهم:
هوى أهوائها لمن قد كان ساكنها
وليس في الدار لي هم ولا وطر
وإن لتراب أقدامهم بل لغبار آثارهم عند الأخيار أقدار عظيمة بل غبرة تبقى على حانات طريقهم عند صديقهم لأعز من المسك الأزفر، كما قيل: وما ذاك إلا أن متت بجنابه أميمة في سرب.
ثم أخبر عن خسارة أهل الخسارة في كتمان الأحكام ونعت حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وبقوله تعالى: { إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى } [البقرة : 159]، الآيتين والإشارة فيهما أن كمال ما كوشف به السالك الواصل من بينات علوم الحقائق، وأسرار القرآن والأنوار وهداية الطريق إلى الله تعالى آداب السلوك، ومعرفة آفات النفس وطريق الخلاص منها بتزكيتها ومعرفة المقامات والأحوال والفرق بينهما { من بعد ما بيناه للناس } [البقرة: 159]، بينه الحق بتسليكه فيه وعرفه بطريق التسليك فيها عن طلاب الحق، وأهل الإرادة والصدق والمستعدين لقبول النصح والإرشاد مما يوجب المقت في الوقت، ويخشى عليه عذاب ذل الحجاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من سئل عن علم علمه الله فكتمه ألجمه بلجام من النار ".
{ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } [البقرة: 160]، تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحق الرجعة، والقيام للمريدين بحق النصيحة، والدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وبينوا لهم تحميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون بحسن قيامهم بمعاملاتهم، فإن أظهر الحج لسان أفعالك وأصدق الشهادة تصحيح ما تدعوا به الخلق إلى الله أن لا تخالف بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك قال الله تعالى:
ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه
[هود: 88]، { فأولئك أتوب عليهم } [البقرة: 160] يعني: الذين تابوا وأصلحوا ما كان تؤتيهم من تلقاء أنفسهم إنما أنا أتوب عليهم؛ لأني { وأنا التواب } [البقرة: 160]، ولي التوبة، وليست التوبة للذين يعملون السيئات؛ لأني { الرحيم } [البقرة: 160]، أرحم على من أشاء من عبادي بالتوبة، فأتوب عليهم ولولا تهديد هذه الآية، فإن أكثر أهل التحقيق ما خلطوا الخلق وما اشتغلوا بمناصحتهم وتربيتهم وإرشادهم، وما تكلموا على المنبر وما قعدوا على السجادة للشيخوخة فرارا عن خسة الشركاء، واجتنابا عن مزاحمة السفهاء، واحترازا من معنى، وإن كثيرا من الخلطاء ليبقى بعضهم على بعض اللهم إلا من كان منهم مأمورا، فلا يكون معذورا فيخالط الناس ويصبر على أذاهم تقربا إلى مولاهم، وعارضة وصلا تعاظمت؛ إذ دعت وأحبت من دعاء تدعوا فاسمع.
[2.161-166]
ثم أخبر عن المصرين أنهم بأنفسهم مصرون بقوله تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } [البقرة: 161]، الآيتين والإشارة فيها أن الذين أنكروا على سير القوم وسنتهم، وجحدوا أنواع كراماتهم، وما هم عليه من استقامة الطريق في سلوك الطريق الشريعة، وما كوشفوا به حال الحقيقة خصوصا من سلك مدة، ثم رجع إلى أحوال العادة فبمكر النفس والشيطان ينكر على الأحوال للإخوان، ثم أصروا على هذا الخذلان حتى ماتوا في تلك الوحشة وقبضوا في تلك الظلمة { أولئك عليهم لعنة الله } [البقرة: 161]، واللعنة في الحقيقة ضد الرحمة، فكما أن الرحمة إرادة إيصال زيادة الخير إلى أهل الخير فكذلك اللعنة إرادة إيصال زيادة الشر إلى أهل الشر، فمعناها أن الله تعالى طردهم عن الباب بإراداته القديمة فإنه فعال لما يريد، بلعنة الله وسخطه وقعوا في ورطة الإنكار ومهلكة الإصرار كقوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
[السجدة: 13]، وقال تعالى:
ولو شآء الله لجمعهم على الهدى
[الأنعام: 35].
ولعنته { الملائكة والناس أجمعين } [البقرة: 161]، عليهم بتبعية لعنة الله وموافقته كما وافقوه في الصلاة بقوله تعالى:
يصلي عليكم وملائكته
[الأحزاب: 43] فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا نادى جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فابغضوه فيبغضونه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض "
، حديث صحيح أخرجه البخاري، فأخبرنا المشايخ بطرق مختلفة جميع كتاب " الجامع الصحيح " البخاري منها أخبرنا أبو العز عبد الباقي بن عثمان بن محمد بن أبي نصر محمد بن صالح الهمداني في ذي الحجة من إحدى وستمائة، أخبرنا الحافظ أبو جعفر بن الحسن بن محمد ابن الحسن الهمداني، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن موسى الصفار، أخبرنا أبو الهيثم محمد ابن مكي ابن محمد الكهني، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يويسف بن فطر العز منك، أخبرنا الإمام الحافظ أبو عبد الله بن محمد بن إسماعيل البخاري، أخبرنا عمرو بن علي، أخبرنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج أخبرنا موسى ابن عقيب عن نافع أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحب الله العبد... "
في اللعنة مثل ذلك بعض { خالدين فيها } [البقرة: 162]، مقيمين أبدا في أهوائهم { لا يخفف عنهم العذاب } [البقرة: 162]، الغرفة لأنها مثمرة النكرة، فأبطلوا حسن الاستعداد وصفاء مرآة القلب برين الإنكار كقوله تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14]، { ولا هم ينظرون } [البقرة: 162]، لتصقيل مرآة قلوبهم بصقل الذكر كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن لكل شيء صقالة وإن صقالة القلب بذكر الله "
، لأن تحصيل نور القلب بالذكر في الدنيا لا في الآخرة، كقوله تعالى:
قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد: 13].
ثم أخبر عن أوصاف وحدانيته ومع أهل التوحيد والمعرفة ألطاف رحمانيته، بقوله تعالى: { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163]، إلى { يعقلون } [البقرة: 164] والإشارة فيها أن شرف الإنسان وكمال عناية الله في حقه أن أضاف نفس الإلهية إليه قال: { وإلهكم } ، فلما حصن البيت بإضافته إلى نفسه بقوله: بيتي جعله مسجد الخلائق لا مسجودهم، فلما خص الإنسان تارة بتشريف إضافة روحه إلى نفسه بقوله:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، وأخرى بإضافة نفسه إليهم بقوله: { وإلهكم } ، جعله مسجود الملائكة، فشتان ما بين من يكون مسجد الخلق، ومن يكون مسجودا للملائكة، وحد نفسه بقوله { واحد } حتى لا يخطر ببال الموحد احتمال إله ثان؛ لأنه لو احتمل ثالثا ورابعا إلى غير النهاية، فيؤدي إلى التفرقة، فيكون ضد التوحيد ومانعه الجمعية والحضور مع الله الواحد الأحد، فحسم مادة التفرقة عن قلب الموحد بقوله: { إله واحد }.
ثم نفى الإلهية عن غير الواحد مطلقا بقوله: { لا إله إلا هو } [البقرة: 163] لأن إثبات الوحدانية ولا كان مقيدا بقوله: { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163]، وكان محتملا أن يكون لغيركم من المخلوقات إله آخر، فنفى الشريك بقوله: { لا إله إلا هو } ليخلص الموحد في عبوديته؛ لأن بتقدير وجود الشريك لا يعلم العبد أنه عبد لهذا، ولذلك أولها جمعا فحينئذ لا يكون مخلصا في عبوديته، مخلصا في الافتقار إليه، مخلصا في أن لا ملجأ له إلا رحمته ولا منج له إلا كرمه وجوده، ولهذا وصف نفسه عقيب { لا إله إلا هو } بصفتي: { الرحمن الرحيم } [البقرة: 163]، وهما اسمان يدلان على صفتي الجلال والجمال، كما مر شرحهما في تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم
[الفاتحة: 1]، فيكون معناهما حقيقة في قول { لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } لا إله إلا هو الخالق الباري المحي المميت الضار النافع المعز المذل المعطي المانع المعبود المحمود، وإلا هو الرحمن الرحيم الذي له هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى، روي عن عمر أن ابن حصين رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي حصين:
" كم تعبد اليوم من إله؟ فقال: سبعا؛ ستا في الأرض وواحدا في السماء قال: وأيهم تعبده لرغبتك ورهبتك؟ فقال: الذي في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم: " فيكفيك إله السماء، ثم قال: يا حصين لو أسلمت علمتك كلمتان تنفعانك، فأسلم حصين، ثم قال: يا رسول الله علمني هاتين الكلمتين، فقال صلى الله عليه وسلم: قل اللهم ألهمني رشدي وأعذرني من شر نفسي ".
فمن نتائج صفة الرحمن الرحيم في حق الإنسان ما أشار إليه في قوله: { إن في خلق السموت والأرض } [البقرة: 164]، إلى: { يعقلون } [البقرة: 164] يعني: أن الحكمة في خلق هذه الأشياء ليكون كل شيء مظهر آية من آيات الله، والفائدة في هذه الأشياء من الآيات المودعة فيها إن فائدتها عائدة إلى الإنسان؛ لأنهم قوم يعقلون الآيات لقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53]، فالإشارة في تحقيق الآية أن العالم بما فيه خلق بتبعية الإنسان؛ لأن العالم مظهر آيات الحق، والآيات المرئيات للإنسان، والإنسان خلق لمعرفة الحق، ولهذا قال تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] أي: ليعرفون فلو لم يكن لأجل المعرفة ما خلق الإنسان، ولو لم يكن لأجل الإنسان ما خلق العالم بما فيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لولاك لما خلقت الأكوان "
وكان العالم مرآة تظهر فيها جمال الحق وجلاله، والإنسان هو المشاهد لآيات الجمال والجلال في مرآة العالم، وهو مرآة يظهر فيه مرآة العالم، وما يظهر فيه كما قال تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات: 21]، وهذا تحقيق قوله
" من عرف نفسه فقد عرف ربه "
لأن نفسه مرآة جمال ربه، وليس لأحد غير الإنسان أن يشاهد جمال ربه في مرآة العالم ومرآة نفسه بإزاء الخلق، كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، فافهم جدا، واعرف قدرك لتعرف قدر ربك يا مسكين.
ومما يدل على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما تبع لخلق الإنسان وقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "
، يعني: إذا مات الإنسان الذي هو يقول الله الله قامت القيامة، فلم تبق السماوات والأرض؛ لأن وجدوهما كان تبعا لوجود الإنسان، فإذا لم يبق المتبوع ما بقي التابع.
ثم أخبر عن أقوام دهتهم الغرة وأدركتهم الغيرة بقوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } [البقرة: 165]، والإشارة فيها أن من لم يكن أهلا لمحبته طردته العزة إلى محبة الأنداد أبدا، وهي كل ما يحب سوى الله، واعلم أن المحبة نوعان: محبة هي من صفات الإنسان وهي من هوى النفس الأمارة بالسوء، ومحبة هي من صفات الحق وهي من الإرادة القديمة والقائمة بذاته التي اقتضت خلق العالم بما فيه كما قال:
" كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف "
، فمن وكل إلى محبة الإنسانية النفسانية تعلقت محبته بملائم هوى النفس من الأصناف، فكما أن الكفار بعضهم يحبون اللات ويعبدونها، وبعضهم يحبون العزى ويعبدونها، كذلك أهل الدنيا بعضهم يحبون الأموال ويعبدونها وبعضهم يحبون الأولاد ويعبدونها، فقال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } ، ولهذا أعلم أن الخلق عن فتنة هذه الأشياء وعداوتها وحذرهم عنها بقوله:
أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[الأنفال: 28]، وبقوله:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم
[التغابن: 14]، يعني فاحذروا عن محبتهم؛ لأن محبتهم تمنعكم عن محبة الله تعالى، وهو الحبيب وأنهم العدو، ومن أحب الله يرى ما سوى الله بنظر العداوة، كما كان حال الخليل عليه السلام قال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، ومن كان في الأزل أهل المحبة فما وكل إلى محبة الإنسانية جذبته العناية الأزلية، ونظمته في سلك العناية من خطاب: { يحبهم } للكفاية الأبدية، فيتجلى لهم الحق بصفة المحبة فانعكست تلك المحبة بمرآة قلبه، فبتلك المحبة محبون يحبونه، فإنها لا تتعلق بغير الله؛ لأنها من عالم الوحدة، فلا تقبل الشركة كما قال تعالى: { والذين آمنوا أشد حبا لله } [البقرة: 165] لأن الأعداء أحبوا أندادا بمحبة فانية، والأحباء أحبوا الله تعالى بمحبته باقية ربانية بل أحبوه بجميع أجزائهم الفانية والباقية شعر:
الشوق أكثر أن يختص جارحة
أكلي إليك على الحالات مشتاق
{ ولو يرى الذين ظلموا } يعني: وضعوا محبة الله في غير موضعها من الأشياء وهي الظلم وانقطعوا عن الله وعكفوا على عبادة الدنيا واتخذوا آلهتهم الهوى { إذ يرون العذاب } أي: عذاب قطيعة الله تعالى وذاقوا ألم حرقة، ونار فرقة الله التي تطلع على الأفئدة لتحقق لهم { أن القوة لله جميعا } أي: وقوة كل داء ومرض ووجع وعلة وشدة ومضرة وفتنة وبلية ومحنة وعقوبة وعذاب في الدنيا والآخرة من قوة عذاب القطيعة مستمد من منه وجميعا مندرجة في ضمن فقدان الله تعالى ولا توجد شدة عذاب فقدان الله في الشدائد كلها كما قال تعالى:
وأن عذابي هو العذاب الأليم
[الحجر: 50] أي: عذاب فرقتي وقطيعتي.
ثم أخبر عن حاصل محبة أهل الأهواء بالتقاطع والرياء لقوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } [البقرة: 166]، الآيتين والإشارة فيهما أن كل صحبة ووصلة ومحبة ومودة وموافقة ومتابعة تكون مشوبة بالهوى ومعلولة بالرياء والأغراض الفاسدة والأطماع الحيوانية والغضبية النفسانية، فلما انقطعت بالموت عنهم هذه الأسباب ورأوا فساد العذاب يكون حاصل أمرها للفرقة والعداوة والتبرؤ كقوله تعالى:
يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين
[الزخرف: 38]، وقوله تعالى:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف: 67].
وقوله تعالى: { ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا } [البقرة: 166-167]، فلما كانت أسباب مواصلاتهم فانية دنياوية بالموت وفناء الدنيا تقطعت عنهم، ولكن لما كانت أسباب وصلة المؤمنين ومحبتهم ومتابعتهم مبنية على الدين المتين والحق المبين فلا ينقطع بانقطاع العمر وزوال الدنيا، كقوله تعالى:
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها
[البقرة: 256]، وقال تعالى:
إخونا على سرر متقبلين
[الحجر: 47] بل محبتهم إذا كانت للحق بالحق فتسلب الأرواح والأملاك والأزواج والأولاد بالحبس في القبور وبأهوال القيامة، ولوقوف للسؤال والعبور على الصراط والورود في النار، وإن بقوا فيها طول الأعمار فلا يزدادون إلا محبة كلما قلب.
[2.167-170]
ولهذا قال تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة: 165]، { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } [البقرة: 167] أي: حاصل معاملاتهم يريهم بأنواع العذاب العقوبات والحسرات على ما فاتهم من الدرجات والقربات والكرامات، وفيه معنى آخر أن الله يراهم حاصل أعمال المؤمنين من المقامات العلية الدرجات الرفيقة ليزيدهم حسرات:
أيها القانص ما أح
سنت صيد الظبيات
فاتك السرب ومازو
ودت غير الحسرات
{ وما هم بخارجين من النار } [البقرة: 167]، الحسرة والقطيعة أبد الآباد.
ثم أخبر عن ما يدل المؤمنين على اتباع الخير واجتناب الشر بقوله تعالى: { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } [البقرة: 168]، الآيتين والإشارة فيهما أن أكل الحلال الطيب يورث القيام بطاعة الله والاجتناب عن اتباع خطوات الشيطان، والحلال ما أباح الله أكله والطيب ما لم يكن مشوبا بالشبهة من حقوق الخلق، ولا بسرقة حظوظ النفس والدليل على ذلك ما ذكرنا قوله تعالى:
يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا
[المؤمنون: 51]، وقال: { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 172]، والإشارة فيه أن العمل الصالح نتيجة أكل الحلال الطيب، وإنما لم يذكر هنا الحلال لأنه يكتفي بالطيب من الحلال، فإنه لا يكون الطيب إلا أن يكون حلالا على ما أدلنا هما فكل طيب حلال طيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:
يأيها الرسل كلوا من الطيبات
[المؤمنون: 51]، وقال: { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ،
" ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك "
ذلك حديث صحيح أخرجه مسلم - رحمه الله - برواية أبي هريرة رضي الله عنه فظهر الفرق بين الحلال وبين الطيب بأن الله طيب؛ يعني غير مشوب بعيب أو شبهة مثل ولا يقال له: إن الله حلال. وفي قوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } [البقرة: 168] أي: أوامره، بيانه قوله تعالى: { إنما يأمركم بالسوء والفحشآء } [البقرة: 169]، الإشارة فيها أن لا تتبعوا أوامره { إنه لكم عدو مبين } [البقرة: 168]، واتبعوا أوامر الله ورسوله
إنما وليكم الله ورسوله
[المائدة: 55].
ثم فسر خطوات الشيطان وبين عداوته بقوله تعالى: { إنما يأمركم بالسوء } [البقرة: 169]، النفس { إنما يأمركم بالسوء والفحشآء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [البقرة: 169]، فالسوء كل معصية فيها حظ النفس، بيانه قوله تعالى:
إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53]، والنفس لا تأمر بما فيه حظها، والفحشاء كل معصية فيها حظ للشيطان وحظه في الإغواء والإضلال، بيانه قوله:
فبعزتك لأغوينهم أجمعين
[ص: 82] وقال:
ولأضلنهم
[النساء: 119] وليس للشيطان حظ فيما فيه للنفس حظ؛ لأن الشيطان عدو للإنسان لا يرضى له أن يظفر بشيء من حظوظ الروحانية والنفسانية إلا بالاضطرار عند التعجز عن إضلال الإنسان وإغوائه على وجه يكون له قسمة خسارة الدنيا والآخرة، فيرضى له حينئذ بارتكاب معصية يكون فيها حظ من حظوظ النفس، وكذلك ليس حظ النفس فيما للشيطان فيه حظ من الضلالة والغواية إلا أن يمنيها الشيطان بسبعية حظ من حظوظها كما قال:
ولأمنينهم
[النساء: 119] فتقع النفس عن الضرورة في ورطة الضرورة بتبعية استيفاء حظها، فعلى هذا ثبت أن السوء اختصاص بما فيه للنفس حظ، ولو استعمل في غير ذلك ولهذا قال تعالى:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء
[البقرة: 268]، والفحشاء من الضلالة والغواية وهي المعتقدات الفاسدة والشبهات العقلية ألقها الشيطان في قلوب أهل الزيغ والضلال والأهواء المختلفة عند حرمانهم عن أنوار متابعة الأنبياء - عليهم السلام - واستبدادهم بآرائهم واقتدائهم بعقولهم المعلولة بآفات الحسن والوهم والخيال وظلمة الطبع التي لا تفارق العقل إلا بظهور نور الشرع، فأوقعهم في أودية الهلاك مثل الفلاسفة والإباحية، فاعتقدوا شيئا بين الكفر والإباحة والزندقة، فضلوا كثيرا وأملى عليهم الشيطان بعض مقعدهم حتى تلفظوا بها، كما قال تعالى:
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
[الأعراف: 33] يعني: ما لا علم بكم به من علم التوحيد الفطري
فطرت الله التي فطر الناس عليها
[الروم: 30] وأخذ عنهم الإقرار والعهد بها بقوله
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، قالوا: { بلى } أما هذا من لقاء الشيطان وإملائه بمثابة كيده كقوله:
وأملي لهم إن كيدي متين
[الأعراف: 183] تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم أخبر عن جهلهم في الاقتداء بتقليد الآباء بقوله تعالى: { وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ } [البقرة: 170]، والإشارة فيها أنه لا عبرة من أمر الدين بتقليد الآباء، واتباع مذاهبهم كقوله تعالى: { بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ } ، بل الواجب على العبد اتباع ما أنزل الله بصدق النية في الطلب، وخلوص الطوية في العمل، وفي قوله تعالى: { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } [البقرة: 170]، إشارة إلى قطع النظر عن أسلافه وأتباعهم واتباع أهل الأهواء المختلفة والبدع الذين لا يعقلون شيئا من طريق الحق، وضلوا في تيه محبة الدنيا، ويدعون أنهم أهل العلم وأهل الخرقة، وليسوا من أهل الخرقة، واتخذوا العلم والخرقة حرفة ومكسبا للمال والجاه، ويقطعون الطريق على أهل الطلب للطلب، كما قال في بعض الكتب المنزلة: لا تسألن عني عالم أسكرته حب الدنيا، فأولئك قطاع الطريق على عبادي { ولا يهتدون } طريق الحق لأنفسهم ليرجعوا عما هم فيه من الحرص على الدنيا ومتابعة الهوى، وفيه إشارة أن من يكن على عبادة جادة الحق، وقدمه ثابتة على صراط مستقيم الشريعة، وعنده معرفة سلوك مقامات الطريقة، فيجوز الاقتداء به إذ هو من أهل الاهتداء على عالم الحقيقة دون مدعي الشيخوخة بطريق من الآباء، ولا حظ لهم من طريق الاهتداء، فإنهم لا يصلحون للاقتداء وهذا حال أكثر المشايخ في زماننا تاب الله عليهم وأصلح بالهم.
[2.171-178]
ثم أخبر عن إرادتهم عملا وضرب لهم مثلا بقوله تعالى: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع } [البقرة: 171]، والإشارة فيها أن { ومثل الذين كفروا } وكان في عالم الأرواح عند الميثاق إذ خاطبهم الحق بقوله
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع { إلا دعآء وندآء } ، لأنهم كانوا في الصف الأخير؛ إذ الأرواح كانت جنود مجندة في أربعة صفوف، وكان في الصف الأول أرواح الأنبياء - عليهم السلام - وفي الثاني أرواح الأولياء، وفي الثالث أرواح المؤمنين، وفي الرابع أرواح الكافرين، فأخرجت الذرات التي استخرجت من ظهر آدم من ذرياته، وأقيمت كل ذرة بإزاء روحها، فخاطبهم الحق
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، قالوا: { بلى } ، فالأنبياء - عليهم السلام - سمعوا كلام الحق كفاحا بلا واسطة، وشاهدوا أنوار جماله بلا حجاب، ولهذا استحقوا هاهنا النبوة والرسالة والمكالمة والوحي، الله أعلم حيث يجعل رسالته.
والأولياء سمعوا كلام الحق وشاهدوا أنوار جماله من أنوار حجاب أرواح الأنبياء ولهذا هاهنا احتاجوا إلى متابعة الأنبياء، فصاروا عند القيام بأداء حق متابعتهم مستحقي الكلام والإلهام من وراء الحجاب، والمؤمنون سمعوا خطاب الحق وراء حجاب أرواح الأنبياء وحجاب أرواح الأولياء، ولهذا هاهنا آمنوا بالغيب وقبلوا دعوة الأنبياء، وإن بلغتهم من وارء رسالة جبريل عليه السلام وحجاب رسالة الأنبياء فقالوا: سمعنا وأطعنا، ومما يدل على هذه التقريرات قوله تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا
[الشورى: 51]، يعني الأنبياء أو من وراء حجاب يعني الأولياء أو يرسل رسولا يعني المؤمنين: والكفار لما سمعوا من الخطاب نداء من وراء الحجب الثلاث، كانوا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فما شاهدوا من أنوار جمال الحق لا قليلا ولا كثيرا
إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين: 15] قرأت، وما فهموا شيئا من كلام الحق إلا أنهم سمعوا من ذرات المؤمنين ومن وراء الحجاب لما قالوا { بلى } لتقليد بلى، ولهذا هاهنا قلدوا ما ألفوا عليه آباءهم كقوله تعالى:
إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون
[الزخرف: 22]، فلما تعلقت أرواحهم بالأجساد فكدرت بكدورات الحواس والقوى النفسانية وأظلمت بظلمات الصفات الحيوانية
ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14]، من التمتعات البهيمية والحركات السبعية والأخلاق الشيطانية واللذات الجسمانية، فأصمهم الله وأعمى أبصارهم فهم الآن { صم } [البقرة: 171]، عن استماع دعوة الأنبياء ليسمع القلوب { بكم } [البقرة: 171]، عن قول الحق والإقرار بالتوحيد { عمي } [البقرة: 171]، عن رؤية الآيات والمعجزات { فهم لا يعقلون } [البقرة: 171] لأنهم أبطلوا بالرين صفاء عقولهم الروحانية، وحرموا عن فيض الأنوار الربانية وأيضا { لا يعقلون } لأنهم { صم بكم عمي فهم لا يعقلون }.
ثم أخبر أن أكل الطيبات يورث الشكر والعبادات بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 172]، والإشارة فيها أن من فضل الله وكرمه مع المؤمنين أمرهم بأكل الطيبات كما أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لفائدتين أحدهما: أن يكون أكلهم بالأمر لا بالطبع فيمتازون عن الحيوانات ويخرجون عن حجاب ظلمة الطبع بنور الشرع، والثانية: ليثبتهم بإتمار أمر الأكل كما ثبتهم بإتمار أمر الصلاة والزكاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في فيه أو في امرأته "
قوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [البقرة: 172]، فالحلال ما لا يتبعه عليه ما لا ترى المخلوق فيه منه، ولهذا قال: { ما رزقناكم } يعني: أنا الرزاق لا غيري { واشكروا لله } [البقرة: 172]، نتيجة أكل الطيبات بالأمر مع العلم بأن الله رزاق واشكروا الله على ما رزقه وفي قوله تعالى: { إن كنتم إياه تعبدون } [البقرة: 172]، إشارتان أحدهما: أن من شرط العبودية شكر المعبود في السراء والضراء والشدة والرخاء، والثاني: أن الشكر نوع من عبادة المعبود وإن أكثرهم شكرا أكثرهم عبادة.
ثم أخبر عما حرم في الظاهر من المأكولات وفي الباطن من المألوفات بقوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } [البقرة: 173]، والإشارة فيها إن كان حرم على الظواهر هذه المعدودات حرم على البواطن شهود غير الله من الموجودات، فالميتة هي جيفة الدنيا، كما قال قائلهم:
عليها كلاب همهن اجتذابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
والدم هي الشهوات النفسانية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم "
، ولولا أن الشهوات في الدم مستكنة لما كان للشيطان إليه سبيلا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" سدوا مجاري الشيطان بالجوع "
لأن الجوع بقطع مادة الشهوات ولحم الخنزير إشارة إلى هوى النفس، وتشبيه النفس بالخنزير لفائدة حرصها وشرها وخيانة ظاهرة وباطنة { ومآ أهل به لغير الله } [البقرة: 173]، هو كل ما يتقرب به إلى غير الله من الطاعات البدنية والخيرات المالية من غير إخلاص في الله، بل للرياء والسمعة في سبيل الهوى { فمن اضطر } [البقرة: 173]، أما الضرورة حاجة النفسانية إلى شيء منها، وأما الضرورة أمر الشرع بإقامة أحكام الواجبات عليه فليشرع في شيء مما اضطر إليه { غير باغ } [البقرة: 173] أي: غير حريص للدنيا وجمعها في الحرام والحلال، وغير مولع على الشهوات بالحرام والحلال، وغير مقبل إلى استيفاء حظوظ النفس الحرام والحلال، وغير مواظب على الرياء في الطاعات والخيرات من السنن والبدع { ولا عاد } [البقرة: 173] أي: متجاوزين من الدنيا حد القناعة وهي ما سد الجوعة وستر العورة، ومن الشهوة ما لا يحجبه عن الحق وإباحة الشرع، فإن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام:
" يا داود حذر وأنذر قومك من أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عني "
من حظوظ النفس ما يقيها عن الهلاك صورة ومعنى، ومن أحكام الشرع ما لا يزيد على الواجبات لإرادة الزهد والورع والعبادة والمجاهدة بالرياء للشهرة، بل لا يترك الواجبات وإن كانت مشوبة بهذه الآفات إقامة للعبودية، وإزالة لهذه الآفات وطلبا للإخلاص، فلو يزيد على الواجبات بهذه النيات في النوافل فحسن، وإلا فلا يزيد على الواجبات للرياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" اليسير من الرياء شرك "
{ فلا إثم عليه } [البقرة: 173]، على من قام بهذه الشرائط، فمن لم يكن من المستهلكين في طريق الحق وصولا، فلا يسلكن غير سبيل الشرع سبيلا، فإما يكون محوا في الله، أو يكون قائما بالله، أو يكون عاملا لله، ولا يكون للرابع مجال حظ له { إن الله غفور رحيم } [البقرة: 173]، يغفر للعالمين له بآثار الرحمة، والقائمين بأنواع الرحمة والماحين فيه بأوصاف الرحمة.
ثم أخبر عن حال من باع الدين بالدنيا في الآخرة والأولى بقوله تعالى: { إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب } [البقرة: 174]، والإشارة فيها أن العلماء المداهنين الذين يكتمون ما أنزل الله من مواعظ القرآن والوعيد لأهل الظلم والعشق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ حدود الله ورفع العادات وترك الشهوات وزينة الحياة الدنيا وفتنتها ومحبتها، وإنما يكتمون على الملوك والأمراء والوزراء المفترين وأرباب الدنيا إما خوفا عن ضياع مرتبتهم ونقصان قدمهم عندهم، وإما طمعا في برهم معهم، أو لأنهم شركائهم في بعض أحوالهم من حب الدنيا وجمعها والحرص وطلبها، أو طلب مناصبها وحب رياستها، أو بالتنعم في المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمسكن والأواني وآلات البيت والأمتعة والزينة، في كل شيء والخدمة والحول وغير ذلك { ويشترون به } [البقرة: 174]، بالكتمان { ثمنا قليلا } [البقرة: 174]، إما من متاع الدنيا وهي متاع قليل، وإما تمتعات الحياة الدنيوية الفانية { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } [البقرة: 174]، والحرص والشهوة والحسد التي تطلع على الأفئدة وتأكل الحسنات القلبية والأخلاق الروحانية، وتحرقها وتمحوها، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الحسد يأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب "
فعبر عما يفسد الطاعات ويحبط الصالحات بالنار المناسبة في العمل، وهي في الحقيقة نار معنوية كنار الغضب كشعلة نار في الجسد.
واعلم أن كل عمل وفعل وقول يصدر من العبد على خلاف الشرع شرار يجتني من نار السعير، فيحصل في القلب العبد تلك النار في الحال وفي كل عمل وفعل يصدر من العبد على وفق الشرع نور يجتبى من نار المحبة، فيظهر في القلب فماذا استولت المحبة واشتعلت نارها تحرق كل محبوب غير الله في القلب، كما أن الحلو حرارة محرقة، فإذا أكل الرجل ذلك الحلو يحصل تلك الحرارة في المزاج في الحال ويحرق الرطوبات والأخلاط، فكذلك تحرق تلك النار في القلب الحسنات والأخلاق في الدنيا والآخرة تجلب المرء وتضله السعير، كقوله:
إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
[النساء: 10]، فافهم جدا.
ولقوله صلى الله عليه وسلم:
" الذي يشرب في آنية الذهب والفضة يجرجر في بطنه نار جهنم "
يا قليل الفهم قصير النظر آمن بهذه الأشياء، وإن لم تفهمها كقوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء: 44]، فالإيمان به واجب، وإن لم تفهمه { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } [البقرة: 174] لأنهم كتموا كلامه في الدنيا ولا كلموه بالصدق وكلموا غير الحق، فقال تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40]، { ولا يزكيهم } [البقرة: 174] لأن تزكية النفس للإنسان مقدرة من الإيمان، والأعمال الصالحة تصدق النية من تهذيب الأخلاق بآداب الشرع، فإن من لم يزكها في الدنيا، فقد خاب وخسر وحرم في الآخرة من تزكيتها بقوله تعالى:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 9-10]، { ولهم عذاب أليم } [البقرة: 174]، من كتمان الحق وحرمان مكالمة الله وتزكية لهم، ومن النار التي أكلوها في بطونهم وأشعلوها في بطونهم، ومن تصليتهم السعير.
ثم أخبر عن خسران تجارتهم بقوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [البقرة: 175]، إلى قوله تعالى: { شقاق بعيد } [البقرة: 176] اشار فيها أنه أولئك المداهنون من العلماء هم الذين اشتروا الضلالة بحب الدنيا يهدى إظهار الحق وأثروا الخلق على الحق، والمداهنة على أفضل الجهاد، كقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر "
{ والعذاب بالمغفرة } [البقرة: 175] أي: عذاب نار القطيعة والفرقة بمغفرة القربة والوصلة { فمآ أصبرهم على النار } [البقرة: 175]، الهجران في دركات الخذلان والخسران { ذلك } [البقرة: 176]، المداهنة منهم { بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا } أي: داهنوا { في الكتاب } [البقرة: 176] أي: في أحكام الكتاب { لفي شقاق بعيد } [البقرة: 176] أي: لفي خلاف باطل بعيد عن الحق، فإن بين الحق والباطل بونا بعيدا، وفيه معنى آخر وإن الذين اختلفوا ودهنوا اليوم هاهنا اختلافهم مقدر في الكتاب الأزلي والقضاء السرمدي، وإنهم لفي شقاق أي: ضلال بعيد من العهد الأول لا قريب من الآن، كما قال صلى الله عليه وسلم :
" إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطاه فقد ظل "
، فهذا ضلال بعيد من خطاء الرشاش لا ضلالة قريبة من خطاء الأوباش.
ثم أخبر عن البر في عبودية الحق البر بقوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } ، والإشارة فيها أن ليس الاعتبار في البر بظواهر الأشياء والمعاملات الفارغة عن الحقيق، ولكن الاعتبار بالبر الحقيقي { من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب } أي: من آمن بهداية الله التي عينها من العناية؛ لقوله تعالى: { يحبهم } فمن كانت هذه الكتابة عائدة عليه لتجلي الحق تعالى لروحه بصفة المحبة في بدء وجوده، فتتنور الروح بنور المحبة فالروح صارت محبا لمحبه، كما عبر عن هذا بقوله: { ويحبونه } فشاهد بذلك النور محبوبه وآمن بنور المحبة بوحدانية ومشاهد الأمور الأخروية وآمن بها، وكذلك { والملائكة والكتاب } وفيه معنى آخر ليس البر بركم بتولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر الحقيقي هو بر الذي يبركم معكم بتوليه وجوه أرواحكم بجذبات المحبة قبل الحضرة الربوبية المحبوبية، فتؤمنوا بدلالات نور بري ومبرتي لكم كما ذكرنا في الحديث:
" إن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل عليه السلام: إني أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل عليه السلام ثم ينادي جبريل عليه السلام في أهل السماء: إن الله أحب فلانا فأحبوه، فيحبوه أهل السماء "
، وبر حبي لكم ليس بمحدث كحبكم معي، بل هو بر قديم في الكتاب العلم الأزلي والكلام السرمدي:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] أي: يحبهم في الأزل ويحبونه في الأبد، يحبهم بأن بر معهم ببر محبته لهم ليبروا معه بحبهم إياه ببر محبة التي بر بها معهم، ويحبونه ولولا محبته لهم ما كانوا ليؤمنوا به ويحبوه أبدا، فافهم جدا.
قوله تعالى: { والنبيين } [البقرة: 177] أي: بنور هذه المحبة يهتدي المحبون إلى أهل محبة محبوبهم، فإن الجنسية علة الغنم فيؤمنون بهم، ويتابعونهم حق المتابعة، فأظهر فوائد خصوصية هذا الإيمان، وأخبر عن ثمرات بذر بر حبه فيهم بقوله تعالى: { وآتى المال على حبه } [البقرة: 177] يعني: من ثمرات حبه إيتاء المال على حبه، والمال إشارة إلى ما يمال إليه غير الله، فمن نتائج بذر بر الحب إنفاق كل محبوب غير الله على حب الله؛ ليكون ثمرة بذر حب الله في النهاية بر الوصول إلى حضرة المحبوب لقوله تعالى:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران: 92] لأن ثمرة كل بذر في النهاية يكون من جنس بذرها في البداية، ولكن فيه معنى وخصوصية أخرى، ولهذا سئل الجنيد رحمه الله: ما النهاية؟ قال: الرجوع إلى البداية في قوله تعالى: { وآتى المال على حبه } [البقرة: 177] معنى آخر، وهو إنما حصل للعبد من بر الحب ومال إلى البر من عواطف الحق وإحسانه، بتجلي أنوار صفاته يعطيه وينقصه على حب حبيبه بأداء حقوق الشريعة والطريقة بالمعاملات الطيبة والقالبية { ذوي القربى } [البقرة: 177]، وهم الروح والقلب والسر والقربة الحق { واليتامى } [البقرة: 177]، المتولدات من النفس الحيوانية الأمارة بالسوء إذا ماتت النفس عن صفاتها بسطوات تجلي صفات الحق، فثبت وبقيت منها يتامى المتولدات على الدوام من أوصاف البشرية { والمساكين } [البقرة: 177]، وهي الأعضاء والجوارح { وابن السبيل } [البقرة: 177]، القوى البشرية والحواس الخمس، فإنهم في التردد والشعر في عوالم المعقولات والمخيلات والموهومات والمحسوسات، وإنما { والسآئلين } [البقرة: 177]، وهم الدواعي الحيوانية والروحانية { وفي الرقاب } [البقرة: 177] أي: فك رقبة السر عن أسر تعلقات الكونين، وعتق رقبته عن عبودية ما في الدارين، فإن المكاتب عبد ما بقي درهم، فإذا تخلص السر عن أسر غير الله وعبوديته بدوام الرقبة، ولزوم المعاملة صار أهل المشاهدة { وأقام الصلاة } [البقرة: 177]، المحاضرة مع الله بالله { وآتى الزكاة } [البقرة: 177]، زكاة مواهب الحق إلى استحقاقها من الحق، فهم { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } [البقرة: 177]، مع الله بالتوحيد والعبودية الخالصة يوم الميثاق { والصابرين في البأسآء } [البقرة: 177]، وإنهم من الصابرين في بأساء مراعاة الحقوق { والضرآء } [البقرة: 177]، مخالفات الحظوظ وفناء الوجود عند بقاء الشهود { وحين البأس } [البقرة: 177]، حين بأس سطوات الجلال لا لصبرهم بل لقيام الحق عنهم وبقائهم بصفات الجلال { أولئك الذين صدقوا } [البقرة: 177]، ببذل الوجود وما عاهدوا الله عليه يوم الشهود كقوله تعالى:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
[الأحزاب: 23] { وأولئك هم المتقون } [البقرة: 177]، من ترك الأنانية بالاستهلاك في الهوية، وإن ما ينقضي الآن من فنون الإحسان ووجود فضائل الإيمان، وتصفية الأعمال وصلة الرحم والتمسك بفنون الذمم والعفو والوفاء بالعهود ومراعاة الحد وتعظيم الأثر كثير الخطر محبوب الحق شرعا ومطلوبه أمرا، ولكن قيام الحق عنك عند قيامك عنه، وامتحانك من مشاهدتك لاستهلاكك في وجود القدم، وتعطيل رسولك عن ساكنات إحساسك أتم وأعلى في المعنى.
ثم أخبر عن اختصاص القصاص للعوام والخواص بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } [البقرة: 178]، والإشارة فيها أن الله تعالى كتب عليكم القصاص في قتلاكم، وكتب على نفسه الرحمة في قتلاه، وقال:
" من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته "
، وفي قوله تعالى: { الحر بالحر } [البقرة: 178]، إشارة إلى أن في قتلكم قصاص المثل بالمثل، وفي قتلاي لمن له المثل من الأمثل له، فلهذا لا يشبه قصاصي قصاصكم، فإن في قصاصكم موت الرجلين وفناء الشخصين، وفي قصاصي حياة الدارين وبقاء رب الثقلين { فمن عفي له من أخيه شيء } [البقرة: 178]، يشير على أن من عفا له من الأخيار والأصفياء شيء من أنواع البلاء في الابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء، فإنه معروف من معارف إحسانه وعطف من عواطف امتنانه والواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان،
هل جزآء الإحسان إلا الإحسان
[الرحمن: 60] ومن عومل معه يدل البلاء بالنعماء وعوض الشدة بالرخاء { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك } [البقرة: 178]، الوفاء بملابسة الجفاء وإلقاء جلبات الحياء { فله عذاب أليم } [البقرة: 178]، فإن الكفران عواقبه وخيمة.
[2.179-185]
ثم أخبر عن فوائد القصاص للعوام والخواص بقوله: { ولكم في القصاص حيوة يأولي الألباب لعلكم تتقون } [البقرة: 179]، والإشارة فيها أنها دالة على تحقيق ما ذكرنا أن في قصاصي سعادة الدارين، وإن من قتل بسيف الصدق عن تجلي صفات جلال الحق وأفنى من وجوده فله في القصاص حياة حقيقية؛ لأنه إذا تلف فيه فهو الخلف عنه وحياته به أتم له من بقائه بنفسه، ولهذا اختص بهذا أولي الألباب بقوله تعالى: { ولكم في القصاص حيوة يأولي الألباب لعلكم تتقون } أي: تتقون عن شرك وجودكم ببذل قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الوحداني والجمال الصمداني؛ لتؤيدوا ببيت الروح الرباني لقوله تعالى:
وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22] وتكونوا أولي الألباب لكم حياة هم لب قشر هذه الحياة الإنسانية؛ لقوله تعالى:
فلنحيينه حياة طيبة
[النحل: 97]، وإذا كان الوارث عنكم الله والخلف عنكم الله، فبقاء الخلف خير لكم مما ورد عليه السلف تفهم إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر أهل المال بالوصية وأمر أهل الحال ببذل الوجود بالكلية بقوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا } [البقرة: 180]، والإشارة فيها أنه كتب على الأغيار الوصية بالمال، وكتب على الأولياء والوصية بالحال، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلاث والأولياء يخرجون من مبادئ أحوالهم عن الكل قوله تعالى: { إذا حضر أحدكم الموت } إذا حضر أحدهم قلب مع الله ولموت نفسه بالإرادة عن الصفات الطبيعية الحيوانية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" موتوا قبل أن تموتوا "
أو ترك كل خير وشر مكان مشربها من الدنيا والعقبى، فعليها أن توصي { الوصية للوالدين } [البقرة: 180]، وهما: الروح العلوي والبدن السفلي، فإن النفس تولدت وحصلت بازدواجهما، { والأقربين } [البقرة: 180]، وهم: القلب والسر وباقي المتولدات البشرية بتركه وبترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية الباقية والمشارب الجسمانية الفانية، { بالمعروف } [البقرة: 180]؛ أي: بالاعتدال من غير إسراف يقضي إلى إتلاف محترز في الأحوال من الركون إلى شهوة من الشهوات، وفي الأعمال متجنبا من الرسوم والعادات، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" بعثت لرفع العادات وترك الشهوات "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
، ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشربا واحدا، والمذاهب مذهبا واحدا، كما قيل:
وكل له سؤال ودين ومذهب
ووصلكم مسئولي وديني هواكم
وأنتم من الدنيا مرادي وهمي
مناي مناكم واختياري رضاكم
وقوله تعالى: { حقا على المتقين } [البقرة: 180]؛ يعني: ما ذكرنا من الوصية بجملتها حق واجب على متقي الشرك الخفي، ولهذا قال تعالى على المتقين وما قال على المسلمين والمؤمنين؛ لأنهم أهل الظواهر، والمتقون هم أهل البواطن، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ".
واعلم أن القرآن أنزل لأهل البواطن كما أنزل لأهل الظواهر، والأحكام تحتمل النسخ كما نسخ هذه الآية في الوصية الظاهرة، وباطنة الحكم والحقائق فهي لا تحتمل النسخ أبدا؛ ولهذا قال أهل المعاني: بأن ليس من القرآن شيء منسوخ؛ يعني: وإن دخل النسخ في أحكام ظاهره فلا يدخل في حكم باطنه فيكون أبدا معمولا بالمواعظ والحكم والأسرار والحقائق،
حقا على المتقين
[البقرة: 241]؛ لأنه مخصوص بهداية المتقين كقوله تعالى:
هدى للمتقين
[البقرة: 2]، فحكم الوصية في حقكم غير منسوخ أبدا كقول بعضهم:
ما دمت حيا فإن أمت
يحبك عظم في التراب رميم
وقال بعضهم في الوصية: له الثلثان من قلبي، وثلثا ثلاثة الباقي، وثلاث ثلاث ما بقي، وثلثا الثلث للراقي، فجاز الساجد الراقي بثلث ثلثه الباقي، فيبقى السهم ست تجزي بين عشاقي.
ثم أخبر عن وبال التبديل لأهل التحصين بقوله تعالى: { فمن بدله بعد ما سمعه } [البقرة: 181]، الآيتين والإشارة فيهما أن من غير من الروح والقلب والسر الوصية الصادرة من نفسه الميتة عن أوصافها الذميمة الحيوانية عند شواهد الغيب وإزالة شوائب الريب إليه بترك المشارب الجزئية من المطالب الغيرية، { بعد ما سمعه } بسمع القبول في ترك الفضول، وشم رائحة ورد المحبة بمشام الرغبة، وذاق زلال الوصال من مشارب الأعمال، فهبت عواطف الجلال بتغير الأحوال العزة والملك الكبير المتعال، فحجب بعد ما كوشف ورد ما خوطب، والبعد بعد ما كان قريبا، وعاد الإسلام غريبا كما بدأ غريبا، { فإنما إثمه } [البقرة: 181] أي: جرمه وجنايته، { على الذين يبدلونه } [البقرة: 181]؛ أي: على القلب والروح والسر، أو على الكل الذي يبدلون الوصية ترك مشاربهم الطبيعية الإنسانية، { إن الله سميع } [البقرة: 181] لهذه الوصية المرضية، { عليم } [البقرة: 181] بما في النيات والطويات من الرجوع إلى مشارب الطبيعة بعد تنسم روائح نفحات الحقيقة، وإنما اختصت النفس بهذه الوصية؛ لمعنيين :
أحدهما: لأن الوصية مخصوصة بمن حضره الموت مخصوص بالنفس عند حضور القلب والروح والسر مع الله؛ لأن حياة النفس في موتهم، وموتها في حياتهم، وحياتهم بالحضور مع الله، وموتهم في بعدهم من الله؛ ولهذا قال الله تعالى في حق أهل البعد:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، وقال في حق أهل الحضور:
لينذر من كان حيا
[يس: 70]، وحضور كل واحد منهم من الله يوجب حياته، والوصية مخصوصة بمن حضره الموت وهي: النفس على التحقيق.
والثاني: لأن النفس لما انعكست عليها أنوار الحضور من مرآة القلب ظهرت لهذا خساسة صفاتها الذميمة الحيوانية الفانية، وذاقت حلاوة ونفاسة الصفات الحميدة الروحانية الباقية فاطمأنت إليها ورضيت بها، فترجع إلى ربها وتموت عن صفاتها، وتركت كل ما كان خيرا عندها؛ لأنها علمت بالحقيقة
ما عندكم ينفد وما عند الله
[النحل: 96]، فكتب عليها بقلم العلم الحقيقي الوصية على الإنسان عند الموت عن صفاته للوالدين والأقربين من الروح والبدن والقلب والسر يتعظوا بها ويقبلوا وصيتها كقوله صلى الله عليه وسلم:
" كفى بالموت واعظا "
؛ لكن القلب والروح والسر كلهم من العالم الروحاني، وصفاتهم روحانية حميدة باقية، فترك مشاربها والخروج عنها صعب جدا.
وقوله تعالى: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما } [البقرة: 182]؛ أي: تفرس من هذه الوصية على الموصى له، { جنفا } في ترك مشاربه بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات، أو تجاوزا عن حد الشرع في رفع الطبع، { فأصلح بينهم } [البقرة: 182]؛ يعني الروح والبدن والقلب والسر والوصية إلى العدل والحق؛ ولكن بنظر صاحب ولاية كامل؛ ليطرق سلوك طريق الحق؛ ليخرجهم من ظلمات الطبع، وهذا أحد أسرار بعثة الأنبياء عليهم السلام، فافهم جدا.
{ فلا إثم عليه } [البقرة: 183]، أي: فلا حرج على المصلح بينهم فيما يواسيهم ويداري معهم ويرفق بهم ببعض الرخص، فإن الحمل على الصدق المحض لا يثبت له إلا قليل من المجذوبين، { إن الله غفور } [البقرة: 182] أي: يستر ما به يغان على قلب السالك عند فترة أو وقفة أو رخصة في رجوعه إلى الله بالاستغفار، { رحيم } [البقرة: 182]؛ أي: يلطف ويعطف به بالرحمة كقوله صلى الله عليه وسلم:
" إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة ".
ثم أخبر عن أحد أركان الوصية في الإمساك عن المشارب القلبية والقالبية بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } [البقرة: 183]، والإشارة فيها أن الصوم كما يكون للظاهر يكون للباطن، وباطن الخطاب يشير إلى صوم القلب والروح والسر، { الذين آمنوا } شهود أنوار الحضور مع الله كما سبق ذكرهم، فصوم القلب: صومه عن مشارب المعقولات، وصوم الروح: عن ملاحظة الروحانية، وصوم السر: صومه عن شهود غير الله، فمن أمسك عن المفطرات فنهاية صومه إذا هجم الليل، ومن أمسك عن الأغيار فنهاية صومه أن يشهد الحق.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم:
" صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته "
، عند أهل التحقيق الهاء عائدة إلى الحق تعالى، فينبغي أن يكون صوم العبد ظاهرا وباطنا لرؤية الحق وإفطاره بالرؤية كما قال قائلهم:
لقد صام طرفي عن شهود سواكم
وحق له لما اعتراه نواكم
يعيد قوم حين يبدو هلالهم
ويبدو هلال الصب حين يراكم
قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } [البقرة: 183]؛ أي: على كل عضو في الظاهر وعلى كل صفة في الباطن، فصوم اللسان: من الكذب والفحش والغيبة، وصوم العين: عن النظر في الغفلة والريبة، وصوم السمع: عن استماع المناهي والملاهي، وعلى هذا فقس الباقي، وصوم النفس: عن التمني والحرص والشهوات، وصوم القلب: عن حب الدنيا وزخارفها، وصوم الروح: عن نعيم الآخرة ولذاتها، وصوم السر: عن رؤية وجود غير الله تعالى وإثباته، { كما كتب على الذين من قبلكم } [البقرة: 183]، هي إشارة إلى أن أجزاء وجود الإنسان من الجسمانية والروحانية قبل التركيب صارت صائمة عن المشارب كلها، فلما تعلق الروح بالقالب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية بقوة إمداد الروح، وصار الروح بقوة حواس القالب متمتعا من المشارب الروحانية والحيوانية، فالآن كتب عليكم الصيام وهم مركبون، { كما كتب على الذين من قبلكم } من المفردات، { لعلكم تتقون } [البقرة: 183]، من مشارب المركبات، وتصومون فيها مع حصول استعداد الشرب؛ لتفطروا من مشارب يشرب بها عباد الله
وسقاهم ربهم شرابا طهورا
[الإنسان: 21] فيطهركم من طهورية هذا الشراب عن دنس استدعاء الحظوظ، طلعت شمس استدعاء حقوق اللقاء من مطلع الالتقاء فحينئذ يتحقق إنجاز ما وعد سيد الأنبياء بقوله صلى الله عليه وسلم:
" للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ".
ثم أخبر عن كمال لطفه مع العباد بتقليل الأعداد في قوله تعالى: { أياما معدودات } [البقرة: 184]، إلى قوله تعالى: { والفرقان } [البقرة: 185].
الإشارة فيها: أن صومكم في أيام قلائل معدودة متناهية، وثمرات صومكم وفوائدها من أيام غير معدودة ولا متناهية، فلا يهولنكم سماع ذكره وهذا كقوله تعالى:
وجاهدوا في الله حق جهاده
[الحج: 78].
ثم قال تعالى: { فمن كان منكم مريضا } [البقرة: 184]؛ أي: وقع له فترة من السلوك لمرض عارض قلبه من غلبات صفات النفس وداعي البشرية وكسل الطبيعة فانحرف خارج القلب، { أو على سفر } [البقرة: 184]، أو وقع له أثناء السلوك من العجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة، فليمهل حتى تشتد إرادته وتقوى جرأته وتدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الألطاف، ويزيل مرضه بملينات الألطاف، { فعدة من أيام أخر } [البقرة: 184]؛ يعني: في أيام سلامة القلب وزوال المرض فيستدرك ما فاته بالأخذ بالتأويل وما رخص له في التسهيل كما قال تعالى لأهل الرخص:
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن: 16].
وقال تعالى لأهل العزائم:
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران: 102] وذلك سنة من الله في التسهيل لأهل البداية، ثم استيفاء ذلك عنهم واجب في آخر الحالة، { وعلى الذين يطيقونه فدية } [البقرة: 184]؛ أي: على من كان له قوة في صدق الطلب وهمة علية في المقصد واجبة لما أفطروا، وإن إمساك الهمة عن المشارب بالالتفات إلى بعض المطالب فرجع تسهيلات الشريعة عن شارب الحقيقة، { طعام مسكين } [البقرة: 184]، إشار إلى أن كل مشرب ألطاف الحق؛ يعني: المسكين من يكون مشربه غير ما عند الله، وفيه إشارة إلى أن كفارته ما يكون { طعام مسكين } فيعطيه المساكين بالخروج عما سوى الله، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشرب مشاربه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل ويقول:
" إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
، { فمن تطوع خيرا } [البقرة: 184]؛ أي: فمن زاد في الغذاء؛ يعني: كلما فطر عن مشرب فلا بد سقي من مشرب فيغذي ذلك المشرب أيضا، { فهو خير له } [البقرة: 184]، أن يصير مشربه ترك المشارب كلها ودوام الصوم كقوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184]؛ يعني: { إن كنتم تعلمون } [البقرة: 184]، أن فوق كل مشرب آخر إلى ما لا يتناهى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" من استوى يوماه فهو مغبون "
وفيه إشارة أخرى وهي: { إن كنتم تعلمون * شهر رمضان الذي } [البقرة: 184-185]، شهر النصب على قراءة من قرأها؛ يعني: وإن تصوموا على المشارب كلها { خير لكم إن كنتم تعلمون } ما اختص به، { أنزل فيه القرآن } [البقرة: 185] فمعناه: وأن من يكون حاله كحال رمضان في إدامة الصوم فينزل فيه حقائق القرآن؛ ليكون على مأدبة الله لا على معنى أن يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم، ولكن المأدبة تأكله تفنيه عن خلق الخلقية وتبقيه بخلق الخالقية، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم: 4] والعظيم هو الله، فافهم جدا.
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
" كان خلقه القرآن "
فهنا ينقطع سير السالك فيكون السير بحقائق القرآن فيه يهديه من خلق إلى خلق، كما قال تعالى: { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [البقرة: 185].
ثم أخبر عن وجوب الصوم عند شهود الشهر التمام بقوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185]، الإشارة فيها أنه ذكر بعد قوله: { وأن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184] إن تدومون على إمساك النهمة عن المشارب كلها إن كنتم تعرفون قدر شهر رمضان؛ وهو: عبارة عن دوام الصوم الحقيقي، { الذي أنزل فيه القرآن } كما مر ذكره، قال تعالى: { فمن شهد منكم الشهر } [البقرة: 185]؛ أي: من أدرك مؤنة دوام الإمساك عن المشارب بالكلية، { فليصمه }؛ أي: فله دوام على ملازمة الإمساك لقوله صلى الله عليه وسلم: لحارثة رضي الله عنه
" أصبت فالزم "
، وقال أبو يزيد - رحمه الله -: ناداني ربي، وقال: اترك نفسك ولازم بدك، فإن رمضان يرمض ذنوب قوم، فشهود رمضان الحقيقي يحرق وجود قوم، فشتان بين من يحرق ذنوبه رحمته وبين من يحرق رسوم حقيقته؛ وفيه معنى آخر وهو أن من كان منكم شاهدا الشهر وحاضره لا غائب الشهر حاضره فليصمه، { ومن كان مريضا } [البقرة: 185] بمرض الفترة والغفلات { أو على سفر } [البقرة: 185] من وقفات السلوك السالك، { فعدة من أيام أخر } [البقرة: 185]، الرغبات وصحة صدق النيات والرجوع إلى مقام القربات بتصرف الجذبات فيقضي فيها ما فاته ويحيي فيها ما أماته.
وقوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185]،
فإن مع العسر يسرا
[الشرح: 5] فيريد بكم اليسر الذي هو مع العسر، فلا تنظر في امتثال الأوامر إلى العسر ولكن انظر إلى اليسر الذي مع العسر، فإن العاقل الذي ينظر مرارة الشراب فيتركه ولكن ينظر إلى حلاوة الصحة ولا يبالي بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة؛ وفيه معنى آخر أنه { يريد الله بكم اليسر } إذا هداكم للإيمان وبعث إليكم الرسول؛ لتؤمنوا به وأنزل معه القرآن وخاطبكم بقوله: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم } [البقرة: 183]، ثم وفقكم لإعطاء حق ما وجب عليكم واتقاء مخالفة ما كتب عليكم والتصديق بالحسنى التي وعدكم بها، اليسرى وهي ما أراد به من اليسر لقوله تعالى:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى
[الليل: 5-7]، ومن يرد الله به العسر لم يوفقه لإعطاء حق الإيمان؛ ليبخل به ولاتقاء مخالفة ما وجب عليه ليستغني ولا للتصديق؛ ليكذب بالحسنى؛ لكي ييسره للعسرى؛ وهي ما أراد به من العسر كقوله تعالى:
وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى
[الليل: 8-10]، ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه أقامه لطلب اليسر، ولو لم يرد به اليسر لما جعله طالبا لليسر هاربا من العسر، قال قائلهم:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه
من فيض جودك ما علمتني الطلبا
حقق رجاء أهل الوفاء للعطاء وأقلق قلوب العشاق ببلوغ اليسر، حيث قال تعالى: { يريد الله بكم اليسر } [البقرة: 185]، وأزال عن صدور العابدين الشجون، وأزاح عن قلوب المحبين مجوزات الظنون، حيث قال: { ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185]، قوله تعالى: { ولتكملوا العدة } [البقرة: 185] أنواع الغاية بجذبات { يريد الله بكم اليسر } ولتتموا عدة أيام الطلب بمبليات، { ولا يريد بكم العسر } ، { ولتكبروا الله } [البقرة: 185]؛ أي: ولتعظموا الله عن الانفصال والاتصال، { على ما هداكم } [البقرة: 185] إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال، { ولعلكم تشكرون } [البقرة: 185] أي: ولكي تشكروا نعمة الوصال بأداء حق التنزيه لذات ذي الجلال في تحقيق
وما قدروا الله حق قدره
[الأنعام: 91] أهل الكمال.
[2.186-188]
ثم أخبر أنه مع عظم الشأن قريب بالإحسان بقوله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [البقرة: 186]، والإشارة فيها أن من يكون مخصوصا بخصوصية عبادي يكون سؤالهم عني لا عن غيري؛ ولأنه { إذا سألك عبادي عني فإني قريب }؛ أي: إنما كان سؤالهم عني حين سألوك؛ لأني كنت قريبا باللطف إليهم أقرب إليهم منهم بهم كقوله تعالى:
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
[ق: 16]، { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [البقرة: 186]؛ أي: صفتي أني أجيب دعوة الداع إذا دعان، { فليستجيبوا لي } [البقرة: 186]، كما إني أجيب لهم إذا دعوني؛ ليكونوا موصوفين بصفتي في الإجابة؛ { وليؤمنوا } [البقرة: 186]، إجابتهم أن يؤمنوا { بي } [البقرة: 186] بمعني الطلب؛ أي: يطلبوني ولا يطلبون من غيري، { لعلهم يرشدون } [البقرة: 186]؛ لكي يهتدوا بي؛ إذ يسألونك عني ولا يسألونك عن غيري، كما أن قوما
يسألونك عن الأنفال
[الأنفال: 1]، وقوما
يسألونك عن اليتامى
[البقرة: 220]، وقوما
يسألونك عن الروح
[الإسراء: 85] فإن قيل فلم لا تستجاب بعض الأدعية وقد وعد الله الإجابة بقوله: { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [البقرة: 186]، وبقوله:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60]، فالجواب عنه إنما لا تستجاب بعض الأدعية؛ لأن الداعي ترك بعض أركانه وشروطه، فإن للدعاء المستجاب أسبابا وشرائطا وهي كثيرة منها ما يتعلق بالعموم كما مر ذكر بعضها وليس هاهنا موضعه، ومنها ما يتعلق بالخصوص وهي التزكية والتحلية، والإجابة موثوقة على تزكية الداعي فعليه أن يزكى البدن أولا فليصلحه ولو بلقمة الحلال ، فقد قيل: الدعاء مفتاح باب السماء، وأسنانه لقم الحلال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك "
ويزكي نفسه ويطهرها عن أوصاف البشرية والأخلاق الذميمة فإنه هو الأصل في الاستجابة؛ لكونها قاطعات لطريق الدعاء وفي الحديث:
" إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب "
، ويزكي نفسه عن رين تعلقات الإنسان من النفساني والروحاني ويصفيه بالأذكار، وينوره بنور الأخلاق الرباني، فإن هذه أسباب القربة؛ لرفع الدعاء إلى الله تعالى، كما قال الله تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر: 10] ويزكي الروح عن دنس التفات لغيره؛ ليتعرض لنفحات ألطاف الحق، ويزكي السر عن وخيمة الشرك بتوجهه إلى الحق في الدعاء؛ لطلب الحق لا لطلب غير الحق؛ ليستجاب دعاؤه ولا يخيب رجاؤه، كما قال تعالى:
" ألا من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني "
، وإن الله تعالى وعد الإجابة بالدعاء فإني { أجيب دعوة الداع }؛ أي: دعاءه، { إذا دعان }؛ أي: إذا طلبني، وكذا قال تعالى:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60]؛ أي أطلبوني.
وقال تعالى:
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
[النمل: 62]، والمضطر من لم يكن له غير الله أن يطلبه من الله فيكون مضطرا في طلب الله من الله فلا يطلب من الله غير الله، فمن أضل ببعض هذه الشرائط في الدعاء فلم يلزمه الإجابة كمن أضل بركن من أركان الصلاة، لم يلزمه القبول إلا أنه الجبار فيجبر كل خليل وكسر يكون في أعمال العباد وبفضله وكرمه، وفي الحقيقة أن إفضاله مع العباد مقدم على أعمالهم، وإنه ليعطي قبل السؤال ويتحقق مراد العبد بعد سؤاله بجميع النوال.
ثم أخبر عن تفضله بالنوال قبل السؤال بقوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم } [البقرة: 187]، والإشارة في تحقيق الآية أن لخواص الإنسان بحسب تزكيهم من الروحاني والحيواني تلونا في الأحوال لا بد لهم منه، فتارة يكونون بحكم غلبات الصفات الروحانية والواردات الربانية في ضياء نهار الروحانية النورانية، ففي تلك الحالة لهم سكر يغنيهم عن المشارب النفسانية، فيصومون عن الحظوظ الإنسانية، وبقوا مع تلك الحالة لتلاشت نفوسهم بسطوات صفات الجلال، وطاشت أرواحهم، وما عاشت أبدانهم، كما من الله عليهم بقوله:
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه
[القصص: 72].
وتارة يكون بحسب الدواعي والحاجات الحيوانية مردودين إلى ليلة ظلمات الصفات الإنسانية، وفي تلك الحالة لهم صحو يعيدهم إلى أحكام عادات طبائع الحيوانية، ولو بقوا على تلك الحالة لماتت قلوبهم بهجوم الآفات وفات لهم من الحقوق ما فات، كما قال تعالى:
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة
[القصص: 72]، فخصهم الله تعالى بنهار في كشف أستار الرحمة؛ ليسكنوا فيها ويستريحوا بها.
وقال تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام } [البقرة: 187]؛ أي: ليلة تستريحون فيها وتستعدون لصيام غداتها؛ يعني: إن لم يكن ليلة الصيام ما أحل لكم فيها { الرفث إلى نسآئكم } ، وهي التمتعات النفسانية من الأمتعة الدنياوية المسخرة للنفس؛ لنفوذ تصرفها فيها تصرف الرجال في النساء لاستيفاء الحظوظ تقوية على أداء الحقوق ولا تكون مسخرة لها؛ لينفذ فيها تصرفها، { هن لباس لكم } [البقرة: 187]؛ أي: التمتعات بالحظوظ الإنسانية ستر لكم؛ ليحميكم عن حرارة شموس الشهود بلباس ظلمات صفات الوجود؛ كيلا تحرقكم سطوات تجلي صفات الجلال، { وأنتم لباس لهن } [البقرة: 187]؛ أي: بلباس صفاتكم الحميدة وأنوار أعمالكم الصالحة تسترون معايب الدنيا وتمتعاتكم بمتاع شهوات النفس ولذاتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
" نعم المال الصالح للرجل الصالح "
، والمال هو الملعون الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه:
" الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه "
، فصار الملعون صالحا ولقب بنعم إذا آمن بصلاح الرجل الصالح.
{ علم الله أنكم كنتم } [البقرة: 187] في خصوصية البشرية، { تختانون أنفسكم } [البقرة: 187] باستيفاء حظوظكم الحيوانية في ليالي الطلب من ضعفكم واستيلاء شهواتكم، { فتاب عليكم } [البقرة: 187] بنظر العناية إلى قلوبكم، { وعفا عنكم } [البقرة: 187]؛ أي: محا آثار ظلمات صفاتكم بأنوار هدايته عنكم، { فالآن } [البقرة: 187]؛ أي : في هذه الحالة، { بشروهن } [البقرة: 187]، رخص لكم في مباشرة الحظوظ النفسانية بقدر الحاجة للضرورة الإنسانية بالأمر لا بالطبع، { وابتغوا } [البقرة: 187] بقوة هذه المباشرة، { ما كتب الله لكم } [البقرة: 187] من المقامات العلية والدرجات الرفيعة، { وكلوا واشربوا } [البقرة: 187]؛ أي: تمتعوا بالحظوظ؛ لرفع الحاجات الإنسانية في ليالي الصحو، { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [البقرة: 187]؛ أي: تظهر آثار أنوار شمس صفات الجلال وتمحو ظلمات الصفات والآمال في نهار السكر، { ثم أتموا الصيام } [البقرة: 187]، بالامتناع عن الاستمتاع عن المشارب الروحانية والحيوانية، { إلى الليل } [البقرة: 187]؛ أي: ليل الصحو بعد السكر.
فكما أن الرزق منقسم إلى حالة قبض وإلى حالة بسط، فالأحوال أيضا تنقسم إلى قبض وبسط وزيادة ونقص وجدب وخصب وفرق وجمع وأخذ ورد وكشف وستر وصحو وإثبات ومحو وفناء وبقاء وتلوين وتمكين، قال قائلهم:
كان سناء لم يزل إذا أبدا
كان سناء لم يكن إذا مضى
وقيل:
إذا أكرمتني تجلى لطف
كأني لم أزل منكم سقيما
فإن فاجأني بخفي مكر
كأني لم أجد منكم نسيما
{ ولا تبشروهن } أي: وتشغلوا القلوب بالحظوظ، ولا الأرواح بالاسترواح، ولا الأسرار بالاستظهار عن الأغيار، { وأنتم عكفون في المسجد } [البقرة: 187]؛ أي: مقيمون في مقامات القربة والوصلة، مجاورون في حظائر القدس ومجالس الأنس؛ يعني: عند احتياج النفس بالضروريات الإنسانية في بعض الأوقات وإشغالها بها، كونوا بالضرورة فيها، وبالقلوب والأرواح والأسرار كائنين مع الحق بعيدين عن الخلق، وهذا مقام أهل التمكين، فإنكم إن كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين فيكم بكم عنا، وإذا كنتم قائمين بنا فينا فلا تعودوا منا إليكم، { تلك حدود الله } [البقرة: 187]؛ أي: تلك القربة والوصلة والاعتكاف والتبتل إلى الله حدود الله، { فلا تقربوها } [البقرة: 187]، بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف، ولا تقربوها بالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف.
بأي نواحي الأرض أبغي وصالكم
وأنتم ملوك ما لقصدكم نحو
{ كذلك يبين الله } [البقرة: 187] يظهر الله، { ءايته } [البقرة: 187] ودلائله وبراهينه، { للناس } [البقرة: 187] أهل الصدق والطلب، { لعلهم يتقون } [البقرة: 187] بأنوار العواطف والجود عن ظلمات شركة الوجود.
ثم أخبر عن فساد الأحوال من أكل الأموال بقوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة: 188]، والإشارة فيها أن الأموال خلقت لمصالح قوام النفس، وأن النفس خلقت للقيام بمراسم العبودية؛ لقوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56]،
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة: 111]؛ ليعلموا أن ليس لهم الأموال والأنفس وإنما هي لله، فلا تتصرفوا في الأموال والأنفس إلا بأمر الله تعالى، ثم قال تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم } [البقرة: 188]؛ أي: الأموال التي اشترى الله منكم بالباطل؛ أي: بهوى النفس والحرص والشهوة والإسراف على الغفلة، وكلوا بالحق بالأمر بالقناعة والتقوية على الطاعة والقيام بالعبودية.
{ وتدلوا بها إلى الحكام } [البقرة: 188]؛ أي: ولا تدلوا إلى الحكام؛ وهي: النفس الأمارة بالسوء، { لتأكلوا فريقا من أموال الناس } [البقرة: 188]؛ أي: من الأموال التي خلقت للاستعانة على العبودية، { بالإثم } [البقرة: 188]؛ أي: بالقطيعة والغفلة مستعينا بها على المعصية كالحيوانات والبهائم؛ لتأكلوا بحظ النفس البهيمية فيكون حالكم ومرجعكم ومثواكم النار؛ لقوله تعالى:
ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم
[محمد: 12]، { وأنتم تعلمون } حاصل الأمر ولا تعملون.
[2.189-190]
ثم أخبر عن سير الأخيار وسير الأبرار بقوله تعالى: { يسألونك عن الأهلة } [البقرة: 189]، والإشارة فيها أن الأهلة { قل هي مواقيت للناس } [البقرة: 189]؛ أي: للناس فيها اختيار كاشتغال كل طائفة بما هو أهله في تلك المواقيت على تفاوت أعمالهم، ومواقيت هذا القوم في تفاوت أهوالهم، فللزاهدين مواقيت أورادهم، وللصادقين مواقيت مراقباتهم، { والحج } [البقرة: 189]، إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت على الصديقين من غير أخيارهم، ومن المحبوب على المحبين من غير اختيارهم بل باضطرارهم، فللصديقين مواقيت أوقاتهم، فمن كان وقته الصحو كان قياما بالشريعة، ومن كان وقته المحو، فالغالب أحكام الحقيقة، وللمحبين مواقيت أوصاف محبوبهم، فإن خرجوا عن وصف وجودهم ودخلوا في حكم وصف محبوبهم والله غالب على أمرهم؛ فهو من إحساس أحكام البشرية واستيلاء سلطان الحقيقة، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا.
{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } [البقرة: 189]، فيه إشارة إلى أن لكل شيء سببا ومدخلا لا يمكن الوصول إليه ولا الدخول إلا باتباع ذلك السبب والدخول؛ لقوله تعالى:
وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا
[الكهف: 84-85]، نسب الوصول إلى حضرة الربوبية، والمدخل فيها هو التقوى اسم جامع لكل بر من أعمال الظاهر وأحوال الباطن، والقيام باتباع الموافقات واجتناب المخالفات وتصفية الضمائر ومراقبة السرائر، فبقدر السلوك في مراتب القوى يكون الوصول إلى حضرة المولى كقوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" عليكم بتقوى الله فإنه جامع كل خير ".
وقوله تعالى: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } [البقرة: 189]؛ أي: غير مدخلها بمحافظة ظواهر الأعمال من رعاية حقوق بواطنها بتقوى الأحوال، { ولكن البر من اتقى } [البقرة: 189]؛ أي: حق التقوى؛ لقوله تعالى:
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران: 102]، وقيل في معناه أن يطاع فلا يحصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، { وأتوا البيوت من أبوابها } [البقرة: 189]؛ أي: ادخلوا الأمور من مداخلها.
ثم ذكر مدخل القبول وقال: { واتقوا الله } [البقرة: 189]؛ أي: اتقوا بالله عما سواه، يقال: فلان اتقى بربه؛ يعني: اجعلوا نحوركم ومتقاكم مفركم ومفزعكم ومرجعكم منه إليه، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أعوذ بك منك "
، { لعلكم تفلحون } [البقرة: 189]؛ لكي تنجو وتتخلصوا من مهالك النفوس بإعانة الملك القدوس.
ثم أخبر عن النجاة وطريق نيل الدرجات بقوله تعالى: { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [البقرة: 190]، والإشارة في تحقيق الآية أن قاتلوا من يمنعكم عن السير في سبيل الله، أو أراد أن يقطع عليكم طريقه من شياطين الأنس والجن حتى نفوسكم، وإن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رجع من جهاد:
" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "
، { ولا تعتدوا } [البقرة: 190]؛ أي: لا تجاوزوا عن حد الشرع، فتجاهدوا بالطبع ولكن كونوا قانتين على قدم الاستقامة بقدر الاستطاعة، وهو أن تقفوا حيث ما توقفون، وتفعلوا ما به تؤمرون، { إن الله لا يحب المعتدين } [البقرة: 190]، فلا تجمعون طرفي الإفراط والتفريط.
[2.191-192]
ثم أخبر عن إقامة حق الاستقامة بقوله تعالى: { واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } [البقرة: 191]، إلى قوله تعالى:
فلا عدوان إلا على الظالمين
[البقرة: 193] والإشارة فيها: { واقتلوهم حيث }؛ أي: اقتلوا الكافر النفس وهواها من قلوبكم كما أخرجتكم من جمعية القلب وحضوره، { والفتنة أشد من القتل } [البقرة: 191]؛ يعني: المحنة التي ترد على القلوب من طوارق فتنة النفس؛ لتحجبها عن الله أشد من المحن التي ترد على النفوس من القتل بمخالفة هواها، فإن حياتها بمألوفاتها، وحياة القلب لا تكون إلا بالله، { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [البقرة: 191]؛ يعني: لا تلتفتوا إلى النفس وصفاتها حتى تكونوا آمنين مطمئنين في مقامات القلب والروح، ولا تنازعوهم مما نازعوكم، وكونوا مراقبين أحوالكم وحضور قلوبكم مع الله، { حتى يقاتلوكم فيه } [البقرة: 191]؛ أي: يزاحكمونكم في الحضور، ويسمونكم بالهواجس ودواعي الهوى، { فإن قاتلوكم } [البقرة: 191]، نازعوكم في الجمعية والحضور، { فاقتلوهم كذلك جزآء الكافرين } [البقرة: 191]، بسيف الصدق، واقطعوا ثائرة تلك الدواعي عن نفوسكم بكل ما أمكن؛ لئلا تبقى لكم علاقة تصدكم عن ذكر الله.
{ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم } [البقرة: 192]؛ يعني: إذا انقطع عنكم مزاحمة النفس وهواها وانخمدت نار شهواتها وسكنت دواعيها وقنعت بما لا بد لها فصارت كالذمي لا يجوز أذيتها، فدعوها مع ذاتها وإعطاء جزيتها بأداء الحقوق وترك الفضول في الحظوظ، ولا تؤذوها بالقلق في مجاهداتها، وإن من طولب بحفظه الأسرار لا يفرغ إلى مجاهدات النفوس بل المطلوب فراغ القلب عما سواه وحضوره مع مولاه.
[2.193-196]
وإنما تعذب النفوس؛ لرفع فتنتها بقوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [البقرة: 193] وفتنتها معارضتها ومنازعتها مع القلب بدواعيها وشهواتها، وشربها عن شاربها، فعلاجها بمباشرة أضدادها حتى يصح مزاجها في العبودية ولا تبقى معها آثار البشرية، { ويكون } [البقرة: 193]، استسلامها، { الدين لله } [البقرة: 193]، فلا تعارض لحكم من الأحكام، ولا تنازع في شيء مما يرويه الإسلام، { فإن انتهوا } [البقرة: 193]، فإن استسلمت النفوس { فلا عدوان } [البقرة: 193]؛ أي: الجور والتعذيب، { إلا على الظالمين } [البقرة: 193]، الذين يعبدون الهوى والدنيا من دون المولى.
ثم أخبر عن اعتداء أهل الهوى ومجازاتهم بالاعتداء بقوله تعالى: { الشهر الحرام بالشهر الحرام } [البقرة: 194]، أشار فيها أن يفوتكم من الأوقات بتوالي النفوس ونزاعها وغلبات صفاتها واستيلائها فتداركوه؛ الشهر بالشهر، واليوم باليوم، والساعة بالساعة، والوقت بالوقت، والأوراد بالأوراد، { والحرمات قصاص } [البقرة: 194]، واقضوا الغاية، واقتصوا الحقوق.
{ فمن اعتدى عليكم } [البقرة: 194]؛ يعني: كل صفة من صفات النفس إذا غلبت واستولت عليكم، { فاعتدوا عليه } [البقرة: 194]، وعالجوها بضدها، فإن غلبت بالبخل عالجوها بالسخاء، وإن غلبت بالغضب عالجوها بالحلم، وإن غلبت بالحرص عالجوها بالترك والزهد، وإن غلبت بالشهوة عالجوها بالرياضة والعقلة، فعلى هذا فقس الباقي، { بمثل ما اعتدى عليكم } [البقرة: 194]، فاعتدوا عليها حتى تغلبوا عليها، { واتقوا الله } [البقرة: 194]، في إفراط الاعتداء والاحتراز عن هلاك النفس بكثرة المجاهدات، وفي تفريط الاعتداء اجتنابا من الركون إلى شهوات النفس ومواقفها في المخالفات وهلاكها في فرط الآفات، { واعلموا أن الله مع المتقين } [البقرة: 194]، بالنصرة إلى جهاد النفس وقهرها، ومنعها من الاعتداء بالتوفيق للاتقاء.
{ وأنفقوا في سبيل الله } [البقرة: 195]، من الأموال والأنفس التي اشتراها الله منكم كقوله تعالى:
وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم
[الصف: 11]، { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195]، في جهاد النفس بإفراط الاعتداء وتفريطه، ولا في جهاد الكفار بالإفراط بأن يبارز واحد على رهط، ولا بالتفريط بأن يفر واحد من الاثنين، وأيضا: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بالتفريط في الحقوق ولا بالإفراط بالحظوظ، وأيضا: بموافقات النفوس ومخالفات النصوص، وأيضا: بترك النفوس وتخلية القلوب، وأيضا: بملاحظة الأعمال في استجلاء الأحوال، وأيضا: بالركون إلى الفتور بالحسان والغرور.
{ وأحسنوا } [البقرة: 195]، مع نفوسكم بوقايتها عن نار الشهوات، ومع قلوبكم برعايتها عن دين الغفلات، ومع أرواحكم بحمايتها عن حجب التعلقات، ومع أسراركم بكلائتها عن ملاحظة المكونات، ومع الخلق بالتصفية ودفع الأذيات وإيصال الخيرات، ومع الله بالعبودية في المأمورات والمنهيات، والصبر على المضرات والبليات، والشكر على النعم والمسرات، والتوكل عليه في جميع الحالات، وتفويض الأمور إليه في الجزئيات والكليات، وتسليم الأحكام الأزليات، والرضا بالأقضية الأوليات، والفناء عن الإيرادات المحدثات في إرادته القديمة القائمة بالذات ، { إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195]، الذين هم في العبادة بوصف المشاهدة.
ثم أخبر عن شرائط الإحسان بإتمام ركن من الأركان بقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } [البقرة: 196]، والإشارة فيها أن حج العوام وعمرتهم قصد البيت وزيارته، وحج الخواص قصد رب البيت وشهوده، كما قال الخليل:
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، والحقيقة كما أنه أول من قصد الله وطلبه وتوجه بكليته إليه، وقال:
وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض
[الأنعام: 79] وسلك هذا الطريق وفدى بنفسه وماله وولده في الله واتخذ ما سواه عدوا، وقال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، كان الخليل عليه السلام، وهذا كله من مناسك الحج الحقيقي؛ فلذلك جعله الله أول من بني بيت الله وطاف وحج
وأذن في الناس بالحج
[الحج: 27]، وبين المناسك، وكان الحج صورة ومعنى، ظاهرا، وحقيقة مقامه عليه السلام كقوله تعالى:
فيه ءايت بينت مقام إبرهيم
[آل عمران: 97]، ولكنه كما كان له مقامات كان للنبي صلى الله عليه وسلم حالا، والحال أتم من المقام؛ لأن المقامات من المنازل، والأحوال من المواهب، فيمكن سلوك المقامات بغير المواهب، ولا يمكن المواهب بغير سلوك المقامات، فلما كان الخليل عليه السلام من أهل المقامات
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المواهب قيل:
سبحان الذى أسرى بعبده
[الإسراء: 1]، فلما كان ذهابه بنفسه في الحج الحقيقي بقي في السماء السابعة { أحصرتم } الحج والعمرة، وقيل له: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } [البقرة: 196]، فأفدي بإسماعيل، ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء، قيل له: { وأتموا الحج والعمرة لله } [البقرة: 196]، فأتم حجه بإذن ربه،
فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 8-9]، ثم أتم عمرته بأن تجلى له أقمار المقصود عن كشف تفرد بالشهود، وتجلي عناية المحبة عن شموس الوصلة، وجرى بين المحبين ما جرى،
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، ثم نودي من سرادقات الجلال في إتمام الحج والإكمال يوم الحج الأكبر عند وقوفه بعرفات في حجة الوداع، وهو آخر الحجاب
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا
[المائدة: 3].
ثم قال لأمته وقد علم فيهم الضعيف والعليل، وذا التعلق والآفات، وأصحاب الحوائج والموانع: { وأتموا الحج والعمرة لله } أي: واسعوا في إتمام صورة الحج وحقيقة بقدر استطاعتكم في متابعة صورة سير النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقته، أما إتمامه في الصورة بأن تقيموا شرائعه المشروعة، ويكون قصدكم من بيوتكم أن تخرجوا لا للتجارة ولا للنزاهة ولا للرياء والسمعة، بل يكون خالصا لله تعالى، وأما إتمامه في الحقيقة فبأن يكون خروجك من وجودك وقصدك الله بالله لا لشيء من المقاصد في الدارين، وبأن يقيم شرائطه في الطريقة؛ لتبلغ الحقيقة وتتيقن بأنه
لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس
[النحل: 7]، { فإن أحصرتم } بعداوة النفس، وغلبة الهوى، وبملالة القلب، ودناءة النفس فيهدي بما كان الحصر منه، { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } [البقرة: 196]؛ معناه: لا تكونوا فارغين عنه مشغولين بغيره؛ حتى تبلغوا المقصد والمقصود.
{ فمن كان منكم مريضا } [البقرة: 196]؛ يعني: إن عارض لأحدكم مرض في الإرادة أو ضعف في الطلب { أو به أذى من رأسه } [البقرة: 196]؛ يعني: إذ يعله وتعتريه مانعات من إكماله من غير فترة من نفسه، فلم يجد بدا من الإقامة بفناء الرخص والنزول بساحة تأويلات العلم، فليجتهد أن لا ينصرف خطوة من الطريق ولا يعرض لمحة عن هذا الفريق، فإنه قال بعضهم: من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله، بل يلازم عتبة الفقر، وليطلب الفرج بالصبر، ويتدارك الأمر بما أشار إليه بقوله تعالى: { ففدية من صيام } [البقرة: 196]؛ أي: الإمساك عن المشارب، { أو صدقة } [البقرة: 196]؛ أي: بالخروج عن المعلوم، والتقرب بما أمكنه من التضرع والابتهال والتطوف على الأولياء وخدمة الفقراء، { أو نسك } [البقرة: 196]؛ أو بذبح النفس في مقامات الشدائد، والصبر على البلاء، وبذل المجهود في طلب المقصود.
{ فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } [البقرة: 196]؛ يعني: إذا زال الحصر وأشرق بنور الجبار هواء الزمان وقضاء العصر أقبل الجد الصاعد، والزمان المساعد، وتجدد عهد الطلب، وانقطع كلفة التعب، فليستأنف للوصلة وقتا، وليفرش للقربة بساطا، وليتجدد للقيام بحق السرور نشاطا، ولتقبل هي على البهجة، فقد مضت أيام المحنة، وليكمل الحج والعمرة، وليستدم القيام بحق الصحبة والخدمة، { فما استيسر من الهدي } [البقرة: 196]، فموجب الهدي لمعنيين.
أحدهما: الاستدراك ما فاته في أيام الفترة والوقفة، والاستغفار عنها، والثاني: الاستدراج ما استقبله من العواطف وشكرها، والهدي هو أن يهدي بأعز شيء من أمواله واجها إليه، ويصرفه عن أصحابه وإخوانه في الدين وأعوانه في الطلب، وينفقه على أرباب الهمم العلية من الفقراء الصادقين والأغنياء المتقين.
{ فمن لم يجد } [البقرة: 196]؛ يعني: في الظاهر يسارا أو سعة، { فصيام ثلاثة أيام في الحج } [البقرة: 196]، فعليه الإمساك عن مشارب حصول كمالات الوصول في تلك الحالة، { وسبعة إذا رجعتم } [البقرة: 196]؛ يعني: باقي العمر، { تلك عشرة كاملة } [البقرة: 196]؛ يعني: الإمساك عن المشارب كلها في غلبات الأحوال، وبعد الرجوع إلى عالم الأعمال من أوصاف الكمال وأخلاق الرجال، { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } [البقرة: 196]؛ يعني: ذلك التوفيق لدوام المراقبة في الإمساك لمن لم يكن مقيما في منزل من منازل النساك، بل يكون لقريب من الأوطان بل قريب من أهل الزمان، غريب في الأقران من الغرباء في آخر الزمان، الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم:
" فطوبى للغرباء ".
{ واتقوا الله } [البقرة: 196]؛ أي: احذروا أن تسكنوا في فترة أو وقفة، أو تركنوا في مشرب من هذه الشرائط، { واعلموا أن الله شديد العقاب } [البقرة: 196]، للغافلين من هذا الخطاب، والمعرضين عن طريق الصواب، الغائبين بذل الحجاب، المردودين إلى العذاب.
[2.197-202]
ثم أخبر عن أشهر الحج وشرائطها وحث على رعاية وسائطها بقوله تعالى: { الحج أشهر معلومات } [البقرة: 197]، الإشارة فيها أن قصد القاصدين إلى الله تعالى وطلب الطالبين؛ إنما يكون في أشهر معلومات وأيام معلومات من حياتهم الفانية في الدنيا، فأما بعد انقضاء الآجال وفناء الأعمال فلا يصلح لأحد السعي ولا يفيد القصد، كما لا يفيد للحاج القصد بعد مضي أشهر الحج؛ لقوله تعالى:
يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل
[الأنعام: 158]، وكما أن للحاج مواقيت معينة يحرمون منها، فكذلك للقاصدين إلى الله ميقاتا؛ وهي: أيام الشباب من بلاغة الصورة إلى بلوغ الأربعين؛ وهو: حد بلاغة المعنى؛ لقوله تعالى:
حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
[الأحقاف: 15]؛ ولهذا قال المشايخ: الصوفي بعد الأربعين نادر؛ يعني: إن كان ظهور إرادته وطلبه يكون بعد الأربعين، فوصوله إلى القصد الحقيقي يكون نادرا مع إمكانه، ولكن من يكون طلب صدقه في الإرادة قبل الأربعين، وما أمكنه الوصلة بقرب الاحتمال أن يكون بعد الأربعين حصول مقصوده بأن يبذل غاية مجهوده بشرائطه وحقوقه وحدوده من إقامة، أو أن الطلب في عنفوان شبابه يستبعد له الوصلة في حال شيبه، فجرى منه على الحيف بأن ضيع اللبن في الصيف؛ ولكن يصلح للعبادة التي أجرها الجنة، قيل: وقف صاحب ولاية على باب الجامع والخلق يخرجون منه في ازدحام وغلبة وكان ينظر إليهم ويقول: هؤلاء حشو الجنة، وللمجالسة أقوام آخرون.
{ فمن فرض فيهن الحج } [البقرة: 197]؛ أي: صادقه صدق الالتجاء، وقصد الحق في شرخ شبابه يتزر بإزار التواضع والانكسار، ويرتدي برداء التذلل والافتقار، { فلا رفث ولا فسوق } [البقرة: 197]؛ أي: لا يخرج من أمر من الأوامر، ولا يدخل في منهى من المناهي، بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت.
{ ولا جدال في الحج } [البقرة: 197]؛ أي: لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول مع أحد في شيء من الدنيا لا بالفروع ولا بالأصول، وإلا فما تخاصم مع أحد، ولا في جاهها لأحد تزاحم، فمن نازعه في شيء منها يسلمها إليه ويسلم عليه، فإن من دأب القوم
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
[الفرقان: 63].
{ وما تفعلوا من خير } [البقرة: 197]؛ يعني: من هذه الجملة وغيرها من الخيرات، { يعلمه الله } [البقرة: 197]، قليله وكثيرة وإخلاصه ورياءه وسره وعلانيته، { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولي الألباب } [البقرة: 197]، في الكلام تقديم وتأخير وإضمار تقديره وتزودوا يا أولي الألباب؛ يعني : لكل سالك طريق زاد يناسب طريقه، فزاد أولي القشور؛ وهم: أهل الدنيا من الكعك والسويق وأمثاله؛ لأن طريقهم ومقصدهم ومقصودهم أيضا قشر بالنسبة إلى طريق الحق، فإن طريقهم الأرض، ومقصدهم ومقصدهم البيت، ومقصودهم الجنة، وهذا قشر بالنسبة إلى ما ذكرنا، { وتزودوا } فإن خير المقاصد ينبغي أن يكون من { خير الزاد } ، فأشار إلى: { تزودوا } يا أولي الألباب من لب الزاد وهو التقوى { فإن خير الزاد التقوى } وخير التقوى أن تكون متقي، إن تتقون بي مني، فتقوى أهل القشور مجانبة الزلات والمزلات بالطاعات والمبرات تفهم إن شاء الله تعالى وتنتفع به.
ثم أخبر عن الفضل مع ذوي الفضل بقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } [البقرة: 198]، الآيتين والإشارة فيهما أن قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } [البقرة: 198]، إعلام بأن للفضل كثرة وتنوعا؛ لأنه ذكره بالنكرة تقع على واحد على التعيين؛ كقولك: جاءني زيد، فهذا يدل على أن في الرجال كثرة، ولكنه ما جاءك إلا واحد منهم، فكذلك هنا يدل على أن في الفضل كثرة، وليس على العبد جناح أن تبتغي أي: فضل يريده من الله وهو كثرة تنوعه تنقسم على ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أحوال العبد والتنوع والأقسام راجع إلى تغير أحوال العباد ولا إلى تغير صفات الحق تعالى.
والقسم الأول منها: ما يتعلق بالمعاش الإنساني، وهو على نوعين: نوع يتعلق بالأسباب من المال والجاه، ونوع يتعلق بالغذاء واللباس الضروري وهذا القسم من الفضل مفسر بالرزق كقوله تعالى:
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
[الجمعة: 10]؛ أي: من رزق الله.
والقسم الثاني منها: ما يتعلق بالمصالح الأخروية للعبد من الفضل، وهو على نوعين: أحدهما ما يتعلق بالأعمال البدنية على وفق الشرع، ومتابعة الشارع مجانبة طريق الشيطان المنازع كقوله تعالى:
تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا
[الفتح: 29]، وقال تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
[النساء: 83]، وثانيها: ما يتعلق بأعمال القلب، وتزكية النفس لقوله تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشآء
[النور: 21].
والقسم الثالث: منها: ما يتعلق بالله عز وجل، وهو أيضا على نوعين: أحدهما: ما يتعلق بمواهب القربة كقوله تعالى:
وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا
[الأحزاب: 47]؛ أي: قربا كثيرا فإنه أكبر من الدنيا والآخرة، وثانيها: ما يتعلق بمواهب الوصل كقوله تعالى:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم
[الحديد: 21]؛ يعني: فضل مواهب الوصلة أعظم من الكل كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113]؛ يعني: أعظم فضله ما كان عليك خاصة دون الخلائق كلها، ثم أعلم أن لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة من الفضل مقاما في الابتغاء.
فأما القسم الذي يتعلق بالمصالح الأخروية: وهو فضل الرحمة، فمقام ابتغائه ترك الوجود، وبذل المجهود، وهو في السير إلى عرفات، وأما القسم الذي يتعلق بالله تعالى: وهو فضل المواهب فمقام ابتغائه هو عند الوقوف بعرفات المعنى، فإن عرفات هي إشارة إلى المعرفة معظم أركان الوصلة لقوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56]، وأما القسم الذي يتعلق بالمصالح الدنيوية: وهو فضل الرزق فمقامه بعد استكمال الوقوف بعرفات المعرفة عند الإفاضة، ففي الآية تقديم وتأخير تقديره إذا أفضتم من عرفات فليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، وذلك لأن حال أهل السلوك في البداية ترك الدنيا والتجريد عنها، وفي الوسط التوكل والتفريد، وفي النهاية المعرفة والتوحيد، ولا يسلم الشروع في المصالح الدنيوية إلا لأهل النهاية؛ لقولهم في المعرفة وعلو همتهم بأن يطهر الله قلوبهم من رجز حب الدنيا الدنية، ويملأها نورا وحبورا وسرورا بالألطاف الحقيقية، فلا اعتبار للدنيا وشهواتها ونعيم الآخرة ودرجاتها عند الهمم العلية، فلا يتصرفون في شيء إلا وتصرفهم بالله، وفي الله ولله لا لحظوظ النفس بل لمصالح الدين، وإصابة الخير إلى الغير ولهذا قال تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } [البقرة: 199] والناس هاهنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجميع الأولياء والأنبياء عليهم السلام؛ فمعناه لا تفيضوا يا أرباب الطلب إلا بعد الوقوف بعرفات المعرفة { فإذآ أفضتم من عرفت } [البقرة: 198]، المعرفة أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء والأولياء في القيام بأداء حقوق التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله لا لاستيفاء الحظوظ، كما قال عز وجل لحبيبه صلى الله عليه وسلم عند إفاضته بالرسالة إلى الخلق بعد وقوفه بعرفات
فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9]
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 17].
فأعلم الله تعالى أن الإفاضة من عرفات المعرفة إلى مصالح الدنيا ورعاية حقوق الخلق، ودعوتهم إلى الله خطر عظيم ولا يخلو عن نوع حظ من الحظوظ فعلق الإفاضة بشرطين لرفع الخطر، وإزالة غائلة الحظوظ، أحدهما: أمر بالمواظبة على وظائف الذكر بقوله تعالى: { فإذآ أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند المشعر الحرام } [البقرة: 198]؛ يعني: بالقلب والمشعر الحرام هو القلب الذي حرام عليه الاطمئنان مع غير ذكر الله وحبه لقوله تعالى:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28]، { واذكروه كما هدكم } [البقرة: 198]، معناه اذكروا الله ليهدي نفوسكم كما هدى قلوبكم لئلا تقع النفوس في خطر حب الدنيا ولا تميل إلى استيفاء حظوظها { وإن كنتم من قبله لمن الضآلين } [البقرة: 198]؛ يعني: كما كنتم قبل الوقوف بعرفات المعرفة من الضالين في طلب الدنيا وحظوظ النفس.
والثاني: أمرهم بالاستغفار لإزالة ضرر المحافظة مع الخلق وكدورة حظها بقوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } [البقرة: 199]، وهذا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار مع كمال مرتبته وجلال قدره بقوله
إذا جآء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا
[النصر: 1-3]؛ يعني: يزيل غين الحظ بالاستغفار وهو صلى الله عليه وسلم يقول:
" إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله في يوم سبعين مرة ".
ثم أخبر عن وجود رعاية الأحوال لأهل الكمال بقوله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبآءكم أو أشد ذكرا } [البقرة: 200]، إلى قوله: { والله سريع الحساب } [البقرة: 202]، والإشارة فيها أن في قوله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم } [البقرة: 200]؛ أي: قضيتم مناسك وصلكم، وبلغتم محل الرجال البالغين من أهل الكمال الواصلين، فلا تأمنوا مكر الله ولا تهملوا وظائف ذكر الله، فاذكروا الله كذكركم آبائكم، كما تذكرون في حال طفوليتكم آباءكم للحاجة، والافتقار بالعجز والانكسار، وفي حالة رجوليتكم تذكرون آباءكم للحجة، والافتخار بالمحبة، والاستظهار فاذكروا الله افتقارا وافتخارا؛ لأنه يمكن للطفل الاستغناء عن أبيه، وكذلك البالغ يحتمل أن يفتخر بغير أبيه ولكن العباد ليس لهم من دون الله من ولي ولا واق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع كمال بلاغته يفتقر إلى الله تعالى ويقول:
" اللهم واقية كواقية الوليد "
، ويفتخر بافتقاره، ويقول:
" أنا سيد ولد آدم ولا فخر والفقر فخري "
{ فمن الناس } [البقرة: 200]، من أهل الطلب والسلوك { من يقول } [البقرة: 200]، بتسويل النفس وغرورها بحسبان الوصول والكمال عند النسيان، وتغير الأحوال { ربنآ آتنا في الدنيا } [البقرة: 200]؛ يعني: تميل نفسه إلى الدنيا وتركن إلى زخارفها وشهواتها وتستحلي الجاه والقبول فيها عند أربابها بأن ينسى المقصد الأصلي، والمقصود الحقيقي، وظن الطالب الممكور أنه قد استغنى عن الجد والاجتهاد فأهمل وظائف الذكر، ورياضة النفس، وغلبت عليه الهوى واستهوته الشياطين في الأرض حيران له حتى أوبقته في أودية الهجران والفراق { وما له في الآخرة من خلاق } [البقرة: 200]؛ يعني: من أهل الوصول والكمال وأرباب الفتوة وأصحاب الأحوال { من يقول ربنآ آتنا في الدنيا حسنة } [البقرة: 201]؛ أي: نعمة من النعم الظاهرة، وهي العافية، والصحة، والسعة، والأمن، والفراغة، والطاعة، والاستطاعة، والبذل، والإعطاء، والوجاهة، والقبول، ونفاذ الأمر، وطول العمر في العبودية، والتمتع من الأمور، والأولاد، والأصحاب، والإرشاد، والأخلاق { وفي الآخرة حسنة } [البقرة: 201]؛ أي: نعمة من النعم الباطنة، وهي الكشوف والمشاهدات وأنواع القربات في المواصلات والعبور عن المقامات بتعاقب الجذبات، والتمكن في الأحوال بحصول الكمال، وبقاء الفناء في فناء البقاء، وفناء الفناء في فناء البقاء { وقنا عذاب النار } [البقرة: 201]، نار القطيعة وحرقة الفراق.
{ أولئك لهم نصيب } [البقرة: 202]؛ أي: لهؤلاء البالغين الواصلين السائلين وحظ دائم نصيب وافر { مما كسبوا } [البقرة: 202]، من المقامات والكرامات، ومما سألوا من أنباء الحسنات { والله سريع الحساب } [البقرة: 202]، لكلا الفريقين فيما سألوا أي: يعطيهم بحسن نياتهم على قدر همهم وطوياتهم، لقوله تعالى:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20]، وكقوله تعالى:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[ابراهيم: 34]، وفي { سريع الحساب } إشارة إلى سرعة الحساب، فيما يخطر ببال العبد في الحال يحاسبه به ويظهر أثر تلك الحسنة التي خطرت بباله في قلبه وروحه مع الخطرة بلا توقف قبل أن يتكلم بها، أو يعلمها دليله قوله تعالى:
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
[البقرة: 284]، فإن تكلم بها أو عمل زاد آثرها أو تركها؛ فأما الحسنة فيبقى أثرها، وأما السيئة فمحا أثرها، وأثبت مكانها نور حسنته وذلك قوله تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت
[الرعد: 39]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" قال الله عز وجل: إذا تحدث عبدي بأن أعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها، وقال: قالت الملائكة يا رب ذلك عبد يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنه تركها من جبر أي: من أجلي ".
[2.203-208]
ثم أخبر عن رعاية المحدودات أنها أيام معدودات بقوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات } [البقرة: 203]، والإشارة أن المداومة على الذكر والملازمة على العبودية في أيام معدودات العمر المختصر من البداية إلى النهاية بجميع أجزاء الوجود مندوب إليه في الشريعة، وأمر واجب لأرباب الطريقة، كما نقل عن بعضهم وقد سئل عن مدة هذا العمر؟ فقال: من المهد إلى اللحد، ولو شئت لقلت: من الأزل إلى الأبد، وهذا مما لا يفهم بهذه العقول المدنسة بالفضول، وقال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99]؛ أي: الموت { فمن تعجل } [البقرة: 203]؛ يعني: من أرباب السلوك وأصحاب القلب { في يومين } [البقرة: 203]؛ يعني: يوم البداية ويوم النهاية، أو يوم الطلب ويوم الوصول بازدياد في الأوراد وجد في الاجتهاد، وتأخر هاتين الحالتين عن بعض المجاهدات، أو يرفق بالنفس في شيء من المباحات { فلا إثم عليه لمن اتقى } [البقرة: 203]؛ أي: لمن كان ثابتا في التقوى راسخا في الاستقامة مع المولى { واتقوا الله } [البقرة: 203]، في جميع الأحوال بتزكية النفوس وتنقية القلوب، وحفظ الأعمال { واعلموآ أنكم إليه تحشرون } [البقرة: 203]؛ يعني: إن لم ترجعوا بالاختيار تحشرون إليه بالاضطرار.
ثم أخبر عن مقال أهل القال، ومعاملة أهل الحال بقوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا } [البقرة: 204] إلى قوله: { ولبئس المهاد } [البقرة: 206]، والإشارة فيها أن قوما أعرض الحق تعالى عن قلوبهم؛ فأعطاهم في الظاهر بسطة في اللسان وتقريرا في البيان ويدعون شيئا بأقوالهم يكذبون فيها بأخلاقهم وأفعالهم فيعجب الخلق بأقوالهم ما لم يروا أعمالهم، ولكن الله يشهد سرائرهم، ويعلم ضمائرهم إن عقود أسرارهم حضور أخبارهم، وفي الحقيقة هذه خصلة بعض النفوس الأمارة بالسوء أن تظهر السوء باللات المموهة والأقوال المزخرفة تسر بقبائح أوصافها وفضائح أخلاقها، وتعلن الصداقة وتخفي العداوة، وترى أنها أولى الأولياء، وتراها أعدى الأعداء { وهو ألد الخصام * وإذا تولى } [البقرة: 204-205]؛ أي: وجد التمكن والولاية { سعى في الأرض } [البقرة: 205]؛ يعني: في أرض القلب { ليفسد فيها } [البقرة: 205]، يخربها { ويهلك الحرث } [البقرة: 205]، ويبطل حرث الصدق في ترك الدنيا، وطلب الآخرة والتوجه إلى الحق { والنسل } [البقرة: 205]، ما تولد من الأخلاق الحميدة، والخصال السريدة { والله لا يحب الفساد } [البقرة: 205]، بالأقوال الكاذبة.
{ وإذا قيل له اتق الله } [البقرة: 206]، يعني لأرباب النفوس من أهل الكبر والأنفة { أخذته العزة بالإثم } [البقرة: 206]، ثم سمحت أرواحهم عن قبول الحق وتمادت نفوسهم بالباطل، ولو ساعدت العناية وأدركتهم العاطفة؛ لتقلدوا المنن لمن هداهم إلى الجنة ونبههم عن نوم الغفلة، وولتهم على طريق الوصلة، ولكن من رزق العناد زال عن منهج السداد وضل عن سبيل الرشاد { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } [البقرة: 206] أي: حسبه جنهم الغرور والتكبر، فإنها دركة من دركات نار القطيعة في الحال { ولبئس المهاد } ، والمرجع في المآل.
ثم أخبر عن معاملة أهل الوداد من العباد بقوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغآء مرضات الله والله رؤوف بالعباد } [البقرة: 207].
والإشارة أن الخواص من أولياء الله منهم لمن يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله كما أن الله تعالى
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة: 111].
والفرق بين الفريقين أن الله اشترى من المؤمنين أيام الميثاق من غير اختيارهم، فكان ثمن نفس المؤمن الجنة أما الأولياء فإنهم باعوا باختيارهم أنفسهم في هذا العالم فكان ثمن الأولياء مرضات الله، { والله رؤوف بالعباد } يعني: الفريقين فلرأفته بالمؤمنين اشترى الأمارة بالسوء مع غب الظلومي والجهولي بثمن الجنة، والنعيم المقيم، ولعاطفته بالأولياء وفقهم لشري أنفسهم بغير حظ من حظوظها؛ بل خالصا لوجه الله ابتغاء مرضاته.
ثم أخبر عن المدخول في الإسلام بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة } [البقرة: 208]، معنى عاما، ومعنى خاصا؛ فأما المعنى العام مع جميع من آمن في الظاهر ادخلوا في جميع شرائط الإسلام في الباطن كما دخلتهم في شرائعه في الظاهر من شرائطها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمؤمن من أمن الناس بوائقه ".
وأما المعنى الخاص كخطاب حاضر مع شخص الإنسان، وجميع أجزائه الظاهرة كما أن لسانه دخل في الإسلام بالقول، فينبغي أن يدخل أركانه في الإسلام بالفعل، فالعين بالنظر، والأذن بالسمع، والفم بالأكل، والفرج بالشهوة، واليد بالبطش، والرجل بالمشي، ودخول كل واحد منها في الإسلام بأن يستسلم لأوامر الله تعالى، ويجتنب من نواهيه بترك ما لا يعنيه أصلا، ويقع على ما لا بد له منه، ودخول أجزاء الظاهر في شرائع الإسلام ميسر للمنافق، فإنا إدخال معاني الباطن في شرائط الإسلام وحقائقه، فعريكة إبطال الدين، ومزلة الرجال البالغين، فدخول النفس في الإسلام بخروجها عن كفر صفاتها الذميمة، وعبورها عن طبعها في إيقاع الهوى، وترك مألوفاتها، ومستحسناتها، ومستلذاتها، ونورها بنور الإسلام، وتتبع أحكامه، واطمئنانها بالعبودية؛ لتستحق بها دخول مقام العباد المخصوصين بخطابه تعالى إياها كقوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 27-30]، دخول القلب في الإسلام بتصفيته عن رذائل أخلاق النفس وخساسة أوصاف الحيوان، وتحليته بشمائل أخلاق الروح، ونفاسه أوصاف الملك، ودخول أنوار الإيمان بكتابه الحق فيه، وتأييده بروح منه كقوله تعالى:
كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22]، ففي الحقيقة لا يدخل القلب في الإسلام ما لم يدخل الإيمان في القلب لقوله تعالى:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات: 14]، ودخول الروح في الإسلام بتخلقه بأخلاق الله تعالى، وتسليم الأحكام الأزلية، وقطع النظر، والتعلق عما سوى الله بتصرفات الجذبات الألوهية ودخل السر في الإسلام بفنائه في الله، وبقائه بالله
ولا تتبعوا خطوات الشيطان
[البقرة: 168]؛ أي: لا تكونوا على سيرته وصفته وهي الاستكبار والإباء فإنه ضد الإسلام وهو الكفر لقوله تعالى:
استكبر وكان من الكافرين
[ص: 74].
واعلم أن كل جزء من أجزاء ظاهر الإنسان وباطنه ما لم يكن مستسلما لأوامر الشرع وأحكام القضاء الأزلي ويأبى على الحق ويستكبر فإنه ما دخل في الإسلام ويتبع خطوات الشيطان وما خرج بعد من العداوة، فهو إظهار محبته - أي الله - فإن محبته - أي الشيطان - مضمرة في عداوته وعداوته - أي الشيطان - مضمرة في محبته - أي الله -.
[2.209-214]
{ فإن زللتم } [البقرة: 209] أي: زالت أقدامكم عن صراط الإسلام الحقيقي { من } [البقرة: 209]، أيضا معه العداوات فهو إظهار محبته أي: الله فإن محبته أي: الشيطان مضمرة في عداوات الشيطان { بعد ما جآءتكم البينات } [البقرة: 209]؛ أي: البراهين القاطعة والحجج الساطعة من القرآن ومعجزاته والأمر بدخول الإسلام الحقيقي والنهي عن اتباع الشيطان ونزعاته { فاعلموا أن الله عزيز } [البقرة: 209]؛ فلعزته لا يهتدي إليه كل ذليل دنيء الهمة قصير النظر { حكيم } [البقرة: 209]، بحكمته يهدي من يشاء إلى سرادقات عزته.
ثم أخبر عن أهل الزلل وغرورهم وعواقب أمورهم بقوله تعالى: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } [البقرة: 210]، والإشارة فيها أن الله تعالى أخبر عن أهوال القيامة وأحوالها بكلام قريب إلى أفهام العوام، وأما الذين في قلوبهم نور الإيمان وشرح الله صدورهم بنور الإسلام، فقد هدوا وفهموا مقصود الكلام في هذه الآية وأمثالها وانتفعوا بها بلا توهم تشبيه أو تمثيل أو تخيل نفي وتعطيل، وأما الذين هم أهل الأهواء كما قال تعالى:
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
[آل عمران: 7]، فشرعوا فيها بأهوائهم وفسروها بآرائهم، فوقعوا في أودية الضلالة فهلكوا وأهلكوا خلقا بالجهالة فنادتهم العزة:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران: 7]، فإنهم أصحاب الكشوف وأرباب المشاهدات، فيتجلى الله لهم تارة بصفات الجمال فيريهم لمعة من أصناف ألطافه وأنواع إعطائه مع خواص عباده، ومرة بصفات الجلال فيذيقهم شظية من آثار هيبته وقهره مع المتمردين من أهل عناده، فيحل لهم كل أشكال وينجيهم من كل ضلال، ويغنيهم بها عن كل تفسير وتأويل، ويخلصهم من كل تشبيه وتعطيل، وكوشفوا بحقائق ما أخبروا وعاينوا بخلاف ما أضمروا ولكن يضيق عن إعلامه نطاق النطق ولا يسع إظهار لا في ظهوره الحروف كما قيل، وإن قميصا خيط من نسج تسعة وعشرين حرفا عن معانيه قاصر، بل لا ينتهي إليها حظي العقول والأوهام، ولا يدركها إبصار البصائر والإفهام، فإن هذا عما يكاشف الخواص والأولياء في حال غيبتهم عن الخلق وشهودهم الحق وهم مسلوبو النطق مغلوبو العقل، ومن تأمل هذا وتكشف له أثر من الغوامض التي درج عليها المتقدمون مكلفين عقولهم ما ليس في وسعها طمعا في أن ينالوا ما لا ينال وكان عاقبتهم الحيرة والضلالة.
ثم أخبر عن زوال النعمة لأهل الضلالة والنعمة بقوله تعالى: { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } [البقرة: 211]، الآيتين والإشارة فيهما أن السؤال وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن فائدته راجعة إلى عامة أمته وخاصتها، فإنا فائدته فهي أن يعلموا أن الله إذا أنعم على عبد بنعمة من أنواع نعمه الظاهرة والباطنة فإن لم يعرف قدرها فيبدل نعمته بالنقمة أن يكفرها ولا يشكرها، كما فعل بنو إسرائيل من بعد ما جاءتهم البينات من المعجزات والكرامات فما عرفوا قدرها فبدلوها بما قالوا.
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138] وبعبادة العجل فجازاهم الله شدة العقاب فيما ابتلاهم بأنواع البلاء من القحط وقتل النفس وغير ذلك أو بأن يصرف نعمه في مصروف دون رضاه { فإن الله شديد العقاب } [البقرة: 211]، في المجازات والمكانات.
وأما فائدة الخواص في أن يتحقق لهم أن الله إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه ويريه آياته في الملك والملكوت، ويظهر عليه أنواع كراماته فإن لا يغتر بأحواله أو يعجب بكماله فيقبل على شيء من مرادات النفس وبما يلائم هواها ويبدل نعمته برأفته للنفس ورضاها { فإن الله شديد العقاب } [البقرة: 211]، بأن يغير عليه أحواله ويسلب عنه كماله والذي يدل على هذا التأويل قوله تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
[الرعد: 11]، ومن شدة عقابه إذا أذنب عبد ذنبا صغيرا ولم يتب عنه ويصر عليه أن يعاقبه مثل تبديل النعمة ليعاقبه بزوال النعمة في الدنيا ودوام النقمة في العقبى.
وأيضا من شدة عقابه أن يزين: { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } [البقرة: 212]، ويمكر بهم حتى يغلب عليهم حب الدنيا: { ويسخرون من الذين آمنوا } [البقرة: 212]، من فقرائهم وكبرائهم حملهم شدة العقوبة على الوقيعة في أوليائه واستحقار أحبابه:
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
[الشعراء: 227] { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } [البقرة: 212]، بأنهم في أعلا عليين وإنهم في أسفل سافلين { والله يرزق من يشآء } [البقرة: 212]، من درجات أعلا عليين ودركات أسفل سافلين { بغير حساب } [البقرة: 212]، بغير نهاية أبد الآباد فإن ما لا نهاية له لا يدخل تحت الحساب، وفيه معنى آخر بغير حساب يعني ما يرزق العبد في الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب وما يرزق في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب.
ثم أخبر عن حال الخلق في البداية وإن العناية في الهداية بقوله تعالى: { كان الناس أمة وحدة } [البقرة: 213]، والإشارة فيها أنه كان الخلق في بدء الأمر على الفطرة التي فطر الناس عليها أمة واحدة حين أشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، قالوا: { بلى } إن ولدوا على الفطرة لقوله: صلى الله عليه وسلم
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "
ما قال: أو يسلمانه؛ فلمعنيين: أحدهما: أن الكفر يحصل بالتقليد ولكن الإيمان الحقيقي لا يحصل بالتقليد.
والثاني: أن الأبوين الأصليين الأنجم والعناصر، فعلى التقديرين الولد بتربية الآباء والأمهات يضل عن سبيل الله ويزل قدمه عن الصراط المستقيم؛ التوحيد والمعرفة، ولو كان نبيا فإنه يحتاج إلى هاد يهديه إلى الحق كما قال تعالى لنبينا: صلى الله عليه وسلم
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7] { فبعث الله النبيين } [البقرة: 213]، للهداية { مبشرين } [البقرة: 213]، مجيبي الدعوة إلى الله بالنجاة، ونيل الدرجات في مقام القربة والوصلة { ومنذرين } [البقرة: 213]، مخالفي الدعوة من الويل والهلاك في الدركات بالفرقة والقطيعة { وأنزل معهم الكتب بالحق } [البقرة: 213]، إشارة إلى كتاب الله الذي جف القلم لكل واحد بالسعادة أو الشقاوة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء "
تلا هذه الآية:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى
[الليل: 5-7]، { ليحكم بين الناس } [البقرة: 213]؛ أي: هذا الكتاب { فيما اختلفوا } [البقرة: 213]، أهل السعادة { فيه } [البقرة: 213]؛ في طلب ما كتب لهم واختلف أهل الشقاوة فيما كتب لهم، وكل ميسر لما خلق له بحكم الكتاب { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه } [البقرة: 213]؛ يعني: وما اختلف كل فريق من الفريقين في طلب السعادة والشقاوة إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه، ولكنه ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا { من بعد ما جآءتهم البينت } [البقرة: 213]؛ يعني: بالبينات معاملات أهل السعادة، وأهل الشقاوة فإنها تبين السعيد من الشقي والشقي من السعيد؛ فأما الشقي يسعى في ضلالته التي أورثها الآباء والأمهات وردته في ذيل أسفل الطبيعة الإنسانية، فيعامل الله والخلق بالشرك والظلم والفجور والحسد، كما قال تعالى: { بغيا بينهم } [البقرة: 213]، فيستحق بذلك دركات الشقاوة، وأما السعيد فبجذبات العناية يتمسك بحبل الهداية، ويرقى بقدم صدق الطلب قوة الإيمان، وسعي الأعمال الصالحة من حضيض البشرية إلى ذروة العبودية ودرجات مقامات القربة والوصلة، كما قال تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق } [البقرة: 213]؛ أي: إلى ما اختلف فيه كل فريق من أهل السعادة والشقاوة في البداية من الوصول إلى الحق سبحانه فأهل العناية وصلوا إليه بهدايته { بإذنه والله يهدي من يشآء إلى صرط مستقيم } [البقرة: 213]؛ أي: إلى الله كما قال تعالى:
ويهدي إليه من أناب
[الرعد: 27].
ثم أخبر عن أحوال الأولياء، وأن لا بد لهم من البلاء والابتلاء بقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [البقرة: 214]، والإشارة فيها أن الله تعالى خلق الجنة وصفها بالمصاعب والمصائب، وخلق النار وصفها بالشهوات والرغائب، وابتلى الأولين بفنون مقامات الشدائد والمحن، كما قال تعالى:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير
[آل عمران: 146]، ثم نادى الآخرين: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا } [البقرة: 214]؛ يعني: ما لم يمسكم البأساء والضراء مثل ما مسهم لم يرجعوا بالاضطرار إلى رحمة الرحيم { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [البقرة: 214]، ويقول الله تبارك الله وتعالى للمضطرين { ألا إن نصر الله قريب } [البقرة: 214]، على هذا أدرج الأولون والآخرون أي: سلوك طريق الولاء بقدم البلاء فمن كان نصره أعلى في مراتب قربة المولى فبلاؤه أقوى، وهو بالبلاء أولى فمن ظن غير ذلك؛ فهو في تيه الهوى هالك مردود من باب المالك.
[2.215-220]
ثم أخبر عن سؤالهم في إنفاق أموالهم بقوله تعالى: { يسألونك ماذا ينفقون } [البقرة: 215]، والإشارة فيها: أن سؤالهم ماذا ينفقون من جنس الأدب لأهل الطلب لكيلا يتصرفوا في شيء من أموالهم، ويغيروا حالا من أحوالهم بالهوى والطبع؛ بل بالأمر والشرع يوجب الرفعة والقربة، فليس للعبد تحرك إلا بإذن مولاه، ولا سكون إلا على وفق رضاه؛ لأن العبودية الوقوف حيث ما أوقفك الأمر والصرف أينما صرفك الحق؛ فأجاب الله تعالى سؤالهم بقوله: { قل مآ أنفقتم من خير } [البقرة: 215]، دنياوي وأخروي من مال وجاه علم، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فأبدوا { فللوالدين والأقربين } [البقرة: 215].
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم،
وأنذر عشيرتك الأقربين
[الشعراء: 214]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" ابدأ بنفسك ثم بمن تعول "
على ترتيب الأمر { واليتامى والمساكين وابن السبيل } [البقرة: 215]، ثم جعل الخير عاما، وقال تعالى: { وما تفعلوا من خير } [البقرة: 215] يعني: من أي نوع من أنواع الخيرات مع كل ذي روح كما قال: صلى الله عليه وسلم
" في كل كبد حراء أجر "
، { فإن الله به عليم } [البقرة: 215] أي: بالخير الذي تفعلون وبمن معه تفعلون، وبأي اعتقاد ونيته؛ بالحق أو بالباطل، بالرياء أو بالإخلاص، بالطبع أو بالشرع، بالهوى أو بالله، والله عليم ومجازيكم عليه بقدرات استحقاقكم.
ثم أخبر عن فرض القتال بقوله تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [البقرة: 216]، والإشارة فيها: أن قتال النفس وجهادها في الله أمر لازم حق واجب بقوله تعالى:
وجاهدوا في الله حق جهاده
[الحج: 78]؛ ولكنه للطبع فيه كراهة عظيمة، وحقيقة الجهاد رفع الوجود المجازي، فإنه الحجاب بين العبد والرب كما قيل: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب، وكما قال ابن منصور رحمه الله: بيني وبينك أني يزاحمني فارفع بجودك أني من البين { وعسى أن تكرهوا شيئا } [البقرة: 216]؛ يعني: تكره النفس رفع وجودها { وهو خير لكم } [البقرة: 216] أي: خير للنفس بأن تتبدل أوصاف الوجود الحقيقي { وعسى أن تحبوا شيئا } [البقرة: 216]، وهو تمتعات النفس البهيمية باللذات الجسمانية { وهو شر لكم } [البقرة: 216]؛ أي: شر للنفس بحرمانها عن السعادة الأبدية، واللذات الروحانية، وذوق المواهب الربانية { والله يعلم } [البقرة: 216]، أن في كراهة النفوس ما أودع من راحة القلوب، وفي قتلها ما قدر من الحياة { وأنتم لا تعلمون } [البقرة: 216]، أن حياة القلوب في موت النفوس، وفي حياة النفوس موت القلوب، كما قال:
أقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
ثم أخبر عن السؤال عن الشهر الحرام، وفيه القتال بقوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [البقرة: 217] الآيتين والإشارة فيهما أن المعاصي بعضها أكبر من بعض، أن سوء الأدب على الباب لا يوجب على البساط يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه { قل قتال فيه كبير } [البقرة: 217] أي: ذنب كبير؛ لأن فيه ترك حرمة الشهر ولكن { وصد عن سبيل الله وكفر به } [البقرة: 217]، وترك حرمة { والمسجد الحرام } [البقرة: 217]، وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكة أكبر من ذلك؛ لأن ترك حرمة الشهر زلة النفس والصد عن سبيل الله والكفر بالله وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم كفر، فمؤاخذة النفوس الكافرة على الزلات بالعقوبة المؤجلة وهي الافتراق بعد الاختراق وزلات المؤمنين وسيأتيهم تبدل حسنات عند التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة { والفتنة } [البقرة: 217]، التي يشرونها بطريق القتال والخداع أهل الكفر حتى يردوكم بها عن دينكم إن استطاعوا أكبر وأعظم عند الله { من القتل } [البقرة: 217]، شرك في الشهر الحرام { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } [البقرة: 217]، فإنه { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } [البقرة: 217]، ويؤاخذ الله أهل هذه الفتنة بهما كما يؤاخذهم بكفرهم { وأولئك } [البقرة: 217]؛ يعني: أهل الفتنة: { أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 217]، لأنهم كفروا وأثاروا الفتنة لارتداد المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا وما استطاعوا ولكن يؤاخذون بالسعي في الترديد
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى
[النجم: 39-40]، وأما الذين كانوا أهل الفتنة يسعون في ترديدهم أدركتهم العناية الأزلية بدفع البلية وبدل خوفهم بالرجاء وجفاءهم بالوفاء وأنزل فيهم { إن الذين ءامنوا والذين هاجروا } [البقرة: 218]، أي: مع أنهم آمنوا هاجروا عن أوطانهم { وجهدوا } [البقرة: 218]، بأبدانهم { في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله } [البقرة: 218]؛ يعني: أولئك هم المستحقون لرحمة الله { والله غفور } [البقرة: 218]، يغفر ذنب قتالهم في الشهر، أم { رحيم } [البقرة: 218]، يرحم عليهم إذا هاجروا وجاهدوا في سبيل الله.
ثم أخبر عن أهل مراعاة الأمر وسؤالهم عن الخمر بقوله: { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ } [البقرة: 219]، والإشارة فيها أن الخمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها، وهذا الخمور تسكر النفوس والعقول الإنسانية وفيها { إثم كبير } [البقرة: 219]، ولهذا كل مسكر حرام، وما يسكر كثيره فقليله حرام، ومنها ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار وهو شراب الواردات وأقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات، فإذا أدارت الكئوس انخمدت النفوس، وتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد، والأرواح بالشهود عن الوجود، والأسرار بلحظ الجمال عن ملاحظة الكمال، فهذا شراب حل { ومنفع للناس } [البقرة: 219]، قال قائلهم:
فتهجرك من لفظي هو الوصل كله
وسكرك من لحظي فسح لك الشرب
فما مل ساقينا وما مل شارب
غفار لحاط كأسها يسكر اللب
فالعجب كل العجب أن قوما أسكرهم الشراب، وقوما أسكرهم شهود الساقي كقولهم:
فأسكر القوم دور كأس
وكان سكري من المدير
وإثم الإعراض عن كئوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية، وكما أن السكران ممنوع من الصلاة فسكران الغفلة والهوى ممنوع عن المواصلات، وأما إثم الميسر فهي إن آثار القمار هي شعار أكثر أهل الديار في سلوك طريق الحيل والخداع بالفعل والكذب والفحش في المقال، وإنه كبير عند الأخيار بعيد عن خصال الأبرار، وأما نفعه فعدم التفات إلى الكونين، وبذل نقوش العالمين في فروانية نقش الكعبتين: { وإثمهمآ أكبر من نفعهما } [البقرة: 219] لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص وقليل ما هم { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } [البقرة: 219]، وهو ما يعطيه المرء ويعفو أثره عن قلبه عند الإنفاق يعني: يطيب القلب لأن أصل العفو المحو والطمس يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" أفضل الصدقة ما كان عن ظهر عنى "
وقال: ليس الغنى عن كثرة الغرض، ولكن الغني غنى النفس، وفيه معنى آخر قيل: العفو التجاوز عن الذنوب وترك العقاب، والذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في تأويل قوله تعالى:
خذ العفو
[الأعراف: 199]، قال وعفوك عن ظلمك وقال تعالى:
وأن تعفوا أقرب للتقوى
[البقرة: 237]، وقيل العفو ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص أن يخرجها عن فاضل أموالهم عن قدر كفايتهم، فأما خاص الخاص فطريقهم الإيثار وهو أن يؤثر غيره على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحب الذي يؤثر به غني { كذلك يبين الله لكم الأيت } [البقرة: 219]، في هذه السؤالات { لعلكم تتفكرون } [البقرة: 219]، في أحوالكم وحاصل أموالكم
في الدنيا والآخرة
[آل عمران: 22]، فستعلمون أن ما عندكم ينفد وما عند الله باق { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } [البقرة: 220]، تأديب وتعليم وبذل النصح لهم من إصلاح ما لهم ولكم في ذلك أيضا خير وثواب وأجر عند الله { وإن تخالطوهم } ، في المعاملة والمجالسة والمكالمة { فإخوانكم } ، فكونوا معهم كما تكونون مع إخوانكم في الصبر على الاحتمال عنهم عند الإرشاد والنصيحة والشفقة عليهم بكل حال من غير سآمة وملالة { والله يعلم المفسد } [البقرة: 220]، في الإفساد والفساد { من المصلح } [البقرة: 220]، في الإصلاح فيعامل كلا على سواكن قلبه من المقصود لا على ظواهر كسبهم من جميع الفنون { ولو شآء الله لأعنتكم إن الله عزيز } [البقرة: 220]، يعز بعزته من يشاء ويذل من يشاء { حكيم } [البقرة: 220]، يحكم بحكمه ما يشاء.
[2.221-227]
ثم أخبر عن نهج نكاح المشركات لعزة المؤمنات لقوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [البقرة: 221]، والإشارة أن صلة رحم الدين والتمسك بعصمة المسلمين خير من صلة حبل الكفر والتمسك بعصم الكوافر، وإن كان فيه ما يعجبكم من مستحسنات للهوى والمشتهيات النفس، فإنها تدعو إلى النار لأنه حفت النار بالشهوات وترك ما يعجبكم به لامتثال أوامر الله تعالى، وإن لكم فيه كراهة { والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه } [البقرة: 221]؛ لأن الجنة حفت بالمكاره: { ويبين آياته للناس } [البقرة: 221]، أن يظهر في كل شيء آثار ألطافه مع عباده الناسين عهد الميثاق وما شاهدوا من ألطافه وعاينوا بلا واسطة: { لعلهم يتذكرون } [البقرة: 221]، ما شاهدوا ويشتاقون إلى ما عاينوا أو لا يغترون بقليل فان عن كثير باق .
ثم أخبر عن سؤالهم عن المحيض وجواب مقالهم بقوله تعالى: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } [البقرة: 222].
والإشارة فيها أن لله تعالى أحكاما موجبات للنقائص وليس فيها للعبد اختيارا ولا كسب، ولله فيها أسرار عجيبة وألطاف خفية، فمن ذلك كتب الله تعالى على بنات آدم من المحيض ولله فيه امتحان وابتلاء مع الرجال والنساء، كما قال تعالى: { قل هو أذى } ثم امتحن الرجال بالاعتزال عن النساء، فقال تعالى: { فاعتزلوا النسآء في المحيض } [البقرة: 222]، وجعل التباعد عنهن في أيام الحيض تقربا إليه، وقال تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } [البقرة: 222]، ثم جعل التقرب إليهن على شرائط الأمر ومجانبة الطبع موجبا للمحبة والوصلة، وقال تعالى: { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين } [البقرة: 222]، عن موافقة الطبع { ويحب المتطهرين } [البقرة: 222]، عن مخالفة الشرع وجعل اعتزال النساء وبعدهن عن الأزواج موجبا للقربة، وإن كان في الظاهر موجبا للعبد عن مقام المناجاة لأنهن منعن عن صورة المناجاة، وهي مداومة الذكر ومراقبة القلوب وقال تعالى:
" أنا جليس من ذكرني "
وجعل تطهرهن ومحافظة أنفسهن عن إتيان المنهي موجبا للمحبة والوصلة، وقال تعالى: { إن الله يحب التوابين } [البقرة: 222]؛ أي: محافظي النفس عن المنهيات ويحب المتطهرين أي: مربي النفس بالمأمورات، فكما أن للنساء محيضا في الظاهر، وهو سبب نقصان إيمانهن عن الصلاة والصيام، فكذلك للرجال محيض في الباطن هو سبب نقصان إيمانهم عن حقيقة الصلاة هي المناجاة وعن حقيقة الصيام، وهو الإمساك عن مشتهيات النفوس، وهو هوى النفس كما أن المحيض هو سيلان الدم عن الفرج، فكذلك الهوى هو غلبات دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية فكلما غلب الهوى تكدر الصفاء، وحصل الأذى وقيل: قطرة من الهوى تكدر بحرا من الصفا، فحينئذ غلبة منعت النفس عن الصلاة والصوم في الحقيقة، وإن كانت مشغولة بها في الصورة فأذى الحيض الصوري إن الحائض ممنوعة عن القربات بالصورة لا بالمعنى، وأذى الحيض المعنوي أن الحائض ممنوع عن القربات بالمعنى لا بالصورة إذا نودي قلوب الرجال من سرادقات الجلال، فاعتزلوا النساء النفوس في المحيض غلبات الهوى حتى يطهرن أن يفرغن من قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من المأكول والمشروب والمنكوح وغير ذلك، فإذا تطهرن بماء التوبة والاستغفار والإنابة رجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن بالتصرف فيهن من حيث أمركم الله يعني: عند ظهور شواهد الحق بزهوق باطل النفس واضمحلال هواها، إن الله يحب التوابين عن أوصاف الوجود، ويحب المتطهرين بأخلاق المعبود بل يحب التوابين عن بقاء الشهود.
ثم أخبر عن حال النساء وحرث الأولياء بقوله تعالى: { نسآؤكم حرث لكم } [البقرة: 223]، والإشارة فيها أن طبقات الخلق ثلاثة:
العوام والخواص وخاص الخواص.
أما العوام: فلما كانوا أهل الغيبة عن الحقيقة أبيح لهم السكون إلى أشكالهم إذ كان على وصف الحضور يحرم عليهم المساكنة بالإذن وقيل لهم: { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } [البقرة: 223].
وأما الخواص: فلما كانوا بوصف الحضور يحرم عليهم المساكنة إلى أمثالهم وقيل لهم:
قل الله ثم ذرهم
[الأنعام: 91] سلكوا بقدم التجريد مسالك التفريد حتى وصلوا إلى كعبة التفريد.
وأما خاص الخواص: فهم الرجال البالغون الواصلون إلى عالم الحقيقة المتصرفون في ما سوى الله تعالى بخلافة الحق فهم رجال الله، وما دون الله نساؤهم فقيل لهم { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } [البقرة: 223]، فهم الأنبياء وخواص الأولياء القائمون بالله الداعون إلى الله بإذن الله، وكما أن الدنيا مزرعة الآخرة لقوم فإن الدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها أنى شاءوا وكيف شاءوا وما يشاءون إلا إن شاء الله فقد فنيت مشيئتهم في مشيئته فبقيت قدرة تصرفهم بتقويته { وقدموا لأنفسكم } [البقرة: 223]، فيقدمون لأنفسهم لا بأنفسهم بل هو المقدم لما يتقدمون وهو المؤخر لما يؤخرون ثم قال تعالى: { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } [البقرة: 223]؛ يعني: خواص الأولياء المتصرفون في حرث الدنيا والآخرة واتقوا الله بالله، وأنكم بلا قوة ولا يحجبكم عنه شيء { وبشر المؤمنين } [البقرة: 223]، بأنهم ملاقوا الله أيضا أن اتقوا الله بالله يعني: مرتبة خواص الأولياء مبشرة للمؤمنين أو تسعوا في طلبها حق سعيها.
ثم أخبر عن إيمان الأيمان بقوله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } [البقرة: 224]، والإشارة فيها أن عظموا الله ونزهوه أن تجعلوه في معرض لك غرض خسيس وحفظ دنيء، وأن تجعلوا ذكره وسيلة لرفع الخيرات وذريعة لجلب المضرات { والله سميع عليم } [البقرة: 224]، يسمع بسمع القبول إذا ذكر بالتعظيم يعلم عظم ذكره في القلوب فيجازيهم على قدر تعظيمهم إياه.
ثم أخبر عن عفوه اللغو وبتجاوزه السهو بقوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [البقرة: 225]، والإشارة فيها أن يجري على الظواهر من غير قصد ونية في البواطن ليس له كثير خطر في الخير والشر ولا زيادة أثر، ولو كان له أثر في الخير لما غاب على قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكذلك ما يجري على اللسان بنية القلب بلا فعل الجوارح، ولو كان مؤثرا في القبول لما عاب قوما بقوله تعالى:
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
[الصف: 3]، ولو كان له أثر في الرد لما وسع على قوله بقوله: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [البقرة: 225]، وما عفا عن قوم بقوله تعالى:
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
[النحل: 106]، وذلك لأن القلب كالأرض للزراعة والجوارح إلا من كره، وقلبه مطمئن بالإيمان، وذلك لأن القلب كالأرض للزراعة، والجوارح كآلات الحرث، والأعمال والأقوال كالبذر، فالبذر ما لم يقع في الأرض المربية للزراعة لا ينبت، وإن كان في آلة من آلات الحراثة، فافهم جدا.
وأما إن كان لما يجري على الظواهر من الخير، وفيه أثر في القلب، ولو كان مثقال ذرة، فإن الله تعالى من كمال فضله وكرمه لا يضيعه، كما قال الله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
[الزلزلة: 7]؛ بل يضاعفه أضعافا مضاعفة حتى يكون القليل كثيرا والصغير عظيما، كقوله تعالى:
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40]، وأما إذا كان لما يجري على الظواهر من الشر أدنى أثر في الطلب، فإن الله تعالى من غاية لطفه وإحسانه لا يؤاخذ العبد به؛ بل يحلم عنه ويتوب عليه، ويغفر له كما قال الله: { للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر } [البقرة: 226]، الآيتين والإشارة فيهما أن يعلم العبد أن الله تعالى لا يضيع حق أحد من عباده لا على نفسه، ولا على غيره فلما تقاصر لسان الزوجة لكونها أسيرة في يد الزوج، فالله تعالى تولى الأمر بمراعاة حقها، فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها، فإذا كان حق صحبة الإشكال محفوظا عليك حتى لو أخللت به أخذك بحكمة فحق الحق أحق بأن تجب مراعاته { فإن فآءو } [البقرة: 226]، ارجعوا عن تضييع حقوقه إلى إحياء ما أماتوا واستدركوا ما ضيعوا { فإن الله غفور } [البقرة: 226]، يغفر بالتوبة والإناية ما صدر منهم { رحيم } [البقرة: 226]، يرحم عليهم بتدارك ما فات لهم، وفي تعين تربص أربعة أشهر، في الفيء إشارة عجيبة، وهي أنها مدة تعلق الروح بالجنين كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أن الله خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما ما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم بعث الملك بأربع كلمات يقول: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقيا أم سعيدا ثم نفخ فيه الروح "
، فمن وقع له من أهل القصد وقفة أو فترة في أثناء السلوك من دلالة النفس ونفرة الطبع فعلى الشيخ، وعلى الأصحاب أن لا يفارقوه في الحقيقة، وأن يعاونوه بالهمم العلية لاستجلابه، وتربصوا أربعة أشهر الرجوع، فإن فاءوا إلى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة، واستغفر على ما جرى منه، ونفخ فيه روح الإرادة مرة أخرى أقبلوا عليه، ويعفون عما لديه فإن هذا ربيع لا يرعاه إلا المهزولون، وربع لا يسكنه إلا المعزولون ومنهل لا يرده إلا اللاهون، وباب لا يقرعه إلا الماكثون بل هذا شراب لا يذوقه إلى العارفون وغناء لا يطرب عليه إلا العاشقون { وإن عزموا } [البقرة: 227] بعد مضي أربعة أشهر: { الطلاق } [البقرة: 227]، طلاق منكوحة المواصلة، وأصروا على ذنب المفارقة فلهم التمسك بعروة
هذا فراق بيني وبينك
[الكهف: 78] { فإن الله سميع } [البقرة: 227]، بمقالتهم { عليم } [البقرة: 227]، بحالتهم.
[2.228-232]
ثم أخبر عن المطلقات، وأحوالهن في العذاب بقوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [البقرة: 228]، والإشارة فيها أن المطلقات أمرن بالعدة وفاء لحق الصحبة، وإن كان الانقطاع من الزوج لا من الزوجة، وأمرن أن يغرن على عزة مقامه بالسرعة، ويصبرن حتى يمضي مقدارا من المدة إلى آخر القصة كلها دلالات على وفاء الربوبية في رعاية حق العبودية، فإن الله تعالى من كمال كرمه يرخي زمام الفضل بالاصطناع، وإن كان من العبد الفضل والانقطاع، ويمهل العبد إلى انقطاع عدة الجفاء لا يعرض عنه سريعا لإقامة شرط الوفاء لعل العبد في مدة العدة يتنبه من نوم الغفلة وتتحرك داعيته في ضمير قلبه من نتائج محبته ربه إذ لم تكن له. { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } [البقرة: 228]، لا يكتم ما خلق الله في رحم قلبه من المحبة، وإن ابتلاه بمحنة الفرقة؛ فيقرع بإصبع الندامة باب التوبة، ويقوم على قدم الغرامة في طلب الرجعة والأوبة، فيقال من كمال الفضل والنوال: يا قارع الباب دع نفسك وتعال من طال منا فلاحا فليلزم عتبتنا مساء وصباحا { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } [البقرة: 228]، وفي قوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة } [البقرة: 228]، إشارة إلى أن للعباد حقا في ذمة كرم الربوبية كما أن لله حقا في ذمة عباده فمهما راعى العبد حق الربوبية بتقربه إليه شبرا، فالله أحق أن يراعي العبودية فيتقرب إليه ذراعا، ولله عز وجل في رعاية حق العباد درجة عليهم ورعايتهم حق الله تعالى؛ لأنهم راعون حقه على عجزهم وضعف حالهم، وتغير أحوالهم، والله تبارك وتعالى يراعي حقوقهم على قدر كماله وعظمته وجلاله وسعة فضله ونواله، وقال تبارك وتعالى:
" إن أتاني يمشي أتيته هرولة "
، قال الله تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26] أي: أحسنوا برعاية حق الربوبية في العبودية، فلهم الحسنى بنعيم الجنان لرعاية حق عبوديتهم من كرم الربوبية، ولهم مزيدا لفضل الألوهية بزيادة الرؤية توفية لحقوق عباده، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم "
أي: بذل الحجاب، فإن الكفار معذبون بذل الحجاب لقوله تعالى:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين: 15] { والله عزيز } [البقرة: 228]، أعز من أن يراعي العباد مع عجزهم وضعفهم كجمال حقوق ربوبيته { حكيم } [البقرة: 228]، لا يقتضي أن يطالبهم بما لا يسع في وسعهم وطاقتهم بل بحكمته يقبل منهم القليل، ويوفيهم الثواب الجزيل.
وأخبر عن حل الطلاق، واختيار الفراق بقوله تعالى: { الطلق مرتان } [البقرة: 229]، والإشارة فيها أن أهل الصحبة لا يفارقون بجرمة واحدة صدرت من الرفيق الشقيق والصديق الصدوق ولا بجرمتين؛ بل يتجاوزون مرة أو مرتين، وفي الثالثة { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن } [البقرة: 229]، إما صحبة جميلة أو فرقة جميلة كما تجاوز خضر عن موسى - عليهما السلام - مرتين وفي الثالثة قال:
هذا فراق بيني وبينك
[الكهف: 78]، فأما الصحبة من غير تعظيم وحرقة، وإذهاب لذات العمر بالأخلاق الذميمة، وإضاعة الوقت في تحصيل المقت فغير مرضي في الطريق، ولا محمود في الشريعة؛ بل قاطع طريق الحق، وفي قوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا } [البقرة: 229]، إشارة إلى أن ليس لأهل الصحبة إذا اتفقت المفارقة أن يستردوا خواطرهم عن الرفقاء بالكلية، ويقطعوا رحم الأخوة والدين، ويأخذوا عنهم قلوبهم بعد ما آتوهم الهمم العلية، فإن العائد في هيبة كالعائد في ميسرة: { إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله } [البقرة: 229]، في رعاية الصحبة { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } [البقرة: 229]، بأن تؤدي إلى مداهنة، أو إهمال في حق من حقوق الدين { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [البقرة: 229]، من الحظوظ لرعاية الحقوق { تلك حدود الله } [البقرة: 229]، من الحظوظ والحقوق { فلا تعتدوها } [البقرة : 229]، بترك الحقوق لنيل الحظوظ { ومن يتعد حدود الله } [البقرة: 229]، في تلك الحقوق { فأولئك هم الظلمون } [البقرة: 229]؛ أي: الواضعون أرواحهم في وضع الحظوظ موضع الحقوق.
ثم أخبر عن تمام الفراق بتثليث الطلاق بقوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } [البقرة: 230]، والإشارة فيها أن أهل الصحبة لما تجاوزوا عن زلة الإخوان مرة ومرتين، ثم في الثالثة أن يسلكوا طريق الهجران، وخرجوا عن مناصحة الإخوان فلا يحل للإخوان أن يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقا مثله، فإن ندم من أجل ذلك عن أفعاله وسلم عن ذلك الصديق وأمثاله، وترك صحبته وخرج عن خصاله، ورجع إلى صحبة إخوانه وأشكاله { فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله } [البقرة: 230]، شرائط العبودية والصحبة في الله، وتلك حدود الله طريق قربات الله للسائرين إلى الله بالتصريح والتعريض والعبارات والإشارات، وفي الآية أيضا إشارة إلى أن الله تعالى يتجاوز عن زلات العبد مرة بعد أخرى، ويعفو عن سيئاته تارة بعد أخرى، فإن استمر العبد على أخطاءه ودوام على جفائه، فالله تعالى يبليه بالخذلان، ويجعله قرين الشيطان كما قال الله تعالى:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف: 36]، فإن طلق قرين الشيطان، ورجع بالإنابة إلى باب الرحمن يخرجه بفضله وكرمه من الخذلان، ويتداركه بالغفران والرضوان، ويهديه إلى درجات الجنان، ويجعله من أهل القربات والعرفان كما قال تعالى:
هل جزآء الإحسان إلا الإحسان
[الرحمن: 60].
ثم أخبر عن إمساك المطلقين قبل انقضاء العدة بمعروف، أو تسريح بإحسان بقوله تعالى: { وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } [البقرة: 231]، والإشارة فيها أن الأذية في المصادرة ليست من الإسلام، ولا من آثار الإيمان، ولا من شعار المسلمين عموما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن من آمن الناس، والمسلمون من سلم المسلمون من لسانه ويده "
، ويتضمن حسن المعاشرة مع الخلق جميعا.
فأما معاشرة الزوجين ففيها خصوصية بالأمر بحسن المعاشرة معهن، وترك أذيتهن والمغالظة معهن على وجه الجناح، فإما تخلية السبيل من غير جفاء، أو قيام بحق الصحبة على شرائط الوفاء فلا اعتداء { ومن يفعل ذلك } [البقرة: 231]، أي: من الأذية والمضارة والاعتداء بالجفاء { فقد ظلم نفسه } [البقرة: 231]، وهو يحسب أنه ظلم غيره؛ لأن الله تعالى يجازي الظالم والمظلوم يوم القيامة بأن يكافئ المظلوم من حسنات الظالم، ويجازي الظالم من سيئات المظلوم، وفيه معنى آخر، وهو أن الظالم إذا أساء إلى غيره؛ فصارت نفسه ميتة، وإذا أحسن صارت نفسه محسنة، فترجع إساءة الظالم إلى نفسه لا إلى نفس غيره حقيقة، فإنه ظالم نفسه لا غيره؛ ولهذا قال الله تعالى:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
[الإسراء: 7]، { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } [البقرة: 231]، أي: تلاوة ظاهرة من غير تدبر معانيها، وتفهم إشاراتها، وتحقيق أسرارها، وتتبع حقائقها، والتنور بأنوارها، والاتعاظ بمواعظها، وحكمها يدل على هذا سياق الآية { واذكروا نعمت الله عليكم ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [البقرة: 231]، يعني ما سبق ذكره من دلالات القرآن { واتقوا الله } [البقرة: 231]، في تضييع هذه المعاني، والتغافل عنها { واعلموا أن الله بكل شيء عليم } [البقرة: 231]، تعلمون من هذه الحكمة، وتتركونه بما تفهمون منه وتعلمون { عليم } [البقرة: 231]، بجميعه، وهو أنعم به عليكم، وعلمكم كما قال تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31].
ثم أخبر عمن يتعظ بمواعظ في المطلقات لا يؤذيهن بالمضرات بقوله تعالى: { وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } [البقرة: 232]، والإشارة فيها أنها وإن تضمنت نهي الأولياء عن مضارتهن، وترك أحكام الجاهلية، والانقياد لحكم الله في تزويج النساء إذا أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية الجاهلية، فإنها تضمنت نهي أهل الصحبة عن مقايضة بعضهم بعضا خصوصا لمن أملى بالفرقة، وانقطع عن المعرفة؛ ثم أدركته العناية، وسلكته الهداية بعد أن بلغ أن ينكحن أزواجهن، فبقبح علمه عاد إلى صلة الإخوان بعد انقضاء مدة الهجران، فلا يعضله أحد من الخذلان أن يرجع إلى صحبة الأقران { إذا تراضوا بينهم } [البقرة: 232]، بقية الأخوان { ذلك يوعظ به } [البقرة: 232]، ويزجر بهذا الزواجر { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } [البقرة: 232]، لأن المؤمن ينظر بنور الله يرى أن التعاون على البر والتقوى خير من التعاون على الإثم والعدوان { ذلكم أزكى لكم } [البقرة: 232]، لنفوسكم من الأخلاق الذميمة { وأطهر } [البقرة: 232]، لقلوبكم من الأوصاف البشرية { والله يعلم } [البقرة: 232]، ما يضركم، وما ينفعكم، وما يوصلكم، وما يحجبكم { وأنتم لا تعلمون } [البقرة: 232].
[2.233-238]
ثم أخبر عن أوضاع الوالدات بعد حكم المطلقات بقوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن } [البقرة: 233]، والإشارة فيها أنها تدل من أولها إلى آخرها على أصناف ألطافه، وأوصاف إعطائه في الآية، ونعمائه مع عبيده، وأمانه أنه تبارك وتعالى أرحم بهم من الوالدات الشفيقة على ولدها في الحقيقة على أن غاية الرحمة التي يضرب بها المثل رحمة الأمهات، فالله سبحانه وتعالى أمر الأمهات بإكمال الرحمة، وإرضاع المولدات، وقال: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [البقرة: 233]، وفي قطع الرضاع على المولود قبل الحولين، إشارة إلى أن - رحمة الله - للعبد أتم من رحمة الأمهات، ثم رحم على الأمهات المرضعات، وقال الله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } [البقرة: 233]، ثم اشتملت رحمته بالعدل والنصفة على الأقرباء والضعفة فقال: { لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده } [البقرة: 233]، في الإرضاع، وما يجب عليها من الشفقة والوالد بولده فيما يلزمه من النفقة، ثم أن الله تعالى كما أوجب حق الولد عن الوالدين أوجب حق الوالدين على المولود، وقال: { وعلى الوارث مثل ذلك } [البقرة: 233]، وهو المولود؛ ثم أنه تعالى لما علم ضعف الإنسانية، وعجز البشرية خفف عنهم، ورخص في الفطام قبل الحولين والاسترضاع للوالدين، وقال: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بالمعروف } [البقرة: 233]، بعد أن راعيتم مصلحة المولود؛ ثم وعدوا وعد كل واحد منهم في رعاية الآخر وإهماله بقوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون } [البقرة: 233]، كلكم في رعاية الحقوق وإهمالها { بصير } [البقرة: 233]، فيجازي المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة، وهذا أيضا من كمال اللطف والرحمة، واعلم أن الآية مشتملة على تمهيد قواعد الصحبة وتعظيم محاسن الأخلاق في أحكام العشرة؛ بل أنها اشتملت على مسبوغ الرحمة، والشفقة على البرية، فإن من لا يرحم لا يرحم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يقبل أولاده:
" إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي ".
ثم أخبر عن عدة المتوفى عنها زوجها ومدتها وحكمها بعد انقضاء عدتها بقوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } [البقرة: 234].
والإشارة فيها أن موت المسلم لم يكن فراقا اختياريا للزوج فكانت عدة وفاته أطول، وكذلك العبد الطالب، وإن حال الموت بينه وبين مطلوبه من غير اختياره، فالوفاء بحصول مطلوبه في ذمة كرمه محبوبه كما قال الله تعالى:
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله
[النساء: 100]، ففي هذا التسلية قلوب المريدين؛ لئلا يقطع طريق الطلب وساوس الشيطان وهواجس النفس بأن طلب الحق بأمر عظيم وشأن خطير، وأنت ضعيف، والعمر قصير، فإن منادي الكرم من سرادقات الفضل ينادي
" ألا من طلبني وجدني "
، فأين الطلاب في طلبي { فإذا بلغن أجلهن } [البقرة: 234]، وانقضت عدة الطلب بمضي مدة العمر { فلا جناح عليكم } [البقرة: 234]، يا أهل الإسلام { فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [البقرة: 234]، في طلب المرام فإن الناقد بصير { والله بما تعملون خبير } [البقرة: 234]، فلا يضيع عمل عامل منكم بالنقير والقطمير،
وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 140].
ثم أخبر عن تعريض الخطبة قبل انقضاء العدة بقوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا } [البقرة: 235]، والإشارة فيها أن الله تعالى من كمال رأفته، وشمول عاطفته يظهر آثار فضله، وكرمه في حق الخاطب والزوجة والمتوفي جميعا؛ ففي حق الخاطب أن رخص له في الخطبة بالتعريض، وإن منعه بالتصريح، كيلا يفوته نكاح مرغوبته بأن يسبقه فيه غيره، وقال تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء } [البقرة: 235]، إلى قوله قولا معروفا، وفي الزوجة بما أجاز للمعرض في خطبتها تسلية لقلبها بأنها تنكح بعد زوجها، ويعوضها الله بدلا خيرا من زوجها أو مثله، وفي المتوفى برعاية حقه بعد وفاته؛ لأن لا يصرخ أحد في خطبته زوجته ولا يغرم عقدة النكاح حتى يتم عدتها في حفظ وفاته، وقال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } [البقرة: 235]، ثم قال تعالى: { واعلموا } [البقرة: 235]؛ أي: الرجال والنساء { أن الله يعلم } [البقرة: 235]، بعلمه الأزلي { ما في أنفسكم } [البقرة: 235]، ما قدر من السعادة والشقاوة والرزق والأمل والأجل والعمل وما دبر وما ركب وما عنى وما خلق ما دبر من التسويل، والتعديل وحسن الاستعداد، وفي أحسن تقويم، وما ركب من الروح والقلب والسر والعقل والشهوة والهوى والغضب، وما عنى من خواص مفردات العناصر ومركباتها، وخاصية النباتية والأوصاف الحيوانية والبهيمية والسبعية والشيطانية والأخلاق الملكية والروحانية، وما خلق لحظة فلحظة فيها من الدواعي والخواطر والخير والشر والحركة والسكون والأقوال والأفعال { فاحذروه } [البقرة: 235]، بمراقبة السرائر والضمائر في الباطن وبمحافظة ما أمركم به، وما نهاكم عنه في الظاهر، فاحذروا في البواطن بتزكية النفوس عن المذمومات من الأوصاف، وبتجلية القلوب المحمودات من الأخلاق، وتصفية الأرواح من قطع التعلق بالمكونات، وبتعرض الأسرار لأنوار الجذبات، وفي الظاهر بالاحتراز عن المخالفات، والتزام المتابعة، وإن زالت أقدامكم بزلة من الزلات، وابتليتم من سبق الكتاب بآفة من الآفات، فاعتصموا بحبل التوبة، والاستغفار { واعلموا أن الله غفور حليم } [البقرة: 235]، ولولا حلمه لعجل بعقوبة الأسرار، وما أمهل الأخيار في زلة من الزلات إلى أن يتداركها بالتوبة والاستغفار.
ثم أخبر عن أحوال المطلقات، وما لهن من المهور والمطلقات: { لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } [البقرة: 236]، الآيتين والإشارة فيهما أن مفارقة الأشكال من الأصدقاء والعيال لمصلحة دنيوية؛ إذ لا جناح عليكم فيها فكيف يكون عليكم جناح بأن فارقتموهم لمصلحة دينية؛ بل أنتم مأمورون بمفارقتهم لزيارة بيت الله، فكيف لزيارة الله، فإن الواجب في زيارة بيت الله مفارقة الأهل والأوطان، وفي زيارة الله مفارقة الأرواح والأبدان " دع نفسك وتعال " ،
قل الله ثم ذرهم
[الأنعام: 91] وفي قوله: { ومتعوهن } [البقرة: 236]، إشارة إلى أن من ترك من الطلاب وأهل الإرادة مالا فليمتع به أقرباؤه حين فارقهم في الله سبحانه ليزيل عنهم بحلاوة المال مرارة الفراق، فإن الفطام عن المال صفات الشديد، وتنفيق المال عليهم بقدر قربهم في القرابة وبعدهم؛ بل يقسم بينهم فرائض الله كالميراث، فإنه قد مات عنهم بالحقيقة، وإن هذا { متاعا بالمعروف حقا على المحسنين } [البقرة: 236]، لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فالمحسن من لا يكون نظره إلى غير الله وفي قوله تعالى: { وأن تعفوا أقرب للتقوى } [البقرة: 237]، إشارة إلى أن الوصول إلى تقوى الله حق تقاته إنما هو بترك ما سوى الله والتجاوز عنه، فإن المواصلة إلى الخالق على قدر المفارقة عن المخلوق والتقرب إلى الله تعالى بقدر التعبد عما سواه، وفي قوله تعالى: { ولا تنسوا الفضل بينكم } [البقرة: 237]، هاهنا في الدنيا، فإن حلول الجنة ودخولها هناك لا ينال إلا من فضله لقوله الذي أحلنا دار المقامة من فضله { إن الله بما تعملون } [البقرة: 237]، في وجدان الفضل وفقدانه { بصير } [البقرة: 237].
ثم أخبر عن وجدان الفضل وفقدانه بقوله تعالى: { حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى } [البقرة: 238]، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى أشار في حفظ الصلاة بصورة المفاعلة التي بين الاثنين وقال: حافظوا على الصلاة يعني محافظة الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل "
؛ فمعناه أني أحافظكم بقدر التوفيق والإجابة والقبول والإنابة عليها، فحافظوا أنتم على الصلاة بالصدق والإخلاص والحضور والخشوع والمناجاة بالتذلل والانكسار والاستعانة والاستهداء والسكون والوقار والهيبة والتعظيم وحفظ القلوب بدوام المشهود، فإنما هي الصلاة الوسطى؛ لأن القلب هو الذي في وسط الإنسان ما هو واسطة ين الروح والجسد، ولهذا سمي القلب فالإشارة في تخصيص المحافظة على الصلاة الوسطى هي القلب بدوام الشهود، فإن البدن ساعة يحفظ أركان الصلاة وأبنيتها، وساعة يخرج منها فلا سبيل إلى حفظ صورتها يبعث الدوام ولا إلى حفظ معانيها بوصف الحضور والشهود، وإنما هو من شأن القلب لقوله تعالى:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق: 37]، فإنه من نعت أرباب القلوب أنهم في صلواتهم دائمون والإشارة إليهم في قوله تعالى: { وقوموا لله قنتين } [البقرة: 238]، رأي لعين الله فانتين أي: طالبين ومعنى الآية في التحقيق أن حافظوا على صورة الصلاة بشرائطها المأمور بها عموما، وحافظوا على معاني الصلاة وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة بعد الخروج خصوصا { وقوموا لله } أي: اجعلوا القيام إلى الصلاة معراجا في طلب الحق { قنتين } طالبين من الله الوصول إليه لا تسألوا عنه غيره إذا قال:
" ولعبدي ما سأل ".
[2.239-242]
وهذا هو الصراط المستقيم، فافهم جدا لكيلا تقع عن الصراط { فإن خفتم } [البقرة: 239]، عن حدة هذا الصراط ووقته وطول مسافته لضعف قلوبكم ولعجز نفوسكم ولغلبات شهواتكم وطلبات صفاتكم فاستعينوا بالله وتوكلوا ولا تيأسوا من روح الله واخرجوا من حولكم وقوتكم فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ففروا إلى الله { فرجالا } [البقرة: 239]، على قدم العبودية { أو ركبانا } [البقرة: 239]، على نجائب جذبات الربوبية فإنه قال تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، فلا تخف من طول الصراط واسجد واقترب، ولا تفزع من حدة الصراط ووقته، فإنك محمول العناية:
وحملناهم في البر والبحر
[الإسراء: 70] إشارة إلى أنه يحملكم في الصراط فعليكم بالمشي على قدم العبودية في طلب هداية الربوبية { فإذآ أمنتم } [البقرة: 239]، من خوف ضعف البشر ثقة بالألطاف الإلهية: { فاذكروا الله كما علمكم } [البقرة: 239]، في الفاتحة: { ما لم تكونوا تعلمون } [البقرة: 239]، بقوله تعالى:
إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم
[الفاتحة: 5-6]، فإنه يهديك إلى الصراط، ويحملكم عليها كما وعدكم بفضله وكرمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم يقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول العبد: مالك يوم الدين يقول الله: مجدني عبدي، ويقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، ويقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل "
حديث صحيح.
ثم أخبر عن المتوفى عنها زوجها في الجاهلية لما كانت من حسن عهدها مع زوجها أن تحفظ وفاءه بعده بالعدة حولا ولا تخرجه من بيته سنة إظهارا للوفاء، فالعبد المؤمن إذا لم يوف بعهده وأتى بالعاصي في حضرة ربه كل يوم كذا مرة يكون مع ادعاء إيمانه أقل وفاء وأدنى حياء من تلك المرأة مع كونها ونقصان عقلها بكثير، وفيه إشارة أخرى وهي أن الله تعالى لما أمر أولياء الزوج المتوفى بأن يوفوا مع الزوجة المعتدة الموفية مع زوجها بالنفقة والسكنى، فيستحق العبد المؤمن المعاهد لربه صدق قوله تعالى:
ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به
[التوبة: 111]، وتحقيق قوله تعالى:
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة: 40].
ثم أكد هذا المعنى بما أخبر عن حال المطلقات وما لهم من المتعات بقوله تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف } [البقرة: 241]، الآيتين. والإشارة فيهما أن المطلقة لما ابتليت بالفراق، فالله تعالى جبر كسر قلبها بالمتعة يشير بهذا إلى أن المريد الصادق لو ابتلي في أوان طلبه بفراق الأعزة والأقرباء وهجر الأحبة والأصدقاء، والخروج عن مال الدنيا وجاهها والهجرة عن الأوطان وسكانها والتقرب في البلاد لصحبة خواص العباد ومقاسات الشدائد في طلب الفوائد فالله تعالى يبدل له إحسانه ويزيل أحزانه ويأخذ بيده ويجبر كسر قلبه بمتعة:
" أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي "
، فيكون للطالب الملهوف متاعا بالمعروف { كذلك يبين الله } [البقرة: 242] يظهر الله: { لكم آياته } [البقرة: 242]، أصناف ألطافه وأوصاف إعطائه: { لعلكم تعقلون } [البقرة: 242]، بأنوار ألطافه وكمالات أوصافه.
[2.243-245]
ثم أخبر عن فضل الجهاد وبالتعريض حث عليها العباد بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديرهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحيهم } [البقرة: 243]، الآيتين والإشارة فيهما أن قوما لما أمروا بالجهاد في سبيل الله وهو الجهاد الأصغر فجنبوا وخالفوا الأمر وهربوا حذرا من مقاسات شدائد الجهاد، وابتلاهم الله تعالى بموت الأجساد فكيف بقوم أمروا بالجهاد في الله وهو الجهاد الأكبر بقوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69].
ثم أخبر أن نفع جهادهم إلى أنفسهم وقال تعالى:
ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه
[العنكبوت: 6]، فإن جنبوا وخالفوا الأمر وفروا من محل مشقة المجاهدة وأعرضوا عن طلب الحق واتبعوا الهوى واشتغلوا بالشهوات واللذات فلا يبتليهم الله بموت القلب بل ولعمري لو لم يمت قلوبهم ما أعرضوا عن الحق في طلب الباطل وفي قوله تعالى:
إن الله لذو فضل على الناس
[غافر: 61]، والإشارة أن الله تعالى بفضله وكرمه أحيا قلوب المؤمنين بنور الإيمان قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122]، فقليل منهم أقدموا على أداء شكر الإيمان بالقيام في الأوامر والنواهي كما هو الواجب فاستحقوا بذلك المزيد كما قال تعالى:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، وأكثرهم كفروا بنعمة الإيمان، وركنوا بالخذلان في مخالفة الرحمن فكذبوا بحرمان الجنان وأغرقوا في بحار العصيان، وفي قوله تعالى: { وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [البقرة: 244]، إشارة إلى أن إحياء القلوب الميتة مضمر في قتل النفس الأمارة كما قال تعالى:
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون
[البقرة: 154] يعني: قتلوا أنفسهم ولكن الله أحيى قلوبهم وأرواحهم فقاتلوا في سبيل الله مع نفوسكم، فإنها أعدى عدوكم واعلموا أن الله سميع دعائكم وتضرعكم إليه في الاستغاثة به والاستعانة به على قتل نفوسكم وإحياء قلوبكم كما سمع دعاء نبيهم عليه السلام في إحياء قومه عليم بصدق نياتكم وبذل جهدكم في جهادكم فيعينكم على قتل نفوسكم ويحيي بأنوار فضله قلوبكم.
ثم أخبر عن طرق من حقيقة القتال مع النفس بطريق بذل المال بقوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } [البقرة: 245]، والإشارة فيها أن من كمال فضله وكرمه مع عباده أنه خلق أنفسهم ومدهم الأموال ثم اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ثم ردها لهم بالعارية، ثم أكرمهم فيها بالاستقراض ثم شرط بأضعاف كثيرة عليها فقال تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } [البقرة: 245]؛ يعني: يقرض إلى الله لا إلى الفقير ويعطي لله لا للجنة قرضا حسنا فالقرض الحسن ما لا يقصد في عوضه غير الله { فيضعفه له أضعافا كثيرة } [البقرة: 245]؛ يعني: أن العبد لا يطلب إلا على قدره فيعطيه ما هو مطلوبه ما أخفى لهم من قرة أعين أضعافا كثيرة على قدر كرمه فمن يكون له متاع الدنيا بأسرها قليلا، فانظر ما يكون له ثم ما يكون أضعافا كثيرة وقال تعالى: { والله يقبض ويبسط } [البقرة: 245]؛ يعني: هو القابض والباسط هو يقبض الصدقة عن الأغنياء ليطهرهم بها عن أنجاس الدنيا وأدناسها ويبسط على الفقراء لئلا يتقلدوا المنة من الأغنياء ويعظمونهم بقبض؛ لئلا يرى الأغنياء غيره ويبسط لئلا يرى الفقراء غيره بقبض قلوب الأحباء عن الدنيا والآخرة، ويبسط الجود ويقبض الفاني ويبسط الباقي عنك بقاء يفنيه ويبسط به عن باسطيه، وهذا هو معنى: { وإليه ترجعون } [البقرة: 245].
[2.246-248]
ثم أخبر عن قتال أهل المال وجدال أهل الضلال بقوله تعالى: { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى } [البقرة: 246] والإشارة فيها أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا أعرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان: { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } [البقرة: 246]؛ يعني: أنكم هو شمول إذا ادعيتهم دعوى عريضا تصريحا لا تعريضا أن تقاتل في سبيل الله وإن القتال في سبيل الله من شأن الأنبياء وخواص الأولياء وليس من منيع أهل الطباع والهوى فأنا أتوقع إن كتب عليكم القتال أن تقاتلوا فيما ادعيتم كالرجال وتكون أفعالكم دون أقوالكم وأعمالكم { قالوا وما لنآ ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا } [البقرة: 246]، فكان أول مقالهم دعوى إخلاص لله في قتالهم فظهر عن المقصود وأخرجا لهم معنى الذب عن أولادهم وأموالهم، فهذا حال أكثر مدعي الإسلام والإيمان يزعمون يصلي ويصوم ويحج ويزكي ويعمل ويصنع لله وفي الله، فإذا امتحنوا بصدق الجنان وعرضوا النقود على الميزان فيكشف الغطاء ويظهر الخفاء ففي كفتي الميزان يرى ما كان لله، وما كان للهوى فيقال هذا أثر الحياة، فإن الجنة هي المأوى، وهذا لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى { فلما كتب عليهم القتال } [البقرة: 246]، تبين الأبطال من البطال واسودت وجوه أصحاب الدعاوي، وابيضت وجوه أرباب المعاني: { تولوا إلا قليلا منهم } [البقرة: 246]، ولا شك أن أهل الحق في كل زمان وإن كان أعز من العتقاء وأعوز من الكيمياء، قال بعضهم:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزير وجار الأكثرين ذليل
وإنما لم ينل المدعون مقصدهم؛ لأنه لم يخلص بالحق لله مقصودهم، ولو أنهم قالوا ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وإنه سيدنا ومولانا، فالله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم، كما قال قوم من السعداء في أثناء التضرع والبكاء بالنفس الصعداء:
وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين
[المائدة: 84]، لا جرم
فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار
[المائدة: 85]،
كذلك نجزي الظالمين
[الأنبياء: 29] على قدر ظلمهم
والله عليم بالظالمين
[الجمعة: 7].
ثم أخبر عن إجابة سؤالهم وبعد الإجابة بين مع النبي أحوالهم وأخلاقهم وأفعالهم بقوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } [البقرة: 247]، والإشارة فيها أن الحكمة الإلهية الأزلية جلت وتجلت جلباب تعاليها عن أن تكون العقول القاصرة الخلقية مدركة لكل معنى من معانيها وأنه ليس العجب في أن العقول البشرية المشوبة بظلمة الهوى والغضب كبني إسرائيل حارت عند سماع قوله: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } حتى
قالوا
[القلم: 29]، متحيرين { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } [البقرة: 247]، ولكن العجب أن العقول الكاملة المؤيدة بالأنوار القدسية للملائكة المقربين طارت عند استماع خطابه:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، حتى قالوا مدهوشين:
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة: 30]، فالله تعالى أخبرهم عن قصور عقولهم في إدراك حقائق حكمه وقال:
قال إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة: 30]، ثم اصطفى آدم عليه السلام على الملائكة بالعلم والجسم، وقال تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31]، وقال تعالى:
إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص: 71-72]، وكذلك اصطفى طالوت على بني إسرائيل، قال: { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشآء } [البقرة: 247]، أعطى ملك بني إسرائيل لطالوت كما أعطى ملك الخلافة لآدم وإنما حرم بنو إسرائيل عن الملك؛ لأنهم كانوا معجبين بأنفسهم متكبرين على طالوت ناظرين إليه بنظر الحقارة ومن عجبهم قالوا: { نحن أحق بالملك منه } [البقرة: 247]، ومن تكبرهم عليه قالوا: { أنى يكون له الملك علينا } [البقرة: 247] ومن تحقيرهم إياه قالوا: { ولم يؤت سعة من المال } [البقرة: 247] فلما تكبروا وضعهم الله تعالى وحرموا من الملك ولما عرض صمويل على طالوت تواضع لله تعالى، وقال: كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟ فرفعه الله تعالى وأعطاه الملك وقال: { والله يؤتي ملكه من يشآء } كذلك الملائكة إنما حرموا من الخلافة لأنهم كانوا محتجبين بحجب الأنانية والتحتية متفوقين على آدم ناظرين إليه بالحقارة حتى قالوا:
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة: 30]، وقد أضمروا في هذا القول: ونحن أحق بالخلاف منه وإن لم يظهروا فتفوقوا عليه في حضرته وقالوا:
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30]، فلما تفوقوا عليه وترفعوا أمرهم بسجوده، ولما جاء جبريل عليه السلام ليقبضه من أديم الأرض وقال له: أحب ربك، فقال: إيش يريد مني؟ عرض عليه الخلافة وقال: يريد أن يجعلك خليفة فتواضع لله تعالى وقال: ما للتراب ورب الأرباب وأقسم على جبريل برب العزة ألا يقبضه وأن يستعفي له من الحضرة، فالله تعالى أكرمه بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة وأعطاه ملك الخلافة ورفعه على أكناف الملائكة إلى دار المقامة والكرامة وقال: { والله واسع عليم } [البقرة: 247]؛ أي: واسع الرحمة حتى رحمته وسعت كل شيء، ولكنه عليم بمستحقي خلافته وملكه.
ثم أخبر عن آيات استحقاق ملكية طالوت في إتيانه التابوت بقوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم } [البقرة: 248]، والإشارة فيها أن آية تلك الخلافة للعبد أن يظفر بتابوت قلبه فيه سكينة من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله كقوله تعالى:
وتطمئن قلوبهم
[الرعد: 28]، وقوله تعالى:
ولكن ليطمئن قلبي
[البقرة: 260]؛ أي: بازدياد الإيمان مع الإيمان وهي السكينة لقوله تعالى:
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمنا مع إيمنهم
[الفتح: 4]، { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } [البقرة: 248]، وهو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي كلمة التقوى وهي الثعبان الذي إذا قرعت فإنها تلقف سحر عظيم السحرة صفات فرعون النفس، فإن الله جعل سكينة بني إسرائيل تعينهم في تابوت السماء وهو عصا موسى، فقد جعل سكينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته عصا الذكر وكلمته في تابوت القلوب.
كما قال تعالى:
فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين
[الفتح: 26]، وألزمهم كلمة التقوى ثم شرفهم بتخصيص هذه الكرامة على سائر الأمم وقال تعالى:
وكانوا أحق بها وأهلها
[الفتح: 26] وإن تابوتهم الذي كانت سكينتهم فيه تتداوله الأيدي من الأعداء وغيرهم فمرة كان يدنس وتارة كان يغلب عليه فيحمل ويوضع على الصنم أما تابوت قلوب المؤمنين خال بين أربابها وبينها ولم يستودعها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وأودعها بين أصبعي جلاله وجماله كما قال صلى الله عليه وسلم:
" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "
فشتان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليهم تسلط وبين أمة سكينتهم فيما ليس للأولياء ولا للأنبياء عليه تسلط وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر "
، وإن كان في تابوتهم رضاض ألواح كتبت عليه التوراة فالله تعالى كتب في قلوبهم الإيمان، وإن كان في ذلك التابوت بعض التوراة موضوعا ففي تابوت قلوبهم هذه الأمة جميع القرآن محفوظا، وإن كان في تابوت بيوت فيها صور الأنبياء ففي تابوت قلوبهم خلوات لا يسع فيها معهم غير الله كما قال تعالى:
" لا تسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن "
، فإذا تيسر لطالوت روح الإنساني أن يؤتى تابوت القلوب الرباني فسلم إليه ملك الخلافة وسرير السلطان واستوثق عليه جميع أسباط الإنساني فلا يركن إلى الدنيا الغدارة المكارة بل يتهجر منها ويبرز لقتال جالوت النفس الأمارة { إن في ذلك } [البقرة: 248]، الإشارة { لآية لكم } [البقرة: 248] لنبينها لكم وأعلاما عن أحوالكم: { إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 248]، بحقائق القرآن وإشاراته.
[2.249-253]
ثم أخبر عن خروج طالوت لقتال جالوت بقوله تعالى: { فلما فصل طالوت بالجنود } [البقرة: 249]، والإشارة فيها: { إن الله } [البقرة: 249]، تعالى ابتلى الخلق { مبتليكم بنهر } [البقرة: 249]، الدنيا وماء زينتها وما زين للخلق فيها كقوله تعالى:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين
[آل عمران: 14]، ليظهر المحسن من المسيء وليميز الخبيث من الطيب والمقبول من المردود كما قال تعالى:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
[الكهف: 7]، ثم امتحنهم وقال تعالى: { فمن شرب منه فليس مني } [البقرة: 249]؛ يعني: من أوليائي ومحبي وطلابي وله اختصاص بقربي وقبولي والتخلق بأخلاقي نيل الكرامة مني كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أنا من الله والمؤمنون مني "
{ إلا من اغترف غرفة بيده } [البقرة: 249]؛ يعني: من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد له من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار بمقدار القوام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكان يقول:
" اللهم أرزق آل محمد قوتا "
أي: يمسك رمقهم.
ثم قال تعالى: { فشربوا منه } [البقرة: 249]؛ يعني: المبتلى { إلا قليلا منهم } [البقرة: 249]، وهم الأقلاء في كل عصر وزمان، الأعيان والأحساب، وقوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } [البقرة: 249]، إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاوز بهم الدنيا إذا قال:
" ما لي وللدنيا "
والذين آمنوا معه كانوا يسيرون معه بسيرته كما قال:
محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا
[الفتح: 29]، وفي قوله تعالى: { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } [البقرة: 249]، والإشارة إلى أن كل من شرب من نهر الدنيا وشهواتها وتجاوز عن حد الأمر فيها لا يكون له طاقة المنازلة لقتال جالوت النفس وجنوده صفاتها وعسكر هواها؛ لأنه صار معلولا مريض القلب فيبقى على شط الدنيا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } [البقرة: 249]؛ أي: يستيقنون أنهم عند ملاقاة العدو، ملاقون لربهم وهو ناصر لهم على العدو ولهذا قال: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } [البقرة: 249]؛ أي: بنصره { والله مع الصابرين } [البقرة: 249]، بالنصرة على العدو وبتوفيق الصبر عند الملاقاة كما قال تعالى:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127].
ثم أخبر عن بروز طالوت وقتل جالوت بقوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا } [البقرة: 250]، الآيتين والإشارة فيهما أن المجاهدة في الجهاد الأكبر وهو الجهاد مع جالوت النفس الأمارة لا يقوم بحوله وقوته على قتال النفس ولا يظهر عليها حتى يبرأ من حوله وقوته ويرجع إلى ربه تعالى مستغيثا به مستعينا به مستدعيا منه { ربنآ أفرغ علينا صبرا } [البقرة: 250]، على الائتمار لطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى وترك تيه الدنيا { وثبت أقدامنا } [البقرة: 250]، في التسليم عند الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء وفي التوكل على الحالات عليك، وفي تفويض الأمور إليك والرضا بما في الكتاب المسطور لربك { وانصرنا على القوم الكافرين } [البقرة: 250]، وهم أعداؤنا في الدين عموما والنفس الأمارة وصفاتها التي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصا فإذا كان الالتجاء عن صدق الرجاء برب الأرض والسماء فيكون مقرونا بالإجابة الدعاء والظفر على الأعداء عند اللقاء.
{ فهزموهم بإذن الله } [البقرة: 251]، بنصرة الله فإنه هو الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده { وقتل داود } [البقرة: 251]، القلب { جالوت } [البقرة: 251]، النفس إذ أخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الميل إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى، حتى صار الثلاثة صحراء واحدة وهو التفات إلى غير المولى فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فضرب به جالوت النفس فسخر الله ريح العناية حتى أصاب بيضة هواها وخالط دماغها فأخرج منه الفضل والفضول وخرج من قضاها وقتل من رآها ثلثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها وهزم الله باقي جيشها وهو الشياطين وأحزابها، { وآتاه الله الملك والحكمة } [البقرة: 251]؛ يعني: داود القلب ملك الخلافة وحكمة الإلهامات الربانية { وعلمه مما يشآء } [البقرة: 251]، من حقائق القرآن وأسرارها وإشاراتها { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } [البقرة: 251]؛ يعني: أرباب الطلب المشايخ البالغين الواصلين الهادين المهديين.
كما قال تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } [البقرة: 251]، استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم لتثمر كمالات الدين القويم والعبور على الصراط المستقيم والدخول في جنات النعيم عن استيلاء جالوت النفس وجنود صفاتها وتخريب بلاد الأرواح بتبديل أخلاقها وتكرير صفاء ذواتها وترويدها إلى جحيم صفات البهائم والأنعام وأسفل دركاتها { ولكن الله ذو فضل على العالمين } [البقرة: 251]؛ يعني: من كمال فضله وكرمه يحرك سلسلة طلب الطالبين ويلهم أسرارهم بإرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيول تربيتهم والتسليم تحت تصرفاتهم في تنقيتهم وتثبيتهم بالصبر والسكون عن الرياضات والمجاهدات في حال تزكيته، ويشير إلى المشير بقبولهم والإقبال عليهم ويصبرهم على الفطام عن ألبان صفاء الأوقات ولذات المناجاة في الخلوات وتقويلهم لذيذ المخاطبات وينعم عليهم بالترحم والتعطف واللين على المريد.
كما قال تعالى:
فبما رحمة من الله لنت لهم
[آل عمران: 159]، فلو لم تكن هذه الألطاف وأضعافها من الله ما يسر لها تزكية نفوسهم أبدا كما قال تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشآء
[النور: 21]، بهذه الأسباب وغيرها فهذه إشارات ولطائف لا تتحقق إلا لأهل الخير ولا عبرة في إدراكها بالعقول الجامدة لأهل العزة ولهذا خص الله تعالى حبيبه سيد المرسلين يعني: في ضمن هذه الآيات رموز وإشارات وأمارات ودقائق وحقائق وأنوار وأسرار : { نتلوها عليك } [البقرة: 252]؛ أي: نجلوها لديك { بالحق } [البقرة: 252]؛ أي: بالحقيقة كما هي: { وإنك لمن المرسلين } [البقرة: 252]، الذين عبروا على هذه المقامات وشاهدوا هذه الأحوال والكرامات وظفروا بقهر النفس وتبديل الأخلاق والصفات وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات وأرسلوا إلى أهل الغفلات، وعبدوا طواغيت وأصنام الشهوات ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور من الظلمات إلى النور ولكنهم بالغوا إلى ما بلغت من تحقيق إشارة هذه الآيات لأنهم بالغوا مثل ما بلغت في قهر النفس بسيف الرياضات وكنت نبي السيف على النفس كما قال تعالى:
والذين أوتوا العلم درجات
[المجادلة: 11]، فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلم النفس بالخوف، وإنهم تدرجوا في الدرجات وما قاربوك في القربات، وما وصلوك في الوصلات، وإنهم ليلة المعراج وإن تابعوك في الصلوات؛ ولكنهم ما صاحبوك في الخلوات فإنهم بقوا في الشهوات وأنت عبرت عن المكونات ثم خصصت بقرب
قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9] خصصت، بسهم
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، فوجبت بالكلام بعد ما نوديت بالسلام وعاينت بعدما باينت وأبقيت بما أبقيت بعد ما أفنيت، أسري بك وأنت موسوم بالعبدية، فوصفت بالرحمة إذ أرسلت من مقام العندية ثم فطمت عن رضاع: " لي مع الله وقت " ، وابتليت بسفارة جبريل عليه السلام وقتا دون وقت ثم لقيت من القوم ما لقيت بعدما تعلمت عما سقيت فحق لك أن تقول:
" ما أوذي بي مثل ما أوذيت "
فعلى هذا لا يحق لأحد من العالمين حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين كشوف حقائق هذه الآيات والوقوف على دقائق هذه المشكلات بقدم السير في هذه المقامات وجناح الطير في هذه الكرامات فهنيئا لك ما نلت ومريئا لك ما قلت:
" لو كان موسى وعيسى حيا لما وسعهما إلا اتباعي "
وقولك:
" الناس يحتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم "
بل قولك:
" آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر وأنا سيد ولد آدم "
؛ ولهذا نظم الله ورد هذه الإشارات في سلك صرح وعرض بالعبادات بقوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } [البقرة: 253]، والإشارة في تحقيق الآية أن التفاضل في الدين والدنيا ليس بسعيهم وامتثالهم وإنما بتفضيل الله تعالى إياهم.
كما قال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } أي: نحن فضلنا، فلكل واحد من أهل الفضل أنوار ولأنوارهم آثار فمنهم من هو أعلى نورا وأتم في الرفعة وقورا فرفعة درجاتهم وعلو مقامهم على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم، وهذا التفاوت صادر من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام.
كما قال: صلى الله عليه وسلم
" إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل "
فلذلك أقول حق القلم على علم الله فلما خلق الله تعالى استعداد وجود العباد والمقبولين قابلا لفيض نوره استخصهم بفضل عام وفضل خاص فأما العام: فبما خصهم عن الخلق المردودين بفضل قبول فيض النور فأخبر عنهم بقوله تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
[الأنبياء: 11].
وأما الفضل الخاص: فبما خص بعضهم عن بعض بزيادة كماليته استعداد الوجود في قبول فيض النور فإن التفاوت في الأنوار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقية المستعدة لقبول فيض النور في بدء الخلقة لا في حقيقة النور فإنه موصوف بالوحدة لا تعدد فيه ولا في تفاوت بالزيادة والنقصان، وإن التعدد والتفاوت في الحقيقة راجع إلى الظلمة لا إلى النور؛ ولهذا ذكر الله تعالى النور في مواضع من القرآن بلفظ الواحد أن
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[المائدة: 16] وأمثالها كثيرة فافهم جدا.
ثم إن فضيلة كل صاحب فضل يكون على قدر استعلاء ضوء نوره لأن الرفعة في الدرجات على قدر قوة الاستعلاء كما قيل: " ازدياد العلم رفعة الدرجة " فناهيك عن هذه المعاني قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عن المعراج أنه رأى آدم عليه السلام في السماء الدنيا، ويحيى وعيسى عليهما السلام في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السماء السادسة، وإبراهيم في السماء السابعة عليهم الصلاة والسلام.
وعبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى رفع إلى سدرة المنتهى ومن ثمة إلى قاب قوسين أو أدنى فهذه الرفعة في الدرجات والقربة إلى الحضرة كانت له على قدر قوة ذلك في استعلاء ضوئه على قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود، كانت مراتب الأنبياء بعضهم فوق بعض لما غلب نور الوحدانية على ظلمة إنسانية النبي صلى الله عليه وسلم فاضمحلت وتلاشت وفنيت ظلمة وجوده بسطوات تجلي صفات الجمال والجلال، فكل نبي بقدر ظلمة وجوده بقي في مكان من أماكن السماوات، فإنه صلى الله عليه وسلم ما بقي في مكان ولا فيه مكان؛ لأنه كان فانيا عن ظلمة وجوده، باقيا بنور جوده ولهذا سماه الله تعالى: نورا وقال:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15] فالنور محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب هو القرآن فافهم واغتنم فإنك لا تجد هذه المعاني إلا هاهنا والله أعلم.
ثم أخبر عن فضيلة الخواص أنها كانت من تفضيله إياهم وأخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئة الله لا بمشيئتهم بقوله تعالى: { ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات } [البقرة: 253]؛ يعني: خصوصا بعد ما جاءتهم البينات، { ولكن اختلفوا } [البقرة: 253]، مع رؤية المعجزات؛ لأن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتهم فما نفعتهم المعجزات مع إعواز المشيئة فلما كانت المشيئة في حق البعض دون البعض { فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شآء الله } [البقرة: 253]، السعادة في حق الجميع { ما اقتتلوا ولكن الله يفعل } [البقرة: 253]، إلى الأبد { ما يريد } [البقرة: 253]، في الأزل بل اختلاف الأزل والأبد راجع إلى الخلق، الأزل أبد والأبد أزل تعالى عما يشركون به علوا كبيرا.
[2.254-257]
ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل في قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقنكم } [البقرة: 254]، والإشارة فيها أن مع تنزه تحقيقها عن تقديره بالعبادات وتقديره بالإرشادات أنه سبحانه عظم شأنه وعز سلطانه أخبر عن كمال ذاته بذاته وعن جلال صفاته بصفاته وعن جمال مكنونه بمكنوناته فقوله تعالى: { الله لا إله إلا هو } يخبر عن ذات منفرد بالألوهية والديمومية، متوحدة بالوحدانية والربوبية بمن عرف بقضايا هذا طلاسم حق العرفان عرف أنه ينعت الكمال موصوفا بجميع صفات الجلال والجمال فلا يحتاج إلى تعريفه بتعداد أوصاف كماله ونشرها فإنها تقدست وتعظمت عن إحاطة نطاق النطق بحصرها؛ ولكن لما دعت الضرورة لقصور العقول عن درك شأوها إلى تعدد، شرع في شرحها وعدها فبدأ بنفي إله يصلح للضدية في الألوهية والندية في الربوبية بقوله تعالى: { لا إله } [البقرة: 255]، ثم أثبت بالاستثناء عن الجنس هوية ذاته بوصف الوجود والإيجاد معبودية العباد لا ضدية ولا ندية بقوله تعالى: { إلا هو } [البقرة: 255].
ثم بين صفة هي لازمة اللاهوتية بقوله تعالى: { الحي } [البقرة: 255]، لا حي إلا هو ولا حياة إلا حياته فلا يحيى حي إلا بإحيائه وحياته، ثم ذكر صفة أخرى ذاتية له مقرونة بقوله تعالى: { القيوم } [البقرة: 255]؛ يعني: هو القائم بذاته القيوم لمخلوقاته ليس لشيء من مكوناته قيام بنفسه إلا هو قائم بقيوميته، وقد مر من دعاء النبي: صلى الله عليه وسلم
" يا قيوم السماوات والأرض "
وإنما أشير في معنى الاسم الأعظم إلى الاسمين وهما الحي القيوم؛ لأن اسمه الحي مشتمل على جميع أسمائه وصفاته فإن من لوازم الحي أن يكون قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا، واسمه القيوم مشتمل على افتقار جميع المخلوقات إليه، فتجلى الله لعبده بهاتين الصفتين فالعبد يكاشف عند تجلي صفة الحي بجميع ما في أسمائه وصفاته ويشاهد عند تجلي صفة القيوم فناء جميع المخلوقات إذا كان قيامها بقيومية الحق لا بأنفسهم فلما بدا الحق زهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا الحي القيوم.
وإذا كان بسبب الحي قيام جميع أسماء الله تعالى، وبسبب القيوم قيام المخلوقات فترتفع الاثنينية بينهما إذا أفنت التعدد وبقيت الوحدة فيصيران أسمى وأعظلم للمتجلى له فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية فقد ذكره باسم الأعظم الذي إذ دعي أجاب، وإذا سئل به أعطى، فأما الذاكر عند غيبة فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم، بالنسبة إلى حال غيبته وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم كما سئل أبو زيد عن الاسم الأعظم فقال: الاسم الأعظم ليس له حد محدود؛ ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت.
ثم الله تعالى نزه نفسه عن صفات النقص بعد ما أتيت له صفات الكمال وقال: { لا تأخذه سنة } [البقرة: 255]، لأن النوم أخو الموت بل سمى الله تعالى النوم بالموت وقال:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
[الزمر: 42] أي: منامها والموت ضد الحياة وهو الحي الحقيقي فلا يخلفه ضد الحياة، ففي هذا أشار إلى أن ذاته سبحانه وتعالى كأنه موصوف بصفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقصان.
ثم أظهر ملكيته ومالكيته بالانفراد في قوله تعالى: { ولا نوم له ما في السموت وما في الأرض } [البقرة: 255]، ملكا وملكا خلقا وعبدية كما قال تعالى:
إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا
[مريم: 93] قائما عبدا ليس له أن يعارض مالكه وملكه عند إجراء حكمه في ملكه فقال تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255]، قلت: هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد وعده المقام المحمود بقوله تعالى:
أن يبعثك ربك مقاما محمودا
[الإسراء: 79] بالشفاعة فمعنى الآية من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد فإنه مأذون بالشفاعة موعود بها مستعد لها كما مر ذكره في حديث الشفاعة إذ تعينه الأنباء للشفاعة ويدل عليه سياق الكلام وهو قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [البقرة: 255]؛ يعني: يعلم محمد صلى الله عليه وسلم ما بين أيديهم من أمور الأولياء قبل خلق الله الخلائق لقوله: صلى الله عليه وسلم
" أول ما خلق الله نوري "
وفي رواية
" روحي "
، و
" أول ما خلق الله العقل "
، و
" أول ما خلق الله القلم "
و
" أول ما خلق الله جوهرة "
، و
" إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام "
وأمثال هذا كثير { وما خلفهم } من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم: نفسي نفسي وخذلة الخلق بعضهم إلى بعض حتى بالاضطراب يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاختصاصه بالشفاعة وأشباه ذلك، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
{ ولا يحيطون بشيء من علمه } [البقرة: 255]، وكذلك يحتمل أن يكون إلها كناية عنه صلى الله عليه وسلم يعني هو شاهد على أحوالهم يعلم ما بين أيديهم عن سير معاملاتهم وقصصهم كما قال تعالى:
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
[هود: 120] وما خلفهم من أمور الآخرة وأحوال أهل الجنة والنار وهم لا يعلمون شيئا من معلوماته { إلا بما شآء } [البقرة: 255]، أن يخبرهم عن ذلك فأحمل على علم الله فهو ظاهر وقد سبق ذكره، ولا يحيطون يعني الخلق بشيء من علمه؛ لأن علمه قديم أزلي لا يكون مسبوقا بالعلم المحدث إلا بما شاء أن يخبرهم عن بعض معلوماته.
{ وسع كرسيه السموت والأرض } [البقرة: 255]، فهذا مما يخبر عن جمال مكنوناته بمكوناته يعني ذلك سيد هذا الكمال أن يكون محيطا بالسماوات والأرض والنار، وهو مع عظم شأنه كخلقه حلقات في فلات بالنسبة إلى العرش، فانظر إن كمالية جمال العرش كم يكون، أما القول معنى الكرسي فاعلم أن مقتضى الدين والديانات لا يؤول شيئا من الأعيان مما نطلق به القرآن والحديث بالمعاني لا بصورها كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وعلماء السلف الصالح اللهم إلا أن يكون محققا خصه الله تعالى بكشف الحقائق والمعاني والأسرار وإشارات التنزيل وتحقيق التأويل، فإذا كوشف بمعنى خاص وإشارة وتحقيق بقدر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان مثل الجنة والنار والميزان والصراط، وما في الجنة من الحور القصور والأنهار مجرى المعنى ويبطل صورته بل يثبت تلك الأعيان كما جاء ويفهم منها حقائقها ومعاينها، فإن الله تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة الأولى نظير في عالم المعاني وما خلق الله شيئا في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب، فافهم جدا.
وما خلق الله في العالمين شيئا إلا وله مثال وأنموذج في عالم الإنسان، فإذا عرفت هذا فاعلم أن مثال العرش في عالم الإنسان قلبه؛ إذ هو محل استواء الروح عليه بخلافة الله، ومثال الكرسي سر الإنسان وسنبينها في تحقيق
الرحمن على العرش استوى
[طه: 5] إن شاء الله تعالى. فالعجب كل العجب أن العرش مع سعته باستواء الرحمانية فقد قيل هو كخلقه حلقات بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن وسيجيء شرحه إن شاء الله تعالى.
قوله عز وجل: { ولا يؤوده حفظهما } [البقرة: 255]، فتحقيقه أن لا تؤد الروح الإنساني حفظ أسرار السماوات والأرض ومعانيها التي أودعها في السر الإنساني بقوله تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31]، فالله تعالى بعد ما أظهر وأثبت لمخلوقاته من العرش والكرسي والقلب الإنساني وسره علوا في المرتبة وعظمة في الخلقة إظهار الكمال القدرة والحكمة، ترد برداء الكبرياء والعزة والعلاء، واتزر بإزار العظمة في الرفعة والسناء، وهو أولى وأحق بالمدحة والثناء، فقال عز وجل وعلا: { وهو العلي العظيم } [البقرة: 255] عين له العلو في الشأن والعظمة والسلطان فمن علا في الآخرة والأولى فبإعلائه قد علا، ومن عظم فبتعظيم قد عظم واستعلى فسبحان ربنا العظيم وسبحان ربنا الأعلى.
ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله تعالى: { لا إكراه في الدين } والإشارة فيها أن الله هو محب الذين آمنوا ومتولي إيمانهم ويخرجهم من ظلمات الخلقة إلى نور الهداية حتى آمنوا، ويدل على هذا التحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطاه فقد ظل "
فقد ثبت أنه أخرجهم ذلك اليوم بإصابة النور المرشوش من ظلمات الخلقة وهي ظلمة الحدوث فافهم حتى اهتدوا اليوم فآمنوا، ولولا محبته إياهم وهو مزيد العناية وتوليته بالنصرة والمعونة فضلا ورحمة منه آمنوا وكانوا كافرين بقوله تعالى:
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
[البقرة: 64].
ثم اعلم أن مراتب المؤمنين في الإيمان متفاوتة، وهم ثلاثة طوائف: عوام المؤمنين وخواصهم وخواص الخواص، فالعوام يخرجهم الله من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية كقوله تعالى:
والذين اهتدوا زادهم هدى
[محمد: 17]، والخواص يخرجهم من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية الربانية كقوله تعالى:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله
[الرعد: 28]، واطمئنان القلب بالذكر لم يكن إلا بعد تصفيته عن الصفات النفسانية وتحليته بالصفات الروحانية ومن صفة النفس الاطمئنان بالحياة الدنيا وشهواتها لقوله تعالى:
رضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها
[يونس: 7]، فلما استولى سلطان الذكر على نفس المؤمن وقلبه تنور النفس بنور، وخرجت من ظلمات صفاتها فتبدلت أخلاقها الذميمة بالحميدة، فيكون اطمئنانها مع الذكر يدل ما كانت مع الدنيا، فتستحق حينئذ أن يخرجها الله تعالى بخطاب:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28] من ظلمات الصفات الغير المرضية إلى نور صفة
راضية مرضية * فادخلي في عبادي
[الفجر: 28-29] أي مقام خواص عبادي وخواص الخاص يخرجهم من ظلمات حدوث الخلقة الروحانية بإفنائهم عن وجودهم إلى نور تجلي صفة القدم لهم لتفنيهم به كقوله تعالى:
فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا
[الكهف: 13-14]، نسبهم إلى الفتوة لما خاطروا بأرواحهم في طلب الحق وآمنوا بالله وكفروا بالطاغوت أوقيانوس، فلما تقربوا إلى الله تعالى بقدم الفتوة تقرب إليهم بمزيد العناية، وقال تعالى:
زادهم هدى
[محمد: 17]؛ يعني: إذا خرجوا من ظلمات الكفر بقدم الفتوة إلى نور الهداية أخرجناهم بمزيد العناية من ظلمات النفسانية إلى نور الروحانية، فلما تنورت أنفسهم بأنوار أرواحهم اطمأنت إلى ذكر الله وأنست به واستوحشت عن صحبة أهل الدنيا وما فيها فأحبوا الخلاء.
كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الأمر قالت عائشة - رضي الله عنها -: أول ما بدء به كان حبب إليه الخلاء، ولعمري وهذا دأب كل طالب محق مريد صادق فقال أكبرهم:
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا
[الكهف: 16] وبالحقيقة كان الحق ينطق على لسانه إذا أمرهم بعد المفارقة عن الأوطان والأخدان، ولم يجدوا مربيا من هذا الشأن بأن يأووا إلى غار ليخلوا مع الله ويطلبوه منه، فإذا قاموا عن وجودهم وبذلوا جهدهم في طلبه ومشوا إليه استقبلهم بجوده هرولة فبدل أوصافهم بألطافه.
كما قال تعالى:
وربطنا على قلوبهم
[الكهف: 14]، أي: أفناهم عنهم بنا بنشر رحمتنا عليهم، والنشر هو الأحياء ينشر لكم ربكم من رحمته، أي: يحببكم ربكم بصفات رحمته بعد أن يميتكم عن صفاتكم ويهيئ لكم من أمركم مرفقا، يعني: إذ نحن ما نعلم طريق السير إلى الله، ولم نجد من يسيرنا إليه بالتربية، فالله تعالى يتولى أمرهم بنهي أسبابها بالرفق، فلا جرم من تهيئ أسباب تربيتهم فأنامهم نومة العروس بعزل الحواس، فإنها أصل معتبر في تصفية القلب وسرعته إلى التوبة بالكلية إلى الحق في قبول فيض النور الإلهي، ولئلا تتأذى نفوسهم بنصب الرياضة وتعب المجاهدة، وتولى تربيتهم بلا واسطة، فقال تعالى:
ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال
[الكهف: 18]، تقلبهم عن صفات أصحاب الشمال إلى صفات أصحاب اليمين، وكلبهم عين كلب نفوسهم
باسط ذراعيه بالوصيد
[الكهف: 18] أي: نائم باسط ذراعيه عنهم، ولا يزاحمهم بدواعي البشرية حتى تمده مدة تربيتهم في أوصاف البشرية بأخلاق الربوبية فإفنائهم عنهم وإبقائهم به من أمارات هذا المقام، وهو الولاية التي يكرم الله بها خواص عباده إذ يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور جوده فأظهر الله عليهم هيبة من آثار صفات جلاله، كما قال تعالى:
لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا
[الكهف: 18].
وقوله تعالى: { والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت } [البقرة: 257]، ذكر الطاغوت بلفظ الواحد والأولياء بلفظ الجمع؛ ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار للطاغوت لا من قبل الطاغوت لهم فلو كان من قبله لقال: وليهم الطاغوت أو الطاغوت وليهم فمعناه والذين كفروا هم أولياء الطاغوت، دليله قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
[البقرة: 165]، ولأنه لو فسرنا الطاغوت بالأصنام فإنه بمعزل عن الولاية والمحبة، وإن حملنا على الشيطان والنفس فإنهم أعداء لا الأولياء وإن حملنا على الرؤيا المتقدمين، فإن لهم فراغة عن ولايتهم ومحبتهم وإن كانوا يقطعون الطريق عليهم ويمنعونهم عن الإسلام ويدعونهم إلى الكفر، فهذا من العداوة لا من الولاء فثبت أنهم أولياء للطاغوت، ولهذا الفرق ذكر الأولياء بلفظ الجميع، ولما كان في حق المؤمنين الولاء والمحبة من الله تعالى ابتداء لا منهم قال الله عز وجل: { الله ولي الذين آمنوا } [البقرة: 257]، دليله
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، بدع بمحبته إياهم قوله تعالى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [البقرة: 257]، فليس لكل طاغوت في العالم قدرة بالحقيقة على إخراج أحد من النور إلى الظلمات، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" بعث الشيطان مزينا، وليس إليه من الضلالة شيء "
، وإنما نفوس الإنسان تميل إلى ما يلائم هواها وشهواتها فيسكن ولاءها ومحبتها فيتمنى نيل مرادها ومرامها من شيء أو شخص أو شيطان أو صنم تثبت بذلك وتعلق به وتتولاه وتجعله طاغوتا يشغلهم عن الله، فلهذا المعنى ينسب الله تعالى الإخراج إليهم بقوله: { يخرجونهم } ، كقوله:
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
[إبراهيم: 35-36] إنما بتعبدهم ضلوا إلا بإضلالهن، فكذلك الكفار بتوليهم الطاغوت أخرجوا من النور، ومعنى الآية يخرجونهم من نور الروحانية والإيمان الفطري إلى ظلمات الصفات النفسانية البهيمية والسبعية والشيطانية ظلمات بعضها فوق بعض، ودركات بعضها تحت بعض إلى أن تكدرت الأرواح وأظلمت بهذه الظلمات وتخلقت بأخلاق النفوس واتصفت بصفاتها.
وكما أن النفوس إذا تنورت بنور الإيمان والأرواح وعلت إلى عالم الأرواح وأعلى عليين القرب مع كونها سفلية، فبإكسير الشرع تصير متصفة بصفة العلويات فتدعى بقوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي
[الفجر: 27-28]، فكذلك الأرواح العلوية لما اتصفت بصفات النفس الأمارة وانقلبت جواهر النورانية بإكسير الطبع الحيواني ظلمانية أمرت بالهبوط إلى أسفل سافلين البعد، دليله قوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 4-5]، فإفساد استعداد الروحاني بالكفر ومتابعة الهوى
إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت
[التين: 6] استثنى منهم أرواح المؤمنين
أولئك
[البقرة: 39] يعني: أرواح الكفار
أصحب النار
[البقرة: 39]؛ أي: مع أصحاب النار وهم النفس والشيطان والطاغوت
هم فيها خلدون
[البقرة: 39]؛ أي: معهم فيها خالدون لأنكم أيها الأرواح وإن لم تكونوا من جنس لما شبههم بهم فمن تشبه قوما فهو منهم ومن أحب قوما فهو معهم خالدين في النار وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
[2.258]
ثم أخبر عن الكافر أنه إذا عجز عن العبودية كيف عارض الربوبية بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه } [البقرة: 258]، الإشارة فيها أن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكا ما أعطى لأحد قبله، وذلك لأن الله تعالى أعطى الإنسان حسن استعداد لطلب الكمال ما أعطى لأحد من العالمين كقوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4]، يعني: حسن استعداد في طلب الكمال فمن حسن استعداده في الطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال فحيث ما توهم جهة الكمال يأخذ في السير فيها إلى أقصى مراتبها في العلوي أو السفلي لا يتوقف لحظة إلا لما هي، ولكن الإنسان جبل على الصفة الظلومية والجهولية كقوله تعالى:
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72]، فإن وكل إلى نفسه في طلب الكمال فينظر بنظر الحواس الخمس إلى المحسوسات وهي الدنيا فلا يتصور الكمال إلا فيها، فيأخذ في السير لطلب الكمال فيها، وهذا السير موافق لبشرية الطبيعة لأنه خلق من تراب، والتراب سفلي الطبع فيميل إلى السفليات طبعا والدنيا هي السفل فيسير فيها بقدر الطبع ويطلب الكمال، وفي البداية يرى الكمال في جميع المال فيجمعه، ثم الكمال في الجاه فيصرف المال في طلب الجاه، ثم يرى الكمال في المناصب والحكم، ثم يرى في الأمارة والسلطنة فيسير فيها ما لم يكن مانع إلى أن يملك الدنيا بأسرها كما كان حل نمرود، ثم لا يسكن جوهر الإنسان في طلب الكمال كلما ازداد استغناؤه ازداد حرصه وكلما ازداد حرصه ازداد طلبه إلى أن لا يبقى شيء من السفليات أن ملكه بقصد العلويات، وإلى الآن كان ينازع ملك الملوك ومالك الملك، وكان سبب طغيانه استغناؤه كما قال تعالى:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7]، فإذا كمل كمال الله أتاه الملك وكان سبب طغيانه حتى يكفر بالنعمة
إن الإنسان لربه لكنود
[العاديات: 6]
إن الإنسان لظلوم كفار
[إبراهيم: 34]، فهذا كله عند فساد جوهره لما وكل إلى نفسه، فبحسن استعداده أينما تصور الكمال توجه إليه لتحصيله إلى أنه رأى الكمال في الربوبية قصدها وادعى الربوبية ولكن جوهر الإنسان إذا صلح بالتربية ولم يوكل إلى نفسه هدي إلى جهة الكمال المستعد له، كقوله:
أهدكم سبيل الرشاد
[غافر: 38] فصاحب التربية وهو النبي أو بنيابته وخلافته الولي وهو الشيخ يربيه وتربيته في تربية عما سوى الله، وعداوته لتحقق تولية الله ومحبته، كما كان حال إبراهيم عليه السلام في طلب الحق بقوله:
أني بريء مما تشركون
[هود: 54]،
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، إلى أن يبلغ الإنسان حد كماله في طلب الكمال، وهو إفناء الوجود في وجود الموجود الموجد؛ ليكون مفقودا عن وجوده موجودا بوجوده، فكما كان يقول عند فساد الجوهر وإبطال حسن الاستعداد للكمال: { أنا أحيي وأميت } [البقرة: 258] وليس للعالم رب إلا أنا جهلا بهذا الكمال، فيقول عند صلاح الجوهر وصرف حسن الاستعداد في طلب الكمال وحصوله: " ليس في الوجود سوى الله " ، وهذا هو حقيقة
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك
[محمد: 19]؛ يعني: كن فانيا عن وجودك بالكلية، فإذا فنيت عنك به علمت ما في الوجود سوى الله واستغفر لذنبك حسبان وجود غير وجوده، فافهم جدا.
وإن لم تكن مجدا، فإن المجد من يدق بمطرقة لا إله إلا الله دماغ نمرود دماغ النفس إلى أن يؤمن بالله، ويكفر بالطاغوت وجوده وجود كل موجود سوى الله، { والله لا يهدي القوم الظالمين } [البقرة: 258] يعني إلى عالم التوحيد والوحدة القوم المشركين فإن الشرك لظلم عظيم بالشرك ضل من ضل عن الصراط المستقيم.
[2.259-260]
ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في محبته عقيب الدعوى بقوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } [البقرة: 259].
والإشارة فيها: أن قوما أنكروا حشر الأجساد مع أنهم اعتقدوا وأقروا بحشر الأرواح، وقالوا: الأرواح كان تعلقها بالأجساد ولاستكمالها في عالم المحسوس كالصبي يبعث إلى المكتب لتعلم الأدب، فلما حصل مقصوده من التعلم بقدر استعداده وخرج من المكتب ودخل محفل أهل الفضل وصاحبهم سنين كثيرة، واستفاد منهم أنواع العلوم التي لم توجد في المكتب واستفاد العلوم من الفضلاء بقوة أدبه التي تعلم في المكتب، وصار فاضلا في العلوم فما حاجته بعد أن كبر شأنه وعظم قدره أن يرجع إلى المكتب وحالة صباه. فلذلك الأرواح لما خرجت من سجن الأشباح واتصلت بالأرواح المقدسة بقوة علوم الجزئيات التي حصلتها من عالم الحس مستفادة عن الأرواح العلوية علم الكليات التي لم توجد في عالم الحسن فما حاجتها أن ترجع إلى سجن الأجساد، فكانت نفسهم تسولت بهذه التسويلات والشيطان يوسوسهم بمثل هذه الشبهات، فالله سبحانه وتعالى من كمال فضله ورحمته على عباده المسلمين أمت عزيزا مائة سنة وحماره ثم أحياهما جميعا ليستدل به العقلاء على أن الله مهما يحيي عزيز الروح يحيي معه حمار جسده فلا يشك العاقل بتسويل النفس ووسوسة الشيطان وشبهات المتفلسفين في حشر الأجساد كما قال تعالى: { وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } [البقرة: 259]؛ يعني: انظر إلى حمارك الميت والعظام الرميمة، ثم انظر إلى العظام ننشزها لنجعل حالك وحال حمارك في الأحياء آية، والآية واضحة وأمارة لائحة للعاقل المؤيد عقله بنور الإيمان { فلما تبين له } [البقرة: 259]، بعد كشف الحجاب برؤية مشاهدة أنوار الغيب { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } [البقرة: 259]، يقر ويؤمن بأن الله يحيي عزيز الروح ويحيي معه حمار جسده، فكما أن عزيز الروح يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر يكون حمار عزيز الروح، وهو جسده ونفسه في الجنة، فلعزيز الروح مشرب من كئوس تجلي صفات الجمال والجلال عن ساقي
وسقاهم ربهم شرابا طهورا
[الإنسان: 21] والحمار الجسد مشرب من أنهار الجنان وحياض رياض،
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
[الزخرف: 71]
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة: 60] مشربنا، وأهرقنا على الأرض سؤرنا وللأرض من كأس الكرام نصيب، وإن لحشر الأجساد وإعادة الأرواح إليها فوائد وحكما سنبينها في موضعه إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر عن إراءة كيفية الإحياء لخليله " شيخ الأنبياء " عليهم الصلاة والسلام بقوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [البقرة: 260]، والإشارة فيها أن في قوله:
رب أرني
[الأعراف: 143]، تفوح رائحة معنى قول موسى عليه السلام
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]، ولكن موسى عليه السلام كان الغالب عليه السكر فإذا أديرت عليه كاسات المكالمات وأثر فيه شراب ملاطفات المحاورات، وسكر قلبه بشراب الذوق وطاش لبه عن غلبات الشوق وارتفعت الحشمة والحياد، وانقطعت الكلفة والعناد أرويت الآذان بالإصغاء تعطشت العيون إلى اللقاء فانبسط على بساط البسط، وأطلق عنان اللسان بالتصريح في ميدان البيان لسبق رؤية العيان وقال:
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]، فلم يحفظ الأدب في الطلب فما أرى غير النصب والتعب وأدب تأديب الخاطئ الجاني وعرك بتعريك
لن تراني
[الأعراف: 143] فأما الخليل عليه السلام فكان الغالب عليه الصحو على أنه أسقي بأقداح الخلة ما لو سقى موسى عليه السلام بقطرة منه لم يفق أبدا لأنه كان صاحب شرب، وكان الخليل عليه السلام صاحب ري، فصاحب الشرب سكران وصاحب الري صاح كما قيل شعر:
شرب الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
كان شرب موسى عليه السلام من شراب الكلام بأقداح السماع في أفواه السماع أحيانا فكان دائما سكرانا فتارة ينبسط مع الحق بقوله
أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143] وأجري يعربد بقوله
إن هي إلا فتنتك
[الأعراف : 155] وتارة يعربد مع هارون
وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه
[الأعراف: 150]، وتارة يعربد مع الخضر عليه السلام
لقد جئت شيئا نكرا
[الكهف: 74]، وتارة يعربد مع ملك الموت فلطمه ففقأ عينه، وأما القبطي وقتله فوكزه موسى فلا يقربه به.
والخليل عليه السلام شرب من شراب الخلة بكاسات الوصلة في أفواه الأرواح ومع هذا ما زلت قدمه في أدب من آداب العبودية في الحضور والغيبة من كمال صحوه بسطوات الهيبة، فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة: " إن أول من شاب شيبة إبراهيم عليه السلام " ويحترم غدا بالكسوة أما أول من بكى إبراهيم عليه السلام ولما ابتلي في ماله بذل الضيفان وابتلي في ولده
فلما أسلما وتله للجبين
[الصافات: 103]، للقربان وابتلي في نفسه استسلم لمنجنيق ابن كنعان وابتلي بجبريل عليه السلام فقال: أما إليك فلا عند الامتحان فلا جرم على قضيته عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، أكرمه بالإمامة للإنسان قال الله تعالى:
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما
[البقرة: 124]، ومن إمامته أنه كان أول من دق باب الطلب للحق، وقال:
قال هذا ربي
[الأنعام: 76]، وأول من سلك طريق الحق، وقال:
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99] وأول من نطق بمحبته وقال:
قال لا أحب الآفلين
[الأنعام: 76]، وأول من أظهر الشوق، وقال:
لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين
[الأنعام: 77]، وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب وقال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، أول من اشتاق إلى الرب سأل الرؤية وقال: { رب أرني } [البقرة: 260]، ولا تحسبن أن اشتياقه إلى الرب وتعطشه للرؤية، إنما كان وقت سؤال رب أرني، كما قيل شعر:
ولست حديث العهد شوقا لوعة
حديث هواكم في حشاي قديم
فإنه كان برهة من الدهر مستغرقا في هذا البحر؛ ولكن من غاية الحلم والحياء في مقام الصدق والوفاء يراعي حق إجلال العظمة والكبرياء، ومن حفظ أدب الإجلال لا يفتح على نفسه باب السؤال، ويقول: " حسبي من سؤالي علمه بحالي " والله تعالى يرى قلبه وتقلبه والعشق وليسمع تحنثه وتأوهه من الحرقة والشوق، ويشاء تحلمه وتحمله وتخلده إجلالا لمولاه، فيقول الله تعالى:
إن إبراهيم لأواه حليم
[التوبة: 114]، وهو في ذلك يترصد فرصته يجد للسؤال فيها رخصة إلى أن يساقه التقدير إلى حسن التدبير وسأله نمرود: من ربك؟ فأجرى الحق على لسانه من فضله وإحسانه:
الذي يحيي ويميت
[البقرة: 258]، قال نمرود: وهي رأيت منه ما تقول أو رميت برمية ما به رأيت فوجد الخليل عليه السلام فرصة بهذا المقال لحق رخصته السؤال فأدرج في السؤال، فطلب بهذا الطريق مأموله فأخفى سره وهو: أرني في علته، وهو كيف يحيي الموتى بحفظ الأدب مع الرب، وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى، وكان يعلم الجليل ما هو مقصود الخليل وأول باب فتح عليه من مقصوده بأن خاطبه واسمعه بكلامه بفضله وجوده، وقال تعالى: { أولم تؤمن } [البقرة: 260]، وكان فيه هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة أجوبة مضمرة وثلاثة معان مدرجة مناسبة للسؤال.
وأما الأجوبة: فظاهر السؤال كان دالا على طلب إحياء الموتى.
فأجابه وقال: { أولم تؤمن } يعني ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت، فما كان إيمانك حقيقيا.
والجواب الثاني: وذلك أن الخليل أخفى سره وهو طلب الرؤية وعين سؤاله، فكذلك الرب تعالى أخفى سره، وقال: { أولم تؤمن } بميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة.
والجواب الثالث: أن الخليل ما كان شاكا فيما التمس ظاهرا؛ ولكنه أرى نفسه مشككا تعللا لسؤال المرام في ثناء الكلام، فكذلك الرب تعالى ما كان شاكا في مقصود الخليل المضمر في سؤاله؛ ولكنه أجاب تشككه في إراءة نفسه كالمتشكك في المقصود والمضمر في سؤاله وقال: { أولم تؤمن } يعني بما طلبت من الإحياء وتغافل عن مرام الجليل من كلامه مجيبا فيما صنع.
وأما المعاني الثلاثة: فالأول: أنه أضمر معنى الإثبات في لفظة النفي قال: { أولم تؤمن } أي: بل تؤمن، كقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] أي: أنا ربكم، والثاني: أنه درج فيها معاني جواز الرؤية يعني { أولم تؤمن } بأني أرى يوم الميعاد، فتراني أنت أيضا، فتتضمر في سؤالك طلب رؤيتي.
والثالث: أنه أحيى فيها معنى معالجة الخليل بالبصر يعني: { أولم تؤمن } بإنجاز وعدي لك بالرؤية فاصبر فإن الميعاد لخواص العباد، ثم قال الخليل في الاستفهام للمبالغة في تحصيل المرام: { بلى ولكن ليطمئن قلبي } عن الاستفهامات ببلى السر بالسر، وقرر المضمرات في السؤال بقوله: { ولكن } يعني ولكن مع الحديث اعلم واضمر في لفظه: { ليطمئن قلبي } ضرورات السؤال وحقائقها إضمار بإضمار، فأما الجواب عن الاستفهام الأول في جواب المفهوم الأول منه طلب الأحياء، ومعنى الاستفهام أي: ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت قال: { بلى } وكان إيماني حقيقيا، ولكن كان مقصودي من السؤال عن إحياء الموتى الإيمان والإيقان، فإنه حاصل لي ولا إحياء الموتى، فإني فارغ من الموتى وإحيائهم ولي اضطراب قلبي بمثل هذه الأشياء حتى تطمئن، وإنك تعلم ما نريد.
والجواب عن مفهوم الثاني بالاستفهام، وهو قوله: { أولم تؤمن } بميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة، فقال: أؤمن بهذا ولكن لا يسكن اضطراب قلبي في الطلب وقلقه في الشوق أرني ليطمئن قلبي، فإن سبب اضطراب القلب عين الإيمان، وكلما ازداد يقينه بالرؤية ازداد شوقه وقلقه.
والجواب الثالث { بلى }: اعلم أنك أبهمت الجواب عن سؤال الرؤية وأظهرت التشكك عن معنى الرؤية كما أبهمت السؤال عن الرؤية وأظهرت التشكك عن معنى الرؤية كما أبهمت السؤال عن الرؤية وأظهرت التشكك في معنى الإحياء، وقلت: { أولم تؤمن } بقدرتي على الإحياء، ولكن ما سألتك عن الإحياء مسألتك عن كيفية الإحياء أن ترني كيف { تحيي الموتى } ففي ذلك تحصيل مقصودي، وهذا كما أن العاشق معشوقا احتياطا وهو يريد أن يرى مشاهدة معشوقه، ويحتشم منه أن يقول له: { أرني } وجهك لأنظر إليك؛ لأنه يعلم أن الدلال قرين الجمال، وأن الحسرة والحسن توءمان، وفي مذهب الملاح الطلب والسبيل سر، وغلبات الشوق مزعجة، وطلبات العشق تخرجه حتى يضطرب إلى السؤال، فيتصنع في طلب المقصود من صاحب الكمال، فيقول: { رب أرني كيف } يختط الثياب، وكل صانع فاخر في صنعه يريد أن يرى جودة صنعه صاحب بصيرة وتمييز، ويحب أن يظهر كماله في ذلك فلا يبخل أن يريه كيفية خياطة الثوب ولا يستنكف عن هذا المعنى ليريه بأن يحضره عنده بلا حجاب، وهو يخيط الثوب ويقول: انظرني كيف أخيطه، فالعاشق يصل بعله الصنع إلى الصانع، ويخطى منه بلا مانع ولا دافع ويطمئن قلبه بذلك؛ فالخليل لما اعتذر عن الخليل من استعمال الاضطرار حاله في سؤاله وتضرع بين يدي مولاه، وهو من يجيب المضطر إذا دعاه وحقق رجاه: { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا } [البقرة: 260].
والإشارة فيها أنك محجوب بك عني فحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب، ولحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع، فمهما تموت عن صفاتك تجئ بصفاتي، وإذا فنيت عن ذاتك أبقيت ببقاء ذاتي: { فخذ أربعة من الطير } وهي الصفات الأربعة التي تولدت من العناصر الأربعة التي تخمرت طينة الإنسان منها، وهي التراب والماء والنار والهوى، فتولدت من أزواج كل عنصر مع قرينة صفتان منها، وهي التراب وقرينه وهو الماء تولد الحرص والبخل، ومن النار وقرينه، وهو الهواء تولد الغضب والشهوة، وهو قرينان يوجدان معا، ولكن واحد من هذه الصفة زوج خلق منها ليسكن إليها كحواء وآدم.
وتتولد منها صفات أخرى فالحرص زوجة الحسد، والبخل زوجة الحقد، والغضب زوجة الكبر، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات، فيتعلق بها كل صفة ولها منها متولدات يطول شرحها، فهي الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم التي لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم يعني: من الخلق، فمن كان الغالب عليه صفة منها، فيدخل النار بذلك الباب فافهم جدا.
فأمر الله تعالى خليله عليه السلام بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة: طاووس البخل، فلو لم يزين المال في نظر البخيل كما يزين الطاووس بألوانه ما بخل به، وغراب الحرص، وهو من حرصه يكثر في الطلب، وديك الشهوة وهو بها معروف، ونسر الغضب ونسبته إليه لتصريفه في الطيران فوق الطيور وهذه صفة الغضب، فلما ذبح الخليل عليه السلام بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار، فلما ألقي فيها بالمنجنيق قهرا ووقرا صارت عليه
بردا وسلما
[إبراهيم: 69]، تفهم إن شاء الله تعالى وحده.
والإشارة في تقطيعهن بالمبالغة ونتف ريشها، وتفريق أجزائها، وتخليط ريشها ودمائها ولحومها بعضها ببعض، إشارة إلى: محو آثار الصفات الأربعة المذكورة، وهدم قواعدها على يد إبراهيم الروح بأمر الشرع ونائب الحق وهو الشيخ، والأمر بتقسيم أجزائها وجعلها { على كل جبل منهن جزءا } [البقرة: 260]، فالجبال الأربعة هي النفوس التي جبل الإنسان عليها:
أولها: النفس النامية وتسمى النفس النباتية.
وثانيها: النفس الأمارة وتسمى الروح الحيواني.
وثالثها: قوة الشيطنة وتسمى الروح الطبيعي.
ورابعها: قوة الملكية وهو الروح الإنساني.
وطيور الصفات لما ذبحت وقطعت وخلطت أجزاء بعضها ببعض، ووضعت على كل جبل روح ونفس منهما جزءا بأمر الشرع، يكون بمثابة أشجار وزرع يجعل عليها اقتراب المخلوط بالزبل والقاذورات، باستصواب دهقان ذي بصارة في الدهقنة بمقدار معلوم ووقت معلوم، ثم يسقيها بالماء ليتقوى الزرع بقوة التراب والزبل، وتتصرف النفس النامية النباتية في التراب المخلوط الميتة فيحيها بإذن الله تعالى بقوله:
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتهآ
[الروم: 50].
فكذلك الصفات الأربع وهي: الحرص والبخل والشهوة والغضب، فمهما كانت كل واحدة منها على حالها غالبة على الجواهر الروحاني تكدر صفاؤه وتمنعه من الرجوع إلى مقامه الأصلي ووطنه الحقيقي، فإذا كسرت صورتها وذهبت قوتها، وأميتت شعلتها، ومحيت آثار طباعها بأمر الشرع، وخلطت أجزاؤها المتفرقة بعضها ببعض، ثم قسمت بأربعة أجزاء وجعل كل جزء منها على جبل قوة أو نفس أو روح، فيتقوى كل واحد من هؤلاء بتقويتها، ويتربى بتربيتها، فيتصرف فيها الروح الإنساني بقوة الملك فيحييها، ويبدل تلك الظلمات التي هي من خصائص تلك الصفات المذمومة بنور هو من خصائص الروح الإنساني والملكي، كقوله:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمت
[الأنعام: 122]، فتكون تلك الصفة ميتة عن أوصافها، حية بأخلاق الروحانيات، هذا لخواص الخلق الذين غلبت على أحوالهم الروح، وأما خواص الخواص، ولمن أدركته العناية
والله غالب على أمره
[يوسف: 21]، كما كان حال الخليل عليه السلام، فإن الله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى لها بصفة المحيي، فيحيي هذه الصفات الغالبية عن أوصافها بنور صفة المحيية، فيكون العبد في تلك الحالة حيا بحياته محييا بصفاته، وهذا المقام مخصوص بأهل الجنة والمحبة كما قال جل جلاله:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا، فبي يسمع وبي يبصر، وبي ينطق وبي يبطش "
، ففي هذا المقام تجلى الحق تبارك وتعالى لإبراهيم عليه السلام؛ لينعم عليه بما ولاه، ويكرمه بإعطاء سؤاله، فيتجلى له بصفة المحيي، فكان في تلك الحالة حيا بحياته محييا بصفاته، وكان ينطق بالحق، فقال له الحق:
" قلت لي: { رب أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260]، فأريك كيف أحيي الموتى، قل لهن: تعالين { يأتينك سعيا } [البقرة: 260]؛ لأنك عنك فان وبي باق فبي تقول: تعالين لا بك ".
ومثال هذا كما أن أميا يقول لكاتب: أرني كيف تكتب؟ فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي، ويأخذ يده ويمد بقوة يده بيد الأمي على الصحيفة، فيقول: أنا الكاتب، رأيت كتابي، هكذا أكتب، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتبا إذا رأى الكتابة تكتب من يده، فيقول: أنا الكاتب، وفي هذا المقام قال من قال:
عجبت منك ومني
يا منية المتمني
أدنيتني منك حتى
ظننت أنك أني
فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب، ثم يستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى إن تجلى لخليله عليه السلام بصفة واحدة وهي المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة المعراج، كما قال تعالى:
لنريه من آياتنآ
[الإسراء: 1]؛ أي: لنريه جميع آياتنا.
واعلم أن آيات الله تنقسم إلى قسمين:
قسم منها: هي صفاته القديمة القائمة بذاته.
وقسم هي: آثار صفاته وهي المخلوقات : كالشمس والقمر وقال تعالى:
وجعلنا اليل والنهار آيتين
[الإسراء: 12]، وأمثالها كثيرة وهي آثار صفات القدرة، كما قال تعالى:
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتهآ
[الروم: 50]، فالرحمة صفة الحق، والماء الذي يحيي الأرض آثار الرحمة، والآيات التي هي صفاته مثل آيات القرآن، فالله تعالى
أسرى بعبده ليلا
[الإسراء: 1]، وهي ليلة المعراج؛ ليريه جميع صفاته، كما سأل الحبيب بقوله:
" أرنا الأشياء كما هي "
، فإنه أيضا طلب الرؤية؛ ولكن بقدر علو همته، ورفعة مرتبة، وكمال معرفته، فعلى قدر علو همته قال: " أرنا الأشياء كما هي لي " ، والأمي كان يرى أن سر الناس من كل وحده برفعة مرتبته، وقال: الأشياء راعى فيها معنيين:
حفظ الأدب وإخفاء مقصوده غاية الإخفاء: في قوله: " الأشياء " ، ما قاله الخليل بالنسبة إلى قول الكليم كان تعريضا، وبالنسبة إلى قول الحبيب كان تصريحا، والمعنى الثاني: طلب كمال الرؤية بجميع الصفات؛ لأنه لا يبقى شيء إلا في الأشياء داخلها، فافهم.
ولكمال المعرفة طلب رؤية الماهية، فقال: " كما هي " ، ولعمري هذا هو الملك الحقيقي الذي لا ينبغي لأحد من قبله ولا من بعده، وتجلى له الرب تبارك وتعالى تلك الليلة بجميع صفاته، كما قال تعالى:
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 16-18]، وإنما خص الآيات بالكبرى؛ ليفهم أن الآيات الصغرى هي: الآثار، والآيات الكبرى هي: الصفات العليا، ثم قال تعالى له:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19]، هذا إخبار عن إفناء ذاته وصفاته بالكلية عند تجلي الإلوهية، فبعث وحده بإفناءه بالماهية عن العبدية وإبقاءه بالوحدة؛ ليعلم ماهية
أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19]، فما بقي غير الحق، وما رأى الحق إلا الحق،
واستغفر لذنبك
[محمد: 19]؛ أي: لذنب حسبانك أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي لست بكاتب، وهذه إشارات وبشارات عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، ولعلي ما سبقت بهذا التقرير، والله أعلم.
ثم قال لخليله حتى يعلم أنه ليس بكاتب { واعلم أن الله عزيز حكيم } [البقرة: 260]؛ يعني : بعد أن أحييتك بحياتي وأكرمتك بصفاتي، فأحييت الطيور وعلمت كيفية إحيائي الموتى على قدر استعدادك واستحقاقك، فاعلم أني أعز من أن يعرف كنه صفة من صفاتي أو كيفيتها أو ماهيتها،
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255]، وأنا حيكم لا يحيط بعلمي إلا حكمتي، ولا يحيط بحكمتي إلا علمي، لأنهما موصوفان بإحاطة القدم.
[2.261-265]
ثم أخبر عن الإنفاق بالوفاق وماله في هذا التسوق من النفاق بقوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم } [البقرة: 261]، الإشارة فيها: إن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله فالخلف لهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فيكون الخلف عنهم ولهم الحق سبحانه، ومن يعطي تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوة أو فصيلة، حتى تكون أعظم من الجبل، فكيف بمن يعطي قلبه إلى الله تعالى وهو يربيه بين أصبعي جماله؟ فلا جرم يصير بتربيته أعظم من العرش بما فيه؛ بل يكون العرش بما فيه في عرصته كحلقة في فلات، فافهم جدا.
فإن قوما بذلوا المال في سبيل الله، وقوما بذلوا الحال في سبيل الله بإيثار صفاء الأوقات، وفتوحات الخلوات، وطلب الحق وأرباب الصدق؛ للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
[الحشر: 9]، فبذلوا ليحصلوا، وحصلوا لينفصلوا له، وانفصلوا إليه ليتصلوا، واتصلوا ليصلوا، { والله يضاعف لمن يشآء } [البقرة: 261] فضله وكرمه { والله واسع } [البقرة: 261] بالفضل والكرم { عليم } ، يا أهل فضله.
ثم أخبر عن أخلاق أهل الإنفاق بقوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى } [البقرة: 262]، والإشارة فيها: أن الإنفاق في سبيل الله هو: الذي يكون في طلب الله لا في طلب غير الله، مثل الثناء والشكر في الدنيا، والجزاء في الآخرة من الجنة ونعيمها، كقوله تعالى:
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا
[الإنسان: 9]، ثناء وشكر في الدنيا.
وقال الله تعالى:
إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا
[المزمل: 19]؛ أي: اتخذه في طلب الله، ويدل عليه قوله تعالى: { ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى } [البقرة: 262]؛ فالمن: أن يمن به على الحق، ويظن أن المال كان له وإنفاقه كان منه، ولا يعلم أن المال كان مال الله وهو بنفسه عبد الله، وإنما كان إنفاقه بتوفيق الله، ففي هذا كله تعالى عليه المنة لا له منة على الله كقوله تعالى:
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان
[الحجرات: 17]، فإذا من العبد في الإنفاق وكل الأعمال أن لا يعمل إلا بنية الطمع في المكافآت، أو خوف العذاب، كأنه يقول: إني عملت لك هذا العمل ووجب عليك حق فأد حقي، وهو غافل عن حقيقة الحال أنه لا يعمل لله شيئا لا حسنة ولا سيئة، وإنما يعمل لنفسه، لقوله تعالى:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
[الإسراء: 7]، ولا يعمل العمل من قدرة له أو بمشيئة منه، فإنه قال تعالى:
والله خلقكم وما تعملون
[الصافات: 96]، وقال تعالى:
وما تشآءون إلا أن يشآء الله
[التكوير: 29]، فإنه ما للعبد حق على الرب حقيقة حتى يطالب في طمع الثواب وخوف العذاب.
وقوله تعالى: { ولا أذى } [البقرة: 262]؛ فالأذى أن يطلب من الله عز وجل غير الله، رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال: " يا أحمد، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد، فإنه يطلبني " ، ثم قال تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 262]؛ يعني: إذا أنفقوا في طلب، { ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى } [البقرة: 262] طمعا في غير الله، فلهم أجر الذين عملوا عند ربهم؛ أي: ينزلهم في مقام العندية
عند مليك مقتدر
[القمر: 55]؛ أي: لا ينزلهم عند الجنة ولا عند النار إلا عند الله، فافهم جدا.
{ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى } [البقرة: 263]؛ يعني: قول من عارف يعرف قدر ربه بالمعرفة في طلب المعروف { ومغفرة } [البقرة: 263] له وإن لم يكن له مال يتصدق به { خير } [البقرة: 263] له عند ربه في نيل المرام { من صدقة يتبعهآ } [البقرة: 263]، من الجهل { أذى } [البقرة: 263] طلب غير الحق { والله غني } [البقرة: 263]، مع أن الله غني مستغن عنكم لكماله، وأنتم مفتقرون إليه لنقصانكم بالكمال، { حليم } [البقرة: 263]، يحلم على العبد بحلمه أن يطلبه منه، ولولا حلمه فما للتراب ورب الأرباب، ويحلم عن العبد ولا يعجل في عقوبة من يختار عند الطلب غيره عليه، ويطلب منه غيره.
ثم أخبر عن إبطال الصدقة بالمنة والأذى وفساد النية بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى } [البقرة: 264]، إشارة في تحقيق الآية أن المعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الإعراض، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل، ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال
فماذا بعد الحق إلا الضلال
[يونس: 32]، وقد نهيت عن إبطال الأعمال بالرياء للإعراض عن طلب الحق والإقبال على الباطل بقوله تعالى: { لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى } [البقرة: 264]؛ أي: إذا مننت بها على الفقير فقد أعرضت عن طلب الحق؛ لأن قصدك في الصدقة، ولو كان طلب الحق لما مننت على الفقير؛ بل كنت رهين منة الفقير حيث كان سبب وصولك في الصدقة إلى الحق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" لولا الفقراء لهلك الأغنياء "
؛ يعني: لم يجدوا وسيلة إلى الحق.
وقد فسر بعضهم قوله:
" اليد العليا خير من اليد السفلى "
، بأن اليد العليا هي: يد الفقير، والسفلى يد الغني؛ لأن الفقير يأخذ منه الدنيا وهي السفلى، ويعطيه الآخرة وهي العليا، فاليد العليا تكون يد الفقير، واليد السفلى يد الغني التي تعطي السفلى وتأخذ العليا، والأذى هو الإقبال على الباطل؛ لأننا فسرنا في آية أخرى أن الأذى هو طلب غير الحق عن الحق، فعلى هذا المعنى طلب غير الله هو الإقبال على الباطل؛ لأن كل شيء غير الحق فهو باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" أن أصدق كلمة قالها العرب: كل شيء ما خلا الله باطل "
، فمن عمل عملا لله ثم يشوبه بغرض في الدارين، فقط أبطل عمله بأن يكون لله تعالى، فافهم جدا.
كما ضرب الله به مثلا قال: { كالذي ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب } [البقرة: 264]؛ يعني: الذي يبطل صدقته بالمن والأذى؛ هو كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ومن ينفق المال رئاء الناس فليس له إيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن اليسير من الرياء شرك، والمشرك لا يكون مؤمنا؛ لأنه لو كان مؤمنا بالله كان ينفق لله، ولو كان مؤمنا للآخرة ينفق للآخرة، فلما أنفق لأجل الدنيا وطلب الرفعة فيها وهي فانية عنها، إنه لو كان مؤمنا لم يخير الفاني على الباقي، فمثل عمل المرء { كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل } [البقرة: 264]، الطرد على تراب عمله فأبطله كما يبطل الوابل على الصفوان { فتركه صلدا } [البقرة: 264]؛ أي: بلا عمل، فكما أن المرء لا يؤمن بالله واليوم الآخر حقيقة حين يعمل عمل الآخرة ويشوبه بغرض دنيوي، فكذلك من عمل عملا لله تعالى ثم يشوبه بغرض أخروي، فإنه يؤمن بالآخرة، ولكن في الحقيقة لا يؤمن بالله، فبوابل درأنا أعني الشركاء عن الشرك يبطل ثواب عمله على صفوان حسبانه، { فتركه صلدا } [البقرة: 264]، مفلسا خائبا خاسرا، { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } [البقرة: 264]، بالشرك في طلب غير الحق { والله لا يهدي } [البقرة: 264]، إلى حضرة جلاله { القوم الكافرين } [البقرة: 264]، قوما كفروا بنعمة شهود جماله فحرموا من دولة وصاله، وأقربوا بعذاب الفراق ووباله.
ثم أخبر عن طلب المتحصلين في الإنفاق والعمل الخالص من النفاق بقوله تعالى: { ومثل الذين ينفقون أمولهم ابتغآء مرضات الله } [البقرة: 265]، فحسب لا ينبغي معها من الله ما هو سواه من أمر الدنيا والآخرة، { وتثبيتا من أنفسهم } [البقرة: 265]، وتخليصا لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من حظوظ أنفسهم، { كمثل جنة بربوة أصابها وابل } [البقرة: 265]، الوارد فظل إلهامات { فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل } [البقرة: 265]؛ يعني: ثمرات الخلاصة في طلب الحق ومرضاته تكون ضعفين بالنسبة إلى من ينفق ويعمل الخيرات والطاعات؛ لأجل الثواب الأخروي، ورفعة الدرجات في الجنان، فإن حظه يكون من نعيم الجنة، فحسب المخلص في طلب الحق يكون له ضعف من قربة الحق ودولة الوصال، وشهود ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ضعف من نعيم الجنة أوفى وأوفر من ضعف طلب الجنة ونعيمها بأضعاف مضاعفة بالتبعية، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيبا من الدنيا بالتبعية، ولا يعطي لأهل الآخرة ما لأهل الله من القربة والوصلة بالتبعية؛ فلهذا ثمرات أهل الله تكون ضعفين، ولأهل الآخرة ضعفا واحدا، وأما معنى آخر { فآتت أكلها ضعفين } [البقرة: 265]، في الدنيا ضعف من ثمرات الكشوف والمشاهدات وأنواع الكرامات، أثمرتها جنة قلب المخلصين من { وابل } [البقرة: 265]، الواردات والنظريات الإلهية، أو { فطل } [البقرة: 265]، الجذبات والإلهامات الربانية، { والله بما تعملون بصير } [البقرة: 265]، كيف تعلمون؟ ولماذا تعملون لابتغاء المرضاة أو لاستيفاء الحياة؟
[2.266-267]
ثم أخبر عن حال النفاق في الإنفاق بقوله تعالى: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [البقرة: 266]، إشارة في تحقيق الآية، إن الله تعالى ضرب مثلا لروح الإنسان وقلبه بجنة { له فيها من كل الثمرات } [البقرة: 266]، إذ خلق في أحسن تقويم مستعدا لجميع الكرامات والكمالات، مزينا بجميع الفضائل وحسن الشمائل، مكرما بعلم جميع الأسماء، منورا بأنوار العقل والحواس، متوحدا بحمل الأمانة، متفردا برتبة الخلافة، جنة هي منظور نظر العناية، { تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر } [البقرة: 266]، أنهار الهداية وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية، { وله ذرية ضعفآء } [البقرة: 266]، من متولدات البشرية، وهم في غاية الاحتياج للتربية بأغذية ثمراتها، { فأصابهآ إعصار } [البقرة: 266]، من أعمال البر، { فيه نار } [البقرة: 266]، من الرياء والنفاق { فاحترقت } [البقرة: 266]، الروحانية بنار صفات البشرية، وأبطلت جميع استعدادها، وقابلته الكمالات فيها بتبديل أخلاق الروحاني النفساني وأوصاف الملكي الشيطاني والحيواني، فأهبط من أعلى عليين إلى أسفل سافلين الطبع، { كذلك يبين الله لكم الأيت } [البقرة: 266]، ألطافه وإحسانه معكم في أصل الخلقة من حسن استعداد الفطرة، { لعلكم تتفكرون } [البقرة: 266]، في الآية ونعمائه معكم لا تبطلوا حسن حالكم بقبيح أفعالكم، ولا تفسدوا صالح خصالكم بفساد أعمالكم، وتوبوا إلى الله بصدق نياتكم، وأخلصوا لله معاملاتكم في طاعتكم، ولا تضيعوا أعمالكم في طلب آمالكم، واستعدوا للموت قبل حلول آجالكم.
ثم أخبر عن إنفاق المال من كسب الحلال بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } [البقرة: 267]، الإشارة فيها: أن الله تعالى لما أمر للتصدق بإنفاق الطيب من ماله، راعى صلاحه أكثر مما راعى صلاح الفقير؛ لأن صلاح الفقير مقصور على ما يقول: راجع إلى نفسه، وإن صلاح المتصدق راجع إلى سبعة أمور:
أحدها: لو فسرنا الطيب بالحلال فيقبل الله منه، وإن لم يكن طيبا فلا يقبل الله منه، كقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب "
، ولو فسرناه بالجودة.
وثانيها: أن يكون في إنفاق الطيب جانب الحق تعالى مرعيا بالتعظيم، وقد أمر بالتعظيم لأمر الله، فيثاب على ذلك أيضا.
وثالثها: فيه رعاية جانب الفقير بالشفقة عليه، وقد أمر بالشفقة عليه، وقد أمر بالشفقة على خلق الله، فيثاب على ذلك أيضا.
ورابعها: أن يكون به مؤثرا على الفقير، فيثاب أيضا.
وخامسها: يستحق بذلك البر من الله تعالى، كقوله تعالى:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران: 92]، والبر مزيد على الثواب؛ لأن الثواب يحصل بإنفاق أدنى شيء وأدون شيء، والبر لا يحصل إلا بإنفاق الأحب، والطيب هو أحب من الرديء، فيحصل له ثواب الإنفاق مع مزيد البر بالإنفاق الأحب.
وسادسها: أنه موجب لزيادة إيمان مع إيمانه؛ لأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته، فإن للزارع إيمانا بأن له من زراعته البذر ثمرة أوفى من البذر، ولكنه مما يجد موجبا لزيادة هذا الإيمان بحصول الثمرة، فيبالغ في الزراعة بجودة البذر لتحققه أن جودة البذر مؤثرة موجبة بجودة الثمرة وكثرتها، وكذلك المتصدق فكلما ازداد إيمانه بالله والبعث والثواب والعقاب يزيد في الصدقة وجودتها لتحققه
إن الله لا يظلم مثقال ذرة
[النساء: 40]،
ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40].
وسابعها: إنه لما يعطي الله أحب ما عنده فإن الله يجازيه بأحب ما عنده، كما قال:
هل جزآء الإحسان إلا الإحسان
[الرحمن: 60]، وأما تقديم كسب العبد على ذكر ما أحبه من الأرض واحتضنه بالطيب ففيه إشارة إلى:
" إن الطيب ما يأكل الرجال من كسب يده "
كما قال صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [البقرة: 267]، إشارة إلى معنى آخر في غاية اللطائف؛ يعني: أنفقوا من طيبات نياتكم، من تزكية النفوس وتصفية القلوب عن خيانة صفات النفس الخبيثة وتصرفات الشيطان الخبيث، { وممآ أخرجنا لكم من الأرض } [البقرة: 267]، طينتكم في تجلية سرائركم بمكارم الأخلاق وأنوار الوفاق؛ لتكون الشفقة طيبة من خباثة الشبهات في نفسها، طيبا إنطاقها من خباثة الأغراض والعلل الدنيوية والأخروية، طيبا منفقها من خيانة الالتفات، والنظر في الإنفاق إلى غير الله تعالى، { ولا تيمموا الخبيث } [البقرة: 267]؛ يعني: النفقة الخبيثة في نفسها، بخباثة الشبهات بالنية الخبيثة، بخباثة الغلات من النفس الخبيثة، بخباثة الصفات الذميمة عن المنفق الخبيث؛ وهو: القلب الملوث بخباثة الالتفات، والنظر في الإنفاق إلى غير الله { منه تنفقون } [البقرة: 267]؛ يعني: لا تنفقوا إلا من الوجوه الطيبات كما قررنا، حتى يكون مقبولا
" فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا "
، وإن الله تعالى بحسب كل طيب قبولا طيبا، فإذا كانت الصدقة طيبة في نفسها لله قبول طيب عن الوسائط، فيأخذها بيده فيزيدها قبل أن تقع في يد الفقير، وإذا كانت النية في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها، وإذا كان القلب المنفق طيبا عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأخيار بين أصبعين من أصابع الرحمن، فها هنا يتحقق لذوي البصائر الطيبة: " إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب " ، ومن هنا تبين حقيقة
الطيبات للطيبين
[النور: 26].
ثم قال: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } [البقرة: 267]؛ يعني: وأنتم لستم بآخذي هذه الخبائث في أصل الفطرة، ولا في عهد الخلقة من النية الخبيثة؛ لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة، والروح من أطيب الأطايب؛ لأنها أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين لكرامة شريف إضافة
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، فمن أطيب ممن منشأه نفخة الحق والجسد من التراب الطيب قد خلق، كقوله تعالى:
فتيمموا صعيدا طيبا
[النساء: 43]، ثم أحيا لكم بالإيمان حياة طيبة؛ لقوله تعالى:
فلنحيينه حياة طيبة
[النحل: 97]، ثم رزقكم من الطيبات.
وقال تعالى:
كلوا من طيبات ما رزقناكم
[طه: 81]، فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن، { ولستم بآخذيه } [البقرة: 267] بالطبع { إلا أن تغمضوا فيه } [البقرة: 267] بالتكلف والقهر في قراءات من قرأ بضم التاء وفتح الميم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على فطرة فأبواه يهودانه ويلوناه بخباثة الكفر قهرا وجبرا "
، فلم تكن الخيانة ذاتية للإنسان إلا طارئة عليه عارية لديه، أنزل الله تعالى كلمة طيبة وعفي لا إله إلا الله، وأمركم بالمواظبة عليها بقوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم
[الأحزاب: 70-71]؛ يعني: قولوا هذه الكلمة، يبالي أن يتقي بتنقيتها خباثة قد أخذتموها من التكليف عن قومكم، ويثبت بإثباتها طيب التوحيد والمعرفة، فتطيب أعمالكم وتغفر لكم ذنوبكم بتطيب أخلاقكم، فلما سلمتم من خباثة أعمالكم بتطيب أخلاقكم نوديتم من سرادقات الجلال عن حرثه جنات عالم الجمال،
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين
[الزمر: 73].
ثم قال تعالى: { واعلموا أن الله غني حميد } [البقرة: 267]؛ يعني: من كمال غناه يسد فقركم جميعا بشظية من كمال غناه ويفنيكم كلكم، وما ينقص من كمال غناه مثقال ذرة، وظاهر قوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } [البقرة: 267]، يقتضي أنه يطلب من غناكم، وباطنه يبقى عن مطالبة إياكم، يفنيكم بلا علة وغرض يرجع إليه، بأن تشكروا له على نعمه، أو تحمدوه على فضله وكرمه، فإنه في ذاته حميد بصفاته مجيد.
[2.268-270]
ثم أخبر عن عدة الشيطان وعدة الرحمن بقوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر } [البقرة: 268]، والإشارة فيها: أن الشيطان حين يعدكم بالفقر ظاهر، فهو يأمركم بالفحشاء حقيقة، والفحشاء: اسم جامع لكل سوء؛ لأن عدته بالفقر تضمن معاني الفحشاء، وهي البخل والحرص، واليأس من الخلق، والشك في وعد الحق للخلق بالرزق، والخلف للمتفق ومضاعفة الحسنات، وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه، وتكذيب قول الحق، ونسيان فضله وكرمه، وكفران النعمة، والإعراض عن الحق، والإقبال على الخلق، وانقطاع الرجاء من الله وتعلق القلب بغيره، ومتابعة الشهوات، وإيثار الحظوظ وترك العفة والقناعة، والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية؛ ولهذا القوم بالتخصيص الانحطاط من كل مقام علي إلى كل منزل دنىء، مثل الخروج عن حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوتها، والنزول عن التسليم والتفويض إلى التدبير والاختيار، ومن العزائم إلى الرخص والتأويلات، والركون إلى غير الله تعالى بعد السكون معه، والرجوع إلى ما تركه الله بعد بذله في الله، فهذه كلها وأضعافها مما تضمنت عدة الشيطان بالفقر، فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات.
{ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا } [البقرة: 268]، ومن سد على نفسه باب وسوسة بالعدة، يفتح على نفسه باب عدة الحق بالمغفرة، ويفيض الله تعالى من بحار فضله سجال ثوابه، ويحفظه من هذه الآفات ويخطه على عسكها من أنواع الكرامات ورفعة الدرجات، { والله واسع } [البقرة: 268]، فضله وكرمه وعطاؤه وملكه وغناؤه ورحمته ومغفرته، { عليم } [البقرة: 268]، بمن سد باب وسوسة الشيطان على نفسه، وفتح باب الفضل والمغفرة والرضوان من ربه، فينعم عليه بأنواع مما لديه عاجلا وآجلا، فمن ذلك يفتح الله تبارك وتعالى على قلبه بابا من خزائن حكمته عاجلا، وهي مختصة بمشيئة إلا مشيئة الخلق كما ظن الفلاسفة والأطباء، فإنه تبارك وتعالى: { يؤتي الحكمة من يشآء } [البقرة: 269].
فظن قوم أن الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار وهي نتائج الأفكار، وما فرقوا بين المعقولات والحكميات والإلهيات، فالمعقولات مشتركة بين أهل الدين وأهل الكفر، وبين المقبول والمردود، فالمعقول ما يحكم عليه ببرهان عقلي، وهذا ميسر لكل عاقل بالدراية وبالقوة، فمن صفي عقله عن شوائب الوهم والخيار بدرك عقله المعقول بالبرهان ورأيه عقلية، ومن لم يصف العقل عن هذه الآفات، فهو يدرك المعقول قراءة بتفهيم أستاذ مرشد، فإن الحكمة ليست من هذا القبيل، فإن العقول عن دركها بذواتها محتسبة، والبراهين العقلية والنقلية عنها مخنسة، فإنها مواهب ترد على قلوب الأنبياء والأولياء عند تجلي صفات الجمال والجلال، وفناء أوصاف الخلقية لشواهد صفات الخالقية، فيكاشف الأسرار بحقائق معان أورثتها تلك الأنوار، ستر البشر وإضمار بإضمار، فإمارة صحتها معادلتها لحقائق القرآن، بل هي عين حقائق القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أوتيت القرآن وما يعدله "
، أشار بهذه إلى الحكمة، ولهذا قال سهل رضي الله عنه في تأويل الحكمة: هي السنة، فحقيقة الحكمة نور من أنوار صفات الحق، يؤيد الله به عقل من يشاء من عباده، فيكون له كما قال:
نور على نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35]، فمن أكرم بهذا النور فقد أوتي كل حبور وسرور، وأوتي مع الحكمة خيرا كثيرا، كما قال تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } [البقرة: 269]؛ يعني: لذلك النور فوائد وخيرات كثيرة، فمن جملتها الحكمة، فمن يؤت الحكمة فقد أعطي ذلك النور { فقد أوتي خيرا كثيرا } [البقرة: 269]، فافهم جدا.
واغتنم واجتهد أن تتعظ به وتكون من ذويه؛ لأنه تعالى: { وما يذكر إلا أولوا الألباب } [البقرة: 269]؛ وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول الإنسانية، بل سعوا في طلب لبها بمتابعة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فأخرجوهم من ظلمات قشور العقول الإنسانية إلى نور لب المواهب الربانية، فتحقق لهم أن
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40]، فانتبه أيها مغرور المفتون بدار الغرور،
ولا يغرنكم بالله الغرور
[لقمان: 33].
ثم أخبر عن توفية الأجور للمتفق في الفروض والنذور بقوله تعالى: { ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار } [البقرة: 270]، الإشارة فيها: أن تقرب العبد إلى الله إنما يكون بفرض أوجبه عليه أو بنقل أوجبه العبد على نفسه، فعلى كلا التقديرين إن الله عليم بهما، فيجازي العبد بهما، كما قال تعالى في حديث رباني:
" لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا، فبي يسمع وبي يبصر، وبي ينطق وبي يبطش "
، ولكن الشأن في إخلاص العمل لله تعالى من غير شوبة بعلة دنيوية أو أخروية، فإنها شرك،
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13].
فقوله تعالى: { ومآ أنفقتم من نفقة } [البقرة: 270]؛ أي: مفروضة، { أو نذرتم من نذر } [البقرة: 270]؛ أي: من نقل أوجبتموه على أنفسكم، فإن الله يعلم إنكم تقربتم به إلى الله خالصا مخلصا بلا شوبة بشرك أم لا، فإن كان غير مشوب بشرك فيجازيكم بجزاء المخلصين، وإن كان مشوبا بشرك فأنتم ظلمتم بوضع طاعة الله في غير موضعها، { فإن الله يعلمه } [البقرة: 270]؛ يعني: الظلم منكم، { وما للظالمين } [البقرة: 270]، من أشار بأن يتقرب إليهم بأنواع ألطافه؛ لأنهم ما تقربوا إليه بطاعتهم، ومن سنة ما قال:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ".
[2.271-273]
ثم شرح أحوال العباد في نياتهم بالصدقات بقوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم } [البقرة: 271]، وإخفاء الصدقة أشار به إلى تخليصها من شوب الحظوظ، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث:
" سبعة يظلهم الله في ظله "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" رجل تصدق بيمينه فأخفى حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه إلى إخفاء الصدقة عن شماله "
؛ يعني: يخفيها عن حظوظ نفسه فتكون خالصة لله تعالى، فصاحبها يكون في ظل الله، وكما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة "
؛ يعني: إن كانت صدقته الله تعالى فيكون في ظل الله، وإن كانت صدقته للجنة فيكون في ظل الجنة، وإن كانت صدقته للهوى فيكون في ظل الهاوية، فافهم جدا.
فلما علموا إخفاء الصدقات فأدوها أن تكون مشوبة بحظ الثواب، فقال تعالى: { إن تبدوا الصدقات } [البقرة: 271]، نظروها لطمع ثواب الجنة { فنعما هي } [البقرة: 271]، فإنها مرتبة الأبرار،
إن الأبرار لفي نعيم
[الانفطار: 13] { وإن تخفوها } [البقرة: 271]، عن كل حظ ونصيب، { وتؤتوها الفقرآء } [البقرة: 271]؛ أي: تعطوها لوجه الله تعالى إلى الفقراء لا حظ النفس، { فهو خير لكم } [البقرة: 271]؛ يعني: كما زدتم على الصدقة بالإخفاء عن الحظوظ، وهي أن يكون في ظل الله وهو مقام المقربين، لقوله تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26] الحسنى؛ أي: جزاء أهل الحسنات، فأما من أحسن الحسنة فهو الذي يكون مقامه مقام الإحسان، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ يعني: نظرك في الطاعة لا يكون إلا الى الله، فيكون جزاؤه بعد الجنة الزيادة، وهي لقاء الله عز وجل { والله بما تعملون } [البقرة: 271]، كل طائفة من الأبرار والمقربين، { خبير } [البقرة: 271]، فيجازيكم على قدر خلوص نياتكم، ف
" إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى "
من عمله.
ثم أخبر عن الهداية وأن ليس لأحد عليها ولاية، وأن الله فيها ولي الكفاية بقوله تعالى: { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء } [البقرة: 272]، الإشارة فيها: إن يا محمد لك المحمود واللواء المعقود، ولك الوسيلة، وعلى الأنبياء الفضيلة، ولك ليلة المعراج والقربة الواصلة، ولك يوم القيامة الشفاعة والرفعة، وأنت سيد الأولين والآخرين، وأنت أكرم على رب العالمين، ولكن { ليس عليك هداهم } [البقرة: 272]،
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص: 56]، { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } [البقرة: 272]، وهو عالم بخفيات سرائركم وجلبات ضمائركم من غير فطور وقصور، { وأنتم لا تظلمون } [البقرة: 272]، قطميرا ولا نقيرا.
ثم أخبر عن أهل الصدقات ودلنا على أفضل النفقات، بقوله تعالى: { للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله } [البقرة: 273]، الآيتين، والإشارة فيهما: أن الإنفاق على سادات اختاروا الفقر على الغنى؛ محبة لله عز وجل واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرفته، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول:
" لي حرفتان: الفقر والجهاد "
، وأولى وهم أحق بها، كما قال تعالى: { للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله } [البقرة: 273]؛ يعني: الفقير أحصره حب الله في طلبه، لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الرزق، بل أحصرهم الشوق والمحبة في سبيل الله فأخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق فلا لهم في الشرق مذهب ولا الغرب مضرب، ولا منه إلى غيره مهرب كيفما نظروا سرادقات التوحيد محدقة بهم، كما قيل:
كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها
عليه فما تزداد طولا ولا عرضا
{ لا يستطيعون ضربا في الأرض } [البقرة: 273]؛ لأنهم واقفون مع الله لله بالله، سقط عنهم السكون والحركات، فإنهم مجذبون عنهم بالجذبات، مضروب عليهم قباب الغيرات، لا إشراف للأجانب عليهم، ولا سبيل للأغيار إليهم، حجبهم العزة عن الجاهل بحجاب العفة، فيراهم الأغنياء بنظر الأغنياء، { يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف } [البقرة: 273]؛ لأنهم مستورون قباب الغيرة، محجوبون عن معرفة أهل الغيرة، كما قال تعالى:
" أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري يا محمد ".
{ تعرفهم بسيماهم } [البقرة: 273]؛ لأنك لست بك فلست غيري؛ لأنك إذا رأيت ولكن الله رأى، كما قال تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]، وإن سيماهم لا ترى بالبصر الإنساني بل ترى بالنور الرباني؛ لأن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن، وأحوال باطنهم أنهم أحصروا في سبيل الله، فأحصروا نفوسهم على طاعة الله عن معصية قلوبهم على معرفة الله عن نكرته، وأرواحهم على محبة الله عن غيره، وأسرارهم على رؤية الله عن شهود سواه، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن، { لا يسألون الناس إلحافا } [البقرة: 273]، لا بقليل ولا بكثير مع غاية احتياجهم؛ لأن إيتاء أنوار غناء قلوبهم انعكست على ظواهرهم، فتنورت بتعفف نفوسهم واضمحلت ظلمة فقرهم، وحاجتهم تحت أنوار غني قلوبهم، { وما تنفقوا من خير } [البقرة: 273]؛ يعني: من كل معاملة فيها خير من المال والجاه، وخدمة بالنفس وإعزاز وإكرام وإعظام وارد من القلب تعاملون به هؤلاء، والسادة حتى السلام عليهم استحقاقا وإجلالا وإذلالا، { فإن الله به } [البقرة: 273]، بجميع معاملاتكم معهم للتقرب إليهم، { عليم } [البقرة: 273]، فإن تقربتم إليه في الإنفاق عليهم بشبر يتقرب في مجازاتكم بذراع، وإن تقربتم بذراع يتقرب عليكم بباع، فلا نهاية لفضله ولا غاية لكرمه، ومن يسماهم في الظاهر تعرفهم به يا محمد إذا وجدوا مالا، فلا يبيعوا عزة الفقر به.
[2.274-277]
{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } [البقرة: 274]، فإذا نفذ المال لم يفتروا عن شهوده لحظة ليلا ونهارا، بل
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
[الأنعام: 52]، { فلهم أجرهم عند ربهم } [البقرة: 274]؛ يعني: في مقام العندية
عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، { ولا خوف عليهم } [البقرة: 274]، من عذاب القطيعة؛ لأنهم قد استمسكوا بالفقر والمحبة؛ وهي العروة الوثقى،
لا انفصام لها
[البقرة: 256]، { ولا هم يحزنون } [البقرة: 274]، عاجلا وآجلا:
فأما عاجلا: فلا يحزنون على ما يفوتهم من الدنيا، فإنهم تركوها بطيب قلوبهم في الله، وهو لهم خلف عن كل تلف من كان الله له، وأما آجلا: كما قال تعالى:
لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة
[الأنبياء: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور ".
ثم أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم: أكلة الربا، بعد ما ذكر قناعة أهل الآخرة وشكر المولى بقوله تعالى: { الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [البقرة: 275]، الإشارة فيهما: أن آكل الربا يحرص على الدنيا، مثله كمثل من به جوع الكلب فيأكل ولا يشبع، حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقدر عليه أن يقوم، { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [البقرة: 275]؛ يعني: إلا كما يقوم المصروع، وكلما يقوم يصرعه نقل بطنه، وهذا كمثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للحريص، لقوله:
" إن هذا المال خضرة حلوة إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا، أو يلم إلا آكلة الخضر تأكل حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت إن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع "
، حديث متفق على صحته، وفيه مثلان:
ضرب أحدهما: للحريص المفرط في جميع الدنيا ومنعها من حقها، والآخر: ضرب للمقصد في أخذها والانتفاع بها، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
" ينبت الربيع وما يقتل حبطا "
، فهو مثل للحريص الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيع ينبت أنواع العشب فيستكثر منها الماشية حتى ينتفخ منها بطونها، كما قد جاوزنا حد الاحتمال فيشق أمعاؤها فيهلك، كذلك الحريص الذي يجمع الدنيا من حلها ويمنع ذا الحق حقه، فينتفخ بطنه يوم القيامة وهو آكل الربا، فلا يقوم ويكون عاقبته النار، وأما مثل المقصد قوله: صلى الله عليه وسلم
" إلا أكلة الخضرة "
، وذلك أن الخضرة ليست من إضراب البقول التي ينبتها الربيع فيستكثر منها الماشية، ولكنها من كلأ الصيف التي ترعها المواشي بعد هيج العقول شيئا فشيئا من غير استكثار، فضرب مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص المفرط على أخذها بغير حقها، وإن كان له حرص مثلا من الطلب والجمع، ولكن لما كان بأمر الشرع وطريقه ولا يمنع ذا الحق حقه ما أضر به كما أضر بأكل الربا، كقوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا } [البقرة: 275]؛ يعني: في طلب الربح والزيادة.
وقال تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربوا } [البقرة: 275]؛ يعني: كيف يكون ما أحل الله وأزال الأمر ظلمته إفراط الحرص منه، مثل ما حرم الله وزاد في ظلمة الحرص الذي فيه عصيان الأمر، فمن ارتكبه بالربا يكون في ظلمات ثلاثة
بعضها فوق بعض
[النور: 40]، ظلمة الحرص، وظلمة الدنيا، وظلمة المعصية، { فمن جآءه موعظة من ربه } البقرة: 275]، بالقرآن والأخبار وإلهام الحق { فانتهى } [البقرة: 275]، يتوب إلى الله ويرجع من الربا، { فله ما سلف } [البقرة: 275]، من المعصية فتجاوز عنه الحق.
{ وأمره إلى الله } [البقرة: 275]، بأن يرزقه بدل الربا من حيث لا يحتسب { ومن عاد } [البقرة: 275]، إلى شؤم فعاله ومذموم خصاله، وأعرض عن الحق ومقاله، واستحل ما حرمه وأقبل على ما احترمه، { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 275]، فلينتظروا وشيك الاستئصال، وفجأة النكال { يمحق الله الربوا } [البقرة: 276]، إذا أسرع فيه بمتابعة الهوى، { ويربي الصدقت } [البقرة: 276] والبركات؛ لأنها معروفة بالخيرات على وفق المأمورات، { والله لا يحب كل كفار } [البقرة : 276]، بنعمة الشرع وأنواره، { أثيم } [البقرة: 276]، عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره.
ثم أخبر عن العالمين بالشرع والخارجين عن الطبع بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصلحت وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 277]، { آمنوا } [البقرة: 277]، إيمان التصديق بالتخفيف مقرونا بالتوفيق، { وعملوا الصلحت } [البقرة: 277]، خرجوا بقدم العبودية على وفق الربوبية من ظلمات الطبع إلى أنوار أركان الشرع، فكان من خصائص ظلمات الطبع البشري، إتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، فخرجوا عن ظلمة إتباع الهوى بإقامة الصلاة واقتراب المولى، { وأقاموا الصلوة } [البقرة: 277]، فاستغرقوا بنور الحضور وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة والفطام عن المألوفات، { وآتوا الزكوة } [البقرة: 277]، فجذبتهم العناية عند سفل عندية البشرية إلى ذروة عندية الربوبية، { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم } [البقرة: 277]، من الرجوع إلى الظلمات الطبيعة، { ولا هم يحزنون } [البقرة: 277]، بعد الخروج إلى أنوار الشريعة.
[2.278-281]
فلما أخبر عن أهل الإيمان الحقيقي ومعاملاتهم، أخبر عن أهل الإيمان المجازي وامتحانهم بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 278]، والإشارة فيها: أن من شروط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في ترك زيادات لا يحتاج إليها في أمر الدين، بل تكون شاغلة له عن الترقي في مراتب الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
فقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا } [البقرة: 278]؛ أي: الذي يدعون الإيمان { اتقوا الله } [البقرة: 278]؛ أي: اتقوا الله، وهذا كما جاء لنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: جعلناه قدامنا، { وذروا ما بقي من الربوا } [البقرة: 278]، إشارة إلى ترك ما سوى الله في طلبه، كما قال الله تعالى:
ثم ذرهم
[الأنعام: 91]، { إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 278]، بإيمان حقيقي، وتوقنون بأن الله خلقكم لنفسه، كما قال:
واصطنعتك لنفسي
[طه: 41]، وما خلقكم لشيء وخلق كل شيء لكم، لقوله تعالى:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة: 29].
{ فإن لم تفعلوا } [البقرة: 279]؛ أي: إن لم تزكوا كل زيادة تمنعكم من الله، ولم تتقوا عنها بالله { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } [البقرة: 279]، في طلب غير الله { وإن تبتم } [البقرة: 279]؛ أي: رجعتم إلى الله وتركتم غيره { فلكم رؤوس أمولكم } [البقرة: 279]، وهي الكرامة التي أكرمكم بها على العالمين قبل وجودكم، كما قال:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70]، وأعطاكم رأس مال ما أعطي لأحد من خلقه ولا الملائكة المقربين، وهو قوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، فإذا تقربتم إليه بترك ما سواه، يتقرب إليكم برد رؤوس أموالكم الأصلية إليكم وهي المحبة، كقوله تعالى:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه "
، قوله تعالى: { لا تظلمون ولا تظلمون } [البقرة: 279]؛ يعني: خلقتكم لتحبوني وأحبكم، فإذا لا تظلمون بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات، ولا تظلمون بوضع محبتكم في غير موضعها، فافهم جدا.
{ وإن كان ذو عسرة } [البقرة: 280]؛ يعني: وإن كان في وصول ما عدا الله لكم عاجلا عسرة { فنظرة إلى ميسرة } [البقرة: 280]؛ أي: معدة لكم إلى أوان الميسر يصل إليكم آجلا، كما قال تعالى:
سيجعل الله بعد عسر يسرا
[الطلاق: 7]، وقال تعالى:
فإن مع العسر يسرا
[الشرح: 5]، { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } البقرة: 280]؛ يعني: ما تتمنون من أنواع برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم الإنسانية، فإن تصدقوا بها ببذلها فهو خير لكم، لأنا نجازيكم على قدر مواهبنا الربانية، إن كنتم تعلمون قدرها وتتقون بنا، كما قال تعالى:
" من شغله ذكر عن مسألتي أعطيته فوق مسألة السائلين "
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
[الطلاق: 3].
ثم أخبر عن الرجوع من المولى وأكد للتزود أمر التقوى بقوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [البقرة: 281]، والإشارة فيها: أن الله تعالى جمع في هذه الآية خلاصة ما في القرآن وجعلها حاملة الوحي والإنزال، كما أنه جمع خلاصة ما أنزل من الكتب على الأنبياء في القرآن وجعله خاتم الكتب، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء - عليهم السلام - وقد جمع فيه أخلاق الأنبياء، ثم نقول: إن علم خلاصة جميع الكتب المنزلة وفائدتها بالنسبة إلى الإنسان عائدة إلى معنيين:
أحدهما: نجاته من الدركات السفلى، وثانيها: فوزه بالدرجات العلا، فنجاته في خروجه عن معائب النفس، وفوزه في ترقيه على الدرجات العلا وهي ثمانية: المعرفة، والتوحيد، والعلم، والطاعة، والأخلاق الحميدة، وجذبات الحق، والفناء عن أنانيته، والبقاء بهويته.
فهذه الآية تشير إلى مجموعها إجمالا قوله تعالى: { واتقوا } [البقرة: 281]، هي لفظه شاملة لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني؛ لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله تعالى ومباشرة ما يقربك إليه، دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم إجماع التقوى في قول الله عز وجل:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
[النحل: 90]، فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدركات السفلى والترقي على الدرجات العلا، فتقوى العوام: الخروج عن الكفر بالمعرفة، وعن الشرك بالتوحيد، وعن الجهل بالعلم، وعن المعاصي بالطاعات، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة، هاهنا ينتهي سير العوام؛ لأنها نهاية كسب الإنسان وغاية جهد المجتهدين في إقامة شرائط جاهدوا فيها.
فمن هنا تقوى الخواص المجذوبين بجذبات،
لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69]، فتخرجهم الجذبة من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق، فهاهنا ينقضي سلوك الخواص فيستظلون بظل
عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى
[النجم: 14-15]، فينتفعون من مواهب،
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم: 16]، وأما تقوى خاص الخاص: فبجذبة فرقت العناية بجذبة
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 17]، من سدرة المنتهى الأوصاف إلى
قاب قوسين
[النجم: 9]، نهاية محن النفس وبداية أنوار القدس، فهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه، فتقوى الحقيقي تجد الإيمان الحقيقي، فالآن
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم
[البقرة: 257]، من ظلمات الأنانية إلى نور الهوية، وهو مقام أو أدنى.
ثم بسير
فأوحى إلى عبده
[النجم: 10] يفنيه عنه، وبحقائق ما أوحى يبقيه بهويته، فقوله { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [البقرة: 281]، يشير إلى هذه الحقائق معناه: { واتقوا } [البقرة: 281] جاهدوا فينا بجهدكم وطاقتكم، { يوما } [البقرة: 281]؛ يعني: اليوم فيه لنهدينكم بجذبات العناية { ترجعون فيه إلى الله } [البقرة: 281]، أشار بلفظ الرجوع إليه ؛ ليعلم أن الشروع كان منه، كما قال تعالى:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، فبدء وجودك كان بالنفخة، وأخر رجوعك بالجذبة، وأنت محمول العناية بين النفخة والجذبة، ولقد اصطفى آدم وكرم أولاده بهذا الاختصاص على البرية كلها، وقال:
أولئك هم خير البرية
[البينة: 7].
وفي قوله تعالى:
ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر
[الإسراء: 70]، سر عظيم أنه قال تعالى:
بني ءادم
[الإسراء: 70]، ما قال أولاد آدم، واختص الرجال بالذكر دون النساء؛ يعني: أهل الكرامة من يوصف بوصف الرجال لا بوصف النساء، ثم وصف الرجال بقوله تعالى:
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37]، فمن لم يكن بهذا الوصف فهو من النساء في المعنى.
ثم في قوله: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } [البقرة: 281]، وعد وبشارة للأولياء، ووعيد وإنذار، فإن الجذبة في قوله تعالى: { ترجعون فيه إلى الله } [البقرة: 281]، شاملة لكلتا الطائفتين، إلا أنها للأولياء جذبة اللطف والعناية، وللأعداء جذبة القهر والخذلان، فقال لأهل العناية:
نرفع درجت من نشآء
[الأنعام: 83].
وقال لأهل الخذلان: يسبحون في النار على وجوههم، وقوله تعالى: { ثم توفى كل نفس ما كسبت } [البقرة: 281]، فهو بشارة لأهل العناية؛ يعني: لما يرجعون إلى الله، فبقدر راحتها، وكل واحد منهم وحده في كسب العبودية بالتقوى يهدي إلى مقامات القرب بإفناء حجاب نفسه عنه، وبإبقائه ببقاء هويته، { وهم لا يظلمون } [البقرة: 281]، وهذا كما أن من سعي في نقب جدار بيته إلى جهة الشمس ليخرج بنور الشمس ظلمة بيته، فلما فتح الروزنة على قدر ضوء النور يخرج الظلمة من البيت ضرورة، فلا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة، وفيه تهديد وإنذار لأهل الخذلان إذا استهواهم الشيطان فلم يسلكوا طريق التقوى واتخذوا آلهتهم الهوى، فلما يرجعون إلى الله بالسلاسل والأغلال يسبحون على وجوههم في سلسلة زرعها سبعون زراعا، بالإهانة والإذلال،
ثم توفى كل نفس ما كسبت
[آل عمران: 161]، في متابعة الهوى وطلب شهوات الدنيا بأن يصلى النار الكبرى،
لا يموت فيها ولا يحيى
[طه: 74]، وهم لا يظلمون؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الدرجات العلا، وقربة حضرة المولى
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى
[النازعات: 25].
[2.282-283]
ثم أخبر عن إباحة السلم بعد تحريم الربا بالفضل والكرم بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل } [البقرة: 282]، والإشارة فيها: أن الله عز وجل من كمال رأفته ورحمته على عباده علمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم، والأخذ بالاحتياط والاستظهار؛ لئلا يجري من بعضهم على بعض حيف؛ ولئلا يتخاصموا ويتنازعوا فيحقد بعضهم على بعض، فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة، وأمر الكاتب أن يكتب علمه الله بالعدل ورعى في ذلك دقائق كثيرة كما ذكرها، فيشير بهذه المعاني إلى ثلاثة أحوال:
أولها: حال الله مع عباده، فيظهر آثار ألطافه معهم وغاية عنايته في حقهم أنه تبارك وتعالى كيف يرفق بهم ويعلمهم كيفية معاملاتهم الدنيوية، حتى لا يكونوا في خسران من أمر دنياهم، ولا يكون فيها بينهم عداوة وحقد وخصومة تودي إلى تنقيص عينهم في الدنيا، ووبال عقوبة في الآخرة، فيستدلوا بها أن تكاليف الشرع التي أمروا بها أيضا من كمال عاطفته ورحمته واستعملهم بها؛ ليفيض عليهم سجال نعمه ويسبغ عليهم ظلال كرمه، كقوله:
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
[المائدة: 6].
وثانيها: حال العباد مع الله تعالى؛ ليعلموا هذه الدقائق للأمور الدنيوية الفانية فيما بينهم أن للأمور الدنيوية الفانية فيما بينهم، إن للأمور الأخروية الباقية فيما بينهم، وبين الله تعالى أيضا دقائق أكثر منها وأدق، والعباد بها محاسبون وعلى مثقال ذرة من خير مثابون، وعلى مثقال ذرة من شرها معاقبون، وأنها بالرعاية أحرى وأولى، وأخروي من أمور الدنيا، وأن الله تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليهم العدول، كذلك كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق،
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة : 111]، وعلى هذا عاهدهم وأشهد الملائكة الكرام عليه، ثم رقم في الكتاب أن ياقوتة من الجنة وديعة وهي الحجر الأسود.
ثم قال تعالى:
ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به
[التوبة: 111]، واليوم أنتم مطالبون بالثمن، فإن تسلموا إليه بالتمام فقد سلم إليكم المبيع، وإن حوسبتم غدا وبقي عليكم مثقال ذرة من الثمن، فتحبسون في سجن السجين حتى تخرجوا من عهدته، وإن الله تعالى أمركم أن { ولا تسأموا } [البقرة: 282]، أن تكتبوا معاملاتكم الصغيرة والكبيرة، ثم عند خروجكم من الدنيا يجعلونه في أعناقكم، فتبعثون يوم القيامة،
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا
[الإسراء: 13]، ثم نودي من سرادقات الجلال: يا قوي الظلم ضعيف الحال، إقرأ كتابك
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء: 14].
فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا
[الكهف: 49]، فما بال العالمين مع الله تعالى ينامون غافلين عن الله، وقد أسكرتهم مشارب الآمال حتى نسوا قرب الآجال، فرحم الله امرؤ تنبه عن نوم غفلته، ويعلم أن الكتاب بأمر الله يكتبون عليه في صباحه ومسائه، وما يكتبون الآن إملائه وأنه بالقليل والكثير فيما علا يخاطب، وبالنقير والقطمير على ما يميل عن الحق يعاتب فيحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويعرف على نفسه ما هو حق الحق فيمليه على كاتبه بلسان صدق من غير ثوان وفتور ولا نقصان، وقصوركما أشير إليه في إملاء ما عليه { الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا } [البقرة: 282]، فعليه أن على الحق بالحق كما على الحق للحق.
{ فإن كان الذي عليه الحق } [البقرة: 282]؛ أي: حق الحق { سفيها } [البقرة: 282]؛ أي: جاهلا بإملاء الحق للحق من اشتغاله بالباطل للباطل { أو ضعيفا } [البقرة: 282]؛ أي: عاجزا مغلوبا بغلبات سفاهة نفسه { أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه } [البقرة: 282]؛ أي: ممنوع بالموانع، معوق بالعوائق، ومغلوب بالعلائق، لا قدرة له على إملاء ما ينفعه ولا يضره، ولا قوة له في إنهاء ما لا يجوز، وبشره { فليملل وليه بالعدل } [البقرة: 282]؛ أي: فليرجع إلى وليه وليشك إليه ما يسره ويحزنه مما لديه، ويستعين به على إملاء ما له وعليه، فإن لكل قوم وليا يخرجهم من الأحزان إلى السرور، ومن الأسجان إلى القصور،
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، ومن الأشجان إلى الحبور، ومن العجز والفتور إلى القوة والحضور.
{ بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [البقرة: 282]؛ أي: استصبحوا من أرباب القلوب،
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق: 37] من الذين هم بالنسبة رجالكم وأنتم نساؤهم، { فإن لم يكونا رجلين } [البقرة: 282] من أرباب القلوب { فرجل } [البقرة: 282] منهم، { وامرأتان } [البقرة: 282]؛ يعني: رجلين منكم وإن لم يكونا من الرجال البالغين، ليكون صلاحية الرجلين من أهل الصلاح، بمثابة قوة رجل من أهل الولاية في بدء الصحبة { ممن ترضون من الشهدآء } [البقرة: 282]؛ يعني: أن يكون من شهداء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أنتم شهداء الله في أرضه "
، { أن تضل إحداهما } [البقرة: 282]، وطريق الحق عن جادة الاستقامة.
{ فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهدة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } [البقرة: 282]، فإن
الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات: 55]، كما قيل الرفيق ثم الطريق، فإن بادية النفس مملوءة من أعراب الهوى والشياطين، ولا تسلك إلا في حضارة من ركب هواه، ويقر الشيطان من ظلالهم أعلام الإسلام، وسلاطين الدين، وأئمة الهدى، ومن في هذا الشأن بهم يقتدى؛ لأنهم جروا على ترك الدنيا وعبروا عن الدرجات العلا وما زاغ بصرهم بنعيم جنة المأوى وما طغى، فكوشفوا بحقائق آيات ربهم الكبرى وصاروا أئمة الهدى وقادة الطلاب إلى المولي، كما قال تعالى:
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
[السجدة: 24].
أما الحال الثالث: فهو حال العباد فيما بينهم، فليعبر كل واحد منهم من ملاطفات الحق معهم؛ ليتخلق بأخلاق الحق في مخالفتهم؛ وليتوسل إلى الله بحسن مرافقتهم؛ وليحفظ حدود الله في موافقتهم ومخالفتهم؛ وليتمسك بعروة محبتهم في الله وخدمتهم الله وصحبتهم إلى الله، ويصحبهم بالله؛ ليجوزوا في رفقتهم
صراطا مستقيما
[النساء: 68] ويفوز من زمرتهم فوزا عظيما، وفي جميع الأحوال كونوا مع الله، كما قال تعالى: { واتقوا الله ويعلمكم الله } [البقرة: 282]؛ أي: اتقوا الله في الأحوال الثلاثة، كما يعلمكم بالعبادات والإشارات { والله بكل شيء } [البقرة: 282]، تعلمون في جميع الأحوال من الأقوال والأفعال، { عليم } [البقرة: 282]، يعلم مضمون ضمائركم ومكنون سرائركم فيجازيكم على حسن معاملاتكم بقدر خلوصكم، وصفاء نياتكم، وصدق طواياتكم.
ثم أخبر عن الوثيقة في القروض بالرهن المقبوض بقوله: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة } [البقرة: 283]، والإشارة في الآيتين: أن أهل الدين طائفتان: الواقفون والسائرون، والواقف: من لزم عتبة الصورة ولم يفتح له باب عالم المعنى فهو: كالفرخ المحبوس في قشر البيضة، فيكون مشربه من عالم المعاملات البدنية، فلا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته، فهو محبوس في سجن الجسد وعليه الموكلان من الكرام الكاتبين، يكتبان عليه من أعمال الظاهرة بالسعير والقطمير،
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ق: 18]، والسائرين: من لا نعيم في محل ولا ينزل في منزل فهو يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى، من مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح، وهم صنفان: صنف سيار، وصنف طيار، فالسائر: من يسير يقتدي الشرع والعقل على جادة الطريقة، والطيار: من يطير بجناحي العتيق والهمة في قضاء الحقيقة ورجليه خلخال الشريعة والطريقة.
والإشارة في قوله تعالى: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا } [البقرة: 283]، إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس ورحمة التوكيل، فلم يوجد له كاتبا يكتب عليه قال بعضهم: ما كتب علي صاحب الشمال منذ عشرين سنة، وقال بعضهم: كاشف لي اليمين، وقال لي: أملي علي شيئا من معاملات قلبك لأكتبه، فإني أريد أن أتقرب إلى الله، قال: فقلت له: حسبك الفرائض، فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يرد حق صاحب الحق، أو يكون هاربا منه فيحبس ويقيد ويوكل عليه، فأما الذي آناء والليل وأطراف النهار ويغدو أو يروح في طلب غريمه، وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد، فالذي هو كل على الهارب يكون للطالب وكيلا وحفيظا
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله
[الرعد: 11]، فافهم جدا.
فيما يكتب على السائرين إلى الله كاتبهم ولهم رهان مقبوضة عند الله، رهان وأي رهان، فأرهان قلوب ليس فيها غير الله، وقبض وأي قبض، فمقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمان، فالإشارة في قوله تعالى: { ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة } [البقرة: 283]، إلى اليسار الذي له قلب فرهنه، فأما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب، مسلوب العقل، مجذوب السير، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش يبطشه الشديد.
مستهام ضاق مذهبه
في هوى من عز مطلبه
كل أمري في الهوى عجب
وخلاصي منه أعجبه
وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة، فلم يوجد في السماوات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن الحمل أعباء أمانته؛ إلا العاشق المسكين، فإنها لم عرضت على الخليقة فنظر إليها الجلي من ليس بعاشق أشفق منها وحار فيها وأبى إن يحملها، والعاشق المسكين لما نظر إلى فراش تلك الشمعة تعشق بها وطار فيها، وأتى أن يحملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه زيدت له من الحضرة ألقاب، فإنه قد نسب في البداية إلى
من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30]، فلقب في النهاية،
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72].
هذا أمر عجيب ونقش غريب، أنه من لم يطمع في حمل الأمانة، وأبى فنسب إلى المكان والطاعة والأمانة، ويقال له: مكين مطاع، ثم أمين، ومن أطاع فينسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة نعم، إنما يكون ذلك بوجهين:
أحدهما: أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق، كما أن العزة والعظمة وقعت في قسم المعشوق؛ بل جمال عزة المعشوق لا يظهر كماله إلا في مرآة ذلة العاشق.
وثانيها: إن من كمال العزة الأمانة، يلزم كمال ذلة المؤتمن في الظاهر واستهتاره بتهمة الظلم والخيانة؛ لكتمان صلاح أمر الأمانة، ولا ينسب إلى غير المؤمن بحسن الثناء عليه بهمة الأمانة، فيأتمنون عزته في الظاهر ذلته في الحقيقة بذلك على حقيقة هذا السر خطاب:
اسجدوا لأدم
[البقرة: 34]، وعتاب:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة: 30]؛ يعني: لظاهر حالكم وحاله، ولحقيقة نشأتكم وشأنه سر مخفي، إني عالم به في الحقيقة غير ما تعلمون في الظاهر، فلما أمرتم بسجوده لو كنتم أصحاب الكياسة لعرفتموه بالفراسة، أنه المستحق لخلافتنا والمستعد لأمانتنا، ولاستحقاقه بالخلافة خاطبناكم أن
اسجدوا لأدم
[البقرة: 34]، ولاستعداده بالأمانة طالبناه، { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه } [البقرة: 283]؛ يعني: لما اخترتك من بين الخليقة واصطفيتك على تحمل الأمانة، فليؤد الذي أؤتمن الأمانة إلى أهلها، كما صرح به وقال:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
[النساء: 58].
ثم أشار إلى كيفية أداء الأمانة إلى أهلها بقوله تعالى: { ولا تكتموا الشهدة } [البقرة: 283]، التي أشهدتكم على أنفسكم عند قبول حقيقة الأمانة، وكتمان الشهادة أن يكون شهودك من غير شواهد ربك، وهذا من نتائج حياة قلبك في أمانة ربك؛ فلهذا قال تعالى: { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } [البقرة: 283]، فمهما يكون اتقاء قلبك في حفظ أمانة ربك، فلا يشاهد قلبك إلا شواهد ربك، ولا يؤذي شرك حقيقة أمانتك إلا إلى ربك، فافهم جدا، واجتهد لعلك تؤدي بعض حقوقها فتكون في زمرتهم، إن لم تكن من حملتهم { والله بما تعملون } [البقرة: 283]، في حفظ الأمانة وأداء حقوقها { عليم } [البقرة: 283].
[2.284-286]
ثم أخبر عن محاسبة ما يبدوا من الضمائر وما تخفي في السرائر، بقوله تعالى: { لله ما في السموت وما في الأرض } [البقرة: 284]، الإشارة فيها: أن الله تعالى يطالب العباد باستدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة؛ لئلا يغفلوا عن حفظ الحركات الظاهرة وضبط خطرات الباطن، فبقوا في آفة ترك آداب العبودية فيهلكوا بسطوات قهر الإلوهية، ففي بداية الآية نية العباد على مالكية وملكية في السماوات والأرض بقوله تعالى: { لله ما في السموت وما في الأرض } [البقرة: 284]، ملكا وملكا، ثم خصهم على رعاية آداب العبودية على بساط الملوك، ووعدهم عليها وأوعدهم بقوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء } [البقرة: 284].
واعلم أن الإنسان مركب من عالم الأمر والخلق، فله روح نوراني علوي من عالم الأمر وهو الملكوت الأعلى، وله نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق، ولكل واحد منها نزاع وشوق وحيل إلى عالمه، فقصد الروح وميله راغبه، وشوقه أبدا إلى عالمه، وهو جوار رب العالمين وقربه، وميل النفس وقصدها إلى عالمها، وهي أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليزكي النفوس عن ظلمة أوصافها وسوء أخلاقها، ويحليها بحلية أنوار الأرواح بإبداء أنوار أخلاق الروح عليها في تحليتها بها، فهذا مقام الأولياء مع الله،
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، وبعث الشياطين إلى أوليائه وهم أعداء الله؛ ليخرج أرواحهم من النور الروحاني إلى الظلمات النفسانية، في إخفاء أنوار خالقها في إبداء أخلاق النفس عليها، استحق بها دركة أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق؛ فمعنى الآية في التحقيق: { وإن تبدوا ما في أنفسكم } [البقرة: 284]، مودع من أنوار أخلاق الروحانية في الظاهر بأعمال الشريعة، وفي الباطن بموافقات الطبيعة، أو تخفوه بتصرفات الطبيعة في موافقات الشريعة، ومخالفات الطريقة { يحاسبكم به الله } [البقرة: 284]، بطهارة النفس بقبول أنوار الروح أخلاقه، أو بتلوث الروح بقول ظلمات النفس وأخلاقها، { فيغفر لمن يشآء } [البقرة: 284]، فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق، { ويعذب من يشآء } [البقرة: 284]، فيعاقب نفسه بنار دركات السعير ونوره بنار فرقة العلي الكبير، { والله على كل شيء } [البقرة: 284]، من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الخلق والأمر { قدير } [البقرة: 284].
ثم أخبر عن كمال لطفه بالعباد لهم على السبيل الرشاد بقوله تعالى: { ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه } [البقرة: 285]، والإشارة في الآيتين: أن الله تعالى إنما قال: { ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه } [البقرة: 285]، وما قال آمن بالله، وقال : { والمؤمنون كل آمن بالله } [البقرة: 285]، أو أن يظهر الفرق بين الرسول والمؤمنين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل المعراج كان يؤمن بالله، { بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا } [البقرة: 285]؛ أي: بعد ما آمنوا بما أنزل قالوا: سمعنا وأطعنا ما أمرتنا، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحوال إيمان المؤمنين في تلك الحالة؛ لأن ما بدأ به من الكلام في ذلك المقام إن أكرم بالسلام، ولهذا كان يقول: السلام قبل الكلام، فلما سمع السلام عليك إيها النبي رحمة الله وبركاته، فأجاب بقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ففي المرتبة الثانية لما أوحى إليه: { ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه } [البقرة: 285]، فبدأ بذكر المؤمنين وعرض أحوالهم بالإيمان والسمع والطاعة ليت، استحقاقهم السلام والرحمة فرحمهم الله عليهم، وقال: وما يطلبون مني بجزاء الإيمان والسمع والطاعة حتى أجار بهم به قال النبي صلى الله عليه وسلم: { غفرانك ربنا وإليك المصير } [البقرة: 285]؛ يعني: ما يطلبون منك شيئا دونك إلا مغفرتك؛ لتسترهم عنهم بسريان صفة { غفرانك ربنا وإليك المصير } [البقرة: 285]، ويكون مصيرهم ومرجعهم إليك لا إلى الدارين؛ يعني: كما كان مصيري إليك يكون مصيرهم في متابعتي إليك، فقال الله في جوابه { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [البقرة: 286]؛ يعني: ليس لهم استعداد منازل هذا المقام معك، فكيف أكلفهم بشيء لا وسع لهم به؟ فإنك في مقام معي لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف بهم؟ ألم تر أن جبريل عليه السلام حين أردت أن أترحم عليه؛ ليوافي موافقتك وتبعية مرافقتك بساط قرب خطوة فقلت له: تقدم، فقال: ونوة أنملة لاحترقت، وإن الأنبياء والمرسلين اصطفيناهم على العالمين، كل طائفة منهم واقفين إنما سبقتهم رحمتي، ثمة كي لا تحرقهم سبحات وجهي ويمحقهم سطوات قهري، فكيف أكلف في أسماء أمتك المذنبة المرحومة بهذا المصير وأنا بضعيف حالهم بصير، ولكن الذي ملك هذا المقام حتى جاوزت الأنبياء والرسل الكرام ووطأت موطأ ما وطأ أحد قبلك؛ إني خلقتك وخلقت الكون لمجيئك؛ لولاك لما خلقت الكون وإنك مخصوص بهذا المقام المحمود، وإن أمتك أكرم الأمم علي لمحبتك، وأحبهم إلي ولهم سبب شفاعتك اختصاص بكرامة محبتي إياهم في ظل متابعتك، فقل لهم:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31]، فإن على قدره ما اكتسبت أمتك من أنوار متابعتك تستحق نيل محبتي، فبقدر جريان عدم محبتي لهم يكون مصيرهم إلى حضرة جلاله.
{ لها ما كسبت } [البقرة: 286]، من شواهد جمالنا، وعلى قدر ما كسبت بالثواني في ظل متابعتك والتقصير في مشايعتك، ونقض عهد مبايعتك تستحق المصير إلى السعير، { وعليها ما اكتسبت } [البقرة: 286]، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجواب فتارة أكسرته لذة هذا الخطاب وأخرى أخذته سطوات هذا العتاب، قال: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا } [البقرة: 286]؛ يعني: لا تعاقب أمتي إن نسيت عهدك التي عاهدتم في الميثاق على أن يعبدوك ولا يعبدوا غيرك، ويطلبوك ولا يطلبوا غيرك، ويحبوك ولا يحبوا غيرك، وأخطأت طريق طلبك وطلبوا غيرك، وطريق محبتك فأحبوا غيرك، ولكن ما أخطأت طريق عبوديتك فما عبدوا غيرك ولا أشركوا بعبادتك، وأنت قلت:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48]، { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } [البقرة: 286]، بأن تكلنا إلى أنفسنا قبضتي أسير النفس الأمارة بالسوء، أو محبوسي الأشخاص من مقتدى الخواص، فتعبد عجل الهوى والنار الشهوات، كما عبد الذين من قبلنا، { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [البقرة: 286]، وبالصبر عن شهود جمالك وأرجاء أستار جلالك على أبواب وصالك، { واعف عنا } [البقرة: 286]، شواهد هويتك { واغفر لنا } [البقرة: 286]، برفع البينونة من بيننا { وارحمنآ } [البقرة: 286]، بجذبات { أنت مولنا } [البقرة: 286]، بجذبات { فانصرنا على القوم الكافرين } [البقرة: 286]، أخرجنا عنا إليك، وأعنا في المصير إليك على قمع كفار الإثنينية، التي تمنعنا من وحدتك بيني وبينك إني يزاحمني، فارفع بجودك إني من البين .
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-6]
{ الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [آل عمران: 1-2]، والإشارة في الآية: إن الله تعالى بعد أن أظهر إلوهيته المودعة في { الم } [آل عمران: 1]، بقوله: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [آل عمران: 2]، أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة وأعطاف محبته [المخبئة] تحت قباب الغيرة مع سيد الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين، أبد الآبدين ودهر الداهرين، بقوله تعالى: { نزل عليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه } [آل عمران: 3]؛ أي: نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة؛ لتجليه لترك حقائقه لا صورة ألفاظه مكتوبة على الألواح، أحجار مقروءة كل قارئ سريانية وعبرانية دليله قوله تعالى: { نزل عليك } [آل عمران: 3]، قوله تعالى: و { بالحق } [آل عمران: 3] نزل؛ يعني: بالحقيقة نزل، وقوله تعالى:
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2]، وقوله تعالى:
علمه البيان
[الرحمن: 4]، وقوله تعالى:
ما كنت تدري ما الكتاب
[الشورى: 52]؛ يعني: ما كنت تعلم حقيقة الكتاب، وإلا كان يعلم ما صورة الكتاب.
ثم أخبر عن حقيقة الكتاب فقال تعالى:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى: 52].
ثم اعلم أن تعليم الرحمن القرآن بأن يتجلى بنور صفة الذي؛ هو حقيقة القرآن على قلب من شاء من عباده، ومن علمه الرحمن القرآن بهذا التعليم يكون عليه من الله فضلا عظيما، فمن ذلك الفضل العظيم عليه بعد أن ينزل على قلبه حقيقة القرآن، علمه ما لم يكن يعلم من أسرار الإلوهية المكنونة في { الم } [آل عمران: 1]، بتعليم تجلي أنوار صفاته على قلبه، فعلم سر وحدته، { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [آل عمران: 2]، يدل عليه قوله تعالى:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19]، وصار
مصدقا لما بين يديه
[البقرة: 97]؛ يعني: فلا كوشف عند تجلي أنوار الصفات بوحدانية الذات، صار شاهد السر الله في { الم } [آل عمران: 1]، وهو الذي
بين يدي الله
[الحجرات: 1]، { لا إله إلا هو الحي القيوم } [آل عمران: 2]، فصار مصدقا تصديق تحقيق لا تصديق تقليد، فافهم جيدا، إذ لا تعلم ولا تعلم إنك لا تفهم؛ لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطائرين ولا من السائرين.
ثم قال تعالى تأكيدا لهذه العاني وتشييدا لهذه المباني: { وأنزل التوراة والإنجيل } [آل عمران: 3]، { من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } [آل عمران: 4]؛ يعني: لا تظن يا محمد إن إنزال الكتب الأخرى على الأنبياء: كتنزيل القرآن بالحقيقة قلبك فتكاشف عند تجلي أنواره بأسراره، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما أنزل الكتاب على الأنبياء والأمم، كقوله: { هدى للناس } [آل عمران: 4]، عمهم فيه وكنت مخصوصا بالهداية عند تجلي أنوار القرآن في التنزيل على قلبك، كما قال تعالى:
ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى: 52]، وقال تعالى:
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء: 113]، خصصك بهداه وعلمه.
ثم قال تعالى مؤكدا معناه ومؤيدا لفحواه: { وأنزل الفرقان } [آل عمران: 4]؛ يعني: وأنزل الفرقان عليك فرقانا، يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب صورة على الأولياء، ويفرق بين تعلمك القرآن وبين تعلمهم الكتب، وإنهم كانوا يتدارسون الكتب وأنت تتخلق بالقرآن وتفرق بين ما أفاد لهم الحكمة، فقد أفاد لك أن أوتيت جوامع الكلم وبه فضلت على الأنبياء، وبالخمسة الأخرى من إفادة القرآن، كقوله صلى الله عليه وسلم:
" فضلت على الأنبياء بست "
، ويفرق بين تصرف التنزيل على قلبك وبين تصرف الإنزال عليهم، فإن كانت الكتب المنزلة عليهم تصرف فيهم بأن يكون الكتاب مع أحدهم نورا من الله يجيء به إلى قومه؛ ليكون هدى لهم، كما قال تعالى:
الكتب الذي جآء به موسى نورا وهدى للناس
[الأنعام: 91]، فإن تصرف تنزيل نور القرآن على قلبك جعلك نورا من الله تجيء الأمة ومعك القرآن، كما قال تعالى:
قد جآءكم من الله نور
[المائدة: 15]؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم،
وكتاب مبين
[المائدة: 15]؛ وهو القرآن.
فشتان بين نبي يجيء ويكون وهو بذاته نور ومعه كتاب، وبين نبي يجيء ومعه نور من الكتاب، ويفرق بين ما شرفت به من إكرام الحق وبين ما شرفوا به، فقال تعالى تشريف لموسى عليه السلام:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء
[الأعراف: 145]، وقال تشريفا لك:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، وقال تشريفا لأمتك:
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22].
فشتان بين نبي يشرف بكتابة الموعظة في الألواح، وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم، { إن الذين كفروا بآيات الله } [آل عمران: 4]؛ أي: يسترون بحجب الفضلات وتتبع الشهوات قلوبهم، فعميت عن مشاهدة هذه الآيات البينات والدلائل الواضحات، والأنوار اللامعات، والبراهين القاطعات، { لهم عذاب شديد } [آل عمران: 4]، من هذا العمى والحرمان، وهم في الخسران المبين بالركون إلى النقصان وترك العاجلة بطريق المتابعة { والله عزيز ذو انتقام } [آل عمران: 4]، يعز أهل الكرام بنيل المرام، ويذل اللئام أهل الستر بشدة الانتقام، فينتقم منهم بتعززه بحجاب العزة، ويعذبهم بتحجبهم عنه بنقاب العزة.
ثم أخبر عن فضله وكرمه العشام مع سائر الأنام، بأن صوره في الأرحام بقوله تعالى: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السمآء } [آل عمران: 5]، والإشارة فيها: إن الله هو الذي قدر المقادير في الأزل كيف يشاء، ودبر الأحوال على ما يشاء، ثم خلق الأرض والسماء وبث فيهما كل ما يشاء، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء لا في الأرض ولا في السماء، { هو الذي يصوركم في الأرحام } [آل عمران: 6] في الظلمة الثلاث، { كيف يشآء } [آل عمران: 6]؛ أي: كيف ما يشاء في الأزل حين قدر الخلق والرزق والأجل، فإذا لم يخف عليه شيء مما في الأزل، ولا في تصويركم في الأرحام في الظلمات كيف تخفى عليه ما هو في الخارج، ثم قال تعالى: { لا إله إلا هو } [آل عمران: 6]؛ يعني: ليس له آخر، فيخلق شيئا يكون مخفيا عليه، أم بتعقب كلمة وقضاؤه بالنقص أو بعارض بتقديراته وتدبيراته في كل شيء من الأشياء بالإهمال والرفض، { لا إله إلا هو } [آل عمران: 6]، المقدر والمدبر { العزيز } [آل عمران: 6] عن نقض الأحكام { الحكيم } [آل عمران: 6]، فيما يجري من الأزل إلى الأبد، وجفت به الأقلام.
وفيه إشارة أخرى وهي: إن الله تعالى يصور الجنين بصورة الإنسانية على نطفة سقطت في الرحم بتدبير الأربعينيات، فكذلك إذا سقطت من صلب ولاية الرجل رجاله نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق، والمريد ليستسلم لتصرفات ولاية الشيخ؛ وهي بمثابة ملك الأرحام، فافهم جيدا.
ويضبط المريد أحواله ظاهره وباطنه على وفق أمر الشيخ، ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة، يلزم منه سقوط النطفة وفسادها ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره، فالله تعالى يتصرف ولاية الشيخ المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها، يحولها من حال إلى حال، وينقلها من مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس، التي منها صدر إلى عالم الأنس يقدم الأربعينيات الأولى، فلما وصل إلى مقامه الأول أيضا بقدم الأربعنيات كما جاء، ثم خلق الجنين في رحم القلب؛ وهي طفل خليفة الله في أرضه، فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه؛ وهي روح القدس الذي هو متولي إلقائه، كقوله تعالى:
يلقي الروح من أمره على من يشآء من عباده
[غافر: 15].
وقال تعالى:
كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22]؛ ولهذه الفائدة العظيمة والنعمة الجسيمة؛ أهبط الروح من أعلى عليين القرب إلى أسفل سافلين البعد، كما قال تعالى:
اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 38]، فإذا نفخ في الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون، تفهم إنشاء الله تعالى وتنبه.
[3.7]
ثم أخبر عن آيات بينات أنها محكمات ومتشابهات بقوله تعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [آل عمران: 7]، إشارة في تحقيق الآية: إن الله تعالى أنزل الكتاب على قسمين:
قسم منه: { آيات محكمات هن أم الكتاب } [آل عمران: 7]؛ أي ظاهر واضح، تنزيله فيه مشرب الخواص والعوام؛ لبسط الشرع والاهتداء، وقسم: { متشابهات } [آل عمران: 7]، غامض مشكل تأويله فيه مشرب الخواص وخواص الخواص؛ لاختفاء الأسرار عن الأغيار للابتلاء، { فأما الذين في قلوبهم زيغ } [آل عمران: 7]، ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب؛ وهم أهل الهواء والبدع، { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } [آل عمران: 7]؛ ليضلوا بأهوائهم، { وابتغاء تأويله } [آل عمران: 7]؛ ليضلوا الناس بآرائهم،
والفتنة أكبر من القتل
[البقرة: 217]، وأما الذين أيدوا بأنوار الفضل وجردوا عن أطمار الجهل هم: { والراسخون في العلم } [آل عمران: 7]، فيلقون السمع بحضور نفسه فيما يسنح لفهومهم من لوائح التعريفات بلوامع أنوار الحق، { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } [آل عمران: 7]، في تحقيق التأويل { كل من عند ربنا } [آل عمران: 7]، التعريف للتحقيق، والتفهيم للتأويل، { وما يذكر إلا أولوا الألباب } [آل عمران: 7]، ففي التذكير إشارة إلى: إن العلوم التي تحصل للراسخين في العلم من تأويل القرآن وغيره؛ إنما هي من تعليم الله لهم في عهده الميثاق، إذا تجلى بصفة الربوبية للذات.
وأشهدهم على أنفسهم
[الأعراف: 172] بشواهد الربوبية
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، فشهدوا، وتلك الشهادة ركزت في جبلة الذرات علم التوحيد فيه،
قالوا بلى
[الأعراف: 172]، فتعلمت النفوس على التوحيد ونطقت به في ذلك العهد، والعلوم كلها مدرجة في علم التوحيد، كما قال تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31]، فلما ردت الذرات إلى الأصلاب وأصبحت بصفات البشرية، ثم نقلت إلى الأرواح وحبست فيها تسعة أشهر، ففي كل أربعين تمر عليها تنقل من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن حضرة الحق، إلى أن كملت عليها سبعة أطوار كمل الطفل، ووضع الحمل فرده النفس العاملة بعلم التوحيد الناطقة بها مع الذرة إلى أسفل سافلين القالب، محجبة بحجب البشرية وأطوار السبعة ناسية تلك العلوم التي تنطق بها، ثم أبواه يذكر أنه تلك العلوم بالرموز والإشارات وينطقانه بها بالتدريج، حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية أستار أطوار، وينطق بها باللسان الأبوين، ولا بلسان الذي أجاب الرب وقال: بلى، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك، فكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المسمع المجيب في الميثاق، فسمعه قشر ذلك السمع الذي خاطب الحق وبصره، قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق وقلبه، قشر ذلك القلب الذي قصه خطاب الحق وعقله، قشر ذلك العقل الذي عقل بها معنى خطاب الحق ونفسه، قشر تلك النفس التي أدرك خطاب الحق وتمكنت لجوابه وعلومه، قشرتك العلوم التي تعلمت من الحق، فكما أن أبويه كانا يذكران الطفل من تلك العلوم وينطقان بها من وراء الحجب والقشور، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتذكرة حقيقة تلك العلوم، كما قال تعالى:
فذكر إنمآ أنت مذكر
[الغاشية:21]، وقال تعالى:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم: 5]، فالتذكير عام، ولكن التذكير خاص، { وما يذكر إلا أولوا الألباب } [آل عمران: 7]، وقال تعالى:
إنما يتذكر أولوا الألباب
[الرعد: 19]، وهم الذين أخرجوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور وجودهم الروحاني، وهم الراسخون في قشور العلوم الواصلون إلى حقائق لباب العلوم الدينية، التي تعلم من لدن خبير بلا واسطة، كما قال تعالى:
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2]، فافهم جيدا، وما أراك أن تفهم وأنت محبوس في قشر الوجود المجازي، والله اعلم.
[3.8-12]
ثم أخبر عن طلب الهداية لآية التأويلات بالدراية { ربنا لا تزغ قلوبنا } [آل عمران: 8]، إشارة في التحقيق الآيتين: إن الله تعالى بعد أن ذكر الراسخين في العلم وتذكر أولوا الألباب، ذكر وظيفة حالهم شكر المنعم وحفظا للنعمة، وألهم لمزيد النعمة بقوله تعالى: { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [آل عمران: 8]، هذا الحال لمن هدى إلى صراط مستقيم، { ربنا } [آل عمران: 8]؛ أي: خالقنا ومربينا وهدينا، { لا تزغ قلوبنا } [آل عمران: 8]، عن صراطك المستقيم باستيلاء أهوائنا، وغلبات شهواتنا، وظلمات طبائعنا، { بعد إذ هديتنا } [آل عمران: 8]، إلى حضرة جلالك ونورت قلوبنا بأنوار جمالك، حتى سمعنا بلب التنزيل، وانصرنا بلب أنصارنا لب التأويل، وتذكرنا بلب عقولنا لب علوم علمتنا، كما أزغت قلوبنا بعد إذ هديتنا في الميثاق إلى شهود شواهد جمالك، واستماع مقالك وحسن إجابة سؤالك، وجبت علينا من سجال نوالك وفيض فضلك وأفضالك، مجيئنا بشهودنا عن شهودك، ووجودك وبوجودنا عن وجودك، وبتفقدنا عن تفقدك، وغيبتنا بنا عنك بأوصافنا عن أوصافك، وبذواتنا عن ذاتك، { وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } [آل عمران: 8]، تجذبنا عن لدنا إلى لدنك عنا، [وتقربنا] بك بصفاتك عن صفاتنا، وبذاتك عن ذواتنا، وهذا وظيفة الحال لأرباب هذه الأحوال أن لا يسكنوا ولا يقفوا مع حال، وإن يعلموا أن لا نهاية لمواهبه، ولا غاية لمطالب طالبه فيكونوا إلى الأبد طلابا، كما كان الله تعالى من الأزل إلى الأبد وما باقي قوله تعالى: { ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [آل عمران: 9]، إشارة إلى: إن بعد هذه الدار دارا وهي دار القرار، وإن النعم للإبرار، وإن الجحيم للفجار، وإن مكسب البر والفجور هذه الدار، وإن أجر البر والفاجر { ليوم لا ريب فيه } [آل عمران: 9]؛ ولهذا يجمعهم ليوفيهم أجورهم التي كسبوا من الخير والشر بالثواب والعقاب، كقوله تعالى:
فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
[آل عمران: 25]، فلا تسكنوا عن الطلب، وتجهدوا بالنصب، وتزودوا للمعاد، وتزودوا في التعب، فإن حصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب ومقاساة التعب والنصب، وتزودوا للمعاد من زاد التقوى فإنها خير الزاد، { إن الله لا يخلف الميعاد } [آل عمران: 9].
ثم أخبر عن قوم لم يتزودوا، وأزيد الزاد للمعاد ولا يفنى عنهم الأموال والأولاد بقوله تعالى: { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } [آل عمران: 10]، إشارة في تحقيق الآيتين: { إن الذين كفروا } [آل عمران: 10]؛ أي: ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات الصفات، نفسانيتهم من جحود الحق وإنكاره وإتباع الهوى إلى الشهوات،
من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة
[آل عمران: 14]،
والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا
[آل عمران: 14]؛ وهي الطاغوت التي قال الله تعالى
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257]،
لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا
[آل عمران: 116]؛ يعني: من أنوار الله التي حجبوا عنها وشواهد الربوبية، كما قال تعالى:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين: 15]، { وأولئك هم وقود النار } [آل عمران: 10]؛ يعني: صفاتهم النفسانية واستيفاء لذاتهم الشهوانية وأفعالهم الجسمانية { وقود النار } [آل عمران: 10]، الفرقة والقطيعة.
واعلم أن النار: نار الله، ونار الجحيم، وأما نار الله: فهي نار القطيعة عن الله، فيها يعذب قلوب المحجوبين عن الله تعالى، كقوله:
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة: 6-7]، وأما نار الجحيم: فهي نار الشهوات والمعاملات على الغفلات من المخالفات؛ فهي تحرق قشور الجلود كما قال الله:
كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
[النساء: 56]، ولا تخلص هذه النار إلى لب القلوب، فإن عذاب حرقة الجلود بالنسبة إلى عذاب فرقة القلوب؛ كنسيم الحياة وسموم الممات، ففي فؤاد الحب نار جوى أحر نار الجحيم أبردها، { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم } [آل عمران: 11]؛ يعني: دأب جميع الكفار وواحد من المتقدمين والمتأخرين، فدأب من في عهدك يا محمد { كدأب آل فرعون } [آل عمران: 11]، الذين كانوا في عهد موسى، { والذين من قبلهم } [آل عمران:11]، كانوا في عهد إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام.
ثم أخبروا بهم وقال تعالى: { كذبوا بآياتنا } [آل عمران: 11]؛ يعني: كل قوم من هؤلاء لما ستروا روحانيتهم بأستار ظلمات نفسانيتهم
عموا وصموا
[المائدة: 71]، فما شهدوا شواهد أنوارنا وما كاشفوا بحقائق أسرارنا فحرموا عن شهود آثار آياتنا، وإذا تليت عليهم { كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم } [آل عمران: 11]، وطردهم عن القرب وأبعدهم { والله شديد العقاب } [آل عمران: 11]؛ أي: شديد عقاب فراقه وبعده، أليم عذاب الحرمان عن جواره وقربه.
ثم أخبر عن حاصل أمرهم يوم حشرهم بقوله تعالى: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [آل عمران: 12]، إشارة في الآية: إن المبتلي بالكفر مغلوب حكم الأزلي بالشقاوة؛ لقوله:
غلبت علينا شقوتنا
[المؤمنون: 106]، ثم الهدى والنفس والشيطان ولذة الدنيا، فغلبات الهوى والنفس ترد إلى أسفل سافلين الطبيعة فيعيش فيها، ثم يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه في قعر { جهنم وبئس المهاد } [آل عمران: 12]، ومعاده وأنه مهده في معاشه.
[3.13-17]
ثم أخبر عن برهان ما ادعى من الأمر فيما غلبوا يوم بدر بقوله تعالى: { ثم قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله } [آل عمران: 13]، إشارة في الآية: إن الله تعالى { فئتين } [آل عمران: 13]، في الظاهر من المؤمن والكافر، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته الحميدة، { وأخرى كافرة } [آل عمران: 13]؛ وهي النفس الأمارة بالسوء وصفاتها الذميمة، ولهم الحرب والالتقاء على الدوام؛ وهو الجهاد الأكبر، فتارة يؤيد الله تعالى فئة القلب بالنصر ويريهم في أعين فئة النفس كثير، { يرونهم مثليهم رأي العين } [آل عمران: 13]، وتارة يؤيد فئة النفس بالنصر فيريهم في أعين فئة القلب كثيرا، { يرونهم مثليهم رأي العين } [آل عمران: 13]، فيولون وينهزمون، { والله يؤيد بنصره من يشآء } [آل عمران: 13]، من القلب وجنوده وهم: الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة، ومن النفس وأعوانها وهم: الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين و { آية في فئتين التقتا } [آل عمران: 13]، أن لو كان المنصور فيه القلب والمغلوب فيه النفس،
سيهزم الجمع ويولون الدبر
[القمر: 45]، لا ترى النفس في فئتها إلا قليلا، ينهزم الشيطان والدنيا والهوى فلا يبقى مع النفس من جنودها وأعوانها، إلا بعض أوصافها، فينظرون إلى جنود القلب مجتمعين تائبين يقاتلون في سبيل الله،
كأنهم بنيان مرصوص
[الصف: 4]، { يرونهم مثليهم رأي العين } [آل عمران: 13]، ولو كان المنصور فئة النفس والمغلوب فئة القلب، لا يرى القلب من فئة إلا قليلا من أوصافه، فينظرون إلى أعوان النفس، { يرونهم مثليهم رأي العين } [آل عمران: 13]؛ لأن الهوى والدنيا والشياطين أوصاف النفس، { يرونهم مثليهم رأي العين } [آل عمران: 13]؛ لأن الهوى والدنيا والشياطين أوصاف النفس مجتمعون ثابتون مع النفس في قتال القلب، إن الله تعالى وقضائه
ولو شآء الله ما اقتتلوا
[البقرة: 253] وفق المشيئة
ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة: 253]، { إن في ذلك لعبرة } [آل عمران: 13]، من رؤية الحق في الأحكام الأزلية وأجزائها على وفق المشيئة { لأولي الأبصار } [آل عمران: 13]، المؤيدة بصائرهم بأنوار
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53].
ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله تعالى: { زين للناس حب الشهوات من النساء } [آل عمران: 14]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى خلق الخلق على طبقات ثلاث:
عوام وهم: أرباب النفوس، والغالب عليهم الهوى والشهوات، والخواص وهم: أرباب القلوب، والغالب عليهم الهدى والتقوى، وخواص الخواص وهم: أرباب القلوب عليهم المحبة والشوق، وإن الله تعالى يذكر كل صنف منهم باسم يناسب أحوالهم، فيذكر العوام باسم الناس، كقوله تعالى:
يأيها الناس
[الحجرات: 13]، وقوله تعالى: { زين للناس } [آل عمران: 14]، والناس مشتق من النسيان، ويذكر الخواص باسم المؤمن
يأيها الذين آمنوا
[آل عمران: 100]، وقوله تعالى: والمؤمنون
والمؤمنون كل آمن بالله
[البقرة: 285]، ويذكر خواص الخواص باسم الولي، كقوله تعالى:
ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62].
ثم شرح أحوال العوام المردودين إلى أسفل دركات البعد، المطرودين من أعلى الدرجات القرب بقوله تعالى: { للناس حب الشهوات... } [آل عمران: 14]، الآية.
ثم اعلم أن لجهنم سبع دركات محفوفة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" حفت النار بالشهوات "
، والشهوات سبع لكل دركة شهوة، فإذا ابتلي المرء بشهوة منها يكون من أهل دركة منها، والشهوات السبع ما عده الله تعالى في هذه الآية، إشارة بكل واحد منها إلى شهوة بقوله تعالى: { من النساء } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الفرج، { والبنين } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد، { والقناطير المقنطرة من الذهب } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الحرص على جميع المال، { والفضة } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الزينة بالحلي والأواني المتخذة منها، { والخيل المسومة } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الجاه والرفعة بالركوب عليها، { والأنعام } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الخيلاء بالتمايل بها، { والحرث } [آل عمران: 14]، وهي شهوة الحكم والأوامر والنواهي على الرعايا، فهذه سبع شهوات خفت سبع دركات النار بها، { ذلك متاع الحياة الدنيا [آل عمران: 14]؛ يعني: متمتعان أهل الدنيا الذين يأكلون الدنيا
كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم
[محمد: 12].
ثم شرح أحوال الخواص وخواصهم المقبولين بقبول العناية المجذوبين عن شهوات نفوسهم، والطبائع الحيوانية بجذبات الهداية الربانية والولاية بقوله تعالى: { والله عنده حسن المآب } [آل عمران: 14]، { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [آل عمران: 15]؛ يعني: قل لأرباب النفوس المتمتعين بالحياة الفانية أنبتكم بخير من ذلكم مما أنتم فيه { للذين اتقوا } [آل عمران: 15]، حذروا واحترزوا من الشهوات والشبهات وما يشغلهم من الله تعالى؛ وهم الخواص { عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله } [آل عمران: 15]، فكما أن لأرباب النفوس، فعصيان الشهوات النفسانية سوء حظ من دركات الجحيم عاجلا، ثم يصلونها عاجلا، كما قال تعالى:
وإن الفجار لفي جحيم
[الأنفطار: 14]؛ يعني: الآن عاجلا،
وما هم عنها بغآئبين
[الانفطار: 16] اليوم، فكذلك لأرباب القلوب بغلبات الأخلاق الروحانية حسن حظ من درجات الجنات ونعيمها عاجلا، ثم يدخلونها أجلا، كما قال تعالى:
إن الأبرار لفي نعيم
[المطففين: 22]؛ يعني: الآن عاجلا النعيم الذي يتمتعون به أرباب القلوب ثمانية، وقد ذكرها الله تعالى في الآيتين وما بعدها وهي الإيمان بقوله تعالى: { ربنآ إننآ آمنا } [آل عمران: 16]، والتقوى؛ لقوله تعالى: { والصادقين } [آل عمران: 17]، والطاعة؛ لقوله تعالى: { والقانتين } [آل عمران: 17]؛ أي: المطيعين، والإنفاق في طاعة الله؛ لقوله تعالى: { والمنفقين } [آل عمران: 17]، والاستغفار بقوله تعالى: { والمستغفرين بالأسحار } [آل عمران: 17]، والرضاء بالقضاء بقوله تعالى:
ورضوان من الله
[التوبة: 72]، هذه جنات في قلوب الخواص { تجري من تحتها الأنهار } [آل عمران: 15]، الألطاف واردات ترد على القلوب، فيسقي بها جنات الأخلاق الجنات { وأزواج } [آل عمران: 15]، من نظرات الحق، { مطهرة } [آل عمران: 15]، من الحدوث من كل حدث، كما قال تعالى:
وسقاهم ربهم شرابا طهورا
[الإنسان: 21]، فمن تلك الأزواج المطهرة تتولد الأخلاق المطهرة.
ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص، مستورة من نظر الخواص محفوظة من فهم العوام؛ لقوله تعالى: { والله عنده حسن المآب } [آل عمران: 14]؛ يعني: لأرباب الأرواح جذبهم عنهم بجذبات المحبة، فما استحلوا لهم الدنيا ليسكنوا فيها، كما قال تعالى:
الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب
[الشورى: 13]، قال تعالى:
فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا
[النبأ: 39]، { والله بصير بالعباد } [آل عمران: 15]؛ أي: بعوامهم ومثواهم، وخواصهم ومآبهم، وخواص خواصهم ومآبهم، ورجعتم كما قال تعالى:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق: 8]، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن أقوالهم من نتائج أحوال بقوله تعالى: { الذين يقولون ربنآ إننآ آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } [آل عمران: 16]، إشارة في الآيتين: إن { الذين يقولون ربنآ إننآ آمنا } [آل عمران: 16]، ما هم من
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
[آل عمران: 167] بل إنما هم من
الذين قالوا ربنا
[فصلت: 30] بأفواههم،
ثم استقاموا
[فصلت: 30]، بقلوبهم على الإيمان، { الصابرين } [آل عمران: 17]، على حقوق الإيمان وعن حظوظ الإنسان، { والصادقين } [آل عمران: 17]، بصدق اللسان والأركان والجنان، { والقانتين } [آل عمران: 17]، لله وبالله في كل زمان ومكان، { والمنفقين } [آل عمران: 17]، من وجودهم في الله بقدر الإمكان { والمستغفرين بالأسحار } [آل عمران: 17]، عما كان منهم كيفما كان، { فاغفر لنا ذنوبنا } [آل عمران: 16]،، فأغفر بك عنا ذنوبنا { وقنا عذاب النار } [آل عمران: 16]، إنابتنا الصابرين بك عنا، { والصادقين } [آل عمران: 17]، فيك { والقانتين } [آل عمران: 17]، لك بك { والمنفقين } [آل عمران: 17]، منا عليك، { والمستغفرين بالأسحار } [آل عمران: 17]، عنا عنك.
[3.18-22]
ثم أخبر عن حقيقة الشهادة أنها له، ولنا العبادة بقوله تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط } [آل عمران: 18]، إشارة في الآية: إن الشهادة الحقيقية؛ هي شهادة الله بكلامه الأزلي، إنه الحق عن علمه [الأزلي] على ذاته الأحدي وكونه الصمدي، { أنه لا إله إلا هو } [آل عمران: 18]، وهي شهادة الحق وبالحق أنه الحق، وهو منفرد بهذه الشهادة الأزلية لا يشاركه فيها أحد، وكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات؛ فشهادته لا تشابه الشهادات، إنه سبحانه شهد بجلال قدره على كمال عزه، حين لا حين، ولا عقل ولا جهل، ولا كفر ولا شرك، ولا عرش ولا فرش، ولا جنة ولا نار، ولا الإنس ولا الملائكة، ولا أولوا العلم ولا الإنكار ولا الإقرار، فأول من شهد على أنه الله؛ هو الله حين لم يكن إلا الله، فأخبر بالذي كان كما كان؛ وهو { أنه لا إله إلا هو } [آل عمران: 18]، ثم أبدع الموجودات واخترع المخترعات كما شاء لما شاء، ففطر العقول مجرة على أنه واحد عزيز، ما جد بإخباره إياها، وخلق الذوات شاهدات على ربوبيته بإشهاده إياها، وكل جزء من جميع ما فطر وخلق على ما شاء من الأعيان والأعراض [أظهر] وأنطق فهو بوجوده مفصح، ولربوبيته موضح، وعلى قدرته شاهد، ولكن منبع ماء التوحيد؛ هو القدم، فجرى في ينبوع العدم في مجاري أنها المحدثات إلى ظهر من عيون والملائكة وأولوا العلم، فإن الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد، كما أن أولوا العلم ولكن اختص أولوا العلم منهم بمشربه،
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
[الفتح: 26].
شيء خصصت به من دونهم وحدي
لي سكرتان وللندمان واحدة
فحقيقة معنى الآية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط } [آل عمران: 18]، على أمور عباده حتى شهد على شهادة الملائكة وأولوا العلم، ثم فائدة التكرار بقوله تعالى: { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } [آل عمران: 18]، { إن الدين عند الله الإسلام } [آل عمران: 19]، عائدة إلى أولوا العلم، الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهر ماء التوحيد بالشهادة، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة { لا إله إلا هو العزيز } [آل عمران: 18]، الذي لا يشاهد عزته إلا عزته، الذي أغرهم بهذه العزة من بين البرية، { الحكيم } [آل عمران: 18]، الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من بين الخليقة.
ثم أخبر عن عزة اختلاف أهل العلم بحكمته بقوله تعالى: { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءهم العلم } [آل عمران: 19]، إشارة في تحقيق الآية: إن اختلاف عالم الصورة من النتائج التناكر في عالم الأرواح، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف "
، فالأرواح تلاقي بعضها بعضا عند تشاهد الأشخاص، فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدبرهم في المنزل اختلف، فإذا كان الاختلاف من ذلك التناكر
لو أنفقت ما في الأرض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم
[الأنفال: 63]، وإن كان اختلاف بأسباب حادثة في الظاهر، وذلك التعارف الأصلي ثابت في الباطن، فإذا التقى الشخصان نظر كل واحد منهما إلى سيما الآخر، فتعرف روحه روح الآخر، والقلوب تشاهد فتأتلف، كما كان حال أويس القرني - رضي الله عنه - لما رأى هرم بن حيان فقال: السلام عليك يا هرم، فقال: كيف عرفتني؟ فقال: عرفت روحي روحك، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
تعرفهم بسيماهم
[البقرة: 273]، فظهر أن الاختلاف من تناكر الأرواح، فلما كان بين الأرواح المؤمنين تعارف روحاني، ناصرهم العداوة الجسمانية الحادثة؛ كقوله تعالى: { إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم } [آل عمران: 19]، إشارة إلى: إن العلم مظنة الحسد.
واعلم أن حسد أهل العلم قسمان: مذموم ومحمود، وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه مالا فسلطه على هلكته في حق، ورجل أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها "
، متفق على صحته، رواه ابن مسعود رضي الله عنه، فالمراد من الحسد هاهنا: الغبطة أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما لأخيه فيعمل به مثل ما يعمل أخوه، فهذا النوع من الحسد محمود، والمذموم: أن يتمنى الرجل ما لأخيه وعلمه لنفسه وزوالها لأخيه، { ومن يكفر بآيات الله } [آل عمران: 19]، بكتاب الله تعالى ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم، والبراهين الواضحة والدلائل اللائحة بالحد، وطلب الجاه والرفعة في الدنيا وعلو المرتبة على الإخوان، { فإن الله سريع الحساب } [آل عمران: 19]؛ أي: يحاسبه بالعقاب سريعا في الدنيا عاجلا بأن يعاقبه بقسوة القلب وسواده، والبعد عن الحق ونسيانه واستيلاء الشيطان وسلطانه، واستيلاء الدنيا والحرص عليها، ومتابعة النفس وهواها، وآجلا: بأن يعذبه بعذاب الحجاب وشدة العقاب.
ثم أخبر عن شرط الإسلام إنه التسليم، وليس على النبي صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ والتعليم بقوله تعالى: { فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله } [آل عمران: 20]، إشارة في الآية: إن حقيقة الإسلام والدين هو الاستسلام بكلية الوجود إلى الله تعالى، راضيا بقضائه صابرا على بلائه، شاكرا للنعماء به، منقادا لأوامره، منزجرا لنواهيه، محكوما لأحكامه الأزلية، مريدا لإرادته القديمة، مفوضا إليه أمر الدنيوية والأخروية، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه، { فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } [آل عمران: 20]، ولا يصلح الاستسلام والمتابعة للعبد إلا بهذا الشرط، بهذا يصح الإقتداء وعلى هذا يكون الاهتداء، كما قال تعالى: { وقل للذين أوتوا الكتب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا } [آل عمران: 20]، بهذا الشرائط { فقد اهتدوا وإن تولوا } [آل عمران: 20]، عن هذه الشرائط { فإنما عليك البلغ } [آل عمران: 20]؛ أي: عليك التبليغ بهذه المعاني والشرائط إلى قلوبهم
بالحكمة والموعظة الحسنة
[النحل: 125]، وتصرفات النبوة ظاهرا وباطنا { والله بصير بالعباد } [آل عمران: 20]، من يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيجد له في الضلالة.
ثم أخبر عن غاية جهالة أهل الضلالة بقوله تعالى: { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21]، الإشارة في الآيتين: إن لقلب الإنسان في إبطال استعداد قبول فيض الحق مراتب منها: بالحجبة من الفيض، فإذا زال الحجاب رجع إلى صفاته؛ وهو المعاصي يحجب القلب عن الفيض: كالسحاب تحجب الأرض عن فيض الشمس، فإذا أزال السحاب رجع الفيض، كذلك إذا زال الحجاب المعاصي عن القلب بالتوبة، رجع إليه فيض الحق، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" التائب من الذنب كمن لا ذنب له "
، ومنها: ما يزيل صفاء القلب فيخرجه عن قبول الفيض: كالصداء مع المراتب؛ وهو: الكفر والشرك، فيحتاج في إزالة صداع الكفر إلى مصقل كلمة التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" الإسلام يمحو ما قبله "
، ومنها: ما يحتل بالاستعداد الأصلي في قبول الفيض ويوجب الحرمان: كالمرآت المنقطعة بطل استعدادها في قبول العكس، إلا أن يطيع مرة أخرى ويضع كما كانا، فكذلك القلب إذا أبطل استعداده لا يقبل الفيض إلا أن تداركه العناية الأزلية سابق المشيئة؛ وهو
النفس التي حرم الله إلا بالحق
[الإسراء: 33]، كما قال تعالى:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خلدا فيها
[النساء: 93]، فقتل النفس بغير الحق وإن كان عظيما عند الله، والقاتل كما أبطل بنيان شخص المقتول وهدمه فقد أبطل استعداد الكمالية عن نفسه، ولكنه قابل ليتدارك بمشيئة الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ
فجزآؤه جهنم خلدا فيها
[النساء: 93]، قال: " إن جازاه "؛ يعني: جزاؤه الخلود إن شاء أن يجازيه فيخرجه، ومنها: ما يبطل الاستعداد الأصلي بالكلية فلا يقبل التدارك بمشيئته كما حكم في الأزل،
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23]، وهو قتل الأنبياء - عليهم السلام - كما قال تعالى: { أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } [آل عمران: 22]؛ أي: كل عمل روحاني حصل منهم في الباطل على وجه الاستكمال، { وما لهم من ناصرين } [آل عمران: 22]؛ يعني: ليس من سنة الله أن ينصر من أبطل استعداده بالكلية بمثل هذا المعاملات في الدنيا والآخرة، في أصل الأمر إذ الإنسان خلق مستعدا؛ لقبول فيض أحدى الصفتين، إنما يكون بمعاملات الظاهر والباطن على وفق متابعة الأنبياء في قبول فيض اللطف بأن يغذي نفسه في متابعة الأنبياء؛ ليكون من خير البرية، ونقصان الإنسان في قبول فيض القهر بأن يقتل الأنبياء؛ ليكون شر البرية، ولهذا الاختصاص في قبول كمال القهر، أن لا يقبل توبة في الدنيا والآخرة، ويحتمل أن يرجى لإبليس النجاة ولا يرجى له أبد الآبدين.
[3.23-27]
ثم أخبر عن غرور أهل الغفلة والفتور بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } [آل عمران: 23]، { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } [آل عمران: 24]، إشارة في الآيات: إن من أوتي نصيبا إذا ادعي إلى حكم من أحكام الله، أو يدعي إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى، وشيء من الورع والتقوى والقربة إلى المولى، كما أنزل في كتاب الله أخذته الأنفة، ودعته العزة أن يقبل الحق وينقاد له، ويثقل عليه الأسماع ويعرض في الاتباع، فهو مغرور في الدنيا بما يفتري الشيطان ويغويه، وتمنيه الأنفس وتستهويه.
{ فكيف إذا جمعناهم } [آل عمران: 25]، حال المغرور إذا جمعهم الله { ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت } [آل عمران: 25]، في مزرعة الدنيا من الدرجات العلا والدركات السفلي، { وهم لا يظلمون } [آل عمران: 25]، بأن ينزل أهل الدرجات في الدركات، وأهل الدركات في الدرجات؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وإنما خص { الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } [آل عمران: 23] هذا الاختصاص؛ لأن أكثر ما أدنى نصيبا من العلم الظاهر ولم يؤت نصيبا من العلم الباطن؛ فإنهم أهل العزة بالله بالظاهر، ويغفلون عن الأحوال الباطنة، فيستولي الشيطان على بواطنهم، ويزين لهم الدنيا وشهواتها وشكرهم بلذاتها ورفعة الدرجات، فتهلكهم في واد من أوديتها.
ثم أخبر عن كمال عنايته مع أهل ولايته بقوله تعالى: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء } [آل عمران: 26]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى هو الملك في الحقيقة، ولا ملك ولا ملك إلا له؛ لأنه ملك له ملك العدم والوجود بالمالكية فإنه كان مالكا، ولم يكن معه وجود ولا عدم فأبدع بالملكية، فإنه ملك الوجود في مراتب شتى:
فمنها: وجود قابل الفناء والعدم؛ وهو عالم الكون والفساد، ومنها: وجود قابل البقاء غير فان ولا عادم؛ وهو عالم يقبل الكون ولا يقبل الفساد، فكان مالك ملك الوجود والعدم بالمالكية؛ لإبداعه، فقوله: { تؤتي الملك من تشآء } [آل عمران: 26]؛ يعني: تؤتي ملك الوجود الباقي الذي لا يقبل الفناء { من تشآء } [آل عمران: 26]؛ يعني: الملكية والإنسان، فإن شخص الإنسان قابل للفناء، ولكن روحه لا تقبل الفناء: كالملائكة وعالم الأرواح والملكوت؛ وهو عالم الآخرة، { وتنزع الملك ممن تشآء } [آل عمران: 26]؛ يعني: تنزع ملك الوجود الباقي ممن تشاء من الحيوانات وعالم الكون والفساد.
{ وتعز من تشآء } [آل عمران: 26]؛ يعني: تعز بعزة الوجود الحقيقي، الذي لا يقبل الكون والفساد من تشاء من الأنبياء والأولياء، دليله قوله تعالى:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون: 8]، فافهم جيدا.
{ وتذل من تشآء } [آل عمران: 26]؛ يعني: تذل بذل الغضب والسحت من تشاء من الكافرين والمنافقين، بأن تبطل استعدادهم عن قبول فيض الوجود الحقيقي، دليله قوله تعالى:
وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءو بغضب من الله...
[البقرة: 61]، وفي قوله تعالى: { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } [آل عمران: 26]، تضمير الدعاء؛ يعني: اللهم مالك الملك تؤتي من تشاء أنت الذي بيدك الخير كله، فآتني الملك فيمن تشاء أن تؤتيه، وأعزني فيمن تشاء أن تعزه، إنك على شيء من الإيتاء والمنع والإعزاز والإذلال قدير.
وقوله: { تولج الليل في النهار } [آل عمران: 27]؛ أي: تولج ظلمانية البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية، { وتولج النهار في الليل } [آل عمران: 27]، أنوار الروحانية في ظلمات الصفات النفسانية، { وتخرج } [آل عمران: 27] القلب { الحي } [آل عمران: 27]، بالحياة الحقيقية { من } [آل عمران: 27]، النفس { الميت وتخرج } [آل عمران: 27]، القلب { الميت } [آل عمران: 27]، عن الحياة الحقيقية { من } [آل عمران: 27]، النفس { الحي } [آل عمران: 27]، بالحياة المجازية الحيوانية { وترزق من تشآء بغير حساب } [آل عمران: 27]؛ أي: ترزقه من عالم الجود الحقيقي من النفس الميت، وتخرج الذي هو غير متناه، ولا يدخل تحت العدد والحساب.
[3.28-32]
ثم أخبر عن أهل العناية من حافظي الولاية بقوله تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } [آل عمران: 28]، الإشارة في الآيتين: لا يتخذ المؤمنون الكافرون { أوليآء من دون المؤمنين } [آل عمران: 28]؛ أي: من إمارة الإيمان أن لا يمكن للمؤمن من سؤالات الكفار ومودتهم؛ لأنهم أوثق عدوى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وإن مودة الكفار وموالاتهم كفر، كما أن الرضاء بالكفر كفر، والضدان لا يجتمعان، فلا يجتمع في قلب المؤمن حب الله ورسوله والمؤمنين وحب الكافرين أبدا؛ لقوله تعالى: { ومن يفعل ذلك } [آل عمران: 28]؛ يعني: من يتخذ الكافرين أولياء { فليس من الله في شيء } [آل عمران: 28]؛ أي: من محبة الله في شيء، وفيه إشارة أخرى: إن القلب المؤمن؛ هو الذي لا يتخذ الكافرين من النفس الأمارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين، من الروح والسر وصفاتهما، { ومن يفعل ذلك } [آل عمران: 28]، قلب من القلوب؛ فليس ذلك القلب من الله من أنواره وألطافه ومواهبه ونظر عنايته ورحمته في شيء، { إلا أن تتقوا منهم تقة } [آل عمران: 28]؛ يعني: إلا أن تخافوا من هلاك النفوس؛ هي مركب الروح، فرجوعها إلى الحضرة الربوبية تسير إلى الحق فيواسيها ويداريها؛ لئلا يعجز عن السير في الرجوع ويهلك في الطريق من كثرة معادات القلب ومخالفة هواها وشدة ارتياحها، { ويحذركم الله نفسه } [آل عمران: 28]؛ أي: ذاته، والمراد منه: صفات قهره؛ لأن ذاته تعالى موصوف بصفات اللطف وصفات القهر، والتحذير لا يكون إلا من صفات القهر، والإشارة فيها: إن موالاة النفس معاداة الحق، فمن كان حاله معاداة الحق فلا بد من المصير إليه، ففي يوم يكون { وإلى الله المصير } [آل عمران: 28]، لا خفي من الله إلا القهر والعداوات، ولا يخطئ منه إلا بعذاب البعد وعقاب الهجران.
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم } [آل عمران: 29]، من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس بدعوى الإيمان والإسلام وسلام محبته، { أو تبدوه } [آل عمران: 29]، بمخالفات أوامره ونواهيه، وموافقات دواعي النفس وشهواتها ومتابعة هواها، { يعلمه الله } [آل عمران: 29]، بالقليل والكثير، والنفير والقطمير، { ويعلم ما في السموت } [آل عمران: 29]، قلوبكم من موالاة النفس ومعاداة الحق { وما في الأرض والله على كل شيء قدير } [آل عمران: 29]، نفوسكم من مخالفات الحق وموافقات الهوى، فيجازيكم على قدر الموالاة والمعاداة بقوله تعالى: { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } [آل عمران: 30]، إشارة في الآية: إن يوم القيامة { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } [آل عمران: 30]، أثره في ذاتها وصفاتها، وكذلك ما عملت من شر، وذلك الأشر كان معها في الدنيا محضرا، ولكن نظر النفس كان محجوبا بحجاب الغفلة، لم تكن تجده محضرا معها، فإذا كشف عنه الحجاب تجده حاضرا معها، كما قال تعالى:
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق: 22]، وقال تعالى:
ووجدوا ما عملوا حاضرا
[الكهف: 49]، فمن عمل اليوم خيرا يؤثر نور ذلك الخير في قلبه فيض وجه قلبه، ومن عمل شرا يؤثر ظلمة ذلك الشر في قلبه فيسود وجهه؛
في غفلة من هذا
[ق: 22]، فيكون وجوه أهل الخير بلون قلوبهم، كما قال تعالى:
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
[آل عمران: 106]، وجوه أهل الشر تكون بلون قلوبهم، كما قال تعالى:
وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
[آل عمران: 106]، فإن حية الكفر لدغتهم وهم في غفلة الناس نيام، فلم يذوقوا عذابها، فلما ماتوا انتبهوا، قيل لهم:
فذوقوا العذاب
[آل عمران: 106]، لعلك تنتبه { ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } [آل عمران: 30]، فمن رأفته مع عباده يحذرهم نفسه؛ أي: يحذرهم أعمالا وأحوالا تمنعهم عن الوصول إليه، وينذرهم إكراما عن رأفته المخصوصة بعباده الواصلين إليه.
ثم أخبر عن طريق الوصول أنه متابعة الرسول بقوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31]، والسر فيه: إن المؤمن من يكون أشد حبا لله عما سواه، والحب على قدر محبته يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قدر إتباع المحبة يحبه الله؛ يعني: فالإتباع ثلاث درجات، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الإتباع ثلاث درجات:
فأما درجات الاتباع الأولى: درجة العوام المؤمنين؛ وهي متابعة أفعاله صلى الله عليه وسلم، والثانية: خواص المؤمنين؛ وهي متابعة أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
والثالثة: أخص الخواص؛ وهي متابعة أحواله صلى الله عليه وسلم.
أما درجات محبة المحب:
فالأولى: محبة العوام؛ وهي مطالعة المنة من رؤية الحسان المحسن، كقوله صلى الله عليه وسلم:
" جبلت القلوب على حب من أحسن إليها "
، وهذا حب يتغير بتغير الإحسان، وهو من باب الأفعال المتابع الأعمال؛ وهم يطمعون أجرا على ما يحتملون من نتائج الحب، قال أبو الطيب ثم أخبر:
ضعيف الهوى يرجى عليه ثواب
وما أنا بالباغي على الحب رشوة
والثانية: محبة الخواص؛ وهي محبة تنشأ من مطالعة شواهد الكمال عند تجلي صفات الجلال والجمال، وهذه محبة المقربين يحبون إعظاما وإجلالا له؛ لاطلاعهم على كمال جماله وعظمة صفات كماله وهذا حب التعظيم والإجلال لوجه الله تعالى، فذلك هو الباقي على الأبد لبقاء الصفات على السرمد، ويزيد بازدياد المعرفة، قالت رابعة العدوية:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
وهذه المحبة هي التي تبعث على إيثار الحق تعالى على غيره، لما يتجلى له من معاني صفات في مدارج آياته؛ وهي لنبع أخلاقه صلى الله عليه وسلم فيضبط هذا المحب في هذه الدرجة إلى إطراح ذكر غير الله عن قلبه، متقلبا بين النظر إلى جماله مرة وإلى جلاله أخرى، لهجا بلسانه بذكره موقوفة أعضاؤه على تعبده إجلالا وإعظاما، سأعبد الله لا أرجوا توبة لكن تعبد إعظام وإجلال.
والثالثة: محبة أخص الخواص؛ وهي غاية القصوى للعبد ولا غاية لها، وهي محبة حافظة تقطع العبارة وترفق الإشارة ولا تنتهي بالنعوت، وهذا بخلاف المحبين الأولين إذ ليست هذه منشأة عن رؤية النعم والإحسان التي من باب الأفعال، ولا من رؤية الصفات من الجمال والجلال؛ بل جذبة من جذبات الحق المنشأة من المحبة القديمة في سر " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق؛ لأعرف " ، وأهل هذه المحبة هم: المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية، كما قال تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
[الأنبياء: 101]، وقد سمي الله تعالى محبته لهم في الأزل بلا علة بالحسنى منه في حقهم، وقال مخبرا عن محبته الأزلية لهم:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، إشارة منهم إلى: إنهم ما أحبوه حتى أحبهم هو أزلا، فمحبتهم له لمحبته لهم، وذلك أن محبته لهم في الأزل من غير علة، فلما استخرجهم من ظهر آدم تجلت محبته على قلوبهم، فجذبتها عنهم إليه وأفنتهم عن أنفسهم، فدخلوا الدنيا على ترك الصفة.
قال بعضهم: غذينا بالمحبة يوم قالت له الدنيا:
أتينا طآئعين
[فصلت: 11].
وحقيقة المحبة: أن تفني المحب بسطوتها وتبقي المحبة منه بلا هو، كما أن النار تنقي الحطب بسطوتها وتبقى النار بلا هو، فإن المحبة نار
لا تبقي ولا تذر
[المدثر: 28]، وأما درجات محبة الله للعبد؛ فاعلم: أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها، وإن اتفقت في أسماء صفات خلقه فلا يشبه حقيقتها أوصاف الخلق البتة، حتى الوجود الذي يعم الخلق والمخلوق جميعا وذلك؛ لأن الوجود الخلق عن عدم ووجود الخالق واجب لنفسه، ووجود كل ما سواه [مستمد] منه، ومن وفق النظر على أن ليس في الكون إلا الله وأفعاله حسنة وكأنه ليس في الوجود شيء ثابت إلا هو وحده، قرأ القارئ بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير - رحمه الله - قوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، فقال: بحق يحبهم؛ لأنه لا يحب إلا نفسه؛ على معنى أن ليس في الكون إلا هو وما سواه فهو من صنعه، والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه فإذا لا تتجاوز المحبة نفسه قائمة بنفسها، وما سواه قائم به فهو لا يحب إلا نفسه، فإذا عرفت هذا فاعلم أن محبة الله تعالى للخلق عائدة إليه حقيقة، إلا أنه كان قمرها على الخلق فيجب تعلقها بالعام والخاص، وأخضر أنبت لكل صنف منهم سعادة يخطى بها عند مرورها عليه، إلا أن تنتهي إلى محلها الذي صدرت منه، فيكون المحبة والمحب والمحبوب، واحدا فصدرت المحبة عن محل " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فمررت على فخلقت الخلق؛ لأعرف " ، فما تعلقت إلا بأهل المعرفة؛ وهم المخصوصون بالأنعام، كما قال تعالى:
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء...
[النساء: 69]، فتعلقت بالعام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال، فقيل لهم: { فاتبعوني } [آل عمران: 31]، بالأعمال الصالحة { يحببكم الله } [آل عمران: 31]، يخصصكم الله بالرحمة { ويغفر لكم ذنوبكم } [آل عمران: 31]، التي صدرت منكم على خلاف المتابعة { والله غفور } [آل عمران: 31]، لمن أطاعه { رحيم } [آل عمران: 31]، لمن يعصيه، وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق، فقيل: { فاتبعوني } [آل عمران: 31]، بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل، يخفيكم بتجلي صفات الجمال والكمال، { ويغفر لكم ذنوبكم } [آل عمران: 31]، يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته، { والله غفور رحيم } [آل عمران: 31]، ستور بصفاته صفات أهل رحمة، وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات الإلهية ومشربهم الأحوال، فقيل لهم: { فاتبعوني } [آل عمران: 31]، ببذل الوجود ويحييكم الله بجذبات المحبة الأزلية، يخصكم بتجلي صفات الجلال، ويجذبكم عنكم به الله، { ويغفر لكم ذنوبكم } [آل عمران: 31]، ويستر بجوده ذنوب وجودكم، فينجوكم عنكم ويثبتكم به، كما قال:
" فإذا أحببته، كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا، بي يسمع وبي يبصر، وبي يتعلق وبي يبطش "
، ويكون العبد في هذا المقام مرآة كمال لطفه وقهره، فكما أن الرائي في المرآة يشاهد صفاته بصفاته وذاته بذاته، فيكون الرائي والرؤية والمرئي واحد، فكذلك يكون في هذا المقام المحب والمحبة والمحبوب واحد، والعارف والمعرفة والمعروف واحد، فهو المحب العارف والمحبوب المعروفة؛ أي: الذي أحب أن يعرف فأحب نفسه بمحبته، وعرف نفسه بمعرفته، { والله غفور رحيم } [آل عمران: 31]، ستور صدا مرآة المحبين والعارفين برحمته، فمن نظر به جمال صفاته و[من شهد] به جلال ذاته،
في كل واد يهيمون
[الشعراء: 225]، وكل بارقة يسيمون تدور رحى الحزن على دموعهم، وتفور نار الشوق بين ضلوعهم، فضلوا عن أنفسهم ببقاء المحبوب، وفقدوا طلبهم بوجدان المطلوب، فهم بين روض المحو وغدير الإثبات أموات غير أحياء، أحياء غير أموات، فطورا يرونه فيطربون عند الكشف والتجلي، وتارة يخشونه فيهربون عند الحجب والستر، فكيف الطرب ولا مطرب؟ إلى أين الهرب ولا مهرب؟
{ قل أطيعوا الله والرسول } [آل عمران: 32]؛ ليكون مهربكم ومقربكم إلى الله في متابعة الرسول، فإن متابعة صورة جذبة الحق وصدق رد محبته لكم، { فإن تولوا } [آل عمران: 32] عن متابعة المحبوب { فإن الله لا يحب الكافرين } [آل عمران: 32]؛ يعني: لا يوجد ذرة محبة في صدق المخالفة، إلا في صدق المتابعة.
[3.33-37]
ثم أخبر عن أهل الاصطفاء للمحبة والولاء بقوله تعالى: { إن الله اصطفى ءادم ونوحا } [آل عمران: 33]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى خلق العالم على سبعة أنواع مختلفة: من الجمادات، والمعادن، والنبات، والحيوان، والنفوس، والعقول، والآرواح، مظهر لآياته وصفاته ثم اصطفى آدم { على العالمين } [آل عمران: 33]، وجمع فيه الأنواع المختلفة السبعة لما خصه باختصاص تأمن وهو تشريف إضافة،
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]؛ ليكون مظهر لجميع وجودي صفاته تبارك وتعالى إلى هذا أشار بقوله:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" إن الله خلق آدم على صورته "
أي: خلقه مرآة تظهر ذاته وصفاته فيه؛ لقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، وقال تعالى:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
[الذاريات: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن خلق آدم فتجلى فيه "
، ويشير في قوله تعالى: { إن الله اصطفى ءادم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [آل عمران: 33]، إلى خواص أولاد آدم عليه السلام الذين ثمرات شجرة الإنسانية، كما سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، من آلك فقال:
" آلي كل مؤمن تقي ونقي ".
قوله تعالى: { ذرية بعضها من بعض } [آل عمران: 34]؛ يعني: ورثة النبوة والعلم والدين يأخذ بعضها من بعض بالوراثة الدينية، كقوله تعالى:
يرثني ويرث من آل يعقوب
[مريم: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينار أولادهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر، والله أعلم ".
واعلم: أن العالم بما فيه كشجرة وثمرتها أهل المعرفة، فهم درة صدفة العالمين وخلاصة الكونين، وزبد اليقين، ولب قشر الوجود قلب شخص الموجود وستر: " فخلقت الخلق؛ لأعرف " { والله سميع } [آل عمران: 34] لدعائهم واستدعائهم { عليم } [آل عمران: 34]، بأحوالهم وخصالهم بهم يمطرون وبهم يرزقون.
ثم أخبر عن تحرير بنت عمران لرضاء الرحمن بقوله تعالى: { إذ قالت امرأت عمران } [آل عمران: 35]، إشارة في الآية: إن تعلم أن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات حركة، ولحركتها أسرارا لا يعلمها إلا الله، فبعضها يظهر بعضها لتغير فيه وتقيس الباقي عليه، مثل ما رأت حنة طائرا بطعم فرخا فتحركت لذلك نفسها للولد وهي عجوز، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولدا كما مر ذكره، فانظر ماذا خرج الله من الأسرار عن إطعام ذلك الطائر فرخه، وظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى - عليهما السلام - كقوله:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية
[المؤمنون: 50]، فأول الآية منها أن حنة حملت بمريم مع كبر سنها، ثم { قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } [آل عمران: 35]، فإن تحريها إياها ما كان إلا بإلهام رباني، قالت: { فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } [آل عمران: 35]، وما قالت فأقبل مني؛ لأن معنى القبول راجع إلى التحرير؛ أي: فاقبل مني تحريرا إياها وأعطني عليه الثواب؛ ومعنى التقبل راجع إلى المحرى؛ أي: تقبلها مني بأن تكفلها وتربيها تربية المحررين، بيانه قوله تعالى: { فتقبلها ربها } [آل عمران: 37]؛ أي: تقبل الله مريم أن يربيها، { إنك أنت السميع } [آل عمران: 35]، الذي يسمع دعاء المضطرين، وتحبيبهم العلم الذي يعلم ضمير الداعي قبل أن يدعوا به، ويعلم ما المحرر في بطنها ولا تعلم الحامل ما هو، ويعلم ما في بطن المحرر ما أودع من كلمة وروح منه، وهي لا تعلم.
{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتهآ } [آل عمران: 36]؛ أي: أردت أن يكون المولود ذكرا يصلح للتحرير، فكان أنثى على خلاف رؤيتي { أنثى } [آل عمران: 36]، فعاملها الله، { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } [آل عمران: 36]؛ فعاملها الله { فتقبلها ربها } [آل عمران: 37]، يعني مريم { بقبول حسن } [آل عمران: 37]؛ يعني: بقبول ذكر، وفيه معنى آخر؛ أي: تقبل الله مريم بدعاء حنة بقولها: { فتقبل مني } [آل عمران: 35]، ورباها تربية التقبل والتكفل، ثم قبلها بقبول حسن؛ يعني: أخرج منها مثل عيسى عليه السلام، ويحتمل أيضا أن يقال: { وأنبتها نباتا حسنا } [آل عمران: 37]؛ أي: أثبت لها نباتا حسنا؛ يعني: عيسى عليه السلام، دليله قوله تعالى:
والله أنبتكم من الأرض نباتا
[نوح: 17]؛ أي: أنبت لكم.
ثم أخبر عن آية أخرى من آياته الكبرى بقوله تعالى: { وكفلها زكريا } [آل عمران: 37]، إشارة في الآية: إن الله تعالى لما أراد أن يخرج عيسى عليه السلام من مريم بلا أب، فمن كمال حكمته جعل تكفل مريم إلى زكريا عليه السلام؛ لئلا يدخل عليها غيره، فيكون أبعد من التهمة عند الخلق، { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا } [آل عمران: 37]؛ إظهارا لكرامتها لديه لتكون بريئة عن التهمة عند زكريا، فيقول لها: { قال يمريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله } [آل عمران: 37]؛ أي: بأي سبب وطاقة وجدت هذه الكرامة؟ قالت: ليس هذا بسبب من عندي؛ بل هو فضل من عند الله، { إن الله يرزق من يشآء بغير حساب } [آل عمران: 37]، بغير سبب من الأسباب، وفيه معنى آخر، وجد عندها رزقا من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده، الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق، كقوله صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
، قال لي: { أنى لك هذا قالت هو من عند الله } [آل عمران: 37]، فإن من يبيت عند الله يكون رزقه من عند الله؛ يعني: مما عند الله من فيض ألطافه، وحسن إعطائه { إن الله يرزق من يشآء } [آل عمران: 37]، مريم { بغير حساب } [آل عمران: 37]، بما لم يكن في حسابها من ولد عيسى عليه السلام بلا أب، وفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء بلا شجرة، والعلوم اللدنية بلا واسطة، والمعجزات بلا نبوة، نظيره قوله تعالى:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب
[الطلاق: 2-3].
[3.38-39]
ثم أخبر عن آياته بعد أخرى من آياته الكبرى بقوله تعالى: { هنالك دعا زكريا ربه } [آل عمران: 38]، الإشارة في الآيتين: إن الله تعالى جعل بعض الأشياء سبب البعض، فكما أنه جعل إطعام الطائر فرخة، سبب تحريك قلب زكريا لطلب الولد، هنالك دعا زكريا ربه { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء } [آل عمران: 38]، والإشارة في قوله: { من لدنك } [آل عمران: 38]، إلى أن الأرواح التي هي جنود مجندة بعضها في الصف الأول؛ وهي أرواح الأنبياء - عليهم السلام - وخواص الأولياء ليس بينها وبين الله حجاب، وبعضها في الصف الثاني؛ وهي أرواح الأولياء وخواص المؤمنين، وبينها وبين الله حجاب الصف الأول، وبعضها في الصف الثالث؛ وهي أرواح المؤمنين وخواص المسلمين، وبينها وبين الله حجاب الصف الأول والصف الثاني، وبعضها في الصف الرابع؛ وهي أرواح المنافقين من مدعي الإسلام والكفار والمشركين، فقوله: { رب هب لي من لدنك } [آل عمران: 38]؛ أي: من الصف الأول الذي لا واسطة بينه وبينك، { ذرية طيبة } [آل عمران: 38]؛ أي: ولدا يكون روحه من أهل الصف الأول مطهرا من آل يعقوب عليه السلام؛ يعني: النبوة كم وهبت لحنة مريم ولمريم رزق الجنة { إنك سميع الدعآء } [آل عمران: 38]؛ أي: مجيب الدعاء، كما أجبت دعاء حنة.
{ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي } [آل عمران: 39]، سائرة سره في الملكوت، فسمع نداء الملائكة وهو محارب نفسه وهواه { في المحراب أن الله يبشرك بيحيى } [آل عمران: 39]؛ أي: بغلام اسمه يحيى، وإنما سمي يحيى؛ لأنه منذ خلق ما ابتلي بالمعصية؛ لئلا يموت القلب بالمعاصي كما مر ذكره، الحديث أنه ما هم بمعصية قط ولا بموت الصورة؛ لأنه استشهد والشهداء لا يموتون
بل أحياء عند ربهم يرزقون
[آل عمران: 169]، فهو حي يحيى في حال الدنيوي والاستقبال الأخروي { مصدقا بكلمة من الله } [آل عمران: 39]؛ وهي قوله:
ييحيى خذ الكتاب بقوة
[مريم: 12]، { وسيدا } [آل عمران: 39]؛ أي: حرا من رق الكونين، بل سيدا لرفعتي الكونين { وحصورا } [آل عمران: 39]، نفسه عن تعلق بالكونين، { ونبيا من الصالحين } [آل عمران: 39]؛ لقبول فيض الإلوهية بلا واسطة؛ لأنه كان من أهل الأول.
[3.40-46]
ثم أخبر عن ظهور الآيات أنها موجبة لمزيد الطاعات بقوله تعالى: { قال رب أنى يكون لي غلام } [آل عمران: 40]، الإشارة في الآيتين: إن استبعاد زكريا عليه السلام الولد وتعجبه في قوله: { أنى يكون لي غلام } [آل عمران: 40]، ما كان من قبل قدرة الله تعالى، ولكن من قبل استحقاقه لنيل هذه الكرامة؛ يعني: بأي استحقاق يكون لي غلام { وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشآء } [آل عمران: 40]؛ أي: هكذا يعطي الله من يشاء لمن يشاء فضلا منه ورحمة، لا استحقاقا في شيء من الأشياء، كقوله تعالى:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 21].
{ قال رب اجعل لي آية } [آل عمران: 41]، استدل بها على أن لك معي هذا الفضل تخصني بنيل هذه الكرامة من العالمين، { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } [آل عمران: 41]، وإنما جعل آيته في احتباسه عن الكلام لغلبات الصفات الروحانية عليه، واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبه، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب، فلا تفرغ إلى جلاء عادتها في الشهادة في الكلام إلا رمزا، وبهذا يتقوى الروح الطبعي والروح الحيواني وتستمد منه القوى البشرية، فيحيي الله به الشهوة الميتة التي أحياها الله تعالى فيحيا، والاستبقاء بهذه الحالة واستمرارها أمر في هذه الأيام الثلاثة بأن يستمد من كثرة ذكر ربه، وإقامة المراقبة بالليل والنهار، وإقامة الصلاة { واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } [آل عمران: 41].
ثم أخبر عن الاصطفاء من النساء بقوله تعالى: { وإذ قالت الملائكة يمريم } [آل عمران: 42]، الإشارة في الآيات: إن المصطفى من الخليقة من اصطفاه تعالى فضلا منه ورحمة لا استحقاقا واستعدادا، كما ظن إبليس أنه مستحق للخيرية ومستعد بقوله:
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
[الأعراف: 12]، واعلم أن الاصطفاء على أنواع مختلفة منها:
اصطفاء على غير الجنس: كاصطفاء آدم عليه السلام على غير جنسه من المخلوقات بقوله تعالى:
إن الله اصطفى ءادم
[آل عمران: 33]، ولم يكن له جنس حين خلقه، واصطفاه وأسجد له ملائكته.
ومنها: اصطفاء على غير الجنس وعلى الجنس: كاصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المكونات بقوله:
" لولاك ما خلقت الأفلاك ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحت آدم ومن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع يشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يقرع باب الجنة فيفتح لي، فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ".
ومنها اصطفاء الجنس: كاصطفاء مريم على نساء زمانها بقوله تعالى: { وإذ قالت الملائكة يمريم إن الله اصطفك وطهرك واصطفك على نسآء العلمين } [آل عمران: 42]، { اصطفك } [آل عمران: 42] لاصطفائك بك إياه { وطهرك } [آل عمران: 42] عن الالتفات لغيره، واصطفاك على نساء العالمين؛ لنيل درجة الكمال، فإنه ليس من شأن النساء، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء: كفضل الثريد على سائر الطعام ".
{ يمريم اقنتي لربك واسجدي } [آل عمران: 43]، واقتربي { واركعي } [آل عمران: 43]، وانكسري من أنانيتك لتجدي أنانيتي، فإني أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي { مع الراكعين } [آل عمران: 43]، البالغين من الرجال درجة الكمال { ذلك } [آل عمران: 44]، أحوال { من أنبآء الغيب } [آل عمران: 44]، من الأحوال الغيبية على نواظر أهل الشهادة { نوحيه إليك } [آل عمران: 44]، يا محمد بوحي البيان وكشف العيان { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } [آل عمران: 44]، وإن لم تكن عندهم إذ يسعون بإلقاء الأقدم؛ ليستعدون بكمال مريم، { وما كنت لديهم إذ يختصمون } [آل عمران: 44]، على إدراك هذه السعادة.
ثم أخبر عن ميامن الاصطفاء ببشارتها بنبي من الأنبياء بقوله تعالى: { إذ قالت الملائكة يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه } [آل عمران: 45]، والإشارة في الآيتين: إن الله تعالى جعل المخلوقات كلمة مركبة من حروف تفيد معرفة ذاته وصفاته، فإن كل صفة من صفاتها مظهر آية من آياتها، وصفة من صفاته أو صفتين فصاعدا، كقوله تعالى:
" كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق؛ لأعرف "
، وكل صنف من أصناف العالم؛ فهو حرف من حروف كلمة المعرفة، ولكنه خلق نسخة العالم بما فيه وركب من أصناف العالم؛ فهو أيضا كلمتة المعرفة: كالعالم بما فيه، وليس للعالم ولا لصنف من أصنافه هذا الاستعداد، وكما أثبت الله تعالى للإنسان بقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكي بتزكية الشريعة، المربي بتربية أرباب الطريقة، وإنما خص عليه السلام بهذا الاسم؛ أعني: الكلمة من بين سائر الأنبياء والأولياء لمعنيين:
أحدهما: أنه خلق مستعدا لهذا الكمال في بدء أمره وحال طفوليته من غير احتياج إلى التربية، كقوله تعالى في المهد
إني عبد الله آتاني الكتاب
[مريم: 30]، فقد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من عرف نفسه عرف ربه ".
والثاني: إنه لما كان الله تعالى متولي إلقاء روح عيسى عليه السلام إلى مريم، كما قال تعالى:
فنفخنا فيه من روحنا
[التحريم: 12]، ومتولي أمر تخليق طينة جده بإبداع كن من غير نطفة أب، كما قال تعالى:
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
[آل عمران: 59]، سماه كلمة وشرفه بإضافة إلى نفسه، وقال تعالى:
وكلمته ألقاها إلى مريم
[النساء: 171]، وبقوله تعالى: { إن الله يبشرك بكلمة منه } [آل عمران: 45]، { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } [آل عمران: 45]، فكان من اختصاصه بالكلمة أنه غلب الكلام، كما أخبر عنه { ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين } [آل عمران: 46]، { وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } [آل عمران: 45]، حتى روى مجاهد قال: قالت مريم بنت عمران - صلوات الله عليها -: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثته وحدثني، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع، وسمي المسيح؛ لأنه مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام، فاستخرج منه ذرات ذرياته وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، جاء في الخبر إذن للذرات بالرجوع إلى ظهر آدم عليه السلام، وحفظ ذرة عيسى عليه السلام وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم، فكان قد بقي عليه اسم المسيح إلى الممسوح، وقوله تعالى: { وكهلا ومن الصالحين } [آل عمران: 46]؛ أي: حالة النبوة؛ لأن بلاغة الأنبياء - عليهم السلام - كان عند كهوليتهم، كقوله تعالى:
حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
[الأحقاف: 15]، { ومن الصالحين } [آل عمران: 46]؛ أي: صلاحية قبول الفيض بلا واسطة، كما هو حال جميع الأنبياء عليهم السلام.
[3.47-51]
ثم أخبر عن تعجب مريم من أمر من بشرها بما بشرها ولم يمسها البشر بقوله تعالى: { قالت رب أنى يكون لي ولد } [آل عمران: 47]، الإشارة: إن الله تعالى خلق إظهارا للقدرة آدم من تراب بلا أب، وخلق حواء بلا أب ولا أم، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب، حتى قالت: { رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا } [آل عمران: 47]؛ يعني: في الأزل { فإنما يقول له كن فيكون } [آل عمران: 47]، في الحال، وقوله تعالى كلام أزلي يتعلق بالإرادة الأزلية على وفق الحكمة القديمة بالشيء عند التكوين، فيكون الشيء كما شاء متى شاء، كما تعلق بعيسى عليه السلام لقوله تعالى:
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
[آل عمران: 59]، { ويعلمه الكتب والحكمة والتوراة والإنجيل } [آل عمران: 48]، { ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 49]، من غير واسطة، كما
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31].
واعلم أن الروح الإنساني؛ الذي هو خليفة الله في الأرض معلم من ربه واستخلفه العلم والحكمة والكتابة أو القراءة، بل هو قابل أنوار جميع الصفات خلافة عنه، حتى القدرة على الخلق والأحياء، والإبراء والإنباء، وغير ذلك من الآيات التي هي من نتائج القدرة، ثم إذا تعلق بالقالب المنشأ من العناصر الأربع، وحجب الظلمات المنشأ من شهوات الأبوين، احتجب عن القلوب أنوار الصفات إلى أن يخرجه مدد العناية بطريق الهداية، وإن كان الروح روح النبي صلى الله عليه وسلم من حجب الظلمات إلى أنوار الصفات، كما قال تعالى:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، فيصير في الخلافة قابل أنوار تلك الصفات بقوة الاستعداد الروحاني والجسماني، فيظهر على النبي صلى الله عليه وسلم آيات المعجزات وعلى الولي آيات الكرامات، فلما كان روح عيسى عليه السلام وذرة طينة السعي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام محبته عند الله تعالى ولم ترد إلى ظهره حتى ألقاها إلى مريم بتوليه من غير شوب بظلمات شهوات الأبوين؛ ولهذا سمي - روح الله - لأنه كان قابل أنوار الصفات في بدء أمره وحالة طفوليته، ويكلم الناس في المهد وكهلا، ويكتب ويقرأ التوراة والإنجيل من غير تعلم، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ويبرئ الأكمة والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وكذلك جميع الآيات الظاهرة منه، كما قال تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 49]، بأن الله هو مقدر هذه الأسباب ومدبرها ومسببها، وكان عيسى عليه السلام بهذا الاستعداد { ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون } [آل عمران: 50]، ومحلا لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم وجاءهم الآيات الدالة على رسالته، وقال لهم: { فاتقوا الله } [آل عمران: 50]؛ أي: اتقوا معاصيه، وأطيعوا أمري، { إن الله ربي } [آل عمران: 51]، خلقني مستعدا؛ لإظهار هذه الآيات { وربكم } [آل عمران: 51]، خلقكم عاجزون عنها { فاعبدوه } [آل عمران: 51]، بالواحدانية من غير الشرك به { هذا صراط مستقيم } [آل عمران: 51]، توصلكم الله إليه.
[3.52-56]
ثم أخبر عن إحساس عيسى عليه السلام لما كفر الناس بقوله تعالى: { فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله } [آل عمران: 52]، إشارة في الآية: إن عيسى الروح أحسن من النفس وصفاتها الكفر، { قال من أنصاري إلى الله } [آل عمران: 52]، أعواني في الله { قال الحواريون } [آل عمران: 52]؛ يعني: القلب وصفاته { نحن أنصار الله } [آل عمران: 52]؛ أي: أعوان الله في نصرة الحق { آمنا بالله } [آل عمران: 52]؛ أي: بوحدانيته والتبري عن غيره { واشهد بأنا مسلمون } [آل عمران: 52]؛ أي: مستسلمون لأحكامه، راغبون بقضائه، صابرون على بلائه { ربنآ آمنا بمآ أنزلت } [آل عمران: 53]، من الحكم والأسرار واللطائف والحقائق { واتبعنا الرسول } [آل عمران: 53]، الوارد من نفخات ألطافك ومنحات إعطائك { فاكتبنا } [آل عمران: 53]، فاجعلنا { مع الشهدين } [آل عمران: 53]، الذين يشهدون شواهد جلالك ويشاهدون أنوار جمالك { ومكروا } [آل عمران: 54]؛ يعني: النفس وصفاتها والشياطين وعنانها في هلاك الروح { ومكر الله } [آل عمران: 54]، بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها { والله خير الماكرين } [آل عمران: 54]، في قهر النفس وصفاتها بالسوء وإفناء صفاتها، وقمع هواها وقلع شهواتها.
ثم أخبر عن رفعه عيسى عليه السلام حبا وهو المتوفى بقوله تعالى: { إذ قال الله يعيسى إني متوفيك ورافعك إلي } [آل عمران: 55]، والإشارة في الآيات: إن الله قال لعيسى: أني متوفيك عن الصفات النفسانية والأوصاف الحيوانية، ورافعك إلي بجذبات العناية، وهذا كما أسرى بعبده صلى الله عليه وسلم إلى
قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9]، ومن خواص جذبة الربوبية: تطهير الصفات البشرية، يدل عليه قوله تعالى: { ومطهرك من الذين كفروا } [آل عمران: 55]؛ أي: ومطهرك من أخلاق الذين كفروا وأوصافهم { وجاعل الذين اتبعوك } [آل عمران: 55]، بالأعمال الظاهرة وهي الشريعة، والأحوال الباطنة وهي الطريقة، { فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } [آل عمران: 55]، في التحقيق بالعهد، والغلبة والعزة والبرهان والحجة وهم أهل الإسلام؛ لأنهم الذين اتبعوا دينه وسنته، وما اتبعه حقيقة من دعاء ربا وابن الله، { ثم إلي مرجعكم } [آل عمران: 55]، باللطف والقهر والاختيار على قدم السلوك، أو بالاضطرار عند نزع الروح، { فأحكم بينكم } [آل عمران: 55] بالقبول والرد، والثواب والعقاب، { فيما كنتم فيه تختلفون } [آل عمران: 55]، من الحق والباطل، واتباع الهدى والهوى.
{ فأما الذين كفروا } [آل عمران: 56]، ستروا الحق بالباطل واتبعوا الهوى، فضلوا عن طريق الهدى { فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا } [آل عمران: 56]، بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله تعالى، { والآخرة } [آل عمران: 56]، بالقطيعة والبعد عن الله تعالى { وما لهم من ناصرين } [آل عمران: 56]، في الدنيا والآخرة على خلاصهم من العذاب.
[3.57-61]
{ وأما الذين آمنوا } [آل عمران: 57]، واختاروا الحق على الباطل { وعملوا الصالحات } [آل عمران: 57]، اتبعوا عن طريق الهدى، ونهوا
ونهى النفس عن الهوى
[النازعات: 40]، { فيوفيهم أجورهم } [آل عمران: 57] عن جنة المأوى، وتقربهم إلينا زلفى، { والله لا يحب الظالمين } [آل عمران: 57]، الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله.
{ ذلك نتلوه عليك } [آل عمران: 58]؛ أي: هذا نقص عليك من نبأ عيسى عليه السلام وقومه { من الآيات والذكر الحكيم } [آل عمران: 58]، من عيسى عليه السلام، وأن مثله كمثله آدم بقوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران: 59].
{ الحق من ربك فلا تكن من الممترين } [آل عمران: 60]، بغير ازدواج أب وأم واسطة نطفة وامشاج من
خلق من مآء دافق * يخرج من بين الصلب والترآئب
[الطارق: 6-7]، كما جرت سنة الله تعالى وخلقه الإنسان، وإنما كونه بتكوين أمر كن فكان، وهذه سنة جرت في تكوين الأرواح والملكوت لا في الأجساد والملك، فالله تعالى أجرى هذه السنة في آدم وحواء وعيسى؛ إظهارا لقدرته، وكذلك في ثعبان موسى، وناقة صالح، وكونهما بأمر كن خرقا للعادة؛ ليكون آية نبوتهما، ودلالة من ربك يا محمد { فلا تكن من الممترين } [آل عمران: 60]، في أمر عيسى أنه عبد الله، وشأن الحق أنه فاعل مختار فعال لما يريد، ليس هذا نهيا عن شك كان في النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه نهي الكينونة، قال: { فلا تكن من الممترين } [آل عمران: 60]، قاله في الأزل: أنه أزلي فما كان من الممترين، ولا يكون إلى الأبد.
{ فمن حآجك فيه } [آل عمران: 61]، جاد لك في أم عيسى أنه ليس بعبد مخلوق، { من بعد ما جآءك من العلم } [آل عمران: 61]، بحقيقة حاله { فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين } [آل عمران: 61]، وحيا وكشفا فادعهم إلى المباهلة، فإنها حجة قاضية بالحق مميزة بين الصادقين والكاذبين، فكانت دعواه إياهم إلى المباهلة، وامتناعهم عنها مظهر حقيقة دعواه وبطلان دعواهم.
[3.62-64]
{ إن هذا لهو القصص الحق } [آل عمران: 62]، وما دونه الباطل { وما من إله } [آل عمران: 62]، خالق { إلا الله } [آل عمران: 62]، يخلق ما يشاء كما يشاء أجزاء على السنة، أو على إظهار القدرة، { إلا الله } [آل عمران: 62]، الذي
هو خلق كل شيء
[الأنعام: 102]، ولا خالق له { وإن الله لهو العزيز } [آل عمران: 62]، ليس له ضد ولا ند { الحكيم } [آل عمران: 62]، فيما يخلق ويحكم، ولا عبث في خلقه وحكمه { فإن تولوا } [آل عمران: 63]، عن حكم من أحكامه واعرضوا عنه { فإن الله عليم بالمفسدين } [آل عمران: 63] الذين شهد عليهم الملائكة بالفساد في قوله:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30]، فأجابهم بقوله تعالى: إني أعلم المصلح منهم والمفسد، ولا تعلمون منهم إلا المفسد، كقوله تعالى:
والله يعلم المفسد من المصلح
[البقرة: 220]، فيجعل المفسد فداء المصلح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا كان يوم القيامة لم يبق أحد منكم، إلا أعطى يهوديا، فقيل: هذا فداؤك من النار "
، صحيح أخرجه مسلم.
ثم أخبر عن جواب أهل الإعراض بقوله تعالى: { يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } [آل عمران: 64]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى أشار بقوله: { قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم } [آل عمران: 64]، إلى أن أصول الأديان كلها، إخلاص العبودية في التوحيد،
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5]، وقال: { ألا نعبد إلا الله } [آل عمران: 64]، لا نطلب منه غيره { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } [آل عمران: 64]، في طلب الرزق ورؤية الأمور من الوسائط، { فإن تولوا } [آل عمران: 64]؛ يعني: من أعرض عن هذا الأصل { فقولوا اشهدوا } [آل عمران: 64]، أنتم لنا { بأنا مسلمون } [آل عمران: 64]، مستسلمون لما دعانا الله إليه من التوحيد والإخلاص في العبودية، ونفي الشرك والسر في الإشهاد على الإسلام؛ ليشهد الكفار لهم يوم القيامة على الإسلام والتوحيد كما شهد لهم المسلمون كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
" إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن وإنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة "
، وفي رواية أخرى
" لا يسمع صوتك شجر ولا حجر، ولا جن ولا إنس، إلا شهد لك "
، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه
" فإن المؤذن يغفر له مدى صوته، وشهد له كل رطب ويابس "
، وليكون شهادة الكفار لهم بالتوحيد يوم القيامة، حجة على أنفسهم، والله أعلم.
[3.65-70]
وقوله تعالى: { يأهل الكتاب لم تحآجون في إبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون } [آل عمران: 65]، وتزعمون أنه على دينكم، وليس لكم به علم ولا حجة فيما أنزل عليكم من التوراة والإنجيل في نعته وصفته، { هأنتم هؤلاء حاججتم } [آل عمران: 66]، بالباطل { فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم } [آل عمران: 66]، حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعملون بما تعلمون، وتحاجون فيما لا تعلمون { والله يعلم } [آل عمران: 66]، ما تعملون { وأنتم لا تعلمون } [آل عمران: 66]، ما تعملون جهلا منكم.
ثم أخبر عن إبراهيم عليه السلام، وما هو عليه من الدين القويم بقوله تعالى: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } [آل عمران: 67]، إشارة في الآية: إن الله تعالى نزه إبراهيم عليه السلام عن اليهودية والنصرانية براءة له عن الشرك؛ لأن أهل الملتين كانوا مشركين؛ ولهذا قال تعالى: { وما كان من المشركين } [آل عمران: 67]، وقال تعالى: { ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } [آل عمران: 67]، { حنيفا } [آل عمران: 67]، يعني: مائلا عن غير الله مسلما وجهه لله، يدل عليه قوله:
أسلمت وجهي لله
[آل عمران: 20]، قوله تعالى:
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله
[النساء: 125]؛ يعني: لا يلتفت إلى غير الله في الطلب، ولا يشرك به شيئا.
{ إن أولى الناس بإبراهيم } [آل عمران: 68]؛ يعني: في الإيثار له { للذين اتبعوه } [آل عمران: 68]؛ اقتداء به في الصورة والمعنى، { وهذا النبي والذين آمنوا } [آل عمران: 68]؛ يعني: الذين اتبعوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه متبعون ملته صورة ومعنى؛ لقوله تعالى:
ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين
[الحج: 78]، وملته الحقيقية هي الخلة، كما قال تعالى:
واتخذ الله إبراهيم خليلا
[النساء: 125]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، حين قال:
" لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت إبراهيم خليلا، ولكن أبي بكر أخي وصاحبي، ولقد اتخذ الله صاحبكم خليلا "
، ثم المؤمنين كانوا أولى الناس به؛ لقوله تعالى: { والله ولي المؤمنين } [آل عمران: 68]؛ والولي: هو الخليل.
{ ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } [آل عمران: 69]، عن ملة إبراهيم عليه السلام وهي: الخلة والإسلام، { وما يضلون إلا أنفسهم } [آل عمران: 69]، بهذه المودة مودة الإضلال، { وما يشعرون } [آل عمران: 69]، أن مودة إضلال أهل الله كفر، فإن الرضاء بالكفر كفر.
ثم أخبر عن كفر أهل الكتاب في أن لخطاب بقوله تعالى: { يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } [آل عمران: 70]، والإشارة في الآيتين: إن الله عز وجل يظهر أن الهداية منه تبارك وتعالى لا من قراءة الكتب، وتفهم ألفاظها شهادة اللسان وإقراره وإنما هي بشهود القلب عند ظهور شواهد الحق، فقال تعالى: { يأهل الكتاب } [آل عمران: 70]؛ يعني: الذين يظنون أنكم اهتديتم إلى الحق بالكتاب وأنتم تشهدون على أنفسكم بالهداية، فإن كنا كما تزعمون لما تكفرون بآيات الله ببراهينه وحججه الظاهرة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
[3.71-74]
{ يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل } [آل عمران: 71]، وهو ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل وأهوائكم وأرائكم الفاسدة، وهذا تنبيه من الله تعالى لعباده
هدى الله هو الهدى
[البقرة: 120]، من يهدي فلا مضل له و
من يضلل الله فلا هادي له
[الأعراف: 186]، ثم قال تعالى: { وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } [آل عمران: 71]؛ يعني: لا يمكن أن تكتموا الحق وأنتم تعلمون حقيقة؛ لأن ظهور الحق يقتضي زهوق الباطل، كما قال تعالى:
وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء: 81].
ثم أخبر عن فساد اعتقادهم بقوله تعالى: { وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } [آل عمران: 72]، الإشارة في الآيات: إن الحسد وإن كان مركوزا في جبلة الإنسان ولكن له اختصاص بعالم يتعلم العلم؛ ليماري به السفهاء ويباهي به العلماء، ويجعله وسيلة لجمع المال ولحصول الجاه والقبول عند أرباب الدنيا، فيحسد على كل عالم أتاه الله تعالى حكمة فهو ينشرها ويفيد الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله تعالى مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله تعالى حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها "
أي: لا حسد كحسد الحاسد على هذين الرجلين، وكان حسد أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل، حتى قالت طائفة من أهل الكتاب وهي أخبارهم لأتباعهم: { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } [آل عمران: 72]، { وجه النهار } [آل عمران: 72]، مكرا وخداعا { واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [آل عمران: 72]؛ يعني: المومنين على النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه حسدا على ما أتاه الله من فضله، وقالوا هذا المعنيين:
أحدهما: تشكيك المؤمنين في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ودينهم.
والثاني: تثبيت اليهود على دينهم ومتابعة أخبارهم، يدل عليه قوله تعالى: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } [آل عمران: 73]؛ أرادوا به: أنفسهم ولا يصدقوا غيرهم ولا تتبعوا لهم حسدا من عند أنفسهم، فقال تعالى زعما لا فهما وردا على قولهم: قل يا محمد لمعاشر المؤمنين: { قل إن الهدى هدى الله } [آل عمران: 73]، إن الهدى الحقيقي بالذي لا ضلال بعده هو الهدى من الله فضلا ورحمة، كما هداكم به، وما { أن يؤتى أحد } [آل عمران: 73]، من أهل الملل والأديان { مثل مآ أوتيتم } [آل عمران: 73]، كما قال تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران: 110]، { أو يحآجوكم عند ربكم } [آل عمران: 73]، وإن يحاجوكم فيما آتاكم الله من عنده { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء } [آل عمران: 73]، يا محمد { والله واسع } [آل عمران: 73]، عطاءه { عليم } [آل عمران: 73]، بمستحق عطائه، وأهل رحمته { يختص برحمته من يشآء } [آل عمران: 74]، مشيئة أزلية { والله ذو الفضل العظيم } [آل عمران: 74]، معك يا محمد ومع أمتك بتعينك، كما قال:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113].
[3.75-80]
ثم أخبر عن بعض أهل الكتاب بالأمانة، وبعضهم بالخيانة بقوله تعالى: { ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } [آل عمران: 75]، إشارة في الآيتين: إن من أهل القصة من تأمنه امتحانا بكثير من الدنيا يؤده إليك بالخروج عن عهدته، وعدم الالتفات به إليه وقطع النظر عنه، { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } [آل عمران: 75]؛ [لتمكن] الحرص، وغلبة الهوى ، وخسة النفس، وركاكة العقل، ودناءة الهمة، { إلا ما دمت عليه قآئما } [آل عمران: 75]، بمطالبة الحقوق منه إخبارا { ذلك بأنهم قالوا } [آل عمران: 75]، بسوء النفس وإلقاء الشيطان { ليس علينا في الأميين سبيل } [آل عمران: 75]، من مباشرة الدنيا ومعاشرة الخلق، خرج ولا يحجبنا عن الله تعالى هذا التصرف والالتفات { ويقولون على الله الكذب } [آل عمران: 75]، بهذه المقالة { وهم يعلمون } [آل عمران: 75]، عن أنفسهم هذه المحالة، ويجترون على الله ويفترون.
{ بلى من أوفى بعهده } [آل عمران: 76]، من الله الذي دهاهم في الميثاق بأن لا يعبدوا إلا الله، ولا يطلبوا منه إلا هو، { واتقى } [آل عمران: 76]، عن غير الله بالله { فإن الله يحب المتقين } [آل عمران: 76] به عن غيره.
واعلم أن أهل الكتاب الحقيقي في الحقيقة هم أهل هذه القصة، كما قال تعالى:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
[فاطر: 32]،
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار
[ص: 47]، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن اشتراء أهل الاجتراء بقوله تعالى: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } [آل عمران: 77]، إشارة في الآيتين: إن الذين يشترون بعهد الله الذي عاهدهم الله يوم الميثاق في التوحيد وطلب الوحدة، وإيمانهم التي يخلقون بها هاهنا ثمنا قليلا من متاع الدنيا وزخارفها، مما يلائم الحواس الخمس والصفات النفسانية { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } [آل عمران: 77]، الروحانية من نسيم روائح الأخلاق الربانية { ولا يكلمهم الله } [آل عمران: 77]، تقريبا وتكريما وتفهيما { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } [آل عمران: 77]، بنظر العناية والرحمة فيرحمهم { ولا يزكيهم } [آل عمران: 77]، عن الصفات التي يستحقون بها دركات جهنم، ولا يزكيهم عن الصفات الذميمة التي هي وقود النار إلى الأبد، فلا يتخلصون منها أبدا { ولهم عذاب أليم } [آل عمران: 77]، فيما لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم.
{ وإن منهم } [آل عمران: 78]، من مدعي أهل المعرفة { لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } [آل عمران: 78]، بكلمات أهل المعرفة { لتحسبوه من الكتاب } [آل عمران: 78]؛ أي: من أهل المعرفة { وما هو من الكتاب } [آل عمران: 78]، الذي كتب الله في قلوب العارفين، { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب } [آل عمران: 78]، بإظهار الدعوى عند فقدان المعاني { وهم يعلمون } [آل عمران: 78] ولا يعلمون،
وأنهم يقولون ما لا يفعلون
[الشعراء: 226].
ثم أخبر عن صدق صديقهم بقوله تعالى: { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة } [آل عمران: 79]، إشارة في الآيتين: إن ليس من شأن بشر أن يؤتيه الله الكتاب حقيقيا من أهل القصة، كما قال تعالى:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
[فاطر: 32]، والحكم؛ يعني: الحكمة التي هي من نتائج إيتاء الكتاب، والنبوة؛ أي: أداء النبوة { ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } [آل عمران: 79]، أن هذه المقالة من صفات البشر ورعونة النفس وشرها،
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة: 269]، فالخير الكثير مزيل صفات البشر ورعونة النفس وشرها، وصدك لها بالصفات الروحانية والأخلاق الربانية، { ولكن } [آل عمران: 79]، يقول لهم { كونوا ربنيين } [آل عمران: 79]؛ يعني: من دأب القوم وهجراهم تربية الإتباع والمريدين؛ ليكونوا ربانيين متخلقين بأخلاق الروحانية عالمين { بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون } [آل عمران: 79]، من العلوم، ولا يطلبون عن دراستها، ولا يفترون بمقالات أخذوها من أفواه القوم، وفيه إشارة أخرى وهي: أن بعض مدعي هذا الشأن الذين غلبت عليهم أهواءهم وصفات بشريتهم، يدعون الشيخوخة من رعونة النفس قبل أوانها، ويخدعون الخلق بأنواع الحيل، ويستتبعون بعض الجهلة، ويعبدونهم بكلمات أخذوها من الأفواه، ويمكرون بعض أهل الصدق من الطلبة ويقيدونهم بالإرادة، ويقطعون عليهم طريق الحق بأن منعوا من صحبة أهل ومشايخ الطريق، ويأمرونهم بالتسليم والرضا فيما يعاملونهم، ولا يعرفون غيرهم فيعبدون من دون الله كما هو دأب أكثر أهالي مشايخ زماننا هذا، فإنه ليس من دأب من يؤت الحكمة والكتاب والنبوة.
ثم قال: { ولا يأمركم } [آل عمران: 80]؛ يعني: من يؤت الكتاب والحكمة والنبوة { أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } [آل عمران: 80]، فضلا عن أنفسهم { أيأمركم بالكفر } [آل عمران: 80]؛ وهو التثبت بما يصدكم عن السبيل { بعد إذ أنتم مسلمون } [آل عمران: 80] لرب العالمين في الطلب .
[3.81-84]
ثم أخبر عن أخذ الميثاق لنصرة أهل الوفاق بقوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم } [آل عمران: 81]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم عليه السلام من صلبه كما أخذ الميثاق عليهم بالوحدانية لنفسه، فكذلك أخذ الميثاق عليهم بالرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم فاستوى فيه الأنبياء والأمم، وإن قال: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } [آل عمران: 81]، فإن الخطاب مع الأنبياء وأممهم يدل عليه قوله: { فمن تولى بعد ذلك } [آل عمران: 82]، بعض الأمم { فأولئك هم الفاسقون } [آل عمران: 82]، وفي قوله تعالى: { ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } [آل عمران: 81]، فالخطاب مع أمة النبي بالإيمان به والنصر له، وإن ناصر كل نبي أمته بالإيمان والنصر له بأن يؤمنوا به وإن لم يدركوا زمانه ويواصوا أولادهم بأن يؤمنوا به، إن أدركوه فإن لم يدركوه فينصرونه نية في الغيبة والحضور، كقوله تعالى:
ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب
[البقرة: 132]، فلما أخذ الله تعالى على جميعهم الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا } [آل عمران: 81]؛ يعني: الأنبياء والأمم { أقررنا } [آل عمران: 81]؛ يعني للأنبياء على أنفسكم وعلى بعضكم بعضا وعلى الأمم كلها ولهذه الأمة خاصة وعلى الناس كافة، وللنبي صلى الله عليه وسلم أنتم شهداء لله في أرضه { قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } [آل عمران: 81]؛ يعني: مع كل طائفة منكم في كل زمان من الحاضرين معكم، أسمع وأرى ما تقولون فيه وتفطنون معه، { فمن تولى بعد ذلك } [آل عمران: 82]؛ يعني: عن الإيمان، والنصر له منكم معاشر الأمم { فأولئك هم الفاسقون } [آل عمران: 82]، الخارجون عن عهدي والناكثون { أفغير دين الله يبغون } [آل عمران: 83]؛ يعني: الذين يتولون عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن دينه الإسلام، فإن دينه هو دين الله كقوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
[آل عمران: 19]، فمن تمسك بغير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ضل عن طريق الحق وابتغى غير دين الله، فإن الدين هو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع الإسلام لله تعالى بالوحدانية { وله أسلم من في السموت والأرض طوعا وكرها } [آل عمران: 83] يوم الميثاق، فمن شاهد الجمال أسلم له طوعا، ومن شاهد الجلال أسلم له كرها، فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري، بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم طوعا وكرها، كما قال تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
[النساء: 65]، قال تعالى: { وإليه يرجعون } [آل عمران: 83]؛ يعني: الكافر والمؤمن يرجع إلى الله تعالى طوعا وكرها، فإن الذي يرجع إليه طوعا؛ فهو الذي يتمسك بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم أخبر عن سريرته صلى الله عليه وسلم؛ ليتمسك بسيرته بقوله تعالى: { قل آمنا بالله ومآ أنزل علينا } [آل عمران: 84]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد مالك وإن لم يعتبر الحال بالقال؛ ليقتدوا بك وليعرفوا دينك آمنا بالله ليلة المعراج إيمانا عيانيا لأبياتنا، وما أنزل علينا حين
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، { ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } [آل عمران: 84]، وأتاني { وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم } [آل عمران: 84]، إيتاء حقيقيا حتى فضلت على الأنبياء بما أوتيت جوامع الكلام وما أوتي أحد قبلي { لا نفرق بين أحد } [آل عمران: 84]؛ أي: لا نفرق بين أحد أنا وأمتي { منهم } [آل عمران: 84]، من الأنبياء بالإيمان لهم { ونحن له مسلمون } [آل عمران: 84]؛ أي: مستسلمون لجميع أوامره ونواهيه وأحكامه وقضائه في الدنيا والآخرة.
[3.85-89]
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا } [آل عمران: 85]؛ أي: غير الاستسلام الذي هو سير النبي صلى الله عليه وسلم ودينه في المنشط والمكره، وغير تفويضه وتسليمه إلى الله تعالى في حلو قضائه وأمره، { فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران: 85]، الذين خسروا دولة متابعته؛ لينالوا بها مقام المحبوبية ويهتدوا إلى الله به { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } [آل عمران: 86]، قد احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية، عن الأخلاق الربانية بعد أن أمنوا بالله { وشهدوا أن الرسول حق وجآءهم البينات } [آل عمران: 86]، إيمانهم الدلالات الواضحات، وشاهدوا الآيات المعجزات، وكفروا بهذه المنعم، وما عرفوا قدرها وما قاموا بحق شكرها { والله لا يهدي القوم الظالمين } [آل عمران: 86]، الذين أعرضوا عنه وأقبلوا على أهوائهم { أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله } [آل عمران: 87]، الطرد والبعد { والملائكة } ، الطعن فيهم، كما قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30]، [آل عمران: 87]، ولعنة { والناس } [آل عمران: 87]، نفرتهم وتباعدهم وتقريعهم ولومهم { أجمعين } [آل عمران: 87]، { خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب } [آل عمران: 88]؛ أي: عذاب الطرد والبعد واللعن { ولا هم ينظرون } [آل عمران: 88]، لحظة من لمحة من العذاب { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } [آل عمران: 89]، راجعوا إلى الله وأقبلوا بكليتهم إليه وأعرضوا عما سواه { من بعد ذلك } [آل عمران: 89]، الظلم على أنفسهم، { وأصلحوا } [آل عمران: 89]، أعمالهم وأحوالهم مع الله تعالى { فإن الله غفور رحيم } [آل عمران: 89]، يغفر لهم ذنوبهم ويمحوا عنهم خطاياهم ويستر به عنهم برحمته وكرمه.
[3.90-92]
ثم أخبر عن الإمعان في الكفر بعد الإيمان بقوله تعالى: { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضآلون } [آل عمران: 90]، إشارة في الآيتين: إن الذين ستروا أنوار الأرواح بأستار الصفات البشرية، وحجب الأوصاف الحيوانية بعد إيمانهم بإقرار التوحيد عند الميثاق، إذا قال:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، { ثم ازدادوا كفرا } [آل عمران: 90]، بمتابعة الهوى ومخالفة الشرع والحق، وتربية الصفات السبعية والشيطانية، { لن تقبل توبتهم } [آل عمران: 90]، الصادرة منهم باللسان دون إنابة القلب وسلامته من أوصاف الكفر؛ وهي من أحب الدنيا وإتباع الهوى والإقبال على شهوات النفس والإعراض عن الحق، { وأولئك هم الضآلون } [آل عمران: 90]، في نية البهيمية والأخلاق السبعية حالة التوبة، ولا يهيمون أن يخرجوا منها بقدم الأنانية.
{ إن الذين كفروا } [آل عمران: 91]، وضلوا في هذا النية { وماتوا } [آل عمران: 91]؛ أي: ماتت قلوبهم { وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } [آل عمران: 91]؛ أي: بملء الأرض ذهبا من عذاب موت القلب { أولئك لهم عذاب أليم } [آل عمران: 91]، بموت القلب وفقد المعرفة { وما لهم من ناصرين } [آل عمران: 91]، على إحياء القلب بنور المعرفة، كما أحيى الله تعالى قلب المؤمن بنور المعرفة كقوله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا
[الأنعام: 122].
ثم أخبر عن نيل البر وإنه من إنفاق ما أحب إلى البر بقوله تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } [آل عمران: 92]، إشارة في الآية: إنكم { لن تنالوا البر } [آل عمران: 92]، والبار هو صفته، { حتى تنفقوا مما تحبون } [آل عمران: 92]؛ أي: من أنفسكم؛ وهي أحب الأشياء إلى الخلق، { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } [آل عمران: 92]؛ يعني: أنفسكم في الله { فإن الله به عليم } [آل عمران: 92]، فبقدر ما تكونون له يكون لكم، كما قال: " من كان لله كان الله له " ، إن الفراش ما نال من بر الشمع وهو شعلة حتى أنفق مما أحبه؛ وهو نفسه، فافهم جيدا.
[3.93-99]
ثم أخبر عما كان حلالا من بني إسرائيل وميزه من الحرام بقوله تعالى: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [آل عمران: 93]، إشارة في الآية: إن الله تعالى خلق الخلق على ثلاثة أصناف:
صنف منها: الملك الروحاني العلوي اللطيف النوراني، وجعل غذاؤهم من جنسهم الذكر وخلقهم للعبادة.
وصنف منها: الحيواني الجسماني السفلى الكثيف الظلماني، وجعل غذاؤهم من جنسهم الطعام وخلقهم للعبرة والخدمة.
وصنف منها: الإنسان المركب من الملك الروحاني والحيواني الجسماني، وجعل غذاءهم من جنسهم لروحانيتهم الذكر، ولجسمانيتهم الطعام، وخلقهم للعبادة والمعرفة والخلافة، وهم على ثلاثة أصناف:
فمنهم ظالم لنفسه: وهو الذي غلبت حيوانيته على روحانيته، فبالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه،
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179]، ومنهم مقتصد: وهو الذي تساوت روحانيته وحيوانيته، ومنهم سابق بالخيرات: وهو الذي غلبت روحانيته على حيوانيته فبالغ في غذاء روحانيته؛ وهو الذكر، وقصر في غذاء حيوانيته وهو الطعام حتى ماتت نفسه وأسر في قوة روحه،
أولئك هم خير البرية
[البينة: 7]، فكان كل الطعام حلا كما كان حلالا للحيوان، إلا ما حرم الإنسان السابق على نفسه؛ لموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل عليه الوحي والإلهام، كما قيل: المجاهدات تورث المشاهدات، وقال تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69].
{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } [آل عمران: 94]، بأن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس { فأولئك هم الظالمون } [آل عمران: 94]، الذين يضعون الشيء في غير موضعه، وقد قال تعالى:
وجاهدوا في الله حق جهاده
[الحج: 78]، { قل صدق الله } [آل عمران: 95]، فيما قال:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران: 92]، { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } [آل عمران: 95]، وكان ملته إنفاق المال على الضيفان، وبذل الروح عند الامتحان وتسليم القربان، وهذه ملة الخلة، { وما كان من المشركين } [آل عمران: 95]، من الذين يتخذون مع الله إلها أخرا ويجعلون الشركة في الخلة.
ثم أخبر عن أول بيت وضع للناس مأمنا لأهل الإفلاس بقوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } [آل عمران: 96]، لا لله؛ فإنه لغني عن البيوت وعن العالمين، وإن كل ما خلق الله في العالم خلق نموذجا منه في الإنسان، وإن نموذج بيت الله فيه القلب الذي هو أول بيت وضع بمكة صدر الإنسان مباركا عليه وهدى يهدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده، فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع حتى به يسمع وبه يبصر، وبه يعقل وبه ينطق، وبه يبطش وبه يمشي، وبه يتحرك وبه يسكن، { فيه ءايت بينت } [آل عمران: 97]، دلالات واضحات يستدل بها الطالب إلى مطلوبه، والقاصد إلى مقصوده، منها: { مقام إبرهيم } [آل عمران: 97]؛ وهي: الخلقة، وهي التي توصل الخليل إلى خليله { ومن دخله كان آمنا } [آل عمران: 97]؛ يعني: من دخل مقام إبراهيم؛ وهي: الخلة، الهاء في قوله دخله: كناية عن المقام، ودخولها ببذل النفس والمال والولد في رحمتي خليله كان أمنا من نار القطيعة، كما كان حال إبراهيم عليه السلام مع النار، وكان عليه
بردا وسلما
[الأنبياء: 69].
ومنها: شهود الحق، وخلوه بالخروج عن نفسه كان أمنا من عذاب الحجاب.
ثم أخبر عن وجوب زيارة البيت الخليل إن استطاع إليه سبيلا بقوله { ولله على الناس حج البيت } [آل عمران: 97]، إشارة في الآية: إن الله تعالى جعل البيت والحج إليه، وأركان الحج والمناسك كلها إشارات إلى السلوك وشرائط السير إلى الله وآدابه، فمن أركانه:
الإحرام: وهو إشارة إلى الخروج من الرسوم، وترك المألوف والتجرد عن الدنيا وما فيها التطهير عن الأخلاق، وعقد إحرام العبودية بصحة التوجه.
ومنها: الوقوف بعرفة: وهو إشارة إلى الوقوف بعرفان المعرفة، والعكوف على عتبة جبل الرحمة بصدق الالتجاء وحسن العهد والوفاء.
ومنها الطواف: وهو إشارة إلى الخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالطواف السبعة حول كعبة الربوبية.
ومنها السعي: وهو إشارة إلى السير بين صفات ومروة الذات.
ومنها الخلق: وهو إشارة إلى محو آثار العبودية بمرسى الأنوار الإلوهية وعلى هذا فقس المناسك كلها، هذا البيت هادها إلى الله وفضله وطلبه بخلاف سائر أركان الإسلام، فإن قيل كل ركن منه يشير إلى طرف استعداد الطلب والقصد إلى الله، فالله خاطب العباد بقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [آل عمران: 97]، وما قال في شيء أخر من الأركان والواجبات { ولله على الناس } [آل عمران: 97]، وفائدته إن المقصود المشار إليه من الحج هو الله تعالى، وفي سائر العبادات المقصود هو النجاة والدرجات والقربات والمقامات والكرامات والاستطاعة في قوله تعالى: { من استطاع إليه سبيلا } [آل عمران: 97] هي جذبة الحق التي توازي عمل الثقلين ولا يمكن السير إلى الله والوصول إليه إلا بها، { ومن كفر } [آل عمران: 97]؛ أي: لا يؤمن بوجدان الحق، ولا يتعرض لنفحات ألطافه، ولا يترقب لجذبات الإلوهية كما يشير إليها أركان الحج ، { فإن الله غني عن العلمين } [آل عمران: 97]، بأن يستكمل بهم، وإنما الاستكمال للعالمين به والأغنى بهم عنه، ثم إليه عن كفر أهل الكتاب بعد هذا الخطاب بقوله تعالى: { قل يأهل الكتاب } [آل عمران: 98]، إشارة في الآيات أن ظاهر الخطاب مع أهل الكتاب، وباطنه من علماء السوء الذين يتبعون الدين بالدنيا وما يعملون.
{ لم تكفرون } [آل عمران: 98]؛ يعني: من طريق المعاملة { بآيات الله } [آل عمران: 98]؛ أي: بما جاء به القرآن من الزهد في الدنيا والورع والتقوى، ونهي النفس عن الهوى، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، والإعراض عن الخلق والتوجه إلى الحق وبذل الوجود لنيل المقصود، { والله شهيد على ما تعملون } [آل عمران: 98]، حاضر معكم ناظر إلى نياتكم في أعمال الخير ويجازيكم بها، { قل يأهل الكتاب } [آل عمران: 99]؛ أي: علماء السوء { لم تصدون عن سبيل الله من آمن } [آل عمران: 99]؛ أي: لم تصرفون بحرصكم عن الدنيا وإتباعكم الهوى المؤمنين الذين يتبعونكم بحسن الظن، ويحسبون أن أعمالكم وأحوالكم على قاعدة الشريعة ومنهاج الطريقة عن سبيل الله وطريق الدين، أمر الأنبياء بدعوة الخلق إليه كما قال تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
[النحل: 125]؛ والحكمة هي: الدعوة بطريق المعاملة وسلوك سبيل الله ليتخلق التابع بإتباع المتبوع، { تبغونها عوجا } [آل عمران: 99]؛ أي: وتطلبون اعوجاج طريق الحق بالسير في طريق الباطل { وأنتم شهدآء } [آل عمران: 99]، تعلمون فساد أحوالكم ما لكم فيما تعملون { وما الله بغافل عما تعملون } [آل عمران: 99] بعلمه كما تعلمون وهو الذي قضى عليكم به في البداية ويجازيكم عليه في النهاية.
[3.100-104]
ثم وصى الله المؤمنين وقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } [آل عمران: 100]؛ يعني: علماء السوء متابعي الهوى { يردوكم } [آل عمران: 100]، عن طريق الهداية { بعد إيمانكم كافرين } [آل عمران: 100]؛ أي: من بعد إيمانكم وطلبتم منهم طريق الحق فأضلوكم بسيرتكم وإتباعكم الهوى عن سبيل الله كما
ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل
[المائدة: 77] ثم في صيغة التعجب { وكيف تكفرون } [آل عمران: 101]، بالله وكنتم أمواتا ولا تؤمنون { وأنتم تتلى عليكم آيات الله } [آل عمران: 101]، إن من خواص تلاوة آيات الله أن تزيد في إيمانكم كما قال تعالى:
وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمنا وعلى ربهم يتوكلون
[الأنفال: 2]، { وفيكم رسوله } [آل عمران: 101]، ومن خاصيته أنه نور يهدي به الله كما قال تعالى:
قد جآءكم من الله نور
[المائدة: 15]؛ يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم،
وكتاب مبين
[المائدة: 15]؛ يعني: القرآن
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
[المائدة: 16]؛ يعني: يهدي الله بالرسول المؤمنين سبيلا وهو السلام.
ثم قال تعالى: { ومن يعتصم بالله } [آل عمران: 101]؛ يعني: ومن كان اعتصامه وتمسكه بالله في كل الأحوال ولا يطلب إلا هو { فقد هدي إلى صراط مستقيم } [آل عمران: 101]، إلى الله.
ثم أخبر عن الاعتصام بالله وهو تقوى الله بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } [آل عمران: 102]، إشارة في الآية { اتقوا الله حق تقاته } [آل عمران: 102]؛ أي: اتقوا عن وجودكم بالله وبوجوده، فإن وجودكم مجازي ووجوده حقيقي، وإن الدين الحقيقي الذي عند الله الإسلام؛ وهو أن يسلم العبد وجوده المجازي في ابتغاء الوجود الحقيقي نفيا للشركة وإثباتا للوحدة، وهذا تحقيق قوله تعالى: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [آل عمران: 102]؛ أي: لا ينتفي وجودكم المجازي إلا بتسليمكم للوجود الحقيقي فافهم جيدا.
ثم أخبر عن طريق التسليم الذي هو الدين القويم { واعتصموا بحبل الله جميعا } [آل عمران: 103]، إشارة في الآية: إن أهل الاعتصام طائفتان:
أحدهما: أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب؛ لأن مشربهم الأعمال.
والثانية: أهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب، لأن مشربهم الأحوال، فقال تعالى:
واعتصموا بالله هو مولاكم
[الحج: 78]؛ أي: متصوركم ومقصودكم، وفيه معنى آخر؛ أي: ناصركم ومعينكم على الاعتصام وقال للمتعلقين بالأسباب الذين مشربهم الأعمال: { واعتصموا بحبل الله جميعا } [آل عمران: 103]؛ وهو كل سبب يتوصل به إلى الله، فالمعتصم بحبل الله: هو المتقرب إلى الله بأعمال البر ووسائط القربة، والمعتصم بالله: هو الفاني عن نفسه الباقي بربه، ثم قال تعالى: { ولا تفرقوا } [آل عمران: 103]؛ لأن ترك الاعتصام بأعمال البر ووسائط القرب موجب للتفرق في الظاهر والباطن.
فأما في الظاهر: فيلزم منه مفارقة الجماعة وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" من فارق الجماعة، فاقتلوه كائنا من كان ".
وأما في الباطن: فيظهر منه الأهواء والآراء المختلفة التي توجب تفرق الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ستفترق أمتي اثنتين وسبعين فرقة، الناجي منهم واحد، قالوا: يا رسول الله ومن الفرقة الناجية، قال: ما أنا عليه وأصحابي "
، ثم قال تعالى: { واذكروا نعمت الله عليكم } [آل عمران: 103]، وبأداء شكرها مع الله وهي نعمة تأليف القلوب { إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [آل عمران: 103]، بنعمة تأليفه بين قلوبكم وبين نعمة الإيمان الذي كتب في قلوبكم فأصبحتم إخوانا في الدين { وكنتم على شفا حفرة من النار } [آل عمران: 103]؛ وهي عداوة بعضكم لبعض، وعداوتكم لله ولأنفسكم، { فأنقذكم منها } [آل عمران: 103] بالهداية وتأليف القلوب، { كذلك يبين الله لكم آياته } [آل عمران: 103]، مثل ما بين الأوس والخزرج حتى صاروا إخوانا، { يبين الله لكم } [آل عمران: 103] أيها الطلاب { آياته } [آل عمران: 103] التي يهدي بها إليه { لعلكم تهتدون } [آل عمران: 103] بتلك الآيات إليه؛ وهي الجذبات الإلهية وتجلي الصفات الربانية فيكونون المعتصمين بالله فافهم.
ثم أخبر عن مقام أهل الاعتصام بقوله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون } [آل عمران: 104]، إشارة في الآيات: إن الأمة التي تدعوا إلى الخير بالأفعال دون الأقوال هم الذين يستحقون أن يأمروا { بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران: 104] من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه، والذي يدل عليه ما روى أسامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعته يقول
" يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتزلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: ما شأنك ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: فيقول: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه "
، متفق على صحته.
[3.105-109]
قال تعالى:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم
[البقرة: 44]، وقال تعالى:
لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
[الصف: 2-3]، { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } [آل عمران: 105]، بعد ما اجتمعوا { واختلفوا } [آل عمران: 105]، بعدما اتفقوا { من بعد ما جآءهم البينات } [آل عمران: 105]، الموجبة للجمعية والوفاق، { وأولئك لهم عذاب عظيم } [آل عمران: 105]، من التفرق والاختلاف بعد الجمعية والوفاق، { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } [آل عمران: 106]، الذين اسودت قلوبهم بالكفر، والتفرق والاختلاف من الله تعالى وذلك؛ لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله تعالى:
يوم تبلى السرآئر
[الطارق: 9]؛ أي: يجعل ما في الضمائر على الظواهر، { فأما الذين اسودت وجوههم } [آل عمران: 106]، فيقال لهم: { أكفرتم بعد إيمانكم } [آل عمران: 106]؛ وهم أرباب الطلب السائرون إلى الله، الذين انقطعوا في بادية النفس، واتبعوا الهوى وارتدوا على أدبارهم القهقري { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } [آل عمران: 106]، تسترون الحق بالباطل، وتعرضون عن الحق في طلب الباطل، وكنتم معذبين بنار الهجران والقطيعة في الدنيا؛ ولكن ما كنتم تذوقون عذابها والناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا لا يذوقوا ألم جراحة الانقطاع والإعراض عن الله تعالى: { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله } [آل عمران: 107]، فكانوا في رحمة الجمعية والوفاق مع الله في الدنيا { هم فيها خالدون } [آل عمران: 107]، في الآخرة؛ لأنه يموت الإنسان على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه، { تلك } [آل عمران: 108]، الأحوال { آيات الله } [آل عمران: 108] مع خواصه، { نتلوها عليك بالحق } [آل عمران: 108]، نظرها على قلبك بالحق، { وما الله يريد ظلما للعالمين } [آل عمران: 108]، لا يظلم على أهل الدنيا والآخرة بأن يضع سواد الوجه وذوق العذاب في غير موضعه، ولا بياض الوجه وخلود الرحمة في غير موضعه، { ولله ما في السموت وما في الأرض } [آل عمران: 109]، ملكا ومكا، وخلقا وقدرة، وحكما وتصرفا، وإيجادا أو إعداما، وقضاء وقدرا، { وإلى الله ترجع الأمور } [آل عمران: 109]؛ يعني: كل أمر يصدر في السماوات والأرض والدنيا والآخرة فالله تعالى مصدره يرجع إليه عاقبته، وليس لأحد فيه حكم وتصرف حقيقي غيره سبحانه.
[3.110-112]
ثم أخبر عن خيرية الأمة على البرية بقوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [آل عمران: 110]، إشارة في الآيات: إنكم كنتم خير أمة أخرجت من العدم إلى الوجود، مستعدة لقبول كمالية الإنسان، { تأمرون بالمعروف } [آل عمران: 110]؛ أي: تأمرون بطلب المعروف وهو الله فإنه معروف العارفين، { وتنهون عن المنكر } [آل عمران: 110]؛ وهو طلب المعروف { وتؤمنون بالله } [آل عمران: 110]، إيمان القلب أي: تطلبون الله تعالى: { ولو آمن أهل الكتاب } [آل عمران: 110]، إشارة إلى علماء السوء؛ يعني: لو طلبوا الله فيما يتعلمون العلم ويعلمون الناس، ولا يطلبون الرياسة والتقدم والنعم، { لكان خيرا لهم } [آل عمران: 110]؛ يعني: لكان الخيرية في الأمم لهم ثم قال تعالى: { منهم المؤمنون } [آل عمران: 110]؛ يعني منهم المحققون والمستحقون للكمال، { وأكثرهم الفاسقون } [آل عمران: 110]، الخارجون على طلب الحق وطلب الكمال لدناءة همتهم وقصر نظرهم، { لن يضروكم } [آل عمران: 111]، أيها المحققون المستحقون للكمال { إلا أذى } [آل عمران: 111]، من طريق الإنكار والإعراض والحسد { وإن يقاتلوكم } [آل عمران: 111]، يخاصموكم وينازعوكم { يولوكم الأدبار } [آل عمران: 111]، من صدق نياتكم ينهزموا عنكم { ثم لا ينصرون } [آل عمران: 111] عليكم؛ لأنكم أهل الحق و
حزب الله هم الغالبون
[المائدة: 56].
{ ضربت عليهم الذلة } [آل عمران: 112] ذلة الطمع ومسكنة الحرص، { أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله } [آل عمران: 112]، إلا أن يعتصموا لمحبة الله وطلبه { وحبل من الناس } [آل عمران: 112]؛ يعني: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، { وبآءوا بغضب من الله } [آل عمران: 112]؛ يعني: وإن لم يعتصموا باءوا بغضب من الله وهو البعد عنه والطرد، { وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون } [آل عمران: 112] كفران النعمة، { بآيات الله } [آل عمران: 112]، التي أظهرها الله على أوليائه وأكرمهم بها على سائر الخلق لتبيين الخلق، { ويقتلون الأنبيآء بغير حق } [آل عمران: 112]؛ أي: يميتون سنن الأنبياء وسيرهم بإظهار أباطيلهم في طلب الدنيا والحرص عليها، وكتمان الحق بترك طلبه، { ذلك بما عصوا } [آل عمران: 112]؛ أي: لسبب أنهم عصوا الله في أوامره وطلبه وترك غيره، كما قال تعالى
قل الله ثم ذرهم
[الأنعام: 91] وعصوا الرسول في دعوته إياهم إلى الله وكان
وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب: 46]، { وكانوا يعتدون } [آل عمران: 112]، يتجاوزون عن سنن الاستقامة ويتناكبون عن الصراط المستقيم الذي هو
صراط العزيز الحميد
[سبأ: 6].
[3.113-117]
ثم أخبر عن الفرق بين الفريقين والتفاوت بين الطريقين بقوله تعالى: { ليسوا سوآء من أهل الكتاب } [آل عمران: 113]، والإشارة في الآيات: إن الله تعالى فرق بين العلماء الربانيين وعلماء السوء المداهنين، قال تعالى: { ليسوا سوآء من أهل الكتاب } [آل عمران: 113]؛ يعني: من العلماء منهم { أمة } [آل عمران: 113]؛ أي: فرقة { قآئمة } [آل عمران: 113] بالله، { يتلون آيات الله } [آل عمران: 113]، يتبعون آياته { آنآء الليل } [آل عمران: 113]؛ ليريهم الله آياته
في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53]، { وهم يسجدون } [آل عمران: 113]، ينقادون لأحكامه الأزلية وتقديراته الإلهية { يؤمنون بالله واليوم الآخر } [آل عمران: 114]، إيمان الطلب، وتصديق قضائه في الأزل، ووفور قدره إلى الأبد، { ويأمرون بالمعروف } [آل عمران: 114]؛ أي: يطلبون الحق، { وينهون عن المنكر } [آل عمران: 114]؛ أي: طلب ما سوى الله، { ويسارعون في الخيرات } [آل عمران: 114]؛ أي: فيما يوصلهم إلى الله، { وأولئك من الصالحين } [آل عمران: 114]، الذين يصلحون لقبول الفيض الإلهي { وما يفعلوا من خير } [آل عمران: 115]، تتقربون به إلى الله تعالى { فلن يكفروه } [آل عمران: 115] بل تشكروه، فإن تقربتم إليه شبرا تقرب إليكم ذراعا، وإن تقربتم إليه ذراعا تقرب إليكم باعا، { والله عليم بالمتقين } [آل عمران: 115]، { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } [آل عمران: 116]، الذين يتقون به عما سواه، وعليم بالفاسقين الذين كفروا بنعمته، واستغنوا بالأموال والأولاد شيئا ما تنفعهم في إصابة اللطف إليهم ودفع القهر عنهم { وأولئك أصحاب النار } [آل عمران: 116]؛ يعني: نار القطيعة، { هم فيها خالدون } [آل عمران: 116]؛ يعني: لا يفارقونها؛ لأنهم صحبوها بالقلوب والأرواح لاستيفاء شهوات النفس والأشباح.
ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات بقوله تعالى: { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } [آل عمران: 117]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى ضرب مثل ما ينفقون في هذه الدنيا؛ أي: استيفاء اللذات النفسانية، وتمتعات الشهوات الحيوانية، وانتفاع الحظوظ الدنيوية: كمثل ريح فيها صر بالاتفاق في تحصيل المرادات النفسانية، { فأهلكته } [آل عمران: 117]؛ أي: الريح التي فيها صر الشهوات النفسانية أهلكت حروث الروحاني وآثاره، { وما ظلمهم الله } [آل عمران: 117] في الخلقة، إذا أعطاهم حسن الاستعداد الروحاني وآثاره، { وما ظلمهم } [آل عمران: 117]، { ولكن أنفسهم يظلمون } [آل عمران: 117]، بإبطال استعداد الروحاني وإهلاك ريع حرثه.
[3.118-123]
ثم أخبر عن اتخاذ الغير بطانة فإنه يورث الخيانة بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } [آل عمران: 118]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى نهى عن مباطنة أهل السوء من الحديث وقال: { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } [آل عمران: 118]؛ أي: لا يقصرون في إنكاركم، والاعتراض عليكم والظن فيكم، { ودوا ما عنتم } [آل عمران: 118]؛ أي: أحبوا من نعيم الدنيا وزخارفها، ومشتهيات النفس، ومستحسنات الهوى ما نعمتموه وتركتموه، ويشهد عليكم إنكارهم؛ لدناءة همتهم وعلو همتكم، وفرحوا بما قاسيتم من المجاهدات ومخالفات النفس، وترك الشهوات واللذات، والتزام الفقر وتحمل الأذى، والصبر على المكروهات، وابغضوهم لتناكر الأرواح واختلاف أحوال الأشباح، { قد بدت البغضآء من أفواههم } [آل عمران: 118] باعتراضاتهم الفاسدة، { وما تخفي صدورهم } [آل عمران: 118] قلوبهم الحاسدة من الغل والحسد والحقد، { أكبر قد بينا لكم الآيات } [آل عمران: 118]؛ أي: أظهرنا عليكم آثار ألطافنا وإمارات أحقادهم، { إن كنتم تعقلون } [آل عمران: 118] تدركونها.
ومن آثار ألطافنا معكم { هآأنتم أولاء تحبونهم } [آل عمران: 119] محبة الرحمة والشفقة، وتدعونهم إلى ما أنتم عليه من الشوق والمحبة وصدق الطلب، والتجرد والتفرد للتوحيد، ومن إمارات أحقادهم أنهم ينكرون عليكم { ولا يحبونكم } [آل عمران: 119] ويدعونكم إلى ما هم عليه من الحرص والحسد والغفلة، وطلب الدنيا واستيفاء اللذات والشهوات، { وتؤمنون بالكتاب كله } [آل عمران: 119]؛ أي: بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا، وجهاد النفس ونهيها عن الهوى وبذلها في إعلاء كلمة الله العليا، والخلق مع الخلق والصدق في طلب الحق { وإذا لقوكم } [آل عمران: 119]، أهل التملق { قالوا آمنا } [آل عمران: 119]؛ يعني: يظهرون معكم الإيمان بما أنتم به، وعلمتم وهم لا يعلمون، { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [آل عمران: 119] الذي في قلوبهم منك حسدا عليكم، { قل موتوا بغيظكم } [آل عمران: 119] دعاء عليهم، { إن الله عليم بذات الصدور } [آل عمران: 119]؛ يعني: يعلم ما في القلوب التي في الصدور إن موتها في الغيظ والحسد.
فمن حسدهم عليكم { إن تمسسكم حسنة } [آل عمران: 120]، كرامة من الله تعالى وفضل منه، وقبول من الحق، وظهورات ألطاف الحق على معاملاتكم وأخلاقكم التي من نتائج كمالاتكم، { تسؤهم وإن تصبكم سيئة } [آل عمران: 120]، مساءة من الخلق والإنكار والرد والطعن والاعتراض، { يفرحوا بها وإن تصبروا } [آل عمران: 120] على ما أصابكم من الأذى والمصائب { وتتقوا } [آل عمران: 120]، عنهم بالله { لا يضركم كيدهم شيئا } [آل عمران: 120] بل يضرهم، { إن الله بما يعملون محيط } [آل عمران: 120]؛ أي: مهلكهم بكيدهم لقوله تعالى:
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر: 43].
ثم أخبر عن النصر بعد الصبر لقوله تعالى: { وإذ غدوت من أهلك } [آل عمران: 121]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى يشير إلى جواهر السالك الصادق السائر العاشق { وإذ غدوت } [آل عمران: 121] في طلب الحق والرجوع إلى مقام الهرب، { من أهلك } [آل عمران: 121]؛ أي: من صفات نفسك الحيوانية والبهيمية، { تبوىء المؤمنين } [آل عمران: 121]؛ أي: صفاتك الروحانية، { مقاعد للقتال } [آل عمران: 121]؛ أي: لقتال النفس والشيطان والدنيا، { والله سميع } [آل عمران: 121] لدعائكم بالإخلاص عن الرياء، وبترك الهلاك في نية الهوى، { عليم } [آل عمران: 121] بصدق نياتكم في طلب الحق، { إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا } [آل عمران: 122]؛ يعني: القلب وأوصافه، والروح وأخلاقها، { والله وليهما } [آل عمران: 122] أخرجهما من ظلمات البشرية والخلقية إلى أنوار الربوبية والخالقية، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [آل عمران: 122] في إخراجهم من الظلمات لا على أنفسهم.
{ ولقد نصركم الله ببدر } [آل عمران: 123] الدنيا { وأنتم أذلة } [آل عمران: 123] من غلبات شهوات النفس، وكثرة الوساوس، واستعنتم بربكم فأمدكم بنصرة القربة، { فاتقوا الله } [آل عمران: 123]؛ أي: اتقوا عما سواء؛ لينصركم على كل شيء يحول بين الله وبينكم، { لعلكم تشكرون } [آل عمران: 123]؛ أي: لكي ينعم بنعمة الهداية إليه فتكونوا مشاكرين لنعمة وجود المنعم به.
[3.124-127]
ثم أخبر عن إمداده لنصرة عباده بقوله تعالى: { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم } [آل عمران: 124]، إشارة في تحقيق الآيات: إن نور نبوة النبي صلى الله عليه وسلم يلهم أرواح المؤمنين على الدوام عند مقابلة الشيطان، ومجاهدة النفس، ومكايدة الشيطان والهوى، والركون إلى زخارف الدنيا والميل إليها، { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالف من الملائكة منزلين } [آل عمران: 124]؛ يعني: الجنود الروحانية الملكوتية التي لا تدركها الحواس لقوله تعالى:
وأنزل جنودا لم تروها
[التوبة: 26]، فتقوى بها قلوبكم لدفع خوف البشرية ورفع عجز الحيوانية، ويحييها بروح رباني كما قال تعالى:
وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22].
{ بلى إن تصبروا } [آل عمران: 125] على مخالفة النفس ونهيها عن هواها { وتتقوا } [آل عمران: 125]، بالله عما سواه { ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ءالف من الملائكة } [آل عمران: 125]؛ أي: يزدكم في الإمداد بالجنود الروحانية وهم { مسومين } [آل عمران: 125]، بسوم الربانية.
{ وما جعله الله } [آل عمران: 126]؛ أي: ما ذكر الله الملائكة وعددهم { إلا بشرى لكم } [آل عمران: 126]؛ أي: لاستبشاركم بالمدد الإلهي، { ولتطمئن قلوبكم به } [آل عمران: 126]، بذكر الملائكة وكثرة عددهم؛ لأنكم أرباب الوسائط المحتجبون عن الله برؤية الوسائط، وأما القلوب
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله
[الرعد: 28] فالله تعالى رفع الوسائط بينه وبينهم وقال:
أليس الله بكاف عبده
[الزمر: 36]، ولهذا التحقيق قال الله تعالى: { وما النصر إلا من عند الله } [آل عمران: 126]؛ يعني: ليس النصر من الملائكة وغيرهم إلا من عند الله؛ لأنه هو { العزيز } [آل عمران: 126] الذي يعز من يشاء بالنصر، ويذل من يشاء بالقهر،
فلله العزة جميعا
[فاطر: 10] { الحكيم } [آل عمران: 126] الذي بحكمته يعز من يشاء على من يشاء كيف يشاء متى شاء على ما يشاء.
{ ليقطع طرفا من الذين كفروا } [آل عمران: 127]؛ يعني: { وما النصر إلا من عند الله } [آل عمران: 126] ليقهر بعض الصفات النفسانية وهي منشأ الكفر بنصر الروح وصفاته، { أو يكبتهم } [آل عمران: 127]؛ أي: يغلبهم ويظفر بهم كما قال تعالى:
والله غالب على أمره
[يوسف: 21]، { فينقلبوا } [آل عمران: 127]؛ يعني: النفس وصفاتها، { خآئبين } [آل عمران: 127]، فما كانا يرجون أن يظفروا بالروح وصفاته ويغلبوهم.
[3.128-132]
ثم أخبر عن اختصاصه بالأمر في القهر والنصر بقوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } [آل عمران: 128]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى أظهر كمال رأفته ورحمته على عباده، بحيث أن الكفار كانوا يشجون رأس نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، ويدممون وجهه، ويكسرون رباعيته، وهو أراد أن يدعوا عليهم، خاطبه الله تعالى تعطفا وترحما عليهم بقوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء } [آل عمران: 128]؛ أي: ليس لك من أمر العباد شيء لتغلبهم وتدعوا عليهم، إنما أمرهم إلى الله نظيره قوله تعالى:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنمآ أمرهم إلى الله
[الأنعام: 159]؛ أي: بل أمرهم إلى الله، إن يشاء يغفر ذنوبهم ويمح كفرهم بالتوبة، بأن يتوب عليهم فإنهم عباده وإنه حكم بإسلامهم في الأزل، وإن يشأ يعذبهم على كفرهم وظلمهم { فإنهم ظالمون } [آل عمران: 128]، وقد حكم بكفرهم من الأزل؛ لأنه { ولله ما في السموت وما في الأرض } [آل عمران: 129]، من الملك والملك، والأمر والخلق، والمنع والعطاء، واللطف والقهر، { يغفر لمن يشآء } [آل عمران: 129] بلطفه وفضله، { ويعذب من يشآء } [آل عمران: 129]؛ أي: بقهره وعدله، { والله غفور رحيم } [آل عمران: 129]؛ أي: ولكن الله غفور يغفر الذنوب جميعا، رحيم وسعت رحمته كل شيء؛ لأنه سبقت رحمته غضبه، ولهذا ما وكل أمر العباد إلى أحد ولا حسابهم يوم القيامة وقال تعالى:
إن إلينآ إيابهم * ثم إن علينا حسابهم
[الغاشية: 25-26].
ثم أخبر عن طريق أهل الصلاح للفلاح بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة } [آل عمران: 130]، إشارة في الآيات: إن الله حرم الربا، وقال: { لا تأكلوا } [آل عمران: 130]؛ لأنه يؤدي إلى الحرص على طلب الدنيا، { أضعفا مضعفة } [آل عمران: 130] إلى ما لا يتناهى، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب "
والحرص درك من دركات النيران، ولهذا قال تعالى: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } [آل عمران: 131]، قدم عليها { واتقوا الله لعلكم تفلحون } [آل عمران: 130]، وهذا خطاب للخواص؛ أي: اتقوا بالله عن غير الله في طلب الله، { لعلكم تفلحون } [آل عمران: 130] عن حجب ما سواه، وتفوزوا بالوصول إلى الله تعالى.
ثم خاطب العموم الذي هم أرباب الوسائط بقوله تعالى: { واتقوا النار } [آل عمران: 131]؛ أي: نار الحرص التي يورث منها نار القطيعة وهي النار { التي أعدت للكافرين } [آل عمران: 131]، دون المؤمنين؛ لأن المؤمن إن يرد نار الحرص المركوز في جبلة بداية أمره كما قال:
وإن منكم إلا واردها
[مريم: 71]، ولكن ينجيه الله تعالى منه بالقناعة والتقوى لقوله تعالى:
ثم ننجي الذين اتقوا
[مريم: 72]، ولقوله تعالى: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } [آل عمران: 132] من عذاب نار الحرص، ولا تعذبون بنار القطيعة، كما أن الكافر مخصوص بهذا العذاب المعد له، وحاصل معناها أن الحرص على الدنيا والسعي في جمعها مذموم منهي عنه، والبذل والإيثار وترك الدنيا والقناعة فيها محمود مأمور به، يدل عليه قوله تعالى:
يمحق الله الربوا ويربي الصدقت
[البقرة: 276].
[3.133-136]
ثم أخبر عن المسارعة إلى الجنان بقوله تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [آل عمران: 133]، إشارة أن الله تعالى خلق الإنسان لدخول الجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، والوصول على حظائر القدس والقربة ومقاماتها، ثم أرسل المرسلين مبشرين بالجنة ومنذرين عن النار، وخص من بينهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه فقال تعالى:
وداعيا إلى الله
[الأحزاب: 46]، فحثهم بالاتقاء والحذر من النار كما قال تعالى:
واتقوا النار التي أعدت للكافرين
[آل عمران: 131]؛ يعني: هم مخصوصون بها؛ لأنهم ما اتقوا عن الشرك ومتابعة الهوى، فإن ترك الهوى ينجي به من النار وهو التوحيد والائتمار بأوامر الله تعالى، والانتهاء عن نواهيه.
وحرضهم عن المسارعة إلى الجنة بقوله تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [آل عمران: 133]؛ أي: سارعوا بقدم التقوى إلى مقام من المقامات قرب ربكم، { وجنة عرضها السموت والأرض } [آل عمران: 133]، والإشارة فيها: إن الوصول إليها بعد العبور عن ملك السماوات والأرض وهي المحسوسات التي تدركها الحواس الخمس، والعبور عنها إنما يكون بقدم التقوى الذي هو تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية، كما قال تعالى: { أعدت للمتقين } [آل عمران: 133]، فإن التقوى التي تولج به في عالم الملكوت هي التزكية لقوله تعالى:
جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
[طه: 76]، وذلك جزاء من تزكى، ويدل عليه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى عليه السلام:
" لن يلج ملكوت السماوات والأرض من لم يولد مرتين "
، فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها، وولوج الملكوت هو التحلية بالصفات الروحانية، فافهم جيدا.
وقوله تعالى: { أعدت للمتقين } [آل عمران: 133]؛ أي: هم مخصوصون ومراتبهم في الدرجات العلا بقدر تقوى النفوس وتزكيتها.
ثم شرح أقسام التقوى والتزكية بقوله تعالى: { الذين ينفقون في السرآء والضرآء } [آل عمران: 134]؛ أي: ينفقون أموالهم وأرواحهم في الضراء، بل ينفقون المكونات في طلب المكون، { والكاظمين الغيظ } [آل عمران: 134]؛ أي: عند القدرة على إنقاذه لطلب رضاء الله تعالى، { والعافين عن الناس } [آل عمران: 134]؛ يعني: يصدر منهم برؤية مصدر الأفعال إنه هو الله تعالى، { والله يحب المحسنين } [آل عمران: 134]؛ يعني: الذين لهم هذه الأخلاق، { والذين إذا فعلوا فاحشة } [آل عمران: 135]، وهي رؤية غير الله، { أو ظلموا أنفسهم } [آل عمران: 135]، وذلك تعلقاتها بما سوى الله، { ذكروا الله } [آل عمران: 135]، بالنظر إليه ورؤيته، { فاستغفروا لذنوبهم } [آل عمران: 135]، التجئوا إليه في قطع التعلقات عما سواه، { ومن يغفر الذنوب إلا الله } [آل عمران: 135]؛ أي: ومن يستر بكنف عواطفه ذنوب وجود الأغيار إلا الله، { ولم يصروا على ما فعلوا } [آل عمران: 135]، ولم يثبتوا على رؤية الوسائط والتعلق بتا، { وهم يعلمون } [آل عمران: 135]، " ألا إن كل شيء ما خلا الله باطل ".
{ أولئك } [آل عمران: 136]؛ يعني: الذي فيهم هذه الأقسام، { جزآؤهم مغفرة من ربهم } [آل عمران: 136]؛ أي: هم مستحقون لمقامات القربة، { وجنات تجري من تحتها الأنهار } [آل عمران: 136]؛ يعني: من مياه العناية خالدين فيها مشفعين إلى الأبد فيما يسارعون إليه، { ونعم أجر العاملين } [آل عمران: 136]، الذي سارعوا مما نالوا من الدرجات العلا وقربات المولى، والإشارة فيه: إن نيل المقصود في بذل المجهود، كما قال تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم: 39].
[3.137-140]
ثم أخبر عن سنن أهل السنن بقوله تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى خص السائرين إلى الله تعالى بالمهاجرة عن الأوطان والمسافرة إلى البلدان؛ لمفارقة الخلان والأخدان ومصاحبة الإخوان غير الخوان، فيصبروا عن سنن أهل السنن فقال تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137]؛ أي: أمم لهم سنن، { فسيروا } [آل عمران: 137] على سنن أهل السنة، { في الأرض } [آل عمران: 137]، نفوسكم الحيوانية بالعبور من أوصافها الدنية وأخلاقها الردية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية، وتتخلقوا بالأخلاق الربانية { فانظروا } [آل عمران: 137]؛ أي: ثم انظروا { كيف كان عاقبة المكذبين } [آل عمران: 137]؛ أي: صار حاصل أمر النفوس المكذبة بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية عند الوصول إليها.
{ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } [آل عمران: 138]، أي: لأهل الغفلة والغيبة الناسين عهد الميثاق { وهدى وموعظة للمتقين } [آل عمران: 138]؛ لأهل الهداية والشهود الذاكرين للعهود الذين انقطعوا بالتجارب واتقوا عما سوى الله { ولا تهنوا } [آل عمران: 139]، يا سائرين إلى الله في السير إليه { ولا تحزنوا } [آل عمران: 139]، على ما فاتكم من تنعمات الدنيا والكرامات الأخروية { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139]؛ يعني: وأنتم الأعلون من أهل الدنيا والآخرة في المقام عند ربكم إن كنتم مصدقين بهذه الأخبار تصديق الائتمار { إن يمسسكم قرح } [آل عمران: 140]، في أثناء السير من المجاهدات وأنواع البلاء والابتلاء { فقد مس القوم } [آل عمران: 140] من الأنبياء والأولياء، { قرح } [آل عمران: 140] من المحن، { مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران: 140]؛ أي: من المحن والبلاء والابتلاء والامتحان { نداولها } [آل عمران: 140] بين السائرين إلى يوما نعمة ويوما نقمة ويوما منحة ويوما محنة، { وليعلم الله الذين آمنوا } [آل عمران: 140]، أي: لتحيزهم بالابتلاء والامتحان، ويجعلهم مستعدين لمقام الشهادة، { ويتخذ منكم } [آل عمران: 140] يا مبتلون بالنعمة والنقمة في آثار السير { شهدآء } [آل عمران: 140] أرباب الشهود والمشاهدة، { والله لا يحب الظالمين } [آل عمران: 140]؛ يعني: الذين يصرفون استعدادهم في طلب غير الحق والسير إليه.
[3.141-144]
ثم أخبر عن فوائد الابتلاء والأعداء بقوله تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141]، { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [آل عمران: 142]، إشارة في الآيات: إن قوله تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] دال على أن كل هم وغم وبلاء وعناء ومحنة ومصيبة تصيب المؤمنين في الله يكون تكفيرا لذنوبهم، وتطهير لقلوبهم، وتخليصا لأرواحهم، وتمحيصا لأسرارهم، وما يصيب الكافرين من نعمة ودولة وحبور وسرور وغنى ومنى في الدنيا يكون سببا لكفرانهم، ومزيدا لطغيانهم، وغرورا لخذلانهم، وعمى لقلوبهم، وتمردا لنفوسهم، ومحقا لأرواحهم ولقلوبهم، وسحقا لأسرارهم، وفيه إشارة أخرى { وليمحص الله الذين آمنوا } [آل عمران: 141]؛ يعني: البلاء لأهل الولاء بتمحيص القلوب عن ظلمات العيوب، وتنويرها بأنوار الغيوب، { ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] بالبلاء؛ يعني: يمحق صفات نفوسهم الكافرة، ويمحو سمات أخلاقهم الفاجرة؛ ليتخلصوا عن تدنس حبس قفص الأشباح، ويفوزوا بتقديس رياض حظائر الأرواح كما قال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [آل عمران: 142]، إن تلجوا عالم الملكوت ورياح الأرواح، { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [آل عمران: 142]، ولم ير الله منكم مجاهدات تورث المشاهدات، ولم ير الصبر منك عن تزكية النفوس على وفق الشريعة، وتصفية القلوب على قانون الطريقة، وتحلية الأرواح بأنوار الحقيقة.
{ ولقد كنتم } [آل عمران: 143] يا أرباب الصدق وأصحاب الطلب { تمنون الموت } [آل عمران: 143]؛ يعني: موت النفوس عن صفاتها تزكية لها، { من قبل أن تلقوه } [آل عمران: 143]؛ يعني: قبل أن تلقوا مجاهدات ورياضات في خلاف النفس وقهرها عند لقاء العدو في الجهاد الأصغر ظاهرا، وفي الجهاد الأكبر باطنا، { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } [آل عمران: 143]؛ يعني: إذا رأيتم هذه الأسباب التي كنتم تمنون عيانا { وأنتم تنظرون } [آل عمران: 143] ولا تغذون أرواحكم، ولا تجاهدون في الله بأموالكم وأشباحكم في قوله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } [آل عمران: 144]، إشارة إلى: إن الإيمان التقليدي لا اعتبار له فيبطل المقلد عن إيمانه عن انعدام المقلد به، فمن كان إيمانه بتقليد الوالدين والأستاذ وأهل البلد
ولما يدخل الإيمان
[الحجرات: 14] في قلبه ولم تشرح صدره بنور الإسلام، فعند انقطاعه بالموت عن هذه الأسباب المقلد بها يعجز عن جواب سؤال الملكين في قولهما:
" من ربك فيقول: هاه لا أدري، وإذ يقولان: ما تقول في هذا الرجل؛ فيقول: هاه لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان له: لا دريت ولا تليت "
، كما ورد في الحديث، { ومن ينقلب على عقبيه } [آل عمران: 144]؛ أي: ومن يرتد عن إيمانه التقليدي { فلن يضر الله شيئا } [آل عمران: 144]؛ يعني: لا يضر الله ارتداده، ولكن يضر المرتد المقلد، { وسيجزي الله الشاكرين } [آل عمران: 144]؛ يعني: الذين شكروا نعمة الإيمان التقليدي بأداء حقوق الائتمار بأوامر الشرع، والانتهاء عن نواهيه، سيجزيهم الله بالإيمان مزيدا، كما قال تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم: 7].
[3.145-148]
ثم أخبر عن المؤمن المقلد أنه هو الذي يريد العقبى بقوله تعالى: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [آل عمران: 145]، إشارة في الآية: إنه لا يكون للنفس أن تموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية ويتخلص منها بطبعها إلا بإذن الله تعالى وأمره ونظر عنايته وجذبه فضله ورحمته، كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس، فكذلك ظلمة ليل النفس لا يغيب إلا بإشراق أنوار الربوبية، كما قال:
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر: 69] { كتبا مؤجلا } أي: كتابة من الله مؤجلة بوقت تعينه ومشيئته، كما قال تعالى:
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22]؛ أي بقلم العناية من نور الهداية.
ثم اثبت للعبد كسبا في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله تعالى: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } [آل عمران: 145]، والإشارة فيه: إن ثواب الدنيا هو أنواع الكرامات التي خص الله تعالى بعض خواصه في الدنيا من العلوم اللدنية الربانية، والكشوف والشهود الروحانية النورانية، وغيرها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أولئك الذين نفذ الله لهم الوعد، كما قال الصوفي ابن وقته في معناه:
أنشدوا خليلي هل أبصرتما أو سمعتما
بأكرم من مولى تمشي إلى عبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي
أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد
يعني: من كانت همته في الطلب التبتل إلى الله تعالى بالكلية والتوحيد إليه بخلوص النية وصفاء الطوية، ويقطع بقدم الصدق مفاوز البشرية، تستقبله ألطاف الربوبية وتنزله مقام العندية قبل خروجه بالصورة عن الدار الدنيوية؛ { ومن يرد ثواب الآخرة } [آل عمران: 145]؛ يعني: من كان مشربه من الأعمال لا من الأحوال، ولا يزعجه الشوق المبرح عن مألوفات الطبع، فيسير بقدم الشرع ومقصده نعيم الجنان لا بمقصوده يوجه به، يدل على هذا التصريح قوله تعالى:
ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
[البقرة: 201]، والحسنة ما أشرنا إليها في معنى الثواب، وحمل الثواب على هذا المعنى أولى من حمله على معنى إرادة الدنيا؛ لأن الثواب يستعمل بضد العقاب وإرادته هي عين العقاب؛ ولأنه ما ذكر الله تعالى عقيب قوله: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } [آل عمران: 145]، قوله:
وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20]، كما قال تعالى في قوله:
ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20] وله نظائر كثيرة، وقال في عقبه: { وسنجزي الشكرين } [آل عمران: 145]، وهذا وعد لا وعيد، والوعد يذكر عند فعل مقبول محمود، والوعيد يذكر عند فعل مردود ومذموم؛ والمعنى: سوف نجزي كلا الفريقين على قدر شكرهما، وهو رؤية النعمة، وجزاء الشكر ازدياد النعمة، فمن عمل شوقا على الجنة فقد رأى نعمة الجنة فثوابه في الآخرة، ومن عمل شوقا إلى الحق تعالى، فقد رأى نعمة وجود المنعم فثوابه في الدنيا؛ لأنه حاضر لا غيبة له، قريب لا بعيد،
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد: 4]، وقال:
" ألا من طلبني وجدني، ومن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا ".
ثم أخبر عن إقامة الشكر في إدامة الصبر بقوله تعالى: { وكأين من نبي } [آل عمران: 146]، إشارة في الآيات: إنه وكم من نبي قاتل العدو، وأعدى العدو هي النفس التي بين جنبي الإنسان، { قاتل معه ربيون كثير } [آل عمران: 146]، قاتلوا العدو والربيون، هي المتخلقون بأخلاق الرب { فما وهنوا لمآ أصابهم } [آل عمران: 146]، من تعب مجاهدات النفس وتضرر رياضتها، ومما ابتلاهم الله به
من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات
[البقرة: 155]، { في سبيل الله } [آل عمران: 146]؛ أي: في سلوك طريق الوصول إلى الله تعالى: { وما ضعفوا } [آل عمران: 146]؛ يعني: في طلب الحق، { وما استكانوا } [آل عمران: 146]؛ يعني: وما رجعوا عن الطريق بالعجز، وما أذلوا نفوسهم بالتفات إلى غير الحق والصد عن سبيل الله، بل شبوا على قدم الطلب واستقاموا كما أمروا وصبروا على ما نهوا عنه، { والله يحب الصابرين } [آل عمران: 146]، عند أحكام مجازي القدر المستسلمين لقضائه والمتحملين أعباء بلائه.
{ وما كان قولهم } [آل عمران: 147]، عند إصابة الآلام والأسقام ونزول الأقضية والأحكام، { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } [آل عمران: 147]؛، أي استر ذنوب وجودنا بإسبال مغفرتك { وإسرافنا في أمرنا } [آل عمران: 147]؛ أي: أمح عنا سرف أمورنا، { وثبت أقدامنا } [آل عمران: 147] على جادة الطلب { وانصرنا على القوم الكافرين } [آل عمران: 147]، متمردين صفات النفس الكافرة { فآتاهم الله } [آل عمران: 148] بصنيعهم وقولهم { ثواب الدنيا } [آل عمران: 148]؛ أي: فتوحات الغيب والموهب في الدنيا، { وحسن ثواب الآخرة } [آل عمران: 148]؛ أي: أحسن المراتب وأعلى المقامات في الآخرة، { والله يحب المحسنين } [آل عمران: 148]، الذين يعبدون الله على بصيرة كأنهم يرونه، وفيها إشارة أخرى وهي: إن الله تعالى لما أراد بخواص عباده كرامة التخلق بأخلاقه، ابتلاهم بقتال العدو وثبتهم عند المقامات، فاستخرج من معادن ذواتهم جواهر الصفات المكنونة فيها المكرم بها بنو آدم الصبر والإحسان، فهما صفات من صفات الله تعالى، ويتخلقوا بها هذا من ثواب الذي أتاهم الله تعالى، والله يحب صفاته ويحب من تخلق بصفاته، ولهذا قال تعالى:
والله يحب المحسنين
[آل عمران: 134].
[3.149-151]
ثم أخبر عن طاعة الكافرين أنها خذلان الخاسرين بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } [آل عمران: 149]، إشارة في الآيتين: إن الخطاب مع القلوب المؤمنة المستخلصة من صفات النفس الأمارة بالسوء، إن تطيعوا النفوس الكافرة وتتبعوا هواها، { يردوكم على أعقابكم } [آل عمران: 149] إلى أسفل السافلين ببشريتكم ويمسكم كما كنتم، كقوله تعالى:
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 5]، { فتنقلبوا خاسرين } [آل عمران: 149].
{ بل الله مولاكم } [آل عمران: 150]، كقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، { وهو خير الناصرين } [آل عمران: 150]، لا يحتمل عليه غير الله من الناصرين.
وقال تعالى: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله } [آل عمران: 151] أي: سبب إشراكهم بالله نظيره قوله تعالى:
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
[الصف: 5]؛ أي: بسبب زيغهم، وقال تعالى:
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا
[السجدة: 24]؛ أي: بسبب صبرهم وأمثاله في القرآن كثيرة، ثم قال تعالى: { ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } [آل عمران: 151]؛ أي: مرجع الذين أشركوا نار القطيعة وبئس مثواهم لظلم عظيم؛ ولهذا
لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48].
[3.152-153]
ثم أخبر عن الهزيمة أنها من طلب الغنيمة بقوله تعالى: { ولقد صدقكم الله وعده } [آل عمران: 152]، والإشارة في الآيتين: إن الله تعالى صدقكم أيها الطلاب وعده، وهو قوله:
" ألا من طلبني وجدني "
، { إذ تحسونهم } [آل عمران: 152]؛ أي: تقتلون وتميتون الصفات البشرية { بإذنه } [آل عمران: 152]، على وفق أمره على وفق الطبع، { حتى إذا فشلتم } [آل عمران: 152]؛ أي: حسبتم وتركتم قتال النفس وصفاتها، { وتنازعتم في الأمر } [آل عمران: 152]؛ أي: خالفتم أمر الطلب { وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون } [آل عمران: 152]؛ أي: عصيتم أمر الدليل المؤدي من بعد ما أريكم الدليل بالتربية ما تحبون من دلائل الطريق التوبة من التسليك، وإرشاد الخروج من محاب الدنيا والآخرة، { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } [آل عمران: 152]؛ يعني: إنما عصيتم أمر الدليل إذ دلكم على الله؛ لأن منكم من كان همته في طلب الدنيا وزخارفها، ومنكم من كان همته في طلب الجنة ونعيمها ، { ثم صرفكم عنهم } [آل عمران: 152]؛ أي: مجاهدة النفس وقصد صفاتها باستيلائها عليكم، { ليبتليكم } [آل عمران: 152]؛ أي: ليمتحنكم بالسر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات، أو بالفطام بعد ما أرضعكم بلبان الملاطفات، { ولقد عفا عنكم } [آل عمران: 152]، بعد ابتلائكم عفا عن التفاتكم في الدنيا والآخرة، فإنه علم ضعف الإنسان وعجز بشريته في طلب الحق وأدركتكم العناية الأزلية التي بها قدر لكم الإيمان وجعلكم مؤمنين، { والله ذو فضل على المؤمنين } [آل عمران: 152] من الأزل.
{ إذ تصعدون } [آل عمران: 153]؛ يعني: بفضل الله وعنايته تصعدون، { إذ تصعدون } [آل عمران: 153] طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين، { ولا تلوون على أحد } [آل عمران: 153]؛ أي: لا تلتفتون إلى أحد من الأمرين طلب الدنيا والآخرة، { والرسول يدعوكم في أخركم } [آل عمران: 153]؛ يعني: رسول الوارد من الحق يدعوكم إلى عبادتي إلي، { فأثبكم } [آل عمران: 153]، فجازاكم بفضله { غما بغم } [آل عمران: 153]؛ أي بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق والوصول إليه، { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [آل عمران: 153] من الدنيا وزخارفها، { ولا مآ أصبكم } [آل عمران: 153] من نعيم الجنة الباقية، فإن لذة غم طلب الحق يزيد على لذة نعيم الدنيا والآخرة، فضلا من لذة الوجدان وسرور الوصول ونعيم الشهود، { والله خبير بما تعملون } [آل عمران: 153]، من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه، ويجيب رجاكم ويوفي جزاءكم.
[3.154-155]
ثم أخبر عن إنزال النعيم بعد الغم بقوله تعالى: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم } [آل عمران: 154]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى ينزل حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة، كما أنزل حقيقة الآمنة والصبر والتثبت والشجاعة على الصحابة يوم أحد في صورة النعاس، { يغشى طآئفة منكم } [آل عمران: 154]؛ يعني: المؤمنين فجعل النعاس معدن جواهر ألطافه من الأمن وغيره مما ذكر الصحابة، وجعله معدن جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب من المكاشفات والمشاهدات، والواردات وأنواع المواهب، فإن أكثرها تقع في النعاس بين النوم واليقظة، { وطآئفة } [آل عمران: 154]؛ يعني: المنافقين، { قد أهمتهم أنفسهم } [آل عمران: 154]، هي إشارة إلى أرباب النفوس الذين لا يهتم بهم إلا هم { أنفسهم } [آل عمران: 154]، من استيفاء حظوظها وتتبع شهواتها، ولذاتها الجسمانية وتمتعاتها الحيوانية بخسة طبعها وركاكة نظرها الحسي، { يظنون بالله غير الحق } [آل عمران: 154]؛ يعني الظن الباطل { ظن الجهلية } [آل عمران: 154]؛ أي: كظن أهل الجاهلية؛ وهو ظن الأمور إلى الخلق لا إلى الله بقضائه وقدره، { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } [آل عمران: 154]؛ أي: ما لنا مدعي الإسلام من أمر النصرة والظفر من شيء، فما وعدنا الله ورسوله أن
النصر إلا من عند الله
[آل عمران: 126] وإليه أمره، { قل إن الأمر } في الدارين { كله لله } [آل عمران: 154]، منه وإليه وبه { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } [آل عمران: 154]، بل تبدون بعضهم لبعض، وهو قوله تعالى: { يقولون لو كان لنا من الأمر } [آل عمران: 154]، من أمر النصرة والحقيقة في الدين، { شيء ما قتلنا ههنا } [آل عمران: 154]، بالباطل على أيدي حزب الشيطان والمبطلين { قل لو كنتم } [آل عمران: 154]، أيها الغافلون عن الأحكام الأزلية وسر القدر، { في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل } [آل عمران: 154]؛ أي قضى وقدر عليهم القتل بالحكم من الأزلية { إلى مضاجعهم } [آل عمران: 154]،
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
[الأنفال: 42]، { وليبتلي الله ما في صدوركم } [آل عمران: 154]، أيها المنافقون مما تخفون في أنفسكم من النفاق والإنكار والاعتراض على الله ورسوله، والكفر بآيات الله والأخلاق الردية والأوصاف الدنية، ويخرجها عنكم قولا وفعلا، أيها المؤمنون مما تضمرون في قلوبكم من الإيمان والإيقان والتصديق بالقرآن، والتسليم لله ورسوله وتفويض الأمور إلى الله، والرضا بقضاء الله وقدره، والأخلاق الحميدة والأوصاف الكريمة، ويستخرجها منكم خلقا وعملا بتخصيص هذا التمحيص.
وفيه معنى آخر وهو: أن معنى التمحيص بمعنى التطهير، { وليمحص ما في قلوبكم } [آل عمران: 154]، من دنس الإنساني وغيره من الصفات الذميمة عند التولي، فيستغفرون منها فيغفر فيطهركم منها، كما قال تعالى: { عفا الله عنهم } [آل عمران: 155]، { والله عليم بذات الصدور } [آل عمران: 154]؛ يعني: قبل استخراج ما فيها، { عليم } [آل عمران: 154] بما فيها، فيستخرجها بهذا؛ لإظهار ما فيها على العالمين حجة عليهم ولهم، والنكتة في ذكر أصحاب النفوس، وهم المنافقون بابتلاء ما في الصدور وفي ذكر أولى الألباب، وهم المؤمنون بتمحيص ما في القلوب أن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان وتسوله كقوله تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل
[الأعراف: 43]، وإن القلوب محل التقوى والإيمان، قال تعالى:
امتحن الله قلوبهم للتقوى
[الحجرات: 3]، وكذلك كقاله تعالى:
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22]، وقال:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28]، ولذلك أظهر الله تعالى تمحيص ما في قلوب المؤمنين ثلث الصفات من صفاته العلا وأسمائه الحسنى، وهو العفو الغفور والرحيم بقوله تعالى: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } [آل عمران: 155] من التولي؛ ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم:
" لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم فيذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم "
، ليعلم أن الله تعالى قادر على كل شيء من الخير والشر أسرارا لا يبلغ كنهها إلا هو،
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255].
[3.156-159]
ثم أخبر عن كفر من فزع الغزاة في الحياة والممات بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [آل عمران: 156] في الطلب والسير إلى الله، { إذا ضربوا في الأرض } [آل عمران: 156]؛ أي: سافروا في البلاد وجحدوا وأنكروا وأرجعوا عن طريق الحق باستهواء الشيطان وغلبة الهوى، وكفروا إشارة في الآيات: { يأيها الذين } [آل عمران: 156]، خطاب { آمنوا } [آل عمران: 156] مع السائرين إلى اللهو لا تكونوا كالذين يستفيدون من المراد وسلكوا في أرض نفوسهم سبيل الرشاد { أو كانوا غزى } [آل عمران: 156]، مجاهدين مع كفاء النفس والهوى والشيطان، { لو كانوا عندنا } [آل عمران: 156]؛ أي: موافقين معنا في الرفق { ما ماتوا } [آل عمران: 156] من مقاساة الشدائد، { وما قتلوا } [آل عمران: 156] رياضة وجهدا، { ليجعل الله ذلك } [آل عمران: 156] القول { حسرة في قلوبهم } [آل عمران : 156]؛ أي: قلوب الصديقين، { والله بما تعملون } [آل عمران: 156]، أيها المنكرون في تغيير الصديقين، وأيها الصديقون في الثبات على قدم الصدق في طلب الحق { بصير } [آل عمران: 156]، فيما يجازي الفريقين على قدر الاستحقاق.
{ ولئن قتلتم في سبيل الله } [آل عمران: 157]، سبيل الرشاد، بسيف الصدق { أو متم } [آل عمران: 157]، عن صفات النفس { لمغفرة من الله ورحمة } يحبكم الله بتا، { خير مما يجمعون } [آل عمران: 157]، أرباب النفوس وأهل الأهواء من أوزان جمع الدنيا والحرص عليها والبخل بها، ومن وبال التنعم والتلذذ بشهواتها، { ولئن متم } [آل عمران: 158] أيها المجاهدون في جهاد النفس، { أو قتلتم } [آل عمران: 158] أيها الصديقون في سبيل الطلب، { لإلى الله تحشرون } [آل عمران: 158]؛ يعني: حشر المقتول بسيف الصدق والذي ماتت نفسه عن صفاتها، يكون إلى الله لا إلى غيره من الجنة والنار، وإن كان عبورها عليها، كقوله تعالى:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55].
ثم أخبر عن لين القلوب أنه برحمته علام الغيوب بقوله تعالى: { فبما رحمة من الله لنت لهم } [آل عمران: 159]، إشارة في الآية: إن كل لين يظهر في قلوب المؤمنين بعضهم على بعض، فهو برحمته الله ونتيجة لطفه مع عباده إلا من خصوصية أنفسهم،
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53]، وإن كانت نفس الأنبياء - عليهم السلام - حتى قال الله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: { فبما رحمة من الله لنت لهم } [آل عمران: 159]؛ يعني: لين قلبك للمؤمنين كان من رحمة الله التي أرسلنا على قلبك إليهم لا من رحمتك، فالله تعالى يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ويقول له: { ولو كنت فظا غليظ القلب } [آل عمران: 159]؛ يعني: ولو كنت باقيا على فظاظة خلقك، وقساوة قلبك قبل أن تشرح صدرك وتغسل قلبك وتنظر إليه بنظر المحبة، ونرسل إليه الرحمة لتلين جمالهم { لانفضوا من حولك } [آل عمران: 159]، وتفرقوا عن صحبتك من خشونة قلبك وغلظة فعلك، وقلة صبرك وتحملك على أذاهم، وكما أنك لنت لهم برحمتنا { فاعف عنهم } [آل عمران: 159] بعفونا، { واستغفر لهم } [آل عمران: 159] بمغفرتنا، { وشاورهم في الأمر } [آل عمران: 159]، فإن القلوب للعفو عنها المغفور منورة بصفات عفونا ومغفرتنا، فهو مؤمنة في الإشارة منها فإنها تنظر بنور ربها، وكل قلب ينظر بنور الحق لا يرى إلا الحق فيكون صادقا فيما يرى، كما قال تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11]، فمعناه؛ أي: فشاور أرباب القلوب المنورة الملهمة من الله؛ ليكون رأى قلبك النور بنور الوحي مؤكد بالآراء التي منشأها القلوب المنور بنور الإلهام، فإنه تلو الوحي، نظيره قوله تعالى:
فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
[يونس: 94].
ثم قال تعالى: { فإذا عزمت } [آل عمران: 159]؛ يعني: بعد المشاورة لاستصواب الآراء المنورة بنور الوحي والإلهام، { فتوكل على الله } [آل عمران: 159]، لا على تلك الآراء فيما يظهر من الأمور مما تكرهه وتحبه، فإنه أعلم بالصواب منه لك منك، كقوله تعالى:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
[البقرة: 216]، وفيه معنى آخر، فإذا عرفت الخروج من قشر الوجود، فتوكل على الله إلى تفويض أمر قشر الوجود إليه لا تقدر أن تخرج عن نفسك، بل هو الذي يخرجكم عن ظلمة وجودكم المخلوقة إلى نور القدم، كما قال تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، وقال تعالى:
يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35]، والتوكل تفويض الأمور الإلهية التي لا يمكن لغير الله تعالى، { إن الله يحب المتوكلين } [آل عمران: 159]، الذين جذبتهم العناية برسن المحبة إلى عزيمة الخروج من حجاب الوجود للوصول إلى المحبوب، ففوضوا أمر إخراج عن الوجود إلى الله تعالى لا سبيل لغيره إليه؛ لأنه هو الذي أخرجهم من العدم إلى الوجود، فهو يخرجهم منه بفضله وكرمه ويهديهم إليه.
[3.160-163]
ثم أخبر عن النصرة والخذلان أنهما إليه لا إلى الأعوان، بقوله تعالى: { إن ينصركم الله } [آل عمران: 160]، إشارة في الآية: إن الله تعالى إن ينصركم بجذبات العناية ويخرجكم من حجب الوجود، { فلا غالب لكم } [آل عمران: 160]، من أوصافكم وأحوالكم وأقوالكم، ومن نعمة الدنيوية والأخروية التي هي منشأ الوجود، { وإن يخذلكم } [آل عمران: 160] بترك الجذبات لإخراجكم { فمن ذا الذي ينصركم } [آل عمران: 160] يخرجكم من جمع الأنبياء والمشايخ، { من بعده } [آل عمران: 160] من بعد فضل الله وكرمه، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [آل عمران: 160]؛ أي: فليفوض إلى الله تعالى أمر الإخراج من الوجود، المؤمنون الذين يعتقدون أن الله هو القادر على الإخراج عن الوجود، كما أنه القادر على الإدخال في الوجود، ويوقنون إن الخلائق عاجزون عن هذا الإدخال والإخراج إلا بإذنه، ولا يصح التوكل على الله إلا لمؤمن موقن بأنه
ألا إلى الله تصير الأمور
[الشورى: 53] كلها في معنى الخلق والرزق والأجل وغير ذلك، كقوله تعالى:
قل كل من عند الله
[النساء: 78].
ثم أخبر عن نفي غلول الأنبياء في شيء من الأشياء بقوله تعالى: { وما كان لنبي أن يغل } [آل عمران: 161]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى ينفي الغلول عن الأنبياء في قوله: { وما كان لنبي أن يغل } [آل عمران: 161] من ثلاثة أوجه:
إحداها: ينفي الغلول من أفعالهم وأقوالهم؛ لأن فاعل الغلول أمر به وأمر به وهو منكر، والأنبياء أمروا بالمعروف، فالآمر بالمنكر لا يصلح أن يكون نبيا.
وثانيها: ينفي الغلول من خصالهم؛ لأن الغال خائن، والأنبياء أمناء الله على وحيه، والخائن لا يصلح أن يكون نبيا.
والثالث: ينفي الغلول من أحوالهم؛ لأن حال الغال أن يكون الغالب على أمره النفس وهواها، ومن حال النبي أن يكون غالبا على أمره.
كما أخبر عن حال يوسف عليه السلام بقوله:
والله غالب على أمره
[يوسف: 21]، فمغلوب النفس والهوى لا يصلح للنبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من يكون شفيعا لأمته يوم القيامة، والشفيع هو الذي ينجوا بنفسه ثم ينجي غيره، ومن حال الغال ما قال الله تعالى: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } [آل عمران: 161]؛ أي: يأتي به حاملا على ظهره { ثم توفى كل نفس } [آل عمران: 161]؛ أي: يجازي كل غالبة { ما كسبت } [آل عمران: 161]، من الغلول، { وهم لا يظلمون } [آل عمران: 161] في مجازاة عقوبة الغلول، دليله قوله تعالى:
وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[النحل: 118]، فالمعاقب بمجازاة الغلول كيف ينجي غيره من العقوبة؟ ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: { أفمن اتبع رضوان } [آل عمران: 162]؛ أي: وحي { الله } [آل عمران: 162]، دليله من
اتبع مآ أوحي إليك من ربك
[الأنعام: 106]، { كمن بآء بسخط من الله } [آل عمران: 162]؛ أي: الغلول، معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم من اتبع ما أوحي إليه طلب رضوان الله، لا الغال الذي يتبع بغلوله سخط الله، { ومأواه جهنم وبئس المصير } [آل عمران: 162]، من هذا حاله فلا يساوي حال الغال أحوال الأنبياء، { هم درجت عند الله } [آل عمران: 163]؛ يعني: هم الدرجات في مقام عندية الحق وهو مقعد الصدق، كقوله تعالى
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، { والله بصير بما يعملون } [آل عمران: 163]، أهل الدرجات من الأنبياء وأتباعهم، وأهل الدركات من المنافقين القالين، فيجازيهم على قدر أعمالهم ونياتهم،
" فإنما الأعمال بالنيات ".
[3.164-168]
ثم أخبر عن خاصية النبوة والمن بها على الأمة بقوله تعالى: { لقد من الله على المؤمنين } [آل عمران: 164]، إشارة في الآية: إن الله تعالى من على المؤمنين { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } [آل عمران: 164]؛ أي: من جنسهم من بني آدم ولا ملكا من الملائكة، فإنهم لا يدركونه بالحواس الخمس ولا ينفعهم به؛ لأنه من غير جنسهم، ويكن الانتفاع إلا من الجنس، كما قال تعالى:
ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
[الأنعام: 9]؛ يعني: من الكسوة البشرية؛ لكي ينتفعوا به حين { يتلوا عليهم آياته } [آل عمران: 164]؛ لأن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلوا عليه آيات الله وبعض الصحابة كانوا حاضرين، ولكن لا يسمعون تلاوته ولا ينتفعون بها، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوا عليهم بلسان الظاهر فيسمعونها وينتفعون بها، فلما أراد الله تعالى أن يعلمهم معالم دينهم بواسطة جبريل عليه السلام، ألبسه لباس الصورة حتى جاء على صورة إعرابي قد أسند ركبته إلى ركبة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ ولم يعرفه أحد من الصحابة، فلما خرج من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أتاكم بعلم معالم الدين "؛ فلهذا من الله تعالى عليهم ببعث النبي صلى الله عليه وسلم من جنسهم يتلوا عليهم كل يوم وليلة آياته { ويزكيهم } [آل عمران: 164] عن أخلاقهم الذميمة النفسانية، { ويعلمهم الكتاب } [آل عمران: 164]؛ أي: القرآن، ويبين لهم معانيه وأسراره، كما قال تعالى
لتبين للناس ما نزل إليهم
[النحل: 44]، { والحكمة } [آل عمران: 164]؛ يعني: الشرائع والسنن كما ذكره في سورة البقرة، { وإن كانوا } [آل عمران: 164] في الجاهلية، { من قبل } [آل عمران: 164] بعثه، { لفي ضلال مبين } [آل عمران: 164]،
إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم
[الزخرف: 22].
ثم أخبر عن إصابة المصيبة أنها من شؤم النفس الخبيثة بقوله تعالى: { أو لمآ أصبتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } [آل عمران: 165]، إشارة في الآية: إن المؤمن إذا أصابته مصيبة يصيب مثلها من كفارة الذنوب ورفعة الدرجات، وإن أصابته تلك المصيبة من شؤم ما اكتسبت أيديكم، { إن الله على كل شيء قدير } [آل عمران: 165] أن يجعل المصيبة كفارة للذنوب ورفعة للدرجات، وأن يغفر الذنوب ويرفع الدرجات من غير مصيبة، كقوله تعالى:
ويعفوا عن كثير
[المائدة: 15]، وقال تعالى:
رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشآء من عباده
[غافر: 15]، { ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [آل عمران: 166]؛ أي: ببلائه وابتلائه لكم، { وليعلم المؤمنين } [آل عمران: 166]، { وليعلم الذين نافقوا } [آل عمران: 167]؛ أي: ليبتلي المؤمنين منه ببلاء حسن في بذل الروح والصبر والثبات على قدم الجهاد في سبيل الله، ويميزهم عن المنافقين، وليظهر نفاق الذين نافقوا بقعودهم عن القتال وحب الحياة واختيار الدنيا على الآخرة، وإظهار نفاقهم وكذبهم عند قولهم: { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } [آل عمران: 167]؛ يدعون بألسنتهم أتباع المجاهدين في سبيل الله، وليس في قلوبهم شوق إلى الله ومحبته، ولا يتعرضون لتذر الروح شوقا إلى لقائه وطلبا لرضائه ولأنوار الإيمان، { والله أعلم بما يكتمون } [آل عمران: 167]؛ أي: أعلم منهم بما يكتمون في أنفسهم من صفات الكفر والنفاق، وبما جبلت عليه أنفسهم في أصل الخلقة وتخمير طينتهم التي من نتائج صفاتهم الذميمة وفساد اعتقادهم، { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } [آل عمران: 168] وافقونا بالنفاق وسوء الاعتقاد والقعود عن طريقة الحق، { ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [آل عمران: 168] موت القلوب الذين من خصائصه: النفاق، وسوء الأخلاق، وفساد الاعتقاد، { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 168] في دعواكم أنكم مصيبون في نفاقكم، وإخوانكم مخطئون على بذل الروح في سبيل الله.
[3.169-173]
ثم أخبر عن حال من رزق الاستشهاد ومن قتل في الجهاد بقوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } [آل عمران: 169]، إشارة في الآية: إن أرباب القلوب الذين قتلوا أنفسهم بسيف الصدق في سبيل السير إلى الله تعالى، فلا تحسبن أهل الغفلة والبطالة إنهم أموات وما ماتت نفوسهم، { بل أحياء } [آل عمران: 169] قلوبهم، { عند ربهم } [آل عمران: 169] بنور جماله، كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به
[الأنعام: 122]، { يرزقون } [آل عمران: 169]، من كؤوس تجلي الصفات ساقيهم شراب الشهود، { فرحين بمآ آتاهم الله من فضله } [آل عمران: 170]؛ أي: بما جذبتهم العناية الإلهية إلى عالم الوصول، { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } [آل عمران: 170]، من إخوان الصدق ومريديهم، { لم يلحقوا بهم من خلفهم } [آل عمران: 170]، وهو بعد في سلوك الطريق إلى الله تعالى، { ألا خوف عليهم } [آل عمران: 170] من الانقطاع في الطريق؛ لأنهم شاهدوا وعاينوا إن متابعيهم مجذوبون بجذبات الحق، وإنه لا انقطاع بها فيصلون إليهم، { ولا هم يحزنون } [آل عمران: 170]، على فوات الحياة النفسانية؛ لفوزهم بالحياة الربانية.
ثم أخبر عن الاستبشار بفضل الملك الغفار بقوله تعالى: { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [آل عمران: 171]، والإشارة في الآيات: إن الشهداء الذين استشهدوا في طلب الحق بسيف الصدق، يستبشرون عند فناء البشرية بنعمة من الله وهي البقاء ببقاء الإلوهية؛ لأنه قال تعالى: { بنعمة من الله } [آل عمران: 171] لا من الجنة وغيرها، { وفضل } [آل عمران: 171]؛ أي: إعطائهم هذه النعمة إنما كان بفضل منه لا بمجازاة أعمالهم على الحقيقة؛ لأن المجازاة إنما تكون بالأمثال والأضعاف، كقوله تعالى:
من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها
[الأنعام: 160]، و
ليس كمثله شيء
[الشورى: 11]، فاعلم جدا { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [آل عمران: 171]؛ يعني: إذا أعطاهم نعمة البقاء بفضل منه لا مجازاة أعمالهم فلا يضيع أجر أعمالهم، فيجازيهم بالجنة ونعيمها
جزآء بما كانوا يعملون
[السجدة: 17]، كما قال تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26]؛ الحسنى: عفي الجنة، والزيادة هي: النعمة التي من فضل الله وفضل الله منه.
ثم وصفهم وقال تعالى: { الذين استجابوا لله } [آل عمران: 172] عند الميثاق الأول، إذ قال:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] فأجابوه:
قالوا بلى
[الأعراف: 172]، أقررنا بالربوبية والوحدانية، { والرسول } [آل عمران: 172]، فأجابوه بقبول دعوة أتباعه في أخذ ما أتاهم وانتهاء ما نهاهم عنه، { من بعد مآ أصابهم القرح } [آل عمران: 172]؛ أي: جراحة المفارقة من حظائر القدس وجوار رب العالمين، فإن الخلائق استجابوا لله عامتهم إذ
قالوا بلى
[الأعراف: 172]، قيل: أصابهم قرح المفارقة من تلك الحضرة، وما استجاب للرسول من بعد ما أصابهم قرح المفارقة، إلا خواصهم وهم الذين اتقوا الشرك الجلي والخفي منهم، وأحسنوا في العبودية، كما قال تعالى: { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } [آل عمران: 172]، وهو نعمة البقاء بالله التي هي الفضل من الله، يدل عليه قوله تعالى:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113].
ثم وصفهم بصفة أخرى هي تتمة كلامه، وقال تعالى: { الذين قال لهم الناس } [آل عمران: 173]؛ يعني: بالنفس الأمارة بالسوء الناسية تلك المخاطبة عند الميثاق، { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } [آل عمران: 173]، واهربوا منهم، وفي الحقيقة؛ أي: القلب ودواعي الحق [لو صدقوكم] أيتها النفس اللوامة؛ لغنوكم عنكم بسطوة ذكر الله وتجلي صفاته، فاخشوهم بترك الذكر والمراقبة { فزادهم إيمانا } [آل عمران: 173]، أما لأهل الظاهر بالتفكر في عواقب الأمور، فعلموا أن الدنيا فانية وأن
كل من عليها فان
[الرحمن: 26]، وتحققوا أن المقتولين في سبيل الله { أحياء عند ربهم يرزقون } [آل عمران: 169]، فزادهم نور الإيمان، وشاهدوا بذلك النور الزائد مقامات أهل الزيادة عند ربهم فزهدوا في الدنيا وما فيها؛ طلبا مقام العندية في مقعد الصدق، { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [آل عمران: 173]، وأما لأهل الحقيقة فبشواهد الغيب كوشفوا أن الحجاب الأصلي والمانع الحقيقي لهم عن المقصد والمقصود وهي النفس وصفاتها فاشتاقوا إلى فنائها وارتحلوا عن فنائها، ونادى رب العزة: " أنا يا أهل العزة، [الراجين ذلك] المقام، دع نفسك وتعال " ، فزادهم صار الإيمان عيانا، فودعوا الملوثات وخلفوا المكونات، { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [آل عمران: 173]، كما قال الخليل عليه السلام مع جبريل عليه السلام، والذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
" كان آخر ما تكلم به إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل "
؛ يعني: آخر مقام الخلة أن يكبر عن نفسه وما سواه، كما قال بعضهم: حب الواحد انفراد الواحد.
[3.174-177]
ثم أخبر عن حالهم في مالهم بقوله تعالى: { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } [آل عمران: 174]؛ أي: من فضيلة وكمالية لم يكونوا منصفين عند خروجهم من مكان من الغيب إلى عالم الشهادة بالتجارة لهذا الربح،
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[المائدة: 54]، لمن اتبع رضوانه، كما قال تعالى:
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
[المائدة: 16]، والسلام هو الله تبارك وتعالى.
{ إنما ذلكم الشيطان } [آل عمران: 175]؛ يعني: على طريق الحق إليه، { يخوف أولياءه } [آل عمران: 175]؛ يعني: من لم يكن ولي الشيطان لا يخوفه، كقوله تعالى:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الحجر: 42]، { فلا تخافوهم } [آل عمران: 175]؛ لأنه ليس لأحد من الأمر شيء، { وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175]، بأني أنا الضار النافع، وأنا المعطي وأنا المانع بهذه الأفعال، فإنها وفق الإرادة والمشيئة الأزلية،
ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة: 253]، { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [آل عمران: 176]، إشارة إلى كمال التسليم والرضاء بالقضاء، وما يجري في العالم من الكفار وغيرهم مما يسارع به في الكفر من القتل والنهب والأسر وأمثاله، بحيث لا تحزن على شيء منها { إنهم } [آل عمران: 176]؛ أي: لأنهم { لن يضروا الله شيئا } [آل عمران: 176]، القدرية فإنما تجري عليهم هذه الأفعال الموبقة؛ لأنه { يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } [آل عمران: 176] من الجنة ونعيمها، ويريد أن يكون { ولهم عذاب عظيم } [آل عمران: 176]، من نار القطيعة وجحيمها ألزم الحجة على القدرية، وإن الخير والشر من الله تعالى بهذه الآية، ثم ألزم الحجة على الجبرية بآية أخرى، وقال تعالى: { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا } [آل عمران: 177]، أثبت لهم الكسب والاختيار والاشتراء، { ولهم عذاب أليم } [آل عمران: 177]، من فقدان الإيمان ووجدان الكفر بما اشتروا الكفر بالإيمان.
[3.178-180]
ثم أخبر عن إملائهم لابتلائهم بقوله تعالى: { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } [آل عمران: 178]، الإشارة في الآيات: إن ازدياد إثم الكفر وتماديه في الكفر من نتائج قهر الله وخذلانه في صورة امتنانه في العصيان والكفران، إنما علا لهم { ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } [آل عمران: 178]، في الدنيا بالقتل والنهب والأسر والنبي وفي الآخرة بالسلاسل والأغلال
يسحبون في النار على وجوههم
[القمر: 48].
ثم ذكر من نتائج فضل الله وكرمه مع المؤمنين وقال تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه } [آل عمران: 179]، الخطاب مع أهل الخذلان؛ يعني: لا يذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الخذلان والكفر، بل يجذبهم بجذبات العناية من حضيض الضلالة إلى ذروة الهداية { حتى يميز الخبيث } [آل عمران: 179]، المخذول المقهور { من الطيب } [آل عمران: 179]، المجذوب المشكور، { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } [آل عمران: 179]؛ لتميز المقبول من المردود، والسعيد من الشقي { ولكن الله يجتبي من رسله من يشآء } [آل عمران: 179]، فتطلعون بهم على الغيب أن المجتبي هو المقبول السعيد، { فآمنوا بالله ورسله } [آل عمران: 179]؛ لتكونوا من أهل الاجتباء ، ثم قال تعالى: { وإن تؤمنوا وتتقوا } [آل عمران: 179]، بمجرد صورة الإيمان والإقرار لا تكونون من أهل الاجتباء، بل بحقيقة تقوى الظاهرة والباطن تنالون كرامة الاجتباء، كما قال الله:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات: 13]، { فلكم أجر عظيم } [آل عمران: 179]، على قدر عظيم التقوى، فإن السير إلى المقصد الأعلى والوصول إلى منازل الزلفى لا يكون إلا بقدمي الإيمان والنفي.
ثم أخبر عن البخيل وحاله إذا بخل بقوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله } [آل عمران: 180]، إشارة في الآية: إن البخل إكسير الشقاوة، كما أن السييء إكسير السعادة، فبإكسير البخل يصير الفضل قهرا والسعادة شقاوة، كما قال تعالى: { هو خيرا لهم بل هو شر لهم } [آل عمران: 180]، بإكسير البخل يجعلون حيرته ما أتاهم الله من فضله شرا لهم، ولو أنهم طرحوا على ما هو من فضله من المال إكسير السخاء لجعلوه خيرا لهم، فيصيروه سعادة ولصاروا بها أهل الجنة إذ لا يلج الجنة الشحيح.
ثم عبر عن آفة حب الدنيا والمال بالطواف { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } [آل عمران: 180]، وإنما شبهها بالطوق؛ لأنها تحيط بالقالب، ومنها ينشأ معظم الصفات الذميمة مثل: البخل والحرص، والحسد والحقد، والعداوة والكبر، والتعصب وغير ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" حب الدنيا رأس كل خطيئة "
، فبالمنع يصير الروح الشريف العلوي النوراني محفوظا بهذه الصفات الخسيسة السفلية الظلمانية مطوقا بآفاتها وحجبها وعذابها يوم القيامة، وبعد المفارقة فإن مات قد قامت قيامته { ولله ميراث السموت والأرض } [آل عمران: 180]؛ يعني: إن الله تعالى خلق الإنسان وارث الدنيا والآخرة استعدادا، أو قال لكامليهم
أولئك هم الوارثون
[المؤمنون: 10]، الوارث إذا مات من غير وارث فميراثه لبيت المال، فالإشارة فيه: إن من غلبت عليه هذه الصفات ومات قلبه فقد بطل استعداد وارثيه السماوات والأرض، فإن السيد يرث من العبد ميراثه، { والله بما تعملون } [آل عمران: 180]، من الأعمال التي نميت القلوب { خبير } [آل عمران: 180]، لا يخفى عليه شيء.
[3.181-184]
ثم أخبر عن أمثال هذه الأعمال من الأفعال والأقوال بقوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير } ، إشارة في الآيتين: إن العبد إذا غلبت عليه الصفات الذميمة واستولى عليه الهوى والشيطان ومات قلبه، تكاملت الصفة الأمارة بالسوء لنفسه،
وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى
[النجم: 3-4] إليه الشيطان لقوله تعالى:
وإن الشيطين ليوحون إلى أوليآئهم
[الأنعام: 121]، والنفس إذا تكلمت بالهوى تدعي بالربوبية ادعاء فرعون،
فقال أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24]، فيكون كلامها من صفات الربوبية، وإن من صفات الربوبية قوله تعالى:
والله الغني وأنتم الفقرآء
[محمد: 38]، فإذا تم فساد حال النفس الأمارة بالسوء تثبت صفات الربوبية لنفسها، وصفات العبودية لربها، كقوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء } [آل عمران: 181]، أثبتوا لأنفسهم صفات الربوبية وهي الغناء، وأثبتوا لله صفة العبودية وهي الفقر، { سنكتب ما قالوا } [آل عمران: 181]، وسنميت قلوبهم بأقوالهم هذه كما أمتناها بأفعالهم، وهي { وقتلهم الأنبياء بغير حق } [آل عمران: 181]، يشير إلى: إن جزاء هذه الأحوال في حق الله سبحانه مثل جزاء هذه الأفعال في حق الأنبياء - عليهم السلام - { ونقول ذوقوا عذاب } [آل عمران: 181]، القلب الميت { الحريق } [آل عمران: 181]، بنار القهر والقطيعة { ذلك بما قدمت أيديكم } [آل عمران: 182]؛ أي: بشؤم معاملاتكم القولية والفعلية على وفق الهوى والطبيعة، وخلاف الرضاء والشريعة، { وأن الله ليس بظلام للعبيد } [آل عمران: 182]، بأن يضع الشيء في موضعه لهم؛ يعني: لا يجعل المصلح منهم مظهر صفة قهره، ولا المفسد منهم مظهر صفة لطفه، كما قال تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124].
ثم أخبر عمن لهم مثل حالهم وشبه مقالهم بقوله تعالى: { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } [آل عمران: 183]، الإشارة في الآيتين، فاعلم أولا أن الإنسان هو العالم الأصغر فيوجد فيه النموذج من كل ما في العالم الأكبر، وفي قوله تعالى: { قالوا إن الله عهد إلينا } [آل عمران: 183]، إشارة إلى: إن في اليهود صفات البهيمة والسبعية والشيطنة، { ألا نؤمن } [آل عمران: 183]؛ أي: لا تستسلم ولا تنقاد { لرسول } [آل عمران: 183]؛ أي: خاطر روحاني وإلهام رباني، أو وارد حق { حتى يأتينا بقربان } [آل عمران: 183]، وهو الدنيا وما فيها نجعلها نسيكة لله عز وجل { تأكله النار } [آل عمران: 183]،
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة: 6-7]، التي تقدح من زناد نخبهم، فإن كثيرا من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قربانا لله تعالى فلا تأكله نار الله، { قل } [آل عمران: 183]، يا دار الحق { قد جآءكم رسل من قبلي } [آل عمران: 183]؛ أي: واردات من الحق { بالبينات } [آل عمران: 183]، والبراهين الظاهرة والحجج الباهرة، { وبالذي قلتم } [آل عمران: 183]؛ أي: بإتيان الدنيا قربانا، { فلم قتلتموهم } [آل عمران: 183]، غلبتموهم وتحرقونهم حتى لم يبق أثر من تلك الواردات، { إن كنتم صادقين } [آل عمران: 183]، إنكم تنقادون بالواردات الحق.
فاعلم: أن الله تعالى كما قدر أن بعض الأمم يغلبون بعض أنبيائهم ويقتلونهم قبل الإيمان أو بعد الإيمان بهم، كذلك قدر أن بعض الصفات النفسانية، فغلب على بعض الإلهامات الربانية والواردات الرحمانية فتمحوها، كما قال تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت
[الرعد: 39] قبل انقيادها لها، وبعد ما انقادت لها،
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
[الأنفال: 42]، { فإن كذبوك } [آل عمران: 184]، أيها الوارد الرحماني يهود الصفات النفسانية، { فقد كذب رسل من قبلك } [آل عمران: 184] في الصورة والمعنى، { جآءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } [آل عمران: 184]، أي: بالمعجزات الظاهرة والباطنة وغرائب العلوم، وكشف الأسرار واستخراج الحقائق، واستنباط المعاني التي تعجز عن إتيانها فحول وجمهور الحكماء، ولا يعلمها إلا العلماء بالله.
[3.185-187]
ثم أخبر عن قوت كل نفس بالموت بقوله تعالى: { كل نفس ذآئقة الموت } [آل عمران: 185]، والإشارة في تحقيق الآيتين: إن كل نفس منفوسة { ذآئقة الموت } [آل عمران: 185]؛ يعني: قابلة للفناء، ثم اعلم أن النفوس على ثلاثة أقسام:
قسم منها: يموت ولا حشر له للبقاء كسائر الحيوانات، وقسم: يموت في الدنيا ويحشرون في الدنيا والآخرة؛ وهي نفوس خواص الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن حي في الدارين "
، على أن لها موتا معنويا، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:
" موتوا قبل أن تموتوا "
، وهو الفناء في الله بالله لله ولها حياة معنوي في الدنيا كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122]؛ وهو البقاء بنور الله تعالى، ففي قوله عز وجل: { كل نفس ذآئقة الموت } [آل عمران: 185]، إشارة إلى: إن كل نفس مستعدة للفناء في الله ولا بد لها من موت، فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب، ومن كان فناؤه بالله يكون بقاؤه بالله، { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } [آل عمران: 185] على قدر تقواكم وفجوركم، { فمن زحزح عن النار } [آل عمران: 185]، القطيعة وأخرج من جحيم الطبيعة على قدمي الشريعة والطريقة، { وأدخل الجنة } [آل عمران: 185]، الحقيقة { فقد فاز } [آل عمران: 185]،
فوزا عظيما
[النساء: 73]، { وما الحياة الدنيا } [آل عمران: 185] ونعيمها، { إلا متاع الغرور } [آل عمران: 185]؛ أي: متاع يغتر بها المغرور والممكور.
{ لتبلون في أموالكم وأنفسكم } [آل عمران: 186] بالجهاد الأصغر، هل تجاهدون بها وتنفقونها في سبيل الله أم لا؟ وبالجهاد الأكبر، أما الأموال فهل تؤثرون على أنفسكم ولو كان بكم خصاصة؟ وأما الأنفس فهل تجاهدون في الله حق جهاده أم لا؟ { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [آل عمران: 186]؛ يعني: أهل العلم الظاهر، { ومن الذين أشركوا } [آل عمران: 186] أهل الرياء من القراء والزهاد، { أذى كثيرا } [آل عمران: 186]، بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض، { وإن تصبروا } [آل عمران: 186]، على جهاد النفس وبذل المال وأذية الخلق، { وتتقوا } [آل عمران: 186] بالله عما سواه، { فإن ذلك } [آل عمران: 186] الصبر والتقوى، { من عزم الأمور } [آل عمران: 186]، الذي هو من أمور أولي العزم، كما قال تعالى:
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل
[الأحقاف: 35].
ثم أخبر عن سياق أهل الميثاق بقوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } [آل عمران: 187]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى أخذ ميثاق ذرات من رش عليهم من نوره يوم
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، وأعطاه على قدر ذلك الرشاش علما بأركان الإسلام ومعاملات الدين، وهدى الإيمان وطريق السلوك إليه، { لتبيننه للناس } [آل عمران: 187]؛ أي: للناسي منهم ذلك الميثاق، { ولا تكتمونه } [آل عمران: 187]، عن طالبيه ومستحقيه وذلك؛ لأنه تعالى بنى أمر هذا الدين على النصيحة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إنما الدين النصيحة "
، { فنبذوه ورآء ظهورهم } [آل عمران: 187]، أكثر الخلق العمل بالميثاق، { واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } [آل عمران: 187]، من متاع الدنيا وزخارفها فإنه قليل، كما قال تعالى:
قل متاع الدنيا قليل
[النساء: 77] فانيا بعذاب كثير باق.
[3.188-191]
{ لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا } [آل عمران: 188] بمتاع الدنيا، { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } [آل عمران: 188]، من أعمال { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [آل عمران: 188]؛ لأن هذا من صفات أرباب النفوس الأمارة، المغرورين بالحياة الدنيا وتمويهات الشيطان، المحجوبين عن السعادات الأخروية والقربات الحضرية، وإنما يريدون
حرث الدنيا
[الشورى: 20]، فما لهم
في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20]، وإن من صفات القلوب المنورة بنور الإيمان المزينة بزينة العرفان، ما أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى:
لكيلا تحزنوا على ما فاتكم
[آل عمران: 153]
ولا تفرحوا بمآ آتاكم
[الحديد: 23]؛ يعني: من سعادة الدارين ونعيم المنزلين، فإنهما يحجبانكم عن الله تعالى: { ولهم عذاب أليم } [آل عمران: 188]؛ أي: لمن حجب عن الله بغيره وبما سواه.
{ ولله ملك السموت والأرض } [آل عمران: 189]؛ يعني: من حجب بالملك فإنه مالك الملك، ومن حجب بالمالك فلا يفوته الملك، كما جاءني بعض الكتب المنزلة من طلب ما لنا لم تكن له، ومن طلبنا كنا له وكان له مالنا، أو كلام هذا معناه، { والله على كل شيء } [آل عمران: 189]، من الدنيا والآخرة { قدير } [آل عمران: 189]، أن ينعم به على طالبيه.
ثم أخبر عن خلق السماوات الأرض وإظهار القدرة والآيات بقوله تعالى: { إن في خلق السموت والأرض } [آل عمران: 190]، إشارة في الآيتين { إن في خلق السموت والأرض } [آل عمران: 190]؛ أي: في خلق سماوات القلوب وأطوارها، وخلق أرض النفوس وقرارها، { واختلاف اليل } [آل عمران: 190] البشرية وصفاتها، { والنهار } [آل عمران: 190]، الروحانية وأنورها { لآيات } [آل عمران: 190]، لإمارات بينات ودلالات واضحات، { لآيات لأولي الألباب } [آل عمران: 190]، الذين عبروا بقدم الذكر والفكر من قشر الوجود الجسماني الظلماني الفاني، ووصلوا إلى لب الوجود الروحاني الباقي، فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمير أن لهم وللعالم إلها قادرا حيا عليما، سميعا بصيرا، متكلما باقيا، وإنما نالوا هذه المراتب؛ لأنهم { يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } [آل عمران: 191]؛ وهي عبارة عن جميع حالات الإنسان؛ أي: يذكرون الله على كل حال بالظاهر والباطن، { ويتفكرون في خلق السموت } [آل عمران: 191]؛ وهي الأفلاك الدائرة، { والأرض } [آل عمران: 191]؛ وهي الكرة الأرضية مستوية الأضلاع ساكنة الحركات معلقة في وسطها، وأنه كيف خلق فيها الكواكب المنيرات السائرات، فخلق بتأثيرها وخواصها في الأرض المعادن والنباتات والحيوانات تدبيرات متناسبات معقولات، ويقولون: { ربنآ ما خلقت هذا باطلا } [آل عمران: 191]؛ أي: خلقته بالحق إظهارا للحق على الخلق، ووسيلة للخلق إلى الحق، { سبحانك } [آل عمران: 191]، تنزيها لك في حقيقتك عن المشبه بخليقتك والاحتياج ببريتك، { فقنا } [آل عمران: 191] يا مستغني عنا، { عذاب النار } [آل عمران: 191]؛ أي: عذاب نار قهرك وعظمتك وكبريائك.
[3.192-195]
ثم أخبر عن خبر أهل النار في تلك الدار بقوله تعالى: { ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته } [آل عمران: 192]، إشارة في: { ربنآ إنك من تدخل النار } [آل عمران: 192]؛ أي: من تدخله نار قهرك فقد أخزيته وأهلكته بالقهر وأضللته عن صراطك المستقيم، فيقع في نية الضلالة والغواية ويظلم نفسه بالشرك والطغيان، { وما للظالمين } [آل عمران: 192] على أنفسهم بالخذلان، { من أنصار } [آل عمران: 192]، ينصرونهم ويخرجون من نار القهر، يدل عليه قوله تعالى:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده
[آل عمران: 160].
ثم أخبر عن شرائط العبودية في استجلاب فضل الربوبية بقوله تعالى: { ربنآ إننآ سمعنا } [آل عمران: 193]، إشارة في الآيات: { ربنآ إننآ سمعنا } [آل عمران: 193]؛ أي: من هاتف الحق في الغيب بالسمع الحقيقي، { مناديا ينادي للإيمان } [آل عمران: 193]، أي: ينادينا لأجل الإيمان، { أن آمنوا بربكم } [آل عمران: 193]، وهذا أمر حتم موافق للإرادة القديمة، { فآمنا } [آل عمران: 193]؛ يعني: بالإرادة القديمة وبإسماع الحق إيانا نداء منادي الحق آمنا، نظيره قوله تعالى:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم
[الأنفال: 23]، { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } [آل عمران: 193]؛ يعني : يا ربنا كما أسمعتنا منادي الإيمان بفضلك ورحمتك، { وكفر عنا سيئاتنا } [آل عمران: 193] بإيماننا وطاعتنا في حال الحياة، { وتوفنا مع الأبرار } [آل عمران: 193]؛ يعني: مع التوفيق بمعاملة الأبرار ومن جملتهم وطريقتهم الهداية؛ أي: ما أعددت لعبادك الصالحين
" مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "
، ومما قلت:
" من تقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحبه كنت له سمعا وبصرا ".
{ ولا تخزنا يوم القيامة } [آل عمران: 194] بإظهار سوء أعمالنا، وعدم توفيق التوبة والاجتهاد في طلبك، { إنك لا تخلف الميعاد } [آل عمران: 194] الذي وعدتهم للعباد والمؤمنين، { فاستجاب لهم ربهم } [آل عمران: 195]؛ يعني: من كان هذا دأبه مع الله عاكفا على بابه بصدق العبودية والإخلاص، وطلب ألطاف الربوبية، يستجيب لهم ربهم ما سئلوا، وذلك { أني لا أضيع عمل عامل منكم } [آل عمران: 195]، بالظاهر والباطن في السر والعلانية { من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } [آل عمران: 195]؛ يعني: على قدر همتكم وجدكم ورجوليتكم، وضعفكم في الأعمال والنيات أجازيكم، { فالذين هاجروا } [آل عمران: 195]، عن الأوطان والأوطار والأعمال السيئة والأخلاق الذميمة، وجاهدوا بالأشباح والأرواح، { وأخرجوا من ديرهم } [آل عمران: 195]؛ يعني: هاجروا من معاملات الطبيعة تقربا إلى الله تعالى، فأخرجوا من ديار الطبيعة إلى عالم الحقيقة، بسطوات تجلي صفات الربوبية تقربا إلى العبد كقوله تعالى:
" تقربت إليه ذراعا "
، { وأوذوا في سبيلي } [آل عمران: 195]؛ أي: في طلبي أوذي بالابتلاء وأنواع البلاء، { وقتلوا } [آل عمران: 195] مع النفس، { وقتلوا } [آل عمران: 195] بسيف الصدق، { لأكفرن عنهم سيئاتهم } [آل عمران: 195] وجودهم، { ولأدخلنهم جنت } [آل عمران: 195] الوصول، { تجري من تحتها الأنهر } [آل عمران: 195] أنهار العناية، { ثوابا من عند الله } [آل عمران: 195]؛ أي: كرامات من مقامات العندية الخاصية، { والله عنده حسن الثواب } [آل عمران: 195]؛ أي: عنده حسن ثواب لا يكون عند الجنة وغيرها.
[3.196-200]
ثم أخبر عن ذلة أهل الدنيا وعزة أهل التقى في العقبى بقوله تعالى: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } [آل عمران: 196]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب { لا يغرنك } [آل عمران: 196] لمعنيين:
أحدهما: خطاب التكوين، إذ قال له: { لا يغرنك } [آل عمران: 196]، فكان كما قال: لا تغره أبدا، تنعم الذين كفروا وتمتعاتهم بنعيم الدنيا، يدل عليه قوله:
إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون
[النحل: 40].
والثاني: خاطبهم بهذا الخطاب؛ ليعلم أمته أنه صلى الله عليه وسلم مع كمال مرتبته وقوته خوطب بهذا؛ لاحتمال وقوعه في ورطة الغرور بالدنيا وتمتعاتها، فلا يأمن أحد على نفسه وتوقانها عن ورطة الغرور بها، ولا يغتر بغرور الشيطان، كما قال تعالى:
فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور
[فاطر: 5]، فإنها { متاع قليل } [آل عمران: 197]؛ وهي مشرب النفوس الأمارة بالسوء، وصواحبها ذلك أيام قلائل، { ثم مأواهم جهنم } [آل عمران: 197]، البعد عن الحضرة ودركاتها، { وبئس المهاد } [آل عمران: 197].
{ لكن الذين اتقوا } [آل عمران: 198]، احترزوا عن الدنيا وما فيها تقربا إلى { ربهم لهم جنات } [آل عمران: 198]، القربة { تجري من تحتها الأنهار } [آل عمران: 198]، والكرامات والسعادات { خالدين فيها } [آل عمران: 198]، مخلدين فيها، لا انقطاع لتلك القربات والكرامات، { نزلا من عند الله } [آل عمران: 198]؛ أي: سبيل النزول من عند الله، هذه كلها { وما عند الله } [آل عمران: 198] من كمالات القرب ومشاهدات الجمال والجلال، { خير للأبرار } [آل عمران: 198] من نعيم الجنان والوقوف مع ما هو نزل لعباد الرحمن، وإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم أخبر بفصل الخطاب عن مؤمني أهل الكتاب بقوله: { وإن من أهل الكتب } [آل عمران: 199]، إشارة في الآية: { وإن من أهل الكتب } [آل عمران: 199]؛ هم العلماء المتقون، { لمن يؤمن بالله } [آل عمران: 199]؛ يعني: يكون إيمانه من نتيجة نور الله الذي دخل قلبه، { ومآ أنزل إليكم } [آل عمران: 199] من الواردات والإلهامات والكشوف بأرباب القلوب، { ومآ أنزل إليهم } [آل عمران: 199]، من الخواطر الرحمانية، { خشعين لله } [آل عمران: 199]؛ أي: خاضعين له، تجلى الله لأسرارهم بصفات الجمال فعاشوا متواضعين له، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا تجلى الله بشيء خضع له "
، { لا يشترون بآيت الله } [آل عمران: 199]؛ أي: بما أوتوا من العلم والحكمة { ثمنا قليلا } [آل عمران: 199]، عرضا من العروض الدنيوية، { أولئك لهم أجرهم } [آل عمران: 199]؛ أي: ثوابهم وجزاؤهم { عند ربهم } [آل عمران: 199]؛ يعني مقام العندية
عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، { إن الله سريع الحساب } [آل عمران: 199]؛ أي: يعجل في جزاء أعمالهم يجيب نياتهم؛ ليبلغهم إلى مقاماتهم في القرب قبل وفاتهم، ولا تؤجل إلى بعد وفاتهم،
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء: 72]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تحشرون ".
ثم أخبر عن أسباب النجاة وأرباب الفلاح بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } [آل عمران: 200]، إشارة في الآية: إن الفلاح الحقيقي لأهل الإيمان موقوف على هذه الخصال الأربعة، وهي قوله تعالى: { اصبروا } على مجاهدة النفوس بنهيها عن حولها وأمرها بطاعة سيدها ومولاها، { وصابروا } [آل عمران: 200]، على مراقبة القلوب مع التسليم والرضاء بالأحكام الأزلية عند البلاء والابتلاء، { ورابطوا } [آل عمران: 200] مرابطة الأرواح إلى الوصول بالله وبالانقطاع عما سواه، { واتقوا الله } [آل عمران: 200] بمحافظة الأسرار عن الالتفات إلى الأغيار والفناء في الله، { لعلكم تفلحون } [آل عمران: 200]، عن حجب الوجود بالفناء في الله، وتفوزون بالبقاء بالله بتوفيق الله تعالى وجذبات عنايته، فإن العناية الأزلية كفاية الأبدية.
[4 - سورة النساء]
[4.1-5]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم } [النساء: 1]، إشارة في الآية: أن الله تعالى يذكر الناس ببدء خلقتهم بالأشباح والأرواح بقوله تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } [النساء: 1]، فإنهم كما خلقوا بالأشباح عن نفس واحدة وهي شبح آدم عليه السلام، كذلك خلقوا بالأرواح عن نفس واحدة وهي روح محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله:
" أول ما خلق الله روحي "
، فكما أن آدم عليه السلام بالشبح كان أبا البشر، كان محمد صلى الله عليه وسلم بالروح أبا الروح، { وخلق منها زوجها } [النساء: 1]؛ وهي النفس، خلقها من أدنى شعاع من أشعة أنوار روح محمد صلى الله عليه وسلم، { وبث منهما رجالا كثيرا } [النساء: 1]؛ وهم أرواح الرجال البالغين الكاملين في الدين، كقوله تعالى:
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37]، { ونسآء } [النساء: 1]؛ أي: أرواح ناقصات غير بالغات في الدين، كما أخرج من آدم عليه السلام المقبول والمردود، أخرج من روح محمد صلى الله عليه وسلم روح الكامل والناقص.
{ واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام } [النساء: 1]؛ أي: اتقوا أن تسألوا به غيره، فلا تسألوا به عنه، { والأرحام } [النساء: 1]، ولا تقطعوا صلة رحم رحمتي بصلة غيري، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:
" أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها أسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته "
، إن الله تعالى خلق الخلق برحمته، ولولا سبقت رحمته غضبه ما خلق أحدا من العالمين، فالواجب على الخلق أن يصلوا رحم رحمته بطلبه والانقطاع عن غيره؛ ليصلهم برحمته وكرامته، { إن الله كان عليكم } [النساء: 1] أيها المتقون { رقيبا } [النساء: 1]؛ لئلا يلتفتوا إلى غيره بالاعتراض عنه، بل { كان عليكم رقيبا } [النساء: 1]؛ لتتقوا به عن غيره، وتصلوا به بالانقطاع عن غيره.
ثم أخبر عن التقوى بإحراز أموال اليتامى بقوله تعالى: { وآتوا اليتامى أموالهم } [النساء: 2]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى نفى بهاتين الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة، وبها زكى أنفسهم عن آفاتها؛ وهي الحسد والدناءة، والخسة والطمع، الخيانة والمكر والخديعة، والجور والظلم، والشهوة والغضب، وسوء الخلق والبخل، والكبر والأنفة، وحلالها بأضدادها تكميلا للتخلق بأخلاق الحق، فقال تعالى: { وآتوا اليتامى أموالهم } [النساء: 2] تزكية عن آفة الحرص والحسد، والدناءة والخسة والطمع، وتحليته بالقناعة والمروءة وعلو الهمة والعافية، وقال تعالى: { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [النساء: 2] تزكية عن آفة الخيانة والمكر والخديعة، وتحليته بالأمانة والديانة وسلامة الصدور، وقال تعالى: { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [النساء: 2] تزكية عن الجور والحين والظلم وتحليته بالعدل والإنصاف، فإن اجتماع هذه الرذائل في نفس الأمر { إنه كان حوبا كبيرا } [النساء: 2]، حجابا عظيما.
وقال تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلث وربع } [النساء: 3] تزكية عن الزنا والفواحش التي تتعلق بالشهوة، وتحليته بالعفة والإحصان، وقال تعالى: { فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمنكم ذلك أدنى ألا تعولوا } [النساء: 3].
{ وءاتوا النسآء صدقتهن نحلة فإن طبن } [النساء: 4] تزكية عن الحدة والغضب وسوء الخلق، وتحليته بالوفاق والسخاء والفتوة، وقال تعالى: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } [النساء: 4] تزكية عن الكبر والأنفة، وتحليته بالتواضع والخشوع، والرحمة والشفقة واللين، في الحقيقة هذه كلها إشارة إلى تربية ينافي القلوب والنفوس بإيتاء حقوق تزكيتهم عن هذه الأوصاف، وتحليتهم بهذه الأخلاق؛ لتحقق الامتثال بأمر تخلقوا بأخلاق الله، والله أعلم.
ثم أخبر عن صيانة هذه الأخلاق من التفريط والإفراط بقوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قيما وارزقوهم فيها واكسوهم } [النساء: 5]، إشارة في هذه الآيتين: إن الله تعالى جعل المال قياما لمصالح دين العباد ودنياهم، فإن العاقل منهم من يجعله قياما لمصالح دينه ولمصالح دنياه بقدر حاجته للضرورة إليه، والسفيه من جعله قياما لمصالح دنياه ما أمكنه فهو المنهي عنه، وإن تؤتوا إليه أموالكم كائنا من كان، وإنما قال: { أموالكم } [النساء: 5]، وما قال أموالهم؛ لأن الخطاب مع العقلاء الصلحاء الأتقياء، وقد أضاف المال إليهم؛ لأنه تعالى خلق الدنيا وما فيها لهم قياما لمصلح دينهم، كما قال تعالى:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة: 29]، وقال تعالى:
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
[الأنبياء: 105]، وأسفه السفهاء من جعلها في مفاسد دينه ودنياه؛ وهي النفس الأمارة بالسوء، وإنما هي أعدى عدوك؛ لأنها أسفه السفهاء، وكل ما أنفق الرجل نفسه بهواها ففيه مفاسد دينه ودنياه، إلا المستثني منه، كما أشار إليه تعالى بقوله: { ولا تؤتوا } [النساء: 5]، { أموالكم } [النساء: 5]؛ أي: جعل الله لكم قياما { وارزقوهم فيها } [النساء: 5]؛ يعني: ما يسد به جوع النفس، { واكسوهم } [النساء: 5]؛ يعني: ما يستر عورتها، فإن ما زاد على هذا يكون إسرافا في حق النفس، والإسراف منهي عنه، { وقولوا لهم قولا معروفا } [النساء: 5]، قول المعروف مع النفس أن يقول لها: أكلت رزقها ونعمت، فأدى شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه وأذيبي طعامك بذكر الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أذيبوا طعامكم بذكر الله ".
[4.6-9]
والإشارة في قوله تعالى: { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } [النساء: 6]؛ أي: قلوب السائرين إلى الله تعالى، حتى إذا بلغوا مبلغ الرجال الكاملين البالغين، وابتلاهم بأدنى توسع في المعيشة بعد ما كانوا محجوبين عن التصرف مدة مديدة، { فإن آنستم منهم رشدا } [النساء: 6]، بأن استمدوا بذلك على دينهم وزادوا في اجتهادهم وجدهم في الطلب، وكان كما قال الجنيد: أشبع الزنجي وكده، { فادفعوا إليهم أموالهم } [النساء: 6]، وهاهنا أضاف المال إليهم لما بلغوا حد الرجال الذين يكون المال لهم، فلا يكونون في المال كالسفهاء، فالعبد في هذا المقام يكون جائز التصرف في ممالك سيده كالعبد المأذون، وفي قوله تعالى: { ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا } [النساء: 6]، الإشارة في الخطاب إلى تربيتهم من المشايخ فإنهم أولياء أطفال الطريقة وأوصياؤهم؛ يعني: فإن أنستم من المريدين البالغين رشد التصرف في أصحاب الإرادة وأرباب الطلب، فأوقعوا إليهم عنان التصرف بإجازة الشيخوخة ولا تمنعوهم مقام الشيخوخة إسرافا وبدارا، غيرة وغبطة على المريدين، { أن يكبروا } [النساء: 6] بالشيخوخة فتكسد أسواقهم، { ومن كان غنيا } [النساء: 6] بالله من قوة الولاية ستظهر بالعناية { فليستعفف } [النساء: 6] عن أمثال هذه الغيرة والغبطة، { ومن كان فقيرا } [النساء: 6]، يفتقر بولاية المريد والانتفاع به في الصحبة { فليأكل بالمعروف } [النساء: 6]؛ أي: ينتفع به بأن يجيز له بالشيخوخة لا يغار عليه ويمده بالظاهر والباطن، وبإيمانه يتوسل إلى الله تعالى، فإن الله يكون في عون العبد ما دام في عون أخيه، وقال تعالى:
وابتغوا إليه الوسيلة
[المائدة: 35]، { فإذا دفعتم إليهم أموالهم } [النساء: 6] مقام الشيخوخة، { فأشهدوا عليهم } [النساء: 6] الله ورسوله وأرواح المشايخ، وأوصوهم بشرائط الشيخوخة ورعاية حقوقها مع الله والخلق وأنفسهم، { وكفى بالله حسيبا } [النساء: 6]، مكافيا ومجازيا لكم بحسن صنائعكم، ومحاسبا لهم فيما يراقبون الله تعالى في حفظ حدوده، ويراعون الخلق بأداء حقوقهم وترك حظوظ أنفسهم.
ثم أخبر عن نصيب كل نسيب بقوله تعالى: { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [النساء: 7]، إشارة في الآيتين: إن للرجال وهم أقوياء الطلبة والسلاك نصيب بقدر صدقهم في الطلب، ورجوليتهم في الاجتهاد، { مما ترك الوالدان والأقربون } [النساء: 7]؛ وهم المشايخ والإخوان في الله والأعوان على الطلب ، وتركهم سيرتهم في الدين وأنوار همتهم العلية، ومواهب ولايتهم السنية، { وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [النساء: 7]؛ يعني ضعفاء القوم، { مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا } [النساء: 7]؛ أي: قدرا معلوما على قدر وفق صدق التجائهم وجدهم في الطلب، وحسن استعدادهم لقبول فيض الولاية، وهذا حال المجتهدين الذين هم ورثة المشايخ، كما أنهم ورثة الأنبياء، فأما المنتهون إلى ولايتهم بالإرادة وحسن الظن، والمقتبسون من أنوارهم والمقتفون على آثارهم، والمتشبهون بربهم والمتبركون بهم على تفاوت درجاتهم فهو بمثابة { أولوا القربى واليتامى والمساكين } [النساء: 8] إذا حضروا القسمة عند محافل صحبتهم ومجامع سماعهم ومجالس ذكرهم، فإنها مقاسم خيراتهم وبركاتهم، { فارزقوهم منه } [النساء: 8]؛ أي: من مواهب ولايتهم، وآثار هدايتهم، وأعطاف رعايتهم، { وقولوا لهم قولا معروفا } [النساء: 8] في التشويق وإرشاد الطريق والحث على الطلب والتوجه إلى الحق؛ والإعراض عن الدنيا وتقرير هوانها على الله وخسارة أهلها، وعزة أهل الله في الدارين وكمال سعادتهم في المنزلتين.
{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا } [النساء: 9] من مبتدئ المريدين ومتوسطهم، { خافوا عليهم } [النساء: 9] آفات المفارقة، إما سرف وإما توان { فليتقوا الله } [النساء: 9]؛ أي: يوصونهم بالتقوى فإن التقوى جماع كل خير، { وليقولوا } [النساء: 9]؛ أي: يأمرونهم؛ ليقولوا { قولا سديدا } [النساء: 9]؛ وهو كلمة لا إله إلا الله؛ والمعنى: أنهم يأمرون بملازمة التقوى ومداومة الذكر، فإنهما الخطوتان اللتان توصلان العبد إلى الله تعالى.
[4.10-12]
وفي قوله تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما } [النساء: 10]، إشارة إلى الذين يضيعون أطفال الطريقة ولا يراعون حقوقهم بالنصيحة والوصية والإرشاد إلى سبيل الرشاد، ويحرمونهم عن مشارب ولايتهم تقصيرا أو تهاونا { إنما يأكلون في بطونهم نارا } [النساء: 10]؛ لحسرة تحسرا وتغابنا، { وسيصلون سعيرا } [النساء: 10] آفة التقصير، إذ في أداء حقوقهم غرامة ولا ينفعهم الندامة.
ثم أخبر عن وصاية أهل الولاية بقوله تعالى: { يوصيكم الله في أولدكم } [النساء: 11]، إشارة في الآيات: إن المشايخ للمريدين بمثابة الآباء للأولاد، فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته على ما قاله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا لكم كالوالد لولده "
، ففي قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين } ، الآيات كلها إشارات إلى وصايا المشايخ والمريدين ووارثتهم في قرابة الدين، كقوله تعالى:
أولئك هم الوارثون
[المؤمنون: 10]، فكما أن الوراثة الدنيوية بوجهين: بالسبب والنسب، فلذلك الوراثة الدينية بوجهين: إما السبب فهو الإرادة ولبس خرقتهم، والتبرك بزيهم للتشبه بهم، وأما النسب فهو الصحبة معهم بالتسليم للتصرفات ولايتهم ظاهرا وباطنا بصدق النية وصفاء الطوية، مستسلما لأحكام التسليك والتربية، يتولد السالك بالغشاوة الثانية، فإن الولادة تنقسم على:
النشأة الأولى: وهي ولادة جسمانية، بأن يتولد المؤمن من رحم الأم إلى عالم الشهادة وهو الملك، والنشأة الثانية: وهي ولادة روحانية، بأن يتولد السالك من رحم القلب إلى عالم الغيب وهو الملكوت.
كما حكي النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى عليه السلام أنه قال:
" لم يلج ملكوت السماوات والأرض ما لم يولد مرتين "
، فالشيخ هو الأب الروحاني، والمريدون المتولدون من صلب ولايتهم الأولاد الروحانيون، وهم فيما بينهم
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[الأنفال: 75]، لقوله:
إنما المؤمنون إخوة
[الحجرات: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" الأنبياء أخوة من علات، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد "
، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي "
؛ لأن نسبه كان بالدين، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم من آلك؟ قال:
" إلى كل مؤمن تقي "
، وإنما يتوارثون أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية، والذكورة والأنوثة في الجد والاجتهاد وحسن الاستعداد، وإنما موازينهم العلوم الدينية واللدنية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر "
، وقال موسى للخضر - عليهما السلام -:
هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا
[الكهف: 66].
[4.13-16]
وفي قوله تعالى: { تلك حدود الله } إشارة إلى: إن تلك الوراثة والأنصباء حدود حدها الله لورثة الدين على قدر تعارف أرواحهم في عالم الأرواح، وعلى نسبته مناسبا في القرابة النسبية والسببية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ".
{ ومن يطع الله ورسوله } [النساء: 13] فقد حق نسبته في الدين، { يدخله } [النساء: 13] نسبه، { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } [النساء: 13] على قدر استحقاقه في الوراثة المحققة بالطاعة؛ لأنه من الوارثين
الذين يرثون الفردوس
[المؤمنون: 11]، { وذلك } [النساء: 13] الوراثة والميراث، { الفوز العظيم } [النساء: 13].
{ ومن يعص الله ورسوله } [النساء: 14] فقد حق إبطال نسبته في الدين، { ويتعد حدوده } [النساء: 14] في الوراثة بقرابة الدين عصيانه ويعذبه { يدخله نارا } [النساء: 14]؛ أي: نار القطيعة والحرمان على قدر استحقاقه في المعصية والتعدي، { خالدا فيها وله عذاب مهين } [النساء: 14] من هذا الخلود في نار الحسرة والحرمان، وفوات نعيم الجنان ولقاء الرحمن.
ثم أخبر عن مهاد أهل الفواحش بقوله تعالى: { واللاتي يأتين الفحشة من نسآئكم } [النساء: 15]، إشارة في الآيتين: إن اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم هي النفوس الأمارة بالسوء، والفاحشة: ما حرمته الشريعة من أعمال الظاهر وهي المعاصي، وحرمته الطريقة من أحوال الباطن وهي الركون إلى غير الله تعالى، يدل عليه قوله تعالى:
إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
[الأعراف: 33]، فما ظهر منها فهو الأعمال، وما بطن منها فهو الأحوال، وقال صلى الله عليه وسلم:
" لسعد غيور وأنا أغير منه والله أغير منا "
؛ ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، { فاستشهدوا عليهن } [النساء: 15]؛ أي: على النفوس بإتيان الفاحشة، { أربعة منكم } [النساء: 15]؛ أي: من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي:
التراب: ومن خواصه الخسة والركاكة، والذلة والطمع، والمهانة واللوم، والماء: ومن خواصه اللين والعجز والكسل، والأنوثة والخبوثة، والشره في المأكل والمشرب، والهواء: ومن خواصه الحرص والحسد والبخل، والحقد والعداوة، والشهوة والزينة، والنار: ومن خواصها التبختر والتكبر، والفجر والصلف، والغضب والحدة وسوء الخلق وغير ذلك مما يتعلق بالأخلاق الذميمة، ورأسها حب الدنيا والرياسة واستيفاء لذاتها وشهواتها، { فإن شهدوا } [النساء: 15]؛ أي: يظهر بعض هذه الصفات من النفوس، { فأمسكوهن في البيوت } [النساء: 15]، فاحبسوهن في سجن المنع عن التمتعات الدنيوية، فإن الدنيا سجن المؤمن، وأغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس { حتى يتوفاهن الموت } [النساء: 15]؛ أي: تموت النفس إذا انقطع عنها حظوظها دون حقوقها، إلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه وسلم:
" موتوا قبل أن تموتوا "
، { أو يجعل الله لهن سبيلا } [النساء: 15]، بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب، فتهب منها ألطاف الحق وجذبات الإلوهية التي جذبة منها توازي عمل الثقلين.
{ واللذان يأتيانها منكم } [النساء: 16]؛ أي: النفس والغالب اللذان يأتيان الفواحش في ظاهر الأفعال والأعمال، وباطن الأحوال والأخلاق { فآذوهما } [النساء: 16]، ظاهرا بالحدود، وباطنا بترك الحظوظ وكثرة الرياضات والمجاهدات، { فإن تابا } [النساء: 16] ظاهرا وباطنا، { وأصلحا } [النساء: 16] كذلك { فأعرضوا عنهمآ } [النساء: 16] باللطف بعد العنف، وبالرفق بعد الخرق، وباليسر بعد العسر،
فإن مع العسر يسرا
[الشرح: 5]، { إن الله كان توابا } [النساء: 16]، لمن تاب، { رحيما } [النساء: 16] لمن أصلح.
[4.17-19]
ثم أخبر عن التوبة والثواب، والتأيب الآيب إلى الباب بقوله تعالى: { إنما التوبة على الله } [النساء: 17]، إشارة في الآيتين: إنما التوبة على الله التي أوجب الله تعالى بفضله على ذمة كرمه قبولها، إنما هي توبة { للذين يعملون السوء بجهالة } [النساء: 17] فحسب، فإن للنفس الأمارة صفتين: الظلومية والجهولية، والجهولية داخلة في الظلومية؛ لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والإصرار على المعصية يؤدي إلى الشرك، والشرك يميت القلب، ولهذا وصف الله تعالى الشرك بالظلم العظيم وقال:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13]، والجهولية تقتضي المعصية فحسب، فالعمل إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقبة التوبة، كما قال تعالى: { ثم يتوبون من قريب } [النساء: 17]، وللقريب هاهنا معنيان:
أحدهما: أن تكون التوبة عقيب المعصية فيقبلها الله فيمحوها بها، كما قيل في قوله تعالى:
إن الحسنات يذهبن السيئات
[هود: 114] والحسنات: هي التوبة عقبيها في قوله صلى الله عليه وسلم:
" اتبع السيئة الحسنة تمحها الحسنة "
؛ هي التوبة، والمعنى الثاني: من قريب؛ أي: قبل أن يموت القلب بالإصرار، فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت؛ لأنها تكون باللسان اضطرارية، وبالقلب اختيارية، { فأولئك يتوب الله عليهم } [النساء: 17]؛ يعني: هذا الذي أوجب الله تعالى بفضله على ذمة كرمه قبل خلقهم أن يوفقهم للتوبة، { وكان الله } [النساء: 17] في ذلك التقدير ، { عليما } [النساء: 17] بمن يتوب عقيب المعصية، { حكيما } [النساء: 17]، فيما قدر ودبر من الأمور.
{ وليست التوبة } [النساء: 18]؛ يعني: المقبولة { للذين يعملون السيئات } [النساء: 18] المصرين عليها من الظلومية، { حتى إذا حضر أحدهم الموت } [النساء: 18]؛ يعني: موت القلب بالإصرار، { قال إني تبت الآن } [النساء: 18]، باللسان اضطرارا، أو يتوب بترك عمل السوء تكلفا، ولا يرجع قلبه إلى الله تعالى، فإن أصل التوبة الرجوع بالكلية إلى الله تعالى ظاهرا وباطنا، { ولا الذين يموتون وهم كفار } [النساء: 18]؛ يعني: ولا يقبل توبة من يموت وقلبه ميت بالكفر، { أولئك أعتدنا لهم } [النساء: 18]؛ أي: قدر قبل خلقهم { عذابا أليما } [النساء: 18]؛ أي: عذاب الكفر في الدنيا وهو مؤلم في الآخرة.
ثم أخبر عن أهل الإيمان، ونهاهم عن عقل النسوان بقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها } [النساء: 19]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى أرشد بقوله: { يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها } [النساء: 19]، إلى أن هذه المعاملات من عضل النسوان، ومنعهن من الزواج طمعا في ميراثهن، أو إضرارهن ليفتدين منكم، { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ ءاتيتموهن } [النساء: 19]؛ لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن من المهور، أو تأخذون ما أعطيتموهن من المهر ولو كان قنطارا، { إلا أن يأتين بفحشة مبينة } [النساء: 19].
ثم أرشدهم إلى سبيل المؤمنين وأخلاق الموحدين بقوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا } [النساء: 19]، وتصبروا عليه لله تعالى: { ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } [النساء: 19] في الدنيا والآخرة، فإن الخير الكثير ما يكون باقيا ولا يكون الفاني إلا قليلا.
[4.20-21]
{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } [النساء: 20]، { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثقا غليظا } [النساء: 21] في رعاية حقوقهن، هذه كلها وأمثالها ليست من إمارة الإيمان ونتائجه وثمراته؛ لأن المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يشتمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" الدين النصيحة "
، وقد صرح بنفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه بقوله صلى الله عليه وسلم:
" من غشنا فليس منا ".
[4.22-23]
ثم أرشدهم إلى سبيل المؤمنين وأخلاق الموحدين بقوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم من النسآء } [النساء: 22]، إشارة في الآيتين: أن الله تعالى أراد أن يطهر نفس المؤمن بأن ينفي عنها موجبات المقت وسوء السبيل؛ وهي الفواحش استطابة للجوهر الآني، واستنارة للنور الرباني؛ لأنه خلق لحمل أعباء أمانة المعرفة بحبل المحبة، ولا سبيل إلى المعرفة إلا بالوصول إلى المعروف، ولا يمكن التحلية بالوصول إلى بعد التزكية عن مانع الوصول وهي لوث أوصاف الوجود،
" فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب "
، ولذلك نهاهم عن نكاح المحارم، { ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم من النسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا } [النساء: 22].
وفيه إشارة أخرى وهي: أن العلويات وهي الآباء، والسفليات وهي الأمهات، وبازدواجهما خلق الله تعالى المتولدات منهما فيما بينهما، ففي قوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم من النسآء } [النساء: 22]، إشارة إلى نهي التعلق والتصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرفة فيها آباءكم العلوية، { إلا ما قد سلف } [النساء: 22] من التدبير الإلهي، وازدواج الأرواح والأشباح بالحاجات الضروريات الإنساني منشئته منه، { إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا } [النساء: 22]؛ يعني: التصرف في السفليات والتعلق بها والركون إليها، مما يلوث الجوهر النوراني بلوث الصفات الحيوانية ويجعله سفلي الطبع بعيدا عن الحضرة، محبا للدنيا ناسيا للموت ممقوتا للحق، { وسآء سبيلا } [النساء: 22] إلى الهداية بالضلالة.
{ حرمت عليكم } [النساء: 23]، الآية فيها كلها إشارات إلى نهي التعلق ومنع التصرف في الأمهات السفليات، والمتولدات من أوصاف الإنسان وصفات الحيوان وأخلاق السوء، وترك الشهوات الدنيوية واللذات الحيوانية والتمتعات الجسمانية، والاجتناب عن المكائد الشيطانية، والإيذاءات السبعية، فإن تزكية النفس بالاحتراز عن هذه الآفات والمتعلقات، وتصفية القلب منها موجبة للتحلية بالأخلاق الروحانية والأوصاف الربانية، { إن الله كان غفورا } [النساء: 23] يستر بأنوار غفرانه ظلمات الصفات الإنسانية، التي تتولد من تعرفات الحواس في المحسوسات عند الضرورات بالأمر لا بالطبع، { رحيما } [النساء: 23] فيما اضطرهم من التصرفات بقدر الحاجة. الضرورية.
[4.24]
{ والمحصنت من النسآء } [النساء: 24]، إشارة في الآية: إن الله تعالى حرم المحصنات من النساء وهن: ذوات الأزواج على الرجال؛ عفة للحصانة وصحة النسب ونزاهة لعرض الرجال عن خسة الاشتراك في الفراش علو الهمة، فإن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها، وقال تعالى: { إلا ما ملكت أيمنكم } [النساء: 24]؛ يعني: ما ملكتم بالقوة والغلبة على أزواجهن من الكفار، واقتطاعهن من حيز الاشتراك وإفساد نسب الأولاد وتخليطه، ولهذا أوجب الشرع فيها الاستبراء بحيضة { كتب الله عليكم } [النساء: 24]؛ أي: كتب الله في الأزل الاجتماع بهن بعد قضاء أوطار أزواجهن منهن، كقوله تعالى:
كان ذلك في الكتاب مسطورا
[الإسراء: 58]، أو كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع زينب - رضي الله عنها - قال الله تعالى:
فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها
[الأحزاب: 37]، وفيه إشارة أخرى وهي: إن قد قدرنا أن في قوله تعالى:
ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم من النسآء
[النساء: 22]، إشارة إلى نهي التعلق والتصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرفة فيها آباؤكم العلوية، فهي في الحقيقة الدنيا وما يتعلق بها، { والمحصنت من النسآء } [النساء: 24]؛ وهي الدنيا بهذه المناسبة معطوفة عليها، لا تتعلقوا وتتصرفوا في شيء من الدنيا وهي محصنة بملكية الغير، { إلا ما ملكت أيمنكم } [النساء: 24] منها بطريق صالح، { كتب الله عليكم } [النساء: 24]؛ أي: لما كتب الله عليكم التصرف فيها، كقوله تعالى:
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
[الأعراف: 31]؛ أي: كلوا وأشربوا بقدر الحاجة لقوام القالب إقامة لأداء الواجب عليكم، ولا تسرفوا بالإكثار وتتبع الشهوات الحيوانية، فتأكلوا كما تأكل الأنعام والنار مثوى لكم، بل تصرفوا فيها بقدر تحصيل النفقة الواجبة عليكم للعيال.
{ وأحل لكم ما وراء ذلكم } [النساء: 24]؛ أي: ما وراء الذي أحصن بملكية الغير يتعلق حقه ونظره وهمته فإنه بقطعكم عن الحق، { أن تبتغوا بأمولكم } [النساء: 24]؛ أي: لتبتغوا بمالكم { محصنين } [النساء: 24]؛ يعني: حرائر من الدنيا وما فيها، { غير مسفحين } [النساء: 24] في الطلب؛ معناه: لا تبذلوا أنفسكم عند الخلق بطلب الشهوات، ولا تسفحون مياه وجوهكم عند الله تعالى؛ لنيل المرادات الإنسانية واستيفاء اللذات الحيوانية، { فما استمتعتم به منهن } [النساء: 24]؛ أي: من ضرورات الخلق من الدنيا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا على هذا الوجه، { فآتوهن أجورهن فريضة } [النساء: 24]؛ أي: قاطعوا حقوق تلك الحظوظ بالطاعة والشكر والذكر، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أذيبوا طعامكم بذكر الله "
، { ولا جناح عليكم فيما ترضيتم به من بعد الفريضة } [النساء: 24]؛ أي: فيما تفتدون أنفسكم من المجاهدات والرياضة، واحتمال الأذى في الله تقربا إلى الله تعالى من بعد أداء ما فرض الله عليكم، { إن الله كان عليما } [النساء: 24] بنياتكم وقصوركم، { حكيما } [النساء: 24] فيما يهديكم إلى مطلوبكم ومقصودكم.
[4.25]
ثم أخبر عمن لم يستطع بقوله تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح } [النساء: 25]، إشارة في الآية: إن الله تعالى كما أحب نزاهة فراش المؤمن عن دنس السفاح، قد أحب نزاهته عن خسة النفس عند القدرة على نكاح الحرائر، ثم رخص برحمته في نكاح الإماء عند عدم الاستطاعة، فقال تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنت المؤمنت فمن ما ملكت أيمنكم من فتيتكم المؤمنت } [النساء: 25]، وشرط فيه الإيمان، ولم يجز أن يكون فراش المؤمن ملوثا بتلوث الشرك، والأمة جميعا ورخص عند الضرورة بانفرادهما توسعا ورحمة، فيجوز نكاح الكتابية المشركة، ويجوز نكاح الأمة المؤمنة، وفيه إشارة أخرى وهي: إن الله تعالى أحب نزاهة قلب المؤمن عن دنس حب الدنيا، كما أحب نزاهة فراشه فقال: { ومن لم يستطع منكم طولا } [النساء: 25]؛ أي: قدرة أن ينكح المحصنات المؤمنات، أن يسخر عجوز الدنيا الصالحة بأسرها ويجعلها منكوحة له، ويحصنها بتصرف شرائع الإسلام والإيمان، بحيث لا يكون لها تصرف في قلبه بوجه ما، { فمن ما ملكت أيمنكم } [النساء: 25]؛ أي: فيتصرف في القدر الذي ملكت يمين قلبه من الدنيا، فلا يملك قلبه، { من فتيتكم المؤمنت } [النساء: 25]؛ أي: إذا كانت الدنيا له أمة مأمورة بخدمته وهي مؤمنة له بالخدمة، كما قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله:
" يا دنيا: أخدمي من خدمني، واستخدمي من خدمك ".
{ والله أعلم بإيمنكم } [النساء: 25]، بمراتب إيمانكم وضعفكم في الإيمان { بعضكم من بعض } [النساء: 25] في الضعف، فإنه خلق الإنسان ضعيفا { فانكحوهن بإذن أهلهن } [النساء: 25]؛ أي: فليتصرف في الدنيا وزهراتها بإذن سيدها، { وآتوهن أجورهن بالمعروف } [النساء: 25]؛ اي: أدوا حقوقها إلى الله تعالى بالشكر وصرفها في رضا الله تعالى، وإلى الخلق بالشفقة في الإنفاق عليهم، وصلة رحم الأخوة في الله من غير منته ورياءه، { محصنت } [النساء: 25] بإحصان الصدق والإخلاص، { غير مسفحت } [النساء: 25] بالتبذير والإسراف، { ولا متخذت أخدان } [النساء: 25]؛ يعني: إن يتخذوا الدنيا خدن النفس والهوى، ويحسبوها حب الأخدان، { فإذآ أحصن } [النساء: 25]؛ يعني: إذا أحصنت دنياكم بإحصان الصدق، { فإن أتين بفحشة } [النساء: 25]، وأتت الدنيا وزهراتها بفاحشة وهي غلبات شهواتها على القلب، { فعليهن نصف ما على المحصنت من العذاب } [النساء: 25]؛ يعني: ببذل نصف ما ملكت يمينه من الدنيا في الله جناية وعزامة لما أظهر في الفاحشة، فإنه نصف ما على المحصنات في أول الآية، عبر عنها بمنكوحة ذي الطول المستطيع وهي الحسرة، وقلنا هي عجوز الدنيا، وكما أن حد الحرة المحصنة في إتيان الفاحشة إهلاكها بالرحم، وحد الأمة المحصنة نصف ما على المحصنات، فكذلك حد عجوز الدنيا إذا أحصنها ذو الطول من الرجال فإن أتت بفاحشة أهلكها بالكلية في الله كما كان حال أبي بكر رضي الله عنه، وحد الأمة المحصنة من الدنيا هلاك نصفها كما كان حال عمر رضي الله عنه، والذي يؤكد هذا التأويل حال سليمان عليه السلام
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد
[ص: 31]، فلما شغلته عن الصلاة وأتت بفاحشة حب الخيل،
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب
[ص: 32]، رأى أن جدها بإهلاك كلها، فقال:
ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق
[ص: 33]، { ذلك } [النساء: 25]؛ يعني: التصرف في قدر من الدنيا، { لمن خشي العنت منكم } [النساء: 25]؛ أي: لمن يخاف عن ضعف النفس وقلة صبرها على المجاهدة وترك الدنيا بالكلية، فتأبى نفسه عن قبول الأوامر والنواهي، وتظهر إمارتها بالسوء فتهلك، { وأن تصبروا } [النساء: 25]؛ يعني: عن التصرف في الدنيا بتركها، { خير لكم } [النساء: 25]، كما قال صلى الله عليه وسلم: " يا طلاب الدنيا لتبروا بها " ، تركها أبر وأبر، { والله غفور رحيم } [النساء: 25]؛ يعني: لمن يتصرف في الدنيا بشرائطها التي مر ذكرها، يغفر ذلاته ويرحم عليه بالحفظ من آفتها.
[4.26-28]
ثم أخبر عن مراده لعباده بقوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم } [النساء: 26]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى أنعم على هذه الأمة بإرادة أشياء بهم:
أولها: التبيين بقوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم } [النساء: 26]؛ وهو أن يبين لهم الصراط المستقيم إلى الله.
وثانيها: الهداية بقوله تعالى: { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [النساء: 26]؛ يعني: من الأنبياء والأولياء، وهو أن يهديهم إلى صراط المستقيم بالعيان بعد البيان، وثالثها: التوبة عليهم بقوله تعالى: { ويتوب عليكم والله عليم حكيم } [النساء: 26]، { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } [النساء: 27]، { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } [النساء: 28]؛ وهي أن يرجع بهم إلى حضرته على صراط الله تعالى، ورابعها: التخفيف عنهم بقوله تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم } [النساء: 28]؛ وهي أن يوصلكم إلى حضرته بالمعونة ويخفف عنكم المؤنة، وهذا مما اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته لوجهين:
أحدهما: إن الله تعالى أخبر عن ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى حضرته باجتهاده، وهو المؤنة، وقال تعالى:
ولما جآء موسى لميقاتنا
[الأعراف: 143]، وأخبر تعالى عن آل نبينا صلى الله عليه وسلم:
سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا
[الإسراء: 1] الذي هو المعونة فخفف عنهم المؤنة.
وأخبر عن حال هذه الأمة بقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53]، وهذا أيضا بالمعونة وهي جذبات العناية، فقال صلى الله عليه وسلم:
" جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين "
، وقوله:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 27-28]، هو أيضا جذبة العناية، فافهم جيدا.
والوجه الثاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته مخصوصون بالوصول والوصال مخففون عنهم كلفة الفراق والانقطاع، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصن بالوصال إلى مقام
فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9]
ولقد رآه نزلة أخرى
[النجم: 13]، وبقوله:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11]، وانقطع سائر الأنبياء - عليهم السلام - في السماوات السبع.
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة الإسراء قال:
" رأيت آدم في سماء الدنيا، إلى أن قال: رأيت إبراهيم في السماء السابعة "
، فعبر عنهم جميعا إلى كمال القرب والوصول، وأما الأمة فقال تعالى في حقهم:
" من تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا "
، وقال تعالى:
" لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته، كنت له سمعا وبصرا "
، وهذا هو حقيقة الوصول والوصال، ولكن الفرق بين النبي والولي في ذلك: إن النبي مستقل بنفسه في السير إلى الله، ويكون خطه من كمل مقام بحسب استعداده الكامل، والولي لا يمكنه السير إلى الله إلا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تسليكه في سبيل
أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف: 108]، ويكون خطه من المقامات بحسب استعداده، فافهم جيدا.
ثم في قوله تعالى: { وخلق الإنسان ضعيفا } [النساء: 28]، على عقيب هذه البشارات والإشارات، إشارات أنه لو لم يكن جذبات العناية الأزلية في حق الإنسان لما وصل سير خشيته إلى سرادقات جلال صمديته، ولو قدر لواحد قوة سير الثقلين إلى الأبد، وهذا أحد معاني قوله صلى الله عليه وسلم:
" جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين "
، وإن المجذوب يصل بقوة جذبة من جذبات الحق إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا وغيره أضعف منه، فإن ضعف الإنسان إنما هو بالنسبة إلى قوة جلال الله وكماله، وإنه أقوى من السماوات والأرض والجبال وأهاليها في حمل الأمانة المعروضة عليهن كلهن،
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72]، فافهم جيدا.
ثانيها:
إن الإنسان خلق هلوعا
[المعارج: 19] ضعيفا لا يصير على الله لحظة فيما يكون على الفطرة الإنسانية،
فطرت الله التي فطر الناس عليها
[الروم: 30]، فإنه
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، وقال شاعرهم:
إذا لعب الرجال بكل شيء
رأيت الحب يلعب بالرجال
والصبر في سائر الأشياء محمود، وقال لبعضهم:
الصبر يحمد في المواطن كلها
إلا عليك فإنه لا يحمد
وكان يستحي سلطان وقته محب الدين شرف بن يزيد البغدادي - قدس الله روحه - يقول يوما في أثناء مجلسه: إن أبا الحسن الخرقاني - رحمه الله - كان يقول: لو لم ألق نفسا لن أبق، ثم قال: لا يعظم عليكم هذا المقام، فإني رجعت لله بكثير من أصحابي عن هذا المقام.
ثم اعلم أن الإنسان ممدوح بهذا الضعف؛ يعني: أن لا يصبر لضعفه عن الله تعالى فإنه مخصوص عن العالمين بشرف هذا الضعف، فإن من عداه يصبرون عن الله تعالى؛ لعدم اضطرارهم في المحبة، والإنسان مخصوص بالمحبة بدليل
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
وثالثها: إن الإنسان مع اختصاصه بقوة حمل الأمانة وانجذابه العناية خلق ضعفا عند سطوات تجلي الصفات ومن صفات الله تعالى، ألم تر كيف كان حال موسى عليه السلام
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا
[الأعراف: 143].
ورابعها: إن الصبر عن الله وإن كان شديدا، فالصبر مع الله أشد وأشد؛ لأن الإنسان خلق ضعيفا، ونقصان هذا الضعف فيه بكمال قوة سطوة تجلي ربه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه؛ لضعف خلقته، فكان عند استغراق الشهود وغلبات الأحوال يقول:
" كلميني يا حميراء "
، أو كان النبي يقول:
" لا معك قرار ولا منك فرار المستعان منك بك إليك ".
واعلم أن الضعف مخصوص بالإنسان وهو سبب كماله وسعادته، وسبب نقصانه وشقاوته، يتغير من ضعفه من حال إلى حال ومن صفة إلى أخرى، فيكون ساعة بصفة بهيمية يأكل ويشرب ويجامع، ويكون ساعة أخرى بصفة ملك يسبح بحمد ربه ويقدس له، ويفعل ما يؤمر ولا يعصي فيما نهاه عنه، وهذه التغيرات من نتائج ضعفه، وليس هذا الاستعداد لغيره، حتى الملك لا يقدر أن يتصف بصفات البهيمية، والبهيمية لا تقدر أن تتصف بصفات الملك؛ لعدم ضعف الإنسانية، وإنما خص الإنسان بهذا الضعف لاستكماله بالتخلق بأخلاق الله واتصافه بصفات الله تعالى، كما جاء في الحديث الرباني: " أنا ملك حي لا يموت أبدا، عبدي أطعني أجعلك حيا ملكا لا تموت أبدا " ، فعند هذا الكمال يكون خير البرية، وعند اتصافه بصفات البهيمية يصير شر البرية، فافهم جيدا.
[4.29-30]
ثم أخبر عن ما يفسد حاله ونهاه بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل } [النساء: 29]، إشارة في الآية: من خصائص الإيمان { لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل } [النساء: 29]؛ أي: في غير طلب الحق بالهوى وتتبع الشهوات واستيفاء اللذات، { إلا أن تكون تجرة عن تراض منكم } [النساء: 29]؛ يعني: إلا أن يكون تصرفكم في أموالكم تجارة تنجيكم من عذاب الآخرة، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله
بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون
[التوبة: 41]، ثم قال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء: 29]؛ أي: بصرف أموالكم في هواها وشهواتها، فإنها سمها القاتل المهلك { إن الله كان بكم رحيما } [النساء: 29]، إذ بين لكم هذه الآفات قبل أن تقعوا فيها، ودلكم على هذه التجارات لتربحوا بها السعادات.
{ ومن يفعل ذلك } [النساء: 30]؛ أي: يصرف المال بالهوى، { عدوانا } [النساء: 30]؛ أي: يعدوا أمر الله تعالى، { وظلما } [النساء: 30]؛ أي: يظلم على نفسه بمتابعة الهوى، { فسوف نصليه نارا } [النساء: 30] القطيعة، { وكان ذلك } [النساء: 30]؛ أي: حرمانه وقطيعته عن الله تعالى، { على الله يسيرا } [النساء: 30] لا يبالي به.
[4.31-32]
ثم أخبر أن الاجتناب عن الكبائر المنهي عنها بقوله تعالى: { إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه } [النساء: 31]، يوجب تكفير الصغائر، لقوله تعالى: { نكفر عنكم سيئتكم وندخلكم مدخلا كريما } [النساء: 31]، وعند انتفاء الصغائر والكبائر يمكن الدخول في المدخل الكريم وهو حضرة أكرم الأكرمين، لقوله تعالى:
والطيبات للطيبين
[النور: 26]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب "
، وتفاصيل الكلام مر ذكرها وإن جملتها مندرجة في ثلاثة أشياء:
إحداها: إتباع الهوى، فقد يقع الإنسان به في جملة من الكبائر، مثل: البدعة والضلالة، والارتداد والشبهة، وطلب الشهوات واللذات، والتمتعات وحظوظ الأنفس بترك الصلاة والطاعات كلها، وعقوق الوالدين، وقطع الرحم، وقذف المحصنات وأمثالها، ولهذا قال:
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26]، وقال تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية: 23]، وأهله الله على علم.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما عبد إله في الأرض أبغض على الله من الهوى ".
وثانيها: حب الدنيا، فإنها مظنة كثيرة من الكبائر مثل: القتل والظلم والغضب، والنهب والسرقة، والربا وأكل مال اليتيم، ومنع الزكاة، وشهادة الزور وكتمانها، واليمين الغموس، والحيف في الوصية وغيرها، واستحلال الحرام ونقض العهد وأمثاله، ولهذا قال تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48]، وقال تعالى:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13].
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن أكبر الكبائر الإشراك بالله ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" اليسير من الرياء شرك ".
وقال المشايخ: وجودك ذنب، فمن تخلص عن ذنب وجوده فلا يرى غير الله، فلا ينشأ منه الشرك ولا حب الدنيا، ومن تخلص من الهوى فيتحقق له الوصول واللقاء، كقوله تعالى:
فمن كان يرجوا لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
[الكهف: 110]، لعمري أن هذا هو المدخل الكريم، والفوز العظيم، والنعيم المقيم.
ثم أخبر أن نيل هذه المقامات والكرامات ليس بالتمني، بل بالجد والسعي بقوله تعالى: { ولا تتمنوا } [النساء: 32]، إشارة في الآيتين: أن ما فضل الله به بعض الإنسان على بعض من كمالات الدين ومراتب أهل اليقين لا تحصل بمجرد التمني، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ليس الدين بالتمني "
، فقال تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [النساء: 32]، فإنه لا يحصل بالتمني، ولكن { للرجال نصيب مما اكتسبوا } [النساء: 32]؛ أي: الذين
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37] والقائمين بأمر الله المجتهدين في طلب الله المعرضين عن غير الله، { نصيب } [النساء: 32] مما جدوا في طلبه واجتهدوا حق الجهاد بالسعي الجميل والصبر الجزيل، يدل عليه قوله تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى
[النجم: 39-40]، { وللنسآء نصيب } [النساء: 32]؛ أي: من فيه نوع الأنوثة من التواني في الطلب، ودناءة الهمة في المطلوب والمقصود، وهو الذي يطلب من الله غير الله، فلهن نصيب { مما اكتسبن } [النساء: 32]، على قدر الهمة في الطلب، كقوله تعالى:
ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها
[الشورى: 20].
ثم علم عباده حسن السؤال بعلو الهمة بقوله تعالى: { واسألوا الله من فضله } [النساء: 32]، وفيه معنيان:
أحدهما: اسألوه من فضله الخاص الذي
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 21]؛ ليؤتك ويفضلك به على أهل زمانك، وحقيقة الفضل؛ هي المعرفة والعلم اللدني يدل عليه قوله تعالى:
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113].
والثاني: { واسألوا الله } [النساء: 32]؛ أي: اسألوه منه ولا تسألوا منه غيره، فإنه يعطيكم من فضله وكرمه، وإن اجتهدتم في الاكتساب وجاهدتم
في الله حق جهاده
[الحج: 78]، ولا يجهدكم كسبكم، فإنه بالجهد يهدي إلى سبله، كقوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69]، بالفضل يهدي إليه، كما قال تعالى:
يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب
[الشورى: 13]، ثم قال تعالى: { إن الله كان } [النساء: 32] في الأزل { بكل شيء } [النساء: 32]؛ أي: من أحوال عباده { عليما } [النساء: 32] يعلم بالعلم القديم الأزلي، فأعطى كل واحد منهم في بدء الخلقة استعدادا لقبول الفيض الإلهي كما يشاء بقوله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124]، وكان { عليما } [النساء: 32] بمن يسأل من الله غيره ممن لا يسأل منه إلا هو، فأشار إليهم وخاطبهم على قدر استعدادهم { واسألوا الله } [النساء: 32].
[4.33-34]
ثم قال { ولكل } [النساء: 33] طالب صادق، { جعلنا مولي } [النساء: 33]؛ أي: جعلناه في الأزل مستعدا للوراثة ومستحقها، { مما ترك الولدان والأقربون } [النساء: 33]؛ يعني: مما ترك والده وأقربوه طلبه لعدم الاستعداد والمشيئة، ثم أورثناه فضلا منا ورحمة من عندنا، ثم قال تعالى: { والذين عقدت أيمنكم فآتوهم نصيبهم } [النساء: 33]؛ يعني: الذي جرى بينكم وبينهم عند الأخوة في الله، وأخذتكم بإيمانكم إيمانهم بالإرادة وصدق الالتجاء، وتابوا على أيديكم فأتوهم بالنصح وحسن التربية والاهتمام بهم، والقيام بمصالحهم على شرائط الشيخوخية والتسليك، ثم { نصيبهم } [النساء: 33]؛ الذي أودع الله تعالى لهم عندكم بعلمه وحكمته، { إن الله كان على كل شيء } [النساء: 33] من الودائع أينما أودعه لمن أودعه ، { شهيدا } [النساء: 33] يشهد عليكم يوم القيامة أن تخونوا في إعطاء ودائعهم بالخيانة، ويسألكم عنها ويشهد لكم بالأمانة، ويجازيكم عليها خير الجزاء.
ثم أخبر عن أحوال الرجال بالفضل والنوال بقوله تعالى: { الرجال قومون على النسآء } [النساء: 34]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى جعل الرجال قوامون على النساء؛ لأن وجودهن تبع لوجودهم وهم الأصول وهن الفروع، فكما أن الشجرة فرع الثمرة فإنها خلقت منها، فكذلك النساء فروع الرجال فإنهن خلقن من ضلع، فلما كان قيام حواء قبل خلقها وهي ضلع بآدم عليه السلام وهو قوام عليها، فكذلك الرجال قوامون على النساء بمصالح أمور دينهن ودنياهن، كقوله تعالى:
قوا أنفسكم وأهليكم نارا
[التحريم: 6].
ثم قال تعالى: { بما فضل الله بعضهم على بعض } [النساء: 34]؛ أي: بما فضل الله الرجال على النساء وهو استعداد الكمالية للخلافة والنبوة، كما قال تعالى:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، وما صلحت النساء للخلافة والنبوة، واختص الرجال بهما، فكان وجودهم الأصل ووجودهن تبعا لوجودهم للتوالد والتناسل، قال صلى الله عليه وسلم:
" كمل من الرجال كثير، وما كمل من النساء إلا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وفضل عائشة - رضي الله عنها - على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام "
، ومع هذا ما بلغ كمالهن إلى حد يصلحن للخلافة والنبوة، وإنما كان كمالهن بالنسبة إلى النسوة لا إلى الرجال؛ لأنهن بالنسبة إلى الرجال ناقصات عقل ودين، حتى قال صلى الله عليه وسلم في حق عائشة - رضي الله عنها - مع فضلها على سائر النساء:
" خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء "
، فهذا بالشبه إلى الرجال نقصان، حيث قال صلى الله عليه وسلم:
" خذوا ثلثي دينكم "
، ما قال كمال دينكم، ولكن بالنسبة إلى النساء كمال؛ لأنه على قاعدة قوله تعالى:
للذكر مثل حظ الأنثيين
[النساء: 11] يكون حظ النساء من الدين الثلث، فكملتها كان لها الثلثان بمثابة الذكور مثل حظ الأنثيين.
{ وبمآ أنفقوا من أمولهم } [النساء: 34]؛ يعني: بتجريدهم عن الدنيا وتفريدهم للمولى فضلوا على النساء، { فالصلحت } [النساء: 34]؛ يعني: الذي يصلحن للكمال بعد الرجال هن { قنتت } [النساء: 34]؛ أي: مطيعات لله تعالى مستسلمات لأحكامه تعالى، { حفظت } [النساء: 34]، الواردات { للغيب بما حفظ الله } [النساء: 34] عليهن حقائق الغيب وأنواره وأسراره، { والتي } [النساء: 34]؛ يعني: منهن { تخافون نشوزهن } [النساء: 34]؛ يعني: إذا دارت عليهن كؤوس واردات الغيب، وسقين بأقداح الأرواح شراب طهور التجلي من ساقي،
وسقاهم ربهم شرابا طهورا
[الإنسان: 21]، فكوشفن بلغة الجمال، وأسكرن بشهود الجلال، كما قال بعضهم:
فأسكر القوم دور كأس
وكان سكري من المدير
فعند غلبات السكر يخفن النشوز والنفور؛ لضعف الحال وقوة سطوة النوال { فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } [النساء: 34]، فالخطاب بالعظة والهجران لأهل الكمال من الرجال القوامين على النسوان؛ وهن الضعفة من الطلاب، يشير إلى التخويف بالهجران لتأدب الشكر إن كان، كما كان حال الخضر مع موسى عليه السلام فلما دارت بينهما كؤوس المصاحبة وبلغ السيل زبى المراقبة، تساكر موسى عليه السلام وقال بلسان المعاتبة:
أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا
[الكهف: 71]، فخوفه الخضر بضرب من تعريض الهجران فقال:
قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا
[الكهف: 72]، إلى أن عارضه مرة أخرى ووقع الحافر الكدي ضربه بعد الامتحان بعصا الهجران و
قال هذا فراق بيني وبينك
[الكهف: 78]، هذا قانون أرباب الكمال المسلكين بالأصحاب إلى حضرة الحال، { فإن أطعنكم } [النساء: 34]، فإن رأوا عنهم في أثناء السلوك نشوزا من الملال أو عربة من غلبات الأحوال، يعظوهم بالمقال، فإن لم يتعظوا فبالفعال، فإن لم ينتفعوا فبالانتقال، فلمن تتعظوا بأن يطعن لكم ويتأذين، { فلا تبغوا عليهن سبيلا } [النساء: 34] بانتقام ما جرى فيهن، { إن الله كان عليا كبيرا } [النساء: 34]، لا يؤاخذ ضعف الطلبة عند العجز والغفلة.
[4.35-36]
{ وإن خفتم شقاق بينهما } [النساء: 35]، يشير إلى خلاف يقع بين الشيخ الواصل في المريد المتكامل، { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ } [النساء: 35]، متوسطين؛ أحدهما: من المشايخ المعتبرين، والثاني: من معتبري السالكين؛ لينظر إلى مقالها ويتحققا أحوالهما، { إن يريدآ إصلحا } [النساء: 35]، بما رأى فيه صلاحهما { يوفق الله بينهمآ } [النساء: 35]، بالإرادة وحسن التربية، { إن الله كان } [النساء: 35] في الأزل { عليما } [النساء: 35]، بأحوالهما، { خبيرا } [النساء: 35] بجمالهما، فقدر لكل واحد منهما بما عليهما وبما لهما.
ثم أخبر عما لهما وعليهما بقوله تعالى: { واعبدوا الله } [النساء: 36]، إشارة في الآيات: إن العبد مأمور بعبادة الله تعالى وعبوديته بالإخلاص دون الشرك فيهما، بقوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } [النساء: 36]، فالعبادة أن تعبدوا الله وحده بطريق أوامره ونواهيه، ولا تعبد معه شيئا من الدنيا والعقبى، فإنك لو عبدت الله خوفا من شيء أو طمعا في شيء فقد عبدت ذلك الشيء، لقوله تعالى:
ومن الناس من يعبد الله على حرف
[الحج: 11]، قال تعالى:
يدعون ربهم خوفا وطمعا
[السجدة: 16]، والعبودية طلب المولى للمولي بترك الدنيا والعقبى، والتسليم عند جريان القضاء شاكرا صابرا في النعماء والبلوى، كقوله تعالى:
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
[الأنعام: 52]، فإذا حصل المقصود وصل العابد إلى المعبود، فحينئذ يصح عنه، { وبالولدين إحسانا وبذي القربى واليتمى والمسكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمنكم } [النساء: 36]؛ لأن الإحسان من صفات الله تعالى، كقوله:
الذي أحسن كل شيء خلقه
[السجدة: 7]، والإساءة من صفات الإنسان فإن النفس الأمارة بالسوء، فالعبد لا يصدر منه الإحسان إلا أن يكون متخلقا بأخلاق الله تعالى فانيا عن أخلاق نفسه، كما قال تعالى:
مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك
[النساء: 79]، وفيه إشارة أخرى؛ وهي: إن لشرط العبودية الإقبال إلى الله تعالى بالكلية والإعراض عما سواه، حتى يخرج عن عهدة العبودية بالوصول إلى حضرة الربوبية، فتفنى عنك به وتتقرب به للوالدين، وغيرهما محسنا بإحسانه لا بشرك ورياء، فإن الشرك والرياء هاء النفس، فإذا فنيت النفس فنيت أوصافها، ولهذا قال تعالى عقيب الآية: { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } [النساء: 36]؛ لأن الاختيال والفخر من أوصاف النفس، والله تعالى لا يحب النفس ولا أوصافها؛ لأن النفس لا تحتسب الدنيا ولا المحبة من أوصافها، فإن النفس تحب الدنيا وتبخل بها وتأمر بالبخل.
[4.37-38]
فقال تعالى في صفة الفخور: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } [النساء: 37]، إلى أن قال تعالى: { والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس } [النساء: 38]؛ لأن النفس محجوبة عن الله تعالى بهواها، فإنها اتخذت إلهها هواها، { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } [النساء: 38]، فإن الهوى يضلها عن سبيل الله تعالى: كالشيطان فما دام هو يكون قرينا لها فهو شيطانها، { ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا } [النساء: 38].
[4.39-41]
ثم أخبر عن إنفاق أهل النفاق بقوله تعالى: { وماذا عليهم } [النساء: 39]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى يخبر عن دناءة همة الأشقياء، وقصور نظرهم أنهم يتقنعون بقليل من الدنيا، ويحرمون عن كثير من المقامات الأخروية السنية، ولا ينفقون في طلب الحق، فقال تعالى: { وماذا عليهم } [النساء: 39]؛ يعني: من المشقة والنقل ظاهر، { لو آمنوا بالله واليوم الآخر } [النساء: 39]، ظاهرا وباطنا { وأنفقوا مما رزقهم الله } [النساء: 39]؛ أي: بعض ما رزقهم الله لينالوا السعادة الكبرى والدرجات العلا.
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [النساء: 40]، وفيه إشارة أخرى، { وماذا عليهم } [النساء: 39]؛ أي: ليس عليهم ضرر من إنفاق ما رزقهم من المال والجاه، والنفس في طلب الحق،
ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[النساء: 38]؛ أي: لو كان لهم إيمان بوجدان الله وسعادة الآخرة، وبه طلبوه وتركوا الدنيا وتحقق لهم؛ معنى: { وكان الله بهم } [النساء: 39]، وإنفاقهم وقصدهم ومقصودهم وصدقهم في الطلب { عليما } [النساء: 39]، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } [النساء: 40]، على عباده وطالبيه، { وإن تك حسنة } [النساء: 40] منهم بالسعي في الطلب، { يضعفها } [النساء: 40]، كما قال تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة "
، { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } [النساء: 40]؛ أي: يؤتيه من جذبات العناية بجذبة عنه إليه وهو الأجر العظيم، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن أحوال المنافقين والموافقين بقوله تعالى: { فكيف إذا جئنا } [النساء: 41]، إشارة في الآيتين: إن مرآة القلوب إذا تخلصت عن شين رين الخلق الحيواني، وصقلت عن طمع الطبع الروحاني، وتنورت بالنور الرباني، ينعكس فيها نقوش ما تجري في العالمين، وشاهدت بنور الله معاملات النقلين، ولهذا قال من قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، فقال تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم إظهارا لفضله على الأنبياء - عليهم السلام -: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [النساء: 41]؛ أي: نبيهم ليشهد عليهم لإشرافه عليهم لإشرافه بمرآة القلب ونور الرب على أحوالهم، { وجئنا بك } [النساء: 41] يا محمد { على هؤلاء شهيدا } [النساء: 41]؛ لتشهد يوم يجمع الله الرسل،
فيقول ماذآ أجبتم قالوا لا علم لنآ
[المائدة: 109]؛ لإشرافك على أحوالهم ولا إشراف لهم على أحوالك، فكما أن لك فضيلة بهذا الإشراف على الأنبياء، فكذلك لأمتك فضيلة على الأمم بالإشراف على أحوالهم، كقوله تعالى:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس
[البقرة: 143]؛ يعني: على الأمم،
ويكون الرسول عليكم شهيدا
[البقرة: 143]؛ يعني: تشهدون أنتم على الأمم ولا يشهد عليكم إلا رسولكم، وهو
بالمؤمنين رءوف رحيم
[التوبة: 128].
[4.42-43]
{ يومئذ } [النساء: 42]؛ يعني: يوم شهادة هذه الأمة على من كفر من الأمم في الدنيا، ومجد الكفر في الآخرة بعد كفرهم وجحودهم، وإقامة البينة بشهادة هذه الأمة عليهم.
{ يود الذين كفروا وعصوا الرسول } [النساء: 42]؛ أي: كل فرقة رسولهم، { لو تسوى بهم الأرض } [النساء: 42]، حجالة عن الله والإشهاد وخوفا من العذاب والنار، وحسرة
على ما فرطت في جنب الله
[الزمر: 56] بإبطال استعداد الفطرة
التي فطر الناس عليها
[الروم: 30]، وتقصيرا استعمال وصرفه في الاستكمال الذي صرفه إليه غيرهم، { ولا يكتمون الله حديثا } [النساء: 42]؛ يعني: إذا جحدوا مع الله وكتموا كفرهم بقولهم:
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23].
ثم أخبر عن خسران السكران بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى } [النساء: 43]، إشارة في الآية: إن الصلاة هي معراج المؤمن وميقات مناجاته، والمصلي هو الذي يناجي ربه، فقال تعالى: { لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى } [النساء: 43]، يا أهل الإيمان، { حتى تعلموا ما تقولون } [النساء: 43] في مناجاتكم مع ربكم، فيه دلالة على أن من يصلي ولا يعلم ما يقول ومع من يقول فحكمه حكم السكران الساهي عما يقول، فيكون حاصله من الصلاة الويل، كما قال تعالى:
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون
[الماعون: 4-5]، وفيه إشارة أخرى: { يا أيها الذين آمنوا } [النساء: 43]، يا مدعي الإيمان لا تجدون القربة في الصلاة وأنتم سكارى من الغفلات وتتبع الشهوات، حتى تعلموا ما تقولون في مناجاتكم مع ربكم، ولماذا تقولون كما تقولون الله أكبر لتكبيرة الإحرام عند رفع اليدين، ومعناه الله أعظم وأجل من كل شيء، وإن كنت تعلم عند التقول به فينبغي أن لا تكون في تلك الحالة في قلبك عظمة شيء آخر، وإمارة ذلك ألا تجد ذكر شيء في قلبك مع ذكره ولا محبة لشيء مع محبته ولا طلب شيء مع طلبه، فإنه تبارك وتعالى واحد لا يقبل الشركة في جميع صفاته، وإلا كنت كاذبا في قولك: الله أكبر، بالنسبة إلى حالك، وكذلك عند قولك:
وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام: 79]، فإن كان في قلبك توجه إلى شيء من الدنيا والآخرة ولك مطلوب غير الله فأنت كاذب في ذلك، فقس الباقي على هذا، فإن جميع حركاتك في أثناء الصلاة وكلماتك تشير إلى سر من أسرار الرجوع والعروج من مقام البشرية إلى حضرة الربوبية، فإن كنت غافلا عن هذه الأسرار والإشارات فتكون كالسكران لا تجد القربة من صلاتك؛ لأن القربة مشروطة بشرط السجود كما خوطبت:
واسجد
[العلق: 19]؛ أي: تنزل مركب أوصاف وجودك لتحمل على رفرف وجوده إلى قاب قوسين أوصاف وجوده لشهود جماله وجلاله، وهذا هو ستر التشهد بعد السجود.
ثم قال تعالى: { ولا جنبا إلا عابري سبيل } [النساء: 43]؛ يعني: كما أنكم لا تجدون القربة وأنتم سكارى من الغفلات، أيضا لا تجدونها مع جناية استحقاق العبد؛ وهي ملامسة الدنيا الدنية، إلا على طريق العبور بقدم ظاهر الشرع سبيل الأوامر والنواهي، { حتى تغتسلوا } [النساء: 43]، بماء التوبة والإنابة، وصدق الطلب وحسن الإرادة، وخلوص النية جناية ملامسته الدنيا وشهواتها، { وإن كنتم مرضى } [النساء: 43]، بانحراف مزاج القلب في طلب الحق، { أو على سفر } [النساء: 43]، كتردد بين طلب الدنيا وطلب العقبى والمولى، { أو جآء أحد منكم من الغآئط } [النساء: 43]، من غائط تتبع الهوى، { أو لمستم النسآء } [النساء: 43]؛ أي: لامستم الأشغال الدنيوية، فأجبتم وتباعدتم عن الله تعالى بعد ما كنتم مجاوري حظائر القدس، وزلفتم في رياض الأنس { فلم تجدوا مآء } [النساء: 43]، صدق الإنابة والرجوع إلى الحق بالإعراض والانقطاع عن الخلق، { فتيمموا } [النساء: 43]؛ أي: فاقصدوا، { صعيدا طيبا } [النساء: 43]، وهو شراب أقدام الرجال الطيبين من سوء الأخلاق والأعمال، { فامسحوا بوجوهكم } [النساء: 43] تراب أقدامهم { وأيديكم } [النساء: 43]، وتمسحوا بأيديكم أذيال كرامهم مستسلمين بصدق الإرادة لأحكامهم، { إن الله كان عفوا } [النساء: 43] عنكم التقصير والانقطاع إليه بالكلية، ولعل يعفو عنكم التلون بالدنيا الدنية بهذه الخصلة المرضية، { غفورا } [النساء: 43] لكم آثار الشقوة من غبار الشهود، فإنه يسعد بهم أنيسهم؛ لأنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم.
[4.44-46]
ثم أخبر عن جهالة أهل الضلالة بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا } [النساء: 44]، إشارة في الآيتين: إن { الذين أوتوا نصيبا من الكتب } [النساء: 44]، يشير إلى: إن من رزق شيئا من علم الكتاب ظاهرا، ولم يرزق أسراره وحقائقه وهم علماء السوء المداهنون في دين الله حرصا على الدنيا، وطمعا في المال والجاه، وحبا للرياسة والقبول، { يشترون الضللة } [النساء: 44]، وهي المداهنة وإتباع الهوى، فيبيعون الدين بالدنيا { ويريدون أن تضلوا } [النساء: 44]، يا معشر العلماء الأتقياء ورثة أنبيائه وطلاب الحق من بين الخلق عن { السبيل } [النساء: 44]، الحق بما يجدونكم وينكرون عليكم، ويكرمونكم ويودونكم بطريق النصح وإظهار المحبة { والله أعلم بأعدائكم } [النساء: 45]؛ أي: بعدوانهم إياكم هو أعلم منكم ومنهم بحالكم وحالهم، فلا تقبلون نصيحتهم فيما يقطعون عليكم طريق الحق ويردونكم عنه، ويصدونكم عن الحق بالتحريض على طلب غير الله ورعاية حق غير الله، وأطيعوا أمر الله تعالى فيما أمركم به قوله:
قل الله ثم ذرهم
[الأنعام: 91].
{ وكفى بالله وليا } [النساء: 45]، فلا يضركم إن لم يكن غيره وليا لكم، { وكفى بالله نصيرا } [النساء: 45]، يعني: حسبكم الله بالنصرة والولاية،
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون
[آل عمران : 160].
{ من الذين هادوا } [النساء: 46]؛ يعني: دأب علماء السوء قريب من دأب الذين هادوا، { يحرفون الكلم عن مواضعه } [النساء: 46] بالفعال لا بالمقال، { ويقولون سمعنا } [النساء: 46]، بالمقال فيما أمر الله من ترك الدنيا وزينتها وإتباع الأوامر، ومن إيثار الآخرة على الأولى والانقطاع عن الخلق، { واسمع غير مسمع ورعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين } [النساء: 46]، وأهل الدين { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } [النساء: 46]، في القرآن قولا وفعلا، { واسمع وانظرنا } [النساء: 46]؛ أي: أجب دعاءنا ولا تجيب رجاءنا، { لكان خيرا لهم وأقوم } [النساء: 46]، في قوم أخلاقهم واستقامة أحوالهم، { ولكن لعنهم الله بكفرهم } [النساء: 46]، يبعدهم الله عن الحضرة، وطردهم عن القربة بشؤم إنكارهم وكفران نعمة إيتاء العلم،
فعموا
[المائدة: 71] ببصر البصيرة عن رؤية الحق،
وصموا
[المائدة: 71] بالآذان الواعية عن استماع كلام الحق، { فلا يؤمنون } [النساء: 46]، بالقلوب السليمة { إلا قليلا } [النساء: 46] منهم، بأن يكفروا بهوى نفوسهم ويؤمنوا بالإيمان الحقيقي الذي من نتائج الإرادة والصدق في طلب الحق، والإخلاص في العمل لله، وترك الدنيا وزخارفها، بل بذل الوجود في طلب المعبود.
[4.47-48]
ثم أخبر عن الإيمان الحقيقي والاحتراز عن الشرك الجلي بقوله تعالى: { يا أيهآ الذين أوتوا } [النساء: 47]، إشارة في الآيتين: { يا أيهآ الذين أوتوا الكتب } [النساء: 47]، ظاهرا ولم يؤتوا علم باطن الكتاب، فإن للقرآن ظهرا وبطنا، { ءامنوا } [النساء: 47]، وصدقوا { بما نزلنا } [النساء: 47] على الأولياء من علم باطن القرآن وفهمه، { مصدقا لما معكم } [النساء: 47] من العلم الظاهر، فإن آتيناهم
رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما
[الكهف: 65]، ولا تستبعدوا أن يؤتي الأولياء علما، علماء الدنيا يحتاجون إليهم في إرشادهم إلى ذلك العلم إياكم، فإن موسى عليه السلام مع رسالته، فإنه كان كليم الله احتاج إلى تعلم الخضر - عليهما السلام - حتى قال:
هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا
[الكهف: 66]، ومع هذا قال له الخضر:
إنك لن تستطيع معي صبرا
[الكهف: 67]؛ لأن أهل العلم الظاهر كما معهم من الكتاب وعلمهم يكون مصدقا لما معهم، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء، وقليل منهم يستطيعون الصبر مع أقوالهم وأفعالهم؛ لأنها قلما تناسب عقولهم، فالواجب على أهل علم ظاهر القرآن تصديق أهل علوم باطنه والاستفادة منهم، والصبر على تصرفاتهم فيهم والتسليم لأحكامهم في البرية، وتزكية نفوسهم وصدق الإرادة في حمل أعباء الصحبة؛ لئلا يكون علومهم الظاهرة الغريبة من فوائد العلوم الباطنة وبال عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل علم بلا عمل وبال، وكل عمل بلا علم ضلال ".
فمن فوائد العلوم الباطنة معرفة العلم بالأعمال المنجيات والأعمال المهلكات، ومعونة العمل بالعلوم المنجيات والعلوم المهلكات، وقوة حمل النفس على العمل بالمنجيات، وقوة منعها عن العمل بالمهلكات بالصدق والإخلاص، فالعمل والعلم إذا كانا عاريين عن هذه المعارف والقوة والإخلاص - بجلبان حب الدنيا ورياستها وشهواتها ولذاتها إلى القلب فتعميه وتصمه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" حبك الشيء يعمي ويصم "
، وكذلك قال الله تعالى: { من قبل أن نطمس وجوها } [النساء: 47]؛ أي: وجوه القلب، وطمسها عماه وصمها يدل عليه قوله تعالى:
فأصمهم وأعمى أبصارهم
[محمد: 23]، وقال:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46]، { فنردها على أدبارهآ } [النساء: 47]؛ أي: فيرد وجوههم الناظرة إلى الله عما كانوا عليه في الميثاق على أدبارها؛ وهي الدنيا والهوى، { أو نلعنهم } [النساء: 47]؛ أي: نبعدهم عن الحضرة ونطردهم، ونمسح صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية، { كما لعنآ أصحب السبت } [النساء: 47]؛ أي: مسخناهم بالصورة ونمسخ هؤلاء بالمعنى، ومسخ المعنى أشد وأصعب من مسخ الصورة، فإن أعمى الصورة يمكن أن يكون في الآخرة بصيرا، ولكن من كان في هذا أعمى بالقلب
فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء: 72]، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، { وكان أمر الله } [النساء: 47]؛ أي: حكمه وقضاؤه في الأزل { مفعولا } [النساء: 47]، لا محيض عنه لوقوع الفعل في الأبد نظيره،
وكان أمر الله قدرا مقدورا
[الأحزاب: 38]، ولما لم يكن حجاب أعظم من الأنانية فإنها الشرك الخفي، قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } [النساء: 48]، واعلم أن للشرك مراتب وللمغفرة مراتب، فمراتب الشرك ثلاث:
الجلي والخفي والأخفى، وكذلك مراتب المغفرة، فالشرك الجلي: بالأعيان وهو للعوام، وذلك تعبد شيء من دون الله: كالأصنام والكواكب وغيرها، فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية، والشرك الخفي: بالأوصاف وهو الخواص، وذلك ثبوت العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية، وإلى العبادة: كالدنيا والهوى، وما سوى المولى فلا يغفر إلا بالوحدانية، وهي أفراد التوحيد ليتصل بالواحد، والشرك الأخفى: وهو للأخص، وذلك رؤية الأغيار والأنانية، فلا يغفر إلا بالواحدانية وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ليبقى بالهوية دون الأنانية، { إن الله لا يغفر } [النساء: 48]، بمراتب المغفرة { أن يشرك به } [النساء: 48]، بمراتب الشرك، { ومن يشرك بالله } [النساء: 48]، بمراتب الشرك { فقد افترى إثما عظيما } [النساء: 48]؛ أي: جعل بينه وبين الله حجابا من إثبات وجود الأشياء والأنانية وهي أعظم الحجب، كما قيل: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب.
[4.49-52]
ثم أخبر عمن زكى نفسه ونسي أمه بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } [النساء: 49]، إشارة في الآيتين: إن الذين يزكون أنفسهم من أهل العلوم الظاهرة بالعلم، ويباهون به العلماء ويمارون به السفهاء لا تتزكى أنفسهم بمجرد تعلم العلم؛ بل يحصل لهم ذلك صفات أخرى من المذمومات مثل: المباهاة والمماراة، والمجادلة والمفاخرة، والعجب والكبر، والحسد والرياء، وحب الجاه والرياسة، وطلب الاستيلاء والغلبة على الأقران وإيذائهم وأمثال ذلك، فينقم هذه المذمات مع سائر الصفات النفسانية، وتزيد في أمارية النفس بالسوء، وتمردها عن الحق، { بل الله يزكي من يشآء } [النساء: 49]، لا بتزكية، وتهيأ لها بتسليم النفس إلى أرباب التزكية وهم العلماء الراسخون والمشايخ المحققون، كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديما، فمن سلم نفسه للتزكية ويصبر على تصرفاته ويسعى إلى إشاراته ولا يتعرض على معاملاته ويقاسي شدائد أعمال التزكية فقد أفلح بما تزكى، { ولا يظلمون فتيلا } [النساء: 49]؛ يعني: ولا يضيقون ما عملوا في التزكية بمقدار القيل، بل يرون آثره في تزكية نفوسهم، يدل عليه قوله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 7-8].
{ انظر كيف يفترون على الله الكذب } [النساء : 50]، في ادعاء تزكية أنفسهم بمجرد تحصيل العلم، وما سلكوا طريق الله في تزكية النفس بتسليمها إلى مزكيها وهي النبي صلى الله عليه وسلم في أيام حياته، كما قال تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم
[الجمعة: 2]، وبعده هم العلماء الذين أخذوا التزكية ممن أخذوا منه قرنا بعد قرن من الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان إلى يومنا، ولعمري أنهم في هذا الزمان أعز من الكبريت الأحمر، { وكفى به } [النساء: 50]، بإدعاء التزكية لنفسه أو تعليم التزكية لغيره { إثما } [النساء: 50]، للمدعين باطلا في هذا المعنى { مبينا } [النساء: 50]، ظاهر الكذب دعواهم على أعمالهم وأحوالهم.
ثم أخبر عن إمارات كذبهم في دعويهم وعلاماته بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت } [النساء: 51]، إشارات في الآيات: إن من أوتي نصيبا من العلوم الظاهرة ولم يؤت نصيبا من العلوم الباطنة، لا بد وأن يؤمن بجبت النفس الأمارة بالسوء طاغوت الهوى، فيصدقها فيما يأمرانه وينهيانه بالإعراض عن الحق وطلبه والإقبال على الدنيا وزخارفها، وبهذا يخرجانه من نور الهداية إلى ظلمات الضلالة، يدل عليه قوله تعالى:
أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257]، وقال تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43] وأضله الله على علم، وقال تعالى:
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26]، وهذا كما كان إبليس، فإنه أول نوعا من العلوم الظاهرة حتى استكبر بها وقال:
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
[ص: 76]، فلما لم يكن أدنى شيئا من العلوم الباطنة بالنسبة إليه ليغرس في آدم عليه السلام بشرف علم الأسماء واختصاصه،
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، وليفهم من قوله تعالى:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، كمالية مرتبة الخلافة كان حاصله من مجرد علمه الظاهر الإباء والاستكبار والكفر واللعن والطرد، والإغراء والإضلال، ومن أضلاء المحرومين من دولة علم الباطن المغرورين بعلم الظاهر قال الله تعالى: { ويقولون للذين كفروا } [النساء: 51]، من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة ومن يعبد الهوى والدنيا، المناسبة فيما بينهم من عبادة الهوى والدنيا { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا } [النساء: 51]، صدقوا الرسل فيما أمروهم بالإقبال على الله والإعراض عن الدنيا وأهلها، { سبيلا } [النساء: 51]، طريق الحق؛ لأنهم لا يعرفون الباطل من الحق واتخذوا الحق باطلا والباطل حقا.
ثم أخبر عن سبب خذلان من يظهر على أعماله هذه الإمارات ويوجد من أحواله هذه العلامات بقوله تعالى: { أولئك الذين لعنهم الله } [النساء: 52]؛ يعني: هم الذين لم يؤمنوا بما نزلنا على الأولياء من العلوم اللدنية الذين أودعناهم الطمس واللعن بقوله تعالى:
من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم
[النساء: 47]، فلما أصروا على الجحود والإنكار والإباء والاستكبار أدركتهم اللعنة والطمس وشوهت صورتهم، كما أدركت إبليس وشوهت صورته، فظهرت منهم هذه الأفعال والأحوال { ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [النساء: 52]؛ يعني: من أصابته لعنة الله أبطلت استعداده وقبول الحق فيبقى في إنكاره وجحوده، فلم تجد له نصيرا من الأنبياء والأولياء ليعادله ويخرجه من هذه الظلمات.
[4.53-56]
ثم أخبر عن إمارة أخرى بقوله تعالى: { أم لهم نصيب من الملك } [النساء: 53]؛ يعني: إمارة المغرورين بعلم الظاهر الممكورين بمكر النفس والشيطان، بل بمكر الحق إن لو كان لأحدهم من المال والملك نصيب وأفسر، { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } [النساء: 53]، من أهل الحق والعلم الحقير، نقيرا من الحسد والبغض والحقد لأرباب الحقيقة والمنافاة فيما بينهم.
ثم أخبر عن إمارة أخرى فيهم وهي الحسد بقوله تعالى: { أم يحسدون الناس } [النساء: 54]، وهم أرباب الحقيقة { على مآ آتهم الله من فضله } [النساء: 54]؛ أي: من علوم لدنية من غير تعليم، هو أعطاهم وعلمهم فضلا منه ورحمة، فلا يضرهم حسد الحاسدين، { فقد آتينآ آل إبرهيم الكتب والحكمة } [النساء: 54]، والإشارة في: آل إبراهيم إلى أهل الخلة والمحبة فإنهم آل إبراهيم في الخلة، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم من آلك يا رسول الله؟ فقال: " كل مؤمن " ، ويشير بالكتاب والحكمة إلى العلم الظاهر الذي يتعلق بالكتابة والدراسة، والعلم الباطن الذي يتعلق بأحكام الإيقان من شواهد الغيب؛ يعني: فإن أرباب الحقيقة الذين يقتدى بهم في هذا الشأن من أعطاهم العلم الظاهر من علم الكتاب والسنة، والعلم الباطن الذي هو الحكمة، { وآتيناهم ملكا عظيما } [النساء: 54]؛ يعني: معرفة الله تعالى، فإن الملك الحقيقي هو المعرفة العظيمة على الإطلاق.
ثم أخبر عن علماء الظاهر المقبول المقبل منهم والمردود والمدبر منهم، بقوله تعالى: { فمنهم من آمن به } [النساء: 55]، يشير إلى من صدق العلماء المحققين بما أعطاهم الله واستفاد منهم بالصدق والإرادة، وما حسد عليهم، { ومنهم من صد عنه } [النساء: 55]، واعترض عليه وأنكره وحسده وآذاه بالقول والفعل مهما قدر عليه، { وكفى بجهنم } [النساء: 55]، نفسه المنكرة الملعونة الحاسدة، { سعيرا } [النساء: 55]، تسعر على حسناتهم نار الحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فيحشر يوم القيامة بلا حسنات
وأحاطت به خطيئته
[البقرة: 81]،
أولئك أصحب النار هم فيها خلدون
[الأعراف: 36]، بل يكون هو سعيرا يه تسعر جهنم على أهلها، كقوله تعالى:
نارا وقودها الناس والحجارة
[التحريم: 6]، فافهم جيدا، وانتبه واعتبر.
ثم أخبر عن حال من كفر بهذه الآيات وتوجد فيه هذه الإمارات بقوله تعالى: { إن الذين كفروا بآيتنا سوف نصليهم نارا } [النساء: 56]، إشارة في الآية: إن الذين كفروا؛ أي: جحدوا من مدعي العلم بآياتنا؛ يعني: بأوليائنا، وإن الأولياء هم مظهر آيات الحق ومظهرها، وهم بذواتهم مظهر آيات العالمين وحجج من الحق على الخلق، كقوله تعالى:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية
[المؤمنون: 50]، { سوف نصليهم } [النساء: 56]؛ يعني: في الدنيا نار الحسد والإنكار، { كلما نضجت جلودهم } [النساء: 56]؛ أي: صفاتهم بنار الحسد، { بدلنهم جلودا غيرها } [النساء: 56] من الصفات، وذلك أن للإنسان جلودا بعضها نوراني وهو الصفات الحميدة الروحانية، وبعضها ظلماني وهي الصفات الذميمة النفسانية، وكن للنوراني جلود وجميعها بالنسبة إلى نور التوحيد والمعرفة وهو نور الله جلود، ولهذا ذكر الله تعالى النور بلفظ الوجدان والظلمات بلفظ الجمع في مواضع من القرآن، كقوله تعالى:
وجعل الظلمت والنور
[الأنعام: 1]، وقوله تعالى:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، وجمع الصفات النورانية الروحانية والظلمات النفسانية حجاب بين العبد والرب، كما قال تعالى:
" إن لله تعالى سبعين ألف حجابا من نور وظلمة "
، فإذا عمل العبد عملا على وفق الشرع وخلاف النفس والهوى، يجعل الله تعالى بإكسير الشرع بعض نحاس الصفات الظلمانية النفسانية على قدر العمل فضة الصفات النورانية الروحانية، وبعض صفة الروحانية نير الولاية النورانية الربانية، وهذا سر قوله:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]؛ يعني: ظلمات الخليقة إلى نور صفات الخالقية، فإن صفات الخلقية بالنسبة إلى نور صفات الخالقية كلها
ظلمات بعضها فوق بعض
[النور: 40]، وهي جلودات نور الإلهية، فافهم جيدا.
فالعبد يتقرب إلى الله بأداء الفرائض والسنن والنوافل، ويجعل صفات نفسه وفضة صفات روحه مستعدا لقبول تصرفات إكسير الشرع، والله تعالى يتقرب إليه بطرح إكسير الفيض الرباني على نحاس صفات نفسه وفضة صفات روحه، فيصير جلود صفات لب صفات الروح وجلود صفات نور الولاية إلى أن تصير الجلود، وقوله:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا "
، تفهم إن شاء الله.
وكذلك إذا عمل العبد على وفق الطبع ومتابعة الهوى ومخالفة الشرع، يصير بإكسير الشقاوة بعض فضية الصفات النورانية الروحانية نحاس الصفات الظلمانية النفسانية على قدر العمل، فيصير اللب جلدا وقشرا إلى أن تصير الألباب النورانية كلها جلودا ظلمانية، وهذا سر قوله تعالى:
أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257]، فالإشارة في قوله: { كلما نضجت جلودهم } [النساء: 56]، إن جلود الصفات الروحانية كلما نضجت بنار الحسد والبخل، والحقد والكبر، والإنكار والجحود وغيره من الأخلاق الذميمة ومخالفات الشريعة، { بدلنهم جلودا غيرها } [النساء: 56]، من الصفات النفسانية الظلمانية، { ليذوقوا العذاب } [النساء: 56]، البعد والمحجوبية عن الله تعالى وعذاب المبدلية من الصفات النورانية الروحانية إلى الصفات الظلمانية النفسانية، { إن الله كان عزيزا } [النساء: 56]، فلعزته لا يهتدي إليه كل جبار متكبر سفيه النفس، وفي الهمة قصير النظر ركيك العقل عابد الهوى أسير الشهوة، قليل النخوة كثير الحسد والحرص، طالب الدنيا المعجب برأيه الخبيث في ذاته المفسد في صفاته، { حكيما } [النساء: 56]، هدى بحكمته أولياء، وإلى حضرته كل هين سهل قريب متواضع، قانع صابر شاكر، سليم مستسلم، كريم النفس رقيق القلب خفيف الروح على الهمة ، دقيق النظر لطيف الطبع دائم السرور، الشريف في ذاته الكريم في أخلاقه وصفاته، فمن جعل لبابة الروحانية هاهنا في الجلود من الصفات النفسانية، فيحشر يوم القيامة وكل وجوده جلود لا لب له، فيصلى النار { كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } [النساء: 56]، وهذا النضج والتبديل كان حاصلا له في الدنيا ولكن لم يذق المسه حتى ينتبه، " فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " ، فافهم جيدا، وتنبه يا مسكين لعلك تفلح.
[4.57-59]
ثم أخبر عن الذين انتبهوا بقوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } [النساء: 57]، إشارة في الآيتين: إن قوله: { والذين آمنوا } [النساء: 57]، معطوف على ما قبله من ذكر علماء السوء المنكرين؛ يعني: والذين صدقوا منهم أولياء الله عليهم من المواهب الربانية والعلوم اللدنية، وأصغوا إلى كلامهم وأقبلوا على صحبتهم وتابعوهم في السير إلى الله تعالى، { وعملوا الصالحات } [النساء: 57]؛ يعني: بإشاراتهم أعمالا صالحة لسلوك سبيل الله والوصول، { سندخلهم } [النساء: 57]؛ يعني: سنجزيهم بجذبات العناية إلى { جنات } [النساء: 57] القربة والوصلة، { تجري من تحتها الأنهار } [النساء: 57]، من ماء الحكمة، ولبن الفطرة، وخمر الشهود، وعسل الكشوف، { خالدين فيهآ أبدا } [النساء: 57]، مخلدين في الوصلة مؤيدين { أبدا } [النساء: 57] من غير الفرقة، { لهم فيهآ أزواج } [النساء: 57]، من تجلي صفات الجلال والجمال، { مطهرة } [النساء: 57] من الوهم والخيال، { وندخلهم } [النساء: 57] بالجذبة من ظل الوجود المجازي، { ظلا ظليلا } [النساء: 57] من الوجود الحقيقي الذي لا مجاز بعده، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ".
والإشارة في قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [النساء: 58]، عقيب قوله: { وندخلهم ظلا ظليلا } [النساء: 57] أن الوجود المجازي كان عندكم أمانة من الله تعالى، كما أن وجود الظل مجازي بالنسبة إلى الشمس، وهذا أمانة من الشمس عند الظل، فإذا انجلت الشمس للظل تقول بلسان الجلال للظلال: إن الشمس تأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، فتلاشت الظلال واضمحلت وانمحت الآثار، وبقي الواحد القهار، وهذا أحد أسرار قوله تعالى:
ولله يسجد من في السموت والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
[الرعد: 15].
ثم قال تعالى: { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 58]؛ يعني: يأمركم بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي أن تحكموا بالعدل بين الروح والقلب والبدن؛ كيلا يظلم بعضهم على بعض، ويواظب البدن على وظائف الشريعة، وتتأدب النفس بآداب الطريقة، ويراقب القلب بشواهد اللقاء، ويلازم الروح عتبة الفناء بواردات سلطان البقاء، { إن الله نعما يعظكم به } [النساء: 58]؛ أي: نعما يعظكم بطلبه، فيه تعظيم قدر المطلوب وتعظيم قدر طريق الطلب، ورعاية المطلوب بعد وجدانه، { إن الله كان } [النساء: 58] في الأزل، { سميعا } [النساء: 58] بمقالات أصحاب الحوائج عند استدعاء الحاجات من ربهم قبل وجودهم، فأعطاهم إياهم قبل السؤال، { بصيرا } [النساء: 58] بمعاملاتهم فيما أعطاهم وصرفه في الحق والباطل فيجازيهم بها إلى الأبد.
ثم أخبر عن طريق صرف ما لا يحق في الحق بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59].
والإشارة فيها: إن الخطاب في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } [النساء: 59] مع القلب والروح والسر، فإنهم آمنوا على الحقيقة لوهم استعداد قبولهم للإيمان ونوره وهم المخاطبون بقوله تعالى: { أطيعوا الله } [النساء: 59]، فطاعة القلب: لله في أن يحب الله وحده لا يحب معه أحدا له، وطاعة الروح: ألا يلتفت إلى غير الله في الطلب ولا يطلب منه إلا هو، وطاعة السر: في ألا يرى غير الله في الوجود، كما قال بعضهم: ما في الوجود سوى الله { وأطيعوا الرسول } [النساء: 59]؛ يعني: كونوا بحكم وارد الوقت، فكما أن طاعة الرسول الظاهر هي قوله تعالى:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7]، وكذلك طاعة الرسول، وأراد الحق في الباطن هو أن يأخذوا ما أتاهم، وأراد الحق بحكم الوقت مرا كان أو حلوا أن لا يعترضوا عليه ولا يعرضوا عنه، ويصبروا عليه صبر الرجال، وينتهوا عما نهاهم بالشواهد والإشارات، وأما بالأحوال أو وقوع الواقعات يدل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد:
" استفت قلبك يا وابصة، ولو أفتاك المفتون "
{ وأولي الأمر منكم } [النساء : 59]؛ يعني: مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم، فإن أولي الأمر المريد شيخه في التربية، فينبغي للمريد أن يكل وارد حق يدق باب قلبه، وإشارة وإلهام، وواقعة تنبئ وتخبر عن أعمال وأحوال في حقه تضرب على محك نظر شيخه فيما يرى فيه الشيخ، فأولي الأمر الكتاب والسنة، فينبغي له أن ما سنح له من الغيب بوارد الحق من الكشوف والشواهد والأسرار والحقائق أن يضرب على محك الكتاب والسنة فيما صدقاه، ويحكمان عليه فقبله يكون بحكمه، { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [النساء: 59]، يحتمل معنيين:
أحدهما: منازعة النفس مع القلب والروح والسر فيما يرد عليهم من الحق، أو فيما يحكم به الشيخ { فردوه إلى الله والرسول } [النساء: 59]؛ يعني: إلى الكتاب والسنة.
والثاني: منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنة، نزاعا من قصور الفهم والدراية وإدراك دقائقها والكشف عن حقائقها، { فردوه إلى الله } [النساء: 59] بمراقبة القلوب بشواهد الغيوب، وإلى رسول وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية عن كدورات البشرية، { إن كنتم تؤمنون بالله } [النساء: 59]؛ أي: بنور آمنتم الذي شرح الله صدوركم للإسلام، وبرسول وارد الحق إلى قلوبكم للإيمان { واليوم الآخر } [النساء: 59] شاهدتم بنور الله اليوم الذي بعد يوم الدنيا وآمنتم به، { ذلك خير } [النساء: 59]؛ يعني: ذلك الإيمان الإيقاني بشهود نور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق، { وأحسن تأويلا } [النساء: 59]، عاقبة وجزاء في الحال والمال.
[4.60-62]
ثم أخبر عن حال القال من غير الأحوال بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك } [النساء: 60]، إلى قوله: { يصدون عنك صدودا } [النساء: 61] والإشارة فيه: إن أهل الطبيعة { يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } [النساء: 60]؛ يعني: بأركان الشرائع [قبلك وبالقرآن] بقالهم، ثم { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [النساء: 60] طاغوت الهوى، فلو كان حالهم مناسبا لقالهم، لكان تحاكمه إلى الله والرسول في جميع الأحوال لا إلى الهوى ولا إلى العقول المشوبة بشوائب الخيال والوهم والهوى، { وقد أمروا أن يكفروا به } [النساء: 60]، وهذا أحوال المتفلسفة في أهل هذا الزمان أنهم يزعمون أنهم آمنوا بالله ورسوله وبما أنزل إليه من القرآن، ثم يتحاكمون في الأمور الأخروية والمعارف الإلهية إلى العقول الملتبسة بآفات الوهم والخيال المشوبة بالهوى، { ويريد الشيطان } [النساء: 60] في ذلك { أن يضلهم } [النساء: 60] من طريق الحق، { ضلالا بعيدا } [النساء: 60]، من الرجوع إلى الحق.
{ وإذا قيل لهم } [النساء: 61]؛ أي: لأهل الأهواء والبدع ولأهل الطبيعة، { تعالوا } [النساء: 61] نتحاكم في الأمور { إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول } [النساء: 61]؛ أي: الكتاب والسنة، { رأيت المنفقين } [النساء: 61] يظهرون غيرها، { يصدون عنك } [النساء: 61]؛ أي: متابعتك وسنتك وسيرتك، { صدودا } [النساء: 61]، إعراضا تماما، وهذا النفاق دأبهم في جميع الأحوال، صلى الله على سيدنا محمد وآله.
وقوله تعالى: { فكيف إذآ أصبتهم مصيبة } [النساء: 62]، ملامة من الحق وسياسة من السلطان { بما قدمت أيديهم ثم جآءوك يحلفون بالله إن أردنآ } [النساء: 62]، يتحاكمنا إلى العقل وبراهين العقلية دون الشريعة، { إلا إحسنا } [النساء: 62]، إيقانا في الأدلة { وتوفيقا } [النساء: 62] بطريق الصواب وسبيل الحق.
[4.63-65]
{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } [النساء: 63] من الشبهات واعتقاد السوء والصدود عن الحق وكتمان نفاقهم، { فأعرض عنهم } [النساء: 63] في الظاهر
بالحكمة والموعظة الحسنة وجدلهم بالتي هي أحسن
[النحل: 125]، لهم في الرجوع إلي، وترك التمادي في الباطل، { وقل لهم } [النساء: 63]، بصلابة الدين { في أنفسهم } [النساء: 63] في قتلهم وهلاكهم؛ أي: خوفتهم بالقتل إن لم يرجعوا إلى الحق، { قولا بليغا } [النساء: 63] في الموعظة والتخويف، { ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [النساء: 64]، ولا يطاع العقل بإذن الهوى، فافهم جيدا.
{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } [النساء: 64]، بمتابعة الهوى وتحاكمهم إلى العقول دون الكتاب والسنة، { جآءوك } [النساء: 64]، تاركين أهواءهم، تابعين لك ولما جنت به، { فاستغفروا الله } [النساء: 64]؛ أي: تابوا إلى الله وطلبوا منه طريق الحق والوصول إلى الحقيقة في متابعتك، { واستغفر لهم الرسول } [النساء: 64]؛ أي: يشفع لهم في الحضرة، ويهديهم بقوة النبوة والرسالة إلى صراط مستقيم في الطلب، { لوجدوا الله } [النساء: 64] ووصلوا إليه؛ لأنه كان { توابا } [النساء: 64] بهم إذا تابوا، واجدا لهم إذا طلبوا، { رحيما } [النساء: 64] بهم إذا وصلوا.
ثم أخبر عن خواص الإيمان لخواص الإنسان بقوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [النساء: 65]، إلى قوله
صراطا مستقيما
[النساء: 68]، والإشارة فيه: إن الله تعالى أكد الكلام بالقسم، والقسم بذاته تبارك وتعالى { فلا وربك لا يؤمنون } [النساء: 65]؛ يعني: الذين يزعمون أنهم يؤمنون، ليعلم أن الإيمان الحقيقي الذي ينفع العبد وينجيه ليس بمجرد التصديق والإقرار، بل له محك يضرب عليه نقود الإيمان فيظهر الخالص من المغشوش، والجيد من الرديء، والبر من البهرج، وهو قوله تعالى: { حتى يحكموك فيما شجر بينهم } [النساء: 65]، حتى يحكموا الشرع لا الطبع، والنبوة والمولى لا الهوى، ووارد الحق لا موارد الخلق فيما التبس عليهم، واختلف أرادهم فيه وتخيرت عقولهم عنه،
فتنازعوا أمرهم بينهم
[طه: 62]، { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } [النساء: 65]؛ يعني: وإن كان القضاء على خلاف الطبع وهو النفس لا يجددوا في مرآة أنفسهم صورة كراهة ولا خيال نزاهة من قضاء الحق، بل من القضايا الأزلية والأحكام الإلهية، { ويسلموا تسليما } [النساء: 65] للحق وأحكامه الأزلية باستسلام النفوس ورضا القلوب.
[4.66-69]
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } [النساء: 66]، بسيف الصدق والمجاهدة ومعاندتها، { أو اخرجوا من دياركم } [النساء: 66] بالفناء في عالم البقاء المعني،
ويسلموا تسليما
[النساء: 65]، { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } [النساء: 66]، ثم الكلام هاهنا في محك نقد الإيمان وعبارة ثم قال تعالى: { ما فعلوه } [النساء: 66]؛ أي: وما فعلوه إلا قليلا من مدعي الإيمان؛ يعني: ما صح على هذا المحك إلا نقد { إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } [النساء: 66] من قتل النفس بسيف الصدق عن شهواتها وإتباع هواها، { لكان } [النساء: 66] مقام الجهاد وشهادة النفس ونيل درجة الصديقين، { خيرا لهم } [النساء: 66] من شهوات النفس واستفاء اللذات الجسمانية الحيوانية { وأشد تثبيتا } [النساء: 66] في مقامات الروحانية وقربات الربانية، { وإذا لأتينهم من لدنآ أجرا عظيما } [النساء: 67]؛ وهي العلوم اللدنية، { ولهديناهم صراطا مستقيما } [النساء: 68] للوصول إلى حضرة الربوبية بجذبات الإلهية.
ثم أخبر عن فضله مع الطاعات كل على قدر الاستطاعة بقوله: { ومن يطع الله والرسول } [النساء: 69]، إلى قوله:
وكفى بالله عليما
[النساء: 70].
والإشارة فيها: إن من يطع الله في أحكامه الأزلية وأفعال الأبدية، والرسول في مطاوعته فيما جاء به، ومتابعته في سلوك المقامات والوصول إلى القربات { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } [النساء: 69] في المقامات والقرب والوصول، { من النبيين } [النساء: 69] قم أنعم الله عليهم بالنبوة، { والصديقين } [النساء: 69]؛ وهم أرباب الوصول والوصال وقد انعم الله عليهم بالولاية
أن لهم قدم صدق عند ربهم
[يونس: 2]، { والشهدآء } [النساء: 69]؛ وهم أصحاب الجهاد والقتال وقد أنعم الله عليهم بالشهادة، { والصالحين } [النساء: 69]؛ وهم المستعدون للولاية وقد انعم الله عليهم بالصلاح والسداد، فأولئك هم المطيعون رزقوا معية هؤلاء، والسعادة على قدر الطاعة لله تعالى وعلى قدر المحبة لهؤلاء ومتابعتهم لسلوك المقامات والوصول إلى القربات، لقوله صلى الله عليه وسلم:
من أحب قوما فهم معهم
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" المرء مع من أحب "
، وقال تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31]، { وحسن أولئك } [النساء: 69]، المطيعون مثل هؤلاء الرفقاء في سلوك طريق الحق { رفيقا } [النساء: 69]، فإن هذا الطريق غير مسلوك بغير رفيق من هذا الفريق.
[4.70-73]
{ ذلك } [النساء: 70]، الرفق والرفاقة إنما هي { الفضل من الله } [النساء: 70] لا من أحد غيره، { وكفى بالله عليما } [النساء: 70]، بمن استعداده لهذه الرفاقة فيوفقه لتحصيل هذه السعادة، فيطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب جميع الصحابة، وتدل هذه الآية على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى ذكر مراتب أوليائه وأنبيائه على الترتيب فقدم الأنبياء على الأولياء، فليس لأحد أن يؤخر الأنبياء على الأولياء، وجعل مراتب الأولياء ثلثا: الأخص وهم الصديقون، والخواص وهم الشهداء، والعوام وهم الصالحون، فكما لا يجوز أن يقدم الأولياء على الأنبياء، فكذلك لا يجوز أن يقدم الشهداء على الصديقين، فلا يجوز أن يقدم الشهداء وهم: عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - على أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، يدل عليه قوله تعالى:
والذي جآء بالصدق وصدق به
[الزمر: 33]؛ يعني : محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبي بكر رضي الله عنه، فلما صح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد بعده، كما يجوز في عهده واجمعوا على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده صارت الخلافة إلى الشهداء كما رتبهم الله تعالى بالذكر، فلا يكون من علامة السعادة تغيير هذه المراتب وتقديم بعضهم على بعض في هذا الزمان، وهذا مما لا يمكن؛ لأن الله تعالى أجرى كما قدره في الأزل فلا راد لحكمه، لا سيما بعد وقوع الأمر،
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
[الأنفال: 42]، وقال تعالى: { وكفى بالله عليما } [النساء: 70]، فلم يبق لمجوز تغيير تلك المراتب، إلا الاعتراض على الله تعالى فيما جعله مخصوصا بهذا الفضل، لقوله تعالى: { ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما } [النساء: 70]؛ أي: من يعطيه فضله والاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم حيث اختص أبا بكر رضي الله عنه بهذا الفضل، وقال:
" أفضلكم أبو بكر "
، والاعتراض على جميع الصحابة فإنهم أجمعوا على فضيلة أبي بكر وخلافته، فافهم جيدا وتفكر في هذا التقرير بلا تعصب ولا تكن من أهل التغير.
ثم أخبر عن أهل الفضل وأهل العدل بقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم } [النساء: 71]، الإشارة فيها: إن الله تعالى بفضله وكرمه يعلم الذين آمنوا أن يأخذوا عدتهم وأسلحتهم في جهاد كافر النفس والشيطان لفلاح الروحاني عن أسير الهوى النفساني بقوله تعالى: { خذوا حذركم } [النساء: 71]، هو ذكر الله عز وجل لقوله تعالى:
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
[الأنفال: 45]، قال تعالى: { فانفروا ثبات } [النساء: 71]؛ أي: جاهدوا أنفسكم بالرياضة وقمع الهوى متفرقين؛ أي: وإن كنتم بوصف التفرقة ولا جمعية لكم، فإن بالرياضة يحصل الجمعية، { أو انفروا جميعا } [النساء: 71]؛ يعني: جاهدوا على الجمعية والحضور، فإن الجهاد ماض مع النفس مدة العمر في كل قتلة لها حياة أخرى أطيب وأعز من الأولى بقوله تعالى: { فانفروا ثبات } [النساء: 71] إلى الخروج من عالم الحيوانية إلى عالم الروحانية ومن التفرقة إلى الجمعية، { أو انفروا جميعا } [النساء: 71] إلى الخروج من عالم الروحانية إلى عالم الوحدانية الربانية، ومن الجمعية إلى الوحدة.
{ وإن منكم } [النساء: 72] أيها الصديقون { لمن ليبطئن } [النساء: 72]، من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم النازلين على الرسم، { فإن أصبتكم مصيبة } [النساء: 72] شدة وبلاء وجهد وعناء، قال: { قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } [النساء: 72] من المحنة والشقاوة والشدة والعناء، { ولئن أصبكم فضل من الله } [النساء: 73]، فتوحات ومواهب غيبية وعلوم لدنية، ومرتبة رفيعة عند الخواص ومحبة وقبول عند العوام، { ليقولن } [النساء: 73]، هذا المرائي قول حاسد كاسد، { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } [النساء: 73]؛ أي: كمن لم يكن بينكم وبينه صحبة ونسبة في هذا الشأن، ولم يكن له انتماء إلى هذا الفرق إذا انقطع في الطريق، { يليتني كنت معهم } [النساء: 73] في جهاد النفس وتزكيتها، وتربية القلب وتصفية وتنقية الروح، وتحليته وتحلية السر وتقويته، { فأفوز فوزا عظيما } [النساء: 73]؛ أي: فالفوز العظيم؛ وهو الله جل ثناؤه.
[4.74-76]
{ فليقاتل } [النساء: 74]، هذا الحاسد النادم { في سبيل الله } [النساء: 74]؛ أي: في طلب الله، فليجاهد نفسه هو وأمثاله { الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } [النساء: 74]، يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب، ويختارون الفاني على الباقي، { ومن يقاتل في سبيل الله } [النساء: 74] يجاهد نفسه في طلب الحق، { فيقتل } [النساء: 74] نفسه بسيف الصدق والحق، { أو يغلب } [النساء: 74] بالظفر فسلم على بدنه، { فسوف نؤتيه } [النساء: 74] بجذبات العناية { أجرا عظيما } [النساء: 74]، وهو الفوز العظيم.
ثم أخبر عن المستضعفين وحث على تخليصهم من المشركين بقوله تعالى: { وما لكم لا تقتلون في سبيل الله } [النساء: 75]، إلى قوله: { كان ضعيفا } [النساء: 76]، والإشارة فيهما: إن ما لكم أيها المدعون الإسلام والدين، ألا تقاتلون في سبيل الله؟ لا تجاهدون أنفسكم في سلوك السبيل إلى الله، وهو تحريض على طلب الحق والسير إلى الله؛ لكيلا تقنعوا بمجرد الاسم والرسم، وتستمروا على ساق الحد والاجتهاد في طلب المقصود والمراد، فإن المجاهدة تورث المشاهدة في قوله تعالى: { والمستضعفين من الرجال } [النساء : 75]، إشارة إلى تقوية الأرواح الضعيفة التي استضعفتها النفوس باستيلائها عليها، { والنسآء } [النساء: 75]؛ أي: القلوب، فإن القلب للروح كالزوجة؛ لتصرف الروح في القلب كتصرف الزوج في الزوجة، { والولدن } [النساء: 75]؛ وهي الصفات الحميدة التي تتولد من ازدواج الروح والقلب، يستعينون إلى ربهم { الذين يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية } [النساء: 75]؛ أي: قرية البدن، { الظالم أهلها } [النساء: 75]؛ وهي النفس الأمارة بالسوء، { واجعل لنا من لدنك وليا } [النساء: 75]؛ أي: كن لنا من فضلك وكرمك وليا تخرجنا من ظلمات البشرية والخلقية إلى نور الربوبية والإلهية، { واجعل لنا من لدنك نصيرا } [النساء: 75]، من ولاية النبوة شيخا مرشدا ينصرنا على النفس والهوى والشيطان والدنيا.
وفي قوله تعالى: { الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله } [النساء: 76]، يشير إلى: إنه إنما أمر بجهاد النفس؛ لأن إمارة الذين آمنوا إيمانا حقيقيا لا اسميا ومجازيا، أن يقاتلوا أو يجاهدوا أنفسهم في سلوك السبيل إلى تعالى، وإمارة { والذين كفروا } [النساء: 76]، كفران النعمة { يقتلون } [النساء: 76] القلوب { في سبيل الطغوت } [النساء: 76] طاغوت الهوى، { فقتلوا } [النساء: 76]، فجاهدوا { أولياء الشيطن } [النساء: 76]؛ وهم النفس والدنيا والهوى، { إن كيد الشيطن } [النساء: 76]، ومكره ومكر أوليائه { كان ضعيفا } [النساء: 76] في جنب مكر الله تعالى معهم، كقوله تعالى:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
[آل عمران: 54]؛ أي: غالب عليهم.
[4.77]
ثم أخبر عمن رغب في القتال كالرجال والأبطال، ثم رغب عنه في أثناء الحال من الملامة بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } [النساء: 77]، والإشارة فيها: إن الذين قيل لهم من أصحاب السلامة: { كفوا أيديكم } [النساء: 77] عن الاعتصام بحبل أهل الملامة، ولا تقدموا أقدام الأبطال في معركة الرجال، { وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } [النساء: 77]، فإنكم لستم في بذل الروح من الغزاة ولا يجول في هذا الميدان إلا أهل الغرام، فاقنعوا أنتم بدار السلام فتمسكوا بأذيال الرجال واشرعوا مع النفس في الجهاد واسلكوا سبل الرشاد، فلما لم يكون دليلهم العظام قطع الطريق عليهم لؤم اللئام، [ونومة] النيام، { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } [النساء : 77]، ويخافون لوم الإنسان، وكان من شرطهم ألا يخافون لومة لائم ولا ينامون نومة نائم، فبقوا عن فريقهم كالحالم، { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } [النساء: 77]، فنموت بالآجال، فإن لنا كل لحظة موتة في ترك حظه، { قل متاع الدنيا قليل } [النساء: 77] والتمتع بها، { والآخرة خير لمن اتقى } [النساء: 77]، عن كل شيء بالمولى، ومن كان في الله فتيلا يحيى به { ولا تظلمون فتيلا } [النساء: 77].
[4.78-79]
ثم أخبر أن آجالهم تدرك آمالهم بقوله تعالى: { أينما تكونوا يدرككم الموت } [النساء: 78]، إشارة في الآيتين: إن يا أهل البطالة في زي الطلبة والبطلة الذين غلب عليكم الهوى وحب الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى، ثم
أرضيتم بالحياة الدنيا
[التوبة: 38] واطمأننتم بها، { أينما تكونوا يدرككم الموت } [النساء: 78] اضطرارا إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختيارا، { ولو كنتم في بروج مشيدة } [النساء: 78] أجساد مجسمة قوية أمزجتها، { وإن تصبهم } [النساء: 78]؛ يعني: أهل البطالة من مدعي الطلب، { حسنة } [النساء: 78]، من شواهد الغيب وفتوحاته، { يقولوا هذه } [النساء: 78] الفتوحات { من عند الله } [النساء: 78]، لا يرون للشيخ فيها عليهم حقا، { وإن تصبهم سيئة } [النساء: 78] من الرياضة والمجاهدات، { يقولوا } [النساء: 78] للشيخ، { هذه من عندك } [النساء: 78]؛ أي: بسببك وسعيك، { قل كل من عند الله } [النساء: 78]، القبض والبسط، والفرح والشرح، والفتوح والجروح، { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } [النساء: 78]، خاصته هذا الحديث وما يقاسي أهله من الشدائد والمحن حتى أورثتهم الفوائد والمنح.
{ مآ أصابك من حسنة } [النساء: 79] فتوح وموهبة { فمن الله } [النساء: 79]؛ أي: فمن مواهبه فضلا وكرما، وإن كان يتصرف الشيخ وقوة ولايته وتأثير همته فيك، { ومآ أصابك من سيئة } [النساء: 79] شدة وبلاء وهم وعناء { فمن نفسك } [النساء: 79]؛ أي: من صفات نفسك وخاصية أمارتها بالسوء وشوب معاملاتها بالهوى، وسعيها واكتسابها في طلب شهوات الدنيا ولذاتها، كقوله تعالى:
وعليها ما اكتسبت
[البقرة: 286].
ثم اعلم أن الأعمال أربع مراتب: منها: مرتبتان لله تعالى وليس للعبد فيها مدخل التقدير والخلق، وإن الله تعالى قدر الأشياء قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى فرغ من الخلق والخلق والرزق والأجل "
؛ يعني: قدر هذه الأشياء وفرغ من تقديرها؛ لأنه يخلق كل يوم وساعة ولحظة
خلقا آخر
[المؤمنون: 14]، كيف فرغ من الخلق؟ فافهم جيدا.
ومنها: مرتبتان للعبد وليس لله فيها مدخل وهما: الكسب والفعل، فإن الله تعالى منزه عن الكسب والفعل بالسببية، وإنهما يتعلقان بالعبد؛ ولكن العبد وفعله وكسبه مخلوقة خلقها الله تعالى، كما قال عز وجل:
والله خلقكم وما تعملون
[الصافات: 96]، فهذا لتحقيق قوله تعالى: { قل كل من عند الله } خلقا وتقديرا، لا كسبا وفعلا، فافهم واعتقد، فإنه مذهب أهل الحق وأرباب الحقيقة، ويشير بقوله تعالى: { وأرسلناك للناس رسولا } [النساء: 79]؛ أي: للناس الذين نسوا الله ونسوا ما شاهدوا منه وعاهدوا عليه الله، { وأرسلناك } [النساء: 79] رسولا إليهم؛ لتبلغهم كلامنا، وتذكرهم أيامنا، وتجددهم عهودنا ترغبهم شهودنا، وتدعوهم إلينا وتهديهم إلى صراطنا، وتكون لهم
وسراجا منيرا
[الأحزاب: 46]، يهتدون ويبتغون خطاك إلى أن توصلهم إلى الدرجات العلا وتنزلهم في المقصد الأعلى { وكفى بالله شهيدا } [النساء: 79]؛ أي: شاهدا لأحبابه وأوليائه؛ لئلا يكتفوا براحة دون لقائه.
[4.80-82]
ثم أخبر أن الوصول في طاعة الرسول بقوله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء: 80]، إشارة في الآيتين: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوصف بالفناء، فنيا في الله باقيا بالله قائما مع الله، وكان خليفة الله على الحقيقة فيما يعامل الخلق، حتى قال تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]؛ يعني:
وما رميت
[الأنفال: 17]، من حيث كنت بك أنت،
إذ رميت
[الأنفال: 17]، بخلافة الله بالله لا بك،
ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]، إذا كنت به أنت، وكان الله خليفته فيما يعامل الخلق حتى قال تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10]؛ لأن الله بخلافتك باق عنك، فبكونه كان خليفة بك عنك للخلق فكانت
يد الله فوق أيديهم
[الفتح: 10]، { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء: 80]؛ لأن الرسول فانيا عنه باقيا بالله والله خليفته؛ ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم:
" الله خليفتي على أمتي "
، { ومن تولى } [النساء: 80]؛ يعني: عن طاعة الرسول فقد تولى عن الله تعالى: { فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } [النساء: 80]؛ أي: حافظا، فإنك لست بذلك حافظا فكيف لهم؟ فإنهم تولوا عني ولا عنك فإنما على حسابهم لا عليك لقوله تعالى:
فذكر إنمآ أنت مذكر * لست عليهم
[الغاشية: 21-22]، إلى آخر السورة.
وفي قوله تعالى: { ويقولون طاعة } [النساء: 81]، إشارة إلى أحوال كثير مريدي هذا الزمان، إذا كانوا حاضرين في الصحبة ينعكس عليهم تلالا من أشعة أنوار الولاية في مرآت قلوبهم، فيزدادون إيمانا مع إيمانهم، وإرادة مع إرادتهم، فيصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الحسنة،
ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
[المائدة: 83]، ويقولون السمع والطاعة فيما يسمعون ويخاطبون به، { فإذا برزوا من عندك } [النساء: 81]، وهبت عليهم رياح الهوى والشهوة والحرص، وتمايلت قلوبهم من مجازاة القرار على الولاية، وعاد المشئوم إلى طبعه { بيت طآئفة منهم } [النساء: 81]؛ أي: تقدر وتقرر مع نفسه، { غير الذي تقول والله يكتب } [النساء: 81]، يغير عليهم { ما يبيتون } [النساء: 81]؛ أي يعيرون على أنفسهم؛ لأن
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
[الرعد: 11]، { فأعرض عنهم } [النساء: 81]؛ أي: فأصفح عنهم وأصبر معهم، { وتوكل على الله } [النساء: 81]، لعل الله يصلح بالهم ولا يجعل التغيير وبالهم، ويحسن عاقبتهم ومالهم، { وكفى بالله وكيلا } [النساء: 81]، للمتوكلين عليه والملتجئين إليه.
ثم أخبر عن الدواء كما أخبر عن الداء بقوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن } [النساء: 82]، والإشارة فيها: إن العباد لو لم يتدبرون ويتفكرون في آثار معجزاته وأنوار هدايته، ومظهر آياته وكمال فصاحته، وجمال بلاغته وجزالة ألفاظه، ورزانة معانيه ومتانة مباينه في أسراره وحقائقه، ودقة إشاراته ولطائفه، وأنواع معالجاته لأمراض القلوب في إزالة ضرر الذنوب { لوجدوا فيه } [النساء: 82]؛ لكل داء دواء ولكل مرض شفاء، ولكل عين قرة ولكل وجه غرة، والرد الحاسبة موصوفا بالصفاء محفوظا عن العداء، بحرا لا ينفض عجائبه، وبرا لا ينتفي غرائبه، روحا لا تباغض فيه ولا خلاف، وجنة لا انتقاض فيها ولا اختلاف، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [النساء: 82]، ولم يوجد فيه نقيرا وقمطيرا.
[4.83-84]
وفي قوله تعالى: { وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } [النساء: 83]، إشارة إلى أرباب السلوك وأبناء السير إلى الله إذا فتح لهم من الإنس أو الهيبة والحضور والغيبة من آثار صفات الجمال والجلال، تغشوا الأسرار إلى الأغيار، وأشاعوا في الأقطار، { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } [النساء: 83]؛ يعني: ولو كان رجوعهم في حل مثل هذه المشكلات وكشف هذه المعضلات إلى سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى سير أولي الأمر منهم وهم المشايخ البالغون والواصلون، ومن كان له شيخ كامل فهو ولي أمره، { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83]، وهم أرباب الكشوف بحقائق الأشياء، فهم العالمون بعلوم الوقائع الغيبية الغواصون في بحار أوصاف البشرية، المستخرجون من أوصاف العلوم درر ورق دقائق المعرفة، { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } [النساء: 83] ببعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } [النساء: 83]، وفي الحقيقة كان النبي صلى الله عليه وسلم فضل الله ورحمته، يدل عليه قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم
[الجمعة: 2]، إلى قوله:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الجمعة: 4]، وقوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107]، فلولا وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه لبقوا في نية الضلالة تائهين، كما قال تعالى:
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
[آل عمران: 164]، قبل بعثته، وكانوا قد اتبعوا الشيطان إلى شفا حفرة من النار، وكان صلى الله عليه وسلم فضله ورحمته عليهم فأنقذهم منها، كما قال تعالى:
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها
[آل عمران: 103]، وقوله تعالى: { إلا قليلا } [النساء: 83]، لعل استثناء راجع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرافقا في طلب الحق، قالت عائشة - رضي الله عنها -: " لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان بدين الإسلام دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمر علينا يوما إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" كنت وأبو بكر كفرسي رهان فسبقته فتبعني، ولو سبقني لتبعته "
، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } [النساء: 84]؛ المعنى: فجاهد في طلب الحق نفسك، فإن في طلب الحق لا تكلف نفس أخرى إلا نفسك، وفيه معنى آخر: لا تكلف نفس أخرى بالجهاد لأجل نفسك؛ لأن حجابك من نفسك لا من نفس أخرى، فدع نفسك وتعالى فإنك صاحب
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
[الانفطار: 19]؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم اختص بهذا المقام من جميع الأنبياء والمرسلين أن يكون فاني النفس، والذي يدل عليه أن الأنبياء - عليهم السلام - يوم القيامة يقولون لبقاء نفسهم: نفسي نفسي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لفناء نفسه:
" أمتي أمتي "
، فافهم جيدا.
ثم قال تعالى: { وحرض المؤمنين } [النساء: 84] على القتال؛ يعني: في الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } [النساء: 84] ظاهرا وباطنا، فالظاهر الكفار، والباطن النفس، { والله أشد بأسا وأشد تنكيلا } [النساء: 84]، في استبطاء سطوات صفات قهره عند تجلي صفة جلاله للنفس من بأس الكافر عليها.
[4.85-87]
ثم أخبر عن بضاعة أهل الشفاعة بقوله تعالى: { من يشفع شفعة حسنة يكن له نصيب منها } [النساء: 85]، الإشارة فيها: إن من يشفع شفاعة حسن لإيصال نوع من الخيرات إلى الغير، فإنها من خصوصيتها أن يكون له نصيب منها؛ أي: فيه نصيبا من هذه الحسنة، فمن تلك الخصوصية قد يشفع شفاعة حسنة، { ومن يشفع شفعة سيئة يكن له كفل منها } [النساء: 85]؛ يعني: من تلك السيئة التي هي إيصال نوع من الشر إلى الغير فيها قد شفع شفاعة سيئة، كما قال تعالى:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا
[الأعراف: 58]، إن الله تعالى { وكان الله } [النساء: 85] في الأزل { على كل شيء مقيتا } [النساء: 85]، شهيدا في إيجاد المحن والمنى، مقتدرا عليما حفيظا فيهما من استعداد شفاعة حسنة وسيئة، لا يقدر اليوم على تبديل استعدادهما القابلية الخير والشر، فافهم جيدا.
{ وإذا حييتم بتحية } [النساء: 86] من الخير والشر، { فحيوا بأحسن منهآ } [النساء: 86]، أما الخير فبخير أحسن، وأما الشر فبحلم وعفو ومكافأة الخير، { أو ردوهآ } [النساء: 86]؛ يعني: كافئوا المحسن بمثل إحسانه، والمسيء بمثل إساءته، يدل عليه قوله تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40]، وقال تعالى:
وأن تعفوا أقرب للتقوى
[البقرة: 237].
وقد روي
" عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، عن الله تبارك وتعالى في تفسير قول الله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف: 199]، قال: " تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك "
، { إن الله كان على كل شيء } [النساء: 86] من العفو والإحسان والإساءة، { حسيبا } [النساء: 86] محاسبا،
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 7-8].
{ الله لا إله إلا هو } [النساء: 87]؛ يعني: كان الله في الأزل، { لا إله إلا هو } [النساء: 87] أي: لم يكن معه أحد يوجد الخلق من العدم، { ليجمعنكم } [النساء: 87] في العدم مرة أخرى إلى أخرى إلى أخرى { إلى يوم القيامة } [النساء: 87]، فيغرقكم فيها،
فريق في الجنة وفريق في السعير
[الشورى: 7]،
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، { لا ريب فيه } [النساء: 87]، لا شك في الرجوع إلى هذه المنازل والمقامات، { ومن أصدق من الله حديثا } [النساء: 87]، ليحدثكم بمصالح دينكم ودنياكم ومفاسد أخراكم وأولاكم، ويهيدكم إلى الهدى وينجيكم من الردي.
[4.88-89]
ثم أخبر عن أهل الردة ومن أضله الله عن الهدى بقوله تعالى: { فما لكم في المنافقين فئتين } [النساء: 88]، قانتين إشارة في الآيتين: إن الاختلاف واقع بين الأمة في أن خذلان المنافقين إنما هو
من عند أنفسهم
[البقرة: 109]؛ أو أمر من عند الله وقضائه وقدره، فبين الله تعالى: { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم } [النساء: 88]، إلى قوله:
فما جعل الله لكم عليهم سبيلا
[النساء: 90]، فتبين أنهما فرقتين، فرقة يقولون: الخذلان في النفاق منهم، وفرقة يقولون: من الله وقضائه وقدره، { والله أركسهم بما كسبوا } [النساء: 88]؛ يعني: إن الله تعالى تكسبهم بقدره وردهم بقضائه إلى الخذلان للنفاق، ولكن بواسطة كسبهم ما يثبت النفاق في قلوبهم
ليهلك من هلك عن بينة
[الأنفال: 42]، ولهذا مثال وهو:
إن القدر كتقدير نقاش الصورة في ذهنه، والقضاء كرسمه تلك الصورة لتلميذه بالإسراب، ووضع التلميذ الأصابع عليها متبعا لرسم الاستاذ؛ هو الكسب والاختيار، والتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ، كذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر ولكنه متردد، ومما يؤيد هذا المثال والتأويل قوله تعالى:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة: 14]، وقال تعالى:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127]، وذلك مثل ما ينسب الفعل إلى السبب الأقرب تارة، وإلى السبب الأبعد أخرى، فالأقرب كقوله: قطع السيف يد فلان، والأبعد كقوله: قطع الأمير يد فلان، ونظيره:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة: 11]، وفي موضع
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر: 42]، قال ابن نباتة:
إذا ما الإله قضى أمره
فأنت إلى ما قضاه السبب
فعلى هذه القضية: " من زعم أن لا عمل للعبد أصلا فقد عاند وجحد، ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك " ، ثم قال تعالى: { أتريدون أن تهدوا } [النساء: 88]؛ لأن تهدوا { من أضل الله } [النساء: 88]؛ أي: قدر له بالضلالة من الأزل، { ومن يضلل الله } [النساء: 88]بقضائه وقدره، { فلن تجد } [النساء: 88]، يا محمد { له سبيلا } [النساء: 88]، إلى الهداية؛ لأنك
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص: 56] الآن، و
الله يهدي
[القصص: 56] الآن،
من يشآء
[القصص: 56] بالهداية في الأزل، فإن مشيئته أزلية، فاعلم أن اختيار العبد بين طرفي الجبر؛ لأن أول الفعل وأخره إلى الله، فالعبد بين طرفي الاضطرار مضطر إلى الاختيار، فافهم جيدا.
ثم قال: { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء } [النساء: 89]، إشارة إلى من ود الكفر لغيره فذلك من إمارة الكفر في باطنه وإن كان يظهر الإسلام؛ لأنه يود تسوية الاعتقاد فيما بينهما، وهذا من خاصة الإنسان إنه يحب أن يكون كل الناس على مذهبه واعتقاده ودينه، وقالوا: " الرضا بالكفر كفر " ، ثم نهى المؤمنين عن موالاة المنافقين؛ لئلا يتعدى نفاقهم إليهم، وقال تعالى: { فلا تتخذوا منهم أوليآء حتى يهاجروا } [النساء: 89]؛ يعني: يهجروا خلاق السوء ويفارقوا عن النفاق { في سبيل الله }؛ أي: في طلب الحق والرجوع في سبيل الهوى، وفيه إشارة إلى أرباب الطلب السائرين إلى الله تعالى ألا يتخذوا من أهل الدنيا وإتباع الهوى أولياء لعباد لا يخالطوهم، حتى يهاجروا عما هم فيه من الحرص والشهوة وحب الدنيا، ويوافقوكم في طلب الحق وترك الدنيا وزخارفها، { فإن تولوا } [النساء: 89] عما أنتم عليه من التوجه إلى الحق والتوالي عن الباطل، { فخذوهم } [النساء: 89]، بالعظة الحسنة والنصح والتبليغ، { واقتلوهم } [النساء: 89] بسيف صدقكم وموعظتكم عن جدالكم بالحق، { حيث وجدتموهم } [النساء: 89] كلما رأيتموهم، وفيه معنى آخر: واقتلوا أنفسكم من حيث وجدتم صفة من صفاتها غالبة، فإن تزكية النفس في اعتدال صفاتها، { ولا تتخذوا منهم وليا } [النساء: 89]؛ أي: صديقا وخليلا،
" فإن المرء على دين خليله "
، { ولا نصيرا } [النساء: 89]؛ أي: معاونا في أمر من الأمور الدنيوية؛ لئلا يشوب نصحكم وعظتكم لهم بعلة دنيوية فلا يتصرف ولا يؤثر فيهم.
[4.90-91]
ثم استثنى منهم قوما بقوله تعالى: { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثق } [النساء: 90]؛ المعنى: الأقوام من أهل الدنيا يصلون بالإرادة والتقرب والتودد إلى قوم من أهل الدين من الذين بينكم وبينهم عهد وأخوة وصداقة في الدين أو في الحرفة والصحبة، فإن المخالطة معهم بتبعية الأحوال وقبول الرفق منهم جائز، ثم قال تعالى: { أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يقتلوكم أو يقتلوا قومهم } [النساء: 90]؛ يعني: إذ جاؤوكم طائفة أخرى من أهل الدنيا، وما فيهم أن ينكروكم ويجادلوكم على ما أنتم فيه، { ولو شآء الله لسلطهم عليكم } [النساء: 90] بالإنكار والاعتراض، { فلقتلوكم } [النساء: 90]؛ أي: فنازعوكم وخاصموكم بالباطل، { فإن اعتزلوكم } [النساء: 90]؛ أي: اعتزلوا شرهم عنكم، { فلم يقتلوكم } [النساء: 90]؛ أي: يخاصموكم ولا يشوشون الوقت عليكم، { وألقوا إليكم السلم } [النساء: 90]؛ أي: السلامة، { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } [النساء: 90] في غيبتهم والطعن فيهم وتحقيرهم؛ يعني: إذا أسلمتم منهم فينبغي أنهم يسلمون منكم، فإن لم تكونوا لهم فلا تكونوا عليهم، كما لم يكونوا عليكم إذا لم يكونوا لكم.
ثم أخبر عن محنة أهل الفتنة بقوله تعالى: { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم } [النساء: 91]، والإشارة فيها: إنكم أصحاب الولاية وأرباب الهداية، ستجدون من أهل الإرادة أخرى غير أصحاب الجد والاجتهاد يريدون أن يأمنوكم عن رد الولاية فيرتدون إليكم ويخدمونكم، ويظهرون الصدق والإخلاص معكم، وهو أصحاب الأموال والأولاد والقوم والقبيلة، { يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } [النساء: 91] عن الملامة والتعبير في تضييع الأموال والأولاد، { كل ما ردوا إلى الفتنة } [النساء: 91]؛ أي: دعوا إلى الفتنة وهي الأموال والأولاد، ويدل عليه قوله تعالى:
إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[التغابن: 15] فإنهم أمروا بالحذر منهم، { أركسوا فيها } [النساء: 91]؛ أي: رجعوا إليها ضعفاء في الطلب وفرقا من الملامة، { فإن لم يعتزلوكم } [النساء: 91]؛ أي: ينقطعوا عنكم ويترددون إليكم بصدق الإرادة { ويلقوا إليكم السلم } [النساء: 91]؛ أي: يستسلموا لكم وينقادوا، { ويكفوا أيديهم } [النساء: 91] بالإرادة عن أموالهم وأولادهم، { فخذوهم } [النساء: 91]، بالإرادة وأقبلوا عليهم بالتربية، { واقتلوهم } [النساء: 91]، أي: اقتلوا أنفسهم بالمجاهدة والرياضة وصمام الولاية، { حيث ثقفتموهم } [النساء: 91]؛ يعني: سويتم عوجهم كما يقوم الرياح بالثقاف، { وأولئكم } [النساء: 91]؛ يعني: أهل الإرادة؛ يعني: إذا كونوا ذوي العلائق كثير العوائق، { جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } [النساء: 91] في قطع علائقهم ودفع عوائقهم بحسن التربية وسطوة الولاية.
[4.92-93]
ثم أخبر عن المؤمن أنه لا يقتل مؤمنا بقوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا } [النساء: 92]، والإشارة فيها: إن ليس لمؤمن الروح أن يقصد قتل مؤمن القلب إلا إن قتل خطأ، وذلك أن الروح إذا خلصت عن حجب صفات البشرية تتجلى الروح للقلب فتنور بأنوار الروحانية، ثم تنعكس أنوار الروح عن مرآة القلب إلى النفس الأمارة فتموت عن صفاتها الذميمة الظلمانية وتحيى بالصفات الحميدة النورانية، وتطمئن إلى ذكر الله لاطمئنان القلب به؛ ففي بعض الأحوال تتأيد الروح بوارد روح قدس رباني، وتتجلي في تلك الحالة الروح للقلب، فيخر موسى القلب صعقا ميتا بسطوة تجلي روح القدس الرباني، ويجعل جبل النفس الكافر دكا { ومن قتل مؤمنا خطئا } [النساء: 92]؛ أي: قلبا مؤمنا، { فتحرير رقبة مؤمنة } [النساء: 92]؛ وهي رقبة السر الروحاني، فتصير رقبة السر محررة عن رق المخلوقات، { ودية مسلمة إلى أهله } [النساء: 92]؛ يعني: يسلم العاقلة وهو الله تعالى دية القلب إلى أهله؛ وهم أوصافه الحميدة الروحانية من جمالات الألطاف لتصير الأوصاف بها أخلاق ربانية، { إلا أن يصدقوا } [النساء: 92]؛ يعني: إلا أن يتصدق الأوصاف الروحانية القلبية هذه الرتبة على فقراء ومساكين أوصاف النفس الحيوانية والشيطانية { فإن كان } [النساء: 92] لمعنى القتيل بالتجلي، { من قوم عدو لكم } [النساء: 92]؛ أي: صفة من صفات النفس، وهي عدو لكم { وهو مؤمن } [النساء: 92]؛ يعني: هذه الصفة بأنوار الروح القدس دون أخواتها من الصفات، { فتحرير رقبة مؤمنة } [النساء: 92]؛ وهي رقبة القلب تصير محررة عن رق حب الدنيا، ولا دية لأهل القتيل وهم لهم بقية أوصاف النفس؛ لأنهم كفار يخربون القلب وأوصافه، { وإن كان } [النساء: 92]؛ يعني: القتيل { من قوم بينكم وبينهم ميثق } [النساء: 92]؛ وهم صفات النفس وميثاقها قبول أحكام الشرع ظاهرا، أو ترك المحاربة مع القلب وأوصافه باطنا، { فدية مسلمة } [النساء: 92] على عاقلة الرحمة، { إلى أهله } [النساء: 92]، إلى أهل تلك الصفة المقتولة وهم بنية صفات النفس، كما قال تعالى:
إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53]، { وتحرير رقبة مؤمنة } [النساء: 92]؛ وهي رقبة القلب محررة عن رق الكونين، { فمن لم يجد } [النساء: 92]؛ يعني رقبة مؤمنة من القلب والروح والسر؛ لتحرير رقابهم عن رق ما سوى الله، { فصيام شهرين متتابعين } [النساء: 92]؛ يعني: فعليه الإمساك عن مشارب العالمين على التتابع والدوام، مراقبا قلبه لا يدخله شيء من الدنيا والآخرة، مراعيا وقته لا يفوته طرفة عين، بحيث لو أفطر بأدنى شيء من المشارب كلها يستأنف الصوم بالإمساك، ولا يفطر بشيء دون لقاء الله تعالى كما قال قائلهم:
وحق له لما اعتراه نواكم
لقد صام طرفي عن شهود سواكم
ويبدو هلال الصب حين يراكم
يعيد قوم حين يبدو هلالهم
وفي قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } [النساء: 92]، إشارة أخرى؛ وهي أن تربية النفس وتزكيتها ببذل المال وترك الدنيا مقدمة على تربيتها بالجوع والعطش وسائر المجاهدات، فإن: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " ، وهو عقبة لا يقتحمها إلا الفحول من الرجال، كقوله تعالى:
فلا اقتحم العقبة * ومآ أدراك ما العقبة * فك رقبة
[البلد: 11-13]، وإن أول قدم السالك أن يخرج من الدنيا وما فيها، وثانية أن يخرج من النفس وصفاتها، كما قال: دع نفسك وتعالى، وقال تعالى:
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام
[البقرة: 149]، وفي قوله: { فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } [النساء: 92]، إشارة إلى: إن الإمساك عن المشارب كلها من الدنيا والآخرة على الدوام، وهي جذبة من الله تعالى { وكان الله } [النساء: 92] في الأزل { عليما } [النساء: 92] بمن يصلح لهذه الجذبة، { حكيما } [النساء: 92] فيما اختارها يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم أخبر عن قصد قتل المؤمن بالعمل بقوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } [النساء: 93]، والإشارة فيها: إن القلب مؤمن من أصل الفطرة، والنفس كافرة في أصل الخلقة، وبينهما عداوة جبلية وقتال أصلية وتضاد كلية، فإن في حياة النفس موت القلب، وفي حياة القلب موت النفس، فلما كان نفوس الكفار حية كانت قلوبهم ميتة، فسماهم الله تعالى الموتى، كما قال تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، ولما كانت نفس الصديق رضي الله عنه ميتة وقلبه حيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر رضي الله عنه "
، فالإشارة في قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } [النساء: 93]؛ أي: القلب والنفس؛ يعني: النفس الكافرة إذا قتلت قلبا مؤمنا متعمدا للعداوة الأصلية باستيلاء صفاتها البهيمية والسبعية والشيطانية على القلب الروحاني، وغلبت هواها عليه حتى يموت القلب، فإنها سمها القاتل، { فجزآؤه } [النساء: 93]؛ أي: جزاء النفس { جهنم } [النساء: 93]؛ وهي سفل عالم الطبيعة، { خلدا فيها } [النساء: 93]؛ لأن خروج النفس عن سفل الطبيعة إنما كان بحبل الشريعة، والتمسك بحبل الشريعة إنما كان من خصائص القلب المؤمن بالله، كقوله تعالى:
ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت
[التين: 5-6]، فالإيمان والعمل الصالح من شأن القلب وصنيعته، فإذا مات القلب وانقطع عمله تخلد النفس في جهنم سفل الطبيعة أبدا، { وغضب الله عليه ولعنه } [النساء: 93]، بأن يبعدها ويطردها عن الحضرة والقربة، ويحرمها عن إيصال الخير والرحمة إليها بخطاب
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، { وأعد له عذابا عظيما } [النساء: 93]، عن حضرة العلي العظيم والحرمات عن جنات النعيم.
[4.94-96]
ثم أخبر عمن يسلم إذا ألقى السلم بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } [النساء: 94]، والإشارة فيها إلى البالغين الواصلين بالسير إلى الله تعالى؛ أي: { يأيها الذين آمنوا } [النساء: 94]، وما قنعوا على مجرد الإيمان بالغيب، { إذا ضربتم في سبيل الله } [النساء: 94]؛ يعني: بل سرتم بقدم السلوك في طلب الحق، حتى صار الإيمان إيقانا، والإيقان إحسانا، والإحسان عيانا، والعيان غيبا، وصار الغيب شهادة، والشهادة شهودا، والشهود شاهدا، والشاهد مشهودا، وبهما اقسم الله تعالى بقوله
وشاهد ومشهود
[البروج: 3]، فافهم جيدا، وهذا مقام الشيخوخة { فتبينوا } [النساء: 94] عن حال المريدين وتثبتوا في الرد والقبول، وفي قوله تعالى: { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } [النساء: 94]، وألقي إليكم السلام بالانقياد والاستسلام، فلا تقولوا: ألست مؤمنا؟ أي: صادقا مصدقا في التسليم لأحكام الصحبة، وقبول التصرف في المال والنفس بشرط الطريقة، ولا تردوه ولا تنفروه بمثل هذه الشدائد، وقوله كما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام
فقولا له قولا لينا
[طه: 44]، فما أنتم أعز من الأنبياء، ولا المريد المبتدئ أذل من فرعون، ولا يهونكم أمر رزقه فتجتنبون منه للتخفيف، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: { تبتغون عرض الحيوة الدنيا } [النساء: 94]، فلا تهتموا لأجل الرزق { فعند الله مغانم كثيرة } [النساء: 94]،
ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب
[الطلاق: 2-3]، { كذلك كنتم من قبل } [النساء: 94]؛ أي: كذلك كنتم ضعفاء بالصدق والمطلب محتاجين إلى الصحبة والتربية والإرادة من قبل، { فمن الله عليكم } [النساء: 94] بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم والإقبال على تربيتكم وإيصال رزقكم إليهم وشفقتهم وعطفهم عليكم، { فتبينوا } [النساء: 94]، أن تردوا صادقا اهتماما لرزقه، وتقبلوا كاذبا حرصا على كثير المريدين، { إن الله كان } [النساء: 94] في الأزل، { بما تعملون } [النساء: 94] اليوم من الرد والقبول والاحتياج إلى الرزق تهتمون له، { خبيرا } [النساء: 94]، فدبر الأمور وقدرها في الأزل وفرغ منها، كما قال: صلى الله عليه وسلم
" إن الله تعالى فرغ من الخلق والخلق والرزق والأجل ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" الضيف إذا نزل، نزل برزقه، وإذا ارتحل، ارتحل بذنوب مضيفه ".
ثم أخبر عن فضل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد بقوله تعالى: { لا يستوي القعدون من المؤمنين } [النساء: 95] إلى قوله: { غفورا رحيما } [النساء: 96].
والإشارة فيها: ألا يستوي القاعدون عن طلب الحق، وإن كانوا أولي العذر من المؤمنين العالمين المتقين، { والمجهدون في سبيل الله } [النساء: 95] في طلب الحق القائمون في أداء حقوق الطلب، { بأمولهم } [النساء: 95]؛ أي: بترك الدنيا { وأنفسهم } [النساء: 95]؛ أي: ببذل الوجود في طلب المعبود، { غير أولي الضرر } [النساء: 95]، غير بالرفع صفة المجاهدين؛ يعني: في الله حق جهاده ولا يرون ضرر الجهاد وضررا على أنفسهم من بذل المال والأنفس، يدل عليه قوله تعالى:
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت
[النساء: 65]، ثم قال تعالى: { فضل الله المجهدين بأمولهم وأنفسهم } [النساء: 95]؛ يعني: فضلهم بفضيلة الولاية، والتوفيق لبذل المال والنفس على القاعدين يدل عليه قوله تعالى:
وقيل اقعدوا مع القاعدين
[التوبة: 46]، وذلك القيل ما كان من طريق القوم الخذلاء لما خذلهم الله تعالى ولم يوفقهم للقيام، كما قيل لهم:
اقعدوا
[التوبة: 46]، وقوله تعالى: { على القعدين درجة } [النساء: 95]؛ يعني: للمجاهدين فضيلة درجة الولاية على القاعدين، ثم عمم القول في المجاهد والقاعد بلا عذر، فقال تعالى: { وكلا وعد الله الحسنى } [النساء: 95]؛ يعني: الجنة فيما بين الواصلين البالغين والطالبين المنقطعين بعذر، وعوام المؤمنين القاعدين عند الطلب بلا عذر، ثم خص المجاهدين بالانفراد في نيل الدرجات والوصول إلى القربات، فقال تعالى: { وفضل الله المجهدين } [النساء: 95] بعد الطالبين والواصلين مطلقا، { على القعدين } [النساء: 95]؛ يعني: المنقطعين بعذر أو بغير عذر مطلقا، { أجرا عظيما } [النساء: 95]، وعظم الأجر على قدر مراتب الطالبين والواصلين، وخصهم بدرجات منه لا من غيره، فقال تعالى: { درجات منه } [النساء: 96]؛ أي: قربات منه، { ومغفرة } [النساء: 96] منه لبعضهم؛ وهو أن يتجلى بصفة الغفران لهم فيكونوا مستورين بصفاته لا منتفين بصفاته عن صفاتهم، لا فانين عن ذواتهم بذاته.
{ وكان الله غفورا رحيما } [النساء: 96]؛ يعني: يكون الله تعالى بذاته غفورا، والغفور للمبالغة؛ يعني: كثير الغفران لبعضهم حتى يغنيهم عن ذواتهم ويبعثهم برحمة ذاته تعالى وتقدس، فافهم واغتنم هذا الجهاد الأكبر.
[4.97-99]
ثم أخبر عن القاعدين الظالمين لأنفسهم بقوله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [النساء: 97] إلى قوله: { غفورا } [النساء: 99]، والإشارة فيها: إن المؤمنين عوام وخواص وخاص الخاص، كقوله تعالى:
فمنهم ظالم لنفسه
[فاطر: 32]؛ وهو العام،
ومنهم مقتصد
[فاطر: 32]؛ وهو الخاص،
ومنهم سابق بالخيرات
[فاطر: 32]؛ وهو خاص الخاص، فالذي { توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [النساء: 97]؛ فهم العوام الذين ظلموا على أنفسهم بتدسيسها من غير تزكيتها عن أخلاقها الذميمة وتحليتها بالأخلاق الحميدة ليفلحوا فخابوا وخسروا، كما قال الله تعالى:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 9-10]، { قالوا فيم كنتم } [النساء: 97]؛ أي: قالت الملائكة حين قبضوا أرواحهم في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم تبطلون استعدادكم الفطري؟ وفي أي واد من أودية الهوى تهيمون؟ وفي أي روضة من رياض الدنيا تسرحون؟ أكنتم تؤثرون الفاني على الباقي، وتنسون الطهور الساقي، وإخوانكم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ويهاجرون عن الأوطان ويفارقون الإخوان والأخدان، { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } [النساء: 97]؛ أي: عاجزين عن استيلاء النفس الأمارة، وغلبة الهوى ما سوى الشيطان في حبس البشرية، { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة } [النساء: 97]؛ أي: أرض القلب واسعة، { فتهاجروا } [النساء: 97] عن مضيق أرض البشرية تسلكوا في فسحة عالم الروحانية، بل تطيروا في هواء الهوية، { فأولئك } [النساء: 97]؛ يعني: ظالمي أنفسهم، { مأواهم جهنم } [النساء: 97] البعد عن مقامات القرب، { وسآءت مصيرا } [النساء: 97]، جهنم البعد لتاركي القرب، والقاعدين عن جهاد النفس، { إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان } [النساء: 98]، الذي صفتهم { لا يستطيعون حيلة } [النساء: 98] في الخروج عن الدنيا؛ لكثرة العيال وضعف الحال، وعلى قهر النفس وغلبة الهوى، ولا على قمع الشيطان في طلب الهدى، { ولا يهتدون سبيلا } [النساء: 98]، إلى صاحبة ولاية يتمسكون بعروة الوثقى، ويعتصمون بحبل إرادته في طلب المولى، فيخرجهم من ظلمات البشرية إلى نور سماء الربوبية على أقدام العبودية؛ وهم المقتصدون المشتاقون، ولكن بحجب الأنانية محجوبون عن شهود جمال الحق محرومون فعذرهم الله، ووعدهم الله رحمته وقال تعالى: { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } [النساء: 99]، السكون عن الله والركون إلى غير الله { وكان الله } [النساء: 99] في الأزل، { عفوا } [النساء: 99]؛ لعفوه أمكنكم التقصير في العبودية { غفورا } [النساء: 99]؛ ولغفرانه أمهلهم في إعطاء حق الربوبية.
[4.100-101]
ثم أخبر عن المهاجرين وهم السابقون بقوله تعالى: { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرغما كثيرا وسعة } [النساء: 100]، والإشارة فيها: إن من غاية ضعف الإنسان، وجبانة الحيوانية، واستهواء الشيطانية يكون خوف البشرية غالبا على الطالب الصادق في بدء طلبه، فكلما أراد أن يسافر عن الأوطان ويهاجر عن الإخوان طالبا فوائد إشارة أن يسافروا تصحوا، وتغتنموا الإزالة مرض القلب ونيل صحة الدين والفوز بسنح كامل مكتمل، وطيب حاذق مشفق ليعالج مرض قلبه ويبلغه كعبة طلبه، فسولت له النفس إعواز الرزق وعدم الصبر، ويعده الشيطان بالفقر فقال تعالى: على قضيته
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
[البقرة: 268]، { ومن يهاجر في سبيل الله } [النساء: 100]؛ أي: في طلب الله، { يجد في الأرض مرغما كثيرا } [النساء: 100]؛ أي: بلاء أطيب من بلاءه، وإخوانا في الدين أحسن من إخوانه، وسعة في الرزق، وفيه إشارة أخرى؛ وهي ومن يهاجر عن البشرية في طلب حضرة الربوبية يجد في الأرض الإنسانية، { مرغما كثيرا } [النساء: 100] أي: متحولا ومنازل مثل القلب والروح والسر، { وسعة } [النساء: 100] أي: وسعة في تلك العوالم الوسيعة وسعة من رحمة الله. كما أخبر تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن تلك العوالم الوسيعة بقوله:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
، فافهم يا كثير الفكر قصير النظر قليل العبر.
ثم قال تعالى دفعا للهوى حبس النفسانية ووساوس الشيطانية في التخويف بالموت والإبعاد بالفوت { ومن يخرج من بيته } [النساء: 100] أي: ببيت بشريته بترك الدنيا وقمع الهوى وقهر النفس بهجران صفاتها وتبديل أخلاقها { مهاجرا إلى الله } [النساء: 100] وطالبا له في متابعته، { ورسوله ثم يدركه الموت } [النساء: 100] قبل وصوله، { فقد وقع أجره على الله } [النساء: 100]؛ يعني: فقد أوجب الله تعالى على ذمة كرمه بفضله ورحمته أن يبلغه إلى أقصى مقاصده وأعلى مراتبه في الوصول ينال على صدق نية وخلوص طوية إذا كان المانع من أجله، ونية المؤمن أبلغ من عمله، { وكان الله غفورا } [النساء: 100]؛ لذنب بقية أنانية وجوده، { رحيما } [النساء: 100]، عليه بتجلي صفة جوده ليبلغ العبد إلى كمال مقصوده بمنه وكرمه وسعة وجوده.
ثم أخبر عن خوف الأعداء على طريق الأولياء بقوله تعالى: { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } [النساء: 101]، إلى قوله:
عذابا مهينا
[النساء: 102].
والإشارة فيها: إن الله تعالى خلق الخلق للعبودية والمعرفة، وقد جعلها مخبأة، فأما العبودية ففي صورة الصلاة، وأما المعرفة ففي التكبيرات والتسبيحات وسائر أركان الصلاة وشرائطها مودعة، وليس هذا موضع شرحها وسنبينها في موضعها إن شاء الله تعالى، فلهذا المعنى فرض الصلاة في الخوف وشدة القتال والحضر والسفر والصحة والمرض، فإن الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد؛ ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام مترقيا مقامات العبودية والمعرفة، كما قال تعالى:
إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا
[النساء: 103]؛ يعني: واجبا في جميع الأوقات حين فرضت بقوله تعالى:
فأقيموا الصلوة
[النساء: 103]؛ أي: أديموها رخص فيها بخمس صلوات في خمسة أوقات بضرورة ضعف الإنسانية، كما كانت الصلاة خمسين صلاة حين فرضت ليلة المعراج فجعلها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وهذا لعوام الخلق، وأثبت دوام الصلاة للخواص بقوله:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج: 23].
[4.102]
{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة } [النساء: 102]، إشارة إلى هذا المعنى؛ يعني: ما دمت بالصورة بينهم وهم ينظرون إليك فقد أدمت لهم الصلاة؛ لأن النظر إليك عبادة، كما
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45]، فإنك تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وكذلك لمن يكون له نور نبوتك في قلبه متصرف على الدوام فأدمت له الصلاة، فلما لم يكن هذا المقام ميسر لجميع الخلق أن يكون بينهم لا بالصورة ولا بالمعنى قال الله تعالى: { فلتقم طآئفة } [النساء: 102]؛ يعني: من الخواص { منهم } [النساء: 102]، أي: من عوامهم { معك } [النساء: 102]؛ ليكونوا دائمين في الصلاة قائمين مع الله على الدوام، فإن من يكون معك فقد يكون مع الله، لأنك مع الله لقوله تعالى:
إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا
[التوبة: 40]، { وليأخذوا } [النساء: 102]؛ يعني: طائفة من بقية القوم { أسلحتهم } [النساء: 102]، من الطاعات والعبادات دفعا لعدو النفس والشيطان، { فإذا سجدوا } [النساء: 102]؛ يعني: من معك ونزلوا مقامات القربة، { فليكونوا } [النساء: 102]؛ أي: هؤلاء العوام { من ورآئكم } [النساء: 102] في المرتبة والمقام والمتابعة ويحفظونكم باشتغالهم بالأمور الدنيوية لحوائجكم بالضرورات الإنسانية، { ولتأت طآئفة أخرى } [النساء: 102]، بعدكم { لم يصلوا } [النساء: 102] معك في الصحبة { فليصلوا معك } [النساء: 102] في الوصلة، { وليأخذوا حذرهم } [النساء: 102]؛ وهو آداب الطريقة، { وأسلحتهم } [النساء: 102]؛ وهي أركان الشريعة بنظر شيخ كامل من أهل الحقيقة، فإنه من جملة الحذر يبقى العبد محروسا عن مكائد كفار النفس والشيطان، { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } [النساء: 102]؛ أي: عن أركان الشريعة ومراقبة القلوب في حفظ مواهب الحق وفتوحات الغيب، { فيميلون عليكم } [النساء: 102]؛ يعني: عدو النفس وصفاتها والشيطان وأعوانه، { ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى } [النساء: 102]؛ يعني: من كثرة اشتغال الدنيا وضروريات البشرية تمطر عليكم في بعض الأوقات، { أن تضعوا أسلحتكم } [النساء: 102] من أركان الشريعة عند الضرورة ساعة فساعة، { وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } [النساء: 102]، من التوجه الحق ومراقبة الأحوال، وحفظ القلب وحضوره مع الله، وخلو السر عن الالتفات بغير الله، ورعاية التسليم والتفويض إلى الله تعالى، والاستمداد من همم المشايخ والالتجاء إلى ولاية النبوة.
[4.103-105]
ثم أخبر عن معنى آخر من معنى الحذر؛ وهو المداومة على الذكر بقوله تعالى: { فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } [النساء: 103]، إلى قوله:
عليما حكيما
[النساء: 111]، والإشارة فيها: إن الله تعالى يأمر من لم تكن صلاته دائمة، { فإذا قضيتم الصلوة } [النساء: 103] المكتوبة المفروضة المعدودة فلا تحسبوا أنها تكفيكم في إقامة العبودية، أو تصلون بمجردها إلى حضرة الربوبية، ولكن { فاذكروا الله } [النساء: 103] في جميع حالاتكم ولا تخلوا حالاتكم من [الوصف]، إما تكونوا قياما أو قعودا أو على جنوبكم { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } [النساء: 103] حتى يطمئن قلبكم بذكر الله، { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة } [النساء: 103]؛ أي: فأديموها؛ يعني: فإذا اطمأن القلب بذكر الله فقد أقام القلب الصلاة، { إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا } [النساء: 103] أي: مكتوبا أزليا، { موقوتا } [النساء: 103] أي: مؤقتا إلى الأبد.
فاعلم أن لله تعالى عبادا قد منحهم ديمومة الصلاة فهم في صلاتهم دائمون من الأزل إلى الأبد، وليس هذا من مدرك عقول الخيال فلا يعقلها إلا العالمون، وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله تعالى:
إنا فتحنا لك فتحا
[الفتح: 1] منا بنا عليك،
مبينا
[الفتح: 1]؛ أي: بينا لك
ليغفر لك الله
[الفتح: 2] بما فتح منه عليك،
ما تقدم
[الفتح: 2] في الأزل،
من ذنبك
[الفتح: 2]؛ بأن لم تكن مصليا،
وما تأخر
[الفتح: 2] إلى الأبد من ذنبك بأن لا يكون مصليا،
ويتم نعمته عليك
[الفتح: 2]؛ يعني: نعمة المغفرة، وإتمامها أن يجعل بها سيئاتك وهي عدم صلاتك في الأزل والأبد مبدلة بالحسنات وهي الصلاة المقبولة من الأزل إلى الأبد
ويهديك صراطا مستقيما
[الفتح: 2] من الأزل إلى الأبد، ومن الأبد إلى الأزل،
وينصرك الله
[الفتح: 3] بالظفر على هذا الأكبر الأعظم،
نصرا عزيز
[الفتح: 3]، لا يعز به غيرك ولا يتنسم روائحه إلا بمسام متابعتك، فهمها من فهمها، وجهلها من جهلها، ثم قال تعالى: { ولا تهنوا في ابتغآء القوم } [النساء: 104] أي: في طلب النفس وصفاتها والجهاد معها، { إن تكونوا تألمون } [النساء: 104] في الجهاد معها، ويتعبون بالرياضيات والمجاهدات، وملازمة الطاعات والعبادات، ومداومة الذكر ومراقبة القلب في طلب الحق، والوصول إلى المقامات العلية، { فإنهم يألمون } [النساء: 104]؛ يعني: النفس والبدن في طلب الشهوات الدنيوية، واللذات الحيوانية والمرادات الجسمانية، ويأملون ويتعبون في طلبها، { كما تألمون وترجون من الله } [النساء: 104]، العواطف والعوارف الأبدية، { ما لا يرجون } [النساء: 104]، النفوس الردية من هممها الدنية التي لا تجاوز قصورها من المقاصد الدنيوية، { وكان الله عليما } [النساء: 104]، في الأزل باستعداد كل طائفة من أصناف الخلق، { حكيما } [النساء: 104]، فيما حكم لكل واحد منهم من المقاصد والمشارب،
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة: 60]، وجعل
كل حزب بما لديهم فرحون
[المؤمنون: 53].
ثم أخبر عن إنزال الكتاب بالحق إنه على من أنزل من الخلق بقوله تعالى: { إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق } [النساء: 105]، والإشارة فيها: إن إنزال الكتب من الله تعالى على الأنبياء - عليهم السلام - كان بواسطة الألواح والصحف وجبريل عليه السلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بلا هذه الوسائط، كما قال تعالى:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]؛ يعني: من القرآن وما يعد له يدل عليه قوله تعالى:
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2] ليلة المعراج، وقال: صلى الله عليه وسلم
" أوتيت القرآن وما يعد له "
، فقال تعالى: { إنآ أنزلنا إليك الكتاب } [النساء: 105]؛ يعني: القرآن بلا واسطة ليلة المعراج { بالحق } [النساء: 105]؛ أي: الحق تعالى أنزله إليك نظير قوله تعالى:
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل
[الإسراء: 105]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بهذه الكرامة من جميع الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" فضلت على الأنبياء بست، فقال: أوتيت جوامع الكلام "
، ويؤكد ما قلنا في تأويل { إنآ أنزلنا إليك الكتاب } [النساء: 105] قوله تعالى: { لتحكم بين الناس بمآ أراك الله } [النساء: 105]؛ يعني: بما حين أوحى إليك بلا واسطة وأريك آياته الكبرى، وقوله تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11]، بإراءة الله تعالى: { ولا تكن للخآئنين خصيما } [النساء: 105]؛ يعني: ولا تكن أبدا للخائنين خصيما بما أريك الله من الحق، وفي الآية تقديم وتأخير تقديره ولا تكن للخائنين خصيما،
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما
[النساء: 107].
[4.106-109]
{ واستغفر الله } [النساء: 106]؛ يعني: الذين يختانون أنفسهم بالمعاصي، { إن الله كان } [النساء: 106]، في الأزل { غفورا } [النساء: 106] لك ولمن تستغفر لهم من أمتك، { رحيما } [النساء: 106] بك وبهم، وبرحمته أرسلك إليهم ولغفلتهم، { يستخفون من الناس } [النساء: 108]؛ أي: ممن هو ناس ليستخفون مع احتمال نسيانهم ذنوبهم، { ولا يستخفون من الله وهو معهم } [النساء: 108] في جميع الأحوال،
يعلم خآئنة الأعين وما تخفي الصدور
[غافر: 19]، يرى أعمالهم ويسمع أقوالهم، { إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } [النساء: 108]، ولا ينسي أفعالهم، { وكان الله } [النساء: 108] في الأزل { بما يعملون } [النساء: 108]، اليوم { محيطا } [النساء: 108] علمه قبل وقوع العمل، { هأنتم هؤلاء } [النساء: 109] يا أهل الغيبة عن الله، { جدلتم عنهم } [النساء: 109] عن أهل الباطل لغيبتكم عن الله وحضوركم { في الحيوة الدنيا } [النساء: 109]، والغالب عليكم رؤية الخلق { فمن يجدل الله عنهم يوم القيمة } [النساء: 109] في حضور الحق وقد وقع عليكم الفزع الأكبر { أم من يكون عليهم وكيلا } [النساء: 109] يتكلم بوكالتهم،
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 19].
[4.110-113]
ثم أخبر عن الدواء بعد الداء بقوله تعالى: { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } [النساء: 110]، والإشارة فيها: إن من يعمل سوءا؛ أي: عملا من مأمورات النفس وشهواته،
إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53]، أو يظلم نفسه بأن يشرك بالله في عبودية أحدا،
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13] { ثم يستغفر الله } [النساء: 110]، يفر من أنانيته ويطلب من الله أن يغفر بهويته، { يجد الله } [النساء: 110] عند الطلب، فإنه قال:
" من طلبني وجدني "
، { غفورا } [النساء: 110] بهوية أنانيته، { رحيما } [النساء: 110] فيرحم أنانيته بهويته، { ومن يكسب إثما } [النساء: 111] ولا يستغفر الله، { فإنما يكسبه على نفسه } [النساء: 111]، فإن دين الإثم يظهر في الحال في صفاء مرآة قلبه فيعميه عن رؤية الحق، ويضمه عن سماع الحق، كما قال تعالى:
بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14]، { وكان الله } [النساء: 111] في الأزل { عليما } [النساء: 111]، بكسب إثمه { حكيما } [النساء: 111] فيما أظهر أثر كسبه في زين قلبه، { ومن يكسب خطيئة } [النساء: 112]؛ وهي ما تكسب نفسه من مذمومات الصفات بغير عمده وقصده، { أو إثما } [النساء: 112] ذنبا بعمده وسعيه، { ثم يرم به بريئا } [النساء: 112]؛ أي: قلبه البريء من مذمومات الصفات وعمده الذنب فإن من شأن القلب الطاعة والعبودية والصفات الحميدة؛ يعني: تسعى النفس وتتبع شهواتها واستيفاء حظوظها إلى أن يؤثر ظلمة طبيعتها في صفات القلب ، ويستلذ القلب من مشتهيات النفس فيتصف القلب بصفات النفس فيبهت عنها ويقع في ورطة الهلاك، { فقد احتمل } [النساء: 112] صاحب النفس { بهتانا } [النساء: 112] مما أبهت القلوب عن العبودية والطاعة { وإثما مبينا } [النساء: 112] مما أنبت به نفسه من المعاصي وأثم بها قلبه، فيكون بمنزلة من جعل اللب وهو القلب جلدا وهو النفس، وهذا من إكسير الشقاوة فلا ينقطع عنه العذاب، إذا صار كل وجوده جلودا فيكون من جملة الدين، قال الله تعالى فيهم:
سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها
[النساء: 56]؛ لأنهم بدلوا الألباب بالجلود وهاهنا كما قررنا، والله أعلم.
ثم أخبر عن فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بالفضل جعله خير البرية بقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طآئفة منهم أن يضلوك } [النساء: 113]، والإشارة فيها: إن فضل الله موهبة من مواهب يؤتيه من يشاء، وليس لأحد فيه مدخل بالكسب والاستجلاب، وبذلك يهدي للإيمان ويوفقه الله للعمل الصالح، ولهذا قال سيد الأولين والآخرين: { ولولا فضل الله عليك ورحمته } [النساء: 113] من الأزل إلى الأبد { لهمت طآئفة منهم أن يضلوك } [النساء: 113] عن طريق الوصول إلى الله، ولولا إنا أفنيناك عنك بل عن كل ذرة من ذرات المخلوقات من الروحانيات والجسمانيات حتى نفسك وروحك لكان حجابك عن الحضرة وما معك من الوصلة، فبجذبات الفضل أفنينا عنك وعن حجب المكونات، وبكرامات الرحمة جعلنا ذرات المكونات مرقات لك إلى الوصلة، وأبقيناك بنا حتى كنت فضلنا ورحمتنا فأرسلناك
رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107]، وقلنا لهم:
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
[البقرة: 64]، فلا يقدر أحد أن يضلك { وما يضلون إلا أنفسهم } [النساء: 113]، من أراد أن يضلك؛ لأنهم بإرادة إضلالك يضلون أنفسهم عن متابعتك ومطاوعتك، وأنت فضل الله ورحمته عليهم فيضلون عنك، { وما يضرونك من شيء } [النساء: 113]؛ بل يضلون أنفسهم بالحرمان عما { وأنزل الله عليك الكتاب } [النساء: 113]؛ وهو القرآن { والحكمة } [النساء: 113]؛ وهي حقائق القرآن وأسراره ولطائفه وإشاراته، { وعلمك ما لم تكن تعلم } [النساء: 113]؛ وهو علم ما كان وما سيكون، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم قبل أن أسري به علم ما كان وما سيكون، وهذا هو حقيقة { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } [النساء: 113]، والعظيم هو الله، والإشارة أن الله العظيم هو فضل الله عليك ورحمته، كما أنك فضل الله ورحمته على العالمين، ولهذا قال:
" لولاك لما خلقت الأفلاك "
، فافهم جيدا.
[4.114-116]
ثم أخبر عن نجوى أصحاب الهوى بقوله تعالى: { لا خير في كثير من نجواهم } [النساء: 114]، إشارة في الآيتين: إن لا خير في كثير من نجواهم؛ أي: الذين يتناجون من النفس والهوى والشيطان؛ لأنهم شرا، ولا فيما يتناجون به؛ لأنهم يأمرون بالسوء والشر والفحشاء والمنكر، ثم استثنى فقال: { إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } [النساء: 114]، إلا فيمن أمر بهذه الخيرات فإنه فيه الخير وهو الله تعالى، فإنه يأمر بالخيرات بالوحي عموما، ويأمر بالخاطر الروحاني والإلهام الرباني خواص عباده، والخاطر يكون بواسطة الملك وبغير الواسطة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ألا وإن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد للخير، ولمة الشيطان إيعاد بالشر، فمن وجد لمة الملك فليحمد الله، ومن وجد لمة الشيطان فليتعوذ من ذلك "
، والإلهام ما يكون من الله تعالى بغير الواسطة؛ وهو على ضربين:
ضرب منه: ما لا شعور للعبد به إنه من الله تعالى، وضرب منه: ما يكون بإشارة صريحة يعلم العبد إنه وارد من الله تعالى بتعليم نور الإلهام، وتعريفه لا يحتاج إلى معرف آخر إنه مع الله تعالى، وهذا يكون بالولي وغير الولي، كما قال بعض المشايخ: حدثني قلبي عن ربي، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الحق ينطق على لسان عمر ".
وقال:
" كادت فراسة عمر أن تسبق الوحي "
، ثم قال: { ومن يفعل ذلك ابتغآء مرضات الله } [النساء: 114]، أي: من يفعل بما ألهمه الله تعالى طلبا لمرضاته: { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } [النساء: 114] ذكر بقاء التعقيب قوله: { فسوف } [النساء: 114]؛ يعني: عقيب الفعل { نؤتيه أجرا عظيما } [النساء: 114]، وهو جذبة العناية التي تجذبه عنه وتوصله إلى العظيم.
ثم قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول } [النساء: 115]؛ أي: يخالف الإلهام الرباني الذي هو رسول الحق تعالى إليه، { من بعد ما تبين له الهدى } [النساء: 115] بتعريف إلهامه ونوره، { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [النساء: 115] الموقنين بالإلهام، بأن يتبع الهوى وتسويل النفس وسبيل الشيطان، { نوله } [النساء: 115]؛ أي: نكله بالخذلان { ما تولى ونصله } [النساء: 115]، بسلاسل معاملاته التي تؤتي بها إلى { جهنم } [النساء: 115]، سفليات البهيمية والسبعية والشيطانية { وسآءت مصيرا } [النساء: 115]؛ أي: ما صار إليه من عباده الهوى واتباع النفس والشيطان وإشراكهم بالله في المطاوعة.
ثم أخبر عن حال أهل الشرك بالضلال بقوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116].
والإشارة فيه: إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا، فمن خلقه أهلا للجنة فقد غفر له قبل أن يخلقه، ومن غفر له فإنه لا يشرك بالله، فالإشارة في قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116]، إن لم يغفر فأشرك به، ولو كان مغفورا لم يشرك به، { ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } [النساء: 116]؛ يعني: وقد غفر ما دون من أشرك به في الأزل فلم يشرك به الآن، ومما يدل على هذا التأويل قوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
[السجدة: 13]، وأمثاله في القرآن، ويدل عليه أيضا بقية الآية وهي: { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } [النساء: 116]؛ يعني: ومن يشرك بالله الآن فقد ضل ضلاله في الأزل، وهو الضلال البعيد الأزلي بمشيئته في تحقيق: ويضل من يشاء، ولهذا قال تعالى: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } [النساء: 116]، ومشيئته أزلية أبدية فافهم جيدا.
[4.117-121]
ثم قال تعالى: { إن يدعون من دونه إلا إنثا } [النساء: 117]؛ يعني: ما يعبدون من دون الله، ولا يطلبونه من الدنيا والآخرة ومنافعهما، إلا هو بمثابة الإناث لكم يتولد منه الشرك المقدر بمشيئته الأزلية، { وإن يدعون } [النساء: 117]؛ أي: وإن يعبدون { شيطنا مريدا } [النساء: 117]، { لعنه الله } [النساء: 118]؛ يعني: وما يعبدون شيئا إلا هو شيطان لهم يضلهم عن طلب الله والوصول إليه، وقد لعنه الله وأبعده عن الحضرة إذا كان سببه ضلالتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه "
، وإنما لعن الله الدنيا وأبغضها؛ لأنها كانت سببا للضلالة وكذلك الشيطان، فافهم جيدا.
{ وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } [النساء: 118]، والنصيب المفروض من العباد؛ هم طائفة خلقهم الله أهل النار، كقوله تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف: 179]؛ وهم أتباع الشيطان هاهنا، والنصيب المفروض في الأزل، إذ قال تعالى بالكلام الأزلي القديم:
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
[ص: 85]، وإبليس مع كفره ظن أنه قد يرى، إذا قال: { ولأضلنهم ولأمنينهم } [النساء: 119]، ما علم أنه بعث مزينا وليس إليه من الضلالة شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت مبلغا وليس إلي من الهداية شيء "
، فمن يرى حقيقة الإضلال مشيئة من إبليس فهو إبليس وقته، وقد قال تعالى:
يضل من يشآء ويهدي من يشآء
[فاطر: 8]، وقال:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
[البقرة: 26]، فكما أن لأهل الإيمان أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لا يهدي من أحب، فكذلك أهل الضلالة هم أتباع إبليس وإنه لا يضل من أحب، فافهم جيدا.
ثم أول إضلال إبليس بقوله تعالى: { ولأمرنهم فليبتكن ءاذان الأنعم ولأمرنهم فليغيرن خلق الله } [النساء: 119]، فليس على الإضلال للشيطان قدرة وقوة إلا بطريق الفتنة والتزيين، والأمر والدعاء، كقوله تعالى:
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم
[إبراهيم: 22]، فإني ما كنت لكم في الضلالة إلا عونا ووليا، وأنتم اتخذتموني في ذلك وليا، { ومن يتخذ الشيطن وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } [النساء: 119] من نواة سعادة الدارين؛ لأن الشيطان يعدهم برحمة الله وعفوه من غير توبة على المعاصي والكف عن الذنوب، { ويمنيهم } [النساء: 120]، بما يلائم طباعهم، { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [النساء: 120]، إلا أن يغتروا بالحياة الدنيا وزينتها، ويغتروا بكرم الله وعفوه، وقد قال تعالى:
فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور
[لقمان: 33]؛ والغرور: هو الشيطان، ومن يغتر به { أولئك مأواهم جهنم } [النساء: 121]؛ أي: مقامهم ومسكنهم؛ لأنهم خلقوا لذلك، وإنما اغتروا بقول الشيطان لهذه الخاصية، { ولا يجدون عنها محيصا } [النساء: 121]، إذ هي ناديهم ولها خلقوا على التحقيق بالحكمة البالغة والمشيئة الأزلية، فافهم.
[4.122-124]
ثم أخبر عمن خلق للجنان وأنهم أهل الإيمان بقوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } [النساء: 122]، والإشارة فيها وهي إن { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } [النساء: 122]؛ يعني: الذين آمنوا واتقوا ولازموا ذكر لا إله إلا الله فتبين لهم أنهم عملوا الصالحات، ويدل عليه قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا
[الأحزاب: 70]؛ وهو لا إله إلا الله
يصلح لكم أعمالكم
[الأحزاب: 71]؛ أي: يخلص، فإن إصلاح الأعمال في إخلاصها.
ثم اعلم أن بالإيمان والتقوى، وملازمة الذكر يكون العمل صالحا، وبالعمل الصالح يصعد الذكر إلى الله تعالى، كما قال تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر: 10]، فبالذكر والعمل الصالح يجتذب الذاكر عن أنانيته إلى هوية المذكور، كقوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، فيعبر عن أول مرتبة المذكور به بقوله تعالى: { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا } [النساء: 122]، ويعبر عن مراتبها الباقية بقوله تعالى:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55]، { وعد الله حقا } [النساء: 122]، وعده ما قال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، { ومن أصدق من الله قيلا } [النساء: 122]؛ أي: لمن قوله بصدق قوله ويؤمن بوعده، { ليس بأمنيكم } [النساء: 123]؛ يعني: بأماني عوام الخلق والذين يذنبون ويطمعون أن يغفر الله لهم، والله تعالى يقول: وإني لغافر لمن تاب وآمن وعمل صالحا، { ولا أماني أهل الكتاب } [النساء: 123]؛ يعني: علما السوء الذين يغرون بالرخاء المذموم، ويقطعون عليهم طريق الطلب والجد والاجتهاد، { من يعمل سوءا يجز به } [النساء: 123] في الحال بإظهار الذين على مرآة قلبه بقدر الذنب، كما قال صلى الله عليه وسلم
" إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل "
، { ولا يجد له من دون الله } [النساء: 123]؛ يعني: ولا يجد له إلا الله، { وليا } [النساء: 123]، يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة بالتوبة، { ولا نصيرا } [النساء: 123] سوى الله بالظفر على النفس الأمارة بالسوء، فيزكيها عن صفاتها وعلى الشيطان فيدفع سره وكيده، { ومن يعمل من الصلحت } [النساء: 124]أي: الخالصات، { من ذكر أو أنثى } [النساء: 124]، يشير بالذكر إلى القلب، وبالأنثى إلى النفس، { وهو مؤمن } [النساء: 124] مخلص في ذلك الأعمال، { فأولئك يدخلون الجنة } [النساء: 124]؛ المعنى أن القلب إذا عمل مما وجب عليه من التوجه إلى العالم العلوي، والإعراض عن العالم السفلي، وغض البصر عن سوى الحق يستوجب دخول الجنة، والقربة والوصلة والنفس إذا عملت مما وجب عليها من الانتهاء عن هواها وترك حظوظها، وأداء حقوق الله في العبودية واطمأنت بها تستحق الرجوع إلى ربها والدخول في جنة عالم الأرواح، كما قال تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28]، { ولا يظلمون نقيرا } [النساء: 124] فيما قدر الله لهم من الأعمال الصالحات، ولا من الدرجات والقربات، فليس من تمنى نعمة من غير أن يتبعني في خدمة من يتمنى نعمته وإن بينهما بونا بعيدا من أعلى مراتب القرب إلى أسفل سافلين البعد.
[4.125-127]
ثم أخبر عن أحسن الدين لأهل اليقين بقوله تعالى: { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } [النساء: 125]، والإشارة فيهما: إن لا أحد أحسن دينا ممن { أسلم وجهه لله }؛ أي: أسلم ذاته وحقيقته بالكلية، يدل عليه قوله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]؛ أي: ذاته وحقيقته، وهو؛ أي: من أسلم محسن محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سما محسن لمعنيين:
أحدهما: إنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالرؤية والمشاهدة، وإنه فسر الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، فسماه الله تعالى محسنا؛ لاختصاصه بالرؤية والمشاهدة، والثاني: لأنه صلى الله عليه وسلم أحسن الدين فأجملنه بخلقه العظيم إلى أن بلغ الدين بعده حد الكمال، فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الدين من سائر الأنبياء عليهم السلام فسماه محسنا؛ فمعنى الآية على التحقيق أن لا أحسن دينا من محمد صلى الله عليه وسلم وقد استتم ذاته وحقيقته بالكلية حتى اسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أسلم شيطاني على يدي "
، ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة:
" أمتي أمتي "
، حتى يقول الأنبياء: نفسي نفسي، ومما يدل على هذا التأويل قوله: عقيب وهو محسن { واتبع ملة إبرهيم حنيفا } [النساء: 125]، والاحتمال الذي اتبع ملة إبراهيم وأمره به كان محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:
أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا
[النحل: 123]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت بالحنفية السهلة السمحة "
، ثم شرع في شرح ملة إبراهيم التي اتبعها محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: { واتخذ الله إبراهيم خليلا } [النساء: 125]، ومن شرك الخلة استسلام العبد في عموم أحواله لله بالله، وأن لا يدخر شيئا عن الله لا من ماله، ولا من جسده ومن روحه وجلده، ولا من أهله وولده، وهذا كان حال إبراهيم عليه السلام، ومن شرط المحبة فناء المحبة في المحبة وبقاؤه بالمحبوب حتى لم تبقى المحبة من المحب إلا الحبيب، وهذا كان حال محمد صلى الله عليه وسلم قيل لمجنون ليلى ابن عامر: ما اسمك؟ قال: ليلى، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: حبيبا خليلا فقيرا من الخلة وهي الحجة والفقر؛ أي: مفتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله ليس له منه شيء، هل هو من الله؟ كما قال: صلى الله عليه وسلم
" أنا من الله "
، وقال تعالى:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80]، فافهم جيدا.
والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب، إن الخليل اتخذ الآلهة عدوا في الله وقال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، والحبيب اتخذ نفسه عدوا في الله وقال: ليت رب محمد صلى الله عليه وسلم لم يخلق محمدا، كما قيل قريب بهذا المعنى: بيني وبينك أني يزاحمني فارفع بجودك إني من البين.
قال الشيخ الإمام مصنف هذا الكتاب - رحمه الله -: فلما أن رأيت وجودك رحمة، تمنيت من الله أن ليت لم أخلق.
وفي قوله تعالى: { ولله ما في السموت وما في الأرض } [النساء: 126]، إشارة إلى: إنه تعالى يوجد عند كل ذرة من ذراتها بالإيجاد والحفظ، والإبقاء والإفناء، والكل يقولون:
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة: 156]، فمن طلب الحق عند كل شيء يجده مع كل شيء وفي أول كل شيء، وأول كل شيء وأخر كل شيء، وظاهر كل شيء، وإلى هذا يشير بقوله تعالى: { وكان الله بكل شيء محيطا } [النساء: 126]، وكذا قوله:
ألا إنه بكل شيء محيط
[فصلت: 54]، تفهم إن شاء الله تعالى.
{ ويستفتونك في النسآء وما يتلى عليكم في الكتب } [النساء: 127]، اعلم أن النفس بمثابة المرآة لزوج الروح ففي قوله: { ويستفتونك في النسآء } [النساء: 127]، يسير إلى الاستخبار عن النفوس { في يتمى النسآء } [النساء: 127]، عن الصفات { التي لا تؤتونهن ما كتب لهن } [النساء: 127]؛ يعني: ما أوجب الله تعالى على العبد الطالب الصادق من حقوق النفس، كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو رضي الله عنه حين جاهد نفسه بالليل بالقيام وبالنهار بالقيام:
" إن لنفسك عليك حقا صم وأفطر وقم ونم "
؛ والمعنى: { قل الله يفتيكم فيهن } [النساء: 127]، إنها مراكبكم في السير إلى الله فلا تقبلوا عن ترتيبها بالكلية فتجاهدوها بالرياضيات فتنقطع عن السير؛ بل الجواب أن تتفقدوها بأداء حقوقها وتواسوها بالرفق في تركيبها، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق "
، يريد لا تحملوا على أنفسكم، ولا تكلفوها ما لا تطيقه فتعجز، وترك الدين والعمل { وترغبون أن تنكحوهن } [النساء: 127]؛ يعني: ولا ترغبوا عن مصاحبة النفس وصفاتها، والمداومة معها في تهذيب أخلاقها وتربية صفاتها، إلى أن تردوها إلى حد الاعتدال، فإن قلع هذه الصفات ونفيها بالكلية ليس بمحمود، وإنما المحمود اعتدالها في أن تفي إلى أمر الله وأحكام الشرع، وكذا { والمستضعفين من الولدن } [النساء: 127]؛ وهو الأفعال المتولدة من صفات النفس: كالأكل والشرب والنكاح وأمثالها، فإن لكل واحد منهم حقا ورعاية حقوقهم، { وأن تقوموا لليتمى بالقسط } [النساء: 127]؛ يعني: وإن تقوموا لرعاية حقوق النفس وصفاتها وأفعالها بميزان الشرع قياما بالحق والعدل، { وما تفعلوا من خير } [النساء: 127] في حق النفس وصلاحها وإصلاح صفاتها، { فإن الله كان به عليما } [النساء: 127]، وكذلك ما تفعلوا من شر في التفريط والإفراط فيجازيكم به.
[4.128-129]
{ وإن امرأة } [النساء: 128] يعني: نفس، { خافت من بعلها } [النساء: 128]؛ يعني: من الروح المتصرف فيها، { نشوزا } [النساء: 128] في رعاية حقوقها والمداراة معها، { أو إعراضا } [النساء: 128] بالكلية بإظهار عداوتها وتشديد في اجتهادها وقصد هلاكها، { فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا } [النساء: 128] بأن تطيع النفس الروح في عبودية الحق، وتترك بعض حظوظها رعاية لحقوقه في طلب الحق، ويؤثر حقوقه عليها معاونة على حصول مقاصده من [حظه] ويواسيها الروح بأن لا يعرض عنها بالكلية ويساعدها في بعض الأوقات مساعدة الراكب في أثناء الطريق لاستراحته عن التعب واستنشاطه للسير، { والصلح خير } [النساء: 128] للروح من الانقطاع طلب المقصد والمقصود، وللنفس من الهلكة في أعراض الروح عنها، والمبالغة في اجتهادها وارتياضها { وأحضرت الأنفس الشح } [النساء: 128]؛ يعني: كل نفس مجبولة على البخل بنصيبها وحظها، فالروح تسنح بترك حقوق الله تعالى من نفسه، والنفس تسنح بحظوظها من هواها، { وإن تحسنوا } [النساء: 128]؛ يعني: بالتسوية بينهما في الصلح والعبودية للحق، { وتتقوا } [النساء: 128] الحيف والجور على كل واحد منهما، { فإن الله كان } [النساء: 128]، في الأزل { بما تعملون } [النساء: 128] اليوم { خبيرا } [النساء: 128]، فإنه أعطى لكل واحد منهما استعداد الإحسان والاتقاء في الأزل، وإلا ما كان لهما الإحسان والاتقاء اليوم، فافهم جيدا.
ثم قال تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء ولو حرصتم } [النساء: 129]؛ يعني: لا تقدرون على تزكية النفوس وتسوية الصفات وتعديلها ولو تحرصون عليها، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم:
" استقيموا ولن تحصوا "
، ثم قال تعالى: { فلا تميلوا كل الميل } [النساء: 129] في رعاية حقوق الروح واستيفاء حظوظ النفس، { فتذروها } [النساء: 129]؛ يعني: النفس { كالمعلقة } [النساء: 129] بين عالم السفل وعالم العلو، { وإن تصلحوا } [النساء: 129] على العبودية وامتثال الشرع في حفظ الحدود، { وتتقوا } [النساء: 129] طرفي التفريط والإفراط في الحقوق، { فإن الله كان } [النساء: 129]، في الأزل { غفورا } [النساء: 129] للروح برش النور المقدس، { رحيما } [النساء: 129] بالنفس حتى صارت مأمورة بعد كانت أمارة، كما قال تعالى:
إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53].
[4.130-131]
{ وإن يتفرقا } [النساء: 130]؛ يعني: الروح والنفس بجذبات الإلوهية، فالروح تنجذب عن النفس بجذبة دع نفسك وتعالى إلى سعة غنى الله في عالم هويته، فيستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تنجذب عن الروح بجذبة
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 28] إلى سعة غنى الله في عالم،
فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 29-30]، فتستغني عن راكب الروح بعناية، { يغن الله كلا من سعته وكان الله } [النساء: 130] في الأزل، { واسعا } [النساء: 130] لهما في سعة رحمته، { حكيما } [النساء: 130]، حكم عليهما بالاجتماع والافتراق،
إلى ربك يومئذ المساق
[القيامة: 30].
ثم أخبر عن وصاية أهل الهداية بقوله تعالى: { ولله ما في السموت وما في الأرض } [النساء: 131]، إشارة في الآيتين: إن لله ما في السماوات من الدرجات العلا وجنات المأوى والفردوس، وما في الأرض من نعيم وزينتها وزخارفها، والله مستغن عنها، وإنما خلقها لعباده الصالحين، كما قال تعالى:
وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا
[الجاثية: 13] منه وخلق العباد لنفسه، كما قال تعالى:
واصطنعتك لنفسي
[طه: 41]، { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [النساء: 131]؛ يعني: جميع أهل الأديان، { وإياكم } [النساء: 131] أيها المؤمنون، { أن اتقوا الله } [النساء: 131] ولا تطلبوا منه غيره، فإن الله تعالى مهما يكن لكم يكن ما في السماوات والأرض لكم، واتقوا الله من الله غير الله، { وإن تكفروا } [النساء: 131] بهذه النعمة العظيمة والكرامة الجسمية وتطلبوا غير الله فلن تجدوه { فإن لله ما في السموت وما في الأرض } [النساء: 131]، فلا تملكونه إلا بالله فإنه خلق لكم، لأنكم كنتم محتاجين { وكان الله } [النساء: 131] في الأزل إلى الأبد { غنيا } [النساء: 131] عنه وعنكم، { حميدا } [النساء: 131] في ذاته وصفاته فلا يحتاج إلى أحد منكم ولا إلى أن
يسبح له ما في السموت والأرض
[الحشر: 24]؛ لأنه ليس لشيء وجود حقيقي قائم بنفسه إلا بالله.
[4.132-134]
{ ولله } [النساء: 132] جنود { ما في السموت وما في الأرض } [النساء: 132]، وقيامه وبقيوميته قائم { وكفى بالله وكيلا } [النساء: 132] في إيجاده وحفظه وتدبيره لكم فيما تحتاجون إليه من الدنيا والآخرة، فاتخذوه وكيلا، فإن لم ترضوا بوكالته وتنسون وصايته فله { إن يشأ يذهبكم أيها الناس } [النساء: 133] أيها الناسون وصية والطالبون غيره، { ويأت بآخرين } [النساء: 133] ولا يطلبون منه غيره، كما قال تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، { وكان الله } [النساء: 133]، من الأزل { على ذلك } [النساء: 133]؛ أي: على إثبات جميع الخلق بهذه الصفة، { قديرا } [النساء: 133]، كما قال تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[السجدة: 13] والناس؛ أي: الناسين توصيته، دليله قوله تعالى:
فذوقوا بما نسيتم
[السجدة: 14] وصيتنا
لقآء يومكم هذآ
[السجدة: 14].
ثم أخبر عما عنده لعبده بقوله تعالى: { من كان يريد ثواب الدنيا } [النساء: 134]، إشارة في ألاية: إن من كان دنيء الهمة قصير النظر يطلب من الله الدنيا الدنية وما فيها، { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } [النساء: 134]؛ يعني: لا يختص على متاع القليل الدنيا من سعة كرم الله وجوده، وإن عنده الدنيا والآخرة، وهو كريم يحب أن يسأل العبد منه شيئا، ويحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها، فلا تقنعوا منه بالدنيا الدنية،
ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها
[الشورى: 20]، فاطلبوا منه الآخرة، فإنه يزيد فيها؛ لأنه قال تعالى:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه
[الشورى: 20]؛ أي: نعطيه ما يحتاج إليه من الدنيا بالتبعية، ثم أشار بقوله تعالى: { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } [النساء: 134] إلى مقام العندية؛ يعني: لا تطلبوا من الله إلا مقام العندية، فإن من يكون منزلته من عند الله
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] فقد وجد الله تعالى ووجد ما عنده من الدنيا والآخرة، { وكان الله سميعا } [النساء: 134] لحاجات طالبه ومناجات راغبيه، { بصيرا } [النساء: 134]، بمصالح دينهم ودنياهم.
[4.135-136]
ثم أخبر عن قسط الشهداء ولو على الآباء والأقرباء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كونوا قومين بالقسط شهدآء لله } [النساء: 135]، إشارة في الآية: أمر الله في خطابه مع المؤمنين حيث قال: { يأيها الذين آمنوا كونوا قومين بالقسط شهدآء لله } [النساء: 135] أمر تكوين وتحويل، فلا بد وأن يكونوا كما كونهم، نظيره قوله تعالى:
قلنا ينار كوني بردا وسلما
[الأنبياء: 69] فكانت كما أمرت وكونت، فلما قال تعالى للمؤمنين الذين كونوا مشارا إليهم بذكر الإيمان: { كونوا قومين بالقسط } [النساء: 135]، فيكونوا قائمين به وبحكمته البالغة وفي قوله: { شهدآء لله } [النساء: 135]، إشارة إلى عوام المؤمنين أن كونوا شهداء الله بالتوحيد والوحدانية، { بالقسط } [النساء: 135] يوما ولو كان في آخر نفس من عمرهم على حسب ما قدر لهم، ويكونهم كما شاء ومتى شاء بمشيئته الأزلية، وأشار إلى الخواص أن كونوا شهداء لله حاضرين مع الله بالفردانية، وأشار إلى أخص الخواص أن كونوا شهداء في الله غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة.
ثم اعلم أن في إشارته إلى الخواص شركة للملائكة كما قال تعالى:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط
[آل عمران: 18]؛ وهي تدل على هذا التأويل، وأما إشارته إلى أخص من الأنبياء وكبار الأولياء؛ وهم أولوا العلم فمختصة بهم من سائر العالمين، وفي هذا سر عظيم لا يبخل بالعقول المجردة، فضلا عن العقول المركبة المدنسة بدنس الوهم والخيال والخس، ولأولي العلم سير في شهود
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران: 18]، وليس للملائكة وأولوا العلم في هذا الشهود مدخل، إلا أنهم قائمون بالقسط في شهود الوحدانية والفردانية كما حذرنا، وهم بمعزل عن شهود الوحدانية، فافهم جيدا.
وفي قوله تعالى: { ولو على أنفسكم أو الولدين والأقربين } [النساء: 135]، إشارة إلى: إن كونوا شهداء لله في شهود الوحدة، { ولو على أنفسكم } [النساء: 135] بإفنائها، { أو الولدين } [النساء: 135] بنفيهما في طلب الحق عن الالتفات والتعلق بهما. { والأقربين } [النساء: 135]؛ أي: والأقربين، { إن يكن } [النساء: 135] الوالدين، { غنيا } [النساء: 135] لا يحتاجون إلى التفاتك إليهما، { أو فقيرا } [النساء: 135] يحتاجون إليك في النفقة وغيرها، { فالله أولى بهما } [النساء: 135]، فإنه خالقها ورازقهما لا أنتم، { فلا تتبعوا الهوى } [النساء: 135] في رعاية حقوقهم، { أن تعدلوا } [النساء: 135] عن طلب الحق ورعاية حق الربوبية بالعبودية، فإن الله قدم العبودية على حقوقهما، وقال:
لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا
[البقرة: 83]، ثم قال تعالى: { وإن تلووا } [النساء: 135]؛ أي: وإن تتلوا أمرها ، { أو تعرضوا } [النساء: 135] عن الله وطلبه، { فإن الله كان } [النساء: 135] في الأزل، { بما تعملون } [النساء: 135] اليوم، { خبيرا } [النساء: 135]، وإنه أعطاكم استعداد هذه الأعمال، وإنه بما تعملون اليوم يجازيكم غدا، واليوم بالخير خيرا وبالشر شرا، والله أعلم.
ثم أخبر عن الإيمان الحقيقي دون التقليدي وعلم أهل الإيمان بقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتب الذي نزل على رسوله والكتب الذي أنزل من قبل } [النساء: 136]؛ فمعناه من آمن بالتقليد ظاهرا ينبغي له بالتحقيق والتصديق باطنا، وبالقول ظاهرا أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما نطق به الكتب والرسل من الوعد والوعيد، والبعث النشور والحساب، والميزان والصراط، والجنة وغير ذلك، يدل على هذا المعنى قوله تعالى: { ومن يكفر بالله وملآئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } [النساء: 136] فقد أدرج جميع ما ذكرناه وجعلناه شرط الإيمان فيه، وحكم أن عدم الإيمان بهؤلاء كفر؛ يعني: عدم الإيمان بكل ما مر ذكره كفر.
ثم اعلم أن مراتب الإيمان ثلاث: مرتبة العوام، ومرتبة الخواص، ومرتبة الأخص، فمرتبة العوام في الإيمان: ما قاله صلى الله عليه وسلم:
" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار والقدر خيره وشره "
؛ وهو إيمان غيبي، ومرتبة الخواص في الإيمان: هو عيان، وكان ذلك أن الله تعالى إذا تجلى بصفة من صفاته وخضع جميع أجزاء وجوده، وآمن بالكلية عيانا بعد ما كان يؤمن قلبه بالغيب، ونفسه تكفر بما آمن به قلبه، إذا كانت النفس عن تنسم روائح الغيب بمعزل، فلما تجلى الحق تعالى لحبل القلب
جعله دكا وخر موسى
[الأعراف: 143] النفس،
صعقا
[الأعراف: 143]، فالنفس في هذا تكون بمنزلة موسى عليه السلام،
فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف: 143]، فافهم جيدا.
ومرتبة الأخص في الإيمان: غيبي وذلك بعد رفع حجب الأنانية بسطوات تجلي حجب الجلال، فإذا أفناه عنه بصفة الجلال يبقيه بصفة الجمال، فلم يبق له الدين وبقي في العين فيكون إيمان عينيا، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فلما بلغ قاب قوسين كان في حيزين فلما جذبته العناية من كينونية إلى عينونية أو أدنى،
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]،
ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه
[البقرة: 285]؛ أي: صفات ربه، فآمنت صفاته بصفاته، وذاته بذاته، فصار كل وجوده مؤمنا بالله إيمانا عينيا ذاته وصفاته، فأخبر عنهم فقال:
والمؤمنون كل آمن بالله
[البقرة: 285]؛ يعني: آمنوا بهويته لا بأنانية وجودهم، فالله عز وجل من كمال رأفته ورحمته على عباده المؤمنين يشير إليهم بحقيقة هذا الإيمان بقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا } [النساء: 136]؛ يعني: من أنانيتكم آمنتم إيمانا غيبيا، { ءامنوا بالله } [النساء: 136]؛ يعني: فاسعوا إلى الله بقدم ذكره لعله بذكركم يغنيكم به عنكم، فتؤمنوا بهويته إيمانا عينيا، وتؤمنوا برسوله { والكتب الذي نزل على رسوله } [النساء: 136]؛ يعني: من لم يكن له إيمان عيني في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف الرسول عند هذا الكمال، فلا يكون إيمانه بالرسول حقيقيا، ولا بالكتاب الذي نزل على الرسول تلك الليلة، ولا { والكتب الذي أنزل من قبل } [النساء: 136]، وذلك أن الكتب المنزلة كلها كانت مندرجة في الكتاب الذي أنزل على الرسول تلك الليلة في سر
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" أوتيت جوامع الكلم "
، ولذلك ذكر الله { والكتب الذي أنزل من قبل } [النساء: 136]، عقيب قوله: { والكتب الذي نزل على رسوله } [النساء: 136]، ولم يذكر الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب؛ ليعلم أن المشار إليه في ذكر { والكتب الذي أنزل من قبل } [النساء: 136]؛ هو أيضا الرسول، فالمؤمن يؤمن بهذا الرسول المنزل عليه جميع الكتب؛ ليكون إيمانه بالله ورسوله وكتبه حقيقيا لا تقليديا - تفهم إن شاء الله - وتؤمن بهذا الإيمان إن لم تؤمن بحقيقته، فإن من يكفر بهذا الإيمان { فقد ضل } [النساء: 136] في نية أنانيته، { ضلالا بعيدا } [النساء: 136] عن الله ومعرفته ومعرفة رسوله وكتبه والإيمان بهم، فافهم جيدا.
[4.137-139]
ثم أخبر عن التقليدي لا الحقيقي بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا ثم كفروا } [النساء: 137]، والإشارة فيها: { إن الذين آمنوا } [النساء: 137]؛ يعني: بالتقليدي، { ثم كفروا } [النساء: 137] إذ لم يكن للتقليد أصلا، { ثم آمنوا } [النساء: 137] بالاستدلال العقلي، { ثم كفروا } [النساء: 137]، إذ لم يكن عقولهم مؤيدة بالتأييد الإلهي، { ثم ازدادوا كفرا } [النساء: 137] بالشبهات العقلية، إذ تمسكوا بالعقول المشوبة بالهوى وحب الدنيا فوقعوا في ورطة الهلاك مع المبتدعة والمتفلسفة، وإلا نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وفي قوله تعالى: { لم يكن الله ليغفر لهم } [النساء: 137]، يشير إلى: إن من يكون إيمانه تقليديا ذلك بأن لم يكن الله في الأزل عاقرا لهم بنوره عند العرش، كما قال: ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه فقد اهتدى، ومن أخطأه فقد ضل، فلما أخطأهم ذلك النور فما آمنوا بالله بالحقيقة، وإن آمنوا بالتقليد كفروا، كما كانوا على أصل الضلالة، { ولا ليهديهم سبيلا } [النساء: 137]، إلى الهدى اليوم؛ لأن الأصل لا يخطأ إذ أخطأهم ذلك.
ثم قال تعالى: { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } [النساء: 138]؛ لأن أصل نفاقهم من أخطاء ذلك النور أيضا؛ يعني: بشرهم بأن أصل جوهرهم من جواهر الكفار ولهذا { الذين يتخذون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين } [النساء: 139]، فإن ائتلافهم هاهنا نتيجة تعارف أرواحهم هناك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
" الأرواح جنود مجندة "
، فمن تعارف أرواحهم أرواح الكافر والمنافق هناك يأتلفون هاهنا، ومن تناكر أرواحهم أرواح المؤمنين هناك يختلفون.
ثم أشار بقوله تعالى: { أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } [النساء: 139] إلى من يطلب العزة في الدارين، فليست العزة عند الدنيا وأهلها، فلا تطلبوها عندهم ولكن فاطلبوها عند الله؛ أي: في مقام العندية، فإن عنده خير الدنيا والآخرة جميعا، فمن تابع النبي صلى الله عليه وسلم حق المتابعة وقال تعالى
عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، يقال له:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون: 8].
[4.140-141]
{ وقد نزل عليكم في الكتب } [النساء: 140]؛ أي: في كتاب العهد يوم الميثاق { أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها } [النساء: 140]؛ أي: النفوس وأربابها، { فلا تقعدوا } [النساء: 140]، الخطاب للقلوب وأربابها { معهم } [النساء: 140]؛ أي: مع النفوس؛ أي: لا تصاحبوهم ولا توافقوهم في شيء من أهوائهم، { حتى يخوضوا في حديث غيره } [النساء: 140]، فإن تفعلوا أيها القلوب وأربابها، { إنكم إذا مثلهم } [النساء: 140]، مثل النفوس وأربابها؛ يعني: يكون القلب كالنفس، وصاحب القلب كصاحب النفس بالصحبة والمخالطة والمتابعة، { إن الله جامع المنفقين والكفرين في جهنم جميعا } [النساء: 140]؛ لأنهم كانوا في عالم الأرواح في صف واحد، وفي الدنيا بذلك التناسب والتعارف في فن واحد، وقال: صلى الله عليه وسلم
" كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تحشرون "
، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن أخلاق أهل النفاق بقوله تعالى: { الذين يتربصون بكم } [النساء: 141]، إشارة فيها: إن المنافقين الذين يتربصون بكم، { فإن كان لكم فتح من الله } [النساء: 141] من الفتوحات الدنيوية، { قالوا ألم نكن معكم } [النساء: 141] طمعا فيه لما حرموا علو الهمة في الدين وعدموا خلوص العقيدة في علم اليقين تربصوا للفتوحات الدنيوية، وذهلوا عن الفتوحات الأخروية والحضرية؛ وهي { فتح من الله } [النساء: 141]؛ يعني: ما يفتح الله للناس من رحمة ومن فتوحات الغيب وشواهد الحق حتى { وإن كان للكافرين نصيب } [النساء: 141] من الدنيا والمرادات الدنيوية { قالوا } [النساء: 141]؛ لخسة عقلهم ودناءة همتهم وقصورهم { ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } [النساء: 141]، طاروا بأجنحة الأطماع والخذلان عن إنكار الإيمان إلى منازل الكفر ودركات النيران، ثم يؤدي بأنهم أهل الملامة، { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } [النساء: 141]؛ ليعلم من أهل العزة والكرامات، ومن أهل العزة والندامات، { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } [النساء: 141]، فإن وبال كيدهم إليهم مصروف، وجزاء مكرهم عليهم موقوف، والحق من قبل الحق سبحانه وتعالى منصور أهله، والباطل بنصر الحق محيت أهله.
[4.142-145]
ثم أخبر عن أمارات المنافقين وعلامات المخادعين بقوله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو } [النساء: 142]، إشارة في الآيتين: أن المنافقين غنما يخادعون في الدنيا؛ لأن الله { خادعهم } [النساء: 142] في الأزل عند رش نوره على الأرواح، وذلك أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، فلما رش نوره أصاب الأرواح المؤمنين وأخطأ أرواح المنافقين والكافرين، ولكن الفرق بين المنافق والكافر أن المنافقين رأوا رشاش النور وظنوا أنهم يصيبهم فأخطأهم، وأرواح الكافرين ما شاهدوا ذلك الرشاش ولم تصبهم، فإن المنافقين خدعوا عند مشاهدتهم الرشاش إذا ما أصابهم، فمن نتائج مشاهدتهم الرشاش { وإذا قاموا إلى الصلاة } [النساء: 142]، من نتائج حرمانهم إصابة النور، { قاموا كسالى يرآءون الناس } [النساء: 142]، كأنهم يراؤونهم النور { ولا يذكرون الله إلا قليلا } [النساء: 142]؛ لأنهم يذكرونه بلسان الظاهر القالبي لا بلسان الباطن القلبي، والقالب من الدنيا وهي قليلة قليل ما فيها، والقلب من الآخرة وكثيرة كثير ما فيها، فالذكر الكثير من لسان القلب كثير، والفلاح في الذكر الكثير لا في القليل، كقوله تعالى:
واذكروا الله كثيرا
[الأنفال: 45]؛ أي: بلسان القلب
لعلكم تفلحون
[الأنفال: 45]، ولما كان ذكر المنافقين بلسان القالب كان قليلا كلما أفلحوا به، وإنما كان ذكر المنافق بلسان الظاهر؛ لأنه شاهد رش النور ظاهرا من العبد ولم يصبه، فلو كان أصابه ذلك النور لكان صدره منشرحا به، كما قال تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام
[الزمر: 22]، فهو على نور من ربه؛ أي: على نور مما رش به ربه، ومعدن النور هو القلب، وإذا كان قلبه ذاكرا لله النور فإنه يصير لسان القلب، فقليل الذكر منه يكون كثيرا، فافهم جيدا.
فلما كان أرواح المنافقين مترددة متحيرة بين رشاش النور وبين ظلمة الخلقية، لا إلى هؤلاء الذين أصابهم النور، ولا إلى هؤلاء الذين لم يشاهدوا الرشاش، كذلك كانوا { مذبذبين بين ذلك } [النساء: 143] المؤمنين والكافرين، { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله } [النساء: 143] بأخطاء ذلك النور، كما قال: ومن أخطأه فقد ضل { فلن تجد له سبيلا } [النساء: 143] هاهنا إلى ذلك النور، يدل عليه قوله تعالى:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40] قسمته من ذلك النور المرشش، فماله اليوم نصيب من نور الهداية والله أعلم.
ثم أخبر عن منازل المنافقين باتخاذهم الأولياء من الكافرين ونهى عن المؤمنين بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين } [النساء: 144]، والإشارة فيها: إن النهي في قوله تعالى: { لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين } [النساء: 144]، نهي التكوين؛ يعني: ما كونهم مستعدين لاتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين؛ لأن المؤمنين خلقت أرواحهم في غير صف أرواح الكافرين، حيث كانت الأرواح جنود مجندة فكان بين أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين تعارف يأتلفون به هاهنا من دون المؤمنين، إنما قيد موالاتهم بقوله تعالى { من دون المؤمنين } [النساء: 144]؛ لأن موالاتهم على نوعين:
أحدهما: ما يكون بمناسبة كلية بين الأرواح بأن يكونوا في صف واحد، فتلك المناسبة بين الكافرين والمنافقين موالاة حقيقية، وهذا هو الذي نهى عنه المؤمنون نهي التكوين، وبهذا النوع يتخذ المنافقون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
والنوع الثاني: ما يكون من أدنى مناسبة يكون بين الأرواح وإنما يكونوا في صف واحد، بل يكون لمحذاة أرواحهم في الصفوف، فتلك المناسبة تكون بين المؤمنين والكافرين صورة موالاة دنيوية معلولة في بعض الأوقات، ولا يكون لها إثبات ولا ينقطع موالاته مع المؤمنين في الدين البتة، ويرجع المؤمن من موالاتهم البتة يوما، ثم قال تعالى لمن آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه: { لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين } [النساء: 144]، { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } [النساء: 144]؛ يعني: بعد أن خلقكم في صف أرواح الكافرين وأخطأكم رشاش النور حتى إئتلفتم هاهنا مع الكفار، { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم } [النساء: 144]، في عقابكم يوم القيامة باتخاذكم الكفار أولياء، { سلطانا مبينا } [النساء: 144]، عذرا واضحا وبرهانا لائحا
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
[الأنفال: 42].
ثم قال تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [النساء: 145]؛ يعني: الذي آمنوا باللسان ولم تؤمن قلوبهم وهذه أحوالهم فهم المنافقون، ومنازلهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأن أرواحهم كانت في آخر الصفوف وأسفلها، { ولن تجد لهم نصيرا } [النساء: 145] في الإخراج عن الدرك الأسفل؛ لأنهم أفسدوا استعداد صفاء الروحانية الكلية بالنفاق ورينه بخلاف الكافر؛ لأن الكافر وإن أفسد برين الكفر صفاء روحه، ولكن ما أضيف إلى رين كفره رين النفاق فكان لرين كفره منفذ من القلب إلى اللسان فيخرج بحاره من لسانه بإظهار الكفر، وكان للمنافق مع كفره ورين الكفر ورين النفاق زائد، ولم يكن لبخل رينه منفذ إلى لسانه، فكان لنجارات الكفر ورين النفاق منفذ ينفذ إلى صفاء الروحانية فلم يبق له الخروج عن هذا الأسفل، ولم ينصره نصير بإخراجه؛ لأنه مخذول الحق في آخر الصفوف.
وقال تعالى:
إن ينصركم الله
[آل عمران: 160]؛ يعني: في خلق أرواحكم في صف أرواح المؤمنين
فلا غالب لكم
[آل عمران: 160] بأن يردكم إلى صف أرواح الكافرين،
وإن يخذلكم
[آل عمران: 160] بأن يخلق أرواحكم في صف أرواح الكافرين،
فمن ذا الذي ينصركم من بعده
[آل عمران: 160] بأن يخرجكم إلى صف المؤمنين.
[4.146-148]
ثم استثنى منهم من كان كفره ونفاقه عارية، وروحه في أصل الخلقة خلق في المؤمنين، ثم بأدنى مناسبات في المجازات بين روحه وأرواح الكافرين والمنافقين ظهر عليه من نتائجها موالاة معلومة مع القوم أياما معلومة مع القوم أياما معدودة، فما أفسدت صفاء روحانيته بالكلية، وما أنسد منفذ قلبه إلى عالم الغيب فهبت له من وهب العناية نفحات ألطاف الحق، ونبهته عن نوم الغفلة، ونبهته عن الرجوع إلى الحق بعد التمادي في الباطل، ونودي في سره بأن لا نصير لمن يختار الأسفل، ولا يخرج منه { إلا الذين تابوا } [النساء: 146] وندموا على ما فعلوا، ورجعوا عن تلك المعاملات الردية، { وأصلحوا } [النساء: 146] ما أفسدوا من حسن الاستعداد، وصفاء الروحانية بترك الشهوات النفسانية، والحظوظ الحيوانية، { واعتصموا بالله } [النساء: 146] بحبل الله استعانة على العبودية، { وأخلصوا دينهم لله } [النساء: 146] لله في الطلب لا يطلبون منه إلا هو ثم قال تعالى: من قام بهذه الشرائط { فأولئك مع المؤمنين } [النساء: 146]؛ يعني: في صف أرواحهم خلق روحه لا في صف أرواح الكافرين، { وسوف يؤت الله المؤمنين } [النساء: 146]، التائبين ويتقرب إليهم على قضية
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وقال من أتاني يمشي أتيته هرولة "
، وهذا هو الذي سماه { أجرا عظيما } [النساء: 146] والله أعظم.
ثم أخبر عن كمال فضله وجلال عدله بقوله تعالى: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } [النساء: 147]، والإشارة فيها: إن الله عز وجل يذكر العباد المؤمنين من نعمة السابقة منها: إخراجهم من العدم ببديع فطرته، ومنها : إنه خلق أرواحهم قبل خلق الأشياء، ومنها: إنه خلق أرواحهم نورانية بالنسبة إلى أن خلق أجسادهم ظلمانية، ومنها: إن أرواحهم لما كانت بالنسبة إلى نور القدم ظلمانية رش عليهم من نور القدم، ومنها: لما أخطأ بعض الأرواح ذلك النور وهو أرواح الكفار والمنافقين فقد أصاب أرواح المؤمنين، فيقول: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم } [النساء: 147]، هذه النعمة التي أنعمت بها عليكم من غير استحقاق منكم، فإنكم إن شكرتم هذه النعمة برؤيتها ورؤية المنعم بها فقد آمنتم بي ونجوتم من عذابي وهو ألم الفراق، فإن حقيقة الشكر رؤية المنعم، والشكر على وجوده أبلغ من الشكر على وجود النعم قال:
واشكروا لي
[البقرة: 152]؛ أي: أشكروا لوجودي، { وكان الله } [النساء: 147]، في الأزل { شاكرا } [النساء: 147]؛ لوجوده، ومن شاكرا لوجود أوجد الخلق بجوده، { عليما } [النساء: 147] بمن يشكر وبمن يكفر، فإعطاء جزاء الشاكرين قبل شكرهم؛ لأنه مشكور وأعطى جزاء الكافرين قبل كفرهم؛ لأن الكافر كفور.
ثم أخبر عن محبة المظلوم بقوله تعالى: { لا يحب الله الجهر بالسوء } [النساء: 148]، الإشارة فيها: إن الله تعالى { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } [النساء: 148] من العوام، ولا من التحدث مع النفس من الخواص، ولا من الخطرة التي يخطر بالبال من الأخص من القول، { إلا من ظلم } [النساء: 148] تبعا من دواعي البشرية من غير اختيار وبابتلاء من اضطرار، وأيضا { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } [النساء: 148]، إفشاء بأسرار الربوبية وإظهار المواهب الإلوهية، وأيضا { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } [النساء: 148]، إفشاء بأسرار الربوبية بكشف القناع من مصنوعات الغيب، ومكنونات غيب الغيب، { إلا من ظلم } [النساء: 148] بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس عقار الجمال والجلال فأضطر إلى المقال، فقال باللسان الباقي لا باللساني الفاني: أنا الحق سبحاني، { وكان الله } [النساء: 148] في الأزل { سميعا } [النساء: 148] لمقالهم، { عليما } [النساء: 148] قبل أداء مالهم.
[4.149-151]
ثم قال تعالى: { إن تبدوا خيرا } [النساء: 149]؛ يعني: مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيها للخلق وأفادت بالحق، { أو تخفوه } [النساء: 149] صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب، وفطامها من المشارب، { أو تعفوا عن سوء } [النساء: 149] مما يدعوكم إليه سوى النفس الأمارة، أو تتركوا إعلان ما جعل إظهاره سوء، فإن الله عفو، فتكون عفوا متخلقا بأخلاقه متصفا بصفاته، وأيضا { فإن الله كان } [النساء: 149] في الأزل، { عفوا } [النساء: 149] عنك بأن لم يجعلك من المخذولين حتى صرت عفوا عما سواه، وكان هو { قديرا } [النساء: 149] على خذلانكم حتى لا يقدر على أن يعفوا عن مثقال ذرة لكفرانك،
إن الإنسان لظلوم كفار
[إبراهيم: 34].
ثم أخبر عن لوم الإحسان وكفرانه، وعن كرم الحق وغفرانه بقوله تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله } [النساء: 150]، إشارة فيها: إن الذين يكفرون بالله ورسله ومنها { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } [النساء: 150]، ومنها { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } [النساء: 150]؛ يعني: بين أنهم يؤمنون ببعض من الكتب والرسل ويكفرون ببعض، فيضعون ذنبا ومذهبا يضلون به الخلق عن الصراط المستقيم والدين القويم، فلما ازدادوا كفر وضلالة حتى آل أمرهم في الكفر إلى أن يصنعوا ذنبا في الضلال؛ ليضلوا الناس به عن طريق الحق، وصار كفرهم حقيقيا فسماهم الله في الكفر حقا، وقال تعالى: { أولئك هم الكافرون حقا } [النساء: 151]؛ يعني: الذين أخطأهم النور عند الرشاش على الأرواح، { وأعتدنا للكافرين } [النساء: 151]، في يوم رش النور { عذابا مهينا } [النساء: 151]؛ لحرمانهم عن تلك السعادة إذا كرم المؤمنين بإصابة ذلك النور، وأهين الكافرين بحرمانهم عنهم، وفي الآية دلالة على أن الإيمان لا يتجزأ ولا ينقسم وإن كان يزيد وينقص؛ لأنه لو كان متجزئا لكان من يؤمن بالله وببعض الكتب والرسل جزء من الإيمان، فلما لم يكن لهم من الإيمان شيء علمنا إنه لا يتجزأ ولا ينقسم وإن كان يزيد وينقص فحسب، مثل نور الشمس وضياؤه إذا دخل البيت من كوة فيزيد وينقص بحسب زيادة الكوة ونقصانها، ولكن لا يمكن تجزئتها البتة بحيث يؤخذ جزء منه فيجعل في شيء آخر غير محاذي الشمس، والآية تدل على أن الإيمان لا يحصل بزعم المرء وحسبانه وإنما يحصل بحصول شرائط نتائجه منه.
[4.152-153]
كما أخبر عن الإيمان ونتائجه فقال تعالى: { والذين آمنوا بالله ورسله } [النساء: 152]، فكان من نتائج إيمانهم { ولم يفرقوا بين أحد منهم } [النساء: 152]؛ أي: من رسله، ومن نتائجه القبول من الله والجزاء عليه، كما قال تعالى: { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم } [النساء: 152]، ومن شرائط الإيمان ما قال تعالى: { وكان الله غفورا رحيما } [النساء: 152]، يعني: كان في الأزل غفورا بإصابة النور أرواح المؤمنين، ولولا ذلك لما آمنوا، رحيما بهم بإفاضة النور عليهم.
ثم أخبر عن الكفر ونتائجه بقوله تعالى: { يسألك أهل الكتاب } [النساء: 153]، والإشارة فيها: إن من نتائج كفرهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم { أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى } [النساء: 153] من نتائج كفرهم، { أكبر من ذلك } [النساء: 153] من بعد ما سمعوا كلام الله، { فقالوا أرنا الله جهرة } [النساء: 153]، وما طلبوا الرؤية على وجه التعظيم أو على وجه التصديق، ولا حملهم عليه شدة الشوق أو ألم الفراق كما كان الفراق، كما كان لموسى عليه السلام حين
قال رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]، ولعل ضربة موسى عليه السلام في جواب
لن تراني
[الأعراف: 143]، كانت من شؤم القوم، وما كان في أنفسهم من سوء أدب هذا السؤال؛ لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نيتهم فما اتعظوا بحال نيتهم؛ لأنهم كانوا أشقياء، والسعيد من وعظ بغيره حتى ادركتهم الشقاوة الأزلية، { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } [النساء: 153] بأن طمعوا في فضيلة وكرامة ما كانوا مستحقيها، { ثم } [النساء: 153]، من نتائج كفرهم { اتخذوا العجل } [النساء: 153]، العجل إلها وعبدوه، { من بعد ما جآءتهم البينات فعفونا عن ذلك } [النساء: 153]، ما نفعتهم البينات والمعجزات أيضا من نتائج الكفر، من طبع كافرا ولو يرى الله جهرة فإنه لا يؤمن به، ومن طبع مؤمنا عند رشاش النور بإصابته فإنه يؤمن بنبي لم يره وكتاب لم يقرأه بغير معجزة أو بينة، كما كان الصديق رضي الله عنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت " ، فقال: " صدقت " ولم يتلعثم، وكما كان حال موسى عليه السلام فإنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلام ولا المعجزة فقد آمن به، ثم قال تعالى: { وآتينا موسى سلطانا مبينا } [النساء: 153]؛ وهو ظاهر الآيات التسع، وفي الباطن برهانا من وارد الحق، مظهرا ما تعجز النفس عن تكذيبه، والسلطان المبين الحق الظاهر بحيث لا يحتجب بشيء ولا يحجبه شيء.
[4.154-156]
ثم أخبر عن بقية نتائج الكفر بقوله تعالى: { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } [النساء: 154] والإشارة فيها لأرباب العناية هداية على هداية تكون على أصحاب الجهالة ضلالة على ضلالة قوله تعالى: { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا } [النساء: 154]، كانت آية عظيمة من الآيات التي ابتلي بها بنو إسرائيل، وكان من خذلانهم وشؤم كفرانهم أنهم كلما رأوا آية في الظاهر زادوا جحدهم في الباطن، فلم ينفعهم زيادة نصب الإعلام لما لم ينفتح لشهودها بصائر قلوبهم قال الله تعالى:
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
[يونس: 101]، فكلما ازداد جحودهم زاد بلاؤهم، فازداد ابتلاؤهم فابتلوا بدخول { الباب سجدا } [النساء: 154]، فما خرجوا عن عهدته فزاد البلاء والابتلاء فابتلوا بترك اصطياد الحوت، { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } [النساء: 154]، فاعتدوا فيه فزادهم البلاء والابتلاء فابتلوا بالأخذ، { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } [النساء: 154]، فنقضوا العهد وأرادوا الجحد، فلحقهم شؤم المخالفات بترك الموافقات إلى أن جرهم إلى الكفر بالآيات، ثم بشؤم كفرهم خذلوا حتى قتلوا الأنبياء بغير حق، ثم بشؤم ذلك تجاسروا حتى ادعوا بشدة التفهم، { وقولهم قلوبنا غلف } [النساء: 155]، أدعية العلوم رد الله عليهم فقال: { بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } [النساء: 155]؛ أي: ختم قلوبهم [بسبب] كفرهم وسوء معاملاتهم كما قال تعالى:
بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14] محجوبون على العرفان حتى بالغوا في الخذلان وأوقعوا في البهتان كما قال تعالى: { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } [النساء: 156]، فقوم تقولوا على مريم فرموها بالزنا، وآخرون جاوزوا الحد في تعظيمها فقالوا: ابنها ابن الله، وكلا الطائفتين وقعوا في الضلال.
ويقال: مريم عليها السلام كانت ولية الله، فشقي بها فرقتان أهل الإفراط وأهل التفريط، وكذلك كل ولي سبحانه وتعالى، فمنكرهم شقي بترك احترامهم وطلب أذيتهم، والذين يعتقدون فيهم مالا يستوجبون يشقون بزيادة إعظامهم، وعلى هذه الجملة ورج الأكثرون.
[4.157-159]
ثم بلغوا في الكفر حد المنتهى وغاية القصوى حتى هموا بقتل عيسى عليه السلام روح الله وكلمته العليا، { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا } [النساء: 157]، { بل رفعه الله إليه } [النساء: 158]، وأنعم عليه بالإفاضة مما لديه، { وكان الله عزيزا } [النساء: 158]، اعز من أن يتخذ ولدا مثل عيسى عليه السلام أو غيره،
إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا
[مريم: 93]، { حكيما } [النساء: 158]، يخلق بحكمته ما يشاء، ويختار ويرفع إليه من يشاء، ويجير ولا يجار عليه.
ثم أخبر عن نزول عيسى عليه السلام ليعلم أنه ليس في الموتى بقوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } [النساء: 159]؛ أي: وقت نزوله، والإشارة فيها: إن الله عز وجل لما ذكر من كمال عيسى عليه السلام بقوله: { وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه } [النساء: 157-158]؛ ليعلم قوما من الذين قالوا: المسيح ابن الله إذا سمعوا هذا القول يسبق وهمهم إلى تصديق مقالهم، فالإشارة في قوله: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به } [النساء: 159]، إلى نزول عيسى عليه السلام من السماء وإلى موته؛ ليعلم أنه لو كان ابنا كما زعموا لما نزل إلى الأرض بعدما رفع وما مات؛ وفيه معنى آخر: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } [النساء: 159]، وذلك أن اليهود يؤمنون به بعد نزوله وقتله الدجال، وإظهاره وتقريره دين الإسلام وتقويته المسلمين، ومتابعته النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته خلف المسلمين، وكسره الصليب وقتله الخنزير وأمثال هذا، فيتحقق لهم صدق نبوته بهذه الدلالات وبإظهار العبودية، فيتحقق لهم أنه عبد نبي لو كان ابنا لما كان متابعا لنبي آخر لاستغنائه عنه، { ويوم القيامة يكون عليهم } [النساء: 159] بالإيمان { شهيدا } [النساء: 159].
[4.160-162]
ثم أخبر عن تتمة نتائج كفرهم بقوله: { فبظلم من الذين هادوا } [النساء : 160]، إلى قوله { أجرا عظيما } [النساء: 162]؛ لكنه قال تعالى لهم: { حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } ، وقال تعالى:
ويحل لهم الطيبات
[الأعراف: 157] وقال تعالى:
وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا
[المائدة: 88]، فلم يحرم علينا شيئا بذنوبنا، وكما [عفانا] من تحريم الطيبات في هذه الآية نرجوا أن [يعافينا] في الآخرة من العذاب الأليم؛ لأنه جمع بينهما في الذكر في هذه الآية، وقال أهل الإشارات: ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات، وقال الشيخ رحمه الله الإسراف في ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجات، والإشارة فيهما: إن الظلم من شيمة الإنسان؛ يعني: نفس الإنسان؛ لأنه خلق ظلوما جهولا، فالظالم من يظلم غيره، والظلوم من يظلم نفسه، وإلى هذا أشار بقوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [النساء: 160]؛ يعني: لما ظلموا أنفسهم بنقض الميثاق والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء بغير حق، والكفر بعيسى وتقول البهتان على مريم،
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم
[النساء: 157]، { وبصدهم عن سبيل الله كثيرا } [النساء: 160].
{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل } [النساء: 161] وغير ذلك من المخالفات، حرمنا عليهم بإبطال استعدادهم طيبات من مقام القربات والدرجات والغرفات، { أحلت لهم } [النساء: 160]؛ أي: لأرواحهم الطيبين الظاهرين قبل التلوث بقذر المخالفات، فإن
والطيبات للطيبين
[النور: 26]،
" فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب "
، وإنهم لما أشركوا تنجسوا، فإن المشركين نجس، فحرموا من تلك الطيبات، وصدوا عن سبيل الله وكفروا به، { وأعتدنا للكافرين منهم } [النساء: 161]؛ أي: من الذين ظلموا أنفسهم بهذه المخالفات، { عذابا أليما } [النساء: 161]، بالحرمان عن الدرجات والقربات.
{ لكن الراسخون في العلم منهم } [النساء: 162]؛ أي: من الذين هادوا، والراسخون في العلم؛ هم الذين رسخوا بقدمي الصدق والعمل في العلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية الدينية، كما كان حال عبد الله ابن سلام رضي الله عنه فإنه كان عالما في النورية وقد قرأ فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان راسخا في العلم اتصل علم قراءته بعلم المعرفة، فقال: لما رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت بأنه ليس بوجه كاذب فآمن به، ولما لم يكن للأحبار رسوخ في العلم وإن قرأوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم في النورية فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ما عرفوه فكفروا به، كقوله تعالى: فلما جاءهم { لكن الراسخون في العلم } [النساء: 162] مؤمني أهل الكتاب، ووصفهم بقوله تعالى: { والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } [النساء: 162]، والأجر العظيم هو المسبوق بالعناية الأزلية، وهو ثمرة بذر رشاش النور في بدء الخلقة، وقدر عظيم الأجر لكل واحد على قدر كمالية الثمرة وبلاغتها، فافهم جيدا.
[4.163-165]
ثم أخبر عن إلجائه إلى الأنبياء للحجة على الأمة بقوله تعالى: { إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا } [النساء: 163]، والإشارة فيها: إن إفراد النبي بالذكر في الوحي في قوله: { إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده } [النساء: 163]؛ لاختصاصه بالفضائل من جملتهم، وأما إفراد نوح عليه السلام واشتراكه مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلأنه أول الرسل، والنبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأما إفراد إبراهيم عليه السلام ومن ذكر بعده فلاختصاصهم على غيرهم بالفضيلة، كما قال تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة: 253]؛ ومعناه إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى جميع الأنبياء؛ ولكن خصصناك بالفضائل دونهم، قال صلى الله عليه وسلم:
" فضلت على الأنبياء بست ".
وفيه إشارة أخرى: إنا أوحينا إليك في سر
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، أفردناك عن جميعهم { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل } [النساء: 164]؛ أي: ليلة المعراج فيما أوحى إليك قصص جميع الرسل، { ورسلا لم نقصصهم عليك } [النساء: 164] في القرآن بأسمائهم وأحوالهم مفصلة، { وكلم الله موسى تكليما } [النساء: 164]؛ يعني: كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده أوحينا إليك، وكلمناك كما كلمنا موسى مع اختصاصه بالكلمة عن غيره إلا عنك ؛ فكانوا جميعا { رسلا مبشرين } [النساء: 165] بالجنة ونعيمها، { ومنذرين } [النساء: 165] من النار وجحيمها، فلك اشتراك معهم بهذه البشرى والإنذار في الجنة والنار، وانفرد بالتبشير بالوصول إلى الله والإنذار من الانقطاع عن الله تعالى، كقوله تعالى:
إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا
[الفتح: 8]،
وداعيا إلى الله
[الأحزاب: 46]؛ يعني: لتدعوهم إلى الله بالانقطاع عن غيره للوصلة إليه بالتبشير بالوصول، والإنذار عن الانقطاع، { لئلا يكون للناس } [النساء: 165]؛ أي: للناس { على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165]، المذكورين لهم بالعهود السابقة والنعم السابقة، بأن يقولوا: إنا نسينا تلك العهود التي جرت بيننا يوم الميثاق، فإن الرسل يذكرونهم، كقوله تعالى:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم: 5]، وقال تعالى:
فذكر إنمآ أنت مذكر
[الغاشية: 21]، وأيضا { لئلا يكون للناس على الله حجة } [النساء: 165] في الانقطاع عن الله، وعن عبوديته بأن يقولوا: كنا مشتاقين إلى لقائك ومحتاجين إلى نعمائك، ولكن لم يكن لنا دليل يدلنا إليك وبيانا عما لديك يبشرنا بك وبما عندك ويطعمنا بالوصول إليك وبما عندك، وينذرنا ويخوفنا عن الانقطاع عنك والحرمان عما عندك، فإن من طبيعة الإنسان
يدعون ربهم خوفا وطمعا
[السجدة: 16]، فبعث الرسل مبشرين به مطمعين فيما لديه، ومنذرين عن الانقطاع، مخوفين بما أعد لهم من العذاب { وكان الله عزيزا } [النساء: 165]، فيما يعز أوليائه بالوصول، ويتعذر عن إعطائه بالانتقام والانقطاع، { حكيما } [النساء: 165]، فيما يحكم على الأولياء والأعداء بحكمته كيف يشاء، وفيما بعث الأنبياء والرسل شرفا لهم في البعثة، وسعادة للخلق في بعثهم عموما.
[4.166-170]
{ لكن الله يشهد } [النساء: 166] لك خاصة، { بمآ أنزل إليك } [النساء: 166]، فيما أوحى إليك، ما أوحى سرا بسر وإضمار بإضمار، ثم بين بقوله تعالى: { أنزله بعلمه } [النساء: 166]؛ يعني: إنه أنزل إليك القرآن وأنزل في القرآن بعلمه القديم الذي هو غير متناه، وذلك أنه تعالى تجلى له بالصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون، فافهم جيدا.
{ والملائكة يشهدون } [النساء: 166] على تلك الخلة لك مع الله وإن لم يسبقوك فيها؛ لأنك قد عبرت عليهم بالعروج عند الدخول والخروج، وإن لم يشاهدوا تلك الأحوال ولم يشاهدوا على تلك الأسرار، { وكفى بالله شهيدا } [النساء: 166] عليها جرى فجرى ما جرى عند الانبساط علي [بقاب قوسين] أو أدنى
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10].
ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
قد كان ما كان سر إلا أبوح به
ثم أخبر عن المحرومين عن هذه القضية والمهمومين بهذه القصة بقوله تعالى: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } [النساء: 167]، إلى قوله: { يسيرا } [النساء: 169]، والإشارة فيهما: إن الذين كفروا ستروا الحق إنما ستروا اليوم الحق؛ لأن أرواحهم بقيت مستورة في ظلمة الخلقية عند رشاش النور الربانية، وما أصابهم ذلك النور وإنما صدوا عن سبيل الله؛ لأن نور الله صد عنهم، فانسد عليهم سبيل الله، { قد ضلوا } [النساء: 167] ذلك اليوم عن سبيل الله، { ضللا بعيدا } [النساء: 167] من ذلك اليوم لا إقبالا قريبا من هذا اليوم؛ لأن الضلال اليوم من نتائج ذلك الضلال من ذلك اليوم، وفيه إشارة أخرى وهي: إن الذين كفروا وإن كانوا قد صدوا عن سبيل الله بكفرهم لا ريب في أنهم ضلوا ضلالا بعيدا عن الهداية، ولكن يحتمل أن يكون هذا الكفر والصد فيهم عارية، والعارية مردودة فيكمن أنهم في مناسبة ما وقعوا في هذا الكفر، أو بالتقليد أخذوا من آبائهم، وما أخطأهم ذلك النور عند الرشاش، ويرجعون إلى الحق ويؤمنون به كما آمن كثير منهم، ويغفر الله لهم ويهديهم طريق الحق، { إن الذين كفروا وظلموا } [النساء: 168] على أنفسهم بأنواع المعاملات التي تفسد استعدادهم الأصلي وتبطل صفاء أرواحهم بالكل، { لم يكن الله ليغفر لهم } [النساء: 168] حين رش على الأرواح نور مغفرته، { ولا ليهديهم } [النساء: 168] اليوم، { طريقا } [النساء: 168] إلى الحق والقربة، { إلا طريق جهنم } [النساء: 169]، الفرقة والقطيعة بإتباع الهوى وحب الدنيا، { خالدين فيهآ أبدا وكان ذلك على الله يسيرا } [النساء: 169]، إذ لم يكن فيه ذرة من ذلك النور فيخرجون به من النار، كما قال: صلى الله عليه وسلم
" يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "
، وكان ذلك السبب الذي أخلدهم في النار.
ثم أخبر عن صورة ذلك النور في هذا العالم ورشاشته على العالمين بقوله تعالى: { يأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم } [النساء: 170]، والإشارة أن الله تعالى جعل ابتداء إصابة النور المرشش على الأرواح بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعبر عن هذا السر بقوله صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله نوري "
، وكان صلى الله عليه وسلم أكملهم نورا فشرح الله صدره بذلك النور، فعلى واستعلى النور بإمداد أنوار الوحي حتى أحاط بجميع أجزائه ظاهره وباطنه، فجعله بالكل نورا كما كان يدعوا الله ويقول:
" اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا واجعلني نورا "
، فلما جعله نورا أرسله إلى الخلق فصار صلى الله عليه وسلم صورة ذلك النور الغيبي المرشوش على الأرواح فهو النور المرسل إلى الأجساد، فمن كان قابلا لإفاضة نور دعوته فقد اهتدى، ومن أخطأه فقد ضل، والذي يدل على هذا التأويل قوله تعالى:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15] فالنور هو محمد صلى الله عليه وسلم
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
[المائدة: 16]، والسلام هو الله تعالى، { فآمنوا } [النساء: 170] بمحمد صلى الله عليه وسلم اليوم يكن { خيرا لكم } [النساء: 170] من إصابة ذلك النور المرشش، وأنتم على دين غير دينه؛ لأن بالإيمان يتصل ذلك النور الغيبي بهذا الشاهد المستفاد من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون
نور على نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35]؛ يعني: إن كان الأنبياء يدلون من الأمم من كان إصابة النور المرشش إلى دار السلام، وهو في متابعتهم يصلون إلى دار السلام، فإن من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وتابعه يصل إلى السلام؛ لأن نوره الغيبي أيد بالنور الشاهدي، فصار أجره كفلين بكفل من أجره ووصل إلى الجنة، وبكفل آخر وصل إلى الله، والذي يدل على هذا قوله تعالى:
يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته
[الحديد: 28]؛ يعني: من آمن من أهل الكتاب اتقوا الله في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا برسوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم
يؤتكم كفلين من رحمته
[الحديد: 28]؛ يعني: من النور الذي انعم به عليكم مما أصابكم عند الرشاش حتى آمنتم بأنبيائكم به، كفلا من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تصلوا به إلى الله تعالى { وإن تكفروا } [النساء: 170]؛ يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم وتؤمنوا بجميع الأنبياء فلا ينفعكم إيمانكم، وتضرون أنفسكم وفي قوله تعالى: - { فإن لله ما في السموت والأرض } [النساء: 170]، عقيب قوله { وإن تكفروا } [النساء: 170]، إشارة إلى: إن ما في السماوات والأرض يكون لكم أن تؤمنوا وفي ميزانكم؛ لأنكم بنور الإيمان تشاهدون الآيات الدالة على الوحدانية، كما قيل ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، { وإن تكفروا } [النساء: 170]، فلم يكن ما في السماوات والأرض لكم ويكون لله وعليكم، فافهم جيدا.
{ وكان الله عليما } [النساء: 170]، بأحوال من يصيبه ذلك النور فيؤمن، ومن لم يصبه فيكفر، { حكيما } [النساء: 170]، فيما دبر عند رشاش ذلك النور وأصاب أرواح مؤمني أهل الكتاب على قدر أن يكون لهم كفلا من الرحمة، وأصاب أرواح المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بمقدار ما يكون له كفلين من الرحمة؛ لأنه كان صورة ذلك النور وصورة الرحمة المهداة إلى الخلق بقوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107].
[4.171-172]
ثم أخبر عن أهل الغلو وهم أهل السلو بقوله تعالى: { يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } [النساء: 171]، الإشارة أن الغلو والمبالغة في الدين والمذهب حتى يجاوز حدا غير مرض، كما أن كثير من هذه الأمة غلوا في مذهبهم، فمن ذلك مذهب الغلاة من الشيعة على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه حتى ادعوا بإلهيته فقال: الشاعر فيهم:
قوم غلوا في علي لا أبالهم
واجتثموا أنفا في عبده نصبا
قالوا هل الله جل خالقنا
عن أن يكون بشيء أو يكون أبا
وكذلك المعتزلة غلوا في التنزيه حتى نفوا صفات الله، وكذلك المشبهة غلوا حتى في إثبات الصفات حتى جسموه،
وتعالى عما يقولون علوا كبيرا
[الإسراء: 43] ولدفع الغلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم "
، فقال تعالى: { يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } [النساء: 171]، وذلك لأن الغلو من العصبية وهي من صفات النفس المذمومة، والنفس هي أمارة بالسوء ولا تأمر إلا بالباطل، والإشارة في قوله تعالى: { لا تغلوا في دينكم } [النساء: 171]، إلى ألا تتكلموا في الدين بأمر النفس؛ لأنها لا تأمركم بالقول الحق، { ولا تقولوا على الله } [النساء: 171] إلا بأمر القلب، فإنه يأمركم بالقول الحق، لأنه بين أصبعين من أصابع الرحمن، فلا يأمر إلا بالقول الحق، { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } [النساء: 171] لا ابن الله وهذا هو القول الحق، وكذلك ما قاله عيسى عليه السلام:
إني عبد الله
[مريم: 30]، وفي قوله تعالى: { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [النساء: 171]، إشارة إلى أن عيسى عليه السلام كان يكلمه الله تعالى، وهي قوله:
كن فيكون
[آل عمران: 59]، بكلمته من غير واسطة أب، فإن تكوين الخلق كلمة بكلمة كن، ولكن بالوسائط بأن يتعلق كن بتكوين الأبناء، فلما كان تعلق أمر كن بعيسى عليه السلام في رحم مريم من غير تعلقه بتكوين أب له فتكون عيسى عليه السلام بأمر كن وكن هي كلمة الله، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: { وكلمته ألقاها إلى مريم } [النساء: 171]، يدل عليه قوله تعالى:
إن مثل عيسى عند الله
[آل عمران: 59]؛ يعني: في التكوين،
كمثل ءادم خلقه من تراب
[آل عمران: 59]؛ يعني: سوى جسمه من تراب، ثم قال له؛ يعني: عند بعث روحه إلى القلب
كن فيكون
[آل عمران: 59]، وإنما ضرب مثله بآدم في التكوين؛ لأنه أيضا تكون بكلمة من غير واسطة أب، وشرف الروح على الأشياء بأنه أيضا تكون بأمر كن بلا واسطة شيء آخر، فلما تكون بأمر كن يكون كن سمي روح منه؛ لأن الأمر منه كما قال تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء: 85]، وكما أن إحياء الأجسام الميتة من شأن الروح إذ ينفخ فيها، فكذلك كان عيسى عليه السلام من شأنه إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص بإذن الله، وكذلك ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله.
ثم اعلم أن هذا الاستعداد الروحانية الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان وخلق منه؛ أي: من الأمر، وإنما أظهره الله تعالى في عيسى عليه السلام من غير تكلف منه في السعي لاستخراج هذا الجوهر من معدنه؛ لأن روحه لم تركض أصلاب الآباء وأرحام الأمهات كأرواحنا، فكان جوهره ظاهرا في معدن جسمه غير مخفي فيه ببشرية أب، وجوهرنا مخفي في معدن جسمنا ببشرية آبائنا إلى آدم عليه السلام، فمن ظهور أنوار جوهر روحه كان الله تعالى يظهر عليه أنواع المعجزات في بدء طفوليته، ونحن نحتاج في استخراج الجوهر الروحاني عن المعدن الجسماني إلى نعل صفات البشرية المتولدة من بشرية الآباء والأمهات من سعادتنا بأوامر الاستاذ هذه الصفة ونواهيه هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7]، فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته وإنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله بأنفاسه القلوب الميتة، ويفتح به آذانا صما، وعيونا عميا، فيكون في قومه كالنبي في أمته، فافهم جيدا.
ثم قال تعالى: { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم } [النساء: 171]؛ يعني: إن أردتم التوحيد الحقيقي فآمنوا بالله الذي خلقكم، وجعل بشريتكم معدن جوهر روحانيتكم، وجعل روحانيتكم معدن جوهر وحدانيته، فبنور وحدانيته يتحقق لكم أن { ولا تقولوا ثلاثة } [النساء: 171]؛ يعني: نفوسكم والرسول والله تعالى، فتنتهوا بنظر الوحدة عن رؤيته الثلاثة فيكشف لكم { إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } [النساء: 171]؛ أي: إن يتولد من وحدانيته شيء { له ما في السموت وما في الأرض } [النساء: 171]، إيجادا واقتدارا، وبه ظهر ما ظهر ومنه صدر ما صدر، وليس لشيء وجود حقيقي، وله الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا، أو ظاهرا وباطنا،
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]؛ وهو الوكيل لكل هالك ، { وكفى بالله وكيلا } [النساء: 171].
ثم أخبر عمن يتفاخر بربوبيته وعمن يستنكف عن عبوديته بقوله تعالى: { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } [النساء: 172]، إلى قوله:
وليا ولا نصيرا
[النساء: 173]، والإشارة فيهما: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله؛ لأن العبدية كانت من شأنه في رضاعه، وإن نطق بها قبل أوان نطقه بقوله:
إني عبد الله
[مريم: 30]، و " عادة ترضعت برحها تنزعت " ، وكيف يستنكف عن عبوديته وقد أثر عليه آثار ربوبيته بإحياء الموتى، وإبراء الزمني قال تعالى: { ولا الملائكة المقربون } [النساء: 172]، ما ذكرهم للفضيلة على عيسى عليه السلام وإنما ذكر ذكرهم لأن بعض الكفار قالوا بنات الله، كما قالت النصارى المسيح ابن الله، كما قال تعالى:
ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى
[النجم: 21-22]، بل فضل الله تعالى المسيح عليه السلام عليهم بتقديم الذكر؛ لأن المسيح نسب إليه بالنبوة ونسبت الملائكة إليه بالبنتية، وللذكر فضيلة وتقدم على الإناث كقوله تعالى:
فللذكر مثل حظ الأنثيين
[النساء: 176]، فقدم الذكر على الأنثى وجعل له سهمين وللأنثى واحدا، فكما أن للذكر فضيلة على الأنثى، فكذلك للمسيح فضل على الملائكة، وفضيلته على الملائكة أكثر وأعظم، يدل عليه ما صح عن جابر عن عبد الله رضي الله عنه أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، قال الله تبارك وتعالى:
" لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فيكون ".
قال الشيخ المصنف - رحمه الله - وهذا من فضيلة عيسى عليه السلام، فافهم جيدا.
ثم قال تعالى: { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } [النساء: 172]، الإشارة: إن المستنكف والمستكبر والمؤمن والولي والنبي محشرهم ومرجعهم إليه جميعا، كما صرح به بقوله تعالى:
ثم إلي مرجعكم
[لقمان: 15]، وقال تعالى:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق: 8]، فالولي مرجعه إلى لطف الله ورحمته، والعدو مرجعه إلى قهر الله وعقوبته، وصورتهما الجنة والنار.
[4.173-175]
كما أخبر بقوله تعالى: { فأما الذين آمنوا } [النساء: 173] بالعبودية، { وعملوا الصالحات } [النساء: 173] للتقرب إلى حضرة الربوبية، { فيوفيهم أجورهم } [النساء: 173] بجذبات العناية، { ويزيدهم من فضله } [النساء: 173] بتجلي صفات الإلوهية، { وأما الذين استنكفوا } [النساء: 173]، عن أقسام الناسوتية، { واستكبروا } [النساء: 173] عن الانمحاء للاهوتية، { فيعذبهم عذابا أليما } [النساء: 173] في دركات من الحرمان عن الحضرة الربانية، { ولا يجدون لهم من دون الله } [النساء: 173] اليوم وليا؛ ليخرجهم من الأنانية إلى نور الربوبية، ومن الحرمان عن الحضرة الربانية، { وليا ولا نصيرا } [النساء: 173] ينصرهم على قمع النفس والهوى للوصول إلى المولى.
ثم أخبر عن نصرة وليه ببعثة نبيه بقوله تعالى: { يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم } [النساء: 174]، إلى قوله: { مستقيما } [النساء: 175]، والإشارة فيهما: إن الله تعالى أعطى لكل نبي آية وبرهانا ليقيم به الحجة على الأمة، وجعل نفس النبي صلى الله عليه وسلم برهانا منه وقال: { يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم } [النساء: 174] وذلك؛ لأن برهان الأنبياء عليهم السلام كان في الأشياء الخارجة عن أنفسهم، مثل ما كان برهان موسى عليه السلام في عصاه في الحجر التي
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا
[البقرة: 60] وكان نفس النبي صلى الله عليه وسلم برهانا بالكلية، وكان برهان عينه ما قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تسبقوني بالركوع والسجود فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي "
، وبرهان بصره:
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 17]، وبرهان أنفه: إنه قال صلى الله عليه وسلم:
" إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن "
، وبرهان بصاقه: قال جابر رضي الله عنه أمرنا صلى الله عليه وسلم يوم الخندق:
" لا تخبزن عجينكم ولا تنزلن برمتكم حتى أجيء فجاء فبصق في العجين وبارك فأقسم بالله أنهم لأكلوا وهم ألف حتى تركوه وانصرفوا "
، وإن برمتنا لتغط؛ أي: تغلي وإن عجيننا ليخبز كما هو، وبرهان تفله: إنه تفل في عين علي رضي الله عنه وهي ترمد فبريء بإذن الله تعالى يوم خيبر، وبرهان يده: ما قال الله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]، وإنه سبح الحصى في يده، وبرهان أصبعيه : إنه أشار بأصابعه إلى القمر فانشق فلقتين حتى رؤى حراء بينهما، وبرهان بين أصابعه: إنه كان الماء ينبع من بين أصابعه حتى شرب منه ورفعه خلق عظيم، وبرهان صدره: إنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل، وبرهان قلبه: إنه تنام عينه ولا ينام قلبه، وقال تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11]، وقال تعالى:
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح: 1]، وقال تعالى:
نزل به الروح الأمين * على قلبك
[الشعراء: 193-194]، وأمثال هذه البراهين كثيرة، فمن أعظمها أنه عرج إلى السماء حتى جاوز قاب قوسين وابلغ أو أدنى وذلك برهان لنفسه بالكلية، وما أعطى نبي قط وكان بعد أن أوحى إليه ما أوحى أفصح العرب والعجم وكان من قبل أميا لا يدري ما الكتاب والإيمان، فأي برهان أقوى من هذا وأوضح وأظهر، وأن الله تعالى أكرم هذه الأمة به ومن عليهم به فقال: { قد جآءكم برهان من ربكم } [النساء: 174]، { وأنزلنآ إليكم } [النساء: 174]؛ يعني: مع هذا البرهان الواضح { نورا مبينا } [النساء: 174]؛ وهو القرآن سماه نورا؛ لأنه من صفاته القديم الذي به يهتدي إلى الصراط المستقيم؛ وهو صراط الله العظيم وكلمته التي بنورها اهتدى الأشياء من العدم إلى الوجود كما يهتدي بالنور، يدل عليه سياق الآية { فأما الذين آمنوا بالله } [النساء: 175] إيمانا حقيقيا بنور الله لا بالتقليد، { واعتصموا به } [النساء: 175]؛ أي: وتخلقوا بخلق القرآن فهو الاعتصام به على التحقيق { فسيدخلهم في رحمة منه } [النساء: 175]؛ يعني: بجذبات العناية يدخلهم في عالم الصفات، فإن رحمته صفته { وفضل } [النساء: 175]؛ أي: في فضل إذ هو أيضا صفته لأنه ذو الفضل العظيم، { ويهديهم } [النساء: 175]؛ يعني: بنور القرآن وحقيقة التخلق بخلقه، { إليه } [النساء: 175]؛ أي: إلى الله { صراطا مستقيما } [النساء: 175]؛ وهو في الحقيقة صراط أنزل به القرآن فبالاعتصام به يصعد السالك بهذا الصراط المستقيم إلى حضرة الله الحليم الكريم، فافهم جيدا.
[4.176]
ثم أخبر عن الاستفتاء عن أهل البقاء بعد الإخبار عن أهل الفناء بقوله تعالى: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم } [النساء: 176]، والإشارة: إن الله تعالى لم يكل بيان قسم التركات إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه تعالى وكل بيان أركان الإسلام من الشهادة والصلاة والزكاة والحج إليه صلى الله عليه وسلم وأحكام الشريعة
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7]، وولاه ببيان القرآن العظيم، وقال:
لتبين للناس ما نزل إليهم
[النحل: 44]، وتولى قسم التركات بنفسه جل جلاله كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل "
، حتى تولى قسم التركات وأعطي كل ذي حق حقه، إلا فلا وصية للوارث، وأنتم لم توله قسم التركات؛ لأن الدنيا مزينة للناس، والمال محبب إلى الطباع، وجبلت النفوس على الشح، فلو لم ينص الله على مقادير الاستحقاق وكان القسم موكولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعل الشيطان أوقع في بعض النفوس كراهة عن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فيكون كفرا، كقوله: صلى الله عليه وسلم
" لا يكون بعدكم مؤمنا حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين "
كما
" أوقع في نفوس بعض شبان الأنصار يوم حنين أفاد الله ورسوله أموال هو أذن وصفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجلا من قريش المائة من الإبل كل رجل منهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تفطر من دمائهم قال أنس رضي الله عنه فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من آدم ولم يدع أحدا من غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما حديث بلغني عنكم كذا وكذا الذي " قالوا: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أعطى رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحلكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ". قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا - صلى الله عليه وآله وسلم - "
فأزال ما وقع الشيطان في نفوسهم بهذه اللطائف، فلو كان قسم التركات إليه لكان كلهم للشيطان إلى آخر الدنيا، أن يوقع الشر في نفوس الأمة ولم يمكن إزالته عن النفوس لتعذر الوصول إلى الخلق في حال الحياة وبعد الوفاة، فتولى تعالى ذلك؛ لأنه
بكل شيء عليم
[التغابن: 11]، ولعباده غفور رحيم، فختم تلك الجملة بما نص على المقادير في الميراث فضلا منه وقطعا لمواد الخصومات بين ذوي الأرحام، ورحمة على النسوان في التوريث لضعفهن وعجزهن على الكسب، وإظهار التفضيل للذكور عليهن في دينهن وتبيانا للمؤمنين؛ لئلا يضلوا بظن السوء بالنبي صلى الله عليه وسلم { يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم } [النساء: 176].
[5 - سورة المائدة]
[5.1-2]
{ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [المائدة: 1]، والإشارة أن سماع اسم: " الله " فهو اسم ذات الألوهية يوجب الهيبة والعظمة والفناء والغيبة من شأنهما، وسماع: " الرحمن الرحيم " ، وهما من صفات لطفه يوجب الحضور والأوبة، ومن شأنهما البقاء والقربة، فمن أسمعه: بسم الله غيبه في كشف جلاله، ومن أسمعه: " الرحمن الرحيم "؛ غشيه بلطف أفضاله، ثم خاطبهم بخطاب الأولياء وعاتبهم عتاب الأحباء، فقال: { يأيها الذين آمنوا } أي بالتوحيد عند امتحان
ألست بربكم
[الأعراف: 172]؛ إذ
قالوا بلى
[الأعراف: 172] { أوفوا بالعقود } [المائدة: 1] التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق، وهذه عهود أهل الوفاق والنفاق أوفوا بالعهود أيها العشاق وعهود قبل وجودهم وإشهادهم وبشهودهم وعقودهم على بذل وجودهم لنيل مقصودهم عاقدوا على عهدهم، يحبهم ويحبونه ولا يحبون معه دونه، فالوفاء بالعهد الصبر على الجفاء والحمد فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده.
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } [المائدة: 1] أي: ذبح بهيمة النفس التي هي كالأنعام في طلب المرام، { إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 1] يعني: أيتها النفس المطمئنة التي تليت عليها:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، فإنها تنفرت من الدنيا وما فيها فإنها كالضيف في الحرم وأنتم حرم بالتوجه إلى كعبة الوصال بإحرام الشوق إلى حضرة الجمال، والجمال متجردين من كل مرغوب ومربوب متفردين من كل محبوب ومطلوب.
{ إن الله يحكم } [المائدة: 1] بذبح النفس إذا كانت موصوفة بصفة البهيمية ترتع في مراتع الحيوان السفلية، ويحكم بترك ذبحها ويخاطبها بالرجوع إلى حضرة الربوبية عند اطمئنانها مع الحق واتصافها بالصفات العلوية لمن يريد { ما يريد } [المائدة: 1].
ثم أخبر أن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله } [المائدة: 2]، والإشارة مع سلاطين الدين وملوك السلوك الذين خرجوا عن أوطان الأوطان وسافروا عن ديار الأغيار وسلكوا بوادي الشهوات، وعبروا عن منازل المهلكات، وتجردوا عن حظوظ الدنيا، وتفردوا لحقوق العقبى وأحرموا لطواف كعبة المولى، فقال: يا أيها الذين آمنوا بشهود القلوب لقصد زيارة المحبوب لا تحلوا شعائر الله مناسك الوصول إلى الله تعالى، فهي معالم الدين والشريعة وآداب الطريقة بإشارة أرباب الحقيقة فإنهم أولى بهذا الطريق وحضراء هذا الفريق.
{ ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } [المائدة: 2]، إشارة إلى تعظيم عظمة الله تعالى من الزمان والمكان والإخوان، { ولا آمين البيت الحرام } [المائدة: 2]، وهم القاصدون إلى الله تعالى، الصادقون في طلب الله، عليكم بالرفق في مرافقتهم والتزام الصدق في موافقتهم، { يبتغون } [المائدة: 2] الوصول، { فضلا من ربهم ورضوانا } [المائدة: 2]، رافقوهم وكونوا إخوانا، أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا من مكر الأعداء الخبيثة، { وإذا حللتم } [المائدة: 2]، لإتمام الحج وقضاء مناسك الوصول، { فاصطادوا } [المائدة: 2]، أرباب الطلب بشبكة الدعوى إلى الله تعالى.
{ ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام } [المائدة: 2]، يعني: لا يحملنكم حسد الحساد وقصد القضاء والذين يريدون أن يصدوكم عن الحق ويمنعوكم بالحسد عن دعوة الحق { أن تعتدوا } [المائدة: 2]، على الطالبين الصادقين بالبعد عنهم وردهم عن الإرادة فتكونوا قطاع الطريق في طلب الحق.
{ وتعاونوا على البر } [المائدة: 2]، وهو التفرد للحق بما شرح الله تعالى صدره؛
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأسآء والضرآء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
[البقرة: 177].
{ والتقوى } [المائدة: 2]، وهو الخروج عما سوى الله؛ فإن الوصول لا يمكن إلا بها، ولهذا قال من قال: خطوتان وقد وصلت ولا يمكن للمريد الصادق أن يتحلى بهاتين الخطوتين إلا بمعاونة شيخ كامل مكتمل واصل موصل.
{ ولا تعاونوا على الإثم } [المائدة: 2]، بالتهاون في دعوة العوام وتربية الخواص من الطلبة، { والعدوان } [المائدة: 2]، بأن تكلوهم إلى أنفسهم في إضاعة بضاعتهم وإفساد استعدادهم، { واتقوا الله } [المائدة: 2]، في القيام بحقوق التعظيم لأمر الله ورعاية حقوق الشفعة على خلق الله، { إن الله شديد العقاب } [المائدة: 2]، لمن يعاقبه بالخذلان ويعاقبه بالهجران.
[5.3-4]
ثم أخبر عن الحرام علي الخواص والعوام بقوله تعالى: { حرمت عليكم الميتة والدم } [المائدة: 3]، والإشارة أن ظاهرها كما كان خطابا لأهل الدنيا والآخرة فباطنها عتاب لأهل الله وخاصته حرمت عليكم يا أهل الحق الميتة فهي الدنيا بأسرها، { ولحم الخنزير } [المائدة: 3]، يعني: حلالها وحرامها قليلها وكثيرها وذلك لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام، والدم بالنسبة إلى اللحم قليل واللحم بالنسبة إلى الدم كثير.
{ ومآ أهل لغير الله به } [المائدة: 3]، يعني: كل طاعة وعبادة وقراءة ودراسة ورواية يظهرون به لغير الله، { والمنخنقة والموقوذة } [المائدة: 3]، يعني: الذين يخنقون نفوسهم بالمجاهدات ويقذونها بأنواع الرياضات نبهها عن المرادات وزجرها عن المخالفات للرياء والسمعة، { والمتردية والنطيحة } [المائدة: 3]، الذين يتردون بنفوسهم من أعلى عليين إلى أسفل السافلين بالتناطح مع الأقران، والمماراة مع الإخوان، والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان.
وفي قوله: { ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم } [المائدة: 3]، إشارة إلى أن فيما يحتاجون إليه من القوة الضرورية كونوا محترزين من أكلة السباع وهم الظلمة الذين يتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب، ويتجاذبون بمخالب الأطماع الفاسدة، { إلا ما ذكيتم } بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال.
{ وما ذبح على النصب } [المائدة: 3]، فيه يشير إلى ما تذبح عليه النفوس بأنواع الحد والاجتهاد من المطالب الدنيوية والأخروية، { وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق } [المائدة: 3]، يعني: أن تكونوا مترددين نقالين في طلب المرام متقين بحصول المقصود، متهاونين في بذل الوجود فإذا انتهيتم عن هذه الدواعي وأخلصتم لله في الله وخرجتم عن سجن الأنانية وسجن الإنسانية بجذبات الربانية؛ فقد عاد ليلكم نهارا وظلمتكم أنوارا.
{ اليوم يئس الذين كفروا } [المائدة: 3]، من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها، { من دينكم } [المائدة: 3]، وتيقنوا أن ما بقي لكم الرجوع إلى ملتهم والصلاة إلى قبلتهم، { فلا تخشوهم } [المائدة: 3]، فإنكم خلصتم من شبكة مكائدهم ونجوتم من عقد مصائدهم، { واخشون } [المائدة: 3]، أي: فإن كيدي متين وصيدي مبين وبطشي شديد، وحسبي مديد، ثم أخبر عن إكمال الدين وإجلال أهل اليقين بقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3]، والإشارة أن اليوم إشارة إلى الأزل، { أكملت لكم دينكم } أي: جعلت الكمالية الآن بإظهار رؤيتكم على الأديان كلها في الظاهر وأنا في الحقيقة، وسيجيء شرحه إن شاء الله.
{ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا } [المائدة: 3]، تستكملون به إلى الأبد بحيث من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وذلك لأن حقيقة الدين الذي هو سلوك سبيل الله عز وجل بعدم الخروج عن الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي، وأن الإنسان مخصوص به من سائر الموجودات، ولهذا الآية اختصاص بالكمالية في السلوك من سائر الأمم خالدين في عهد آدم عليه السلام كان من التكامل بسلوك الأنبياء عليه سبيل الحق إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكل نبي سلك في الدين مسلكا أنزله بقربة من مقامات القرب؛ لكن بإخراج أحد منهم بالكلية عن الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي بالكمال فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام: 90]، فسلك النبي صلى الله عليه وسلم جميع المسالك التي سلكها الأنبياء عليهم السلام أجمعين فلم يتحقق له الخروج أيضا بقدم السلوك عن الوجود المجازي بالكلي حتى تداركته العناية الأزلية لاختصاصه بالمحبوب، وبجذبات الربوبية أخرجه من الوجود المجازي ليلة أسرى بعبده وأعطاه ما تميز به عن الأنبياء كلهم وبلغ في القرب إلى الكمالية في الدنو وهو سر أو أدنى فاستسعد بسعادة الوصول إلى الوجود الحقيقي في سر فأوحى إلى عبده ما أوحى.
وفي الحقيقة قيل له في تلك الحالة { أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [المائدة: 3]، ولكن في حجة الوداع يوم عرفة عند وقوفه بعرفات أظهر على الأمة عند إظهاره على الأديان كلها وظهور كمالية الدين نزول الفرائض والأحكام بالتمام فقال: { أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا } [المائدة: 3].
ويدل على هذا التأويل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مثلي ومثل الأنبياء من قبل كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون حولها ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هذه اللبنة، فتم بناؤها، فقال محمد: صلى الله عليه وسلم فأنا اللبنة "
، متفق على صحته.
فصح ما قررناه من مقامات الأنبياء - عليهم السلام - تكامل الدين بهم وكماله بالنبي صلى الله عليه وسلم بخروجه عن الوجود المجازي بالكلية وأن الأنبياء لم يخرجوا عنه بالكلية.
ويدل على هذا المعنى أيضا أن الأنبياء كلهم يوم القيامة يقولون: نفسي نفسي لبقية الوجود، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أمتي أمتي "
؛ لفناء الوجود، فافهم جيدا.
ومن كرامة هذه الأمة لشركهم في كمالية الدين مع النبي صلى الله عليه وسلم فخوطبوا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: { أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3]، ليعلم أن الكمالية فيه مشتركة بينهم لا يتهاونون في طلبها، وقال: { وأتممت عليكم نعمتي } [المائدة: 3]، وهي أسباب تحصيل الكمال ومعظمها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: { ورضيت لكم الإسلم دينا } [المائدة: 3]، وهو استسلام الوجود المجازي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى خلفائه بعده ليطرح عليه إكسير المتابعة فيبذل الوجود المجازي المجيء بالوجود الحقيقي المحبوبي، كما قال تعالى:
إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم
[آل عمران: 31]، يعني: ويغفر الوجود الحقيقي ذنوب الوجود المجازي، فافهم جيدا وانتبه.
ثم قال تعالى: { فمن اضطر في مخمصة } [المائدة: 3]، فمن ابتلي بالالتفات إلى شيء من الدنيا والآخرة مضطرا إليه فهو في غاية الابتلاء وكثير التربية، { غير متجانف لإثم } [المائدة: 3]، غير قابل إليه بالإعراض عن الحق؛ ولكن فترة تقع للصادقين أو وقفة تكون للسالكين ثم يتداركون بصدق الالتجاء إلى الحق وأرواح المشايخ والاستغاثة بهم وطلب الاستغفار عن ولاية النبوة وإعانته، { فإن الله غفور } [المائدة: 3]، لما ابتلاهم به، { رحيم } [المائدة: 3]، بهم بأن يهديهم إلى الصراط المستقيم بإفاضة الدين القويم.
ثم أخبر عما أحل من الطيبات ومن المحصنات المؤمنات بقوله تعالى: { يسألونك ماذآ أحل لهم } [المائدة: 4]، والإشارة أن أرباب الطلب وأصحاب السلوك يسألونك ماذا أحل لهم؛ إذ حرم عليهم الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا "
، وهما حرمان على أهل الآخرة، { قل أحل لكم الطيبات } [المائدة: 4]، وهي ما لا يقطع عليكم طريق الوصول إلى الله تعالى، فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب فكل مأكول ومشروب وملبوس ومقول ومفعول ومعمول طلبتموه بحظ من الحظوظ فقد لونتموه بلون دواعي الوجود فهو من الخبيثات لا يصلح إلا للخبيثين وما طلبتموه بالحق للقيام بأداء الحقوق مطيبا بنفحات الشهود فهو من الطيب لا يصلح إلا للطيبين.
{ وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } [المائدة: 4]، يشير إلى النفوس المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريق المنورة بأنوار علوم الحقيقة التي تكشف لأسرار الصديقين بتجلي صفات العالمية وهي العلوم اللدنية التي يعلمها الله أخص الخواص من عباده كما قال تعالى:
وعلمناه من لدنا علما
[الكهف: 65].
{ فكلوا ممآ أمسكن عليكم } [المائدة: 4]، يشير إلى تناول ما اصطاد نفوس المطمئنة من عالمي الغيب والشهادة بالأمر لا بالطبع فما أمسكن بالقيام للحقوق لا عليهن للقيام بالحفوظ، { واذكروا اسم الله عليه } [المائدة: 4]، يعني: واذكروا عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية اسم الله عليه ولا تتصرفوا فيه إلا لله بالله في الله، { واتقوا الله } [المائدة: 4]، أي: اتقوا به عما سواه: { إن الله سريع الحساب } [المائدة: 4]، يحاسب العباد على أعمالهم قبل أن يفرغوا منها ويجازيهم في المال بالإحسان إحسان القربة ورفعة الدرجة، وجذبة العناية وبالإساءة إساءة العبد والطرد إلى الشغل والخذلان.
[5.5-6]
ثم قال تعالى: { اليوم أحل لكم الطيبت } [المائدة: 5]، وكرر فيه القول وفائدة التكرار، يعني: أحل لكم ما أحل لكم يا أرباب الحقيقة اليوم الذي قدر كمالية الدين لكم في الأزل من جميع الطيبات التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل التخلق بأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله تعالى المتنزهات عن الكميات والكيفيات المتنزهات من النقائص والشبهات، { وطعام الذين أوتوا الكتب } [المائدة: 5]، وفي الحقيقة هم الأنبياء عليهم السلام.
{ حل لكم } [المائدة: 5]، أي: غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة عن حكمي الشريعة والحقيقة، { وطعامكم حل لهم } [المائدة: 5]، يعني: منبع لبن النبوة بالولاية واحد فإن كان الثدي اثنين، فشربتم بشراب ألطافنا من مشرب الولاية، وشرب الأنبياء ألبان أفضالنا من مشرب النبوة، قد علم كل أناس مشربهم، والنبي صلى الله عليه وسلم شركة في المشارب كلها وله اختصاص في مجلس المقام المحمود من المحبوب بمشرب
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
، لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل { و } ، [المائدة: 5]، كذلك أحل لكم، { المحصنت من المؤمنت } [المائدة: 5]، وهي أبكار حقائق القرآن التي أحصنت من قيام الأرواح المؤمنات بها وهي أرواح العلماء وخواص الأمة.
{ والمحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم } [المائدة: 5]، وهي أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السابقة التي أحصنت من الذين أنزلت عليهم الكتب وأدرجت في القرآن نور خفيته لكم، كما قال تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم
[السجدة: 17]، يعني: في القرآن من قرة أعين وهي أبكار حقائق جميع الكتب المنزلة، فافهم جيدا فكلها معدة لكم.
{ إذا ءاتيتموهن أجورهن } [المائدة: 5]، أي: صور هذه الأبكار وهي بذل الوجود { محصنين } [المائدة: 5]، متعففين في بذل الوجود ليكون على وجد الحق بتصرف المشايخ الواصلين، { غير مسفحين } [المائدة: 5]، على وفق الطبع وخلاف الشرع وبتصرف الهوى، { ولا متخذي أخدان } [المائدة: 5]، يعني: في بذل الوجود لا يكون عند فناء إلى شيء من الكونين ولا إلى أحد في الدارين سوى الله تعالى ليكون هو المشرب ومنه الشراب وهو الحريق والشافي.
{ ومن يكفر بالإيمن } [المائدة: 5]، بهذه المقامات والكمالات إذ حرم عن العيان من هذه العادات، { فقد حبط عمله } [المائدة: 5]، الذي عمل على العماء والتقليد، { وهو في الآخرة من الخسرين } [المائدة: 5]، الذين خسروا الدنيا والعقبى والمولى.
ثم أخبر عن أسباب القعود إلى هذه المقامات وآداب القيام إلى الصلاة بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [المائدة: 6].
والإشارة فإن الخطاب في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا } هذا خطاب مع الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عند خطاب: ألست بربكم، بقول: بلى، وهم أهل الصدق الأول يوم الميثاق آمنوا بعدما عاينوا، وأهل الصف الثاني آمنوا إذا شاهدوا، وأهل الصف الثالث آمنوا إذا سمعوا الخطاب، وأهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا؛ لأنهم ما عاينوا ولا شاهدوا ولا سمعوا خطاب الحق بسمع الفهم والدراية؛ بل سمعوا سماع الفهم والنكابة فتحيروا في الجواب حتى سمعوا جواب أهل الصفوف الثلاثة إذ قالوا: بلى، فقالوا بتقليدهم بلى فلا جرم بهذا ما آمنوا وهو الكفار وإن آمنوا ما آمنوا على التحقيق؛ بل بالتقليد أو بالنفاق وهم المنافقون، وأهل الصف الثالث هم عوام المسلمين فكما آمنوا هناك بسماع الخطاب فكذلك هنا آمنوا بالسماع بقوله:
إننآ سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا
[آل عمران: 193].
وأهل الصف الثاني هم خواص المؤمنين فكما آمنوا هناك؛ إذ شاهدوا فكذلك هنا آمنوا بشواهد المعرفة كما قال تعالى:
وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ آمنا
[المائدة: 83]، ومن هنا قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه، وأهل الصف الأول وهم الأنبياء وخواص الأولياء فكما آمنوا هناك إذ عاينوا فكذلك آمنوا هنا إذا عاينوا كقوله تعالى:
ءامن الرسول
[البقرة: 285]، وذلك في ليلة المعراج إذا أوحى إلى عبده ما أوحى، قال:
ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه
[البقرة: 285].
وكان إيمان موسى عليه السلام نوعا من هذا،
فلمآ أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف: 143]، فقال علي: رضي الله عنه " لم أعبد ربا لم أره " قال بعضهم: رأى قلبي ربي، وقال آخر: ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله قبله، فخاطب أهل الصف الأول: يا أيها الذين آمنوا تحقيقا ثم أهبطوا عن ممالك القرب إلى مهالك البعد، ومن رياض الأنس إلى سباخ الإنس، { إذا قمتم } من نوم الغفلة وانتبهتم من رقدة الفرقة، { إلى الصلاة } هي معراجكم للرجوع إلى مقام قربكم، كما قال تعالى:
واسجد واقترب
[العلق: 19].
{ فاغسلوا وجوهكم } [المائدة: 6] التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار، { وأيديكم إلى المرافق } [المائدة: 6] أي: واغسلوا أيديكم عن التمسك بالدارين والتعلق بما في الكونين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق، { وامسحوا برؤوسكم } [المائدة: 6]، ببذل نفوسكم، { وأرجلكم إلى الكعبين } [المائدة: 6] أي: واغسلوا أرجلكم عن طين طينتكم والقيام بأنانيتكم.
{ وإن كنتم جنبا } [المائدة: 6]، بالتفات إلى غيرنا، { فاطهروا } [المائدة: 6]، بالنفوس عن المعاصي وبالقلوب عن رؤية الطاعات، وبالأسرار عن رؤية الأغيار، وبالأرواح عن الاسترواح عن غيرنا، وبسر الستر عن لون الوجود، { وإن كنتم مرضى } [المائدة: 6]، من حب الدنيا، { أو على سفر } [المائدة: 6]، في متابعة الهوى، { أو جآء أحد منكم من الغائط } [المائدة: 6]، في قضاء حاجة شهوة من الشهوات، { أو لامستم النسآء } [المائدة: 6]، وهي الدنيا في تحصيل لذة من اللذات، { فلم تجدوا مآء } [المائدة: 6]، التوبة والاستغفار، { فتيمموا صعيدا طيبا } [المائدة: 6]، فتمرغوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام، { فامسحوا بوجوهكم } [المائدة: 6]، أي: تراب أقدامهم وشمروا بخدمتهم { وأيديكم منه } [المائدة: 6]، لأن فيه شفاء لقساوة القلوب ودواء لمرض الذنوب، { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } [المائدة: 6]، بهذه الذلة والصغار، { ولكن يريد ليطهركم } [المائدة: 6]، من الذنوب الكبار وأكبر الكبائر الشرك بالله وأعظم الشرك شرك الوجود مع وجود المعبود، وهذا ذنب لا يغفر إلا بالتمرغ في هذا التراب ولوث لم يطهر إلا بالالتجاء إلى هذه الأبواب { وليتم نعمته عليكم } [المائدة: 6] بعد ذوبان نحاس أنانيتكم بنار تصرفات هممهم العالية بطرح إكسير أنوار الهوية { لعلكم تشكرون } [المائدة: 6]، إذ تهتدون بأنوار الهوية إلى رؤية أنوار المنعم.
[5.7-9]
{ واذكروا نعمة الله } [المائدة: 7]، التي أنعم بها، { عليكم } [المائدة: 7]، في بدء الوجود بإخراجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود قبل كل موجود وخلقكم في أحسن التقويم بقول الدين القويم، وهداكم إلى الصراط المستقيم، واستماع خطاب ألست بربكم وجواب بلى، { وميثاقه الذي واثقكم به } [المائدة: 7]؛ أي: العهد الذي عاهدكم به على التوحيد والعبودية ووفقكم للسمع والطاعة { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } [المائدة: 7]، ولو لم تكن نعمة التوفيق لقلتم سمعنا وعصينا كما قال أهل الخذلان في العصيان { واتقوا الله } [المائدة: 7]، أي: اتقوا بالله عن غير الله { إن الله عليم بذات الصدور } [المائدة: 7]، أي: بالقلوب وما فيها من الاتقاء عن الأشياء.
ثم أخبر عن طريق الاتقاء وترك الالتجاء بقوله تعالى { يا أيهآ الذين آمنوا كونوا قوامين لله } [المائدة: 8]، والإشارة أن الخطاب في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا مع أهل الصف الأول في الميثاق الذين آمنوا بالعيان لا بالبيان كونوا قوامين، { شهدآء بالقسط } [المائدة: 8]، فالأمر أمر التحويل والتكوين فكما خوطبوا وأمروا أن يكونوا فكانوا قائمين بالحق ناطقين بالحق شاهدين بالحق { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا } [المائدة: 8]، فيه معنيان أحدهما: لا يحملنكم عداوة الشيطان والنفس والهوى والدنيا على أن تظلموا وتجوروا على أنفسكم بالظلم على المسلمين، فإن الشيطان من شيمته العداوة فلا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر ولا يضركم على أنفسكم في الدنيا والآخرة والنفس من طباعها أنها أمارة بالسوء فهي أعدى الأعداء، والهوى من شأنه أن يضلكم عن سبيل الله، والدنيا قد زينت لأربابها وهي رأس كل خطيئة فلا يحملنكم شنآن هذا القوم على أن تعدلوا والمعنى العالي، ولا يحملنكم حسد الحساد وعداوة الأعداء على أن تعدلوا مع أنفسكم وتظلموها بمنازعة الحساد ومناسبة الأعداء فتقعوا في ورطات الهلاك ويغلب عليكم الصفات السبعية والشيطانية.
{ اعدلوا } [المائدة: 8]، هذا أيضا من التلوين للقوامين بالقسط فلا يسعهم إلا العدل، وهو القيام بالاعتدال الحقيقي في العبودية والاستواء على سمت الربوبية { هو أقرب للتقوى } [المائدة: 8]، يعني: العدل بهذا المعنى أقرب إلى البقاء بالمولى مما سواه { واتقوا الله } [المائدة: 8]، أي: اتقوا بالله عن غير الله { إن الله خبير بما تعملون } [المائدة: 8]، إنكم لا تقدرون على الاتقاء بالله إلا بجذبات الله.
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [المائدة: 9]، التي تصلحهم بقبول الجذبات { لهم مغفرة وأجر عظيم } [المائدة: 9]، وهو جذبات لتأخذهم عنهم به إليه فافهم جيدا.
[5.10-12]
{ والذين كفروا } [المائدة: 10]، تداركهم الخذلان حتى { وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم } [المائدة: 10]، الذين كانوا يوم الميثاق في الصف الرابع فما فهموا أخطابنا ولا صوبوا جوابنا فاستوجبوا عتابنا واستحقوا عقابنا.
ثم ذكر أهل العناية بما أنعم عليهم في البداية فقال تعالى: { يا أيهآ الذين آمنوا } [المائدة: 11]، بما عاينوا { اذكروا نعمت الله عليكم } [المائدة: 11]، في بدء الخلقة حين أراد أن يخرجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود بأمر { كن } { إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } [المائدة: 11]؛ ليؤخروكم عن الخروج من العدم ويسبقوكم بالخروج إلى الوجود { فكف أيديهم عنكم } [المائدة: 11]، لتكونوا أنتم السابقون ويباهي به النبي صلى الله عليه وسلم وتقولون نحن الآخرون السابقون يعني: الآخرون بالصورة، السابقون بالروح في الخروج عن العدم { واتقوا الله } [المائدة: 11]، في الرجوع إلى العدم لتتقوا بالله عما سوى الله، والله يعلم أن رجوعكم إلى العدم ليس لكم ولا إليكم كما لم يكن خروجكم بكم فإن خروجكم كان بجذبة أمر كن فلذلك رجوعكم لا يكون إلا بجذبة أمر
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، فكونوا واثقين بكرم الله وفضله شارعين في طلب مرضات الله جاهدين على وفق الأوامر والنواهي في الله؛ ليهديكم إلى جذبات عنايته { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [المائدة: 11]، بهذه الكرامات المجتهدون لنيل هذه السعادات فإنه يبلغهم.
ثم أخبر عن ميثاق اليهود ونقضهم العهود بقوله تعالى: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل } [المائدة: 12]، والإشارة أن الله تعالى لما أخذ ميثاق بني إسرائيل أخذ ميثاق هذه الأمة يوم الميثاق ولكن أخذ ميثاق بني إسرائيل
ألا تعبدوا إلا الله
[هود: 2]، وأخذ ميثاق هذه الأمة أن
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، ولا يحبوا غيره، فلما كان ميثاق بني إسرائيل منهم لا من الله فنقضوا الميثاق وعبدوا العجل وقتلوا الأنبياء، ولما كان ميثاق هذه الأمة من الله ثم منهم بقوله
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، بذلوا في الله أرواحهم وما بذلوا بعهدوهم ومحبوبهم وما نقضوا ميثاقهم وعهودهم كما قال تعالى:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
[الأحزاب: 23]، ومن كمال عنايته مع هذه الأمة أنه تعالى جعل في أمة موسى عليه السلام النقباء المختارين المرجوعين إليهم عند الضرورة اثني عشر لقوله تعالى: { وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } [المائدة: 12]، جعل في هذه الآمة من النجباء البدلاء وأعزة الأولياء أربعين رجلا في كل حال وزمان.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم عليه السلام وسبعة على خلق موسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم "
فهم على مراتب رجائهم ومناصب مقاماتهم أمنة هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" بهم يرزقون وبهم يمطرون وبهم يدفع الله البلاء "
قال أبو عثمان المغربي: البدلاء أربعون والأمناء سبعة والخلفاء من الأمة ثلاثة، والواحد القطب عارف بهم جميعا ويشرف عليهم، ولا يعرفه واحد ولا يشرف عليه، وهو إمام الأولياء، والثلاثة الذين هم الخلفاء من الأئمة يعرفون السبعة، ويعرفون الأربعين ولا يعرفهم أولئك السبعة، والسبعة هم الأمناء يعرفون الأربعين الذين هم البدلاء ولا يعرفهم الأربعون، وهم يعرفون سائر الأولياء من الأمة ولا يعرفهم من الأولياء أحد، فإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين، فإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة، وإذا مضى القطب الذي هو واحد في العدد وبه قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة إلى أن يأذن الله في قيام الساعة.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: { وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا } [المائدة: 12]، علق المعية معهم بهذا الشرط، وقال تعالى : لهذه الأمة عن غير تعليق بشرط
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد: 4]، والإشارة فيه أن من يقيم بهذه الشرائط إنما يقيم بها لأن الله تعالى وعد بني إسرائيل بتكفير سيئاتهم بعد القيام بهذه الشرائط.
وقال: { لأكفرن عنكم سيئاتكم } [المائدة: 12]، ووعد هذه الأمة على القيام بأقل من هذه الشرائط بتبديل سيئاتهم حسنات وقال:
إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70]، وتحقيق قوله تعالى { أقمتم الصلاة } [المائدة: 12] فإقامة الصلاة في أداءها منها بأن تجعل الصلاة معراجك إلى الحق، وقدم العروج بدرجاتها إلى أن تشاهد الحق كما شاهدته يوم الميثاق، ودرجاتها أربع القيام والركوع والسجود والتشهد على دركات نزلت بها من عليين وجوار رب العالمين إلى أسفل سافلين القالب وهو العناصر الأربعة التي خلق منها قالب الإنسان فالمتولدات منها على أربعة أقسام ولكل قسم منها ظلمة خاصة تحجبك عن مشاهدة الحق، وهي الجمادية وخاصيتها التشهد، ثم النباتية وخاصيتها السجود، ثم الحيوانية وخاصيتها الركوع، ثم الإنسانية وخاصيتها القيام، فالقيام يشير إليك بالتخلص عن حجب طبع النباتية وأعظمها الحرص على الجذب للنشوء، والنماء وهي خاصية الماء، والتشهد يشير إليك بالتخلص عن حجب طبع الجمادية وأعظمها الجمود وهي خاصية التراب، ومن هذه الصفات الأربع تنشأ بقية الصفات البشرية فإذا تخلصت عن هذه الدركات والحجب عرجت بهذه المدارج الأربعة إلى جوار رب العالمين وقربه فقط قمت الصلاة مناجيا ربك مشاهدا له كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أعبد الله كأنك تراه ".
وفي قوله تعالى: { وآتيتم الزكاة } [المائدة: 12]، إشارة إلى صرف ما زاد على روحانيتك بتعلق القلب بالوجود كله في سبيل الله { وآمنتم برسلي } [المائدة: 12]؛ أي: استسلم بالكل لتصرفات النبوة والرسالة { وأقرضتم الله قرضا حسنا } [المائدة: 12]، وهو أن يأخذ منكم وجودا مجازيا فانيا ويعطيكم وجودا حقيقيا باقيا كما يقول: { لأكفرن عنكم سيئاتكم } [المائدة: 12]، أي: لأسترن بالوجود الحقيقي عنكم سيئات الوجود المجازي { ولأدخلنكم جنات } [المائدة: 12]، الوصلة { تجري من تحتها الأنهار } [المائدة: 12]، أنهار الحكمة { فمن كفر بعد ذلك } [المائدة: 12]، يعني: بعد هذه المواعظ الحسنة ولم يعمل بها { منكم فقد ضل سوآء السبيل } [المائدة: 12]، يعني: بضلالته اليوم من نتائج أخطاء النور عند رشاشه على الأرواح في بدء الخلقة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" فمن أخطأه ذلك النور فقد ضل ".
[5.13-15]
قال تعالى شكاية لأفعالهم من سوء خصالهم: { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } [المائدة: 13]، يعني: بعد هذه المواعيد نقضوا ميثاقهم الذي أخذناه على التوحيد أبعدناهم وطردناهم عن جوارنا { وجعلنا قلوبهم } [المائدة: 13]، بالنسيان والغفلة وحب الدنيا ومتابعة الهوى { قاسية } [المائدة: 13]، لا تؤثر العظة والنصح، ومن قوتها { يحرفون الكلم عن مواضعه } [المائدة: 13]، يتصرفون في كلام الحق ويغيرون أحكام التوراة { ونسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 13]، أي: نسوا نصيبهم من تذكر ما ذكروا به أي: ذكرهم الأنبياء - عليهم السلام - من يوم الميثاق ومخاطبة الحق إياهم تشويقا لهم إلى تلك الأحوال { ولا تزال تطلع على خآئنة منهم } [المائدة: 13]؛ لأن جعلنا جزاء عصيانهم الخذلان للزيادة في العصيان { إلا قليلا منهم } [المائدة: 13]، وهم الذين أصابهم رشاش النور في بدء الخلقة { فاعف عنهم } [المائدة: 13]؛ يعني: عن هذا القليل أن صدر منهم بعض معاملات أهل الكفر والطغيان موافقة لآبائهم بالسوء والنسيان لا مخالفة لربهم بالعمد والعدوان { واصفح } [المائدة: 13]، بالحلم والكرم عما جرى عليهم قبل التوبة والندم؛ إذ حسن إسلامهم وحصل بالإيمان مراحهم { إن الله يحب المحسنين } [المائدة: 13]، الذين يحسنون طلب الحق ويتجاوزون عن جرائم الخلق.
ثم أخبر عن ميثاق النصارى بقوله تعالى: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } [المائدة: 14]، والإشارة أن الله تعالى أخذ الميثاق من اليهود والنصارى على التوحيد كما أخذ هذه الأمة يوم الميثاق ولكنه لما وكل الفريقين إلى أنفسهم نسوا ما ذكروا به ابتلوا بالنسيان والخذلان؛ فأخبر عن نسيان اليهود بقوله تعالى: { فنسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 14]، وعن نسيان النصارى بقوله تعالى: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به } [المائدة: 14]، فما بقي للفريقين حظ من ذلك الميثاق.
{ فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } [المائدة: 14]، تحقيقه إذ لم يبق لهم حظ من ذلك الميثاق بإبطال الاستعداد الفطري بالكمال الإنساني صاروا أولئك كالأنعام بل هم أضل أي: كالسباع يتحاربون ويتحارشون ويتهارشون بالعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فإن أرباب الغفلة لا ألفة بينهم، وإن أصحاب الوفاق لا وحشة بينهم، وأما هذه الأمة لما أبدت بالتأييد الإلهي إذ كتب في قلوبهم الإيمان بقلم خطاب ألست بربكم يوم الميثاق وأيدهم بروح منه مما نسوا مما ذكروا به وقيل لنبيهم:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات: 55]، وقال تعالى خطابهم إذ ينسوا ولم ينقضوا ميثاقهم:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، على أن ذكره آبائهم كان قبل وجودهم وذكرهم إياه حين ذكرهم بالمحبة وقال:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
ثم أخبر عن حقيقة الحظ الذي نسوه أهل الكتاب، وما نسته هذه الأمة بقوله تعالى: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا } [المائدة: 15]، والإشارة أن الله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلم نورا يبين حقيقة حظ الإنسان من الله تعالى مما خفي عليهم وهم مستعدون فحاصل الخلقة الاحتظاظ به دون سائر المخلوقات.
وقد حظي هنا أهل الكتاب بالخطاب بقوله تعالى: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير } [المائدة: 15]؛ لأنهم أخفوا ما بين الله لهم في الكتاب المنزل على أنبيائهم ثم عمم الخطاب وقال تعالى: { قد جآءكم من الله نور } [المائدة: 15]، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم مبين معه كتاب مبين حظ العباد من الله ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى سمى نفسه نورا بقوله تعالى:
الله نور السموت والأرض
[النور: 35]؛ لأنهما كانتا مخفيتين في ظلمة العدم فالله تعالى أظهرهما بالإيجاد وسمى الرسول نورا؛ لأن أول شيء أظهره الحق بنور قدرته من ظلمة العدم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم كما قاله عليه صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله نوري ثم خلق العالم بما فيه من نوره بعضه من بعض فلما ظهرت الموجودات من وجود نوره سماه نورا وكل ما كان أقرب إلى الاختراع كان أولى باسم النور كما أن عالم الأرواح أقرب إلى الاختراع من عالم الأجساد "
فلذلك يسمى عالم الأرواح والعلويات نورانيات بالنسبة إلى السفليات فأقرب الموجودات إلى الاختراع لما كان نور النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى باسم النور ولهذا كان يقول
" أنا من الله والمؤمنون مني "
، قال تعالى: { قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين } [المائدة: 15].
[5.16]
وقوله تعالى: { يهدي به الله } [المائدة: 16]، أي: بنور النبي صلى الله عليه وسلم وهو نور حكمته وإرشاده { من اتبع رضوانه } [المائدة: 16]، أي: من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رضوان الحق تعالى كما أن الملائكة رضوان الجنة { سبل السلام } [المائدة: 16]، طرق السلام وهو الله { ويخرجهم من الظلمات } [المائدة: 16]، أي: من ظلمات وجودهم المجازي، { إلى النور } [المائدة: 16]، أي: إلى نور الله تعالى وهو الوجود الحقيقي الأزلي الأبدي { بإذنه } ، أي: بجذبات عنايته { ويهديهم إلى صراط مستقيم } [المائدة: 16]، إلى الله تعالى وهذا حقيقة حظ العباد من الله ورسوله فافهم جيدا وإن لم تفهم حقيقته.
[5.17-20]
ثم أخبر عن حظ اليهود والنصارى من الدنيا إذا نسوا حظهم من المولى بقوله تعالى: { لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [المائدة: 17]، إلى قوله: { وإليه المصير } [المائدة: 18]، والإشارة فيهما أن الله تعالى أظهر ظلومية الإنسان وجهوليته عند الخذلان وعدم العناية حتى كفر بقول: { إن الله هو المسيح ابن مريم } ولم يتفكر أن من اشتمل عليه أرحام الصلوات متى يفارقه نقص الخلقة وضعف البشرية ومن لاحت عليه شواهد التغير أنى يليق به نعت الألوهية فقال تعالى: { قل } [المائدة: 17]، في جواب هؤلاء المغرورين الممكورين { فمن يملك من الله شيئا } [المائدة: 17]، يعني: أن الإله هو الذي يملك التصرف في الأشياء كلها ولا يملك أحد على التصرف فيه بشيء ما، فمن يملك من الله شيئا بالدفع والمنع { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } [المائدة: 17]، قهرا منه بشؤم قولكم: إن الله هو المسيح ابن مريم: { ولله ملك السموت والأرض وما بينهما } [المائدة: 17]، يعني: يستحق الألوهية من له ملك السماوات والأرض وملك التصرف فيهما وتصرف لأحد فيه فيمنعه عن التصرف فيهما { يخلق ما يشآء } [المائدة: 17]، لما يشاء متى يشاء كيف يشاء: { والله على كل شيء قدير } [المائدة: 17]، يعني: الإله من يكون بهذه الصفة.
{ وقالت اليهود والنصرى } [المائدة: 18]، من غاية خذلانهم وجهلهم وطغيانهم { نحن أبنؤا الله } [المائدة: 18]، أي: رسلنا أبناء الله يدل عليه قوله تعالى:
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله
[التوبة: 30].
{ وأحبؤه } [المائدة: 18]، أي: نحن أولياؤه يدل عليه قوله تعالى:
يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت
[الجمعة: 6]، ثم ألزمهم الحجة وقال تعالى: { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } [المائدة: 18]، إن كنتم أحباء الله والمعنى من تعذيبهم قولهم: { نحن أبنؤا الله } [المائدة: 18] فقد عذبهم بهذا القول عاجلا لاستكمال تعذيبهم آجلا بذنوب تقدمت منهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وتغيير نعته وتحريف كلام الله تعالى { بل أنتم بشر ممن خلق } [المائدة: 18]؛ يعني: من عوام الخلق لا من الذين اختصهم بعد أن خلقهم في ظلمة الخلقة بإفاضة رشاش النور عليهم وإصابته، فإنهم الأولياء والأحباء وإن الله لا يعذبهم بذنوب تصدر منهم عند الابتلاء بل يتوب عليهم ويبدل سيئاتهم حسنات كما كان حال آدم عليه السلام كان منه ما كان كقوله تعالى:
وعصى ءادم ربه فغوى
[طه: 121]، وكان من الله ما قال:
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
[طه: 122]، ثم أثبت الملك والقدرة والمشيئة والاختيار والإرادة كله لنفسه جل جلاله { يغفر لمن يشآء } [المائدة: 18]، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإصابة رشاش النور في البداية وبالإيمان والعمل الصالح في الدنيا، وبالمغفرة ودخول الجنة وسعادة الرؤية في العقبى { ويعذب من يشآء } [المائدة: 18]، من أهل الكتاب بإخطاء النور في بدء الخلقة وبالكفر والشرك في الدنيا وبالقطيعة والحجاب ودخول النار في العقبى { ولله ملك السموت والأرض وما بينهما } [المائدة: 18]، يتصرف في حكمه كيف يشاء فيجعل أقواما مظهر صفات لطفه وجماله، كما فعل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وأقواما مظهر صفات قهره وجلاله كما فعل بأهل الكتاب والمشركين منهم وسائر الكفار، { وإليه المصير } [المائدة: 18]، للفريقين
فريق في الجنة
[الشورى: 7]، وهي دار لطفه وجماله
وفريق في السعير
[الشورى: 7]، هي دار قهره وجلاله.
ثم أخبر عن تأكيد الحجة وإظهار الحجة بقوله تعالى: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل } [المائدة: 19]، والإشارة فيها أن الله تعالى خاطب اليهود والنصارى وقال: { يا أهل الكتاب } [المائدة: 19] يشير إلى أنكم لستم أهل الله الذين يتدارسون الكتاب لله؛ بل أنتم من أهل الكتاب الذين يطلبون من دراسة الكتاب والعلوم الشهرة طلبا للرئاسة والوجاهة وقبول الخلق والمنافع الدنيوية.
{ قد جآءكم رسولنا } [المائدة: 19] فيه نكتة وهي أنه تعالى أضاف الرسول إلى نفسه وقال: { رسولنا } [المائدة: 19] وما أضاف إليهم؛ لأن فائدة رسالته لم تكن راجعة إليهم، ولما خاطب هذه الأمة أخبرهم عن مجيء الرسول إضافة إلى نفسه وإنما جعله من أنفسهم فقال تعالى:
لقد جآءكم رسول من أنفسكم
[التوبة: 128]؛ لأن فائدة رسالته راجعة إلى أنفسهم.
ثم قال تعالى: { يبين لكم على فترة من الرسل } [المائدة: 19]؛ يعني: يبين لكم أن تكونوا أهل الله لأنكم حصلتم على فترة من الرسل وما بين لكم من بيان رسول ألا تقنعوا من الدين باسم، ولا من الكتاب برسم، ومن الدراسة بذكر فينبئكم رسولنا برسالتنا ويبشركم بالوصول إلينا، وينذركم من القطيعة عنا { أن تقولوا } [المائدة: 19] يوم القيامة في مقام الحسرة والندامة، { ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } [المائدة: 19]، بشركم بنا ونذير ينذركم عنا ويدعوكم إلينا ويكون لكم سراجا منيرا تهتدون به إلينا كقوله تعالى:
إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا
[الأحزاب: 45]، وليكون حجة الله عليكم ولا يكون لكم حجة على الله، { والله على كل شيء قدير } [المائدة: 19]، مما يدعوكم إليه الرسول ويبشركم به وينذركم عنه، { قدير } [المائدة: 19]، قادر على أن يعطيكم ما وعدكم رسوله؛ لأن الله لا يخلف الميعاد.
ثم أخبر عن فضله وكرمه وما أتاكم من نعمه بقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم } [المائدة: 20]، إلى قوله:
قاعدون
[المائدة: 24]، والإشارة فيها أن الله تعالى أظهر الفرق بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل على لسان نبيهم؛ إذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم وتولى أمر هذه الأمة بنفسه تعالى وقال:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، فشتان بين من أمره سبحانه بذكره وبين من يذكر نعمه، ثم عدد ما أنعم به عليهم، فقال تعالى: { إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } [المائدة: 20]، من الآيات والمعجزات والنعم الظاهرة والبراهين الباهرة، فلما لم يكونوا أهلا لهذه الكرامات ومستحقا لهذه السعادات ابتلاهم بدخول الأرض المقدسة.
[5.21-24]
كما قال تعالى: { يقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [المائدة: 21]، ثم أنذرهم وأوعدهم عليه.
وقال: { ولا ترتدوا على أدباركم } [المائدة: 21]، بالامتناع عن الدخول فيها فتجعلوا هذه النعمة على أنفسكم نقمة ودعاء أنبيائكم لكم فيها لعنة والمملكة ذلة { فتنقلبوا } [المائدة: 21]، بشؤم معاملاتكم ونقض معاهداتكم، { خسرين } [المائدة: 21]، الدنيا والآخرة والمأوى.
فما يفهم الإنذار ولا الاستذكار إذ كانوا أهل البوار حتى قالوا: { ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } [المائدة: 22]، فمن الفرق بين الأمة وبين بني إسرائيل أن الله تعالى كتب عليهم دخول الأرض المقدسة على الخصوص وما وفقوا لدخولها وجعلوا أذلة لم يدخلوا الأرض المقدسة، وقيل لهذه الأمة:
" جعلت لكم الأرض مسجدا وترابها طهورا ".
و
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه
[الملك: 15]، وقوله تعالى:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة: 29]، فشتان بين من خلق له الأرض بما فيها وجعلت له مسجدا وذلولا وبين من جعل عليه الأرض المقدسة محرمة وجعل لأجلها ذليلا.
ثم أنعم الله تعالى على رجلين منهم إظهارا للقدرة بأن يخافوا الله وينصحان لهم بالدخول ليعلم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وذلك كقوله تعالى: { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما } [المائدة: 23]، أي: أنعم الله عليهما فصارا من الذين يخافون { ادخلوا عليهم الباب } [المائدة: 23]، بأمر الله ورسوله واثقين بفضل الله ورحمته { فإذا دخلتموه } [المائدة: 23]، على طاعة الله فتكونوا من حزب الله { فإنكم غالبون } [المائدة: 23]؛ لأن حزب الله هم الغالبون، ولا تنظروا إلى عظم أجسامهم وقوة أجسادهم ولا إلى ضغف أبدانهم { وعلى الله فتوكلوا } [المائدة: 23]، وقوة إيمانكم { إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 23]، بالإيمان الحقيقي فلاحظوا الأغيار بعين الحسبان لا بنور الإيمان فتوهوا منهم الحدثان، فداخلهم هواجم الرعب فاصبروا على ترك الأمر ومن طالع الأغيار بنور العرفان لم يختم من أهل الخذلان.
{ قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها } [المائدة: 24]، فمن أقصته سوابق التقدير لم تخلصه لواحق التدبير، تركوا أدب الخطاب فصرحوا بما يوجب العقاب { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [المائدة: 24]، فلم يخشوا من مجاهر الرق ولم يستوحشوا من مجاهرة الضد.
[5.25-28]
ثم أخبر عن نتائج خذلانهم وبوادر كفرانهم بقوله تعالى: { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } [المائدة: 25]، والإشارة أن موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه، قال: رب لا أملك إلا نفسي وأخي ابتلاه الله بالدعاء على أمته حتى قال: { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [المائدة: 25]، فأظهر له أنك لو كنت تملك نفسك ما دعوت على أمتك، ولا سميتهم بالفاسقين، ولقلت اللهم أهد قومي وأصلحهم في عبوديتك كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم حين نتج رأسه وكسرت رباعيته وأدمى وجهه وهو يقول:
" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون "
ولهذا قال تعالى:
قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا
[الفتح: 11]، لأنه لا يملك أحد نفسه ولا نفس غيره على الحقيقة فالله تعالى حرم على الذين دعا عليهم موسى عليه السلام دخول الأرض المقدسة بدعائه.
{ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } [المائدة: 26]، وأخذ موسى عليه السلام على دعائه عليهم وجعل معهم في التيه وقال له: { فلا تأس على القوم الفاسقين } [المائدة: 26]، يعني: لا تحزن على قوم سميتهم فاسقين، ولا على نفسك ولا على أخيك، وإنما يملك نفسه إذا ملكت عليها عند الغضب، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "
وكان موسى عليه السلام عند الغضب
وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه
[الأعراف: 150]، ولما غضب موسى عليه السلام على بني إسرائيل قال: { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } [المائدة: 25]، فلم ادعى أنه يملك نفسه، ويقال معناه: لا أملك إلا نفسي لا أؤخرها عن البذل في أمرك، ولا أملك أخي فإنه لا يخالفني في هذا فالعجب في أن موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - بشؤم معاملة بني إسرائيل بقيا في التيه أربعين سنة، وبنو إسرائيل ببركة كرامتهما ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه ليعلم أثر بركة صحبة الصالحين، وأثر شؤم صحبة الفاسقين.
ثم أخبر عن سيرة الصالح وسيرة الطالح بقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق } [المائدة: 27]، والإشارة أن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى، في بطن أولى، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل، فكان الهوى في غاية الحسن؛ لأن القلب به يميل إلى طلب المولى وما عنده مهر محبب إليه، وكان ليوذا العقل في نظر هابيل في غاية القبح والدمامة؛ لأن القلب به يغفل عن طلب الحق والفناء في الله، ولهذا قيل العقل غفالة الرجال، وفي نظر قابيل النفس أيضا في غاية القبح؛ لأن به يغفل عن الدنيا والاستهلاك فيها فالله تعالى حرم الازدواج بين التوأمين كلاهما وأمر بازدواج توأمه كل واحد منهما إلى توأم الأخرى؛ لئلا يغفل القلب عن طلب الحق بل يحرضه الهوى على الاستهلاك والفناء في الله، ولهذا قال بعضهم: لولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله تعالى، فإن الهوى إذا كان رفيق النفس يكون حرصا فيه نزل النفس إلى أسفل الدينا، وبعد المولى، وإذا كان رفيق يكون عشقا فيه يصعد القلب إلى أعلى عليين العقبى وقرب المولى، ولهذا سمي العشق هوى كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبي فارغا فتمكنا
ولتعقل النفس عن طلب الدنيا بل يحرضها العقل على العبودية وينهاها عن متابعة الهوى، فذكر آدم الروح لولديه ما أمر الله به، فرضي هابيل القلب، وسخط قابيل النفس وقال: هي أختي - يعنى إقليما الهوى - ولدت معي في بطني، وهي أحسن من أخت هابيل القلب - يعنى ليوذا العقل - وأنا أحق بها، ونحن من ولائد جنة الدنيا، وهما من ولائد أرض العقبى فأنا أحق بأختي، فقال له أبوه: إنها لا تحل لك يعنى؛ إذ كان الهوى قرينك فتهلك في أودية حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها؛ فأبى أن يقبل قابيل النفس هذا الحكم من آدم الروح، وقال: الله تعالى لم يأمر به وإنما هذا من رأيه، فقال لهما آدم الروح: قربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها، فخرجا ليقربا، وكان قابيل النفس صاحب زرع يعني مدبر النفس النامية، وهي القوة النباتية فقرب طعاما من أردأ زرعه، وهو القوة الطبيعية، وكان هابيل القلب راعيا يعنى مواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية، فقرب جملا يعنى الصفة البهيمية، وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء، ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية الشيطانية، فوضعا قربانهما على جبل البشرية، ثم دعا آدم الروح، فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت؛ فأكلت جمل الصفة البهيمية؛ لأنها حطب هذه النار، ولم تأكل من قربان قابيل النفس حبة لأنها ليست من حطبها بل هي من حطب نار الحيوانية، فهذا تحقيق قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } [المائدة: 27].
ثم ظهر لقابيل النفس الحسد والعداوة والبغضاء على هابيل القلب وقصده { قال لأقتلنك } [المائدة: 27]، حسدا { قال إنما يتقبل الله من المتقين } [المائدة: 27]، بالله عما هو سواه { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } [المائدة: 28]، حسدا { مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } [المائدة: 28]، حسدا وأمنعك من قتلي بغير إذن بقاء بل أريد أن تقتلني { إني أخاف الله رب العالمين } [المائدة: 28].
[5.29-32]
{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } [المائدة: 29]، فتبوء بإثم وجودي وإثم وجودك فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي { فتكون من أصحاب النار } [المائدة: 29]، نار الفرقة والبعد والحسرة { وذلك جزآء الظالمين } [المائدة: 29]، الذين يعبدون الدنيا وزينتها ويشتغلون باستفاء لذاتها وشهواتها.
ثم أخبر عن مطاوعة النفس ومتابعتها والندامة والغرامة على متابعتها بقوله تعالى: { فطوعت له نفسه قتل أخيه } [المائدة: 30]؛ لأن النفس أعد أعداء القلب { فقتله فأصبح من الخاسرين } [المائدة: 30]، يعني: في قتل القلب خسارة النفس في الدنيا والآخرة أما الدنيا فتحرم عن الواردات والكشوف والعلوم الغيبية التي تنشئ القلب عن ذوق المشاهدات ولذة المؤنسات فتبقى في خسران جهولية الإنسان؛ لقوله تعالى:
والعصر * إن الإنسان لفى خسر
[العصر: 1-2]، وأما في الآخرة فتخسر الدخول في جنات النعيم ولقاء الرب الكريم، والنجاة من الجحيم والعذاب الأليم، وفي قوله: { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه } [المائدة: 31]، إشارات منها ليعلم أن الله قادر على أن يبعث غرابا أو غيره من الحيوانات إلى الإنسان؛ ليعلمه ما لم يكن يعلم كما يبعث الملائكة إلى الرسل والرسل إلى الأمم؛ ليعلموهم ما لم يعلموا، ومنها لئلا يعجب الملائكة والرسل أنفسهم باختصاصهم بتعليم الحق فانه يعلمهم بواسطة الغراب، كما يعلمهم بواسطة الملائكة والرسل، ومنها ليعلم الإنسان أنه محتاج في التعلم إلى غراب ويعجز أن يكون مثل غراب في العلم كما قال: { قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } [المائدة: 31]، ومنها أن الله تعالى في كل حيوان بل في كل ذرة آية تدل على وحدانيته وربوبيته واختياره حيث يبدع المعاملات المعقولة عن الحيوانات غير العاقلة، ومنها إظهار لطفه مع عباده في أسباب العيش حتى إذا أشكل عليهم أمر كيف يرشدهم إلى الاحتيال بلطائف أسباب تجليه { فأصبح من النادمين } [المائدة: 31].
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس } [المائدة: 32]، أي: من أجل تلك الندامة والحسرة عنها ولدفعها عنهم كتبنا أي: أظهرنا على بني إسرائيل وغيرهم أنه من قتل نفسا بغير قصاص نفس أو بغير فساد يظهر منه موجب لقتله { فكأنما قتل الناس جميعا } [المائدة: 32]، في الأرض لأن كل نفس على حدة هي آدم في نفسها إذ يخلق الله منها خلقا، كما خلق من نفس آدم كقوله تعالى:
خلقكم من نفس واحدة
[النساء: 1]، فإنها مستعدة لهذا فمن أبطل هذا الاستعداد بقتلها فكأنما قتل جميع الناس المحتمل خلقهم منها، { ومن أحياها } [المائدة: 32]، بترك قتلها ونجاتها من القتل والهلاك، { فكأنما أحيا الناس } [المائدة: 32]، المحتمل خلقهم منها { جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بالبينت } [المائدة: 32].
واعلم أن كل شيء ترى فيه آية من الله تعالى فهو في الحقيقة رسول من الله إليك ومعه آية بينة ومعجزة ظاهرة يدعوك بها إلى الله، { ثم إن كثيرا منهم } [المائدة: 32]، يعني: من الذين شاهدوا الآيات ولحقتهم البينات { بعد ذلك } [المائدة: 32]، أي: بعد رؤية الآيات { في الأرض لمسرفون } [المائدة: 32]، أي: في أرض البشرية لمجاوزون حد الفريضة والطريقة بمخالفة أوامر الله ونواهيه.
[5.33-35]
ثم أخبر عن جزاء المخالفين والمحاربين بقوله تعالى: { إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله } [المائدة: 33]، إلى قوله { أن الله غفور رحيم } [المائدة: 34] والإشارة فيها أن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله - يعني بمعاداة أولياء الله - فإن الخبر الصحيح حكاية عن الله تعالى
" من عاد إلي وليا فقد بارزني بالحرب وأني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث لحرده "
{ ويسعون في الأرض } [المائدة: 33]، بعاداتهم { فسادا } [المائدة: 33]، يظهر أثره في البر والبحر كقوله تعالى:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
[الروم: 41].
{ أن يقتلوا } [المائدة: 33]، بسكين الخذلان { أو يصلبوا } [المائدة: 33]، بحبل الهجران على جذع الهجران { أو تقطع أيديهم } [المائدة: 33]، عن أذيال الوصال { وأرجلهم من خلاف } [المائدة: 33]، عن الاختلاف { أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي } [المائدة: 33]، بعد وهوان { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة: 33]، الفرقة والقطيعة { إلا الذين تابوا } [المائدة: 34]، وأنابوا إلى الله واستغفروا واعتذروا عن أولياء الله { من قبل أن تقدروا عليهم } [المائدة: 34]، برؤية الولاية أيها الأولياء فإن ردكم رد الحق وقبولكم قبول الحق، وإن مردود الولاية مقصود العناية { فاعلموا أن الله غفور } [المائدة: 34]، لمن تاب ورجع إلى الله { رحيم } [المائدة: 34]، بهم أن يقبل توبتهم ويغفر حوبتهم.
ثم أخبر عن حقيقة التقوى أنها ابتغاء الوسيلة والقربى بقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } [المائدة: 35]، إلى قوله:
ولهم عذاب مقيم
[التوبة: 68]، والإشارة فيها أن الله تعالى جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء، أحدها: الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدء الخلقة، وبه تخلص العبد من حجب ظلمة الكفر، وثانيها: التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية، ويخلص العبد من ظلمة المعاصي، وثالثها: ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية، وبه يتخلص العبد من ظلمة أوصاف الوجود، ورابعها: الجهاد في سبيل الله وهو اضمحلال الأنانية في إثبات الهوية، وبه يتخلص العبد من ظلمة الوجود، ويظفر بنور الشهود، والمعنى الحقيقي يا أيها الذين أمنوا بإصابة النور اتقوا الله بتبديل الأخلاق الذميمة، وابتغوا إليه الوسيلة في إفناء الأوصاف { وجاهدوا في سبيله } [المائدة: 35]، بتبديل الوجود { لعلكم تفلحون } [المائدة: 35]، بنيل المقصود من المعبود.
[5.36-40]
{ إن الذين كفروا } [المائدة: 36]، بإخطاء النور { لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } [المائدة: 36]؛ لدفع عذاب نار القطيعة بكفرهم،
إنما يتقبل الله من المتقين
[المائدة: 27] لا من الكافرين { ولهم عذاب أليم } [المائدة: 36]، من الحسرة والحرمان والقطيعة والكفر { يريدون أن يخرجوا من النار } [المائدة: 37]، الخذلان { وما هم بخارجين منها } [المائدة: 37]؛ لأنهم خلقوا لدركات النيران { ولهم عذاب مقيم } [المائدة:37]، من بدء الخلقة بإخطاء ذلك النور إلى الأبد لاستحالة خروجهم عن ظلمة الوجود، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن نكال السارقين وقبول التائبين بقوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [المائدة: 38]، إلى قوله { والله على كل شيء قدير } [المائدة: 40]، والإشارة فيهما أن السارق والسارقة كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور وإصابة في بدء الخلقة فكان تطاول أبدانهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما اليوم { جزآء بما كسبا } [المائدة: 38]، الآن في عالم القوة { نكالا من الله } [المائدة: 38]، تقديرا في الأزل وإخطاء لرشاش النور { والله عزيز } [المائدة: 38]، قاهر [غالب لا فعل له إلا الصواب]، { حكيم } [المائدة: 38]، ولحكمته قبل من قبل بإصابة النور { فمن تاب من بعد ظلمه } [المائدة: 39]، فيه إشارة إلى أن السرقة منه ما كانت من نتائج أخطاء النور، وإنما كانت من وضع الشيء في غير موضعه حتى تاب منها { وأصلح } [المائدة: 39]، بالإنابة إلى الله وترك الدنيا ما أفسد من حسن الاستعداد الفطري بالحرص على الدنيا { فإن الله يتوب عليه } [المائدة: 39]، يعني: ينظر إليه ينظر العناية الأزلية حتى تاب { إن الله غفور } [المائدة: 39]، لرياضات النور هناك { رحيم } [المائدة: 39]، به بأن تاب عليه.
{ ألم تعلم أن الله } [المائدة: 40]، هو الذي { له ملك السموت والأرض } [المائدة: 40]، وليس له شريك في الملك يتصرف في ملك مماليكه كيف يشاء { يعذب من يشآء } [المائدة: 40]، بإخطاء النور إظهار القهر { ويغفر لمن يشآء } [المائدة: 40]، بإصابة النور إظهارا للطفه ومشيئته { والله على كل شيء } [المائدة: 40]، من إظهار اللطف والقهر { قدير } [المائدة: 40].
[5.41]
ثم أخبر عمن جعله مظهر قهره بقوله تعالى: { يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [المائدة: 41]، والإشارة أن الله تعالى لما أقصى الكفار وأهل الشقاوة عن محل القرب وأرخى لهم عنان الإمهال للتعذيب حتى يسارعوا في بوادي البوار، وما هو في أودية الضلالة أمر رسوله بترك المبالاة بأمثالهم وقلة الاهتمام، وقال: { يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [المائدة: 41]، يعني: الذين دخلت كلمة الإيمان في أفواههم ولم يدخل نور الإيمان في قلوبهم ولم تخرج ظلمة الكفر منها { ومن الذين هادو } [المائدة: 41]، أي: تابوا ظاهرا { سماعون للكذب } [المائدة: 41]، أي: يصفون كذبات النفس في هواجسها { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } [المائدة: 41]؛ أي: يسمعون هذه الكذبات ويعملون ويسنون السنن السيئة لقوم آخرين من أمتك لم يأتوك بعد { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } ، اي: يغيرون قوانين الشريعة ويبدلونها بتمويهات الطبيعة { يقولون } [المائدة: 41]، لرفقائهم من أهل الطبيعة ومن أضلهم عن جادة الشريعة { إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } [المائدة: 41]؛ يعني: إن أوتيتم أرباب الشريعة مثل مقالاتنا ومعتقداتنا تناسب محالاتنا، فاقبلوا وإلا فاحذروا، وعما تقولوا من القرآن والأحاديث هذا حال أرباب الدعاوى العواري عن المعاني من المتفلسفة والإباحية، فقد أزلهم الشيطان عن الصراط المستقيم وأضلهم عن الدين القويم، وأوقعهم في الزلات والشبهات، فيؤولون القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم ويقرون بآرائهم فعرف الله تعالى نبيه أنهم معزولون عن رحمته محتجبون بعزته، وإن من رؤية القسمة الأزلية والعزة الصمدية لا يفيده اهتمام المهتمين ولن ينفعه الشافعون.
{ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } [المائدة: 41]، يعني: من أوثقه الله تعالى بالخذلان وأغرقه في الحرمان فليس إلى الأغيار حياته، ولا إلى الأغيار نجاته { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } [المائدة: 41]، يعني: أولئك الذين جبلوا على نجاسة الشرك، وما اقتضت الإرادة الأزلية والحكمة الإلهية أن يطهروا بماء إصابة النور إذا رش عليهم في بدء الخلقة من نجاسة ظلمة الشرك قلوبهم، ويقال من يروا الله فتنته من أرسل إليه غائمة الهوى، وسلط عليه نوازع المنى فأنى له بسوط القضاء فليس بلقاء غير الشقاء { لهم في الدنيا خزي } [المائدة: 41]، أي: في بدء الأمر من إخطاء النور المرشش { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة: 41]، من لقاء العلي العظيم فلا يدري أي: حالتيهم أقرب إلى استجلاب الذل وبدايتهم في الخذلان أم نهايتهم في الحرمان.
[5.42-44]
{ سماعون للكذب أكالون للسحت } [المائدة: 42]، يعني: أخلاقهم الرديئة أورثتهم الأعمال الدنيئة، وأن الأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق كلها من نتائج الجوهر الفطري والاستعداد الأصلي فمن خساسة الجوهر قنعوا بحظوظ خسيسة وتزهدوا عن أعراض نفيسة { فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } [المائدة: 42]، يعني: فإن جاءك هؤلاء المعلولون طالبي دعائهم فاحكم بينهم تداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم.
{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } [المائدة: 42]؛ يعني: داوهم على ما يستحقون من دائهم وأواصل النفرة بالإذلال { إن الله يحب المقسطين } [المائدة: 42]، الإقساط الدوران مع الحق حيث ما دار والوقوف عليهم من غير ميل إلى الحظوظ.
ثم أخبر عمن تولى عن حكم النبي والمولى بقوله تعالى: { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك } [المائدة: 43]، والإشارة أن في نفي تحكيم اليهود النبي صلى الله عليه وسلم لعدم الإيمان به ولغيره من الأنبياء حقيقة إثبات الإيمان الحقيقي لمحاكمته؛ إذ قال تعالى: { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك } [المائدة: 43]، أي يعرضون عن حكم الله مع زعمهم أنهم يؤمنون بها { ومآ أولئك بالمؤمنين } [المائدة: 43]، حقيقة يدل على هذا التأويل قوله تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
[النساء: 65]، ثم قال { إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } [المائدة: 44]، كما أرسلناك هاديا تهدي إلى صراط مستقيم، وجعلناك نورا، فلما لم تهتدوا بهدي النورية ونورها مع زعمهم أنهم يؤمنون بها، فكيف يهتدوا بهداك ونورك فهم كافرون بك وبما أنزلنا إليك، وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم، وقوله: { بما استحفظوا من كتاب الله } [المائدة: 44]، إشارة إلى أنه استحفظ بني إسرائيل التوراة فحرفونها وضيعوها وما حفظوها، ومن الله على هذه الأمة فخصهم بالقرآن وتولى سبحانه حفظه عليهم فقال:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
[الحجر: 9]، فلهذا ما قدر أحد أن يحرف شيئا من القرآن: { وكانوا عليه شهدآء } [المائدة: 44]، بينون ما يخفى منه كما فعله ابن صوريا ثم نهي الحكام أن يخشى غير الله في حكوماتهم، فقال تعالى { فلا تخشوا الناس واخشون } [المائدة: 44]، فإن الخلق تحت أحكام القدرة مقهورون، وعند جريان القضاء والقدر مجبورون، فلا سبيل إلى الخشية منهم فلا يصح الخوف عنهم، وخافوني أن كنتم مؤمنين بقدرتي على الإيجاد مؤمنين { ولا تشتروا بآياتي } [المائدة: 44]، بمعجزاتي مع الأنبياء وبكرامات مع الأولياء { ثمنا قليلا } [المائدة: 44]، من حطام الدنيا وتمتع النفس بالهوى والامتناع عن قبول حكم المولى فإنه يوجب خسارة الأخرى والأولى { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [المائدة: 44]؛ لأن من اتخذ حكما غير الله ولم يستسلم تحت جريان الحكمة رضاء وتسليما، فلا يخلوا عن شرك خاطر قلبه وكفر قاهر عقله .
[5.45-47]
ثم أخبر عن إنزال الأحكام على الخواص بقوله تعالى: { وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس } [المائدة: 45]، الإشارة إن الله تعالى جعل المساواة بين النفوس في القصاص كما جعلها بين الأرواح والأعضاء، فقال تعالى: { وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس } ، كما قاله تعالى: { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } [المائدة: 45]؛ ليتحققوا بالتساوي وفي الاستعداد الإنساني لقبول الفيض الرباني في طلب الكمال والبلوغ إلى ذروة الوصال، وأنه تعالى قد كرم بني آدم بنيل هذه الكرامة، وعنهم باختصاص هذه السعادة فقال:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70]، وإنما التقصير والتواني وقع من قبل الإنسان في طلب الكمال بترك الاجتهاد، فإن المجاهدات تورث المشاهدات، كما قال تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69]، وقد جاء في بعض الكتب المنزلة " من طلبني وجدني " ، والذي يؤيد هذا المعنى قوله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 7-10]، فأظهر الله من تقي في حضيض النقصان بقي لترك التزكية بالخذلان، وإن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة وقال:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، وفيه معنى آخر وهو كما أن في إهلاك النفس بهلاك النفر المهلك، وفي إتلاف العضو المثلث كذلك إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وسن قلبه علاج معالجة وبمزيد الإدراك في هذه الأشياء المذكورة { فمن تصدق به } [المائدة: 45]، أي: بهذه الإحياء والمعالجة { فهو كفارة له } [المائدة: 45]، على نفسه فيما فرط في إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله } [المائدة: 45]، وفي تزكيتها عن الأوصاف الذميمة وتجليها بالأخلاق الحميدة على قانون الشريعة بتربية أرباب الطريقة للوصول إلى الحقيقة { فأولئك هم الظالمون } [المائدة: 45]، فقد ظلموا أنفسهم بترك التربية؛ إذ وضعوا متابعة الحظوظ في موضع ملازمة الحقوق.
{ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين } [المائدة : 46]، أي: اتقاء الأنبياء بعضهم بعضا، فأنزلنا الكتب بعضها مصدقا لبعض ومفردا له؛ لبيان الدين القويم والهداية إلى صراط مستقيم والرجوع إلى رب العالمين لأرباب اليقين من المتقين { وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه } [المائدة: 47]، وكذلك أهل كتاب كل كتاب في سلوك الطريق { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله } [المائدة: 47]، من أهل كل كتاب { فأولئك هم الفاسقون } [المائدة: 47]، الخارجون عن الصراط المستقيم فضلوا عن طريق الحق، وذلوا بالباطل.
[5.48-50]
ثم أخبر عن حال النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه وما أشار إليه من خطابه بقوله تعالى: { وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق } [المائدة: 48]، إشارة إن الله تعالى خصص حبيبه صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء - عليهم السلام - بإنزال الكتب إليه بالحقيقة كما قال تعالى: { وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق } [المائدة: 48]، أي: بالحقيقة وذلك لأنه أنزله على قلبه وأنزل الكتب على الأنبياء في الألواح والصحف، وبينه وبينهم بون بعيد وفرق عظيم، فإن ما أنزل على القلب يكون صاحب القلب مخصوصا به من سائر الخلق بخلقه، فلهذا كان خلقه القرآن، وما أنزل في الألواح والصحف يستوي فيه الخواص والعوام في التخلق بخلقه بإثمار الأوامر وانتهاء النواهي: { مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [المائدة: 48]؛ أي: يصدق الكتب المنزلة قبله تصديقا حقيقيا عيانيا لا بيانيا بحيث يشاهد قلب المنزل إليه بنور حقائق جميع الكتب ومعانيها وأسرارها، فيشهدوا على صدقها وحقيقتها بخلاف ما أنزل في الألواح والصحف، فإن الألواح والصحف لا ينشأ حقيقتها ولا تشهد على صدقها وحقيقتها { فاحكم بينهم بمآ أنزل الله } [المائدة: 48]، أي: فأقم بالله أحكام الدين بنوره الكتب بينهم بما أنزل الله على قلبك أو اعتنق ملازمة الحقوق بترك ملازمة الحظوظ { ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من الحق } [المائدة: 48]، أي: لا تستملك إلى هويتهم الفاسدة حرام الجنسية ومكارم الأنسية، فيلهيكم عما جاءك من الحق بالعيان من حقائق القرآن وأنواره وحقيقة الفرقان وأسراره { لكل جعلنا منكم } [المائدة: 48]، معاشر الأنبياء { شرعة } [المائدة: 48]، يشرع فيها بالبيان { ومنهاجا } [المائدة: 48]، يسلك فيه بالعيان { ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة } [المائدة: 48]، أي: جعل أممكم أمة واحدة تهتدي بالبيان إلى البيان { ولكن ليبلوكم } [المائدة: 48]؛ يعني: الأمم { في مآ آتاكم } [المائدة: 48]، من البيان والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان وابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى؛ ليهتدي التائبون بالبيان والتبيان ويقتدي العالمون بالحجة والبرهان، ويجذب العارفون بالعزة والسلطان بل يقصدون الزاهدون برضا الدنيا، ويقدم العابدون بنهي الهوى ويسلك المشتاقون بنفي المنى، ويجذب العارفون بترك الورى، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى { فاستبقوا الخيرات } [المائدة: 48]، ببذل الموجود، وسارعوا إلى القربات بفقد الوجود { إلى الله مرجعكم جميعا } [المائدة: 48]، إما بالاختيار بعدم الصدق في الإفناء لنيل المرام في عالم البقاء، وإما بالاضطرار عند حلول الآجال بعد الفناء لويل الملام يوم اللقاء { فينبئكم } [المائدة: 48]، بنتائج الأعمال وثمرات الأحوال { بما كنتم فيه تختلفون } [المائدة: 48]، من المقاصد والمطالب والمشارب.
{ وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله } [المائدة: 49]، قم بالله فيما يحكم وأقم حقوقه فيما تقدم وتؤخر، ولا تلاحظ الأغيار فيما تؤثر، وتغتر فإن الكل يحق في التحقيق { ولا تتبع أهوآءهم } [المائدة: 49]، بالإعراض عن الحق { واحذرهم أن يفتنوك } [المائدة: 49]، بالتصريف { عن بعض مآ أنزل الله إليك } [المائدة: 49]، من الحقوق بشواهد الحق { فإن تولوا } [المائدة: 49]، عن الحق وأبوا قبوله { فاعلم } [المائدة: 49]، بمطالعة القضاء { أنما يريد الله } [المائدة: 49]، في الحكم المقدر { أن يصيبهم } [المائدة: 49]، مصيبة الإعراض { ببعض ذنوبهم } [المائدة: 49]، وهو الاعتراض لأن الحق سبحانه يلزمهم التكليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصرف، فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجد والعبرة بالإيجاد لا بالإيجاب { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } [المائدة: 49]، الخارجون عن جذبات العناية ولخطاب الهداية.
{ أفحكم الجاهلية يبغون } [المائدة: 50]، يطلبون منك أن تجد عن الحجة المثلى بعدما طلعته شموس الدين، وسقطت براهين اليقين واستنار القلب بأنوار الغيب وانتهكت أستار الترتيب { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } [المائدة: 50]، لا أحدا يحكم لأهل الإيقان بحقائق الفرقان من أحسن الرحمن.
[5.51-53]
ثم أمر الأولياء أن لا يتولوا الأعداء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء } [المائدة: 51]، إشارة إن : يا أهل الإيمان الحقيقي لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء في الحقيقة، فإنهم أعداء الله وأعداؤكم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا كما قال تعالى:
نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة
[فصلت: 31]، وقال تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت
[البقرة: 257]، { بعضهم أوليآء بعض } [المائدة: 51]، فإن الجنسية موجبة القسم ولهذا قال تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [المائدة: 51]؛ يعني: ومن يتولهم ممن يتجلى تجلية الإسلام، ويتزي بزي أهل الدين ظاهرا فإنه منهم أي: من طينتهم وخلقهم ووصفهم حقيقة وباطنا { إن الله لا يهدي } [المائدة: 51]، إلى الائتلاف أهل التعارف الروحاني { القوم الظالمين } [المائدة: 51]، الذين هم أهل التناكر الواضعين المحبة والولاء في غير موضعه.
{ فترى الذين في قلوبهم مرض } [المائدة: 52]، عن جريان نور الإيمان والخلق عن التوحيد والعرفان { يسارعون فيهم } [المائدة: 52]؛ أي: في قوة أهل التناكر
" فإن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف "
، فمن تعم فما يرهم وعمى بصائرهم حين حجبوا عن مقر التوحيد، وتغرقوا في أودية الحسبان والظنون تسبق موالاة الأعداء خوفا من معادتهم، وطمعا في المأمول من صحبتهم { يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة } [المائدة: 52]، من دوائر الزمان وبوائر الحدثان { فعسى الله أن يأتي بالفتح } [المائدة: 52]، فتح عين قلوبهم ليشاهدوا أنهم في أسر العجز وذل الافتقار { أو أمر من عنده } [المائدة: 52]، تصفيته مشارب الإكرام وإضاءة زواهد القرب ومشارق القلوب { فيصبحوا } [المائدة: 52]، عن ليلة الغفلة { على مآ أسروا في أنفسهم } [المائدة: 52]، من ظنون كاذبة { نادمين } [المائدة: 52]، فحينئذ { ويقول الذين آمنوا } [المائدة: 53]، بأنوار الغيب في أستار القلوب { أهؤلاء الذين أقسموا بالله } [المائدة: 53]، جهلا عن أحوالهم في ملكهم { جهد أيمانهم } [المائدة: 53]، بالنفاق { إنهم لمعكم } [المائدة: 53]، في الوفاق { حبطت أعمالهم } [المائدة: 53]، وبطلت آمالهم { فأصبحوا خاسرين } [المائدة: 53]، بإبطال الاستعداد الفطري في الدنيا واستحقاق دركات جهنم البعد في الآخرة.
[5.54-57]
ثم أخبر عن أهل المحبة في الدنيا وأهل المحنة في العقبى بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } [المائدة: 54]، إشارة أن الدين الحقيقي هو طلب الحق فقال: { يأيها الذين آمنوا } [المائدة: 54]، بطلب الحق بعد أن كانوا في ضلالة طلب غير الحق من يرتد منكم عن دينكم، وهو طلب الحق حقيقته طالبا غير الله من الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
[آل عمران: 152]، حتى قرئ هذه الآية عند النبي - رحمه الله - فشهق شهقة، وقال: ثمنا حد، فقال: ومنكم من يريد الله { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54]، فخص هذه المرتبة بقوم دون قوم، لا ريب أن هذا القوم هم أرباب السلوك من المشايخ الذي جذبتهم العناية بجذبات المحبة الإلهية عن أوطار أوصاف الخلقة إلى مرادفات جلال الصمدية نفاهم عنهم بسطوات يحبهم، ثم إبقائهم به بهبوب نفحات يحبونه، فإن العبدية إفناء الناسوتية في اللاهوتية، وإن محبة الله العبد بقاء اللاهوتية في إفناء الناسوتية، فالله تعالى يحب العبد بصفة ذاته أزلا، وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالعناية، والعبد يحب الله تعالى بذات تلك الصفة، فافهم جيدا فتكون من إمارة تلك المحبة الأزلية الأبدية لهم أن تكون { أذلة على المؤمنين } [المائدة: 54]، لفناء الناسوتية وارتفاع الأنانية { أعزة على الكافرين } [المائدة: 54]، ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية { يجاهدون في سبيل الله } [المائدة: 54]، في طلب الحق في البداية ويبذل الوجود { ولا يخافون لومة لائم } [المائدة: 54]، عند غلبات الوجود في الوسط لدوام الشهود { ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء } [المائدة: 54]؛ يعني: صدق الطلب في البداية، وغلبات الوجد في الوسط، والاختصاص بالمحبة في النهاية لنيل المقصود { والله واسع } [المائدة: 54]، كرم أن يتفضل بذلك على كل أحد لكنه { عليم } [المائدة: 54]، بمن يستحق لهذه الفضيلة ويستعد للتوسل بهذه الوسيلة.
ثم أخبر عمن مشمول العناية منهم إنه المنعوت بالولاية بقوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله } [المائدة: 55]، إشارة أن الله تعالى أعز المؤمنين بعز موالاته وموالات رسوله وموالات المؤمنين فقال: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } [المائدة: 55]، فموالات الله في معادات ما سوى الله كما كان حال الخليل عليه السلام قال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، ومولاة الرسول في معاداة النفس ومخالفة الهوى كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين "
، ومولاة المؤمنين في مؤاخاتهم في الدين كقوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
[الحجرات: 10]، فقال صلى الله عليه وسلم:
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
، وقيل: من عادى نفسه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلق وبالمعارضة فيها مع الحق، ثم أخبر عن أهل الموالاة من المؤمنين بقوله تعالى: { الذين يقيمون الصلاة } [المائدة: 55]؛ أي: بديمومتها محافظا حدودها في الظاهر مراقبا حقوقها في الباطن بمراعاة السير مع الله أن لا يخطر بباله غير الله { ويؤتون الزكاة } [المائدة: 55]، أي: يبذلون ما زكى من وجودهم في طلب الحق وهو الفناء في الله { وهم راكعون } [المائدة: 55]، راجعون إلى الله بالانحطاط من قيام البشرية إلى القيام بالقيومية { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } [المائدة: 56] فهم من { فإن حزب الله } [المائدة: 56]، أهل الله وخاصيته { هم الغالبون } [المائدة: 56]، أهوائهم وأنفسهم وعلى الدنيا والشياطين القائمون مع الله على نشر الاستقامة.
ثم أخبر عن صفة الأعداء، وأنهم لا يصلحون لهؤلاء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا } [المائدة: 57]، الإشارة أن لا تحجبوا إلى الملاينة مع أعداء الدين يا أهل الإيمان خصوصا مع الذين اتخذوا { دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [المائدة: 57]، من أهل الأديان والملل { والكفار } [المائدة: 57]، ولا تتخذوهم { أوليآء } [المائدة: 57]، فإنهم أعداء الله وأعداءكم، وفيه أيضا إشارة إلى أهل التحقيق؛ الذين هم أهل المحبة المجذوبون إلى سراء قلق الجلال بجذبات الوصال، أن لا تتلوا أهل الغفلة والسلوة الذين اتخذوا دينكم ومنهيكم في المحبة والطلب هزوا ولعبا للجهل بأموالكم والغفلة عن أمالكم من الذين أوتوا الكتاب؛ أي: العلوم الظاهرة من الثقليات والكفار؛ يعني: الفلاسفة الذين يمسكوا بالعلوم من العقليات، فإنهم بمعزل عن العلوم من الدنيا والكشفيات فلا تتخذوهم أولياء فإن بعضهم أولياء بعض والضدية بينكم وبينهم قائمة، فإن الناس أعداء ما جهلوا من لم يتق لا يدري فلم يدروا أن لا يدروا فهم يحسبون أنهم يدرون، فهذا هو الجهل المركب، فافهم جيدا { واتقوا الله } [المائدة: 57]، واخشوه ولا تخشوا غيره { إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 57]، بأن لا وجود إلا الله ولا يوجد سوى الله.
[5.58-63]
ثم أخبر عن استهزائهم عند الصلاة، وندائهم بقوله تعالى: { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } [المائدة: 58]، إشارة أن الله تعالى أخبر عن أهل الغفلة والسلو المحجوبين بأستار العزة عن أحوال العزة والمحبة، فقال: { وإذا ناديتم إلى الصلاة }؛ أي: دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى، اتخذوها هزوا ولعبا لجهالتهم بأحوالها وضلالتهم عن عرفان كمالها { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } [المائدة: 58]؛ أي: لا تدرك عقولهم الفاسدة بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال والجلال، فإنها بمعزل عن تلك الأحوال لاهية عن درك الوصول والوصال { قل يأهل الكتاب } [المائدة: 59]، إشارة إلى أهل العلوم الظاهرة من أهل السلو { هل تنقمون منآ } [المائدة: 59]، تنكرون علينا وتحسدوننا وتعيروننا وتؤذوننا { إلا أن آمنا بالله } [المائدة: 59]، إلا بأن آمنتم بإيمان تقليدي بياني، وآمنا بالله وبأنوار هدايته إيمانا حقيقيا عيانيا { ومآ أنزل إلينا } [المائدة: 59]، من الواردات الربانية والعلوم اللدنية { ومآ أنزل من قبل } [المائدة: 59]، على الأنبياء من الكتب الإلهية بكشف حقائقها ومعانيها، ورشق دقائقها ومبانيها { وأن أكثركم فاسقون } [المائدة: 59]، خارجون عن الصراط المستقيم من طلب الحق إلى طلب الدنيا وشهواتها، والرضا على جميع أموالها وطلب رياستها، ثم أخبر عمن هو بشر حاله.
وروى خصاله بقوله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك } [المائدة: 60]، الإشارة أن الله تعالى جعل لإظهار قهره بعض الجواهر الإنسانية المستعدة لقبول فيض صفة اللطف من الرحمانية والمحبة الربانية؛ مستحقا لقبول فيض صفة القهر من الطرد واللعن والغضب، ينزله أحسن المنازل، ويبعده عن نعت الأخيار الفواضل، وليسكنه حضيض الأشرار الأرازل، مخذولا عن صراط سوى الطريقة، محجوبا عن شهود الحقيقة، قال الله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه } [المائدة: 60]، ثم قال تعالى: { وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } [المائدة: 60]؛ أي: جعل صفة القردية والخنزيرية وعبد الطاغوت من بعض أفاعيلهم { أولئك شر مكانا } [المائدة: 60]؛ يعني: من هؤلاء { وأضل عن سوآء السبيل } [المائدة: 60]؛ أي: عن طريق الحق المعني أن القردة والخنازير، وإن كانت ضالة عن طريق الحق بعدم الاستعداد وهؤلاء الذين كانوا مستعدين لسلوك سبيل الحق والوصول إليه، ثم مكانا منهم كما قال تعالى:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
[الأنفال: 22]، وأضل الأبطال استعداد الوصول كما قال تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179]، وذلك لأن من أعمالهم أنهم { وإذا جآءوكم قالوا آمنا } [المائدة: 61]، بالنفاق { وقد دخلوا بالكفر } [المائدة: 61]، لا بالإيمان { وهم قد خرجوا به } [المائدة: 61]؛ أي: الكفر وليس هذا النفاق من شأن القردة والخنازير، فيقدم النفاق الكفر نزلوا إلى أحسن التنازل وصاروا أشر الأرازل { والله أعلم بما كانوا يكتمون } [المائدة: 61]؛ أي: يخفون من رزائل الأخلاق وخبائث الأعراق { وترى كثيرا منهم } [المائدة: 62]، من هذه الطائفة { يسارعون في الإثم } [المائدة: 62]؛ أي: يسعون بجذب عظيم في طلب الدنيا ولذاتها وشهواتها { والعدوان } [المائدة: 62]، إلى مخالفة الأوامر وتتبع النواهي { وأكلهم السحت } [المائدة: 62]؛ أي: إطماعهم فيما سوى الله وإعراضهم عن الحق { لبئس ما كانوا يعملون } [المائدة: 62]؛ لأنهم بهذه الأقدام ينزلون إلى أسفل السافلين { لولا ينهاهم الربانيون } [المائدة: 63] وهم المشايخ الواصلون من أهل التربية بتسليكهم إياهم إن كانوا مستسلمين قابلي التصرف { والأحبار } [المائدة: 63]، علم العلماء المتقون يدعوهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة { عن قولهم الإثم } [المائدة: 63]، في طلب الدنيا وما فيها { وأكلهم السحت } [المائدة: 63]، فهو كل شيء غير الحق { لبئس ما كانوا يصنعون } [المائدة: 63]، المشايخ والعلماء في ترك النصيحة
" وإنما الدين النصيحة "
ولولا حقيقة هذا المعنى في التوبيخ لما اشتغل أهل الله المحققون بدعوة الخلق، وتربيتهم لاستغرابهم في مشاهدة الحق، ومؤانستهم به.
[5.64-66]
ثم أخبر عن بعض موجبات اللعنة لأهل الغفلة بقوله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } [المائدة: 64]، إشارة أن الله تعالى مهما وكل الإنسان إلى خصائص نفسه وحساسة طبعه وركاكة نظره وعقله بالخذلان يترشح بما في إنانه من صفاته الظلومتية والجهولية التي جبل عليها حتى يظن السوء، ويقول على الله ما لا يعلم، كما قالت اليهود: يد الله مغلولة؛ أي: من إصابة الخير ومهما أدركته العناية الربانية وأيده بالتأييد الإلهي فما ينطق عن الهوى إلا بما يلهم أو يوحي كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار "
ثم أصابهم الحق، وقال: { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } [المائدة: 64]؛ أي: أيديهم عن إصابة الخير مغلولة، وشأنهم عن تنسيم روائح الصدق مزكوة، وإنهم عن أبواب الحق مطرودون إلى خصائص النفس مردودون ثم أثنى على نفسه فقال: { بل يداه مبسوطتان } [المائدة: 64]؛ أي: يد اللطف ويد القهر { ينفق كيف يشآء } [المائدة: 64]، من خزائن اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإيمان، والإحسان على الكافرين من الضلالة والغواية والكفران وعذاب النيران؛ فيرفع قوة للدرجات العلى ويضع آخرين الدركات السفلى، ويدفع عن قوم الشر والبلاء ويمنع عن قوم الخير والنعماء بل يعم نعم الدفع أو يخص نعم النفع { وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } [المائدة: 64]، فيه إشارة إلى أهل الحسد فإنهم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله، وينكرون ذوي الفضل فلا يزيدهم الحسد إلا الطغيان فكما أن مصائب قوم عند قوم فوائد كذلك قوم عند قوم مصائب، ثم أدرك الحسد خذلان الحق وجعل بأسهم بينهم كما قال تعالى: { وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة } [المائدة: 64]، فلا يوجد ذو جلالا بينه وبين صاحبه في الحسد عداوة وبغض، والحقد إلى أن يتوارثوا بطنا عن بطن فلا يكون بينهم موافقة في الحقيقة { كلمآ أوقدوا نارا للحرب } [المائدة: 64] أي: يجتمعون لإثارة الفتنة على أهل الحقيقة ويتعفون على إظهار الباطل { أطفأها الله } [المائدة: 64]، نار مكرهم وشتت عليهم أمرهم { ويسعون في الأرض فسادا } [المائدة: 64]، بإظهار الإنكار والغيبة والبهتان وتقبح أحوال أهل الحق عند العوام؛ لكسر قلوبهم في نظر الخلق ليحقروا بعد وقروا { والله لا يحب المفسدين } [المائدة: 64]، الذين يفسدون اعتقاد الخلق في أرباب الصدق وأهل الحق.
ثم أخبر عن إصلاح حال من يقبل الصلاح بقوله تعالى: { ولو أن أهل الكتب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم } [المائدة: 65]، الإشارة ولو أن أهل الكتاب؛ يعني: أهل العوام الظاهر وآمنوا بالعلوم الباطنة وأقروا وصدقوا أهلها فيما يخبرون عنها، واتقوا الإنكار والاعتراض والحسد عليهم لكفر عنهم سيئاتهم، وهي الغفلة عنها والجهل بها والإنكار عليها، والحسنات التي تصدر عن الأبرار بالعكوف على الأعمال البدنية دون القلبية ولزوم العلوم الظاهرة بالإعراض عن العلوم الباطنة، فإنها سيئات المقربين { ولأدخلنهم جنت النعيم } [المائدة: 65]؛ أي: لأنزلناهم مع المقربين منازل الأولياء والصديقين ودرجات الشهداء والصالحين { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم } [المائدة: 66]، في القرآن المجيد والكتب المنزلة والصحف الأولى؛ يعني: لو علموا بمقتضياتها ولزموا مستحسناتها، وهي تزكية النفس عن خصائصها الذميمة وتحليتها بدوام الذكر ومراقبة السر لحصول الأخلاق الكريمة ومخالفة الهوى وإيثار الآخرة على الأولى يدل على هذا التحقيق قوله تعالى
قد أفلح من تزكى
[الأعلى: 14] إلى آخر السورة.
{ لأكلوا من فوقهم } [المائدة: 66]؛ يعني: رزقوا من الواردات الروحانية والمشاهدات الربانية { ومن تحت أرجلهم } [المائدة: 66]؛ أي: تسخر النفس بالهمم العلية بأن ينهوها ويجعلوا مرادتها تحت أقدامهم ليصلوا إلى مقامتهم كقوله تعالى:
ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى
[النازعات: 40-41]، { منهم أمة مقتصدة } [المائدة: 66]؛ أي: علماء السوء { وكثير منهم سآء ما يعملون } [المائدة: 66]، فيما يحسدون أهل الحق وينكرون عليهم ويؤذونهم بالكذب والافتراء والتخطية.
[5.67-70]
ثم أخبر عن تبليغ الرسالة وعدم الالتفات بأهل هذه الحالة وسوء المقالة بقوله تعالى: { يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك } [المائدة: 67]، إشارة إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الرسل إليه من دينه مطلقا بقوله تعالى: { يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك } المائدة: 67]، فاندرج تحت الأمر ما أنزل إليه من ربه من الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوة والرسالة كلها.
ثم أكد الأمر بقوله تعالى: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } [المائدة: 67]؛ لأن الحكمة في إرسال الرسول أن يكون الرسول داعيا إلى الله بإذنه، ويكون لهم في سلوك الطريق هاديا إلى صراط مستقيم إلى الله وسراجا منيرا يهتدي به ويقتدي إلى أن يوصلهم إلى الله تعالى، فحقائق النبوة والرسالة والمشاهدات والكشوف كلها منازل منارات ومقامات أحوال الواصلين السائرين إلى الله تعالى، فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد؛ فلا يمكنهم الوصول إلى الله تعالى، فلا يحصل مقصود ما أرسل منه، ففي الحقيقة ما بلغ رسالته بالكمال إلا أن للتبليغ مراتب بحسب ما أنزل إليه، كما أنزل إليه بأحوال مختلفة، فالتبليغ بالعبادة؛ وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب والتهذيب، وتبليغ بالتعليم وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالأخلاق وتبليغ بالضرة وتبليغ بجذبات الولاية، وتبليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة، وهذا سر عظيم يتضمن حقائق كثيرة، ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلم:
" يحتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم عليه السلام ".
واعلم أن للحق أيضا مراتب في قبول الدعوة والرسالة وحقائقها، كقوله تعالى:
الله أعلم
[الأنعام: 124]، حيث يجعل رسالته، ولهذا التفاوت في قبول الدعوى على حسب الاستعدادات المختلفة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعانيين من العلم، فأما أخذه فقد بثثته، وأما الآخرة فلو بثته ليقطع هذا البلعوم، ثم قال تعالى: { والله يعصمك من الناس } [المائدة: 67]؛ أي: يعصمك بأوصاف لاهوتيك عن أوصاف ناسوتيتك؛ لتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله، ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } [المائدة: 67]؛ يعني: من سنته صلى الله عليه وسلم أن لا يهدأ إلى حضرته قوما جحدوا نبوة الأنبياء، وما قبلوا رسالة الرسل ليبلغوا إليهم ما أنزل إليهم من ربهم، وأنكروا على الأولياء وما استمسك بعروة ولايتهم؛ ليوصلوهم إلى الله تعالى سنة الله
التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23].
ثم أخبر أن المتمسكين بأقوال أهل الحق بقوامات ما { قل يأهل الكتاب } [المائدة: 68]، إشارة أن الخطاب يعم جميع من أنزل إليهم الكتب، ويخص لأرباب العلوم الظاهرة المحرومين عن العلوم الباطنة { لستم على شيء } [المائدة: 68]، من حقيقة الدين بمجرد تعلم العلوم الظاهرة وشرائع الدين، أنتم الغافلون عن العلوم الباطنة وحقيقة الدين { حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم } [المائدة: 68]؛ يعني: حتى تقيموا أحكام ظاهرها وباطنها، وزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال التي يشير إليها ظاهريا وباطنها وهذا احتمالا بتصور إلا بمقدمتين ونتائج أربع، فأما المقدمتان فأولهما: الجذبة الإلهية، وثانيها: التربية الشيخية، وأما النتائج فأولها: الإعراض عن الدنيا وما يتعلق بها كلها، وثانيها: التوجه إلى الحق بصدق الطلب، وهي من نتائج الجذبة، ثم تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الإلهية، وهما من نتائج التربية الشيخية باستمداد القوة النبوية { وليزيدن كثيرا منهم } [المائدة: 68]؛ يعني: من العلماء التوبة { مآ أنزل إليك من ربك } [المائدة: 68]، من أنصاف الربوبية يا أهل التحقيق في العبودية { طغيانا وكفرا } [المائدة: 68]، إنكارا وحسدا { فلا تأس } [المائدة: 68]، يا أهل التحقيق { على القوم الكافرين } [المائدة: 68]، الجاحدين المنكرين فإنهم خلقوا مستعدين لهذا الإنكار الموصل إلى دركات النار.
ثم أخبر عن إيمان أهل الإتقان بقوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون } [المائدة: 69]، إشارة أن من ادعى الإيمان وأظهر من الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون { والنصارى من آمن } [المائدة: 69]، من هؤلاء { بالله } [المائدة: 69] بهداية الله ونوره ولا بالتقليد والنفاق بالعادة المعتادة بين قومه وأهل بلده { واليوم الآخر } [المائدة: 69]؛ أي: شاهد بنور الله الذي حقيقة الإيمان يوم الآخرة وحقيقة الجنة والنار كما قال حارثة رضي الله عنه وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وأهل النار يتعادون { وعمل صالحا فلا خوف عليهم } [المائدة: 69]، فيما لا يكون على شيء فإنهم يقيمون بأنك كنز التوراة والإنجيل والقرآن عملا بالظاهر والباطن { ولا هم يحزنون } [المائدة: 69]، على ما يقاسون من شدائد الرياضات والمجاهدات من مخالفات النفس في ترك الدنيا، وقمع الهوى ولا على ما أصابهم من البلاء والمحن والمعيبات والآفات، وهذا حال خواص الأولياء كما قال تعالى:
ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس: 62].
ثم أخبر عن أهل الهوى بقوله تعالى: { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } [المائدة: 70]، الإشارة إنا لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل؛ يعني: يوم الميثاق مع ذريات بني آدم؛ إذ أخرجهم من ظهر آدم في التوحيد والمعرفة في غيبة الأجساد، ثم { وأرسلنآ إليهم رسلا } [المائدة: 70]، في حضورهم بالأجساد في عالم الشهادة من الإلهامات الربانية والواردات الروحانية والرسل الحسدانية { كلما جآءهم رسول } [المائدة: 70]، من هؤلاء { بما لا تهوى أنفسهم } [المائدة: 70]؛ أي: على خلاف هوى نفوسهم وكانوا مغلوبي الهوى يحجبهم الهوى عن استماع الحق ورؤية الشواهد ومعرفة الرسل { فريقا كذبوا } [المائدة: 70]، من الإلهامات والواردات { وفريقا يقتلون } [المائدة: 70] من الرسل ظاهرا فعبدوا الهوى، واتخذوا إلههم أهولئهم.
[5.71-72]
{ وحسبوا ألا تكون } [المائدة: 71]، عبادة الهوى وتكذيب الرسل وقتلهم { فتنة } [المائدة: 71]، عليهم وإن سألوا عقوبتها عاجلا دون أجلا { فعموا } [المائدة: 71]، بعيون القلوب عن شواهد الحق { وصموا } [المائدة: 71]، بآذان القلوب عن استماع الإلهامات وإحساس الواردات عقب غلبة الهوى، وتكذيب الرسل وقتلهم عقوبة لذلك عاجلا { ثم تاب الله عليهم } [المائدة: 71]؛ أي: على بعضهم من قابل التوبة وأهل الرجوع إلى الحق { ثم عموا وصموا } [المائدة: 71]؛ يعني: بعضهم ممن لم يكونوا قابلي التوبة وأهل الرجوع، كما بين وقال: { كثير منهم والله بصير } [المائدة: 71]، في الأزل بتقدير { بما يعملون } [المائدة: 71]، اليوم من الخير والشر، فقدر ما شاء كما شاء لمن شاء، فيجازيهم ما يشاء ومهما يشاء.
ثم أخبر عن بعض ما قدر لمن قدر كيف قدر بقوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [المائدة: 72]، إشارة أن النصارى لما أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بعدم العقل وينظروا إلى أحوال الأنبياء بنظر العقل تاهوا في أودية الشبهات؛ فانقطعوا في بوادي الهلكات جل جناب القدس عن إدراك الأنس هيهات هيهات، وهو حال من يقفوا أثرهم فأطرت النصارى عيسى عليه السلام إذ نظروا بالعقل في أمره، فوجدوا مولودا من أم بلا أب فحكم عقلهم أن لا يكون مولود بلا أب، فينبغي أن يكون هو ابن الله واستدلوا على ذلك بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخبر عما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون وهذا من صفات الله، ولو لم يكن المسيح ابن الله لما أمكنهم هذا، وإنما أمكنه لأن الولد سر أبيه، وقال بعضهم: إن المسيح لما استكمل تزكية النفس عن صفات الناسوتية حلت لاهوتية الحق في مكان ناسوتيته؛ فصار هو الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم اعلم أن أمة محمدا صلى الله عليه وسلم لما سلكوا طريق الحق بأقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الحبية أسقط عنهم كلفة الاستدلال ببراهين الوصول والوصال، كما كان حال الشبلي - رحمه الله - حين غسل كتبه بالماء فكان يقول: نعم الدليل أنتم، ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول إلى المدلول محال، فهؤلاء القوم بعد ما وصلوا إلى سرادقات حضرة الجلال شاهدوا بأنوار صفات الجمال أن الإنسان هو الذي حمل أمانة الحق من بين سائر المخلوقات، وهي فيض نور الإلوهية بوساطة الأنبياء فهم مخصوصون بأحسن التقويم في قبول هذا الكمال؛ فيتحقق لهم أن عيسى عليه السلام لما صار قابلا بعد التزكية والتخلية والمحبية كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله؛ أعني كان صورة الفعل منه ومنشأ صفة الخالقين حضرة الألوهية، وهذا كما أن لكرة البلور المخروط استعداد في قبول فيض الشمس إذا كانت في محاذاتها، فتقبل الفيض وتحرق اللوح المحاذي لها بذلك الفيض فمصدر الفعل المحرق من الكرة ظاهرا ومنشأ الصفة المحرقية حضرة الشمس حقيقة؛ فصارت الكرة بحسن الاستعداد قابلة للفيض والظهر منها صفات الشمس، وما حلت الشمس في كرة البلور تفهم إن شاء الله وحده.
وكذلك حال الأنبياء في المعجزات وكبار الأولياء في الكرامات والفرق أن الأنبياء مشتغلون بهذا المقام والأولياء متبعون، فالله تعالى كفر الحلولية والأقانيمية وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية من النصارى، وقال: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [المائدة: 72]؛ أي: ضل به وأثنى على توحيده عليه السلام وإقراره في العبودية { وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } [المائدة: 72]، بالخالقية والمالكية؛ يعني: الذي أعبده وأنتم عبيده وهو ربه وربكم بالخالقية { إنه من يشرك بالله } [المائدة: 72]؛ أي: يقول بإلهية أحد غير الله فهذا شرك لا يغفر، ولهذا قال: { فقد حرم الله عليه الجنة } [المائدة: 72]، وأما شرك الرياء فيحمل المغفرة ولا يحرم عليه الجنة بل يحرم عليه القربة، ومن حرم الجنة { ومأواه النار } [المائدة: 72]، فيعذب بنار الفرقة مع الحرقة { وما للظالمين } [المائدة: 72]، الذين وضعوا الإلهية غير موضعها { من أنصار } [المائدة: 72]، يوصلون لهم ما قطعوا على أنفسهم من عقد التوحيد.
[5.73-75]
ثم قال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [المائدة: 73]؛ يعني: في اللاهوتية كفرهم الله بأنهم أضافوا اللاهوتية إلى ثلاثة وأثبتوا عند ألهه، وهذا من غاية الخذلان، ويحكم العقل عليه بالبطلان أن عيسى ابن مريم عليه السلام كانا محدثين مخلوقين والمحدث المخلوق كيف يكون إلها خالقا قديما، وهذا لا يخفى على المجانين فكيف على العقلاء، فقال تعالى: { وما من إله إلا إله واحد } [المائدة: 73]، الذي هو صانع كل شيء وخالقه { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا } [المائدة: 73]، بما قالوا وبكفرهم { منهم } [المائدة: 73]؛ أي: من الذين لم ينتهوا عن هذا القول؛ لأن الله قدر لهم الكفر بين تقي من تقي في بطن أمه { عذاب أليم } [المائدة: 73]، لا يفارقهم أبدا ألمه.
ثم أخبر أن باب التوبة عليهم مفتوح، وأن الغفران ممنوح بقوله تعالى: { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } [المائدة: 74]، إشارة أن الله تعالى نفى الألوهية عن عيسى عليه السلام وأثبت له بنوته من مريم، وأنه اشتملت عليه الأرحام وتناوبته الأيام، وأثبت له الرسالة وأثبت الرسل قبله، وإنهم قد خلوا، وإن ما يظهر منه من المعجزات فهو مثل ما كان يظهر من الرسل، وأثبت أنها مريم أم عيسى، وإن لها مقام الصديقية التي هي تتلو النبوة ونفى الإلهية عنها، وأثبت الحاجة الماسة إلى الطعام لها وإصابة الضرورة إلى أن يتخلصا من قضايا الطعام، احتج بهذه الضرورات البشرية عدم استحقاق الربوبية لهما ونفي الإلهية عنهما وغير ذلك من الأسرار والحقائق في ضمن هذه الكمالات البليغة الفصيحة المعدودة، وهي قوله تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } [المائدة: 75]، إلى قوله: { كانا يأكلان الطعام } [المائدة: 75]، ثم قال تعالى إظهارا لما بين الآيات إلى { انظر كيف نبين لهم الآيات } [المائدة: 75]، وهي تضمين المعاني والحقائق الكثيرة في هذه الألفاظ اليسيرة، والآية الأخرى هي نفس عيسى ومريم، كقوله تعالى
وجعلنا ابن مريم وأمه آية
[المؤمنون: 50]، وذلك أن آية الأنبياء فيما غير أنفسهم إعجاز الخلق، وكان آية عيسى وأمه في نفسهما بأن مريم ولدت مولودا من غير زوج، وأن عيسى ولد من غير أب إظهارا للقدرة { ثم انظر } [المائدة: 75]؛ أي: من جعلهم الله بالخذلان
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171]، { أنى يؤفكون } [المائدة: 75]؛ أي: يصرفون عن وجه الحق مع ظهور الآيات الدالة عن الحق.
[5.76-79]
ثم نفى إيصال النفع والضر عن قدرة عيسى عليه السلام مع تمكينه من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فقال تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } [المائدة: 76]؛ لكي تهتدوا إلى التوحيد، ولتعلموا أن ما ظهر عن عيسى عليه السلام من الإبراء والإحياء كان بإذن الله وقدرته { والله هو السميع } [المائدة: 76]، بما تحدث به أنفسهم عند تعليق القلوب بدون الرب في استدفاع الشر واستجلاب الخير { العليم } [المائدة: 76]، بمن يدفع عنهم الشر ويصيبهم الخير، فإذا الضار والنافع وهو الذي يخاف ويرجى في الضراء والسراء لا غير.
ثم أخبر عن الغلو من السلو بقوله تعالى: { قل يأهل الكتاب } [المائدة: 77]، إشارة أن الخطاب في قوله تعالى: { قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } [المائدة: 77]، مع المقلدين من أهل الكتاب؛ لأنه قال { في دينكم } [المائدة: 77] أي: في مذهبكم الذي اتخذتم بالتقليد من أهل الأهواء والبدع، ما قال في الدين مطلقا؛ لأن الغلو في دين الحق حق، ولهذا قال تعالى: { غير الحق } [المائدة: 77]؛ أي: فيما غير الحق من دينكم؛ يعني: الغلو بما هو الحق من دينكم حق، ثم أكد ما بقوله تعالى: { ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل } [المائدة: 77]؛ إذ غلب عليهم الهوى فاتخذوه إلها يعبدونه على اتباعه، وزين الشيطان في أعينهم الشبه المعقولة والمشوبة بالهوى فضلوا بها من قبل { وأضلوا كثيرا وضلوا } [المائدة: 77]، من جهال المبتدعة ومقلديهم في اتباع أهوائهم وشبههم، وضلوا يعني: كلا الفريقين التابع والمتبوع { عن سوآء السبيل } [المائدة: 77]؛ يعني: استقامة طريق الوصول إلى الحق، فإن الهداية الحقيقية هي الانقطاع عن الخلق والتولي عن طريقه { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم } [المائدة: 78]، فيه إشارة إلى سر الخلافة، وهو أن الإنسان الكامل الذي يصلح للخلافة الحق هو مظهر صفات لطفه للحق وقهره، فقبولهم قبول الحق، وردهم رد الحق، ولعنهم لعن الحق، وصلاتهم صلاة الحق، فمن لعنوه فقد لعنه الحق، ومن صلوا عليه فقد صلى عليه الحق، لقوله تعالى لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم:
إن صلوتك سكن لهم
[التوبة: 103]، ثم قال تعالى:
هو الذي يصلي عليكم
[الأحزاب: 43]، فمظهر اللعن كان لسان داود وعيسى، وكانت اللعنة من الله حقيقة، كقوله:
لعنآ أصحب السبت
[النساء: 47]، وهم الذين لعنهم داود عليه السلام صرح هاهنا أن اللعن كان منه تعالى: وإن كان لسان داود { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } [المائدة: 78]؛ أي: موجب اللعن كان مخالفة أمر الحق والاعتداء وهو الإصرار على العصيان وترك التوبة يدل عليه بالعدة { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } [المائدة: 79]؛ يعني: كانوا يصرون على فعل المنكر، وإنما سمي العصيان منكرا؛ لأنه يوجب المنكرة كما سمي الطاعة معروفا؛ لأنها توجب المعرفة { لبئس ما كانوا يفعلون } [المائدة: 79]، الإصرار على الفعل المنكر لأن الإقدام على الفعل المنكر معصية والإصرار على المعصية كفر.
[5.80-81]
ثم أخبر عن نتائج إصرارهم بقوله تعالى: { ترى كثيرا منهم } [المائدة: 80]؛ يعني: من المصرين { يتولون الذين كفروا } [المائدة: 80]، وتوليه الكافر في كفره، كقوله ومن يتلوهم منكر، فإنه منهم { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } [المائدة: 80]؛ يعني: ما يقولون الكفار { أن سخط الله عليهم } [المائدة: 80]؛ لأن ذلك التولية موجبة لسخط الله عليهم فإن موالاة الأعداء توجب معادات الأولياء { وفي العذاب هم خالدون } [المائدة: 80]؛ يعني: عذاب معادات الحق لا ينقطع أبدا.
ثم استدل على كفر من يتولى الكافر وهو يزعم أنه مؤمن بقوله تعالى: { ولو كانوا يؤمنون بالله } [المائدة: 81]، إيمانا حقيقيا { والنبي } [المائدة: 81]، ويؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على التحقيق لا على التقليد { وما أنزل إليه } [المائدة: 81]، من القرآن والحكمة والحقائق { ما اتخذوهم أوليآء } [المائدة: 81]؛ لأنهم أعداء الله والمؤمنين من كان الله وليه والرسول والمؤمنون، كقوله تعالى:
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت
[البقرة: 257]، { ولكن كثيرا منهم } [المائدة: 81]؛ يعني: من الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالله والنبي { فاسقون } [المائدة: 81]، خارجون عن وصف الإيمان وحقيقته، وهم يظنون أنهم يؤمنون وهم أهل الأهواء والبدع، ومفهوم الخطاب أن أيضا كثيرا منهم مؤمنون على الحقيقة.
[5.82-83]
ثم أخبر عن اليهود وشدة عداوتهم والنصارى وقرب مودتهم بقوله تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } [المائدة: 82]، إشارة أن اليهود لما انحرفوا عن الصراط المستقيم وانصرفوا عن الدين القويم شاركوا المشركين في إبطال الاستعداد الروحاني لقبول الإسلام الفطري؛ فصاروا أضدادا وأعداءا لأهل الإيمان أشد عداوة لهم من جميع الناس؛ لقوله تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } [المائدة: 82]، وذلك لأنهم بدلوا دين موسى عليه السلام بما اقتضت آراءهم واتبعوها وأشهدت أهواءهم وفازوا بالطبيعة على الشريعة، وتساووا مع المشركين في الكفر بالحقيقة، ثم بين الله تعالى أن النصارى الذين يبدلون دين عيسى عليه السلام لما أخذوا بوصية عيسى عليه السلام واتبعوا العلم والعبادة والرتب، ولم يبطلوا استعدادهم الروحاني القابل للإسلام الفطري ثبت لهم، والمودة لأهل الإيمان لمناسبة أرواحهم فإن تعارف الأرواح يوجب الائتلاف بين الأشباح فقال تعالى: { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } [المائدة: 82]؛ يعني: مقاربة النصارى إلى أهل الإيمان ومودتهم إياهم ببركة علمائهم تحققوا بعلمهم ورهبهم وصفاء قلوبهم وصدق طويتهم أن دين الإسلام حق، وعرفوا أمارات وعلامات وجدوها في الإنجيل في وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحقيقة دينه كما أخبر الله تعالى عن حالهم بقوله تعالى: { وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } [المائدة: 83]، فكانوا يخبرون النصارى ما وجدوه في الإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فالمستعدون منهم للإيمان يؤمنون به ويصدقونه، فإذا بلغ إليهم الدعوى يتفادون ولا يستكبرون، كقوله تعالى: { وأنهم لا يستكبرون } [المائدة: 82]، حين دعوا إلى التوحيد بخلاف المشركين، كما قال تعالى: { وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول } [المائدة: 83]، إشارة أنهم سمعوا إذا سمعهم الله لما علم فيهم خيرا من أحسن الاستعداد الفطري في إنزال إلى الرسول من كلامه القديم كما أنزل إلى الذرات التي أخرجهما من ظهر آدم إذ قال لهم:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، فأسمعهم كلامه ووفقهم للجواب الصواب حتى شهدوا بربوبيته وقالوا:
بلى شهدنآ
[الأعراف: 172] فكذلك أسمعهم هاهنا كلامه وعرفهم حقيقة كلامه؛ فاشتاقوا إليه وتذكرت قلوبهم ما شاهدوا عند الميثاق من تلك المشاهدة؛ فبكوا بكاء الشوق وبكاء المعرفة كما أخبر عنهم، وقال تعالى: { ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } [المائدة: 83]، في الحق على أرواحهم؛ فكوشفت في الغيب بشواهد الحق فعرفوه وأمنوا به قالوا: { يقولون ربنآ آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } [المائدة: 83]، الذين شهدوا يوم الميثاق بالربوبية طوعا ورغبة، فإن بعض الأرواح شهدوا كرها ورهبة.
[5.84-88]
ولهذا اختلفت أحوالهم هاهنا { وما لنا لا نؤمن بالله } [المائدة: 84]، بعد شهود الشواهد { وما جآءنا من الحق } [المائدة: 84]، من لوامح المعرفة وطوالع المحبة { ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } [المائدة: 84]؛ يعني: فلما شهدنا الشواهد اشتقنا إلى المشاهدة وطمعنا في الدخول في زمرة الواصلين وجملة الصالحين للوصال والوصول { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } [المائدة: 85]، فعل إثابة الجنان بما قالوا عن شهود، ومفهوم الخطاب مبني بأنهم موحدون بما نالوا وبما سألوا وقالوا: { وذلك جزآء المحسنين } [المائدة: 85]، الذين يعبدون الله على الشواهد والشهود فإن
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ".
{ والذين كفروا } [المائدة: 86]، ستروا بحجب أوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية؛ فأعمهم الله وأعمى أبصارهم اسمعوا فلم يسمعوا شاهدوا فلم يبصروا { وكذبوا بآيتنآ } [المائدة: 86]؛ إذ لم يبصروا { أولئك أصحب الجحيم } [المائدة: 86]؛ أي: هم الذين خلقوا للنار، كما قال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف: 179].
ثم أخبر عمن سمعوا فاستمعوا بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم } [المائدة: 87]، إشارة أن الله تعالى خاطب من رزقهم الإيمان الحقيقي وقال: { يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم } ، أي: لا تحرموا على أنفسكم بشغل الاستعداد بتمتعات الحيوانية والانتفاعات الجسمانية أي: طيبات ما أحل الله لكم خاصة دون سائر المخلوقات من الحيوانات والمنافقين والكفار بل فضلا على الملائكة المقربين، وهي المواهب الربانية عند صفاء الروحانية من المكاشفات وحمل الأمانة التي اختص بحملها نفس الإنسانية، ولهذا قال تعالى: { مآ أحل الله لكم } ، أي: عدها لكم وأعدكم لها { ولا تعتدوا } [المائدة: 87]، ولا تجاوزا عن حد العبودية بدعوة النبوة والحلول والاتحاد، وهما كالنصارى والحيلولية وبعض الشطاح تعالى الله عما يقول الظالمون ويتوهمه الجاهلون علوا كبيرا { إن الله لا يحب المعتدين } [المائدة: 87]؛ يعني: من تجاوز حده إلى ما ليس هو حده { وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا } [المائدة: 88]؛ أي: جدوا واجتهدوا في طلب ما رزقكم وخصكم به من تجلي جماله والجلال ما يكون بريئا من وصمة الحدوث من مواهب الحق، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب فالطيب الذي يقبله الحق من أن يكون متبرئا عن المحدثات؛ ليكون محلا لقبول ما هو بريء من وصمة الحدوث فافهم جيدا، { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } [المائدة: 88]؛ أي: اتقوا من غير الله بالله لتكونوا واصلين به بعدما أنتم به مؤمنون.
[5.89]
ثم أخبر عن لغو أيمان أهل الأيمان بقوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [المائدة: 89]، إشارة أن لا يؤاخذكم أهل الفقه باللغو في أيمانكم عند استيلاء النفس وغلبات صفاتها وسلطان الهوى في أثناء المجاهدة وشدة المكابدة وإعواز المشاهدة أن تخلقوا بالآيات على التبرم من ولاية ملامة النفس وكلالة التقوى، ثم إذا كشطت عن سماوات قلوبكم غمام القبض تعدون الولاء عين الفرض { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } [المائدة : 89]، على الهجران وقصدتم الصدود بالخذلان فأبديتم الشاقة وأخفيتم الكرامة وتعرضتم للملامة { فكفارته } [المائدة: 89]؛ أي: فكفارة ما عقدتم وقصدتم إليه { إطعام عشرة مساكين } [المائدة: 89]، وهم الخواص الخمس الظاهرة والباطنة فإنها مدخل الآفات وموئل الفترات { من أوسط ما تطعمون أهليكم } [المائدة: 89]، وهم القلب والسير والروح والغنى، وطعامهم الشوق والصدق والإخلاص والتفويض، وعلمهم الرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف بواسطة الذكر والتذكير، وتفكروا والتفكر والتشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء، فإطعام الحواس الظاهرة والقوى الباطنة هذه الأطعمة باستعمالها في التعبد بها والتحفظ عما ينافيها { أو كسوتهم } [المائدة: 89]، وهو ألباس الحواس والقوى بلباس التقوى { أو تحرير رقبة } [المائدة: 89]، النفس عن عبودية الهوى والحرص على الدنيا: { فمن لم يجد } [المائدة: 89]، السبيل إلى هذه الأشياء { فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } [المائدة: 89]، وذلك لأن الأيام لا تخلو عن ثلاث إما يوم قد مضى، أو يوم قد حضر، أو يوم قد بقي، فصيام اليوم الذي قد مضى بالإمساك عما عقد عليه أو قصد إليه أو بالصبر على التوبة عنه، وصيام الذي قد حضر بالإمساك عن التغافل عن الأهم وبالصبر عن الجد والاجتهاد، وبذل الجهد في طلب المراد وصيام اليوم الذي قد بقي بالإمساك عن فسخ العزيمة في ترك الجريمة، وفسخ الإخلاص في طلب الخلاص وبالصبر على قدم الثبات في تقديم الطاعات والمبرات وصدق التوجه إلى حضرة الربوبية بمساعي العبودية من لغو اليمين عند أرباب اليقين أعلم أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الأرق يقسم عليه بكماله وجلاله أن يرزقه شظية من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو، وفي مذهب التسليم سهو فيعفو عنه رحمة عليه لضعف حاله ولا يؤاخذه بمقاله، وإن الأولى الذوبان والخمود بحسن الرضا تحت جريان أحكام المولى في القبول والرد والإقبال والصد وإيثار الاستعانة في أداء حقوقه على الكرامة، وعلى لذة تقريبه وإقباله وشهوة وصوله ووصاله، كما قال قائلهم:
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
وحقك ما نظرت إلى سواك
بعين مودة حتى أراك
وهذا حكم التوحيد لغو وعن شهود الأحدية سهو وأين في الدار ديار، ومن أنت في الرفعة حتى يتحقق لك وصله أو بحره بل هو الله الواحد القهار { كذلك يبين الله لكم آياته } [المائدة: 89]، وفي مرآة روحه وصفاته الوحدانية القهارية { لعلكم تشكرون } [المائدة: 89]، نعمة رؤية هويته بوحدانيته.
[5.90-91]
ثم أخبر عن الاجتناب عن الخمر والميسر والأزلام والأنصاب بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } [المائدة: 90]، إشارة أن الله تعالى أخبر عباده المؤمنين عن الأعمال التي يوسوسهم بها الشيطان ويضلهم عن طريق الهدى ويهلكهم بمتابعة الهوى، وإن النجاة والفلاح في اجتنابها فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا } [المائدة: 90] إيمانا حقيقيا مستفادا من كتابة الحق بقلم العناية في قلوبهم { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } [المائدة: 90].
{ إنما الخمر } فلأنها تخمر العقل وهو نور روحاني علو من أوليات المخلوقات ومن طبعه الطاعة والانقياد والتواضع لربه كالملك وضده الهوى، وهو طلمة نفسانية سفلية من أخريات المخلوقات من طبعه التمرد والمخالفة والآباء والاستكبار عن عبادة ربه كالشيطان، فإذا خمر الخمر نور العقل يكون العقل مغلوبا لا يهتدي إلى الحق وطريقه، ثم يغلب ظلمة الهوى فتكون النفس أمارة بالسوء وتستمد من الهوى فيتبع بالهوى السلفي جميع شهواتها النفسانية مستلذاتها الحيوانية السفلية، فيظفر بها الشيطان فيوقعها في مهالك المخالفات كلها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" الخمر أم الخبائث "
لأن هذه الخبائث كلها تولدت منها.
وأما الميسر فإنه فيه تهيج أكثر الصفات الذميمة مثل الحرص والبخل والكبر والغضب والعداوة والبغض والحقد والحسد وأشباهها وبها يضل العبد عن سوء السبيل.
وأما الأنصاب فهي تعبد من دون الله فيها يصير العبد مشركا بالله.
وأما الأزلام ما يلتفت إليه عند توقع الخير والشر والنفع والضر من دون الله وأنها من المضلات، فإن الله هو الضار النافع، ثم قال تعالى: { رجس من عمل الشيطان } [المائدة: 90]؛ يعني: هذه الأشياء أحب شيء من أعمال الشيطان التي يغوي بها العبد ويضلهم عن صراط الحق وطريق الرشاد، ثم قال تعالى: { فاجتنبوه } [المائدة: 90]، يعني: اجتنبوا الشيطان ولا تقبلوا وساوسه واتركوا هذه الأعمال الخبيثة { لعلكم تفلحون } [المائدة: 90]، تخلصون من مكائد الشيطان وجنابة هذه الأعمال آفاتها ومحنها وتظفرون بالقربات والمواصلات { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء } [المائدة: 91]، والصفات الذميمة التي ذكرناها { في الخمر والميسر } [المائدة: 91]، كما ذكرناها { ويصدكم عن ذكر الله } [المائدة: 91]؛ يعني: عن شهود قلوبكم مع الله تعالى { وعن الصلاة } [المائدة: 91]؛ يعني: لذة المناجاة مع الله تعالى وعروج الأرواح إلى الله فإن الصلاة معراج المؤمن { فهل أنتم منتهون } [المائدة: 91]؛ أي: فاتركوا هذه المعاملات التي من عمل الشيطان لتفوزوا بمواصلات الرحمن في نعيم الجنان.
[5.92-94]
{ وأطيعوا الله } [المائدة: 92]، فما يأمركم بما يقربكم إليه ويباعدكم عنكم { وأطيعوا الرسول } [المائدة: 92]، يخرجكم من ظلمات وجودكم إلى نور شهود معبودكم { واحذروا } [المائدة: 92]، المخالفات فإنها تباعدكم عن الله وتزيد في حجب أنانيتكم { فإن توليتم } [المائدة: 92]، عن طلب الحق في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم: { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } [المائدة: 92]؛ يعني: على الرسول التبليغ والدلالة وعليكم المتابعة وعلينا التوفيق والهداية { ليس على الذين آمنوا } [المائدة: 93]، يعني: بالتقليد لا بالتحقيق { وعملوا الصالحات } [المائدة: 93]؛ أي: حافظوا على الأوامر والنواهي { جناح فيما طعموا } [المائدة: 93]؛ يعني: من المباحات { إذا ما اتقوا } [المائدة: 93]، الشبهة والإسراف { وآمنوا } [المائدة: 93]، بالتحقيق بعد التقليد، فإن الأعمال الصالحات أنوار الهداية واتقاء الشبهة فعلى أقدر الأعمال يتنور القلوب بالأنوار، وعلى قدر الأنوار تكاشف القلوب بالأسرار { وعملوا الصالحات } [المائدة: 93]، ففائدة التكرار فيه أن الأذل يشير إلى الأعمال البدنية مثل المحافظة على الأوامر والنواهي، والثاني يشير إلى الأعمال القلبية مثل تصفيته القلوب عن دنس كل حب في حب الله وطلبه تحليتها بالصدق والإخلاص والتوكيل والتسليم والرضا واليقين وبجميع الأخلاق الحميدة { ثم اتقوا } [المائدة: 93]، الالتفات بغير الله بحيث ما رضوا من الله بشيء دونه { وآمنوا } [المائدة: 93]، بواحدية أي: تيقنوا أنه تعالى المعاصي يوجد باب لطفه كما قال تعالى:
" ألا من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني "
، { ثم اتقوا } [المائدة: 93]، ترك اللإثنينية ببذل الأنانية وإفنائها في هويته { وأحسنوا } [المائدة: 93]، تهدوا الحق بالحق فإن
" الإحسان أن تعبدوا الله كأنك تراه "
{ والله يحب المحسنين } [المائدة: 93]، الفانين عن أنانيتهم والباقين بهويته المشاهدين بأنوار جماله إلى جلاله، فهم القوم الذين قال تعالى فيهم:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، وحقيقة الإشارة أن المحبوب الأزلي من هذا سيره وسيره لا يضره التصرف في المكونات بمحصول هذا الشرائط فافهم جيدا.
ثم أخبر عن ابتلاء أهل الولاء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } [المائدة: 94]، إشارة إن الله تعالى جعل البلاء لأهل الولاء كاللهب للذئب فقال: { يأيها الذين آمنوا } ، أي: إيمان المحبين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال والحرام، وأحرموا بحجج الوصول وعمرة الوصال ليبلونكم الله في أثناء السلوك بشيء من الصيد، وهو ما سنح من المطالب النفسانية الحيوانية والمقاصد الشهوانية والدنياوية { تناله أيديكم } [المائدة: 94]؛ أي: ما يتعلق بشهوات نفوسكم ولذات أبدانكم { ورماحكم } [المائدة: 94]؛ أي: ما يتعلق بالمال والجاه { ليعلم الله من يخافه بالغيب } [المائدة: 94]، وهو يعلم ويرى ليظهر الله ويميز بترك المطالب والمقاصد في طلب الحق من يخافه بالغيبة والانقطاع عنه ويحترز عن الالتفات بغيره { فمن اعتدى بعد ذلك } [المائدة: 94]، تعلق بالمطالب بعد ترك الطلب { فله عذاب أليم } [المائدة: 94]، من الرد والصد والانقطاع عن الله تعالى.
[5.95]
{ يأيها الذين آمنوا } [المائدة: 95]، بتحقيق الطلب والوصول في متابعة الرسول { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 95]، النكتة في أنه أباح الصيد لمن كان حلالا وهم أهل السلوة من العوام الذين رضوا من الكمالات الدينية بالأعمال البدنية من تصور هممهم الدنية، وحرم الصيد على من كان حراما وهم أهل المحبة المحرومون من الدنيا لزيارة كعبة الوصلة؛ يعني: من قصدنا فعليه بحسم الأطماع جملة، ولا ينبغي أن يكون له مطالبته بحال من الأحوال إلا طالب الوصال، ويقال العارف عبد الحق، ولا يكون للصيد صيد { ومن قتله منكم } [المائدة: 95]؛ أي: من الطلاب إذا التفت بشيء من الدنيا { متعمدا } [المائدة: 95]، وهو الذي واقف على مضرته وعالم بآفته فيغلب عليه الهوى ويقع فيه بحرص النفس { فجزآء مثل ما قتل من النعم } [المائدة: 95]، يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل المهالك اللذة والشهوة { يحكم به } [المائدة: 95]؛ أي: بتكلف المجازاة { ذوا عدل منكم } [المائدة: 95]، وهي القلب والروح يحكمان على مقدار الإيمان وعلى أنواع الرياضات بتقليل الطعام والشراب، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة والخلوة وضبط الحواس { هديا بالغ الكعبة } [المائدة: 95]؛ أي: خالصا لله فيما يعمل بحيث يصلح لقبول الحق من غير ملاحظة الخلق { أو كفارة طعام مساكين } [المائدة: 95]، وهم العقل والقلب والسر والروح والخفي، فإنهم كانوا محرومين من أغذيتهم الروحانية من صدق التوجه إلى الحق، وخلو من الأعراض عن الخلق ويخترع الصبر عن المكروهات والفطام عن المألوفات والشكر على الموهوبات والرضا بالمقدورات والتسليم الأحكام الأزليات { أو عدل ذلك صياما } [المائدة: 95]، والصيام هو الإمساك عن ملاحظة الأغيار وطلب الاختيار والركون إلى غير الملك الجبار { ليذوق } [المائدة: 95]، النفس الأمارة بالسوء { وبال أمره } [المائدة: 95]؛ أي: تتألم بألم هذه المعاملات التي على خلاف طبعها جزاء وكفارة لما نالت من لذات الشهوات وخلوات الغفلات { عفا الله عما سلف } [المائدة: 95]، من الطالبين قبل إقدام على الطلب { ومن عاد } [المائدة: 95]، إلى تعلق شي من الدنيا بعد الخروج عنها بقدم الصدق { فينتقم الله منه } [المائدة: 95]، بالخذلان في الدنيا والخسران في العقبى { والله عزيز } [المائدة: 95]، لا يوجد من تعلقات الكونين حتى يتجرد الطالب عن القليل والكثير والصغير والكبير { ذو انتقام } [المائدة: 95]، ينتقم من أحبابه باحتجاب التعزز بالكبرياء والعظمة على قدر التفاتهم إلى غيره، وملاحظة ما سواه وينتقم من أعدائه بما قاله
ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
[الأنعام: 110].
[5.96-97]
ثم قال تعالى: { أحل لكم صيد البحر } [المائدة: 96]، ما تصيدون من بحر المعرفة بالمشاهدة والكشوف { وطعامه متاعا لكم وللسيارة } [المائدة: 96]، يعني: تنفقون بما يرد عليكم ومردات الحق وتجلي الصفات كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
وتطعمون منه السائرين إلى الله من أهل الإرادة كقوله تعالى:-
فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير
[الحج: 28]، وهذا حال المشايخ وأهل التربية من العلماء الراسخين { وحرم عليكم } [المائدة: 96]، أيها الطلاب { صيد البر } [المائدة: 96]، وهو ما سنح في أثناء السير إلى الله من مطالب الدنيا والآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا حرام على أهل الآخرة... الحديث "
{ ما دمتم حرما } [المائدة: 96]؛ أي: محرمين إلى الكعبة الوصال متوجهين إلى حضرة الجلال، فإن حكم المتوجه بنا في حكم الواصل الكامل؛ لأن من وصل صار محوا فالمتوجه صاح فرق بعيد بين الصاحي والماحي، فإن أفعال الصاحي به، ومنه وأحوال الماحي ليست به ولا منه، والله غالب على أمره
" فبي يسمع وبي يبصر وبي وينطق وبي يبطش "
ولهذا قال تعالى:
وإذا حللتم فاصطادوا
[المائدة: 2]، إلي إذا فرغتم من مناسك الوصول وسلكتم مسالك الوصول سقط عنكم كلف المجرمين ومؤنات المسافرين، وثبت لكن لزوم العاكفين وأحكام الطائفين كما قال تعالى: { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } [المائدة: 96]؛ أي: اتقوا بالله الذي تجمعون وتصلون إليه عما سواه لكيلا تجوروا بعدما تكوروا نعوذ بالله من الجور بعد الكور.
ثم أخبر عن القيام أنه بالبيت الحرام بقوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قيما للناس } [المائدة: 97]، إشارة أن الله تعالى كما جعل الكعبة في الظاهر قياما للناس العوام والخواص يلوذون ويستحجبون بالتضرع والابتهال هناك حاجاتهم الدنيوية والآخروية، كذلك جعل كعبة القلب في الباطن قياما للخواص وخواص الخواص ليلوذوا بطريق دوام الذكر، ونفي الخواطر بالكلية وإثبات الحق بالربوبية والوحدانية بأن لا موجود إلا هو ولا وجود إلا له، ولا مطلوب ولا محبوب إلا هو وسماه البيت الحرام ليعلم أنه بيت الله على الحقيقة وحرام أن يسكن فيه غيره، فيرى فيه ذكر ما سوى الحق وحبه، وطلبه الإذن يفتح الله له أبواب فضله ورحمته { والشهر الحرام } [المائدة: 97]، وهو أيام الطلب والسير إلى الله حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق { والهدي } [المائدة: 97]، وهو النفس البهيمية فساق إلى كعبة القلب مع { والقلائد } [المائدة: 97]، وهي أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ولذاتها الحيوانية { ذلك لتعلموا } [المائدة: 97]، بالحقيقة { أن الله يعلم ما في السموت وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } [المائدة: 97].
[5.98-100]
ثم قال تعالى: { اعلموا أن الله شديد العقاب } [المائدة: 98]، يستدل الحجاب لغير الأحباب ممن ركنوا إلى الدنيا واغتروا بزينتها وشهواتها { وأن الله غفور رحيم } [المائدة: 98]، لطالبيه وقاصدي حضرته بفتح الأبواب ورفع الحجاب { ما على الرسول إلا البلاغ } [المائدة: 99]؛ يعني: عليه التبليغ بالقال والحال، كقوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
[الجمعة: 2]:
فأما القال: فهو قوله:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته
[الجمعة: 2]، وأما الحال فهو كقوله تعالى
ويزكيهم
[الجمعة: 2] أي: يزكي نفوسهم عن الأخلاق المذمومة بأنوار الصحبة وآدابها، فإن النفوس كالمرآة قابلة لأخلاق صاحبها، وأن الطبع من الطبع يسرق وهذا أحد أسباب تعليم حقيقة الكتاب والحكمة { والله يعلم ما تبدون } [المائدة: 99]، من الإيمان بإقرار اللسان وعمل الأركان { وما تكتمون } [المائدة: 99]، من تصديق الجنان والتكذيب وصدق التوحيد وإخلاص النية في طلب الحق أو غير ذلك { قل لا يستوي الخبيث والطيب } [المائدة: 100]، الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله { ولو أعجبك كثرة الخبيث } [المائدة: 100]، فيه إشارة أخرى أن الطيب هو الله الواحد والخبيث ما سوى الله وفيه كثرة { فاتقوا الله } [المائدة: 100]؛ أي: اتقوا بالله عن غير الله { يأولي الألباب } [المائدة: 100]، وهم الذين تخلصت ألباب قلوبهم وأرواحهم عن قشور الأبدان والنفوس، فيحثهم على أن يركنوا إلى الدرجات الروحانية { لعلكم تفلحون } [المائدة: 100]، لكي تظفروا بالقربات الربانية.
[5.101-104]
ثم أخبر عن كثرة السؤال أحثها تورث الملال بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء } [المائدة: 101]، إشارة أن الله تعالى نهى أهل الإيمان أن يتعلموا علم اللدنية وحقائق الأشياء بطريق السؤال؛ لأنها ليست من علوم القال وإنها من علوم الحال، فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء } ، أي: من حقائق الأشياء { إن تبد لكم } [المائدة: 101]، بيانها بطريق القال { تسؤكم } [المائدة: 101]؛ إذ لم تهتدوا إلى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المنسوبة بآفات الهوى والوهم والخيال في الشبهات فتهلكوا في أوديتها كما كان طوائف حال الفلاسفة؛ إذا طلبوا علوم حقائق الأشياء بطريق القال والبراهين المعقولة، فما كان منها مندرجة تحت نظر العقل المجردة عن شوائب الوهم والخيال أصابوها المتحذلقة منهم، وهو من يدعي الحذاقة أكثر مما عنده، وما ضاقت منه نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث والنظر عن الصراط المستقيم، وأوقعهم في أودية الشبهات بوادي المهلكات فهلكوا وأهلكوا خلقا عظيما بتصانيفهم في العلوم الإلهية، وبعضهم خلطوا العلم الأصول وقرروا شبهاتهم فيما ضلوا عن سواء السبيل، وما علموا أن تعلم علوم الحقائق بالقال محال، وإنما تعلمها يحصل بالحال كما كان حال الأنبياء - عليهم السلام - مع الله تعالى، فقد أعلمهم علوم الحقائق بالإرادات لا بالروايات، فقال تعالى
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض
[الأنعام: 75]، في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
لنريك من آياتنا الكبرى
[طه: 23]، وقال صلى الله عليه وسلم إرثاء الأشياء كما هي، وكما كان حال الأمة مع النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم الكتاب بالقال، والحكمة بالحال بطريق الصحبة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس وأخلاقها، كقوله تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحبة على موائد المتابعة
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53]، ثم قال تعالى: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } [المائدة:101]، وإن كان لا يدلكم من السؤال عن حقائق الأشياء، فاسألوا عنها بعد نزول القرآن أي: عن القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم، فأما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فإنها بيان حقائق الأشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بعقولهم طلبا للتأويل فإنه
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران: 7]، وهم الخواص، وأما الخواص فيفهمون عما يشير القرآن إليه من حقائق الأشياء بالنور والإشارات والمتشابهات حالا يفهم غيرهم، كما أشار تعالى بقصة موسى والخضر - عليهما السلام - إلى أن تعلم العلم اللدني إنما يكون بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم وترك الأغراض على الصاحب المعلم لا بالقال والسؤال بقوله تعالى :
هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا
[الكهف: 66-67]؛ يعني: في المتابعة والتسليم وترك الاعتراض
قال ستجدني إن شآء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء
[الكهف: 69-70]؛ يعني: أن من شرط المتابعة ترك السؤال عن الأفعال، وغيرها فلما لم يستطع موسى عليه السلام معه صبرا قال - يعني موسى -
إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصحبني
[الكهف: 76]، يشير إلى أن يعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال السؤال، وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة فافهم جيدا.
فلا عاد في الثالثة إلى السؤال، وقال:
قال لو شئت لتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك
[الكهف: 77-78]، قال: { عفا الله عنها } [المائدة: 101]؛ أي: عما سألتهم وطلبتم علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية { والله غفور } [المائدة: 101] لمن تاب ورجع إلى الله في طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال { حليم } [المائدة: 101]، بأن يطلب بالحال يحلم عنهم في أثناء الطلب بالصدر منهم مما ينافي أمر الطلب إلى أن يوفقهم لما يوافق الطلب، قال تعالى: { قد سألها قوم من قبلكم } [المائدة: 102]؛ يعني: من مقدمي الفلاسفة قد شرعوا في طلب العلوم الإلهية بالقال ونظر العقل فوقعوا في أودية الشيطان { ثم أصبحوا بها كافرين } [المائدة: 102]؛ أي: بسبب الشبهات التي وقعوا فيها بتتبع القال والقيل وكثرة السؤال وترك متابعة الأنبياء - عليهم السلام .
ثم أخبر عن اعتراض أهل الافتراء بقوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام } [المائدة: 103]، إشارة أن الشيطان كما سلط على قوم حتى أغراهم على الابتداع في أحكام الأنعام وترك الاتباع، كذلك سلط على قوم قادر على التصرف في أنعام أجسامهم ونفوسهم مبتدعين غير متبعين وهم يزعمون أن هذه التصرفات في الله، ففي قوله تعالى { ما جعل الله من بحيرة } إشارة إلى أن من يتصرف في بدنه بما لم يؤمر به كمن يشق أذنه أو ينقبها، ويجعل فيها الخلقة من الحديد أو يثقب صدره أو ذكره، ويجعل عليه الغفل أو يجعل في عنقه الغل ويحلق لحيته مثل ما يفعلون هؤلاء القلندرية، ولا سائبة وهم الذين يدورون في البلاد ومنهم مسيبين، خليعي العذار يرتعون في مراتع البهيمية والحيوانية بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة، وهم يدعون أنهم أهل الحقيقة، قد لعب الشيطان بهم واتخذوا إلههم هواهم، { ولا وصيلة } [المائدة: 103] وهم الذين به يبيحون المحرمات ويستحلون الحرمات، ويتصلون بالأجانب من طريق الأخوة والأبوة كالإباحية والزنادقة، فيغتر به ويظن أنه بلغ مقام الوحدة وأنه محمي عن النقصان بكل حال، ولا تضره مخالفات الشريعة؛ إذ هو بلغ مقام الحقيقة، فهذا كله من وساوس الشيطان وهواجس النفس ما أمر الله بشيء من ذلك ولا خص لأحد فيه، { ولكن الذين كفروا } [المائدة: 103]، بترك الشريعة وادعوا الحقيقة { يفترون على الله الكذب } [المائدة: 103]، بمثل هذه الأشياء إنها من الله ولله وفي الله { وأكثرهم لا يعقلون } [المائدة: 103]، إن هذا من الشيطان لا من الرحمن، وذلك أن أكثرهم قد أخذوا هذه الطريقة المضلة بالتقليد من الجهال وأهل الضلال { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله } [المائدة: 104]، من الأحكام { وإلى الرسول } [المائدة: 104]؛ أي: وإلى متابعته { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ } [المائدة: 104]؛ أي: مشايخنا وأهل صحبتنا الذين أخذوا هذه الطريقة السوء منهم { أولو كان آباؤهم } [المائدة: 104]، الذين وضعوا هذه الطريقة وابتدعوها { لا يعلمون شيئا } [المائدة: 104]، من الشريعة والطريقة { ولا يهتدون } [المائدة: 104]، إلى عالم الحقيقة فإنهما أهل الطبيعة وأرباب الخديعة، ولقد شاعت في الآفاق فتنتهم وكملت فيهم غرتهم، وما لهم من دافع ولا مانع ولا وازع على أن الخرق قد اتسع على الرفع.
[5.105-107]
ثم أخبر عن طريقة أهل الولاية عند استيلاء هذا البلاء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } [المائدة: 105]، إشارة أن في الخطاب تخصيص الطالب الصادق وهو قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا } أي: إيمان الطالبين المحققين بأن الوجدان في الطلب كما قال تعالى:
" ألا من طلبني وجدني "
{ عليكم أنفسكم } فاشتغلوا بتزكيتها فإنه
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 9-10]، فلا تشتغلوا قبل تزكيتها بتزكية نفوس الخلق، ولا تغتروا بإرادة الخلق وقبولهم وحسن ظنهم فيكم وتقربهم إليكم، فأيها الطالب اغتنم الساعة وأن مثل السالك المحتاج إلى المسلك والدين يدعي رواته ويتمسك به كمثل غريق في البحر محتاج إلى سائح كامل في ضيعته لينجيه من الغرق، فيتثبت به غريق في البحر وهو يأخذ بيديه لينجيه فيهلكان جميعا، فالواجب على الطالب المحقق أن يتمسك بدليل إرادة صاحب ولاية له في هذه الشأن مسلك كامل ويستسلم لأحكامه، ولا يلتفت إلى كثرة الهالكين فإنه لا يهلك على الله إلا هالك { لا يضركم } [المائدة: 105]، أيها الطالبون { من ضل } [المائدة: 105]، من المغرقين { إذا اهتديتم } [المائدة: 105]، إلى الحق { إلى الله مرجعكم جميعا } [المائدة: 105]، أيها الطالبون بجذبات العناية على طريق الهداية والمضلون بسلاسل القهر والخذلان على طريق، والعصيان نزلت في منذر بن عمر وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر فيدعوهم إلى الإسلام، فأبوا الإسلام فوضع عليهم الجزية، فقال: لا يضركم من ضل من أهل هجر إذا إهتديتم إلى الله يعني: آمنتم بالله { فينبئكم بما كنتم تعملون } [المائدة: 105]؛ أي: فيذيقكم لذة ثواب أعمالكم، والمعنى ليس للطالب أن يلتفت في أثناء سلوكه إلى أحد من أهل الصدق والإرادة بأن يقبله ليربيه، ويغتر بأنه شيخ يقتدى به إلى أن يتم أمر سلوكه بتسليكم مسلك كامل واصل، ثم إن يرى شيخان له رتبة الشيخوخة فينتبه بإشارة الحق في مقام التربية ودعوة الخلق إلى الحق فحينئذ يجوز له أن يكون هاديا مرشدا للمريدين باحتياط وافر فقد قال تعالى:
ولكل قوم هاد
[الرعد: 7]، فأما في زماننا هذا فقد آل الأمر إلى أن من لم يكن قط مريدا يدعى الشيخوخة ويخبر بالشيخوخة الجهال والضلال من جهالته وضلالته حرصا لانتشار ذكره وشهرته وكثرة مريديه، وقد جعلوا هذا الشأن العظيم والسر الجسيم لعب الصبيان وضحكة الشيطان حتى يتوارثون كلما مات ولله منهم يجلسون ابنه مقام صغيرا كان أو كبيرا ويلبسون منه الخرقة ويتبركون به وينزلونه منازل المساعي، فهذه مصيبة قد عمت ولعل هذه طريقة قد تمت فأنذرت آثارها والله أعلم بأخبارها .
ثم أخبر عن كيفية الوصية لقوله تعالى: { يآ أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } [المائدة: 106]، إشارة إن الخطاب في قوله تعالى: { يآ أيها الذين آمنوا } [المائدة: 106]، مع الروح وصفاته أن آمنتم إيمان المجتهدين في جهاد الأكبر شهادة بينكم { إذا حضر أحدكم الموت } [المائدة: 106]؛ أي: النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضات والمجاهدات { حين الوصية } [المائدة: 106]، والوصيان { اثنان ذوا عدل } [المائدة: 106]، هما العقل والسر { منكم } [المائدة: 106]؛ أي: من الروحانيات { أو آخران من غيركم } [المائدة: 106]؛ يعني: من غير الروحانيات وهما الوهم والخيال من النفسانيات فالعقل والسر يشهدان بالحق، وإن كان على ذي قرابة من الروحانيات والوهم والخيال يتحملان الصدق والكذب في الشهادة { إن أنتم ضربتم في الأرض } [المائدة: 106]؛ أي: سافرتم في السفليات { فأصابتكم مصيبة الموت } [المائدة: 106]؛ أي: تصيب النفس جذبة الحق فتموت { تحبسونهما } [المائدة: 106]؛ أي: الشاهدين العقل والسر والوهم والخيال إن كنتم في بعد من الروحانيات { من بعد الصلاة } [المائدة: 106]، بعد حضور جامع الله تعالى وتوجهها إلى الحق ومراقبة ثابتة { فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى } [المائدة: 106]، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق { ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الآثمين } [المائدة: 106]، يدفعان تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته، ولا يتصرفان في شيء من السفليات، ولا يميلان إلى حظ من حظوظها وإن كل خلق وصفة ذميمة ورثها القلب من النفس يجعلها خلقا محمودة وصفة حميدة؛ لأن النفس كانت تشتمل تلك الصفة في السفليات وكانت ذميمة تستعملها القلب في العلويات فتكون حميدة مثاله أن الحرص صفة من صفات النفس، وهي تستعمله في طلب الدنيا ولذاتها وشهواتها فصارت ذميمة ويستعمله القلب في طلب الآخرة والمقامات وتحصيل العلوم والظلمات فيكون محمودا وعلى هذا النفس الباقي { فإن عثر على أنهما } [المائدة: 107]؛ يعني: الوصيين من العقل والسر والوهم والخيال { استحقآ إثما } [المائدة: 107]، بأنهما قصرا في أداء حق الوصية ومالا إلى حظ من الحظوظ السفلية { فآخران يقومان مقامهما } [المائدة: 107]، يعني: مقام النصرانيين في استفاء حقوقهما { من الذين استحق عليهم الأوليان } [المائدة: 107]، وهما من صفات التذكر والتفكر الصاحب ينظر أن في عواقب الأمور، ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا، وإن الباقي خير من الفاني وذلك قوله { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } [المائدة: 107]، لأنهما أعني الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ فيما كتما من الحقوق والتذكر والتفكر يميلان إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ { وما اعتدينآ } [المائدة: 107]، في حفظ الحقوق { إنا إذا لمن الظالمين } [المائدة: 107]، الواضعين الحظوظ في مقام الحقوق ذلك أدنى إلى الحق وأقرب.
[5.108-110]
{ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجههآ } [المائدة: 108]؛ يعني: العقل والسر إن كانا ثابتين في بدء الأمر بأداء الحقوق في استعمال صفات النفس للشعارات الأخروية؛ لكان أولى وأخرى { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } [المائدة: 108]؛ يعني: أو يخافا عواقب الأمور بأن يتنزل على أنفسهم باستمهال وتضييع الوقت وفوات القرش وإفساد الاستعداد، ثم بالتذكر والتفكر برد الأمر إليهم فيحتاجون إلى كثرة الرياضة والمجاهدة الزكية والتصفية، ثم قال تعالى: { واتقوا الله } [المائدة: 108]، أي: اتقوا بالله عما سواه { واسمعوا } [المائدة: 108]، وأطيعوا أحكام الأزل { والله لا يهدي } [المائدة: 108]، إلى حضرته اليوم { القوم الفاسقين } [المائدة: 108]؛ يعني: الذين كانوا خارجين عند رشاش النور على الأرواح عن قبول النور وإصابته كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أفمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل ".
ثم أخبر عن إصابة أهل الإصابة بقوله تعالى: { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم } [المائدة: 109].
إشارة إن القيامة هي يوم يتجلى الحق فيه بالصفة القاهرية يوم يكشف عن ساق، يوم يجمع الله الرسل في حظائر القدس دون العالمين، فيكاشفهم بنقم الجلال فيقول لهم عند احتباس قومهم: ماذا أجبتم لما دعوتم الأمم إلي وإلى معرفتي وهم مستغرقون في بحر الشهود الغائبون عن أوصاف الوجود { قالوا لا علم لنآ } [المائدة: 109]، فأنطقهم الله بالبراءة عن التحقيق بباطن الأمور وحقيقتها حتى نفوا العلم عن أنفسهم وأثبتوا لحضرة جلاله فقالوا: { إنك أنت علام الغيوب } [المائدة: 109]؛ أي: إنك تعلم ما غاب عنا وغبنا عنه، فإنك ما تغيب عن شيء ، ولا يغيب عنك شيء كما قال صلى الله عليه وسلم نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
ثم أخبر عن الآية ونعمائه مع نبي من أنبيائه بقوله تعالى: { إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } [المائدة: 110]، والإشارة فيها أن في قوله تعالى إذا قال الله: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إشارة إلى نعمة خاصة مع عيسى ووالدته دون سائر الخلق، وذلك أن حمل مريم ما كان من الرجال كسائر النساء وإنما كان بروح منه كما قال تعالى:
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا
[التحريم: 12]، وكذلك ولادة عيسى عليه السلام وخلقه ما كان من قطعة الرجال إنما كانت كلمة ألقاها إلى مريم وروح منه، ومن نعم الله عليها ما قال: { إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا } [المائدة: 110]، يعني: تكلمك في الطفولية وفي الكهولية وبقية المعجزات التي ظهرت منك كما أنها نعمة في حقك، فكذلك هي نعمة في حق أمك بأنها تدل على براءة ساحتها فما نسبوها إليه واتهموها به.
[5.111-115]
ثم أخبر عن نعمة أخرى بقوله تعالى: { وإذ أوحيت إلى الحواريين } [المائدة: 111]، الإشارة فيها وإذا أوحيت إلى الحواريين يعني: في عالم الأرواح يوم الميثاق إذا خاطبت الأرواح المستعدة لقبول الإيمان { أن آمنوا بي وبرسولي } [المائدة: 111]؛ إذ كانوا جنود مجندة وكان بين أرواح كل أمة وروح رسولها تعارف ومناسبة فبذلك التعارف { قالوا آمنا } [المائدة: 111] ثم في عالم الصورة عند الملامات تتشاهد الأرواح فيعرف بعضها بعضا فما أتلف بذلك التعارف ويقذف الله في طلبه؛ إذ يجدوا الإيمان فيؤمن برسوله فقذف الله تعالى في قلوب الحواريين لحسن استعدادهم أن آمنوا بي بأني واحد بلا شبهة، ولا ولد كما آمنتم بوحدانيتي يوم الميثاق وبرسولي عيسى عليه السلام أو عبدي، وليس بولدي فلا تقولوا كما قالت النصارى المسيح ابن الله فإنهم ما خطبوا يوم الميثاق أن آمنوا على الحقيقة لعدم الاستعداد بل قالوا آمنا بوحدانيتك وبعبوديتك رسالتك { واشهد بأننا مسلمون } [المائدة: 111]، منقادون في يوم الميثاق لأوامرك ونواهيك في إبداء الإباء.
ثم أخبر عمن خوطب بإيمان حقيقة ومن لم يخاطب بقوله تعالى: { إذ قال الحواريون } [المائدة: 112]، إشارة إن الله تعالى لما أراد أن يميز الخبيث من الطيب والمؤمن المقلد من المؤمن الحقيقي، ويظهر بعض الحقائق المخفية والسرائر المخبية في الدنيا مما سيظهره في الآخرة؛ ليكون بحرة لأهل الخبرة فلا تغيروا بالصورة الإنسانية ولا تغفلوا عن الصفة الحيوانية، فيكونوا كالأنعام بل هم أضل فبالحكمة البالغة استخرج من بعض النفوس الخبيثة آثار خبائثها المخفية بعبارات الشهادة وحركات جوارحها كما استخرج من بعض الحواريين المقلدين في الإيمان غير المحققين قولهم؛ إذ قال الحواريون { يعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء } [المائدة: 112]، فأول الخذلان أنهم ما وقعوا في الخطاب مع رسولهم أن يقولوا: يا رسول الله ويا روح الله خاطبوه باسمه ونسوا الحالة ولو وقعوا للصواب لقالوا: يا روح الله ونسبوه إلى الله، ثم رفضوا الأدب مع الله تعالى وقالوا: هل يستطيع ربك كالمتشكك في استطاعته وكمال قدرته على ما يشاء كيف يشاء ثم تظهروا دناءة فمنهم وحساسة تهمتهم إذ طلبوا بواسطة مثل عيسى عليه السلام من الله تعالى فائدة دنيا، وهي فانية وما رغبوا في فائدة دينية كقوله تعالى:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه
[الشورى: 20]، فلما طلبوا المائدة الدنيا وبه وجدوا منها أياما فلا بد وقد ضيعوا نصيب السعادة الآخروية كما قال تعالى:
ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
[الشورى: 20]، ثم من إجادة تقوتهم أنهم ما اتعظوا بموعظة نبيهم { قال اتقوا الله } [المائدة: 112]؛ أي: اتقوه ولا تسألوا عنه هذا الخسيس الدنيوي { إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 112]، إيمانا حقيقيا؛ فإن المؤمن من اختار الدين على الدنيا والباقي على الفاني فما قبلوا نصيحته وما اهتدوا بهدايته، وأظهروا كمال حسنهم { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } [المائدة: 113]، { قال عيسى ابن مريم } [المائدة: 114]، ولو كانوا أهل السعادة وأهل الإيمان الحقيقي لكان اطمئنان قلوبهم بذكر الله كقوله تعالى:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28]، ولعلموا صدق رسولهم بنور الإيمان فإن المؤمن ينظر بنور الله، وكانوا لله شاهدين بالوحدانية وما احتاجوا إلى هذا التساؤل وكانوا مؤمنين مسلمين لأحكام الله تعالى وأوامر رسوله كما كان الحواريون الذين، قالوا: آمنا إيمانا حقيقيا، وقالوا: واشهدوا بأننا مسلمون فلما علم عيسى عليه السلام أن الله تعالى في إنزال المائدة حكمة بالغة وألحوا عليه بسؤالها قال: { اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء } [المائدة: 114]، أي: مائدة الأسرار والحقائق التي تنزلها من سماء العناية عليها أطعمة الهداية { تكون لنا } [المائدة: 114]؛ يعني: لأهل الحق { عيدا } [المائدة: 114]، ففرح بها { لأولنا وآخرنا } [المائدة: 114]؛ أي: الأزل أنفاسنا وآخرها بالتصعد مع الله وتهوي مع الله ففي صعود النفس مع الله يكون عبدا له وفي هوية مع الله يكون عبدا له، وقال تعالى: { وآية منك } [المائدة: 114]؛ أي: تلك المائدة تكون تجلي صفة من الصفات { وارزقنا } [المائدة: 114]، من فضلك الخاص { وأنت خير الرازقين } [المائدة: 114]؛ لأن رزقك الذي ترزق به خواص عبادك رزق منك ورزق غيرك لا يكون منه.
ثم قال الله تعالى: { قال الله إني منزلها عليكم } [المائدة: 115]، يا أرباب الطلب مائدة الأسرار والحقائق { فمن يكفر بعد منكم } [المائدة: 115]، بأن لا يقوم بحقها ولا يؤدي شكرها ويجعلها شبكة يصطاد بها الحطام الدنيوي ويصرفها في تحصيل الشهوات البهيمية والحيوانية { فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } [المائدة: 115]، بأن أرده من مراتب الروحاني إلى مهالك الحيواني، وهذا هو المنح الحقيقي وفيه إشارة أخرى إن ذلك القوم من الحواريين الذين سألوا المائدة لما كان الإيمان تقليديا لا تحقيقيا تنفعهم الآيات ولا المعجزات، ولما أراد الله تعالى أن يكشف عن بعض حقائق الأمور الأخروية تبنها للخلق وجعل المائدة محك نقود جواهر ذلك القوم، فلما كان الغالب عليهم حسه الحيواني وشهوته النفساني التمسوا المائدة وضيعوا الفائدة، وأكلوا منها وأسرفوا وتصرفوا فيها؛ فخابوا فلما أظهروا ما أظهروا من صفات الخنازير سلخ الله تعالى صورة الإنساني عن حقائق صفات الحيواني وألبسهم صورة من حقائق صفاتهم فمسخوا خنازير ليعتبر الخلق ويتحقق لهم أن الناس يحشرون على صور صفاتهم التي ماتوا عليها.
[5.116-120]
ثم أخبر عن إظهار عزته مع خواصه وصفوته بقوله تعالى: { وإذ قال الله يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [المائدة: 116]، إشارة أن الحكمة في الخطاب مع عيسى عليه السلام بقوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله مع علمه بأنه لم يقل من وجوه:
أولها: لأن يستخرج منه قوله { قال سبحانك } [المائدة: 116]، وذلك المعنيين أحدهما ليعلم أمته والناس أجمعون أن حضرة جلالته، وشدة كماله أعظم وأعلى من أن يكون معه إله غيره.
والثاني: ليعلموا أن ليس لعيسى عليه السلام ولا أمه ولأحد من خلقه مرتبة الألوهية ولهذا قال: { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } [المائدة: 116]؛ يعني: ليس لي استحقاق الإلهية ولكن كان حقيقة مع الأمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلم الكفار يوم القيامة، ولا ينظر إليهم فكلم عيسى عليه السلام بدلا عنهم وكان الكلام حقيقة معهم.
والوجه الثالث: أنه تعالى نفى بهذا القول عن عيسى عليه السلام تهمة هذا المقام؛ لأنه ذكره بألف الاستفهام { أأنت قلت للناس } والإثبات بعد الاستفهام نفي كما أن النفي بعد الاستفهام إثبات؛ كقوله تعالى:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]؛ أي: أنا ربكم ونظيره في النفي والإثبات كقوله تعالى:
أإله مع الله
[النمل: 60]؛ أي: ليس مع الله إله فمعناه قلت أنت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، ولكنهم بجهلهم قد بالغوا في تعظيمك حتى طردك وجاوزا حدك في المدح ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ".
والوجه الرابع: قوله تعالى: { أأنت قلت للناس } يشير به إلى القول بأمر التكوين كقوله تعالى:
إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون
[النحل: 40]، أانت خلقت فيهم اتخاذك وأمك بالإلهية أم أنا خلقت فيهم خذلانا؛ لعلمي بحالهم إنهم يستحقون لهذا الخذلان نظيره قوله تعالى:
ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون
[الواقعة: 64]، وقوله
ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون
[الواقعة: 59]، وهذا نفي الفعل التكوين عن المخلوقين وإثباته لرب العالمين، كقوله تعالى:
هل من خالق غير الله
[فاطر: 3]، قال عيسى عليه السلام تعظيما لله تعالى: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أن أقول هذا القول للتكوين { إن كنت قلته } [المائدة: 116]؛ أي: هذا القول { فقد علمته } [المائدة: 116]؛ لأني لا أقدر على هذا القول إلا بإذن توجده في وتكونه بقولك كن { تعلم ما في نفسي } [المائدة: 116]، أوجدته وكونته وما ستوحده فيها { ولا أعلم ما في نفسك } [المائدة: 116]، من صفاتك القديمة بالذات كما هي، وتعلم ما في نفسي من العجز والضعف والحاجة، ولا أعلم ما في نفسك من كمال القدرة والقوة والغنا { إنك أنت علام الغيوب } [المائدة: 116]، وهي نوعين: الغيب، وغيب الغيب؛ فالغيب ما غاب عن الخلق ولم يحتمل لهم أن يعلموه فهو حقيقة الذات وكمالية الصفات
قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله
[النمل: 65]، يشير إلى غيب الغيب؛ لأن ما سواه يعلمونه بإعلام الله إياهم.
ثم قال: { ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به } [المائدة: 117]؛ أي: بأمر التكوين خلقت في حتى قلت لهم: { أن اعبدوا الله ربي وربكم } [المائدة: 117]؛ يعني: لما أقررت بربوبيتك وعبودية نفسي كيف أقول لهم اتخذوني وأمي إلهين من دون الله { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } [المائدة: 117]؛ أي: كنت شاهدا على إقرارهم بوحدانيتك { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } [المائدة: 117]؛ أي: كنت القادر على أن تحفظهم على التوحيد؛ إذ كنت رقيبا والرقيب هو الحافظ، وكنت عليهم شهيدا وليس للشهيد إلا الحضور والشهادة { وأنت على كل شيء شهيد } [المائدة: 117]؛ يعني: كما كنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم كنت أيضا عليهم شهيدا، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم والشهيد وما كنت شهيدا ولا رقيبا.
وكان لك القدرة على محافظتهم على التوحيد وكنت عاجزا عن محافظتهم في الحياة والوفاة { إن تعذبهم } [المائدة: 118]، بسبب التوحيد عنهم وإيجاد الشرك فيهم { فإنهم عبادك } [المائدة: 118]؛ يعني: إني اشهد لهم إنهم عبدوك يوما ما لأني شهيد ليس علي إلا الشهادة كما قال تعالى:
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
[النساء: 41]، { وإن تغفر لهم } [المائدة: 118]، بأنهم عبدوك يوما، وما كان لهم الخيرة أن تسلب عنهم التوحيد { فإنك أنت العزيز } [المائدة: 118]، تعز بعزتك من تشاء ليس لأحد أن يعترض على ما تشاء ويمنعك عما تشاء { الحكيم } [المائدة: 118]، في كل حال أن تعذبهم فلا يخلو على حكمة وإن تغفر لهم فلا يخلو عن حكمة.
ثم أخبر عن صدق قول عيسى عليه السلام ونفع صدقه بقوله تعالى: { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } [المائدة: 119]، إلى آخر السورة، والإشارة فيها أن الله تعالى إنما خص يوم القيامة بنفع الصادقين؛ لأن الصدق يحتمل في الدنيا النفع والضر للصادق مثل أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر من صدقه؛ فتصيبه منه مضرة في نفسه وماله أو جاهه، ولعله ينال من ثمرة الصدق قبولا وجاها ومالا وملكا يشغله عن الله تعالى فيضره وربما يكون الصادق صدق في طلب الحق في الدنيا، ثم يضر عنه ولم يبق له ذلك الصدق، فأشار بقوله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم إلى الذين ماتوا على الصدق ووردوا القيامة مع صدقهم.
ثم أخبر عن نفع صدقهم بقوله تعالى: { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا } [المائدة: 119]، وهذا الجزاء للصادقين فوز كبير كقوله تعالى:
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[آل عمران: 185]، فهو قوله تعالى: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [المائدة: 119]؛ أي: رضا الله عن الصادقين إذا ثبتوا على قدم الصدق في طلب الحق بعلو الهمة، وتقربوا إلى الله تعالى بأداء الفرائض، والإقدام على النوافل في اتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى أحبهم الله، فكان له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا به يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون، فرضوا عنه به وفنوا عن وجودهم المجازي وإبقائهم بوجوده الحقيقي، وهذا هو الحكمة في إيجاد العالم بما فيه؛ ليكون هؤلاء السادة ثمار شجرة ويفوزوا بظهور الكنز المخفي الذي خلق الخلق لمعرفته، كما قاله تعالى:
" كنت كنزا مخفيا... الحديث "
{ ذلك الفوز العظيم } [المائدة: 119]، والله أعلم.
ثم أخبر عن فناء وجودهم المجازي بقوله تعالى: { لله ملك السموت والأرض وما فيهن } [المائدة: 120]، كما أخبر عنه بعد فناء العالم بمن فيه بقوله:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16]، فلما لم يكن موجود يجيبه سوى وجوده الحقيقي الأزلي الأبدي، فأجاب نفسه فقال:
لله الواحد القهار
[غافر: 16]، ثم قال تعالى: { وهو على كل شيء قدير } [المائدة: 120]؛ يعني: على كل شيء قدير في الأزل من الإنسان وفوزه بظهور الكنز المخفي بأن خلق العالم وما فيه؛ لأجله كان قادرا فخلقه كما أراد وإثمه على ما أراد كيف أراد والله ولي التوفيق.
[6 - سورة الأنعام]
[6.1-5]
{ الحمد لله الذي خلق السموت والأرض } [الأنعام: 1]، الإشارة فيها أن الله تعالى ذكر الحمد بالألف واللام وهي لاستغراق الجنس، وفي قوله تعالى: { لله } لام التمليك يعني: في حمد يحمده أهل السماوات والأرض في الدنيا والآخرة ملك له، وهو الذي أعطاهم استعداد الحمد يحمده بآثار قدرته على قدر استعدادهم واستطاعتهم؛ فأين المحامد للجن والإنس متسعات لحد جناب القدس؟! بل هو حمد نفسه القديم الأزلي، وقال: " الحمد لله حمد الخلق له مخلوق " ، فإن حمده لنفسه قديم باق، ثم عرف نفسه بصنعته، فقال: { الحمد لله الذي خلق السموت والأرض }؛ أي: سماوات القلوب في أرض النفوس وجعل الظلمات في النفوس، وهي صفاتها البهيمية والحيوانية وأخلاقها السبعية والشيطانية والنور في القلوب، وهي صفاتها الروحانية الباقية، وإنما ذكر بلفظ الجعل؛ لأن النور والظلمة من عالم المعاني وهو عالم الأمر كقوله تعالى:
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره
[الأعراف: 54]، ألا له الخلق والأمر فالسماوات والأرض من عالم الصورة ذكرها بلفظ الخلق كقوله تعالى: { خلق السموت والأرض } والنور والظلمة من عالم المعنى ذكره بلفظ الجعل.
وقال: { وجعل الظلمت والنور } [الأنعام: 1]، كما أنه تعالى مهما ذكر آدم وأخبر عن معناه ذكره بلفظ الجعل، كقوله تعالى:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، فهذا هو الفرق بين الجعل والخلق فمن غلب عليه النور، فهو صفة الملكية الروحانية يميل إلى عبودية الخلق تعالى ويقبل دعوة الأنبياء - عليهم السلام - ويؤمن بالله ورسله ويتحلى بحلية الشريعة، فإن الله تعالى يكون وليه فيخرج من ظلمات صفات الخلقية الحيوانية إلى صفات الملكية الروحانية، كقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، ومن غلبت عليه ظلمات البشرية الحيوانية واتبع طاغوت الهوى واستلذ بشهوات الدنيا، فالطاغوت يكون وليه فيخرجه من نور الروحانية إلى ظلمات الصفات الحيوانية، كقوله تعالى:
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257]، فهذا معنى قوله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } [الأنعام: 1]؛ يعني: بعد أن خلق سماوات القلوب وأرض النفوس، وجعل فيهن الظلمات النفسانية والنور الروحاني مالت نفوس الكفار بغلبات صفاتها إلى طاغوت الهوى تعبدوه وجعلوه عديلا لربهم.
ثم أخبر عن الهوية بهويته بقوله تعالى: { هو الذي خلقكم من طين } [الأنعام: 2]، الإشارة فيها أنه تعالى يعرف نفسه سبحانه بإظهار كمال قدرته على أن يخلق من الطين بشرا وأولادا، كما قال تعالى: { هو الذي خلقكم من طين } ، فيسويه بحكمته قابلا لفتح الروح الخاص منه فيه يستحق سجود الملائكة، كقوله تعالى:
إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص: 71-72]، { ثم قضى أجلا } [الأنعام: 2]؛ يعني: الروح المفارق عن مكثه قضي إجلالا لأيام فراقه عن الحضرة وبعده عن وطن الحقيقي { وأجل مسمى عنده } [الأنعام: 2]، وهو أجل الوصلة بعد الغرقة في مقام العندية، كقوله تعالى:
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، فلأجل الفرقة مدى ومنتهى ولأجل الوصلة لا مدى ولا منتهى وإنما قال تعالى مسمى لأن وقت الوصلة مسمى عنده، وهو حين يجذب إليه بجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، فلأيام الوصلة ابتداء، وهو حين تطلع شمس التوحيد عن شرق القلوب إلى أن تبلغ حق شراء الوحدة، ثم شروق فلا غروب لها { ثم أنتم تمترون } [الأنعام: 2]، يا أهل الوصلة كما يمترون أهل الفرقة هذا محال جدا.
ثم أخبر عن مرام وجههم بقوله تعالى: { وهو الله في السموت وفي الأرض } [الأنعام: 3]، إلى قوله: { يستهزءون } [الأنعام : 5]، والإشارة فيها أنه هو الله في سماوات القلوب وفي أرض النفوس { يعلم سركم } [الأنعام: 3]، الذي أودع فيكم وهو سر الخلافة الذي اختص به الإنسان لقبول الفيض الإلهي { وجهركم } [الأنعام: 3]؛ أي: ما هو ظاهر منكم من الصفات الحيوانية والأخلاق النفسانية { ويعلم ما تكسبون } [الأنعام: 3]، باستعمال الاستعداد السر والجهر والمأمورات والمنهيات من الخير والشر، وقد خص الإنسان بهذا الكسب أيضا من الملك والحيوان، فإن الملك لا يقدر أن يكسب من الصفات الحيوانية شيئا، ولا الحيوان قادر على أن يكسب من الصفات الملكية شيئا والإنسان متصرف في هاتين الصفتين، وله اكتساب التخلق بأخلاق الله، بالتقرب إلى الله بأداء ما فرض عليه والتزام النوافل واجتناب النواهي إلى أن يصير خير البرية، وأيضا أن يكتب من الشر ما يصير به شر البرية، فيكون من أحواله ما أخبر عنه.
وقال تعالى: { وما تأتيهم من آية من آيت ربهم } [الأنعام: 4]، في الآفاق وفي أنفسهم من المعجزات والكرامات والإلهامات { إلا كانوا عنها معرضين } [الأنعام: 4]، وذلك لإقبالهم على الدنيا وزينتها وشهواتها، فصاروا كأنعام فكسبوا ما صاروا به من جملته بل هم أضل، وذلك لأن لأنعام ما كذبوا بالحق وأنهم { فقد كذبوا بالحق لما جآءهم } [الأنعام: 5]، فتكذيب الحق صاروا أضل من الأنعام { فسوف يأتيهم } [الأنعام: 5]، في الدنيا والآخرة { أنباء ما كانوا به يستهزءون } [الأنعام: 5]، أما في الدنيا فقد استهزءوا بأقوال الأنبياء والأولياء وأحوالهم يعميهم الله، ويعمي أبصارهم فلا يهتدون إلى الحق ولا إلى حقيقته سبيلا، وأما في الآخرة فيعذبهم بعذاب القطيعة والبعد والحرمان والخلود في النيران.
[6.6-11]
ثم أخبر عن أحوال أمثالهم بقوله تعالى: { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } [الأنعام: 6]، والإشارة فيها أن المكذبين والمستهزئين بأرباب الطلب وأهل الحق ألم يروا كم أهلكنا أرواح المكذبين والمستهزئين من قبلهم من قرن لشؤم ذنوبهم واستهزائهم { مكنهم في الأرض } [الأنعام: 6]، في طلب الحق وقهر النفس ونهي الهوى، وترك الدنيا وإقامة الطاعات وإدامة الخيرات { ما لم نمكن لكم } [الأنعام: 6]، أيها المكذبون منها شيئا { وأرسلنا السمآء } [الأنعام: 6]؛ أي: مطر الواردات من سماء القلوب { عليهم مدرارا } [الأنعام: 6]، متواليا متعاقبا { وجعلنا الأنهار } [الأنعام: 6]؛ أي: مياه الحكمة { تجري من تحتهم } [الأنعام: 6]؛ أي: من تحت نظرهم، { فأهلكنهم } [الأنعام: 6] مع هذه المقدمات { بذنوبهم } [الأنعام: 6]؛ أي: أهلكنا أرواحهم بعد أن تمكنوا من أموالنا واستغنوا بزاهد نوالنا، فوطنوا على كواذب المنى قلوبهم وطلبوا من الدنيا محبوبهم، ففتحنا عليهم من مكامن التقدير بسوء التدبير فشربوا من كؤوس الذنوب سموم القلوب، فإن الذنوب سمومها كما أن الطاعات له حباتها { وأنشأنا من بعدهم } [الأنعام: 6]؛ أي: من بعد إعراضهم عن الحق وإتباعهم الهوى وهلاك أرواحهم بطلب الدنيا واستيفاء لذاتها وشهواتها { قرنا آخرين } [الأنعام: 6]، من الطلاب الصادقين المخلصين التائبين المستقيمين في الطلب.
ثم أخبر عن حرمان أهل الخذلان بقوله تعالى: { ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس } [الأنعام: 7]؛ أي: قوله: { ما يلبسون } الإشارة فيها أن من أعرض عن الحق، وأقبل على الدنيا وشهواتها يعمى له قلبه فلا يشاهد الآيات، وإن جعلته في كسوة الصورة، قال تعالى: { ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا } [الأنعام: 7]، بالإعراض عن الحق { إن هذآ إلا سحر مبين } [الأنعام: 7]؛ لأن الله تعالى قد أعمى أبصارهم التي يبصرون الحق بها فما ازدادوا من ظهور الآيات إلا تماديا في الباطل وإنكارا على الحق، { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } [الأنعام: 8]، وهذا الاعتراض من نتائج الإعراض وما تغني الشرح عن عمى بعد البصيرة { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } [الأنعام: 8] أي: لقضي أمر النبوة بين الإنسان والملك وآل أمرها إلى الملك وليست النبوة من شأنه، وإنما خص بها الإنسان.
ولهذا قال: { ولو جعلنه ملكا } [الأنعام: 9]، يخاطبكم وتخاطبونه، { لجعلنه رجلا } [الأنعام: 9]، لاحتياج أن لبسه لباس البشرية حتى تسمعوا خطابه وكلامه، وهو يكون واقفا على ابتلاء الإنسان من أحوال البشرية، فيكلمهم من حيث ما هم عليه ويعالجهم بما يرى في صلاح حالهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كالطيب، فينبغي أن يكون من جنس من يعالجه، كما قال تعالى:
ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم
[إبراهيم: 4]، وقد من الله تعالى على الخلق بأن جعل رسولهم من جنسهم، فقال تعالى:
لقد جآءكم رسول من أنفسكم
[التوبة: 128]، ثم قال: { وللبسنا عليهم ما يلبسون } [الأنعام: 9] يعني: إلينا الهداية والضلالة من لم تقدس سره لبس عليه أمره، فلا تغني الحجج إلى الأبد عمن عدم عناية الأزل.
ثم أخبر عن عاقبة أهل الاستهزاء والتكذيب بقوله تعالى: { ولقد استهزىء برسل من قبلك } [الأنعام: 10]، الآيتين والإشارة فيهما أن الاستهزاء من نسيم النفوس المتمرد بأرباب الدين من الأنبياء والأولياء في كل زمان وحين، كما قال تعالى لحبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم:
ولقد استهزئ برسل من قبلك
[الرعد: 32]، وذلك من عزة الدين وكمالية أرباب ولهوان الهوى ونقصانه أصحابه، فإن قطرة من الهوى تكدر بحرا من الصفاء فمن غلب عليه الهوى يستغرق في بحر الدنيا، فيعمى عن العواقب والعقبى، فلا يؤثر فيه كلام الأنبياء والأولياء ولا يزدادون منه إلا الطغيان والنقمة والاستهزاء.
{ فحاق بالذين سخروا منهم } [الأنعام: 10]؛ أي: أحاط بقلوبهم { ما كانوا به يستهزءون } [الأنعام: 10]، من ظلمة الهوى وكدورته فبقيت محجوبة عن الله تعالى ومعرفته { قل سيروا في الأرض } [الأنعام: 11]، في أرض النفوس سير القدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب، { ثم انظروا } [الأنعام: 11]، بأنوار الله المودعة فيها؛ لتشاهدوا وتعاينوا { كيف كان عقبة المكذبين } [الأنعام: 11]، بالدين وأحوال أربابه، وهلكوا في بوادي القطيعة؛ إذ سافروا على أقدام الطبيعة.
[6.12-16]
ثم أخبر عن الهالكين في الغفلة وكمال الرحمة بقوله تعالى: { قل لمن ما في السموت والأرض قل لله } [الأنعام: 12]، والإشارة فيهما أن ما في الكون سوى الله لا داع ولا مجيب، قل: " أنت " يا محمد [لأنك] لا بك؛ بل بتكوني إياك، وناد لمن في السماوات والأرض؛ فلا تجد على الحقيقة مجيبا مكونا من غير تكويني إياه، فقل: " أنت " يا محمد [لأنك] لا بك؛ بل بتكوني القول فيك الله؛ أي: لله ما في السماوات والأرض حلقا وملكا ووجودا وعدما وإيجادا واعدا، فهو الأول الكون والآخر والظاهر والباطن { كتب } [الأنعام: 12]، في أزليته { على } [الأنعام: 12]، ذمة كرم { نفسه } [الأنعام: 12]، وحقيقة هيئته { الرحمة } [الأنعام: 12]، بخلقه ومكوناته { ليجمعنكم } [الأنعام: 12]، بالإيجاد لإظهار الرحمة في الوجود المجازي { إلى يوم القيمة } [الأنعام: 12]، الذي { لا ريب فيه } [الأنعام: 12]، وهو يوم ظهور آثار الصفة القهارية لا يبقى فيه إلا الوجود الحقيقي، فأنادي بعزتي ولعظمتي
لمن الملك اليوم
[غافر: 16]، فلا يكون مجيبا لا في الصورة ولا في المعنى غير واحديتي، فأجيب لذاتي بذاتي
لله الواحد القهار
[غافر: 16].
ففي ذلك اليوم { الذين خسروا أنفسهم } [الأنعام: 12]؛ أي: أفسدوا استعدادات أنفسهم لقبول الكمال في الدنيا، وذاقوا ألم خسرانهم في نقصانهم، ووجدوا عقوبة حرمانهم وخسرة خذلانهم { فهم لا يؤمنون } [الأنعام: 12]، بعد { و } قد شاهدوا على الحقيقة وعاينوا أن { له ما سكن في الليل والنهار } [الأنعام: 13]؛ أي: من سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية، ومن سكن في نهار الروحانية إلى المواهب الربانية؛ كانوا ملكا له يظهر عليهم آثار صفات قهره ولطفه؛ فالمعنى: فإنهم يؤمنون ولكن يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ويظهر لهم في ذلك اليوم أن الله { وهو السميع } [الأنعام: 13]؛ أي: كان سميعا لما يسخرون من الأنبياء والأولياء ويطعنون فيهم ويكذبونهم { العليم } [الأنعام: 13]، بما كانوا يعمرون ولا يظهرون من حيث عقائدهم، فجازهم به وهو السميع ثناؤه من سكن إليه العليم تعلق من اشتياق إليه.
ثم أخبر عن امتناع النبي من اتخاذ غير الله الولي بقوله تعالى: { قل أغير الله أتخذ وليا } [الأنعام: 14]، إلى قوله: { وذلك الفوز المبين } [الأنعام: 16]، والإشارة فيها: أن قل أغير الله اتخذ اليوم وليا؟! وقد اتخذني الله في أزليته حبيبا كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ".
{ فاطر السموت والأرض } [الأنعام: 14] أي: فاطر سماوات القلوب على محبته، وفاطر أرض النفوس على عبوديته { وهو يطعم } [الأنعام: 14]، أرواح العارفين من طعام المشاهدات، وليسقيهم شربات المكاشفات كقوله صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
، { ولا يطعم } [الأنعام: 14]، غيره هذا الطعام والشراب { قل إني أمرت } [الأنعام: 14]، في الأزل وخصصت { أن أكون أول من أسلم } [الأنعام: 14]؛ أي: أخلص عن جنس الوجود وما خلص عنه غيره بالكلية، ولهذا يقول الأنبياء: نفسي نفسي، وهو يقول: أمتي أمتي، وخاطبني بخطاب التكوين، وقال في الأزل: { ولا تكونن من المشركين } [الأنعام: 14]، فما كنت من المشركين في أيام النبوة.
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي } [الأنعام: 15]، برؤية الضر والتفاته { عذاب يوم عظيم } [الأنعام: 15]، فهو يوم الشرك والعذاب العظيم، كما قال تعالى:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13]، وعذاب الشرك أن نزل قدمه عن مقام الوحدة { من يصرف عنه } [الأنعام: 16]، عذاب الشرك { يومئذ } [الأنعام: 16]، يوما قدر فيه الشرك لأقوام { فقد رحمه } [الأنعام: 16] أي: نظر إليه بالرحمة فيرحمه وعافاه عن الشرك، كما قال لحبيبه يومئذ: و { ولا تكونن من المشركين } ، فما كان { وذلك الفوز المبين } [الأنعام: 16]، لمن نجاه من الشرك وألزمه التوحيد.
[6.17-21]
ثم أخبر عن ضرر الشرك وخير التوحيد أنهما إليه وبه بقوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } [الأنعام: 17]، الآيتان والإشارة فيهما أن تعلم أن المقدر هو المدبر، ولا ينجيك من البلاء إلا من يعنيك في العناء، وإن تعلم أن دائرة أزليته متصلة بأبديته، وإن كل نقطة من الدائرة تصلح أن تكون مبدأ الدائرة وأولها، ومنتهى الدائرة وآخرها، فكل آن من آن أزليته وأبديته يصلح أن يكون أزلا وأبدا، فبهذا يتحقق قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر } [الأنعام: 17]؛ أي: يصيبك بقهر من الإبعاد ويبتليك بالإشراك والإضلال في البداية من حرمان النور المرشش على الأرواح.
{ فلا كاشف له إلا هو } [الأنعام: 17]، في النهاية { وإن يمسسك بخير } [الأنعام: 17]؛ أي: يصيبك بلطف من إصابة النور المرشش في البداية والنهاية، أو فيما بينهما ويهديك إلى الصراط المستقيم الذي هو صراط الله، { فهو على كل شيء قدير } [الأنعام: 17]، أزلا وأبدا.
{ وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 18] في الأزل، فبالقهر أخرجهم من مكامن العدم إلا أنه سبحانه وتعالى يقهر هذه الحالة ويبدل العدم بالوجود، وقد عم قهره جميع عباده، فقهر الكفار بموت القلوب وحياة النفوس إذ أخطأهم النور المرشش على الأرواح في بدء الخلقة، فضلوا في ظلمات الطبيعة وما اهتدوا إلى نور الشريعة، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة؛ فأخرجهم عن ظلمات الطبيعة بالقيام على طاعته وقهر قلوب المحبين في بلوغات الاشتياق، فأسنها بلطف مشاهدته وقهر أرواح الصديقين بسطوات تجلي صفات جماله، وقهر أسرار الواصلين بسطوات بها صفات جلاله، وبالجملة لا ترى شيئا سواه، إلا وهو مقهور تحت أعلام عزته وذليل في ميادين صمديته { وهو الحكيم } [الأنعام: 18]، فيما يقهر فلا يخلو عن حكمته بالعز { الخبير } [الأنعام: 18]، بما يصلح للطعن وقهره، فالقهر بما قهره أولى، واللطف بما لطفه به أخرى.
ثم أخبر عن أكبر الشهادة لأهل السعادة بقوله تعالى: { قل أي شيء أكبر شهدة قل الله } [الأنعام: 19]، والإشارة فيها أن الله تعالى أراد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عقول مشركي أهل مكة بطريق السؤال عنهم في معرفة الله تعالى وجهلهم به، فأخبرهم بالسؤال، وقال: قل أي شيء أكبر شهادة، فمن كان التوفيق رفيقه يعلم أن شهادة الله أكبر من شهادة الخلق، وعلومهم لا تحيط بحقائق الأشياء كلها، والحق سبحانه هو الذي يحيط علمه بجميع حقائق الأشياء؛ لا سيما بحقيقة وحدانيته فيؤمن بالله وحده ولا يشرك به أحدا، ومن أوبقه الخذلان وعوقه الخسران يعرف الله ويقول: هو أكبر شهادة أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قل الله قل هو الله الذي أكبر شهادة من كل شيء وهو { شهيد بيني وبينكم } [الأنعام: 19]، لعلهم ينتهون، ويعرفون الله بتعريفه إياهم ويؤمنون به.
ثم قال { وأوحي إلي هذا القرآن } [الأنعام: 19] أي: قل يا محمد وأوحي إلى هذا القرآن وهو معجز من أعظم المعجزات وهو الجوامع الكلم التي أويتها { لأنذركم به } [الأنعام: 19]، وأنبئكم بآياته وحقائقه وإعجازه لما فيه من أخبار الأمم السالفة، ولما فيه من الأعلام لما سيكون فكان مثل ما قال:
والله يعصمك من الناس
[المائدة: 67] أي: من أن يقتلوك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما منهم.
وقال تعالى:
ليظهره على الدين كله
[التوبة: 33]، فأظهر الله تعالى دين الإسلام على سائر الأديان بالحجة القاطعة وغلبة المسلمين على أكثر أقطار الأرض، وقال تعالى في اليهود وكانوا في وقت مبعثه أعز قوم وأمنعهم:
وضربت عليهم الذلة والمسكنة
[البقرة: 61]، فهم أذلاء إلى يوم القيامة، وأتى في القرآن بما كان وبما يكون وأوتي به مؤلفا تأليفا لم يقدر أحد من العرب أن يأتي بسورة مثله، وهم في الوقت الذي قيل لهم: ائتوا بسورة خطباء بلغاء شعراء لم يكن عندهم شيء إلا وجد من الكلام المنثور والموزون، فعجزوا عن ذلك فهذا كله حجة الله على من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومن بلغ } [الأنعام: 19]، بلغت نبوته ودعوته في حال حياته وبعد وفاته، وفيه إشارة أخرى: وهي لا تدرككم به ومن بلغه القرآن أعني وقف على حقائقه أيضا ينذركم به متابعة لي، ويقول: بعد وفاتي بظهور ما أخبر القرآن بظهوره بعدي مع اليهود والنصارى وسائر المشركين { أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى } [الأنعام: 19]، بعد ظهور الإسلام على الأديان كلها، وبعد أن بلغ ملك هذه الأمة من الشرق إلى الغرب.
كما أخبر صلى الله عليه وسلم قال:
" زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها "
، فأي دليل أقوى وأظهر من هذا، كما قيل: إذا طلع الصباح استغني عن المصباح، ثم قال تعالى: { قل لا أشهد } [الأنعام: 19]؛ يعني: فإن أصمهم الله وأعمى أبصارهم حتى لا ينتبهوا عن نومه الغفلات ولا يسمع هذه التقريرات، ولا يبصروا هذه المشاهدات والمعاينات، وهم يشهدون آلهة أخرى في الظواهر من الأوثان، وفي الباطن من الهوى والدنيا ويعبد بها من دون الله { قل } [الأنعام: 19]، أنت يا محمد لا أشهد ما لا أشهد ما تشهدون لأني أشاهد من شهود الحق ما لا تشاهدون { إنما هو إله واحد } [الأنعام: 19]، وقد شاهدت وحدانيته بوحدته { وإنني بريء مما تشركون } [الأنعام: 19]، من الاثنينية التي أوبقتكم من الشرك.
ثم أخبر عن أهل المعرفة وذكر أهل النكرة بقوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم } [الأنعام: 20]، إلى قوله:
ما كانوا يفترون
[الأنعام: 24]، الإشارة فيها أن الله تعالى ميز أهل المعرفة من أهل النكرة ، إذ قال بعد قوله: { أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } [الأنعام: 19].
{ الذين آتيناهم الكتاب } [الأنعام: 20] أي: فهمت قلوبهم حقائق الكتاب حتى تنورت بأنوارها فهم من ذلك يعرفونه؛ أي: يعرفون الله أنه إله واحد لا شريك له، ويجوز أن الهاء في قوله: يعرفونه عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نور كقوله تعالى:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15]، فالنور هو محمد صلى الله عليه وسلم، والنور لا يدرك ولا يعرف إلا بالنور، فإن الكفار من أهل الكتاب فلما كانوا أصحاب الظلمة ما عرفوا الله ولا رسوله، كقوله تعالى:
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به
[البقرة: 89]، وفي قوله تعالى:
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
[البقرة: 146]، إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء ومبدأ وجود الأبناء منهم، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله تعالى مصدرهم ومبدأ وجودهم منه تبارك وتعالى، وهو إله واحد لا شريك له ولكن { الذين خسروا أنفسهم } [الأنعام: 20]، بإفساد استعداد فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو قبول نور الإيمان أفسدوه بانهماكهم في الشهوات الحيوانية ومتابعة الهوى { فهم لا يؤمنون } [الأنعام: 20]، بأن الله إله واحد؛ لأنهم من نور الإيمان بمعزل.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [الأنعام: 21]، بأن يفسد استعداده الفطري فيضع الآلهة من الهوى والدنيا موضع إله واحد { أو كذب بآيته } [الأنعام: 21]، إذ يراها فلا يعرفها من عمى القلب { إنه لا يفلح الظلمون } [الأنعام: 21]، من عمائهم؛ لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
[6.22-27]
{ ويوم نحشرهم جميعا } [الأنعام: 22]، أهل المعرفة وأهل النكرة { ثم نقول للذين أشركوا } ، من أهل الكفرة { ثم نقول للذين أشركوا } [الأنعام: 22]، من أهل النكرة { أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون } [الأنعام: 22]، من الهوى والدنيا إذا اتخذتموها شركاء الله { ثم لم تكن فتنتهم } [الأنعام: 23]؛ أي: كان لم يكن من نتائج ابتلائهم بعمى القلوب { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [الأنعام: 23]، إلا أن حلفوا بالله كذبا وما علموا أن الله يعلم كذبهم { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } [الأنعام: 24]؛ يعني: يوم القيامة إذا فسدوا استعدادهم في الدنيا، وحصلوا العمى حتى كذبوا في الآخرة وما رأوا أن الله برأ كذبهم، ومن ضلالتهم الزائدة العمى.
قوله تعالى: { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [الأنعام: 24]؛ يعني: في الدنيا يقولون أن هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فيقولون في الآخرة: ما كنا مشركين.
ثم أخبر عن كمال إفساد استعدادهم بقوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك } [الأنعام: 25]، الآيتان الإشارة فيهما أن مكافأة من يستمع إلى كلام الله تعالى وإلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كلمات أرباب الحقائق بالإنكار، ويأخذ عليها ويطعن فيها أن يجعل الله تعالى حجابا على قلوبهم وسمعهم حتى لا يوصل إليهم أنوارها، ولا يجدون حلاوتها ولا يفقهون حقائقها، كما قال الله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك } [الأنعام: 25] إنكارا واختيارا { وجعلنا على قلوبهم } [الأنعام: 25]، من شؤم إنكارهم { أكنة } [الأنعام: 25]؛ حجابا من عين الإنكار { أن يفقهوه } [الأنعام: 25]، أنه حق { وفي ءاذانهم وقرا } [الأنعام: 25]، من فساد الاستعداد الفطري. { وإن يروا كل ءاية } [الأنعام: 25] بعين الظاهر { لا يؤمنوا بها } [الأنعام: 25]، من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها { حتى إذا جآءوك } [الأنعام: 25]، من عمى قلوبهم { يجدلونك } [الأنعام: 25] بالباطن نفى الحق { يقول الذين كفروا } [الأنعام: 25]، مستردا قلوبهم يحجب الإنكار { إن هذآ إلا أسطير الأولين } [الأنعام: 25] من مقامات المتقدمين { وهم ينهون عنه } [الأنعام: 26]، يعني: أهل الإنكار ينهون الطلاب، وأهل الإرادة عن الطلب واستماع كلام القوم { وينأون عنه } [الأنعام: 26]؛ أي: يتباعدون عن الحق وطلبه؛ خوفا عن خلل في دنياهم { وإن يهلكون } [الأنعام: 26]، بتنفير الخلق عن الحق وتباعدهم عنه { إلا أنفسهم } [الأنعام: 26]؛ لأن التباعد عن أهل الحق وتنفير الخلق عنهم هو البعد عنه، وهذا هو الهلاك والضلال المبين { وما يشعرون } [الأنعام: 26]، أنهم مهلكون؛ لأنهم
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171].
ثم أخبر عن أحوال أهل الأهوال بقوله تعالى: { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [الأنعام: 27]، إلى قوله :
وما نحن بمبعوثين
[الأنعام: 29]، الإشارة فيها أن من غاية فساد الاستعداد الفطري أن الأرواح الشقية بعد مفارقة عالم الصورة إذ وقفوا على النار وحقيقتها وذاقوا ألم عذاب القطيعة بعد الخلاص وحبس الطبيعة { فقالوا يليتنا نرد } [الأنعام: 27]، إلى عالم الصورة إلى الاستعداد الفطري { و } [الأنعام: 27]، يا ليتنا لما رددنا كنا { لا نكذب بآيت ربنا } مرة أخرى { و } [الأنعام: 27]، يا ليتنا أنا { نكون من المؤمنين } ، لا من الكافرين.
[6.28-32]
فأخبر الله أنه لا ينفعهم التمني بعد فوات الفرصة وإفساد الاستعداد، وقال تعالى: { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } [الأنعام: 28]؛ أي: ظهر لهم الشقاوة المتمكنة التي كتب لهم وكانوا يسترون آثارها في عالم الصورة بلباس البشرية، ويسترونها بالتكليف من قبل تجرؤهم عن كسوة الصورة { ولو ردوا } [الأنعام: 28]، إلى عالم الصورة { لعادوا لما نهوا } [الأنعام: 28]؛ أي: إلا ما نهوا { عنه } [الأنعام: 28]، من اتباع الهوى واتخاذه إلها مرة أخرى لفاسد الاستعداد وردوا إلى الاستعداد الفطري الذين جلبوا عليه يستعملونه مرة أخرى في الأعمال والأخلاق التي هي أسباب تحصيل الشقاوة { وإنهم لكاذبون } [الأنعام: 28]، فيما يدعون لأنهم خلقوا مستعدين للكذب لا للصدق
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23]، { وقالوا } [الأنعام: 29]، بعدما ردوا إلى استعدادهم الذي كانوا عليه القابل للكذب والإنكار { إن هي إلا حياتنا الدنيا } [الأنعام: 29] نعيش فيها ثم نموت { وما نحن بمبعوثين } [الأنعام: 29]، بعد أن متنا وذلك لأنهم مجبولون على إنكار البعث وتكذيب الرسل، وأنهم قد كانوا في عالم الأرواح مشاهدين المطاف الحق ومخاطبي قوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، ومجيبي
بلى
[الأعراف: 172]، فلما بعثوا إلى عالم الصورة وحجبوا بلباس البشرية فنسوا تلك الأحوال والأقوال، ولم يسمعوا عن الأنبياء حين ذكروا بتلك الأيام كما قال تعالى: وذكرهم بأيام الله فما نفعتهم الذكرى، إذا طبعوا كافرين وقال تعالى:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات: 55]، فكذلك لو ردوا إلى عالم الصورة لنسوا ما شاهدوا من الأحوال ولعادوا إلى ما كانوا عليه من الإنكار دون الإقرار.
ثم أخبر عن خسران أهل الخسارات بقوله تعالى: { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } [الأنعام: 30]، إلى قوله: { أفلا تعقلون } [الأنعام: 32]، الإشارة فيها أن القيامة يوم ينكشف فيه الأسرار وتنتهك فيه الأستار، فكم من محلل بثوب تقوية حكم له مقارنوه بأنه زاهد في دنياه، راغب في عقباه، محب طولاه، مفارق لهواه، كشف الأمر عما توهموه فافتضح عندهم بغير ما ظنوه، ولو ترى إذ وقفوا على ربهم غدا؛ أي: وقفوا على ربوبيته عند ظهورها بالقهر ولو وقفوا على الربوبية في الدنيا لوقفوا عند ظهورها باللطف، فمن خفي عليه الربوبية؛ فلغلبة القهر، ومن ظهر له به الربوبية اليوم؛ فغلبة اللطف بلسان القهر { قال } [الأنعام: 30]، لأهله { أليس هذا بالحق } [الأنعام: 30]، قهر الربوبية { قالوا } [الأنعام: 30]، بلسان ذوق القهر { بلى وربنا } [الأنعام: 30]، الذي أذقنا ألم قهر الربوبية { قال فذوقوا العذاب } [الأنعام: 30]؛ أي فذوقوا ألم عذاب البعد عند ظهور القهر فإنكم كنتم معذبين به في الدنيا، ولكن ما كنتم تذوقون ألم عذابه كالذي يأكل مال اليتيم إنما يأكل في بطنه نارا، ولكن لا يذوق ألمها يوم القيامة قوله تعالى: { بما كنتم تكفرون } [الأنعام: 30]؛ يعني: بسبب الحجاب الذي كنتم بسببه تكفرون في الدنيا تذوقون ألم عذاب البعد في الآخرة { قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله } [الأنعام: 31]؛ يعني: أفسدوا استعداد الروحانية الذي كانوا به ملاقي ربهم يوم الميثاق فمن فسادهم كذبوا في الدنيا بلقاء الله وهو الوصول إلى الله في الدنيا والرجوع إليه في الآخرة، فخسروا بسبب التكذيب سعادة الدارين لا من الجاه والمال والمقام والحال بل من الوصول كما قيل شعر:
لعمري لئن أزرفت دمعي فإنه
لفرقة من أفنيت في ذكره سرى
{ حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة } [الأنعام: 31]، وهي إشارة إلى الساعة التي تجذب العبد من أوصاف البشرية بجذبات المحبة بها فجأة وهي قيمة أخرى؛ لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض بنور ربها فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق ويتأسف على تضييعها، وتضييع ما فات عنه من صيد الوصال وفيض غيره فيتحسر ويقول كما قيل شعر:
أيها القانص ما أح
سنت صيد الظبيات
فاتك السرب وما زو
ودت غير الحسرات
{ قالوا يحسرتنا على ما فرطنا } [الأنعام: 31]، ضيعنا العمر في عنوان الشباب { فيها } [الأنعام: 31]؛ أي: في تحصيل المرام فصرنا، وقد حصلنا من الحجب أسباب البعد ما يشق علينا السلوك مع حملها { وهم يحملون أوزارهم } [الأنعام: 31]، أثقال التعلقات الزاهدة { على ظهورهم } [الأنعام: 31]؛ أي: ظهور وجودهم؛ فإن الوجود على السالك نقل مانع عن السلوك فكيف أزيد عليه { ألا سآء ما يزرون } [الأنعام: 31]، على الوجود وحمله { وما الحيوة الدنيآ } [الأنعام: 32]؛ يعني: الحياة التي تكون للتمتعات الدنيوية النفسانية { إلا لعب } [الأنعام: 32]، الصبيان { ولهو } [الأنعام: 32]، أهل العصيان زواله سريعا ويبقى ضرره منيعا؛ لأنه يذوب في الحجب { وللدار الآخرة } [الأنعام: 32]، وهي السير من البشرية إلى الروحانية بترك الشهوات والإعراض عن غير الحق، والإقبال إلى الله { خير للذين يتقون } [الأنعام: 32]، عما سوى الله بالله { أفلا تعقلون } [الأنعام: 32]، أن الله خلقكم لهذا الشأن لا لغيره كما قال تعالى:
واصطنعتك لنفسي
[طه: 41].
[6.33-37]
ثم أخبر عن جحود أهل الوجود بقوله تعالى: { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } [الأنعام: 33]، الآيتين والإشارة فيهما أن من ضيق نطاق البشرية أثر في بشرية حبيب الله صلى الله عليه وسلم مقالة الجهال والضلال حتى بمقالتهم، وتأسف على ضلالتهم فواساه الله تسلية له وقال: قد نعلم أنه ليحزنك الذين يقولون بجهالتهم وينسبونك إلى الكذب عن ضلالتهم { فإنهم لا يكذبونك } [الأنعام: 33]، على الحقيقة؛ لأنهم يعرفونك بالصدق { ولكن الظلمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام: 33]، ولكن الكذب والتكذيب في الجحود والعناد من شأن الظالمين؛ لأن الظالم من يضع الشيء في غير موضعه فيضعون التكذيب والجحد في موضع التصديق والإقرار، فلا تحزن على مقالهم فإنا نعلم أن من أصابك لم يصبك إلا لأجلنا، وإن لك غير ضائع هذا عندنا وحالك فينا كما قيل شعر:
أشاعوا لنا في الحي أشنع قصة
وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
وإنك لست منفردا في مقامات المحنة من بين أهل المحبة { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } [الأنعام: 34]، فإن الصبر على المكاره من شأن المرسلين { حتى أتاهم نصرنا } [الأنعام: 34]، ظاهرا وباطنا فإنا الظاهر فعمر رسلنا بهلاك القوم أو بإجابة الدعوة، وإن في الباطن فتنصرهم بالتخلق بأخلاقنا فأما الصبر خلق من أخلاقنا وينافهم بالصبر مرتبة أولوا العزم كما قال تعالى:
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل
[الأحقاف: 35]، { ولا مبدل لكلمات الله } [الأنعام: 34]، وهي القدرات التي قدرها ودبرها في الأزل إلى الأبد بكلمة
كن
[البقرة: 117]، فقدر للمقبولين الرسالة والنبوة والولاية والمحبة والصبر عليها ونعمة الطاعة والعبودية والشكر لها { ولقد جآءك من نبإ المرسلين } [الأنعام: 34]؛ أي فيما صبروا على المحق والشكر والنعم وقدر للمردود بين الغفلة والجهالة والضلالة وكفران النعمة والجزع فيما أصابهم من المكاره.
ثم أخبر عن إعراض أهل الاعتراض بقوله تعالى: { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السمآء فتأتيهم بآية } [الأنعام: 35]، تربية وتأديب للنبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
؛ لئلا يبالغ في الشفقة على غير أهلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كما خوطب بقوله تعالى:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين
[آل عمران: 159]، بالغ في اللين والشفقة وحرص على إيمان القوم وكبر عليه إعراضهم حتى قيل وأغلظ عليهم وقيل
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا
[الكهف: 6]، وقيل:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف: 103]، وقيل: { وإن كان كبر عليك إعراضهم } ، ثم قال تعالى: { ولو شآء الله لجمعهم على الهدى } [الأنعام: 35]؛ يعني: في عالم الأرواح عند رشاش النور على الأرواح لجمعهم في قابليته النور مع القابلين الذين أصابهم النور، وقد اهتدوا به { فلا تكونن من الجهلين } [الأنعام: 35]، الذين لا يعلمون الحكمة فيما جعلنا بعضهم قابلي نور الهداية والإيمان، وبعضهم غير قابلين إظهارا للطف والقهر، وفي هذا إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بهذه الحكمة ، وفيه إشارة أخرى إلى أن هذا الخطاب أزلي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في الأزل { فلا تكونن من الجهلين } في الدنيا فما كان منهم، ولو لم يخاطبه به لكان من الجاهلين، فإن كل أمر خاطب له النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر التكوين، وكذلك النهي هو نهي الامتناع عن الكينونة.
ثم وصف له المستعدين بقول الهداية فقال تعالى: { إنما يستجيب الذين يسمعون } [الأنعام: 36]؛ يعني: الذين يسمعون بالله، وهم الذين أحياهم الله تعالى بنور منه كقوله تعالى وتبارك:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122]؛ يعني: يسمع بذلك النور ويبصر به كما قال تعالى:
" فبي يسمع وبي يبصر "
{ والموتى } [الأنعام: 36]، أراد بالموتى من كان ميتا ولم يحييه الله فلا يسمع قوله: { يبعثهم الله } [الأنعام: 36]؛ يعني: الله قادر على أن يبعثهم ويحييهم ويسمعوا لا أنت يا محمد كقوله تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، وقال تعالى:
ومآ أنت بمسمع من في القبور
[فاطر: 22]، { ثم إليه يرجعون } [الأنعام: 36]؛ يعني: من يبعثهم يحييهم الله من قبور نفوسهم { يرجعون } إليه بجذبات العناية ونور الهداية { وقالوا } [الأنعام: 37]، أهل الأهواء لأهل الولاء { لولا نزل عليه آية من ربه } [الأنعام: 37]، طالما يطالبونهم بإراءة الآيات، وهو من مكائد النفس وغلبة الهوى والتعلل بالأشياء الفاسدة وكم من آية قد رأوها وقد أعرضوا عنها { قل إن الله قادر على أن ينزل آية } [الأنعام: 37]، في كل ساعة ولحظة { ولكن أكثرهم } [الأنعام: 37]، بدون الآية { لا يعلمون } [الأنعام: 37]، إنها من آيات الله لأن آيات الله لا ترى إلا بنور الله تعالى، فمن لم يكن له نور الله لينظر به فلم ير الآيات إلا السحر والكذب.
[6.38-42]
ثم أخبر عن الأمم من بعضها مثل النعم بقوله تعالى: { وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } [الأنعام: 38]، إلى قوله: { على صراط مستقيم } [الأنعام: 39]، الإشارة فيهما أن في قوله تعالى: وما من دابة في الأرض يشير إلى ما يدب في أرض البشرية، ويتحرك كالسمع والبصر واللسان والأعضاء كلها والنفس وصفاتها وطائر يطير بجناحيه الشريعة والطريقة إلا أمم أمثالكم في السؤال عن أفعالهم وأحوالهم يدل على قوله تعالى:
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
[الإسراء: 36]، { ما فرطنا في الكتب } [الأنعام: 38]؛ أي: تركنا في القرآن { من شيء } [الأنعام: 38]، يحتاج به الإنسان ظاهره وباطنه ذاته وصفاته في السير إلى الله والوصول إليه من المأمورات والمنهيات والندب والاستحباب وجميع يقربه إليه، ويباعدون عنه إلا بيناه { ثم إلى ربهم يحشرون } [الأنعام: 38]، أما المقبلون المقبولون فهاهنا بالسر وجذبات العناية يرجعون إلى ربهم، وأما المدبرون المردودون فبالحشر يحشرون إلى ربهم السلاسل والأغلال يسبحون في النار على وجههم نار القطيعة والرد بالبعد؛ لأن من شأنهم التكذيب بما نزلنا من أسباب الوصول كما قال تعالى: { والذين كذبوا بآياتنا } [الأنعام: 39]، بدلائلنا التي هي توصلهم إلينا { صم } [الأنعام: 39]؛ إذ أن قلوبهم لا يسمعون بها دعوة الحق { وبكم } [الأنعام: 39]، ألسنة قلوبهم لا يستجيبون دعوة الحق؛ لأنهم لا يسمعونها وإنما يستجيب الذين يسمعون ومن خاصية الأصم أن يكون أبكم وذلك لأنهم { في الظلمات } [الأنعام: 39]، هي ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة التي عند غلباتها على القلب يميت القلب من صفاته الروحاني والأخلاق الحميدة والمعنى في قوله تعالى: { صم وبكم في الظلمات } من موت القلب، كقوله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122]، كمن مثله في الظلمات البشرية، وما أحييناه بنور المعرفة { من يشإ الله } [الأنعام: 39]، إضلاله { يضلله } [الأنعام: 39]، عن طلب الحق بموت القلب { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } [الأنعام: 39]، في طلب الحق ويحيي قلبه بنور المعرفة.
ثم أخبر أنه المولى في كشف البلوى بقوله تعالى: { قل أرءيتكم إن أتكم عذاب الله } [الأنعام: 40]، إلى قوله: { ما تشركون } [الأنعام: 41]، الإشارة فيهما أن الله تعالى خص الإنسان بكرامة من بين سائر المخلوقات، وهي أنه تعالى بسط أرض البشرية على وجه بحر الروحانية ويتصرف
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29] فتح بابا من جناب القدس إلى روحه، ومن روحه إلى البشرية فمن بقي له البابان مفتوحين يرسل الله تعالى نور رحمته إليه فيهما كقوله تعالى:
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم
[فاطر: 2]، فالعبد يكون قلبه نورا بذلك النور، ويكون في جميع أحواله في السراء والضراء إلى الله تعالى، ومن يشهد له باب جناب القدس يحرم من نور الرحمة، ويبقى في ظلمة البشرية فيكون رجوعه في السراء إلى المخلوقات وينسى الخالق، وأما في الضراء عند الاضطرار، فلا بد يكون رجوعه إلى الحق تعالى، وينسى غيره لأن في روحانيته مركوزا رجوعه إلى ربه كقوله تعالى:
إلى ربك الرجعى
[العلق: 8]، فقال تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المنسدة أبوابهم إلى جناب القدس ولا يرجعون إليه في السراء { أرءيتكم إن أتكم عذاب الله } يعني: في الضراء { أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون } [الأنعام: 40]؛ يعني: لكشف الضر عند الاضطرار { إن كنتم صدقين } [الأنعام: 40]، في الجواب { بل إياه تدعون } [الأنعام: 41]؛ لأن في روحانيتكم مركوزا مفرقة خصوصيته أمن يجيب المضطر إذا دعاه فيكشف { ما تدعون إليه إن شآء } [الأنعام: 41]، في الأزل { وتنسون ما تشركون } [الأنعام: 41] فيخلصكم من حبس الاثنينية التي هي منشأ الشرك ويوصلكم إلى الوحدانية أن قدر في الأزل حتى تنسوا وتتركوا الإشراك.
ثم أخبر عن البأساء والضراء بقوله تعالى: { ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك } [الأنعام: 42]، إلى رب العالمين والإشارة فيهما أن أرسلنا لهم نعمة القيامة والكفاف من الرزق والرفاهية في العيش تشغلوا لها عنا وغفلوا عن الرجوع إلينا، فأمهلنا إليهم رسلنا بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة والدلائل الواضحة؛ فدعوا بها إلينا فلم يهتدوا بها { فأخذنهم بالبأسآء والضرآء لعلهم يتضرعون } [الأنعام: 42]، منها يمتحنون إلينا ويرجعون عما كانوا عليه.
[6.43-47]
{ فلولا } فهل لا { إذ جآءهم بأسنا تضرعوا } [الأنعام: 43]، وعلموا أن حقائق ألطافنا مودعة في دقائق صور قهرنا، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في صداق شدائد بأسنا ومحبتنا، واستقبلوا بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء لكشف ضراء النعمة وبلاء الغفلة { ولكن قست قلوبهم } [الأنعام: 43]، باتباع الهوى واستجلاء الدنيا واستيفاء لذاتها والتمتع بشهواتها، فوجد الشيطان فرصة التزيين والأعداء ومجال الحث والإغراء { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } [الأنعام: 43]، من متابعة الهوى والخواص على الدنيا وتكذيب الرسل والإعراض عن الحق { فلما نسوا ما ذكروا به } [الأنعام: 44]، من معارضة البأساء والضراء، فإنها تذكر أيام الرجاء وتعرف قدر الصحبة والنعماء، وهذا يؤدي إلى رؤية النعمة ويوجب الشكر عليها، والشكر يدل على رؤية النعم في المنعم فكلما كانت القساوة موجبة لنسيان النعماء ومانعة لقبول دعوة الأنبياء { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } [الأنعام: 44]، من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهرة بالنعمة من المال والجاه والقبول والصحة وأمثالها، ولأرباب الباطن النعمة الباطنة من فتوحات الغيب وإراءة الآيات وظهور الكرامات ورؤية الأنوار وكشف الأسرار والأشراف على الخواطر وصفاء الأوقات ومشاهدة الروحانية وأشباهها مما يربي بها أطفال الطريقة فإن كثيرا من متوسطي هذه الطائفة تعتريهم الآفات في أثناء السلوك عند سآمة النفس من المجاهدات وملالتها من كثيرة الرياضات، فيوسوسهم الشيطان وتسول لهم أنفسهم أنهم قد بلغوا في السلوك رتبة قد استغنوا بها عن صحبة الشيخ وتسليم تصرفاته، فيخرجون من عنده ويشرعون في الطلب على هواء نفوسهم فيقعون في ورطة الخذلان وسخرة الشيطان، فيريهم الأشياء الخارقة للعادة وهم يحسبون أنها من نتائج العبادة { حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا } [الأنعام: 44]، وغرهم بالله الغرور { أخذناهم بغتة } [الأنعام: 44]، بفقد الأحوال على سوء الحال، فلا يبقى لهم إلا القيل والقال والدعوى المحال { فإذا هم مبلسون } [الأنعام: 44] متحيرون في تيه الغرور { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } [الأنعام: 45] على أنفسهم بالإعراض والاعتراض { والحمد لله رب العالمين } [الأنعام: 45]، على إظهار اللطف وإظهار القهر لأصحابه؛ ليعرفه العارفون بصفات اللطف والقهر وإن الكل من عند الله.
ثم أخبر عن آثار لطفه وقهره بقوله تعالى: { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } [الأنعام: 46]، إلى قوله:
يفقهون
[الأنعام: 65]، الإشارة فيها أن الله تعالى أعطى عموم الخلق السمع والأبصار والأفئدة التي بها يفقهون كلام الحق وبها يسمعون وبها يبصرون بالحق، ثم قال تعالى: { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } التي أعطاكموها { وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به } [الأنعام: 46]؛ يعني: هو الذي يأخذكم وهو الذي يرد إليكم مرة أخرى إن شاء وكيف شاء ثم قال تعالى: { انظر } [الأنعام: 46]، يا محمد { كيف نصرف الآيات } [الأنعام: 46] وهو السمع والأبصار الحقيقي عن الكفار ويأخذها { ثم هم يصدفون } [الأنعام: 46]، يعرضون عن الحق بعد ذلك.
ثم عم الخطاب وقال تعالى: { قل } [الأنعام: 47] يا محمد { أرءيتكم } [الأنعام: 47]، يا أهل السعادة ويا أهل الشقاوة { إن أتكم عذاب الله } [الأنعام: 47]، من الآفات والحوادث والأمراض، وغير ذلك ابتلاء وامتحانا { بغتة } [الأنعام: 47]، يعني: من غير سبب ظاهر مثل أخذ السمع والأبصار والختم على القلوب { أو جهرة } [الأنعام: 47]؛ يعني: بسبب ظاهر مثل الفسوق والعصيان والكفران { هل يهلك } [الأنعام: 47]؛ يعني: ربما ابتليتهم به { إلا القوم الظلمون } [الأنعام: 47]، الذين ظلموا أنفسهم يصرف استعداد عبودية الحق في متابعة الهوى، وهي غير موضعه ويثبت عليها، فإن من ابتلى بنوع من البلاء تاب ورجع منه فهو غير هالك على الحقيقة.
[6.48-52]
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } [الأنعام: 48]؛ يعني: إليهم من الهداية شيء، وإنما هم يبشرون لمن آمن وأصلح بالنجاة والدرجات، ومنذرون للمكذبين بالهلاك والدركات { فمن ءامن وأصلح } [الأنعام: 48]، استعداد الذي أفسده بصرفه في غير محله فيصلحه بالتوبة والإنابة ويصرفه في العبودية على وقف الأمر { فلا خوف عليهم } [الأنعام: 48]، من فساد الاستعداد فعل هذا بعد أن أصلحوا { ولا هم يحزنون } [الأنعام: 48]، على آفات منهم من الحسنات في أيام استعمالهم السيئات؛ لأن الله تعالى قال
يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70]، بعد التوبة والرجوع { والذين كذبوا بآياتنا } [الأنعام: 49]، وثبتوا عليه { يمسهم العذاب } [الأنعام: 49]، عذاب الرد والبعد والهلاك { بما كانوا يفسقون } [الأنعام: 49]؛ أي: بسبب خروجهم يوما رش الله تعالى على الأرواح من نوره فيه عن وصف المرشش فأخطأهم ذلك النور وهم أهل الشقاوة والهلاك.
ثم أخبر عن حال النبي صلى الله عليه وسلم باللطف الخفي بقوله تعالى: { قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله } [الأنعام: 50]، الآيتين.
والإشارة فيهما أن الله تعالى مربيه صلى الله عليه وسلم أن يكلم الكفار على قدر عقولهم، فقال تعالى: { قل } يا محمد { لا أقول لكم عندي خزآئن الله } على أنها عندي؛ ولكن { لا أقول لكم } وهي علم حقائق الأشياء وماهيتها، وقد كان عنده في إراءة
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، أو إجابة قوله صلى الله عليه وسلم: " أرنا الأشياء كما هي " ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:
" أوتيت جوامع الكلم "
، وما أمره الله تعالى أن: { قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب } [الأنعام: 50]، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخبر عما مضى وعما سيكون بأعلام الحق تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج: " قطرت في حلقي قطرة علمت بها ما كان وما سيكون " { ولا أقول لكم إني ملك } [الأنعام: 50]، وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل عليه السلام: تقدم، فقال: لو دنوت أنملة لاحترقت { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } [الأنعام: 50]؛ يعني: لا أخبركم عن مقاماتي وأحوالي فيهما
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
إلا عما يوحي إلي أن أبصارهم، وقل معهم، ثم قال تعالى: { قل هل يستوي الأعمى والبصير } [الأنعام: 50]؛ يعني: قل وكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه، وأنابه بصير فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير { أفلا تتفكرون } [الأنعام: 50].
ثم قال تعالى: { وأنذر به } [الأنعام: 51]؛ يعني: أخبر بهذه الحقائق والمعاني { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } [الأنعام: 51]، بجذبات العناية ويتحقق لهم أن { ليس لهم } [الأنعام: 51]، في الوصول إلى الله { من دونه ولي } [الأنعام: 51]؛ يعني: من الأولياء { ولا شفيع } [الأنعام: 51]؛ يعني: من الأنبياء لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق تعالى: { لعلهم يتقون } [الأنعام: 51]، عما سوى الله بالله في طلب الوصول.
ثم أخبر عن أصول أهل الوصول بقوله تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [الأنعام: 52]، الآيتين الإشارة فيهما أن من عواطف إحسانه ولطائف امتنانه وحقوق خواص عباده أن يكون في بعض الأوقات لسانهم فيتكلمون به كما قال:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا... إلى آخره "
وفي بعض الأوقات يكون لسانهم فيتكلم عنهم، فإذا تكلموا به لكلم مع عباده ليدعوهم إليه، وإذا تكلم عنهم مع عباده ليهديهم إليه فما كان حال الفقراء مع النبي صلى الله عليه وسلم العجز عن الاستدراك ومعارضته فيما كانوا بصدده من إخلاء الرسول صلى الله عليه وسلم مجلسه عنهم سكتوا عن الاعتراض وتوجهوا بقلوبهم إلى الحق تعالى متضرعين بين يديه معرضين برائتهم لديه فتولى الحق سبحانه ظهارها في ضمائرهم، واطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على سرائرهم، فقال تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أخبره عن دوام ذكرهم، وأنهم حسباء الله بالغداة والعشي كما قال تعالى: " أنا جليس من ذكرني " ، فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك وقد خصهم الله تعالى بإرادته عما سواهم كما قال تعالى:
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
[آل عمران: 152] وقال تعالى: { يريدون وجهه } [الأنعام: 52] فكل يريدون منه وهم لا يريدون عنه دونه كما قيل شعر:
وكل له سؤال ودين ومذهب
ووصلكم سؤلي وديني رضاكم
ويقال: تكلم الناس في الإرادة فأكثروا، وتحقيقها: احتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله تعالى، فصاحب الإرادة لا يهدوا ليلا ولا نهارا ولا يجد من دون وصوله إليه سبحانه مسكونا ولا قرارا.
ثم قال تعالى: { ما عليك من حسابهم من شيء } [الأنعام: 52]؛ يعني: ما لك منعك في الحساب من المواصلات والتوحيد في الخلوات فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك نقلا منهم { وما من حسابك عليهم } [الأنعام: 52]، منها { من شيء } [الأنعام: 52]، ولا ما لنا فيكون في الحساب في التفرد للوصول والوصال لكن إليه حاجة أو غيره لينقل عليهم منها شيء { فتطردهم } [الأنعام: 52]، فتكثر قلوبهم الطرد { فتكون من الظالمين } [الأنعام: 52]، يوضع الكسر في موضع الجير، فإنك بعثت قلوبهم، كقوله تعالى: واخفض جناحيك للمؤمنين.
[6.53-58]
ثم قال تعالى { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } [الأنعام: 53]؛ يعني: الفاضل بالمفضول بالفاضل فليشكر الفاضل وليصبر المفضول، فإن لم يشكر الفاضل فقد تعرض لزوال الفضل والناصر المفضول فقد سعى في نيل الفضل والمفضول الصابر يساوي الفاضل الشاكر، كما كان سليمان عليه السلام في الشكر مع أيوب عليه السلام في الصبر، فإن سليمان عليه السلام مع كثرة صورة أعماله في العبودية كان أيوب عليه السلام عليه مع عجزه عن صورة أعمال العبودية مساويا في مقام نعم العبدية لسليمان عليه السلام فقال تعالى: لكل واحد منهما
نعم العبد
[ص: 30]، ففتنته في المفضول رؤية فضله على المفضول وتحقيره ومنع حقه عنه في فضله، وفتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخط عليه في منع حقه من فضله عنه، فإنه انقطع عن الحق بالخلق إذا رأى المنع والعطاء من الخلق وهو المعطي والمانع لا غيره، ومنها إقراري الفاضل مستحقا للفضل، كما قال تعالى: { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ } [الأنعام: 53]؛ يعني: خصهم بالفضل، فقال تعالى: { أليس الله بأعلم بالشكرين } [الأنعام: 53]؛ أي: المستحقين لنعمة فضله الذين يشكرون على نعماته، فكل نعمة من النعم الظاهرة والباطنة سبغ الله تعالى على عبده، فإن وفقه للشكر نعمة عليه وإلا يكون نعمة عليه، والله أعلم.
ثم أخبر عن فضله مع أهل الفضل بقوله تعالى: { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلم عليكم } [الأنعام: 54]، الآيتين، والإشارة فيهما أن الله تعالى من كمال فضله على الفقراء أحلهم محل الأكابر والملوك في الدنيا والآخرة بتقديم السلام عليهم، فأما في الدنيا فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلم عليكم } يعني: كن مبتدأ بالسلام على أن السلام على الجائي والآتي إلا الأكابر والملوك تعظيم بتقديم السلام عليهم في كل حال، وأما في الآخرة فيسلم عليهم الملائكة عند دخول الجنة كقوله تعالى:
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين
[الزمر: 73]، والله تبارك وتعالى يبتدئ
سلام قولا من رب رحيم
[يس: 58]، وفي قوله: { سلم عليكم } يشير إلى السلام الذي سلم الله تعالى على حبيبه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؛ إذ قال له: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال في قبول السلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فكأنه قال له حين سألوه طرد الفقراء
ولا تطرد الذين يدعون ربهم
[الأنعام: 52]، فإنهم من عبادنا الصالحين فإذا جاءك بلغ إليهم سلامنا كما قبلت منا، فالسلام كان من الله تعالى إليهم، وإن كان بالنبي صلى الله عليه وسلم سلم عليهم ومعنى السلام من الله تعالى هو سلامهم من ظلمة الخلقية بإصابة رشاشة نور القدر حين رش عليهم من نوره؛ إذ خلق الخلق في ظلمة، وإنما رش عليهم من نوره عند خلق الأرواح لأنه { كتب ربكم على نفسه الرحمة } [الأنعام: 54]، في الأزل وإنما كتب لهم الرحمة على نفسه وهي ذاته تبارك وتعالى؛ لأنهم كانوا من الذين
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، فكانوا يريدون وجهه؛ أي ذاته فخصتهم في إتيان خصهم من الرحمة بالوصول إلى الذات.
كما خص الخضر عليه السلام بإيتاء الرحمة من عنده بقوله تعالى:
آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما
[الكهف: 65]، وأني حظ للعموم من الرحمة بإيصالهم إلى الجنة كما قال تعالى في حديث رباني للجنة:
" أنت رحمتي أرحم بك من عبادي من شاء "
فيرحم بجنته من يشاء من عباده { أنه من عمل منكم سوءا بجهلة } [الأنعام: 54]، يشير بقوله: { منكم } إلى أن عامل السوء صنفان: صنف منكم أيها المهتدون المؤمنون، وصنف من غيركم وهم الكفار الضالون، والجهالة جهالتان: جهالة الضلالة وهي نتيجة إخطاء النور المرشش على الأرواح كما قال عليه صلى الله عليه وسلم:
" فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل ".
وجهالة الجهولية وهي التي جبل الإنسان عليها، كقوله تعالى
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72]، فمن عمل من الكفار سوء بجهالة الضلالة فلا توبة له، كما قال تعالى:
وليست التوبة للذين يعملون السيئات
[النساء: 18]، إلا ومن عمل منكم، أي من المؤمنين المهتدين سوء من المعاصي بجهالة الجهولية المذكورة فيه { ثم تاب } [الأنعام: 54]؛ لأنه أهل التوبة، كما قال تعالى:
ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات
[الأحزاب: 73]؛ أي: رجع إلى الله بقدم السير { من بعده } [الأنعام: 54]، من بعد إفساد استعداده الفطري بالسوء { وأصلح } [الأنعام: 54]، الاستعداد بالأعمال الصالحات لقبول الفيض { فأنه غفور رحيم } [الأنعام: 54]، يفيض عليه بمعرفته فيض الرحمة التي على نفسه، فافهم جيدا.
ثم قال تعالى: { وكذلك نفصل الآيات } [الأنعام: 55]؛ أي: كما بينا لك في هذه الآية أحوال المهتدين يبين لك أحوال الكافرين الضالين { ولتستبين سبيل المجرمين } [الأنعام: 55]؛ أي: طريقهم إلى الجنة أو النار ليهلك من هلك عن بينته.
ثم أخبر عن طريق الكفار إلى النار بقوله تعالى: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } [الأنعام: 56]، إلى قوله: { والله أعلم بالظالمين } [الأنعام: 58]، الإشارة فيها أن { قل } إنكم تعبدون من دون الله آلهة مثل الدنيا والنفس والشيطان، وتتبعون الهوى وهو يهدي بكم إلى الهاوية، و { إني نهيت } في الأزل إذ عصمت بإصابة النور المرشش أن أعبد الذين تعبدون من دون الله وتطلبونه، وقد أمرت في الأزل بقوله:
وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
[يس: 61]، وبقوله:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99]، وبقوله:
واتبع ما يوحى إليك من ربك
[الأحزاب: 2]، ف
لا أعبد ما تعبدون
[الكافرون: 2]، { قل لا أتبع أهوآءكم } [الأنعام: 56]، فأكون { قد ضللت إذا } [الأنعام: 56]، بإخطاء النور المرشش
" فإنه من أخطأه فقد ضل "
{ ومآ أنا من المهتدين } [الأنعام: 56]، الذين أحياهم النور فقد اهتدوا { قل إني على بينة من ربي } [الأنعام: 57]، أي على نور من ربي يدل عليه قوله تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، وقد قال لي
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح: 1]؛ أي: بإصابة ذلك النور المرشش من ربي { وكذبتم به } [الأنعام: 57]؛ أي: بذلك النور؛ يعني: أخطأكم فكذبتم به وبالذي رشه { ما عندي ما تستعجلون به } [الأنعام: 57]، من عبادة ما تعبدون من دون الله واتباع أهوائكم؛ لأن ذلك من خاصية ظلمة الخلقية، وذلك ليس عندي إذ جعلني الله نورا { إن الحكم } [الأنعام: 57]، من الأزل إلى الأبد { إلا لله يقص الحق } [الأنعام: 57]؛ يعني: لمن يقضي له إصابة النور في الأزل، ولمن يقضي أخطأه { وهو خير الفصلين } [الأنعام: 57]، حين فصل بين الأرواح عند رش النور بإصابة البعض دون البعض { قل لو أن عندي ما تستعجلون به } [الأنعام: 58]، من عبودية الغير واتباع الهوى { لقضي الأمر بيني وبينكم } [الأنعام: 58]؛ يعني: أمر القتال والخصومات واستراحت من غاية ما أوذي نبي مثل ما أوذيت، ولمن { والله أعلم بالظالمين } [الأنعام: 58]، الذين يضعون عبادة الله في غير موضعها، وهم الذين أخطأهم بذلك النور المرشش.
[6.59-63]
ثم أخبر عن مفاتيح الغيبة وأنها عنده بلا ريب بقوله تعالى: { وعنده مفاتح الغيب } [الأنعام: 59]، الإشارة فيها أن الله تعالى جعل لكل شيء شهادة تناسب ذلك الشيء وغيبا مناسب له، وجعل لمغيب كل شيء مفتاحا يفتح به باب غيب ذلك على شهادته فيفصل ذلك الشيء كما أراد الله في الأزل وقدره، وعنده مفتاح الغيب: { لا يعلمهآ إلا هو } [الأنعام: 59]؛ لأنه لا خالق إلا هو وليس لنبي ولا لولي مدخل في هذه المفاتيح ولا في استعمالها؛ لأنه مختص بالخالق فحسب ما ضرب لك مثلا يدركه به هذه الحقيقة، وذلك مثل نقاش الصور، فإن لكل صورة فيما ينقشها شهادة وهي هيئتها، وغيب هو علم التصوير، ومفتاح يفتح به باب علم التصوير على هيئة الصورة لتنفعل الصورة ثابتة في ذهن النقاش، وهو العلم بيد النقاش لا مدخل لتصرف غيره فيه، فإن الله تعالى هو النقاش المصور والصور هي صورة المكونات المختلفة الغيبية والشهادية، وشهادة كل صورة منها خلقها وكونها وغيبها علم خلقها وتكوينها، وقلم تصويرها الذي هو مفتاح ويفتح به باب علم تكوينها على صورتها وكونها هو الملكوت فبقلم ملكوت كل شيء يكون كل شيء، وقلم الملكوت بيد الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
[يس: 83]، فكما أن الشهاديات مختلفة فالملكوتيات مختلفات، ولكل شيء من الجماد والنبات والحيوان والإنسان والملك غيب مناسب لصورته، ولهذا جمع المفاتح ووحد الغيب، وقال { وعنده مفاتح الغيب } هو علم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة كما في الصور، فافهم جيدا.
{ و } بعلم التكوين { يعلم ما في البر والبحر } [الأنعام: 59]؛ لأن به كون البر وهو عالم الشهادة، والبحر وهو عالم الغيب والملكوت يدل على هذا المعنى، قوله عالم الغيب والشهادة وبهذا العلم { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } لأنه مكونها ومثبتها وسقطها { ولا حبة في ظلمت الأرض } [الأنعام: 59]، أرض القلب وظلمات صفات البشرية إلا وهو يركبها ويعلم كمالها ونقصانها { ولا رطب ولا يابس } [الأنعام: 59]، الرطب المؤمن واليابس الكافر.
وأيضا: الرطب العالم واليابس الجاهل.
وأيضا: الرطب العارف واليابس الزاهد،.
وأيضا: الرطب أهل المحبة واليابس أهل السلوة.
وأيضا: الرطب صاحب الشهود واليابس صاحب الوجود.
وأيضا: الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنفسه { إلا في كتب مبين } [الأنعام: 59]، وهو أم الكتاب.
ثم أخبر عن فعله وفضله بقوله تعالى: { وهو الذي يتوفكم باليل } [الأنعام: 60]، الآيتين الإشارة فيهما أن من فضل الله والرضا مع عباده أن يتولى مصالحهم بنفسه ليلا ونهارا، فقال تعالى: { وهو الذي يتوفكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار } [الأنعام: 60]، وهذا تعريف نفسه بنفسه؛ يعني: فإن لم تعرفوني فأنا الذي يتوفاكم بالليل لاستراحة نفوسكم وتقوية قوتكم وسلامة حواسكم من الكلالة والطبيعة من الملالة، ويريكم في المنام ما تكسبون بالنهار، وهذا من الجنس الذي لا يعلمها إلا الله، كما قال تعالى:
وما تدري نفس
[لقمان: 34]، فيريكموه الله من فضله معكم، ولتعلموا أنه يعلم بالليل ما تكسبون غدا بالنهار، وهل بعد الغد سنين كثيرة { ثم يبعثكم فيه } [الأنعام: 60]، عن نوم الغفلة، فإن أكثر انتباه الخلق ورجوعهم إلى الحق وحرصهم على طلب الدين وترك الدنيا إنما يكون بالرؤيا الصالحة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة ".
وقال:
" ما بقي من النبوة إلا المبشرات يراها المؤمن أو ترى له "
فعلى هذا المعنى الهاء في قوله تعالى: فيه كناية عن المنام بالليل { ليقضى أجل مسمى } [الأنعام: 60]؛ يعني: بعد الانتباه والحرص على الطلب يقضي أجل أيام الفراق المسمى بينكم وبينه { ثم إليه مرجعكم } [الأنعام: 60]، بجذبة إلى ربكم { ثم ينبئكم } [الأنعام: 60]، عند الوصال ونيل الوصال بنور الجمال { بما كنتم تعملون } [الأنعام: 60]؛ يعني: يتحقق لكم أن استعمال الشريعة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم كان السير إلى الله تعالى وصورة جذبات الحق، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن قهره بالعدل لمن لم يكن قابلا للفضل بقوله تعالى: { وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 61]، إلى قوله: { وهو أسرع الحاسبين } [الأنعام: 62]، بالإشارة فيها أن القهر من وصف الجلال هو مشرب الأولياء، فيعبر عنه بالقاهرية، وما كان وصف الجبروت فهو مشرب الأعداء فيعبر عنه بالقهارية كقوله تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر: 16]، وقال تعالى من وصف الجلال
وهو القاهر فوق عباده
[الأنعام: 18]؛ أي: يقهر نفوس العابدين بخوف عقوبته، ويقهر قلوب العارفين بسطوة شهود جماله، ويقهر أرواح المحبين بكشف جلاله، فالعابد بلا نفس لاستيلاء سلطان أفعاله والعارف بلا قلب لاستيلاء سلطان جماله والمحب بلا روح لاستيلاء جلاله عليه والواصل مستهلك في عين حقيقته، فمتى أراد الحق تعالى تكميل عبد من عباده يرسل عليه حفظه من صفات قهره، كما قال تعالى: { ويرسل عليكم حفظة } [الأنعام: 61]، حتى لو أراد نفسه الخروج عن قيد مجاهدتا قهرته سطوات العتاب، فردته إلى بذل الجهد ومتى أراد قلبه فرجة من مطالبته القربة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة، ولو أراد روحه استرواحا من الحرمات قهرته بواردات التجلي فردته إلى بذل المبهجة، كما قال تعالى: { حتى إذا جآء أحدكم الموت } [الأنعام: 61] الموت يعني: الفناء عن أوصاف الوجود { توفته رسلنا } [الأنعام: 61]، صفات قهرنا { وهم لا يفرطون } [الأنعام: 61]، في إفناء الأوصاف فشتان بين عبد مقهورا بأفعاله وبين عبد مقهور بجماله وجلاله { ثم ردوا إلى الله } [الأنعام: 62]، يعني: أهل الفناء يردون إلى بقاء الله وهم الباقون بالله { مولاهم الحق } [الأنعام: 62]، أي قائمون { ألا له الحكم } [الأنعام: 62]، فيما يتولى مصالح دينهم ودنياهم بلا هم { وهو أسرع الحاسبين } [الأنعام: 62]، فيما يحاسب أمور عباده محاسبة لا تكون في حسابهم وحسابهم.
ثم أخبر عن إنجاء الأولياء بقوله تعالى: { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } [الأنعام: 63]، إلى قوله وسوف تعلمون الإشارة فيها أن البر والأجسام والبحر والأرواح فالأرواح، وإن كانت نورانية إلى الأجسام ولكن بالنسبة إلى الحق تعالى، ونور الإلهية ظلمانية، كما قال :
" إن الله هو الحق خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره "
فمعناه إذ خلقتكم في ظلمة الخلقية، فمن ينجيكم من ظلمات بر البشرية وظلمات بحر الروحانية { تدعونه تضرعا } [الأنعام: 63]، أي بالجسم { وخفية } [الأنعام: 63]، أي بالروح { لئن أنجانا من هذه } [الأنعام: 63]، الظلمات { لنكونن من الشاكرين } [الأنعام: 63]، على نعمة النجاة فلما لم يكن أحد نجيهم من الظلمات غير الله.
[6.64-67]
قال الله تعالى: { قل الله ينجيكم منها } [الأنعام: 64]؛ أي: من ظلمات الخلقية يرش النور عليكم فإنه من لم يجعل الله له نورا فما له من نور { ومن كل كرب } [الأنعام: 64]، أي: هو الذي نجيكم من كل آفة وبلاء وفتنة { ثم أنتم تشركون } [الأنعام: 64]؛ يعني: حين تجلى لكم نور من أنوار صفاته فبعضكم يشرك به ويقول أنا الحق وبعضكم يقول سبحان ما أعظم شأني { قل هو القادر على أن يبعث عليكم } [الأنعام: 65]، حين تقولون آثار الحق وسبحاني أعظم شأني { عذابا من فوقكم } [الأنعام: 65]، بأن يرخي حجابا بينه وبينكم يعذبكم به عزة وغيرة { أو من تحت أرجلكم } [الأنعام: 65]، أي حجابا من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم { أو يلبسكم شيعا } [الأنعام: 65]، يجعل الخلق فيكم فرقا، فرقة يقولون هم الصديقون وفرقة يقولون هم الزنادقة { ويذيق بعضكم بأس بعض } [الأنعام: 65]، بالقتل وبالصلب وقطع الأطراف كما فعل بابن منصور { انظر كيف نصرف الآيات } [الأنعام: 65]، أي: آيات المعارف وإعلام الهدى إلى الله تعالى والسالكين طريقه { لعلهم يفقهون } [الأنعام: 65]، شرائط السير وآداب السلوك، ولا يفقهون ما في مقام دون الفناء عن كلمته، الوجود والبقاء بشهود المعبود { وكذب به } [الأنعام: 66]، بهذا المقام { قومك } [الأنعام: 66]، المنكرون منكم { وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } [الأنعام: 66]، لأسلك طريق هذا المقام بوكالتكم؛ لأنه ليس لإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى، كما قال تعالى: { لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون } [الأنعام: 67]؛ يعني: لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب ودركات البعد، فإذا انتهى إلى مستقره تبين له حقيقة ما قررناه هو العرض الأكبر.
[6.68-70]
ثم أخبر عن الإعراض عن الخواص بقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [الأنعام: 68]، إلى قوله: { بما كانوا يكفرون } [الأنعام: 70].
الإشارة فيها أنه لا يصلح للطالب الصادق المجالسة مع الخواص لأنه قيل أن الطبع يسرق فقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا } [الأنعام: 68]، إشارة إلى بعض أهل الطاعات يخوضون في أحوال الرجال، ولا حظ لهم منها قال تعالى: { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [الأنعام: 68]؛ يعني: من الطامات التي هي ريح في شبح { وإما ينسينك الشيطن } [الأنعام: 68]؛ يعني: القعود منهم فقعدت معهم بالنسيان، أو من غير قصد منك وعرفت أحوالهم { فلا تقعد بعد الذكرى } [الأنعام: 68]؛ أي: بعد التذكر ومعرفة أحوالهم { مع القوم الظلمين } [الأنعام: 68]، البطالين الذين يظلمون أنفسهم بإفساد الاستعداد، ويراؤون الناس أنهم من الطالبين الصادقين بالزي والخرق وأنهم من البطالين بالأفعال والأحوال { وما على الذين يتقون } [الأنعام: 69] من الطامات والدعاوي وفي الطلب { من حسابهم من شيء } [الأنعام: 69]، من خسارة البطالين من شيء { ولكن ذكرى لعلهم يتقون } [الأنعام: 69]، ولكن يحسن الاعتراض عنهم ويتركون الإصغاء إلى مجالاتهم وخيالاتهم من الطامات وحسن الانقباض بذكرهم لعلهم ينتهون ويحترزون عن الدعاوي ويطلبون المعاني { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } [الأنعام: 70]؛ أي: دع صحة الذين يلعبون بالدين وهمهم لبس الخرقة والزي بزي الطالبين إنما هو للدنيا وقبول الخلق والنسب باللهو { وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به } [الأنعام: 70]؛ أي وعظهم بالصدق والطلب وترك الخرقة فإنها تورث الزندقة { أن تبسل نفس بما كسبت } [الأنعام: 70]، من قبل أن تفسد نفس استعدادها للطلب بالكلية بما تكسب من الرياء والنفاق { ليس لها من دون الله ولي } [الأنعام: 70] يتولى أمر إصلاح استعدادها { ولا شفيع } [الأنعام: 70]، يشفع ليصلح الله استعدادها الفاسدة { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ } [الأنعام: 70]؛ يعني: وإن تقتدي بالدنيا وما فيها لا يقبل منها ولا يفيد استعدادها بعد فسادها بالكلية
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23]، { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } [الأنعام: 70]، بطلوا الاستعداد الفطري بمرائيهم لهم { لهم شراب من حميم } [الأنعام: 70]، من مشرب الحسرة والندامة { وعذاب أليم } [الأنعام: 70]، من نار القطيعة وألم البعد { بما كانوا يكفرون } [الأنعام: 70]، بمقامات الرجال من الوصول والوصال.
[6.71-74]
ثم أخبر أن لا نافع ولا ضار إلا هو بقوله تعالى: { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } [الأنعام: 71]، إلى قوله: { تحشرون } [الأنعام: 72]، الإشارة فيها أن الإنسان يعبد الله لجر منفعة أو لدفع مضرة، فقال: { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } [الأنعام: 71]؛ أي: نطلب غير الله الذي هو النافع الضار، وإنما النفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه { ونرد على أعقابنا } [الأنعام: 71]، إلى مقام الاثنينية التي كنا فيها { بعد إذ هدانا الله } [الأنعام: 71]، إلى الوحده { كالذي استهوته الشياطين } [الأنعام: 71]، أضلته شياطين الأنس والجن { في الأرض } [الأنعام: 71] أي: في أرض البشرية باتباع الهوى { حيران } [الأنعام: 71] بإغوائهم وإضلالهم، وهذا مثل الطالبين الصادقين والطالبين الخائضين، فإنهم يدعون الطالبين في بطالتهم وضلالتهم { له أصحاب } [الأنعام: 71]؛ أي: المطالب { يدعونه إلى الهدى ائتنا } [الأنعام: 71]؛ أي: يهدونه إلى الله { قل إن هدى الله } [الأنعام: 71]، أي: الهداية إلى الله { هو الهدى } [الأنعام: 71]، الحقيقي لا الهداية إلى غيره وما سواه { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } [الأنعام: 71]؛ أي: أمرنا بالتسليم وهو ترك الوجود كالكثرة في ميدان القدر مستسلما لصولجان القضاء المجازي لأحكام رب العالمين { وأن أقيموا الصلاة واتقوه } [الأنعام: 72]، أي: وأمرنا أن نحفظ أسرارنا عن غير الحق بإقامة الصلاة ونتقي به عن غيره لأنه { وهو الذي إليه تحشرون } [الأنعام: 72]، أيها الطالبون لا إلى غيره من الجنة والنار كما قال:
" ألا من طلبني وجدني ".
ثم أخبر عن خصوصية هويته بقوله تعالى: { وهو الذي خلق السموت والأرض بالحق } [الأنعام: 73]، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى خلق المخلوقات؛ لظهور صفات جماله وجلاله، فقال: { وهو الذي خلق السموت والأرض بالحق } أي: للحق يعني: لإظهار صفات الحق ويجعل المخلوقات مرآة مناسبا تحاكي جميع صفاته تعالى وتقدس، ولكن لا تشاهد صفاته بالكمال إلا في مرآة النسيان لا المخلوقات بالكمال إلا الإنسان، وهو أكمل المخلوقات استعدادا وأحسنهم تقويما في المراقبة وأنه يشاهد مرآة المخلوقات مما اختصت به من الصفات ما لا يشاهد غيره ويشاهد في مرآة نفسه من الصفات ما هو المخصوص به ولا يشاهد منه غيره كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]؛ أي: مرآة أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق والآيات هي الصفات ولما كانت المشاهدة بإراءة الحق لقوله تعالى: { سنريهم } والإرادة إنما تحصل بتكوينه إياها فقال تعالى: { ويوم يقول كن فيكون } [الأنعام: 73]؛ يعني: وإذا أراد أن يرى عبدا من عباده تلك الصفات يقول كن وإنا فيكون بهذا التيسير إلى أن ليس في استعداد الإنسان أن يصير رائيا بمجرد سعيه لصفات الحق في مرآة المخلوقات إلا أن يخلق الله تعالى فيه استعدادا مناسبا للرؤية عند رؤيته تلك الصفات، ثم قال تعالى: { قوله الحق } [الأنعام: 73]؛ يعني: في حق الإنسان أن يقول له كن رائيا { وله الملك } [الأنعام: 73]، تلك الإرادة وتلك الرؤية يؤتى ملكه من يشاء كما أني الإنسان ملك الرؤية { يوم ينفخ في الصور } [الأنعام: 73]، وهي نفخة الإرادة في صور القلب، وذلك تجلى الحق تعالى لمرآة قلب الإنسان ليصعق موسى النفس ويتدكدك جبل أنانيته فيشاهد السر ويبصر الخفي وباصره نور الحق في مرآة القلب شهود { علم الغيب والشهدة } [الأنعام: 73]، وذلك لأنه كان عالم الغيب قبل التجلي فلما تجلى له الحق تعالى صار عالما كان غائبا عنه، وهو عالم الغيب والشهادة { وهو الحكيم } [الأنعام: 73]، فيما اختص الإنسان بإرادة الآيات { الخبير } [الأنعام: 73]، يخصه من بين الناس بالتجلي له نفهم ونغنم إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر عن ظلال الجهال بقوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } [الأنعام: 74]، إلى قوله
إني بريء مما تشركون
[الأنعام: 78].
الإشارة فيها أن الله تعالى أظهر قدرته في إخراج الحي من الميت بقوله: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة } [الأنعام: 74]، من دون الله إذا الأصل منهمك في الجحود بموت قلبه والنيل مضمحل في الشهود لحياة قلبه والأصنام، ما يعبد من دون الله { إني أراك وقومك في ضلال مبين } [الأنعام : 74]، بما أراني الله تعالى ملكوت الأشياء.
[6.75-79]
كما قال تعالى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض } [الأنعام: 75]؛ أي: وكما أريناه ظلمة الكفر والضلالة المستورة في ملكوت آزر وقومه نريه ملكوت السماوات والأرض؛ أي: باطنها، واعلم أن لكل شيء من العالم ظاهرا يعبر عنه تارة لجسمانية لما له من الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق والمتحيزية وقبول القسمة والتحري، وتارة بالدنيا لدنوه إلى الحس وتارة بالصورة لقبول التشكل ولإدراكه بالحس، وتارة بالشهادة لشهوده بالحس وتارة بالملك لتملكه والتصرف فيه بالحق وباطنا، يعبر عنه تارة بالروحانية لانتفائه عن الأبعاد الثلاثة وعن التحيز والتجرؤ في الحس، وتارة بالآخرة لتأخره عن الحس، وتارة بالمعنى لتعريه عن التشكيل وبعده عن الحس، وتارة بالغيب لغيبوبته عن الحس، وتارة بالملكوت لملاك عالم الملك والصورة فإن قيام الملك لملكوت وقيام الملكوت لقدرة الله تعالى كما قال تعالى:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
[يس: 83]، أي: من طريق الملكوت والملكوت من الأوليات التي خلقها الله من لا شيء بأمر
كن
[غافر: 68]، وكان الله ولم يكن معه شيء يدل عليه قوله تعالى
أولم ينظروا في ملكوت السموت والأرض وما خلق الله من شيء
[الأعراف: 185]، فنبه إن الملكوت لم يخلق من شيء، وما سواها خلق من شيء وقد سمي الله ما خلق بالأمر أو ما خلق من الشيء خلقا فقال:
ألا له الخلق والأمر
[الأعراف: 54] فالله تعالى أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت الأشياء والآيات المودعة فيها الدالة على التوحيد { وليكون من الموقنين } [الأنعام: 75]، بالوحدانية عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع المستورة في ملكوت آزر وقومه { فلما جن عليه الليل } [الأنعام: 76]، أي: فلما كمل ظلمة ليل البشرية على نور روحانيته أمطر سحاب العناية مطر الهداية على أرض قلبه؛ فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه التسليم على آفة فساد الاستعداد القابل لنور الرش فظهر حضرة القلب { رأى كوكبا } [الأنعام: 76]، أي: نور الرش في صورة الكوكب من أفق سماء روحانيته طالعا كشديد القوة الخيالية عند بقائها بعد كسوة الصورة الكوكبية المناسبة وانفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر كوكبه، فشاهد السر نور الرشد بإراءة الحق فوافق نظر الظاهر نظر السر في مشاهدة الكوكب من أفق السماء، فكوشف بتجلي نور الملكوت في مرآة الكوكب؛ إذ هو نور السماوات والأرض، وقال: { هذا ربي } [الأنعام: 76] أراد به سره المكوكب لا الكوكب، وإن تشعر به نفسه كما قيل: " هو في فؤادي، ولم يعلم به بدني والجسم في غربة والروح في وطن " ، فإن كذب النفس فيما قال الكوكب { هذا ربي } [الأنعام: 76] ما كذب الفؤاد وما رأى من المكوكب { قال هذا ربي فلمآ أفل } [الأنعام: 76]؛ أي: فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب { قال } [الأنعام: 76]، سره { لا أحب الآفلين } [الأنعام: 76]، وإنما أحب الذي لا يأفل { فلمآ رأى القمر بازغا } [الأنعام: 77]؛ أي: فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر { قال هذا ربي فلمآ أفل } [الأنعام: 77]، عند رجوعه إلى أوصافه وازدياد الكشوف { قال لئن لم يهدني ربي } [الأنعام: 77]، يرفع حجب الأوصاف ويقيني على وجود الخلقية { لأكونن من القوم الضالين } [الأنعام: 77]، عن الحق كأبي وقومه { فلما رأى الشمس بازغة } [الأنعام: 78]؛ أي: فلما انحرفت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية وأشرقت أرض القلب بنور ربها { قال هذا ربي } [الأنعام: 78]، وإنما قال هذا، وما قال هذه لأنه أراد به نور الربوبية الذي تجلى له في مرآة الشمس لا الشمس؛ لأنه لم يؤنثه كما أنث قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة يدل عليه قوله: { هذآ أكبر } [الأنعام: 78]، ولا أكبر على الحقيقة إلا الله { فلمآ أفلت } [الأنعام: 78]، شمس الهداية تفردا وتعظيما ليعرض إبراهيم عليه السلام عن شركة الأنانية، ويفني فيمن لا أقول له كما قيل:
إن شمس النهار تغرب باللي
ل وشمس القلوب ليس تغيب
شبرا عن الأضداد والأنداد، ونزعته همة الخلة عن الجهات والأكوان وخلقته تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال وأزعجته سطوات الجلال من مكامن الأنانية والإشراك { قال يقوم إني بريء مما تشركون } [الأنعام: 78].
ثم أخبر عن إخلاصه في خلاصه بقوله تعالى: { إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض } [الأنعام: 79]، الآيتين الإشارة فيهما: أن مرآة قلب إبراهيم عليه السلام لما ملكت صفاتها وسلمت عن طبع الطبع، وتنزهت عن ظلمة هوى النفس وشهواتها وتخلصت عن الالتفات إلى الكواكب والأكوان يصيبها الشوق الجلي إلى الحضرة في مجازاتها المقدسة عن الجهة قال: { إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض } [الأنعام: 79]؛ أي: وجهت وجهي بالإعراض عما سوى الله إلى الله الذي هو خالق السماوات والأرض وكواكبها والأرض وما فيها لما أراني في ملكوتها آياتها المتشوقة إلى وجهه الباقي { حنيفا } [الأنعام: 79]، أي: مائلا ميلان أهل الخلقة ببذل الوجود في خليله { ومآ أنا من المشركين } [الأنعام: 79]، والمتلفتين إلى الأكوان المتدلين بالمخلوق على الخالق عاينت شواهد الحق بإرادته.
[6.80-82]
ثم قال تعالى: { وحآجه قومه } [الأنعام: 80]؛ أي: جادلوه ليسبلوا ستر ذيولهم على شموس عرفانه.
{ قال أتحجوني في الله } [الأنعام: 80]؛ أي: في معرفته يعني أترومون ستر الشموس بإسبال أكمامكم عليها؟ أو تريدون أن تسبلوا ذيولكم على ضياء نهار الشهود؟ { وقد هدان } [الأنعام: 80]، ربي إليه بالعيان وتوالى البرهان كما كان في مرامي إذ قلت
إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، { ولا أخاف ما تشركون به } [الأنعام: 80]، بعد ما ترى على سلطان الحق ولاح برهان الصدق { إلا أن يشآء ربي شيئا } [الأنعام: 80]، من الخذلان بعد العرفان وهذا مستحيل؛ لأنه { وسع ربي كل شيء علما } [الأنعام: 80]؛ أي: هو أعم بمن هو أهل الخذلان وبمن هو أهل العرفان { أفلا تتذكرون } [الأنعام: 80]، فترجعون من طريق الخذلان إلى طريق العرفان.
ثم أخبر عمن هو أحق بالخوف، ومن هو أحق بالأمن بقوله تعالى: { وكيف أخاف مآ أشركتم } [الأنعام: 81]، الآيتان الإشارة فيهما أن من أمارات موت القلب وفساد الروحانية واستيلاء النفس عليه لخوف الحيواني حتى يخاف من الجمادات كالأنعام لا يخاف من الله وعذابه، كما كان حال الكفار يخوفون إبراهيم عليه السلام عن الأصنام ولا يخافون الله وعذابه، حتى قال إبراهيم عليه السلام: { وكيف أخاف مآ أشركتم } [الأنعام : 81] من جماد { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } [الأنعام: 81]، جمادا { ما لم ينزل به عليكم سلطنا } [الأنعام: 81]، من الله يعني وكيف أخاف الجماد، وقد نزل علي من الله سلطان بإرائة ملكوت الأشياء والآيات المودعة فيها، وإن كلا ليس إلها إلا الله وهو الذي يهاب ويرجى وأنتم لا تخافون وتشركون به جمادات لا سلطان لها ويخافونها { فأي الفريقين أحق بالأمن } [الأنعام: 81]، الذي يخافون الله يرجونه أم الذين لا يخافون الله ولا يرجونه ويخافون ويرجون غيره { إن كنتم تعلمون } [الأنعام: 81]، الحق من الباطل فلما لم يعلموا وكانوا موتى لا يسمعون الحق ولا يجيبون بالحق أجابهم وقال تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [الأنعام: 82]، أي كانوا مؤمنين إذ رآهم الله تعالى من شواهد الحق عند تجلي صفات ربوبيته في مرآة الكواكب، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان والكواكب، وقد صح توجههم لخالقها بحيث قالوا لجبريل عليه السلام: " أما إليك فلا " { أولئك لهم الأمن } [الأنعام: 82]، عن الانقطاع بعد الوصول { وهم مهتدون } [الأنعام: 82]، إلى الوصال.
[6.83-84]
ثم أخبر عن محجة تلك الحجة بقوله تعالى: { وتلك حجتنآ ءاتينهآ إبرهيم على قومه } [الأنعام: 83]، إلى قوله:
ما كانوا يعملون
[الأنعام: 88] الإشارة فيهما أن محجة السلوك إلى الله تعالى إنما هي تتحقق بالآيات التي هي أفعاله، وهذه خرقات لهم وهي الأولى، ثم شهود صفاته بإراءته لهم وهي الرتبة الفانية، ثم التحقيق بوجوده وذاته عند التجلي لأسرارهم هذا مبدء الوصول ولا غاية له، فقوله تعالى: { وتلك } أي: إرادة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والإعراض والتبرؤ عما سواه والخلاص من ترك الأنانية، والإيمان الحقيقي والإيقان بالعيان ابتدائها إبراهيم أي أعطيناه ورأيناه بذاتها من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه { نرفع درجت من نشآء } [الأنعام: 83]، بجذبات الألوهية عن حجب الأنانية { إن ربك حكيم } [الأنعام: 83]، فيما يرفع من يشاء بجذبات { عليم } [الأنعام: 83]، بمن يجذبه من حضيض البشرية وممن رفعنا به درجات إبراهيم عليه السلام { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا } [الأنعام: 84]، كما هدينا إبراهيم عليه السلام هدينا إسحاق ويعقوب عليهم السلام لما وهبناها له ولعل تأخر ذكر إسماعيل عن ذكر إسحاق ويعقوب وذريتهما واختصاصهما بالموهبة دون إسماعيل لمكان محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى جعل وجود إسحاق ويعقوب وذريتهما وهدايتهم تبعا لوجود إبراهيم عليه السلام وموهبته له، وأن محمدا صلى الله عايه وسلم كان من ذرية إسماعيل والكائنات كان تبعا لوجوده فما جعل الله تعالى إسماعيل عليه السلام تبعا لوجود إبراهيم عليه السلام ولا هدايته تبعا لهدايته لشرف محمد صلى الله عليه وسلم فأفرده عنهم بالذكر والهداية، وسلك مع كبار الأنبياء والمرسلين وميزتهم في سلك واحد بالذكر والهداية وسلك مع كبار الأنبياء والمرسلين والتفضيل على العالمين فمن كان قبل إبراهيم عليه السلام وبعده وجودا وهداية، كما قال تعالى: { ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } [الأنعام: 84]، هؤلاء كلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام يعني كما جزينا إبراهيم عليه السلام لإحسانه معنا يرانا، ولم ير أحدا معنا وهبنا لهذه الذرية وهديناهم وكذلك نجزي كل محسن معناه على حسب إحسانهم.
[6.85-90]
ثم ذكر بقية ذريته وأخبر إسماعيل منهم، وذكره مع المخصوصين بذرية نوح وابتداء بذكره لئلا يحاسب من جملتهم، فقال تعالى: { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين } [الأنعام: 85]؛ يعني: من صالحي ذرية إبراهيم عليه السلام الذين لهم صلاحية قبول فيض النبوة من الله تعالى.
ثم قال: { وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين } [الأنعام: 86]، بفضيلة قبول فيض الربوبية بلا واسطة { ومن آبائهم } [الأنعام: 87]، يعني الذين فضلناهم أيضا في الأزل لهذه الشأن { وذرياتهم } [الأنعام: 87]، إلى محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء { وإخوانهم } [الأنعام: 87]، من المؤمنين { واجتبيناهم } [الأنعام: 87]، في الأزل لهذه الشأن { وهديناهم } [الأنعام: 87]، إلى الأبد كل واحد منهم على قدر الاجتباء { إلى صراط مستقيم } [الأنعام: 87]، إلينا بنا ذلك { ذلك هدى الله يهدي به من يشآء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88]؛ يعني لولا حنطوا غيرنا وأثبتوا شيئا من دوننا أو نسبوا شظية من الحدثان إلى غير قدرتنا أو لم يبذلوا أنانيتهم في هويتنا هؤلاء وغيرهم من المصطفين الأخيار { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88]؛ لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم وإن الحق سبحانه وتعالى غيور لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وهذا غاية التوبيخ والترهيب للعوام والخواص لئلا يأمنوا مكر الله إلا القوم الخاسرون.
ثم أخبر عن أسباب عميهم من الشرك والكفر من الأزل بالعناية إلى الأبد بالهداية بقوله تعالى: { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } [الأنعام: 89]، من مواهب الحق لا يحصلان بالكسب والاجتهاد وإلا بإتيان الحق كما قال تعالى: { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها } [الأنعام: 89]؛ أي: بالحكمة والنبوة التي آتينا { هؤلاء } [الأنعام: 89]، اليهود والنصارى والمشركون { فقد وكلنا بها قوما } [الأنعام: 89]، من المذكورين وغيرهم في الأزل إلى الأبد { ليسوا بها بكافرين } [الأنعام: 89]، جاحدين ومنكرين أبدا.
ثم أخبر عنهم أنهم من هم وما صفتهم، فقال تعالى: { أولئك الذين هدى الله } [الأنعام: 90]؛ أي: هداهم الله بصفاته إلى ذاته { فبهداهم اقتده } [الأنعام: 90]؛ لأنهم سلكوا مسلكا غير مسلوك حتى انتهى سير كل واحد منهم إلى منتهى قدر له كما أخبرت: " أني رأيت آدم عليه السلام في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السماء السادسة، وإبراهيم في السماء السابعة "؛ فاقتد بهم حتى تسلك مسالكهم إلى أن تنتهي سدرة المنتهى مقام الملائكة المغتربين، ثم تعرج بك إلى التجلي الأدنى والمقام الأرفع حتى تخرج من نفسك وتدلى إليه به إلى أن تصل مقام
قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9]، مقاما لم يصل إليه أحد قبلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل { قل لا أسألكم عليه أجرا } [الأنعام: 90]، يشير إلى معنيين، أحدهما: لا أسألكم أيها الأنبياء على اقتدائي بكم أجرا منكم إن أجري إلا على الله ولكن ذكري للعالمين عظة لم يعلموا إن الطريق إلى الله لا يسلك لا بالاقتداء، والثاني: لا أسألكم أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق وتسليككم مسلكا لم تسلك أمة قبلكم أجرا من دنياكم وآخرتكم { إن هو إلا ذكرى للعالمين } [الأنعام: 90]؛ أي: دعوتي لكم إلى الله ليست مني إلا من الله به إليه للعالمين عامة يبني لي ولكم ولغيرنا أجمعين.
[6.91-93]
ثم أخبر عن جلال قدرته وكمال عزته وعظمته بقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } [الأنعام: 91] والإشارة فيها أن العلم المخلوق لا يحيط بالأوصاف القديمة ولا يدرك القديم إلا بالقدم { وما قدروا الله حق قدره }؛ إذ هم مخلوقون والمخلوق لا يقدر إلا المخلوق، فكل من عرف الله بآلة مخلوقة فهو على الحقيقة غير عارف؛ لأنه لم يعرفه حق معرفته ومن عرف الله بآلة قديمة، كما قال بعضهم: " أعرف ربي بربي " ، فقد عرف الله وهو عارف، ولكن على قدر استعداده في قبول فيض الربوبية الذي به عرف الله لا على قدر ولا على نهاية ذاته وصفاته { إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شيء } [الأنعام: 91]؛ يعني لو عرفوا الله حق معرفته لعلموا أنه أنزل الكتب وبعث الرسل فمن أراد في معرفة أوصافه فقد ازداد في معرفته، ولما لم يحط أحد بكمال أوصافه ما قدروا الله حق قدره على الحقيقة.
ثم قال: { قل من أنزل الكتب الذي جآء به موسى نورا وهدى للناس } [الأنعام: 91]، حجة عليهم يعني من الذي يجئ بكتاب كما جاء به موسى عليه السلام وحاله أن ينور القلوب القاسية بنور الله تعالى ويهديهم بذلك النور إلى الله تعالى ودينه غير الله، فإن الكتاب الذي يجيء به غير الله لا يكون له هذا الحال لا { تجعلونه قراطيس } [الأنعام: 91]، أي إنما أنزل الكتاب الذي حاله أن ينور القلوب ويهديها إلى الله لتعلموا به وسيرى الله نوره إلى قلوبكم فجعلتموه { قراطيس } بالكتابة وما تجعلونه في قلوبكم بالتخلق بالأخلاق الكتاب فلا جرم تبدونها إلى صورة قراءتها وروايتها { تبدونها وتخفون كثيرا } [الأنعام: 91]، وهو حقائقها الكثيرة التي تتعلق بنور الكتاب وهداه وهو غير متناه { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءابآؤكم } [الأنعام : 91]، يشير بهذا إلى كمالية مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم وكمالية دينه على الأنبياء عليهم السلام والأديان كلها وذلك أن محمد صلى الله عليه وسلم قد بعث لتعليم الكتاب والحكمة وتعليم ما لم يعلم غيره من الكتاب والحكمة كقوله تعالى:
ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
[البقرة: 151]، والذي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب قوله تعالى: { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } [الأنعام: 91]، ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سر بسر وإضمار بإضمارنا المعنى { قل الله } بشرك عند خلوة عن التفات ما سواه من خلقه { ثم ذرهم } أي الخلق في خوضهم يلعبون أي ليلعبوا بمن خاض فيهم وبلعبهم من خاضوا فيهم ومعهم حتى يقولوا يوم الحسرة وكنا نخوض مع الخائضين فهو الذي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم من حقيقة علم الكتاب والحكمة مما لم يعلموهم ولا آباؤهم والله أعلم.
ثم أخبر عن هذا الكتاب أنه مبارك على أولي الألباب بقوله تعالى: { وهذا كتب أنزلنه مبارك } [الأنعام: 92]، الآيتين الإشارة فيهما أن هذا الكتاب أنزلناه مبارك على العوام بأن يدعوهم إلى ربهم وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بإضافة وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب كما قيل وكتبك حولي لإنفاق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم { مصدق الذي بين يديه } [الأنعام: 92]، يعني حقائقه جميع حقائق ما في الكتب الذي أنزلت قبله مستوعبا للتخلق به { ولتنذر أم القرى } [الأنعام: 92]، وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وأوحيت جميع أرض القلب من تحتها { ومن حولها } [الأنعام: 92]، من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بما يتنوروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه { والذين يؤمنون بالأخرة يؤمنون به } [الأنعام: 92]، يعني ما هو توجهه إلى الآخرة الباقية في أمور الدنيا والآخرة لا للدنيا الفانية وشهوات النفس، وهو لها فقرا من القرآن وتنور بأنواره وانتفع من أسراره { وهم على صلاتهم يحافظون } [الأنعام: 92]، يعني على الترقي من صفاتهم وأخلاقهم إلى الاتصاف بصفات الحق والتخلق بأخلاقه يداومون فإن الصلاة معراج المؤمنين { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [الأنعام: 93]، يعني الذين يراءون في التأوه والزعقات وإظهار المواجيد والحالات لهم من الله خطرات ونظرات وليس لهم منها نصيب إلا الزفرات والحسرات والمتشبع بما لم يملك كلابس ثوبي زور، وفي معناه انشدوا:
إذا انسكبت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
{ أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } [الأنعام: 93]؛ يعني: والذي نزل نفسه منزلة المحدثين وأهل الإشارة، ولم يلق إلى أسرارهم خصائص الكتاب، ولم تلهم نفوسهم بها { ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله } [الأنعام: 93]، يشير إلى المتشدقين والمتفيهقين في الكلام الذين يدعون أنهم يتكلمون بمثل ما أنزل الله من الحقائق والأسرار على قلوب عباده الواصلين الكاملين.
{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } [الأنعام: 93]، إشارة إلى أن غاية الظالم هي الافتراء على الله، والذي يظلم نفسه بالافتراء بأن ينزلها منزلة غيرها، ويضع ادعاء الوحي في غير موضعها، يظهر مضرة ظلمته وافترائه عند سكرات الموت وافترائهم عند انقطاع تعلق الروح عن البدن، وإخراج النفس من القالب كرها لتعلقها بشهوات الدنيا ولذاتها وحرمانها من لذات الحقائق الغيبية والشهوات الأخروية؛ إذ الملائكة يبسطون أيديهم بالقهر إليهم لنزع أنفسهم بالهوان والشدة وهي متعلقة بحسب الافتراء والكذب واستحلاء رفعة المنزلة عند الخلق وطلب الرئاسة بأصناف المخلوقات فتكون شدة النزع والهوان بقدر تعلقها بها، كما قال: { اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } [الأنعام: 93]؛ يعنى: آياته المودعة في أنفسكم تعرضون عنها وتراؤون بما ليس لكم، ولعل تعلق النفس يتقطع عن البدن بيوم أو يومين أو ثلاثة أيام وتعلقها عن أوصاف المخلوقات لا ينقطع بالسنين، ولعله إلى الحشر والكفار إلى الأبد وهم في عذاب النزع بالشدة أبدا وهو العذاب الأليم والعذاب الشديد، ومن نتائج هذه الحالة عذاب القبر فافهم جيدا.
[6.94]
ثم أخبر عن مجيئهم وقال تعالى: { ولقد جئتمونا فردى } [الأنعام: 94]، الإشارة فيها أن المجيء إلى الله تعالى يكون بالتجريد، ثم بالتفريد ثم بالتوحيد، فالتجريد: هو التجرد عن الدنيا وما يتعلق بها، والتفريد: هو التفرد عن الدنيا والآخرة رجوعا إلى الله تعالى خاليا عن التعلق بهما كما كان في بدء الخلقة روحا مجردا عن تعلقات الكونين كقوله تعالى: { ولقد جئتمونا فردى كما خلقنكم أول مرة } [الأنعام: 94]؛ يعني: أول خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب، فإنه خلقه ثانيا، كما قال تعالى:
خلقا آخر
[المؤمنون: 14]، وقال تعالى:
ولقد خلقناكم ثم صورناكم
[الأعراف: 11]، فللعبد في السير إلى الله تعالى كسب وسعي بالتجريد والتفريد عن الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { وتركتم ما خولنكم وراء ظهوركم } [الأنعام: 94]، يعني: عن تعلق الكونين، { وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء } [الأنعام: 94]، يعني: الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله، { لقد تقطع بينكم } [الأنعام: 94]، وبينها عند انتهاء سيركم.
{ وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [الأنعام: 94]، إنه يوصلكم إلى الله تعالى، فلما وصل العبد إلى سرادقات العزة انتهى سيره كما انتهى سير جبريل عليه السلام ليلة المعراج عند سدرة المنتهى - وهي منتهى سير السائرين من الملك والأنس - والتوحيد هو التوحد، لفيض الوحدانية عن التجلي بالصفات الوحدانية؛ ليوصل العبد بجذبة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، مقام الوحدة، ولو لم يدركه العناية الأزلية بجذبات الربوبية لانقطع عن السير في الله بالله، وبقي في السدرة وهو يقول: ما شاء الله له مقام معلوم.
[6.95-100]
ثم أخبر عن تعريف ذاته بصفاته { إن الله فالق الحب والنوى } [الأنعام: 95]، إلى قوله: { لقوم يعلمون } [الأنعام: 97]، الإشارة فيها: إن الله هو فالق حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة وخالق النوى، ذكر: " لا إله إلا الله " في أرض القلب عن شجرة الإيمان كقوله تعالى:
كلمة طيبة كشجرة طيبة
[إبراهيم: 24]، { يخرج الحي من الميت } [الأنعام: 95]، يخرج نبات المحبة التي هي من صفات الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية.
{ ومخرج الميت من الحي } [الأنعام: 95]، مخرج الإفعال الطبيعية النفسانية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحي في الدارين، وأيضا مخرج حي الإيمان من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله، { ذلكم الله } [الأنعام: 95]، أي: هو الذي له القدرة والكمال، { فأنى تؤفكون } [الأنعام: 95]، فكيف تصرفون عن الحق من غير خذلانه، { فالق الإصباح } [الأنعام: 96]، أي: خالق مصباح أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية ومظهرها، { وجعل الليل سكنا } [الأنعام: 96]، سترا من ضياء شمس الروح لتسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية.
{ والشمس والقمر حسبانا } [الأنعام: 96]، يعني: تجلي شمس الروحانية في طلوع قمر القلب بالحسبان؛ لئلا يفسد القلب والقالب، أيضا تجلي شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب؛ لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط، فإن في إفراط طلوع شمس المعارف والشهود آفة " أنا الحق " و " سبحاني " ، وفي تفريطه آفة " أنا ربكم " ، ودعوى الإلوهية واتخاذ الهوى إلها.
{ ذلك تقدير العزيز العليم } [الأنعام: 96] أي: قدره عزيز لا يهتدي إليه إلا به عليم بما هو مستحق الاهتداء إليه وبالهداية لديه، { وهو الذي جعل لكم النجوم } [الأنعام: 97]، يعني: نجوم القلوب في سماوات القلوب، { لتهتدوا بها في ظلمت البر } [الأنعام: 97]، بر البشرية، { والبحر } [الأنعام: 97]، بحر الروحانية إلى عالم الربوبية، { قد فصلنا الآيت } [الأنعام: 97]، بيننا وأظهرنا شواهد الربوبية، { لقوم يعلمون } [الأنعام: 97]، قدرها، وهم أهل المحبة الذين قال تعالى فيهم:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
ثم أخبر عن تعريف ربوبيته بهويته بقوله تعالى: { وهو الذي أنشأكم من نفس وحدة } [الأنعام: 98]، إلى قوله سبحانه وتعالى: { عما يصفون } [الأنعام: 100]، الإشارة فيها: إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ابتداء وجعل أولاده منه، وقال تعالى: { وهو الذي أنشأكم من نفس وحدة } [الأنعام: 98]، فكذلك خلق روح محمد صلى الله عليه وسلم قبل الأرواح كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله روحي، ثم خلق الأرواح من روحه "
فكان آدم عليه السلام أبو البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو الأرواح، إليه يشير قوله تعالى: { أنشأكم من نفس وحدة }.
وقوله تعالى : { فمستقر ومستودع } [الأنعام: 98]، يعني: من الأرواح ما يتعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد مستودع في عالم الأرواح، وأيضا من الأرواح ما هو مستقر فيه نور الإيمان وهو من أنوار الصفات، ومستودع فيه جذبات الحق وهي أنوار الذات، ومنها ما هو مستقر ببقاء الحق باق، وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء فان، { قد فصلنا الآيت } [الأنعام: 98]، دلالات الوصول والوصال.
{ لقوم يفقهون } [الأنعام: 98]، يعني: لقوم لهم نقد القلوب وإشارات الغيوب، { وهو الذي أنزل من السمآء مآء } [الأنعام: 99]، أي: من سماء العناية ماء العناية، { فأخرجنا به نبات كل شيء } [الأنعام: 99]، من أنواع المعارف، { فأخرجنا منه خضرا } [الأنعام: 99]، أي: من المعاني والأسرار ما هو غض طري، { نخرج منه حبا متراكبا } [الأنعام: 99]، من الحقائق يركب بعضها بعضا، { ومن النخل } [الأنعام: 99]، يشير إلى أصحاب الولايات من طلعها، { من طلعها قنوان دانية } [الأنعام: 99]، أي: من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين والمريدين؛ يعني: منهم من يكون قريبا فينتفع بثمرات ولايته، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن التمكين به، { وجنت من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشبه } [الأنعام: 99] يشير به إلى روضات العلوم المستخرجة من أرض الأعيان بماء الهداية لأرباب الزهد والتقوى، وإن لم يبلغوا مراتب أهل الولاية وجنات من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع، { مشتبها } أي: متفقا في الأصول والفروع، { وغير متشبه }؛ أي: مختلفا فيهما بين العلماء والأئمة.
{ انظروا إلى ثمره } [الأنعام: 99]، أي: ثمر الولاية { إذآ أثمر } [الأنعام: 99]، كيف ينتفع العوام بها، { وينعه } [الأنعام: 99]، أي: وإلى يانعة كيف يتفرد في العالم عنه كماله، { إن في ذلكم لأيت لقوم يؤمنون } [الأنعام: 99]، بأحوالهم ويتبعونهم بأقوالهم، { وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم } [الأنعام: 100]، يشير به: إلى أنه تعالى كما أخرج بماء اللطف والهداية من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات التي ذكرنا، فأخرج بماء القهر والخذلان من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات حتى أشركوا.
{ وخرقوا له بنين وبنت بغير علم } [الأنعام: 100]؛ أي: بالجهل والضلال في تفرده بالجمال والجلال.
[6.101-104]
ثم أخبر عن تفرد ذاته وصفاته بقوله تعالى: { بديع السموت والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } [الأنعام: 101]، { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خلق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل } [الأنعام: 102]، إلى قوله: { وهو اللطيف الخبير } [الأنعام: 103]، والإشارة فيها: أنه تعالى موصوف بالتنزيه ذاته وصفاته بحيث { لا تدركه الأبصر } [الأنعام: 103]؛ أي: لا تلحقه المحدثات لا الأبصار الظاهرة ولا الأبصار الباطنة، تقدست بالصمدية عن كل لحوق ودرك ينسب إلى مخلوق ومحدث.
{ وهو يدرك الأبصر } [الأنعام: 103]، بالتجلي لها، فيفني المحدثات فيكون هو بصره الذي يبصر به، فالقوة عند التجلي الأبصار الظاهرة والباطنة في الرؤية بنور الربوبية، { وهو اللطيف الخبير } [الأنعام: 103]، أي: هو اللطيف من أن يدركه المحدثات أو يلحقه المخلوقات، الخبير بمن يستحق أن يتجلى له الحق تعالى ويدرك أبصاره باطلاعه عليها فيستعد بها للرؤية، ومن لطفه أنه أوجد الموجودات وكون المكونات فضلا منه وكرما من غير استحقاقها للوجود.
ثم أخبر عن إيضاح السبيل وإيضاح الشكر بقوله تعالى: { قد جآءكم بصآئر من ربكم } [الأنعام: 104]، إلى قوله:
بوكيل
[الأنعام: 107]، الإشارة فيها: إن الله تعالى أعطى لكل عبد بصيرة؛ لقلبه يبصر بها الحقائق المودعة في الغيوب، والكمالات المعدة لأرباب القلوب، كما أعطى بصرا لقالبه يبصر به الأعيان في الشهادة، وما أعد لهم فيها من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح، فقد قال تعالى: { قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه } [الأنعام: 104]، يعني: من نظر ببصر البصيرة إلى المراتب العلوية الأخروية الباقية والبصر كمالات القرب، وما أعد الله: مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيشتغل تحصيله ويقبل على الله بسلوك سبيله، ويعرض عن الدنيا الدنية، ويترك زينتها وشهواتها الفانية، فكذلك تحصيل سعادة وكرامة لنفسه،
فإن الله غني عن العلمين
[آل عمران: 97].
{ ومن عمي فعليها } [الأنعام: 104]، يعني: من عمي عن النظر بالبصيرة عن هذه الكمالات لما أبصر ببصر القلب إلى الدنيا وزينتها واستلذ بشهواتها، واستحلى مراتعها الحيوانية، فعميت بصيرته،
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46]، فذلك تحصيل شقاوة وخسارة على نفسه، { ومآ أنا عليكم بحفيظ } [الأنعام: 104]، أحفظكم عن هذه الشقاوة، وأبلغكم من غير اختياركم وصدق طلبكم إلى تلك السعادة المعدة للسعداء.
[6.105-109]
{ وكذلك نصرف الآيات } [الأنعام: 105]، أي: يجعلها فتنة للجهال { وليقولوا درست }؛ بجهلهم بكلام الله والتصرفات الإلهية، { ولنبينه }؛ يعني: نصرف الآيات، { لقوم يعلمون } [الأنعام: 105]، أي: للمحتالين بالعلم والمعرفة من الجهال والضلال، إنه كلام الله وتصرفاته ليس بمقدور مخلوق اتبع بإفناء الأنانية، { اتبع مآ أوحي إليك من ربك } [الأنعام: 106]، فيما أوحى إليك من تجلي صفات ربك بالوحدانية؛ ليتحقق لك أنه { لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } [الأنعام: 106]، عند تجلي ذاته بالوحدانية بإفناء أنانيتك في هويته، وهذا أمر التكوين؛ ليخرجه عن مقام المشركين وهم أهل الأنانية والآنية والاثنينية سرا وجهرا، { ولو شآء الله مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ومآ أنت عليهم بوكيل } [الأنعام: 107]، لتحفظهم عن التثنية وما أنت عليهم؛ يعني: على من أوقعناهم في مقام الاثنينية حكمة بالغة منا، { بوكيل } لتبلغهم إلى مقام الوحدة، وإنما يبلغ الوحدة من خلقناه لها، وتدعو العوام إلى: التوحيد، والخواص إلى: الوحدانية، وخواص الخواص إلى: الوحدة، ويكون لكل قوم هو لما خلق له.
ثم أخبر عن جهالة الإنسان وغاية ضلالته بقوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } [الأنعام: 108]، إلى قوله:
يجهلون
[الأنعام: 111]؛ الإشارة فيها: إن من غاية جهالة الإنسان وظلوميته أن يصير أمره إلى أن يسبوا الله الذي خلقه، فقال تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [الأنعام: 108]؛ يعني: ولا تخاطبوا أهل الضلالة على موجب نوازع النفس والطبيعة الجهولية الظلومية، فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال، بل خاطبوهم بلسان الحجة وإلزام الدليل ونفي الشبهة، ولا يضايقوهم على قبيح ما يفعلون فيزدادوا جرأة في عينهم فيكونوا سببا وعلة لزيادة كفرهم، { كذلك زينا لكل أمة عملهم } [الأنعام: 108]، كما زينا لكم مسالمتهم ومخاطبتهم بالعنف، فكذلك زينا لكل أمة من المقبولين أعمال أهل القبول، ومن المردودين أعمال أهل الردة، { ثم إلى ربهم مرجعهم } [الأنعام: 108]، بأقدام تلك الأعمال كلا الفريقين يذهبون إلى ربهم، { بما كانوا يعملون } [الأنعام: 108]، أما أهل القبول: فيسلكون على أقدام الأعمال الصالحة طريق اللطف فينبئهم بالفضل والإحسان أنهم كانوا يحسنون، وأما أهل الردة: فيقطعون على أقدام المخالفات بوادي القهر والمهلكات فينبئهم بالعدل والخسران أنهم كانوا يسيئون، { وأقسموا بالله جهد أيمنهم } [الأنعام: 109]، وهم غافلون عن حرمانهم وخذلانهم، { لئن جآءتهم آية ليؤمنن بها } [الأنعام: 109]، قد حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان، فلا يخلطوا بالبرهان عن قيد الخذلان وأيدي الحرمان، وما يعني وضوح الأدلة لمن لا تساعده سوابق الرحمة.
{ قل إنما الآيت عند الله } [الأنعام: 109]؛ يعني: اطلبوها في مقام العبدية، { وما يشعركم } [الأنعام: 109] يا أهل الحسبان { أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون } [الأنعام: 109] بالخذلان.
[6.110-111]
{ ونقلب أفئدتهم وأبصرهم } [الأنعام: 110]؛ يعني: كيف يؤمنون ونحن نقلب أفئدتهم عن الآخرة إلى الدنيا وأبصارهم من شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى، ونجعلهم { كما لم يؤمنوا به أول مرة } [الأنعام: 110]؛ أي: كأنهم لا يؤمنون يوم الميثاق بالوحدانية، إذ قال تعالى:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، { ونذرهم } [الأنعام: 110] على حكم سوابق الأزل، { في طغيانهم } [الأنعام: 110]، الخذلان، { يعمهون } [الأنعام: 110] إلى الأبد، { ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة } [الأنعام: 111] ليفقهوا، { وكلمهم الموتى } [الأنعام: 111] أي: يحيي قلوبهم الميتة وتكلمهم.
{ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } [الأنعام: 111]؛ يعني: معاينة الآيات المودعة في المكونات وإن تظاهرت وتوالت شموس الشواهد وإن سألت { ما كانوا ليؤمنوا } [الأنعام: 111] إذ قصمتهم العزة وكبتتهم [شقاوة] القسمة، { إلا أن يشآء الله } [الأنعام: 111]، فإن المشيئة تغير السجية، والعناية الأزلية كفاية الأبدية، { ولكن أكثرهم يجهلون } [الأنعام: 111]، إن الهدى ليس بالمنى وإنها بمشيئة المولى.
[6.112-114]
ثم أخبر عن أهل الولاء إنهم قد أبطلوا بالأعداء بقوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن } [الأنعام: 112]، إلى قوله: { فلا تكونن من الممترين } [الأنعام: 114]، الإشارة فيها: إن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا، وإن أشد البلاء شماتة الأعداء، فلما كانت رتبة الأنبياء - عليهم السلام - أعلى كانت عداوة الأعداء لهم أدنى جعلنا بهم أولى، فقال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن } [الأنعام: 112]؛ فشياطين الإنس نفسه الإثارة بالسوء وهي أعدى الأعداء؛ ولهذا قدم ذكره على الجن هاهنا بخلاف المواضع الأخرى؛ ليعلم عداوة النفس، وأصحاب النفوس أشد وأصعب من عداوة شياطين الجن، فإن كيد الشيطان مع الإنسان كان ضعيفا؛ فلصعوبة الابتلاء جمع الله تعالى بين الكيد في عداوة الأنبياء وللأولياء حتى قال: { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } [الأنعام: 112]، وبوزرهم به؛ لتزيد مقاساة شدائد أذيتهم في دفعة مراتب قربهم وكماليتهم في العبودية، وفنائهم في الأوصاف الربوبية، وبقائهم بالأخلاق الإلهية.
{ ولو شآء ربك ما فعلوه } [الأنعام: 112]، حتى عداوة شياطين الإنس والجن إنما هي بمشيئته لا بمشيئتهم، { فذرهم وما يفترون } [الأنعام: 112] من زخرف القول، فإن للأنبياء فيه ما ذكرنا، وفيه للمؤمنين والكافرين ما ابتلاه، كما قال تعالى: { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } [الأنعام: 113]؛ يعني: وليبتلي بزخرف قوله: المؤمنين والكافرين، واكتفى بذكر أحد الفريقين عن الآخر، فيصغى إلى زخارفهم الكافرون الذين لا إيمان لهم بأن سوى هذه الدار دارا أخرى فيغترون بزخارفهم، وهم يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، { وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [الأنعام: 113].
وأما المؤمنون فلا يصغون إلى زخارف قولهم ولا يغتروا بقولهم، ولا يهنون لما أصابهم من عداوتهم في سبيل الله تعالى، فيقوى بهم إيمانهم، ويزداد قربهم، ويتبدل أوصافهم الذميمة بالأخلاق الحميدة، ويحسن تفردهم للحق وتجردهم عن الخلق، ويقولون: { أفغير الله أبتغي حكما } [الأنعام: 114]؛ أي: أنا بالذي أطلب غير الله وغير محبته حاكما من الدنيا والآخرة يحكم على أن أكون بحكمه، { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } [الأنعام: 114] مبينا للطالبين الصادقين طريق الحق من الباطل، مبلغا بنور هداه العبد المحب إلى محبوبه ومولاه، { والذين آتيناهم الكتاب } [الأنعام: 114]، أي: هداهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال، { يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } [الأنعام: 114]؛ يعني: كوشفوا بحقائق القرآن أنه جذبة الحق منزل إلى المحبين؛ ليجذبهم إلى محبوبهم، { فلا تكونن من الممترين } [الأنعام: 114] الذين يشكون في أن القرآن جذبة الحق أم الأخلاق يتمسكون به وهذا نهي التكوين، فكمن قال في الأزل: { فلا تكونن من الممترين } فما كان منهم فافهم جيدا.
[6.115-116]
ثم أخبر المولى تأكيدا لهذا المعنى بقوله تعالى: { وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا } [الأنعام: 115]، إلى قوله:
إن ربك هو أعلم بالمعتدين
[الأنعام: 119]؛ الإشارة فيها: إنه تعالى متكلم بكلام واحد من الأزل إلى الأبد، { وتمت كلمت ربك صدقا }؛ يعني: بأمره ونهيه وحكمه وقضائه وقدره وإيجاده، وهي كلمة كن لما أراد أن يكون موجودا فكان كما أراد، وأن يكون معدوما فكان كما أراد؛ أي: طوعا ورغبة في الكينونة كما أراد، كقوله تعالى:
ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت: 11]، { وعدلا }؛ أي: عدل فيما قدر ودبر وقضي وحكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر، فإنه أحسن كل شيء خلق، فكما أحسن خلق الحسن كذلك أحسن خلق القبيح؛ لأن القبيح في مقامه حسن كالحسن في مقامه، فإن قيل: هو قادر على أن يخلق أحسن مما خلق حسنا أو يخلق أقبح مما خلق قبيحا، وإن يخلق خيرا مما خلقه خيرا وشرا مما خلقه شرا، قلنا: نعم، وهو كذلك إلى الأبد، وذلك إن أحسن كل شيء خلقه الله تعالى هو الإنسان؛ لقوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4]، وكذلك خير شيء خلقه الله هو الإنسان عند كماله
أولئك هم خير البرية
[البينة: 7]، ثم أقبح ما خلقه الله تعالى وسيره أيضا هو الإنسان عند فساد الاستعداد الفطري وكمال نقصانه؛ لقوله تعالى:
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 5]، وقوله تعالى:
أولئك هم شر البرية
[البينة: 6].
فاعلم أن لأهل الكمال ترقيا في كمال الحسن إلى الأبد، ولأهل النقصان ترقيا في كمال القبح إلى الأبد، فالله تعالى
كل يوم هو في شأن
[الرحمن: 29] يخلق أحسن مما خلق حسنا، ويخلق أقبح مما خلق قبيحا إظهار القدرة الكاملة الغير المتناهية، { لا مبدل لكلماته } [الأنعام: 115]؛ أي: فيما قدر وقضى وحكم بإرادته القديمة وحكمته البالغة من أصناف المخلوقات وأنواع المخترعات، فليس شيء منها يدعو إلى التبديل من نقصان في خلقه؛ لأنه خلق تاما كاملا في رتبته ، والزيادة على الكمال نقصان، { وهو السميع } [الأنعام: 115]؛ لحاجة كل ذي حاجة يسمع استدعائهم لوجود الكمال قبل وجودهم، { العليم } [الأنعام: 115] بإيجاد وجود الكمال المستدعي كما يجب.
وفي قوله تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [الأنعام: 116] إشارة إلى: إن في أمته من أن تطعه يردك إلى سبيل الله، كقوله تعالى:
وإن تطيعوه تهتدوا
[النور: 54]، وذلك؛ لأن أكثر من في الأرض هم متبعوا أهوائهم، فمن يطيع أهل الأهواء اتبعهم، وقال تعالى:
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26]، فمن يتبع أهل الأهواء كأنه اتبع الهوى فيضله عن سبيل الله.
{ إن يتبعون إلا الظن } [الأنعام: 116]؛ يعني: أهل الأهواء بنوا أمر دينهم على الظنون الكاذبة، { وإن هم إلا يخرصون } [الأنعام: 116]، يكذبون في دعوى طلب الدين الحق، فإن سبيل الحق لا يسلك بالظن وإنما يسلك بالصدق والهدى.
[6.117-120]
{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [الأنعام: 117]؛ لأنه قسم الضلالة والهدى يضل من يشاء وهو أعلم بمستحقي الضلالة من مستحقي الهداية.
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } [الأنعام: 118]؛ يعني: من أمارات الإيمان كلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع وتذيبوه بذكر الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أذيبوا طعامكم بذكر الله "
فإن الأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة على العصيان يورث موت الجنان والحرمان على الجنان، { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } [الأنعام: 119] أيها الطلاب؛ يعني: الدنيا وما فيها، والآخرة وما هو من نعيمها، فإن الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله، { إلا ما اضطررتم إليه } [الأنعام: 119] من ضروريات البشرية في الدارين بأمر المولى ولا بالطبع والهوى، { وإن كثيرا } [الأنعام: 119]؛ يعني: من أهل الأهواء، { ليضلون } [الأنعام: 119]، عن سبيل وطلب الحق، { بأهوائهم بغير علم } [الأنعام: 119]؛ يعني: بمتابعة أهوائهم في طلب الدنيا والركون إلى العقبى، ولا يعلمون أنهم مفتونون وعن باب الحق مطرودون، { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } [الأنعام: 119]، الذين جاوزوا طلب المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى.
ثم أخبر عن جزاء أهل الأهواء بقوله تعالى: { وذروا ظهر الإثم وباطنه } [الأنعام: 120]، الآيتين والإشارة فيهما: أن الله تعالى كما خلق الإنسان ظاهرا: هو بدن جسماني وباطنا: هو قلب روحاني، فكذلك جعل الإثم ظاهرا: وهو كل قول وفعل موافق للطبع مخالف للشرع، وباطنا: وهو كل خلق حيواني ومسعى شيطاني جبلت النفس عليه.
فقال تعالى: { وذروا ظهر الإثم وباطنه } [الأنعام: 120]؛ أي: اتركوا أعمال الطبيعة باستعمال الأعمال الشرعية، واتركوا الأخلاق الذميمة النفسانية بالتخلق بالأخلاق الملكية الروحانية، { إن الذين يكسبون الإثم } [الأنعام: 120] ظاهره وباطنه بالأفعال والأخلاق، { سيجزون بما كانوا يقترفون } [الأنعام: 120] عاجلا وآجلا.
أما عاجلا: فلكل فعل وقول طبيعي ظلمة تصدأ مرآة القلب فيخرف مزاج الأخلاق القلبية الروحانية، ويتقوى مزاج الأخلاق النفسانية الظلمانية، وبه يقلب الهوى ويميل إلى الدنيا وشهواتها، فبإظهار كل خلق منها على وفق الهوى يزيد رينا وقسوة في القلب فيحتجب به عن الله تعالى، كما قال الله عز وجل:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14].
وأما آجلا: بهذه الموانع والحجب ينقطع العبد عن الله تعالى ويبقى محجوبا معذبا في النار خالدا مخلدا، كما قال الله عز وجل:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين: 15]
[6.121-124]
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [الأنعام: 121]؛ أي: ولا تأكلوا طعاما إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله؛ ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته، { وإنه لفسق } [الأنعام: 121]؛ يعني: ظلمة الطعام وشهوته؛ مؤدية إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الظلمة النفسانية، وفي قوله تعالى: { وإن الشيطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجدلوكم } [الأنعام: 121]؛ إشارة إلى: إن للشياطين مجالا في الوسوسة، إذ كانت النفوس أوليائهم في المجادلة مع القلوب؛ ليدعوها إلى متابعة الهوى وترك طلب المولى، [وتشوف] النفس [وهم] أولياء الشياطين في هذا المعنى، ولا يكون للشيطان مجال في وسوسة القلوب ثم قال تعالى: { وإن أطعتموهم } [الأنعام: 121]؛ يعني: في ترك طلب المولى ومتابعة الهوى { إنكم لمشركون } [الأنعام: 121]؛ لأنكم تعبدون الهوى مع المولى، كما قال تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43].
ثم أخبر عن طالب المولى متابعي الهوى بقوله تعالى: { أو من كان ميتا فأحيينه } [الأنعام: 122]، إلى قوله: { بما كانوا يمكرون } [الأنعام: 124].
والإشارة فيها: إن الله تعالى هو الحي القيوم الذي ما كان ميتا ولا يموت أبدا وما سواه فهو ميت؛ لأنه كان ميتا في الدعم وسيموت، فقوله: { أو من كان ميتا }؛ أي: من الحياة الحقيقية فأحييناه بالحياة الحقيقية، وهي معنى قوله تعالى: { وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } [الأنعام: 122]، أي: نور الوجود الحقيقي الذي صار به قيامه في جميع أحواله، كما قال تعالى:
" فبي يبصر وبي يسمع ".
{ كمن مثله في الظلمت ليس بخارج منها } [الأنعام: 122]؛ يعني: كالذي هو باق في ظلمات الوجود المجازي كالموتى في قبور القالب لا يمكنه الخروج منها، وأيضا: { أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } [الأنعام: 122]:
أي: بنورنا، { كمن مثله في الظلمت }؛ يعني: محبوس في ظلمات وجوده ليس بخارج منها { كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون } [الأنعام: 122] من أنواع الضلالات يميت قلوبهم ويحيهم في ظلمات وجودهم المجازي { وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها } [الأنعام: 123]؛ يعني: كما جعلنا في قلب من أحييناه بنا نورا كذلك جعلنا في كل قرية كل قالب أكابر من النفوس والهوى والشيطان مجرميها؛ أي: مفسدي حسن استعداداتها لقبول السعادة { ليمكروا فيها } [الأنعام: 123] بمخالفات الشرع وموافقات الطبع، { وما يمكرون إلا بأنفسهم } [الأنعام: 123]؛ لأن فساد استعدادهم عائدا إلى أنفسهم بحصول الشقاوة وفوات السعادة، { وما يشعرون } [الأنعام: 123] ولا شعور لهم على ما يفعلون بأنفسهم وإن مرجعهم إلى النار.
{ وإذا جآءتهم آية قالوا لن نؤمن } [الأنعام: 124]؛ أي: النفس والهوى والشياطين من دأبهم ألا يؤمنوا برؤية الآيات؛ إذ جبلوا على الإباء والتمرد والإنكار، ولسان حالهم يقول: { لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله } [الأنعام: 124]؛ أي: القلب والسر والروح؛ فإنهم مهبط أسرار الحق وإلهاماته، { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [الأنعام: 124] يخص بها القلب والروح والسر ونفسا تطمئن بذكر الله فيستحق رسالة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } [الأنعام: 124]؛ يعني: أصحاب النفس الأمارة بالسوء لهم ذلة البعد من عند الله، { وعذاب شديد } [الأنعام: 124] فهو عذاب الفرقة والانقطاع، { بما كانوا يمكرون } [الأنعام: 124]؛ أي: بما افسدوا استعداد الوصلة وهو جزاء مكرهم وكيدهم.
[6.125-129]
ثم أخبر عن أهل الهداية والضلالة بقوله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلم } [الأنعام: 125]، إلى قوله: { بما كانوا يعملون } [الأنعام: 127]، الإشارة فيها: إن انشراح الصدر لمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام إنما يكون من وقع النور في القلب؛ وذلك لأن الله تعالى إذا أراد أن يهدي عبدا إلى حضرة جلاله ينظر إلى قلبه بنظر العناية؛ فينوره بنور جماله لينظر ببصيرة القلب من رؤية السر؛ فيهديه نور جماله إلى حضرة جلاله؛ فينشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب، وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام؛ لقوله تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، والنور الواقع في القلب: هو المسمى بنور الإيمان مهما يكون من وراء الحجب الرقاق؛ أي: الحجب الروحانية، كلما كان الحجاب أرق يكون الإيمان والقلب أنور وأرق وأصفى إلى أن يصير الإيمان إيقانا وكمال رقة بالحجاب، وتنور القلب إلى أن يصير الإيقان عيانا ضدد رفع الحجاب، وتجلي الحق تبارك وتعالى بصفة جماله إلى أن يصير العيان عينا تجلي صفة جلاله.
{ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } [الأنعام: 125] يعني: ظلمات طبيعته وميلان هوى نفسه وطبعه، فيبقى في ضيق صفات بشريته، وحرج تعلقاته بالدنيا، وما فيها وتتبع شهواته ولذاته ظلمات بعضها فوق بعض حتى لا يبقى فيه الرجوع إلى الخالق من التمادي في الباطل، فلا يسوغه الشرب من المشارب الروحانية الربانية لإستهلاكه في الصفات الحيوانية النفسانية، وإن حكم عليه بإتباع الحق ليشق عليه.
{ كأنما يصعد في السمآء } [الأنعام: 125]؛ لأنه سفلي الطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر، { كذلك يجعل الله الرجس } [الأنعام: 125] الضلالة والبعد والطرد، { على الذين لا يؤمنون } [الأنعام: 125] لا يصدق الأنبياء والأولياء فيما أتاهم من فضله ولا يتبعونهم.
{ وهذا صراط ربك مستقيما } [الأنعام: 126]؛ أي: هذا الذي بيناه من الهداية والضلالة للسعداء والأشقياء طريق مستقيم لربك باللطف والقهر، فبجذبات اللطف كما ذكرنا يهدي السعيد إلى حضرة الربوبية بإقامة العبودية، وبخذلان القهر يضل الشقي عن الحضرة بإتباع الهوى والقطيعة، { قد فصلنا الآيات } [الأنعام: 126] بين السعيد والشقي، { لقوم يذكرون } [الأنعام: 126] يتعظون ويتبعون سبيل الأنبياء والأولياء، ويتركون سبيل الشيطان والهوى، { لهم دار السلم عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون } [الأنعام: 127] أي: وراء السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج من ظلمات الإثنينية.
{ وهو وليهم بما كانوا يعملون } [الأنعام: 127]؛ يعني: هو الذي يتولاهم بالإخراج عن ظلمات اثنينتهم والإيصال إلى نور ربوبيته، كما قال تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن الجن والإنس وما بينهما من الوحشية والأنس بقوله تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } [الأنعام: 128]، وقوله تعالى:
ويوم نحشرهم جميعا
[الأنعام: 22]، يشير إلى أنه تعالى حشر وجمع الجن وهي صفة الشيطانية والإنس، وهي النفس وصفاتها في موفق القالب البشري بحكمة بالغة وقدرة كاملة ويحيطها بقوله: يا معشر الجن وإلى الصفات الشيطانية قد استكثرتم من الإنس؛ أي: قبلتم على الصفات الإنسانية، وأضللتموهم عن طلب الحق وهو الصراط المستقيم إلى الله الذي خلق الإنسان للعبور عليه والوصول إلى الحق، ومن شأنه إقعاد الإنسان عن هذا الصراط، كما قال:
فبمآ أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم
[الأعراف: 16]، { وقال أوليآؤهم من الإنس } [الأنعام: 128]؛ أي: النفس الإنسانية التي من حسنها ودناءة نفسها التي هي أمارة بالسوء وهي من أولياء الشياطين، { ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنآ أجلنا } [الأنعام: 128]، واستمتاع النفس الإنسانية بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره وخديعته وكيده وحيلته وتكبره وتمرده على تحصيل شهواتها الدنيوية ومستلذاتها واستيفاء حظوظها منها وتكبرا للحق تعالى موافقة هواها، وأما استمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم عند عجزه عن إغوائهم، كما استعان بحواء على آدم عليه السلام في أكل الشجرة، { أجلنا الذي أجلت لنا } [الأنعام: 128]؛ يعني: مدة استمتاع بعضنا ببعض وكميته الذي قدرت لنا، أشاروا بهذا: إلى أن ما جرى منهم إنما كان مقتضى ارتضائه وقدره، فأجابهم الله تعالى: { قال النار مثوكم خلدين فيهآ إلا ما شآء الله } [الأنعام: 128]؛ يعني: كما قدرنا لكم الاستمتاع قدرنا أن النار تكون مثواكم وأنتم فيها خالدون، إلا من شاء الله أن يتوب ويرجع إلى الله؛ فلا تكون النار مثواه؛ فلا استثناء راجع إلى أهل التوبة في الدنيا لا إلى أهل الخلود في النار.
{ إن ربك حكيم } [الأنعام: 128]، فيما يجعل بعض أهل الاستمتاع أهل النار وبعضهم أهل الجنة، { عليم } [الأنعام: 128]، إنهم لا يهمهم خلقوا للنار أم الجنة، { وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا } [الأنعام: 129]، يعني: حعلنا مرده الجن والإنس، بعضهم أولياء بعض، كذلك يجعل الضالين بعضهم أولياء بعض؛ ليعين بعضهم ببعض على الظالم والفساد، كما يعين الشيطاني النفس على المعاصي، { بما كانوا يكسبون } [الأنعام: 129]؛ يعني: سبب أن الظالمين كانوا يفسدون استعدادهم الفطري الروحاني القابل للفيض الرباني؛ يوضع المعاملات النفسانية الحيوانية موضعها، التي هي مانعة عن قبول الفيض.
[6.130-134]
ثم أخبر عن إقرارهم بالكفر بعد إنكارهم، بقوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس } [الأنعام: 130]، إلى قوله: { وما ربك بغفل عما يعملون } [الأنعام: 132]، الإشارة فيها: إن المخاطب في قوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس } الإنسانية التي هي مجبولة على الصفات الشيطانية والملكية والحيوانية، { ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } [الأنعام: 130]، يشير بالرسل: إلى الهامات الربانية، وبالآيات: إلى بيان الفجور والتقوى للنفس بالإلهام، كما قال تعالى:
فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس: 8].
{ وينذرونكم لقآء يومكم هذا } [الأنعام: 130]، يعني: قد أتتكم من الله الإلهامات بما يصلح لكم، وبما يفسد استعدادكم الفطري، ويخوفكم من سوء العاقبة والحرمان عن لقاء الحق، والابتلاء بشقاوة الأبد، وأنتم ما اتعظتم بها وأبيتم قبولها، { قالوا شهدنا على أنفسنا } [الأنعام: 130]؛ يعني: النفس بصفاتها، { وغرتهم الحياة الدنيا } [الأنعام: 130]؛ أي: لذاتها وشهواتها وزينتها وزخارفها، { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } [الأنعام: 130]؛ يعني: أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا عند صدأ مرآة قلوبهم وسائري صفاتها عن قبول فيض النور وشواهد الحق.
{ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى } [الأنعام: 131]؛ يعني: قرى أشخاص الإنسان، { بظلم } [الأنعام: 131]، والظلم: هو صرف الاستعداد الفطري لقبول الفيض في استيفاء لذات الطبع وشهوات النفس، { وأهلها غفلون } [الأنعام: 131]، عن إنذار رسل الإلهامات الربانية، وذلك أن الاستعداد الروحاني لا يفسد استيفاء حظوظ الحيواني في الطفولية، إلا بعد أن يصير العبد مستعدا لقبول فيض العقل وفيض الإلهام عند البلوغ، فيخالف الإلهامات ويتبع الهوى، فيفسد بذلك حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي، كقوله تعالى:
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26]، وهذا كما أنه تعالى لا يعذب قوما بلغهم الدعوة حتى يبعث فيهم رسولا، فيخالفونه فيعذبهم بها.
وقد عبر لسان الشرع عن هذا المعنى، بأنه لا يجري عليه قلم تكاليف الشريعة إلا بعد البلوغ بالأوامر والنواهي؛ لأنه أواني ترقي الروح باستعمال المأمورات، ونقصانه باستعمال المنهيات، وهذا معنى قوله تعالى: { ولكل درجت مما عملوا } [الأنعام: 132]؛ يعني: في استعمال المأمور والمنتهي في الترقي والنقصان، { وما ربك بغفل } [الأنعام: 132]، عند ترك المأمور وإتيان المنتهى، وعند إثبات المأمور وترك المنهي عند ترقية الروح وتنقيصه، وهو معنى قوله: { عما يعملون } [الأنعام: 132].
ثم أخبر عن غناه وافتقارنا إلى رضاه بقوله تعالى: { وربك الغني ذو الرحمة } [الأنعام: 133]، إلى قوله:
إنه لا يفلح الظلمون
[الأنعام: 135]، الإشارة فيها: إن الله تعالى خلق نوع الإنسان إظهارا لسعة رحمته وكمال قدرته لا للاحتياج إليه، فقال تعالى: { وربك الغني } يعني: عن كل مخلوق عامة، وعن الإنسان الذي يشرك به خاصة، { ذو الرحمة } يعني: مع غناه عن الخلق فرض رحمة قد اقتضت إيجاد الخلق؛ ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، { إن يشأ يذهبكم } [الأنعام: 133]، أي: له مشيئة واختيار فيما شاء وقدره على أن يستأصل نوع الإنسان، { ويستخلف من بعدكم } [الأنعام: 133]، أيها الإنسان، { ما يشآء } [الأنعام: 133]، من نوح آخر.
{ كمآ أنشأكم من ذرية قوم آخرين } [الأنعام: 133]؛ يعني: كما كان قادرا على إنشائكم من الذريات، كذا قادر على إنشاء قوم آخرين من غير الذريات، كما أنشأ آدم وحواء من غير ذرية { إن ما توعدون لآت } [الأنعام: 134]؛ يعني: أوعد لكم من الإتيان به أولا وآخرا، فهو قادر على الإتيان به، { ومآ أنتم بمعجزين } [الأتعام: 134]، بما تعين له عن الإتيان به.
[6.135-137]
{ قل يقوم اعملوا على مكانتكم } [الأنعام: 135]، أي: على ما جبلتم عليه، { إني عامل } [الأنعام: 135]؛ أي: على ما جبلت عليه نظيره قوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء: 84]، { فسوف تعلمون } [الأنعام: 135]، إذ ظهر لكم ما هو المودع في الاستعداد الفطري لكل واحد منا، من السعادة والشقاوة تعلمون، { من تكون له عقبة الدار } [الأنعام: 135]؛ أي: دار النجاة والفلاح، { إنه لا يفلح الظلمون } [الأنعام: 135]، الذين يفسدون الاستعداد الفطري بصرفه في غير محله.
ثم أخبر عن إضلال الجهال بقوله تعالى: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعم نصيبا } [الأنعام: 136]، إلى قوله:
إنه حكيم عليم
[الأنعام: 139]، الإشارة فيها: إن الله تعالى يشكو عن كافري نعمة الدين، خلقهم وأنعم عليهم بإيجاد الأنعام والحرث وقال: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعم نصيبا }؛ أي: من جملة ما خلق لهم من الحرث والأنعام نصيبا، { فقالوا هذا لله بزعمهم } [الأنعام: 136]، وإن لم يجعلوه خالصا لله مع أنه تعالى أعطاهم جملته، ثم اتخذوا لله شريكا، وجعلوا مما أنعم الله به عليهم وأعطاهم نصيبا لشركائهم، { وهذا لشركآئنا } [الأنعام: 136]، ثم من جهلهم رجحوا جانب الشركاء على الله، { فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله } [الأنعام: 136]، بوجه من الوجوه، { وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم } [الأنعام: 136] من وجوه، { سآء ما يحكمون } [الأنعام: 136] فيما أنعم الله به عليهم بأن يجعلوه لشركائهم، { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركآؤهم } [الأنعام: 137]، من الشيطان والنفس والهوى والدنيا، { ليردوهم } [الأنعام: 137]، ويهلكوهم، { وليلبسوا عليهم دينهم } [الأنعام: 137]، الذي ارتضى لهم الله؛ ليعلموا: إن الذين اتخذوهم شركاء لله وجعلوا لها آلهة فإنهم عدو لي، كما قال خليل الله عليه السلام عند التبرؤ عن الشرك:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77].
وليعلموا: حقيقة،
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
[المائدة: 55]، { ولو شآء الله ما فعلوه } [الأنعام : 137]؛ لهداهم إلى اقتباس النور عند رشاشه على الأرواح بالأصالة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى "
{ فذرهم وما يفترون } [الأنعام: 137]، فإن لنا في ذلك حكمة بالغة.
[6.138-140]
{ وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم } [الأنعام: 138]؛ يعني: قالوا هذه المقالة من هوى نفسهم، وميل طبيعتهم لامتثال الشرع، فإن نور الشرع مزيل لظلمة الطبع، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع من المجاهدات للنفس ومخالفاتها، فإن له ظلمة تزيد في ظلمة النفس والهوى، و
ظلمات بعضها فوق بعض
[النور: 40]، { وأنعم حرمت ظهورها وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه } [الأنعام: 138]، هذا كله من تسويسات النفس ووساوس الشيطان؛ ليضل بهما عن سبيل الله.
ثم قال تعالى في جوابهم: { سيجزيهم بما كانوا يفترون } [الأنعام: 138]، ومجازاتهم بأن يطبع قلوبهم بطباع الافتراء، كما قال تعالى:
بل طبع الله عليها بكفرهم
[النسا: 155]، أي: بطباع كفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وقالوا أيضا: من هوى نفوسهم، { وقالوا ما في بطون هذه الأنعم خالصة لذكورنا ومحرم على أزوجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء } ، ثم قال تعالى: في جوابهم: { سيجزيهم وصفهم } [الأنعام: 139]، سيجزيهم بتغير وصفهم من الصدق إلى الكذب؛ أي: ينقلهم من الأوصاف الحميدة إلى الأوصاف الذميمة، { إنه حكيم } [الأنعام: 139]، فيما حكم به وقضى عليهم، عليم باستحقاقهم لما قدر عليهم، وأيضا { عليم } [الأنعام: 139]، بتغير أوصافهم.
ثم أخبر عن خسرانهم فيما عملوا، وحرمانهم إذ ضلوا بقوله: { قد خسر الذين قتلوا أولدهم } [الأنعام: 140] والإشارة فيها: إن خسارة أهل الأهواء وخسارة أهل الطبيعة تصير إلى حد قتلهم أولادهم، وذلك من قساوة قلوبهم وتبديل أوصافهم؛ لافترائهم على الله تعالى، قال الله عز وجل: { قد خسر الذين قتلوا أولدهم } يعني: خسروا وأفسدوا استعدادهم الفطري، حتى نزعت الرحمة عن قلوبهم؛ لقسوتهم وتبديل أوصافهم حتى فعلوا ذلك، { سفها } [الأنعام: 140]، وجهلا.
{ بغير علم } [الأنعام: 140]، يعني: عند عدم فقد قلوبهم وانقطاع الهامات الربانية عنها لقسوتها وانسداد مسالكها إلى عالم الغيب وعند ذلك، { وحرموا ما رزقهم الله } [الأنعام: 140]، في الصورة والحقيقة، أما الصورة: فرزقناهم، وأما الحقيقة: فحرمناهم من كمالات مراتب أهل القرب من المشاهدات والمكاشفات الربانية، { افترآء على الله } [الأنعام: 140]، يعني: بسبب افترائهم على الله تعالى، فإنهم { قد ضلوا } [الأنعام: 140]، بالافتراء عن طريق الحق؛ لفساد استعدادهم في الاهتداء إلى الله، { وما كانوا مهتدين } [الأنعام: 140]، إذ افسدوا استعداد الاهتداء؛ فانسد عليهم طريق الثقة بالله، فحملتهم خشية الفقر على قتل الأولاد؛ ولذلك قال أهل التحقيق: من إمارات اليقين وحقائق كثرة العيال على بساط التوكل.
[6.141-144]
ثم أخبر بربوبيته عن هويته، بقوله تعالى: { وهو الذي أنشأ جنت معروشت وغير معروشت } [الأنعام: 141]، إلى قوله: { إن الله لا يهدي القوم الظلمين } [الأنعام: 144]، الإشارة فيها: إن الله تعالى عرف ذاته بصفاته، وقال: { وهو الذي أنشأ جنت معروشت }؛ بساتين في الظاهر كما مر ذكره في المعاني، وبساتين في القلوب، مغروسات وغير مغروسات، كما هي قراءة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه ورضي الله عنه - فالمغروسات: لمغرسة الله تعالى في أرض القلوب من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان، وما يتعلق بصفات الحق تعالى، كما قال جل جلاله:
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم: 24]، وغير المغروسات: هي أشجار من صفات الروحانية، التي جبلت القلوب عليها مثل: السخاء والحياء والوفاء والمروة والفتوة والشفقة والعفة والحلم والعلم والعقل والشجاعة والقناعة وأمثالها، فإن بساتين القلوب بها موفقة، وشموس الأسرار منها مشرقة، وأنهار المعارف فيها زاخرة، وأزهار الشواهد عنها زاهرة.
{ والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشبها وغير متشبه } [الأنعام: 141]، يشير إلى: نخل الإيمان، وزرع للأعمال الصالحة، وزيتون الأخلاق الحميدة، ورمان الإخلاص، فإنه مختلف ثمارها متشابه أعمالها غير متشابه أحوالها، { كلوا من ثمره إذآ أثمر } [الأنعام: 141]؛ يعني: انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والأخلاق والإخلاص بالشواهد، والأحوال بالدعاوي، والنيل قبل الإثمار، { وآتوا حقه يوم حصاده } [الأنعام: 141]، حقه دعوة الخلق بالحكمة والموعظة إلى الحق وتربيتهم بالتسليك إليه، ويشير بيوم الحصاد: إلى أوآن بلوغ سلوك السالك مبلغ الرجال البالغين، عند إدراكه ثمرة الكمال للواصلين، دون السالك الذي يعد متردد بين المنازل والمراحل، فإن اشتغل بالدعوة ينقطع عن الوصول والوصال، والبلوغ إلى الكمال، { ولا تسرفوا } [الأنعام: 141]، والإسراف عند القوم: الشروع في الكلام قبل وقته والحرص على الدعوة، { إنه لا يحب المسرفين } [الأنعام: 141]، الموصوفين بهذه الصفات الممكورين المنكورين { ومن الأنعم حمولة وفرشا } [الأنعام: 142]، يشير بها: إلى أن الصفات الحيوانية التي هي مركزة في الإنسان، منها: ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع، ومنها: ما هو مستعد للأكل والشرب لعلاج القالب في قوام البشرية وقوام الإنسانية.
{ كلوا مما رزقكم الله } [الأنعام: 142]، فالرزق لا يتخصص بالمأكولات فحسب، بل هو شائع في جميع ما يحصل به الانتفاع، فالظاهر رزق: وهو النعم، والباطن رزق: وهو الكرم، فرزق القلب: هو التحقيق من حيث البرهان، ورزق السر: هو شهود العرفان بلحظة العيان، فانتفعوا من هذه الأرزاق، { ولا تتبعوا خطوت الشيطن } [الأنعام: 142]، في ترك الانتفاع ببعض هذه الأرزاق، ومبالغة الانتفاع ببعضها، { إنه لكم عدو مبين } [الأنعام: 142]، يخرجكم بالتفريط والإفراط عند حد الاعتدال.
ثم أشار إلى: تلك الصفات المذكورة، وأربعة منها بمثابة الحيوانية، وشرحها بقوله تعالى: { ثمنية أزوج } [الأنعام: 143]، أي: من ثمانية صفات؛ أربعة منها بمثابة الأثاث، يتولد من كل ذكر أو أنثى، منها صفات أخرى ليست واحدة منها موصوفة في محلها، أو محرمة، بل جميعها حميدة مندوب إليها في محلها، إذا كانت محروزة عن طرف الإفراط والتفريط.
ومنها ما أشار إليه، بقوله تعالى: { من الضأن اثنين } [الأنعام: 143]، يعني: بهما الذكر والأنثى، { ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صدقين } [الأنعام: 143]، { ومن الإبل اثنين } ، والضأن والمعز جنس واحد في الفرشية، كما أن الإبل والبقر جنس واحد في الحمولة، فيشير: بالضأن والمعز إلى الصفات البهيمية، وهي أربعة: اثنان منها بمثابة الذكور؛ وهما: صفة شهوة البطن، وشهوة الفرج، واثنين منهما بمثابة الأنثى؛ وهي: صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها، والتسليم عند تحمل الأذى وإصابة الخير منها، ما أشار إليها، بقوله تعالى: { ومن الإبل اثنين } [الأنعام: 144]، أراد الذكر والأنثى، { ومن البقر اثنين } [الأنعام: 144]، أراد الذكر والأنثى، والإبل والبقر من جنس واحد، أراد في الحمولة، فيشير: بالإبل والبقر إلى الصفات الحيوانية، وهي أربعة: اثنان منها بمثابة الذكر؛ وهما: صفتا الظلومية والجهولية، واثنان منها بمثابة الأنثى؛ وهما: الحمولية والاستسلام، فهذه الصفات صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها أشفقن منها، وهي أيضا حملة عرش القلب، كما أن الملائكة الذين يحملون فوقهم عرش ربك ثمانية، فافهم جيدا.
ثم قال تعالى: { قل ءآلذكرين } [الأنعام: 144]؛ يعني: من بعد هذه الصفات { حرم } [الأنعام: 144]، أي: أمر الله فيها، ومحوها وترك استعمالها، كما هو مذهب الفلاسفة في نفي الصفات الحيوانية والبهيمية، { أم الأنثيين } فما مر ذكرها { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصكم الله بهذا } [الأنعام: 144]، يعني: المتولدة من هذه الصفات الثمانية، عند استعمالها على قانون الشريعة ودعائم دقائق الطريقة في تزكيتها وتثبيتها على صراط مستقيم الاعتدال، { نبئوني بعلم } [الأنعام: 143]، معقول، أو منقول، أو منظور، أو مشاهد مكشوف، { إن كنتم صدقين } [الأنعام: 143]، أيها المتفلسفة الظالون عن متابعة الأنبياء والأولياء والمرسلين.
ثم قال تعالى: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [الأنعام: 144]، أي: من الذين يدعون الحكمة، ويقولون: قد أغنانا الله تعالى عن متابعة الأنبياء، والأنبياء حكم، ونحن أيضا حكما، { ليضل الناس } [الأنعام: 144]، بهذه الشبهة وغيرها من الشبهات، { بغير علم } [الأنعام: 144]، أي: حكمة أتاهم الله من فضله، كما أتاها أنبياءه وأولياءه، { إن الله لا يهدي القوم الظلمين } [الأنعام: 144]، إلى طريق السداد وسبيل الرشاد، وهم في الضلالة دائمون، وعلى ظلم الإضلال قائمون.
[6.145-147]
ثم أخبر عن المحرمات من المطعومات بقوله تعالى: { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما } [الأنعام: 145]، إلى قوله: { وإنا لصدقون } [الأنعام: 146]، الإشارة: إن الشارع على الحقيقة هو الله تعالى، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم أمر في التحليل والتحريم، فقال تعالى: { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } [الأنعام: 145]، يعني: أنا لا أجد إلى تحريم شيء فإني لا أقدر أن أحرمه والذي يدل هذا التأويل قوله تعالى:
يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك
[التحريم: 1].
وقوله تعالى: { إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به } [الأنعام: 145]، أي: أجد هذه الأشياء محرما فيما أتى فأحرمها، ويشير به إلى: ميتة الدنيا: فإنها جيفة مستحيلة، كما قال بعضهم: وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب من اجتذابها، فإن تجنيتها كنت سالما لأهلها، وإن تجتذبها نازعتك كلابها.
والدم المسفوح: هو الشهوات اللذات التي يهراق عليها دم الدين ولحم الخنزير: هو كل رجس من أعمال الشيطان كما قال تعالى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
[المائدة: 90].
وحقيقة الرجس: الاضطراب عن طريق الحق والبعد منه، كما جاء في الخبر لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى؛ أي: اضطرب وتحرك حركة سمع لها صوت، فالرجس: ما يبعدك عن الحق، أو فسقا أهل لغير الله به؛ أي: خروجا عن طلب الحق في طلب غير الحق، فالشروع في هذه الأشياء محرم؛ لأنها تحرمك عن الله وقربانه.
ثم قال تعالى: { فمن اضطر } [الأنعام: 145]؛ يعني: إلى شيء من هذه الأشياء لضرورة الحاجة الإنسانية فيشرع فيه، { غير باغ } [الأنعام: 145]؛ يعني: غير طالب له وراغب عن الله سبحانه وتعالى، { ولا عاد } [الأنعام: 145]؛ أي: غير متجاوز عن حد طلب الحق، ومتعد عن حد ترك الشاغل عن الله تعالى عاد من الدنيا وغيرها، { فإن ربك غفور } [الأنعام: 145]، يغفر الضروريات بمغفرته إذا استغفرته، { رحيم } [الأنعام: 145]، بك عند الرجوع إليه، يرحمك ويعفو عنك ما اضطرك إليه.
وفي قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [الأنعام: 146]، الإشارة: إلى أن يقوم الله تعالى على العباد، وأما إن كان رحمة وعطفة منه عليهم لما علم علم أن فيه ضررا نفسانيا أو روحانيا دفعه بالتحريم عنهم، فالنفساني: كضرر السم وأمثاله، والروحاني: كضرر لحوم السباع المؤذيات وأمثالها، فإنه بتعدي أخلاقها تغير الأخلاق الروحانية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الرضاع بغير الطباع "
؛ وأما إن كان بلاء ونعمة عليهم ليكون أمرا عليهم جزاء لبغيهم على ما أمرهم الله بها أو نهاهم عنه، ولهذا نبه الله تعالى هذه الأمة بقوله:
ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا
[البقرة: 286] رحمة منه عليهم، دفعا لبلاء الأضرار في الدنيا والآخرة يدل عليه قوله تعالى:
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون
[السجدة: 21]، العذاب الأدنى؛ يعني: في الدنيا، والعذاب الأكبر؛ يعني: في الآخرة.
ثم أخبر عن سعته ورحمته وسطوه نعمته بقوله تعالى: { فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة } [الأنعام: 147]، إلى قوله تعالى
وهم بربهم يعدلون
[الأنعام: 150].
الإشارة فيها: إن ما أنعمنا عليك به وأمرناك أن تتحدث به، فإن كذبوا من قصور عقلهم ودناءة همتهم، فقل ربكم ذو رحمة واسعة تسعى كل شيء من سعتها وهي أوسع، فما توهمون وتفهمون، أو تظنون وتعلمون، { ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين } [الأنعام: 147] يعني: في سعته رحمته بأنه شديد وقهره كامل كما أن للطفه ورحمته مظهرا وهم: المطيعون، كذلك لباسه وقهره مظهرا وهم: المجرمون المكذبون المعرضون عن طلب الحق في متابعة الأنبياء - عليهم السلام -.
[6.148-150]
{ سيقول الذين أشركوا } [الأنعام: 148]، أي: الذين طلبوا مع الله غيره، وعبدوا معه سواه من الدنيا والآخرة، { لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } [الأنعام: 148]، أي: من مقامات الوصول، وهذه كلمة حق أريد به باطل الكلام في نفس الأمر حق وصدق، إلا أنه ما صدر عن يقين صادق ولا كشف حقيقة، وإنما صدر عن إظهار حجة دفعا لأذية والبلاء من دون الناس، فكذبهم الله تعالى فيما قالوا: بزعمهم أنهم يقولون: ذلك من علم الله وحقيقة، بقوله تعالى: { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } [الأنعام: 148].
ثم قال تعالى: { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [الأنعام: 148]، يعني: فيما تزعمون وتدعون أنه من علم يقولون، وإنما تقولون للحجة، ثم قال تعالى: { قل فلله الحجة البالغة } [الأنعام: 149]، فيما قدر ودبر وحكم به، وقضي من الأزل إلى الأبد، { فلو شآء } [الأنعام: 149]، هداهم؛ يعني: في الأزل، { لهداكم أجمعين } [الأنعام: 149]، كما هدى بعضكم دون بعض إظهارا للقدرة والاختيار، { قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } [الأنعام: 150]، والشهداء: هي الظنون الكاذبة على أن الله حرم عليكم نيل الدرجات والوصول إلى المقامات.
{ فإن شهدوا فلا تشهد معهم } [الأنعام: 150]، أي: فلا تشهد بالظن في شيء من الأمور إلا بالوحي والكشف واليقين، { ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا } [الأنعام: 150]، وتشهد بالظن كما يشهد أهل الأهواء، { والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } [الأنعام: 150] فيشركون به، ويعبدون الدنيا ويتبعون الهوى ويظنون بالله ظن السوء.
[6.151-153]
ثم أخبر عن المحرمات على البنين والبنات بقوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } [الأنعام: 151] إلى قوله { تتقون } [الأنعام: 153].
الإشارة فيها إلى قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } وآل على أن المحرم والمحل هو الله تعالى، وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله لك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ والمبين ما أحل الله وما حرمه.
ثم اعلم أن هذه الآيات لتشتمل على عشر خصال جامعة للخير كله:
أولها: ألا تشركوا به شيئا قدم الشرك؛ فإنه رأس المحرمات،
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48]، فإنه لا يقبل معه شيئا من الطاعات، وهو ينقسم إلى جلي وخفي؛ فالجلي: عبادة الأصنام ومتابعة الهوى في الأنام، فقال تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43]، والخفي: ملاحظة الأنام بعين استحكام الإعظام ورؤية الأغيار مع الله الواحد القهار.
وثانيها: قوله تعالى: { وبالوالدين إحسانا } [الأنعام: 151]، وإنما ذكر بعد تحريم الشرك تحريم العقوق والأمر بالإحسان إلى الوالدين؛ لأنهما سبب وجوده ومظهره، كما أن الله تعالى موجد وجوده ومبدعه ومبدئه فحرم عقوقهما بعد تحريم الشرك به، وأوجب الإحسان إليهما بعد القيام بعبادته، كما قال تعالى:
ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
[الإسراء: 23]، إقامة لحقوقهما بعد الإقامة لحقوق الله تعالى، فالتقاعد عن أداء حقوقهما عقوق فهو أكبر الكبائر.
وثالثها: قوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } [الأنعام: 151]، ثم حرم قتل الأولاد بعد تحريم العقوق؛ لما فيه من هدم بنيان الله تعالى، وملعون من هدم بنيانه، وفيه إبطال ثمرة، وشجرة وجوده، وقطع نسله، وفيه خشية إملاق؛ وهي ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله إن يرزقهم وذلك يؤدي إلى تكذيب الله تعالى؛ لأنه قال تعالى:
وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها
[هود: 6].
ورابعها: قوله تعالى: { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [الأنعام: 151]، ثم الفواحش جميعها، وقد يدخل في ذلك جميع أقسام الآثام ما ظهر منها: وهو ما يبعده من الجنة ويدينه، وباطن منها: وهو ما يبعده عن الحق ويحجبه عنه، وإن لم يحجبه عن الجنة ولم يبعده منها، وأيضا ما ظهر منها بالفعل، وما بطن بالنية.
وخامسها: قوله تعالى: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } [الأنعام: 151]، ثم حرم القتل إلا بالحق؛ أي: وإلا في طلب الحق، فإن المقتول في سبيل الله هو حي عند ربه، وفي قتل ترك تعظيم أمر الحق وترك الشفقة على الخلق وهما ملاك الدين { ذلكم وصاكم به } [الأنعام: 151]، يعني: هذه الخمسة المحرمة، { لعلكم تعقلون } [الأنعام: 151]، لكي تعرفوا موجبات الانقطاع عن الله تعالى فتحرزوا عنها.
وسادسها: قوله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } [الأنعام: 152]، والأشدة: الصلاح، والفقه؛ يعني: يتفقه في الصلاح للدين لا في إفساد الدنيا، ثم حرم المال بعد تحريم قتل النفس؛ لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، وقدم مال اليتيم؛ لأنه عاجز عن حفظ ماله، فإن الله تولاه، { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } [الأنعام: 152]، وفيه معنيان: أمره وحي الخلق بالاجتناب عن ماله وبالشفقة والنظر في حقه.
وسابعها: قوله تعالى: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } وفيه معنيان:
أحدهما: تحريم الطمع في مال المسلم بنقصان الكيل والوزن عند الوفاء وأتاه بزيادتهما عند الاستيفاء.
والثاني: أوفوا الكيل وميزان الشرع بحقوق الربوبية، واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد وحظوظ العبودية من الألوهية، { لا نكلف نفسا } [الأنعام: 152] في إبقاء الحقوق واستيفاء الحظوظ، { إلا وسعها } [الأنعام: 152] إلا بحسب استعدادها.
وثامنها: قوله تعالى: { وإذا قلتم فاعدلوا } [الأنعام: 152] ثم حرم الظلم والجور والميل في الفعل المقال، { ولو كان ذا قربى } [الأنعام: 152] أي: ولو كان المسلم على الكافر والكافر على المسلم وحقيقته العدل في الكلام أن ما يذكر الله تعالى ولا يذكر معه غيره، وأن يتكلم لله وفي الله وبالله.
وتاسعها: قوله تعالى: { وبعهد الله أوفوا } [الأنعام: 152] ثم حرم نقص العهد مع الله وأمر بالوفاء بعهده عليه، وهو ألا يعبد إلا مولاه ولا يحث إلا إياه ولا يرى سواه، { ذلكم وصكم به } [الأنعام: 152] يعني: هذه المحرمة الأخرى، { لعلكم تذكرون } [الأنعام: 152]؛ لكي تذكروا أيام الوصال في حضرة الجلال ومشاهدة ذلك الجمال:
أياما قضت بذي القضاء
سقاهن رجاف العشى بطول
إذا العيش غض والشباب بمائه
وفي حدثان الدهر عنك غفول
ونحن بربع إن تطأه ثوابت
ولا استجيب للهم فيه ذبول
وعاشرها: قوله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [الأنعام: 153] ثم حرم إتباع كل سبيل الله، وأمر باتباع طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: { وأن هذا } أي: ذكرنا من الخصال العشر، { صراطي مستقيما } يعني: إلى الله تعالى وهو صراط محمد صلى الله عليه وسلم، واختص هذه الأمة باتباع صراط إلى الله تعالى.
ثم قال جل جلاله: { ذلكم وصاكم به } [الأنعام: 153] أي: بمتابعته وصيتكم في السير إلى الله، { لعلكم تتقون } [الأنعام: 153] بالله وتحترزون عن غير الله.
[6.154-158]
ثم أخبر عن ثلاثة غير هذه بقوله تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن } [الأنعام: 154] يشير إلى حال نبينا صلى الله عليه وسلم من وجهين:
أحدهما: إنه تعالى لما ذكر الخصال العشر وخص بها النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة وقال تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
[الأنعام: 153] ثم قال تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماما } [الأنعام: 154]، ثم أخبر منك يا محمد أن آتينا موسى الكتاب قبلك تماما على الذي أحسن؛ يعني: إتماما لدينك على من أسلم من أمتك إسلامه، فإن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء - عليهم السلام - كانت تتمه للدين الخفي الذي هو الإسلام، وهو الدين المرضي بقوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
[آل عمران: 19]، وبهذا السر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتباع الأنبياء والاقتداء بهم، كما قال تعالى:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام: 90] للجمع بين هداه وهداهم إتماما للدين وتكميلا له فلم تم هداه بالقرآن، وتم اقتداه بهداهم قال تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا
[المائدة: 3].
والوجه الثاني: إن الذي أحسن هو النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فأراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مخصوصا من بين الأنبياء - عليهم السلام - بالرؤية؛ ولهذا السر قد سماه الله تعالى محسنا بقوله:
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبرهيم حنيفا
[النساء: 125]، فالمعنى: آتينا موسى الكتاب تماما على محمدا؛ أي: لتكميله في النبوة والرسالة يدل عليه قوله تعالى:
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
[هود: 120]، { وتفصيلا لكل شيء } [الأنعام: 154] أي: وبيانا وشرحا لدينه.
{ وهدى ورحمة } على أمته، { لعلهم بلقآء ربهم يؤمنون } [الأنعام: 154]؛ أي: لكي يؤمنوا هذه الأمة برؤية ربهم فهم مخصوصون بهذه الكرامة كما خص نبيهم بها فيتشمروا عن ساق الجد في طلبها ثم قال تعالى: { وهذا كتب أنزلنه } [الأنعام: 155]، أي: أنزلناه أيضا لإتمام نبوتك ودينك، { مبارك فاتبعوه } [الأنعام: 155] أي: فاعتصموا به، { واتقوا } [الأنعام: 155] عن غير الله بالله، { لعلكم ترحمون } [الأنعام: 155] فتحوجون عن الوجود المجازي وتصلون إلى الوجود الحقيقي بنور القرآن، { أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا } [الأنعام: 156]، أي فاحترزوا { أن تقولوا } إذا لم تنتفعوا بالقرآن: { إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } [الأنعام: 156] { أو تقولوا } [الأنعام: 157] أي: لئلا تقولوا، { لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم } [الأنعام: 157] أي: في السير إلى الله.
{ فقد جآءكم } [الأنعام: 157]، يعني: في هذا القرآن، { بينة من ربكم } [الأنعام: 157] ما بين لكم طريق السير إلى الله والوصول، { وهدى } [الأنعام: 157] وما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاءهم في الكتابين؛ لأنه
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين
[الأنعام: 59]، وإحدى بركة القرآن كل ما في الكتب المنزلة من أسباب الهداية إلى الله تعالى مندرج في القرآن منفرد بكثير منها، { ورحمة } [الأنعام: 157] أي: قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم وهو رحمة مهداة ليوصلكم إلى الله، فإن لكم فيه
أسوة حسنة
[الأحزاب: 21]، { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } [الأنعام: 157] يعني: بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، { وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب } [الأنعام: 157] والفرقة والقطيعة، { بما كانوا يصدفون } [الأنعام: 157] يعرضون عنها عن هدايتنا.
ثم أخبر عن انتظار أهل الإنكار بقوله: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } [الأنعام: 158] الإشارة فيها: أن القوم بعد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو صورة الهداية من الله، وبعد نزول الكتاب المبارك الذي هو المعتصم للوصول إلى الله تعالى في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، هل ينظر! { هل ينظرون } [الأنعام: 158]، أي: ينتظرون، { إلا أن تأتيهم الملائكة } [الأنعام: 158] عيانا وتسوقهم إلى الله قهرا وقهرا، إذ هم لم يعتصموا بالقرآن، ولم يتبعوا النبي، ولم يهتد بهدايته، ولم يتسلكوا بتسليكه.
{ أو يأتي بعض ءايات ربك } [الأنعام: 158]، يعني: إذ لم يأتوا إليه في متابعتك يأتي ربهم إليهم ويقطع مسافة البعد والحجب لهم، { أو يأتي بعض ءايات ربك } [الأنعام: 158] فيكشف الغطاء يوم، { يوم يأتي بعض ءايات ربك } [الأنعام: 158] اللقاء، وبعد كشف الغطاء، { لا ينفع نفسا إيمنها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا } [الأنعام: 158] وذلك؛ لأن الله تعالى جعل نفس الإنسان وقلبه أرضا صالحة لقبول بذر الإيمان وإنباته وتربيته، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لا إله إلا الله ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة "
فالبذر: هو قول المرء أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله عند تصديق القلب بشهادة اللسان ، وإنما كان زمان هذه الزراعة زمان الدنيا لا زمان الآخرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا مزرعة الآخرة "
يوم باقي بعض آياته ربك لا ينفع نفسا في زمان الآخرة بذر إيمانها لم تكن آمنت أي: بذرت من قبل في زمان الدنيا، أو كسبت في إيمانها خيرا من الأعمال الصالحة التي ترفع الكلمات الطيبة وهي: لا إله إلا الله، وتجعلها شجرة طيبة مثمرة تؤتى أكلها حين بإذن ربها من ثمار المعرفة والمحبة والكشف والمشاهدة والوصول والوصال ونيل الكمال، { قل انتظروا } [الأنعام: 158] أيها المنتظرون للمستحيلات، { إنا منتظرون } [الأنعام: 158] للميعاد في المعاد بما وعدناهم من العذاب والعقاب.
[6.159-163]
ثم أخبر عن مضار في الدين المتين بقوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم } [الأنعام: 159] والإشارة فيها: { إن الذين فرقوا دينهم } ، أي: دينهم الذي ارتضي لهم الله تبارك وتعالى هو الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان، وتمامية نعمة الحق تعالى وهو الفوز العظيم بنور الله التام، كما قال تعالى:
يريدون ليطفئوا نور الله بأفوههم
[الصف: 8] فارقوا بقلوبهم، وإن كانوا متمسكين ببعض سعادة بظواهرهم رياء وسمعة أو خوفا وطمعا، { وكانوا شيعا } [الأنعام: 159]، أي: صاروا هؤلاء الفارقون المارقون فرقا مختلفة، فرقة منهم أهل الأهواء والبدع من المذاهب المختلفة: كالمعتزلة والنجارية والمعطلة نافية الصفات والمشبهة والجسمية والمرجئة والجبرية والقدرية والروافض والخوارج وأمثالهم ممن يزعم أنه من أهل الإسلام، وفرقة منهم أهل الدعاوي من غير المعاني كبعض المتزهدين بالرياء، والمتصوفين بغير الصفاء، والعارفين الجاهلين المكذبين العادين عن المعرفة منهم: القلندرية والحوالقية وأكثر من يدعي الفقر وما شم رائحته، وكبعض الغافلين البطالين والعلماء بالسوء الذين يأكلون الدنيا بالدين وهو [بأبدانهم] في طلب العلم وحرفة الجاه والقبول وجمع المال والمفاخرة والمباهاة والشهرة وأخذ المناصب للمكاسب، فإنهم يدعون من خواص أهل الإسلام ويظهرون شعائر الصالحين ويضمرون دثار الصالحين.
ومنهم فرقة خلعوا من ربقة الإسلام بالكلية وخرقوا من الدين خروق السهم من الرمية، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم: كالمتفلسفة والدهرية والطبائعية والحشوية والزنادقة والإباحية والمباركية والإسماعيلية والأباضية والحرورية وطوائف، فإن فيهم كثرة وليس أحد منهم على دين الإسلام، ولكن يخرطون في مسلكهم، وكانوا يتملكوا بملكهم، فهؤلاء أقوام اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم وأديانهم مجتمعين جهرا بجهر متفرقين شبرا بشبر.
قال الله تعالى: { لست منهم في شيء } [الأنعام: 159]، ولا يجمعك وإياهم معنى شقك شق الحقائق وشقهم شق البواطل، ولا اجتماع للضدين، { إنمآ أمرهم إلى الله } [الأنعام: 159]، أي: في بدء الأمر في الخلقة في قسم الاستعداد على ما شاء كما شاء، وفي الحال بالتوفيق والخذلان وفي المال بالمكافآت والمجازات، { ثم ينبئهم } [الأنعام: 159]، عند المكافآت يوم المجازات، { بما كانوا يفعلون } [الأنعام: 159]، في الدينا، إذا كانوا يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، ولا ينبئهم عما فعله في البداية من التدبير والتقدير.
ثم أخبر عن مجازات الحسنات والسيئات بقوله تعالى: { من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها } [الأنعام: 160]، والإشارة فيها: إن الله تبارك وتعالى من كمال إحسانه مع العبد أحسن إليه بعشر حسنات قبل أن يعمل العبد حسنة واحدة، فقال تعالى: { من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها } [الأنعام: 160]، يعني: قبل أن يجئ بحسنة أحسنت إليه بعشر حسنات؛ حتى يقدر أن يجيء بالحسنة، وهي: حسنة الإيجاد من العدم، وحسنة الاستعداد بأن خلقه في أحسن تقويم مستعدا للإحسان، وحسنة التربية، وحسنة الرزق بعثة الرسل، وحسنة إنزال الكتب، وحسنة تبيين الحسنات والسيئات، وحسنة التوفيق، وحسنة الإخلاص في الإحسان، وحسنة قبول الحسنات.
{ ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [الأنعام: 160]، والسر فيه: إن السيئة بذر يذرع في أرض النفس والنفس خبيثة؛ لأنها أمارة بالسوء، والحسنة بذر يذرع في أرض القلب والقلب طيب؛ لأنه يذكر الله
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28]، وقد قال تعالى:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا
[الأعراف: 58]، وأما ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت الجزاء للحسنات فاعلم أنه كما للأعداد أربع مراتب: آحاد وعشرات ومئات وألوف، والواحد في مرتبة الآحاد واحد، وفي مرتبة العشرات عشرة، وفي مرتبة المئات مائة، وفي مرتبة الألوف ألف، فكذلك للإنسان أربع مراتب: النفس، والقلب، والروح، والسر، فالعمل الواحد في مرتبة النفس يكون واحد بعينه، كما قال تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40]، إذ هي بمرتبة الآحاد، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها؛ لأنه بمرتبة العشرات، وفي مرتبة الروح يكون بمائة؛ لأنه بمرتبة المئات، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى؛ لأنه منزلة الألوف، والله اعلم.
{ وهم لا يظلمون } [الأنعام: 160]، المعنى: إن الله تعالى قد أحسن إليهم قبل أن يحسنوا بعشر حسنات شاملات للحسنات الكثيرة، فلا يظلمهم بعد أن أحسنوا، بل يضاعف حسناتهم يدل عليه قوله تعالى:
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40].
ثم أخبر عن الصراط المستقيم وأنه هو الدين القيم بقوله تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } [الأنعام: 161]، الإشارة فيها: إن الإنسان لما فارق غيب الغيب، وإن شاءته القدرة في عالم الأرواح فقد الحق عند وجدان الوجود، فلما أراد إلى أسفل سافلين القالب ضل عن سواء السبيل إلى أن أدركته العناية وساقته الهداية بجذبة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، فيهديه ربه من تيه الضلالة والغواية إلى صراط مستقيم الدين القويم، كما قال تعالى لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم: قل: يعني؛ أخبر الخلق أحوالك؛ ليعرفوك فيتبعوك عليه، أي؛ هداني بعد أن وجدني ضالا عنه في تيه البشرية إلى صراط مستقيم إليه، دل عليه قوله تعالى:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7]، واعني بالصراط المستقيم: { دينا قيما } [الأنعام: 161]، مبنيا على قرآن عجب يهدي إلى الرشد عند التمسك بحبله يوصل العبد إلى ربه.
{ ملة إبراهيم حنيفا } [الأنعام: 161]، أي: ذاهب إلى الحق؛ لقوله تعالى:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، { وما كان من المشركين } [الأنعام: 161]، الذين يطلبون مع الله شيئا آخر ويطلبون منه غيره، { قل إن صلاتي ونسكي } [الأنعام: 162]، أي: سيرى على منهاج الصلاة؛ وهي معراج إلى الله وذبيحة نفسي لله، { ومحياي } [الأنعام: 162]، أي: حياة قلبي وروحي، { ومماتي } [الأنعام: 162] أي: موت نفسي، { لله رب العالمين } [الأنعام: 162]، لطلب الحق تعالى والوصول إليه، { لا شريك له } [الأنعام: 163]، في الطلب من مطلوب سواه، { وبذلك أمرت } [الأنعام: 163]، أي: ليس هذا الطلب والقصد إلى الله من نظري وعقلي وطبعي؛ إنما هو من فضل الله ورحمته وهدايته وكمال عنايته إذ أوحى إلي وقال:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8]، وقال:
قل الله ثم ذرهم
[الأنعام: 91].
{ وأنا أول المسلمين } [الأنعام: 163]، يعني: أنا أول من استسلم عند الإيجاد لأمركن، وعند قبول فيض المحبة بقوله: [يحبهم]، والاستسلام للمحبة في قوله: [يحبونه]، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله نوري ".
[6.164-165]
ثم أخبر عن بقيته صلى الله عليه وسلم: إنه هو الله غير خلقته بقوله تعالى: { قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء } [الأنعام: 164] الإشارة فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان غاية منتهاه، ونهاية قصده الله رب العالمين، حتى قال الله عز وجل: { قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء } [الأنعام: 164]، أي: كيف أطلب غير الله وهو حبيبي، والمحب لا يطلب إلا الحبيب، وكل شيء طلب دونه فهو رب ذلك الشيء ومالكه، فإذا كان هو لي يكون ما له لي، وإن قبلت غيره لم أجده، وكل خير وجدته [غيره] يكون علي، كما قال تعالى: { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } [الأنعام: 164]، يعني: إن النفس إنما تكسب بأمر هواها،
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53]، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم:
" لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك ".
واعلم أن النفس مأمورة بالسير إلى الله بقدم العبودية والأعمال الصالحات بقوله:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28]، وإن اطمئنانها بالطبع إلى الدنيا وزخارفها مخالف لأمر الله تعالى وهو وزرها وسيرها إلى الدركات السفلى، فلا يمكن لغيرها أن يحمل قدرها، وإن القلب إذا كان سليما من كدورات صفات النفس باقيا على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه مزينا بنور الإيمان وحبه لا يؤخذ بمعاملة النفس وزرها، كما قال تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } [الأنعام: 164]، والنفس مأخوذة بوزرها معا معاقبة بما هي أهله ولا يتألم القلب بعذابها، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الحق تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فينطبع مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها، فيتبع النفس وهواها فيزول بطبع الشهوات ولذاتها، ويكسب الإثم والوزر بترك ما هو مأمور به من؛ الطهارة والصفاء والسلامة والذكر والفكر والتوحيد لله تعالى والإيمان به والتوكل عليه والصدق والإخلاص في القلب والعبودية، وغير ذلك من أعمال القلب فيكون مأخوذا بوزره لا بوزر غيره، كما قال تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14].
ثم عرف الله تعالى نفسه الخلق بتعريفهم أنفسهم فقال: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } [الأنعام: 165]، أي: جعل واحد من بني آدم ابن وقته وخليفة ربه في الأرض، وسر خلافته؛ أن صوره على صورة صفات نفسه حيا قيوما سميعا بصيرا عالما قادرا مريدا متكلما، { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [الأنعام: 165]، في الخلافة واستعدادها، { ليبلوكم في مآ آتاكم } [الأنعام: 165]، من صفاته واستعداد الخلافة؛ ليظهر من تخلق بأخلاقه منكم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد، ومن الذي رجع قهري إلى صفات البهائم والأنعام وأبطل الاستعداد للخلافة فيكون من زمرة أولئك،
كالأنعام بل هم أضل سبيلا
[الفرقان: 44].
{ إن ربك سريع العقاب } [الأنعام: 165]، يعني: مربيك يا محمد الذي بلغك أقصى مراتب الخلافة سريع العقاب لمبطلي استعداد الخلافة ومضيعي صفات الحق بتبديلها بصفات الحيوانات، بأن،
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشاوة
[البقرة: 7]، وجعلهم،
صم بكم عمي فهم لا يرجعون
[البقرة: 18]، إلى مكان من الغيب الذين خرجوا منه، وهم محبوسون في سجن أسفل سافلين وفي حبس،
كلا إن كتاب الفجار لفي سجين
[المطففين: 7].
{ وإنه لغفور } [الأنعام: 165]، لمن تاب عن متابعة النفس والهوى ومخالفة الحق والهدى وآمن وعمل صالحا للخلافة، { رحيم } [الأنعام: 165]، بمن رحمه ووفقه لمرضاته ويرفع درجاته.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-7]
{ المص } [الأعراف: 1]، إلى قوله: { ما تذكرون } [الأعراف: 3] والإشارة فيها: أنه تعالى بعد ذكره ذاته وصفاته بقوله: { بسم الله الرحمن الرحيم } ، عرف نفسه بقوله: { المص }؛ يعني: الله هو إله؛ من لطفه أفرد عباده للمحبة والمعرفة، وأنعم عليهم الله بالصدق والصبر؛ لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة: { كتاب أنزل إليك } [الأعراف: 2] بأن نزله على قلبك وشرح به صدرك، { فلا يكن في صدرك حرج منه } [الأعراف: 2]؛ أي: مما فيه من كثرة الحقائق والمعاني والأسرار والأنوار والأفعال؛ إذ جعل خالقك معاني القرآن نور قلبك بأنواره وحقائقه، فاتسع به قلبك وانفتح له صدرك، فما بقي الضيق والحرج بخلاف الكتب المنزلة على الأنبياء من قبلك، فإنها كانت تنزل عليهم في الصحف والألواح، فكان من نزولها في صدر بعضهم نوع حرج حتى أن موسى عليه السلام ألقى الألواح من نوع ضيق وحرج أصابه مما فيه الألواح وخطاب الحق، فخص نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم بتنزيل الكتاب على قلبه يشرح له صدره بأنواره فلا يكن في صدره حرج منه.
{ لتنذر به } [الأعراف: 2] الأمة حين تتلوه عليهم وليكون { وذكرى للمؤمنين } [الأعراف: 2]؛ أي: يتعقلون به وينتفعون بحقائقه في متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم } [الأعراف: 3]، ومما نزل إليهم قوله:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7] فإن المؤمنين مأمورون بإتباع ما أنزل من ظاهر القرآن وباطنه؛ يعني: حقائقه وأسراره وحكمه، وبأن يأخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو به مبعوث لقوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم
[الجمعة: 2]، فالكتاب: هو ظاهر القرآن، والحكمة: هي باطنه وأسراره وحقائقه في قوله تعالى: { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم } [الأعراف: 3].
إشارة أخرى تتضمن ألف بشارة وهي: إن الله تعالى كما شرف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: { كتاب أنزل إليك } [الأعراف: 2] جعل له دخلا في اتباع القرآن والتخلق بأخلاقه ونيل كمالات تندرج فيه بقوله تعالى: { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم } ثم قال عز وجل: { ولا تتبعوا من دونه } [الأعراف: 3]؛ أي: من دون الله، { أوليآء } [الأعراف: 3] أحباء [معاونين]، { قليلا ما تذكرون } [الأعراف: 3]؛ أي: قليلا منكم يا بني آدم من يتعظ فلا يتخذ من دون الله أحدا.
ثم أخبر عن الهالكين غير المتعظين بقوله تعالى: { وكم من قرية أهلكناها } [الأعراف: 4]؛ أي: أهلها، إلى قوله: { وما كنا غآئبين } [الأعراف: 7]، والإشارة فيها: أن طول المهلة توجب الغفلة، وأن إكثار الغفلات توجب الإهلاكات، فكم { من قرية أهلكناها } ركنوا إلى الغفلة، فاعتبروا بطول المهلة، فباتوا في حفظ الرعية، { فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون } [الأعراف: 4] فأصبحوا وقد صادفهم البلاء بغتة وأدركتهم سطوات قهرنا فجأة.
{ فما كان دعواهم } [الأعراف: 5]، والإشارة: فاعترفوا من الذنب بالاعتراف حين لا ينفعهم الاعتراف، فلا بلاء كشف عنهم، ولا دعاء سمع لهم، ولا إقرار نفعهم، ولا صريخ أنقذهم فما زالوا يقرعون إلى الابتهال، ويقرعون باب النوال، ويدعون إلى كشف الضر، ويبكون السر حتى هادوا جميعا وهلكوا سريعا.
وفيه إشارة أخرى: { وكم من قرية أهلكناها }؛ أي: قرية قلب أفسدنا استعدادها، { فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون }؛ أي: قلبناها وأزغناها بإصبع القهارية إظهارا للجبارية، وأهلها نائمون على فراش الحسبان قائلون في نهار الخذلان: { فما كان دعواهم } [الأعراف: 5]؛ أي: ادعاؤهم، { إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } [الأعراف: 5]؛ أي: ادعوا أن القدرة على تغليب الحال إنما كان لهم؛ وذلك من دناءة همتهم وركاكة عقلهم وقصر نظرهم حتى أحالوا القدرة والتصرف فيهم إلى أنفسهم وهم لاهون عن قوله تعالى:
ونقلب أفئدتهم وأبصرهم
[الأنعام: 110].
{ فلنسألن الذين أرسل إليهم } [الأعراف: 6]، [سؤال] تعذيب وتعنيف تسألون عن القبول، هل قبلتم الرسالة وعملتم بما أمرتم أم لا؟ وفيه معنى آخر؛ أي: فلنسألن الذين كانوا مخصوصين بالرسالة إليهم من المؤمنين قابلي الدعوة هل بقوله: هل بلغ إليكم رسلنا رسالتنا ومواعيدنا، وهل بينوا لكم حقائق ما أنزل إليكم، ووصفوا لكم ما أعدونا من المقامات والدرجات والكرامات لكم، وهل دعوكم إلى كمالات الدين وكشف الغطاء عن اليقين؟ وهذا سؤال تقريب وتشريف، { ولنسألن المرسلين } [الأعراف: 6]، هل وجدتم في الأمم أقواما قابلي الدعوة والرسالة من أهل المحبة والعناية؟ كما وعدناكم بإتيانهم بقوله:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، وهذا سؤال إنعام وإكرام.
{ فلنقصن عليهم بعلم } [الأعراف: 7]؛ أي: فلنبين لكل طائفة من الرسل والمرسل إليهم أن إرسالنا إليهم كان بعلم منا بقوله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124]، وما أرسلناهم عبثا وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وشأن جسيم، { وما كنا غآئبين } [الأعراف: 7] عن الرسل والمرسل إليهم؛ أي: كنا مع الرسل، بالعظمة والكفاية ومع المرسل إليهم بالتوفيق والتثبيت والهداية.
[7.8-13]
ثم أخبر عن تعيين الوزن للنبيين بقوله تعالى: { والوزن يومئذ الحق } [الأعراف: 8]، الإشارة فيها: أن الوزن عند الله يوم القيامة لأهل الحق وأرباب الصدق وأعمال البر كما قال تعالى: { والوزن يومئذ الحق } ، فلا وزن للباطل وأهله، يدل عليه قوله تعالى:
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
[الكهف: 105]، وروي أنه يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة،
فمن ثقلت موازينه
[المؤمنون: 102] بالأعمال الصالحة والصفات الحميدة والأوصاف الرضية والنعوت المرضية والأحوال السنية والأخلاق الربانية، { فأولئك هم المفلحون } [الأعراف: 8] الفائزون بإبقاء الحق وبقائه، الناجون من مقام أنانيتهم لفنائهم، وإنما قال تعالى: { موازينه } بالجمع؛ لأن كل عبد ينصب موازين القسط تناسب حالاته، فلبدنه: ميزان توزن به أعماله، ولنفسه: ميزان توزن بها صفاتها، ولقلبه: ميزان يوزن به أوصافه، ولروحه: ميزان يوزن به لغته، ولسره: ميزان يوزن به أحواله، ولخفيه: ميزان يوزن به أخلاقه، والخفى: لطيفة روحانية قابلة لفيض الأخلاق الربانية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق "
وذلك؛ لأنه ليس من نعوت المخلوقين بل هو من أخلاق رب العالمين، والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه.
{ ومن خفت موازينه } [الأعراف: 9] مما ذكرنا، { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } [الأعراف: 9] أفسدوا استعدادها لقبول هذه الكمالات التي ذكرناها، { بما كانوا بآياتنا يظلمون } [الأعراف: 9]؛ أي: يجحدون؛ يعني: أفسدوا استعدادهم حسن لقبول الكمالات بجحودهم.
ثم أخبر عن كرمه ونعمه بقوله تعالى: { ولقد مكناكم في الأرض } [الأعراف: 10] إلى قوله:
صراطك المستقيم
[الأعراف: 16]، والإشارة فيها: أن التمكين لفظ جامع للتمليك والتسليط والقدرة على تحصيل أسباب كل خير وسعادة دنيوية وأخروية وكمال استعداد المعرفة والمحبة والطلب والسير إلى الله تعالى ونيل الوصول والوصال، وما شرف بهذا التمكين إلا الإنسان، وبه كرم وبه فضل وبه يتم أمر خلافته، ولهذا أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وبه من الله تعالى على أولاده بقوله: { ولقد مكناكم في الأرض } [الأعراف: 10]؛ أي: سيرناكم ووهبنا لكم في خلافة الأرض ما لم نمكن أحدا غيركم في الأرض من الحيوانات، ولا في السماء من الملائكة، { وجعلنا لكم } [الأعراف: 10] خاصة، { فيها معايش } [الأعراف: 10]؛ لأنها مجموعة من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية، فمعيشة الملك: روحية، ومعيشة الحيوان هي: معيشة بدنية، ومعيشة الشيطان هي: معيشة نفسه الأمارة بالسوء، ولما حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية التي لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي: القلب والسر والخفي، فمعيشة قلبه هي: الشهود، ومعيشة سره هي: الكشوف، ومعيشة خفيه هي: الوصول والوصال، { قليلا ما تشكرون } [الأعراف: 10]؛ أي: قليلا منكم من يشكر هذه النعم؛ أي: نعمة التمكين ونعمة المعايش برؤية هذه النعم والتحديث بها، فإن رؤية النعم شكرها، والتحدث بالنعم أيضا شكر.
ثم أخبر عن شرح هذا التمكين وبدو أمره، فقال تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } [الأعراف: 11]؛ أي: خلقنا أرواحكم قبل أجسادكم، يدل قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام "
{ ثم صورناكم } أي: خلقنا أجسادكم وجعلناها صور الأرواح.
واعلم أن للأجسام وتصويرها بداية في الخلقة ونهاية، فبدايتها: الذرية التي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام بقوله تعالى:
وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم
[الأعراف: 172] ولم يقل: ذراتهم، وفي الحديث الصحيح:
" إن الله مسح ظهر آدم وأخرج ذريته منه كلهم كهيئة الذر "
؛ يعني: في الصغر، وهذا يدل على أنهم كانوا مصورين في صلب آدم،
ونهايتها: أيضا لها بداية ونهاية، فبدايتها: عند تصوير الجنين في الرحم، كقوله تعالى:
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء
[آل عمران: 6]، ونهايتها: عند كمال الصورة والجسد في حال الكهولة غالبا، فمعنى الآية: خلقناكم أرواحا ثم صورناكم في ظهر آدم ذرية كهيئة الذر ثم في أرحام الأمهات بصورة الجنين، { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } [الأعراف: 11] وأنتم في صلبه فهذا من التمكين أيضا.
{ فسجدوا } [الأعراف: 11]؛ يعني: الملائكة؛ لاستعدادهم الفطري، { إلا إبليس لم يكن من الساجدين } [الأعراف: 11] لما فيه من الاستكبار للنارية واستعلائها، { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } [الأعراف: 12] وهذا خطاب الامتحان لجوهر إبليس؛ ليظهر به استحقاق اللعنة، فإنه لو كان ذا بصيرة لقال: منعني تقديرك وقضاؤك ومشيئتك الأزلية، فلما كان أعمى بالعين التي ترى أحكام الله وتقديره وهويته، بصيرا بالعين التي ترى أنانيته، { قال أنا خير منه } [الأعراف: 12]؛ يعني: منعتني خيرتي عنه أن أسجد لمن هو دوني، واستدل على خيريته بقوله تعالى: { خلقتني من نار وخلقته من طين } [الأعراف: 12]؛ يعني: النار علوية نورانية لطيفة، والطين سفلي ظلماني كثيف فهي خير منه، فأخطأ اللعين في الجواب وفي الاستدلال والقياس من وجوه، وقد قدرنا خطأه في الجواب.
فأما في القياس: فأحد الوجوه: أنا لو سلمنا أن النار أفضل ما شرف وأعلى من الطين من حيث الظاهر والصورة، ولكن من حيث الحقيقة والمعنى الطين أفضل وأشرف منها؛ لأن من صفات الطين وخواصه: الثبات ومنه النشوء والنمو، ولهذا السر كان تعلق روح الإنسان به؛ ليصير قابلا للترقي، فإن جوهره كان من قبيل جواهر الملائكة في الروحانية والنورانية وقابل للترقي، والنار من خاصيتها الإحراق والإفناء.
وثانيها: أن في الطين لزوجة وإمساكا، فإذا استفاد الروح منه بالترابية هذه الخاصية يصير ممسكا للفيض الإلهي، إذ لم يكن ممسكا له في عالم الأرواح، ولهذا السر؛ استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وسيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى - وفي النار خاصية الإتلاف وهو ضد الإمساك.
والثالث: أن الطين مركب من الماء والتراب، والماء مطية الحياة كقوله تعالى:
وجعلنا من المآء كل شيء حي
[الأنبياء: 30]، والتراب مطية النفس النامية، فعند ازدواجهما تتولد النفس الحيوانية؛ وهو الروح الحيواني وهو مطية الروح الإنساني للمناسبة الزوجية بينهما، وفي النار ضد هذا من الإهلاك والإفساد، ثم تقول: شرف سجود آدم وفضله على الساجدين لم يكن لمجرد خواص الطبيعة، وإن شرف طبيعته لشرف التخمير من غير واسطة لقول:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
[ص: 75]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
" خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا ".
وإنما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح للشرف، بالإضافة إلى الحضرة فيه من غير واسطة، كما قال تعالى:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، ولاختصاصه بالتجلي فيه عند نفخ الروح كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق آدم فتجلى فيه "
؛ ولهذا السر ما أمر الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين بل أمرهم بالسجود بعد نفخ الروح فيه كما قال تعالى:
إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
[ص: 71-72]، وذلك؛ لأن آدم عليه السلام بعد أن نفخ فيه الروح صار مستعدا للتجلي؛ لما حصل فيه من لطافة الروح ونورانيته التي يستحق بها التجلي ومن إمساك الطين الذي يقبل الفيض الإلهي ويمسكه عند التجلي فاستحق سجود الملائكة؛ لأنه صار كعبة حقيقة تفهم - إن شاء الله - وتنفع، فلا تكون كالشيطان أعمى عند مطالعة هذه الحقائق، والمتكبر عن الإيمان بها فتخرج من جنة هذه المعارف وروضة هذه العواطف وتخاطب أيضا بقوله تعالى: { قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } [الأعراف: 13]، وإنما لزمه الهبوط والخروج من معارف العز ومنازله؛ لأنه اعتصم بيد الإباء والاستكبار في جبل الأنانية بقوة الخيرية، فاستخرج وهبط من عالم العلو إلى عالم السفل، وصار من الصاغرين بعد أن كان من الكافرين، فلما ابتلي بالقضاء وطرد من الجوار أخذ في النوح وألبس من الروح ورضي بالعباد واطمأن بالحياة.
[7.14-18]
{ قال أنظرني إلى يوم يبعثون } [الأعراف: 14] فأجابه بما عليه ولم يجيبه بما له، فأجابه بأن يكون من المنظرين، { قال إنك من المنظرين } [الأعراف: 15]؛ ليكون هذا في الإنظار والإمهال وبالأعلمية ما يزيد في شقوته وشدة عذابه وإبعاده، ولم يجيبه بألا يذيقه ألم الموت، قال تعالى:
إلى يوم الوقت المعلوم
[ص: 81] في موضع آخر.
ثم أخرج منه ما كان مودعا في حق قهره من الجهالة والضلالة بالأرض والاعتراض علينا، أو مكايده مع الحق تعالى حتى قال: { قال فبمآ أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [الأعراف: 16]، فلم يكن حالة الإغواء إلى الله منه من نظر التوحيد ورؤية الأمور من الله تعالى؛ وإنما كان إثباتا للحجة ومعارضة مع الله في الإغواء كما قال:
لأغوينهم أجمعين
[ص: 82]، وقال: { لأقعدن لهم } ، فلو كان من نظر التوحيد لم يكن اللعين مدعيا الإغواء والإضلال، ولو كان واقعا عن الصراط المستقيم عن قوله: { صراطك المستقيم } حقيقية الذي هو الصراط إلى الله لم يتعد عن الصراط المستقيم بنفسه ولم يقعد الآخرين بل يدعوهم إليه، ولكن من نتائج القهر يجري الله على بعضهم أفعالا وأقوالا تكون هي حجة عليهم.
ثم أخبر عن بيان [جهات عداوتهم] بقوله: { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم } [الأعراف: 17]، الإشارة فيها: أن الشيطان لا يأتي من جهة من الجهات إلا وللنفس الإنسانية بقية من الصفة [التي] تتعلق بتلك الجهة، واعلم أن للنفس في كل جهة من الجهات حظوظا مختلفا بحسب صفاتها؛ ولذلك فسر كل واحد من المفسرين قوله: { لآتينهم من بين أيديهم }؛ بمعنى آخر نظرهم على بيان صفة النفس التي هي مدخل الشيطان فقال: { لآتينهم من بين أيديهم } من قبل الحسد فأزين لهم الحسد على الأكابر من العلماء والمشايخ في زمانهم؛ ليطعنوا في أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم وتنكرون عليهم فيضلوا ويعلموا الخلق بإغوائهم إظهارا للخيرية لأنفسهم، كما كان حال إبليس مع آدم عليه السلام، { ومن خلفهم } ومن خلفهم من قبل المعصية، فآمرهم؛ ليطعنوا في المتقدمين من الصحابة والتابعين والعلماء والمشايخ الماضيين ويقدحوا فيهم ويبغضوهم ويفتروا عليهم ويرون عليهم ما لا يرون.
{ وعن أيمانهم } [الأعراف: 17] من قبل إفساد ذات البين؛ فأفسد ما بينهم وبين الإخوان في الدين وألقى بينهم العداوة والبغضاء، { وعن شمآئلهم } [الأعراف: 17]، من قبل ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وأصدقائهم؛ فأمرهم بالخيانة معهم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمكر والخداع مع عامة المسلمين وفي معاملاتهم.
وأيضا: { لآتينهم من بين أيديهم } من قبل الرياء والعجب وأفسد عليهم طاعاتهم، { ومن خلفهم } من قبل الصلف ، فاذكرهم ما صدر منهم من أعمال البر في الأيام السالفة؛ ليباهوا بها على الإراءة ويتفاخروا بها رياء وسمعة فيحبط أعمالهم، { وعن أيمانهم } من نيل الادعاء فأزين لهم الدعاوي كالأحوال والمقامات من غير المعاني وآمرهم بإظهار حالات في مواجيد لم تكن فيهم، { وعن شمآئلهم } من قبل الافتراء، فسول لهم المرئيات بالوقائع والكشوف والمقامات الكاذبة.
وأيضا: { من بين أيديهم } من قبل الاعتراض للمريدين، فأملي لهم ليعترضوا من [أنفسهم] ومرتبتهم، فأقطع طريق الإرادة والطلب، وأخرجهم من مواهب ولايتهم وفوائد محبتهم { ومن خلفهم } من قبل التفريق فأخرجهم من صحبة المشايخ بتسويل الحجج و[الشبهات] والبينات وتحصيل العلوم لأظفر عليهم عند الفرقة ما لم أظفر عليهم في الصحبة، { وعن أيمانهم } من قبل الارتباط، فحرضهم على سوء الأدب في صحبة المشايخ وترك الحشمة والتعظيم والتوسع في الكلام والمزاح؛ لإنزالهم عن رتبة القبول { وعن شمآئلهم } من قبل المخالفة فأمرهم بترك أوامر المشايخ ونواهيهم لأوردهم به موارد الرد، وأهلكهم بسطوة غيرة الولاية وردها بعد القبول.
وأيضا: { من بين أيديهم } أثور عليهم أهاليهم وأولادهم؛ ليمنعوا عن طلب الحق { ومن خلفهم } أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم، { وعن أيمانهم } أثور عليهم أحبابهم وأصدقائهم { وعن شمآئلهم } أثور عليهم أعداءهم وحسادهم؛ ليمنعوه عن الطلب باللطف والعنف، { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [الأعرف: 17]؛ لنعماتك التي أنعمت بها عليهم من السعادات الدنيوية والأخروية، فإنهم قبلوا مني تمويهات ووساوس في الإضلال لما كانت موافقة لنفوسهم وملائمة لطباعهم، فكفروا بنعمك وخالفوا طاعتك فانسلخوا عنها.
فلما ادعى اللعين هذه الدعوى وأخذ في تحقيق المعنى، قال الله تعالى: { قال اخرج منها مذءوما مدحورا } [الأعراف: 18]؛ أي: غاية الذم ونهاية الطرد فإنك عزمت على غاية الذنب ونهاية السر.
ثم قال تعالى: { لمن تبعك منهم } [الأعراف: 18]؛ يعني: من الذين تأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فيقبلوا منك ما أمرتهم، ويتبعوا من بني آدم من يتبعك في الإضلال والإغواء ومن قبلوا منهم كما قبلوا منك { لأملأن جهنم منكم أجمعين } [الأعراف: 18].
[7.19-23]
ثم أخبر عن إعزاز آدم وإسكانه في الجنة بعد طرد إبليس ولعانه بقوله تعالى: { ويآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } [الأعراف: 19] إلى: { عدو مبين } [الأعراف: 22]، الإشارة فيها: أن الخطاب مع آدم عليه السلام بقوله تعالى: { ويآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } إنما كان خطاب الابتلاء والامتحان، والنهي نهي التعزز والدلالة كأنه قال: يا آدم أتيحت لك الجنة وما فيها إلا هذه الشجرة، فإنها شجرة المحبة، والمحبة مطية المحنة، اسكن أنت وزوجك الجنة واسكن إليها وإنما خلقتها لتسكن إليها، { فكلا من حيث شئتما } [الأعراف: 19] من أنهار الجنة وأشجارها ونعمتها بنعيمها وأزهارها { ولا تقربا هذه الشجرة } [الأعراف: 19] شجرة المحبة احترازا عن المحنة.
{ فتكونا من الظالمين } [الأعراف: 19] على أنفسكما؛ لأن للمحبة نارا ونورا، فمن لم يرد نارها لم يجد نورها، ومن يرد نورها تحترق بنارها منه أنانيته وما هو به هو فيبقى بهوية ربه، فهاهنا يجد نور المحبة ويتنور به كقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] فشجرة المحبة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة، وإن منعه منها كان تحريضا على تناولها، فإن الإنسان حريص على ما منع ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده، فلما ابتلى آدم بهذا الخطاب وامتحن جوهره بترك هذه الطعمة المخصوصة والالتفات بغيرها؛ ليظهر أنه خلق لها وهي خلقت له سكنت نفس آدم إلى حواء إلى الجنة وما فيها إلا إلى الشجرة المنهي عنها؛ لأنها كانت مشتهى لقلب أعداؤه فما كان للنفس فيها حظ، ولم يسكن قلبه إلى شيء منها إلا إلى هذه الشجرة ولا يزال يزداد توقانه إليها فيقصدها ويمنعه النفس عنها وتمسك في منعه بحبل النهي.
وقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } [الأعراف: 19]؛ حتى أعنى القلب، { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما } [الأعراف: 20] من الكمال والنقصان فيهما، { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [الأعراف: 20]؛ يعني: إذ لا يتناولان من شجرة المحبة يكونان من أهل العلو كالملكين في زوايا الجنة، { أو تكونا من الخالدين } [الأعراف: 20]؛ يعني: الذي هم خلقوا في الجنة كالحور ورضوان خزان الجنان وغيرهم ، فأثر بعض هذا في قلب آدم وتنسم منه رائحة الأنس بمسام الروح؛ إذ كان قلبه وروحه متعطشين إلى دلال ذلك الجمال وكان ورد وقتهما ما قيل:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وأنت مني قلبي ووسواسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالا منك في الكأس
فتساكر القلب وغاب النفس في عزم على التناول فداخله خوف البشرية ولامته النفس اللوامة فكاد القلب أن يهن في الغرم وتذكر النهي فسقاه إبليس كأس القسم شراب ذكر الحبيب.
{ وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين } [الأعراف: 21]، فسكر القلب واشتد شوقه وعرف أن هذا كلام حق وصدق يريد به باطل، وإن لم تشعر نفسه بهذه الحقيقة، { فدلاهما بغرور } [الاعراف: 22]؛ أي: فغرهما بالله وشكرهما بذكره وشوقهما إليه، فلما استغرق آدم في بحر الشوق تاق إلى الذوق فنسي النهي وتناول الشجرة، { فلما ذاقا الشجرة } [الأعراف: 22] فلما ذاقا المحبة وجد ذوقها، { بدت لهما سوءاتهما } [الأعراف: 22]؛ أي: بدت لهما نار المحبة قبل نورها، وهي التي تبدي سوآتهما للمحنة والفرقة بين الأحبة في البداية، وتظهر كمالات القربة والوصلة في النهاية، وهي ما روي عنهما، فأخرجت منهما التاج والإكليل والحلة وكل حلي وزينة دنيوية وأخروية، وأخرجا من الجنة ونادى كل شجر وورق وثمر على آدم بلسان الملامة
وعصى ءادم ربه فغوى
[طه: 121].
{ وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } [الأعراف: 22]؛ أي: لاشتمال فائدة المحبة كانا يجعلان كل نعيم الجنة على ناديهما، فكما التهبت احترقت بلظى نار حبة الوصلة بينهما، ونعق غراب البين بالفرقة بينهما، فراحت الراحة وأبدل الروح بالنوح، فقال:
فبينما نحن في لهو وفي طرب
بدا سحاب فراق صوبه هطل
وإن من كنت مشغوفا بطلعته
مضى وأقعر منه الرسم والطلل
فالصبر مرتحل والوجد متصل
والدمع منهمل والقلب مشتغل
{ وناداهما ربهمآ } [الأعراف: 22] نداء الكبرياء والعزة، { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } [الأعراف: 22]، فإنه تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب بالطرب وتأتي بالتعب { وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين } [الأعراف: 22]؛ أي: هو مبين بالعداوة لكما صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين، فلما ناداهما بالعتاب حل بهما من سطوة الخطاب ما حل:
واخجلتي من وقوفي وسط داركم
وقول واشيكم من أنت يا رجل
وانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية، ولوث العجب وأنحرقت حجب الأنانية، وانكشفت ألطاف الألوهية فرجعا عما كانا عليه، وطمعا فيما لديه عن إنابة أنانيتهما بقوله تعالى: { قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا } [الأعراف: 23] إلى
تخرجون
[الأعراف: 25]، الإشارة فيها: أن آدم عليه السلام لما استغرق في لجة بحر المحبة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت قد علم أنه لا ملجأ إلا إليه وكذا حواء رجعا إليه.
{ قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا } [الأعراف: 23] بأنا تناولنا من شجرة المحبة فوقعنا في شبكة المحنة تفنينا عن الوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال، { وإن لم تغفر لنا } [الأعراف: 23] بنوال الوصال، { وترحمنا } بتجلي الجمال، { لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 23]، الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى، فأدركتهما العناية واستقبلتهما الهداية، وأمرا بالصبر على الهجر ووحدا بالوجد بعد الفقر.
[7.24-28]
{ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع } [الأعراف: 24]؛ يعني: للنفس والقلب والروح في أرض البدن مقام وتمنع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة، { إلى حين } [الأعراف: 24]، تصير النفس فيه مطمئنة فتستحق لخطاب:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، من الهبوط وتدفع بعد السقوط كما قيل:
إن الأمور إذا انسدت مسالكها
فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
{ قال فيها تحيون } [الأعراف: 25]؛ أي: في المحبة، وصدق الطلب، وقرع باب الفزع بالصبر والثبات على العبودية، { وفيها تموتون } [الأعراف: 25] في طلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة، { ومنها تخرجون } [الأعراف: 25] إلى عالم الحقيقة يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تحشرون ".
ثم أخبر عن منه على الناس باللباس بقوله تعالى: { يبني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا } [الأعراف: 26] إلى قوله: { ما لا تعلمون } [الأعراف: 28]، الإشارة فيها: أن لكل جزء من أجزاء الإنسان لباسا يواري سوءة ذلك الجزء من ظاهره وباطنه، فقال تعالى: { يبني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم } فهو لباس الشريعة فيواري سوءة الأفعال القبيحة بأحكام الشريعة في الظاهر سوءة الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن.
{ وريشا } [الأعراف: 26]؛ يعني: وليكون الشريعة زينة وجمالا لكم في الظاهر والباطن، { ولباس التقوى } [الأعراف: 26]، والتقوى: هو لباس القلب والروح والسر الخفي، فلباس القلب من التقوى: هو الصدق في طلب المولى فيواري به سوءة الطمع في الدنيا وما فيها، ولباس الروح من التقوى: هو محبة المولى فيواري به سوءة التعلق بغير المولى، ولباس السر من التقوى: هو رؤية المولى فيواري بها رؤية غير المولى، ولباس الخفي من التقوى: إبقاؤه بهوية المولى فيواري بها هويته وهوية غير المولى؛ ولهذا قال: ذلك خير؛ لأن لباس البدن بالفتوى وهو شريعة إلباس القلب بالتقوى وهو حقيقة.
{ ذلك من آيات الله } [الأعراف: 26]؛ أي: أنزل الشريعة والحقيقة مما يدل عليه المولى، { لعلهم يذكرون } [الأعراف: 26]؛ لكي يذكروا عزمهم عن لباس الوجود في عالم الشهود، { يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان } [الأعراف: 27] بالدنيا وما فيها ولا يضلنكم عن سبيل الله بإتباع الهوى،
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين
[آل عمران: 14]، فيخرجكم عن جنة الصدق في طلب الحق، { كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما } [الأعراف: 27] من الشرع وذلك نهيهما عن شجرة المحبة { ليريهما سوءاتهمآ } [الأعراف: 27] مخالفة وما علما أن فيها هذه الصفة ومن جملة سوءاتهما كل كمال ونقصان كان مستورا فيهما فأراهما بعد تناول الشجرة، { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [الأعراف: 27]؛ يعني: من الروحانيين الذين لا صورة لهما في الظاهر، فإنهم يرون بنظر الملكوتي الروحاني من الإنسان بعض الأفعال التي تتولد من أوصاف البشرية كما رؤوا في آدم
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] من حيث البشرية التي هي منشأ الصفات الحيوانية، وإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ العلوم للأسماء والمعرفة، فإنهم لا يرونكم في هذا المقام وأنتم ترونهم بنظر الروحاني بل النور الرباني.
{ إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون } [الأعراف: 27]؛ أي: خلقناهم مستعدين لتولية أمور أهل الغفلة والطبيعة الذين لا إيمان لهم بالله وطلبه ولا بالوصول إليه؛ ليزينوا لهم زخارف الدنيا وشهواتها، { وإذا فعلوا فاحشة } [الأعراف: 28] وهي طلب الدنيا وجها والحرص على جمعها، فإن أفحش الفواحش حب الدنيا؛ لأنه رأس كل خطيئة؛ والمعنى: إذا وقع أهل الغفلة في طلب الدنيا وزينتها والتمتع بها بتلقين الشيطان وتدبيره وتزينه، فيدعوهم داع إلى الله وطلبه وترك الدنيا وطلبها.
{ قالوا وجدنا عليهآ آباءنا } [الأعراف: 28]؛ يعني: على محبة الدنيا وشهواتها، { والله أمرنا بها } [الأعراف: 28]؛ أي: بطلبها بالكسب والحلال، { قل إن الله لا يأمر بالفحشآء } [الأعراف: 28]؛ أي: لا يأمر بحب الدنيا والحرص على جمعها، وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوة واللباس؛ ليقوم بأداء حقوق العبودية، { أتقولون على الله ما لا تعلمون } [الأعراف: 28]؛ أي: تفترون على الله ما لا تعلمون آفته ووبال عاقبته، ولا تعلمون أن ذلك من فتنة الشيطان وتزينه وإغوائه.
[7.29-31]
ثم أخبر عن أمر الحق أنه بالحق بقوله تعالى: { قل أمر ربي بالقسط } [الأعراف: 29] إلى { مهتدون } [الأعراف: 30].
والإشارة فيها: أن القسط في قوله تعالى: { قل أمر ربي بالقسط }؛ هو القسط إلى الله تعالى بجميع أسبابه النازلة من الله عز وجل { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } [الأعراف: 29]؛ يعني: استقيموا في التوجه إلى الله عند كل صلاة وطاعة { وادعوه مخلصين له الدين } [الأعراف: 29]؛ أي: اطلبوا منه ولا تطلبوا من غيره شيئا، فإن المخلص من يكون مقصده ومطلوبه ومحبوبه في كل حال من الأحوال قبل القيام بالطاعة وعند القيام بها وبعد الفراغ منها.
فإنكم { كما بدأكم تعودون } [الأعراف: 29]؛ يعني: كما بدأكم منه تعودون إليه إما باللطف، وإما بالقهر، فأما أهل الصدق فيعودون إليه على قدم الإخلاص، وصدق التوجه إلى الله تعالى وعدم الالتفات إلى ما سواه وهو قوله تعالى: { فريقا هدى } [الأعراف: 30]، وأهل النار يسبحون في النار على وجههم، فإنهم توجهوا إلى الدنيا وزخارفها على قدم الشرك فضلوا عن سبيل الله وكانوا { وفريقا حق عليهم الضلالة } [الأعراف: 30]؛ وذلك لأن من سيرتهم { إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله } [الأعراف: 30]، فإن الشياطين يتولون أمورهم على وفق طبعهم فيخرجونهم من نور الطاعة والعبودية إلى ظلمات الشرك والطبيعة فيغيرون بذلك، { ويحسبون أنهم مهتدون } [الأعراف: 30] فيؤديهم الحسبان دركات النيران.
ثم أخبر عن سبيل الرشاد للعباد بقوله تعالى: { يابني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [الأعراف: 31]؛ أي: عند كل طاعة ظاهرة وباطنه، قرينة الظاهر التواضع والخضوع، وزينة الباطن الانكسار والخشوع، وقد يقال: زينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود، فالعابد على الباب بنعت العبودية والعارف على البساط بحكم الحرية فشتان بين عبد وعبد، { وكلوا واشربوا } [الأعراف: 31]؛ أي: وكلوا مما يأكلون أهل البيان في مقام العندية، واشربوا مما يشربون، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقين ".
{ ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [الأعراف: 31]، والإسراف نوعان: إفراط، وتفريط، فالإفراط: ما يكون فوق الحاجة الضرورية، أو على وفق الطبع والشهوة، أو على الغفلة، أو على ترك الأدب بالشره، أو على غير الذكر، والتفريط: أن ينقص من قدر الحاجة الضرورية ويقصر في حفظ القوة والطاقة للقيام بحق العبودية، أو يبالغ في أداء حق الربوبية بإهلاك نفسه فيضيع حقها، أو فيضيع حقوق الربوبية بحظوظ نفسه، أو يطبع حقوق القلب والروح والسر الذي هو مستعد لحصولها بحظوظ النفس؛ فالمعنى: لا تسرفوا لا تضيعوا حقوقنا ولا حقوقكم بحظوظكم.
[7.32-33]
قوله تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [الأعراف: 32]، يشير إلى أن من يمنعكم من كمالات أخرجها الله من غيب الغيب لخواص عباده من الأنبياء والأولياء، ومن حرم عليكم نيل هذه الكرامات والمقامات، فمن تصدى لطلبها وسعي لها سعيها في مباحة له من غير تأخير ولا قصور، وإضافة الزينة إلى الله تعالى؛ لأنه أخرجها من خزائن ألطافه وحقائق أعطافه، فزين الأبدان بالشرائع وآثارها، وزين النفوس بالآداب وأقدارها، وزين القلوب بالشواهد وأنوارها، وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها وبالطوالع وأثمارها، وزين الظواهر بآثار التوفيق، وزين البواطن بأنوار التحقيق، وزين الظواهر بآثار الجود، وزين الباطن بأنوار الشهود، وزين الظواهر بآثار الجود، وزين البواطن بأنوار الوجود والطيبات من الرزق، إن أرزاق النفوس بحكم أفضاله، وأرزاق القلوب بموجب إقباله، والطيبات من الرزق على الحقيقة ما لم يكن مشوبا بحقوق النفس وحظوظها، ويكون خالصا من مواهب الحق وحقوقه.
{ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } [الأعراف: 32]؛ أي: هذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادة في الدنيا مشوبة بشوائب الآفات النفسانية، وكدورات الصفات الحيوانية، { خالصة يوم القيامة } [الأعراف: 32] من هذه الآفات والكدور كما قال تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل
[الأعراف: 43]، { كذلك نفصل الآيات } [الأعراف: 32] أي: نبين الباطل ونظهر بشواهد الحق، { لقوم يعلمون } [الأعراف: 32] الحق والباطل ونبين لهم الحق.
ثم أخبر عن ما حرم بقوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش } [الأعراف: 33]، الإشارة فيها: أن أعمال الظواهر وأعمال البواطن معتبرة في طلب الحق تعالى والسلوك إليه بقوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ، والفواحش: ما يقطع العبد عن طريق الرب ويمنعه عن السلوك إليه فيه، ففاحشة العوام: ما ظهر منها ارتكاب المناهي وما بطن خطورها بالبال، وفاحشة الخواص: ما ظهر منها لأمة كل زمان مستحقة لدخول النار.
ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار
[الأعراف: 38]، وإنما قدم الجن على الإنس؛ لتقدمهم عليهم في الخلقة، وذلك أن الله تعالى لما خلق الجن جعل منه حكمة؛ فمنهم: مؤمن، ومنهم: كافر، فلما استولى أهل الكفر منهم على أهل الإيمان وغلبوهم بالحرب والقتال حتى استأصلوهم بعث الله إليهم جندا من الملائكة، قيل: كان رئيسهم إبليس، فسلطهم الله عليهم حتى أهلكوا جميعهم، ثم خلق الله تعالى آدم عليه السلام بعدهم فخلق منه ذريته فكان منهم كافر: كقابيل، ومنهم مؤمن: كهابيل إلى أن كان في كل زمان منهم أمة كافرة مستحقة لدخول النار، وأمة مؤمنة مستحقة لدخول الجنة حتى الآن وإلى انقراض العالم؛ لقوله تعالى:
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن
[التغابن: 2].
وقال تعالى:
كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
[الأعراف: 29-30]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله الله ".
[7.38-41]
فقال في الأزل للأمة المستحقة للنار في كل زمان: { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم } [الأعراف: 38]؛ أي: في الأزمنة الماضية على الجن والإنس، فالمخاطبون بهذا الخطاب والمأمورون بهذا الأمر معنيون في علم الله، معدودون وهم غير مخلوقين بعد، فلا يزيدون ولا ينقصون ولا يتجاوزون عما أمروا وهم يدخلون النار على أقدام الأعمال التي هي الموجبة للنار التي سبقت الأمة المتقدمة، { كلما دخلت أمة } [الأعراف: 38] في أعمال أهل النار { لعنت أختها } [الأعراف: 38]؛ يعني: الأمة التي سبقت إلى هذه الأعمال قبلها، { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } [الأعراف: 38]؛ أي: حتى تداركوا الكل في الأعمال الموجبة للنار واجتمعوا في النار، { قالت أخراهم لأولاهم } [الأعراف: 38]؛ أي: التابعة للمتقدمة عليها في كل زمان، { ربنا هؤلاء أضلونا } [الأعراف: 38] عن سبيل الحق وقطعوا علينا طريقنا إليك بأفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وسنتهم التي سنوها.
{ فآتهم عذابا ضعفا من النار } [الأعراف: 38]؛ يعني: مضاعفا مما تؤتينا من العذاب؛ لأنهم سنوا هذه السنة السيئة، وقال صلى الله عليه وسلم:
" من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "
{ قال لكل ضعف } [الأعراف: 38] من العذاب؛ يعني: للمتقدمين والمتأخرين؛ لأن المتقدم متأخر أسن سنة، وكل متأخر هو متقدم لمتأخر به فيسنون بسنته، { ولكن لا تعلمون } [الأعراف: 38] أيها المتأخرون أنكم متقدمون بمتأخريكم، { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } [الأعراف: 39]؛ لأنكم سننتم لأخراكم كما سننا لكم وكنتم قادتهم كما كنا قادتكم، { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } [الأعراف: 39] من السنة السيئة ولا تكسبون من السنة الحسنة التي سنها الأنبياء - عليهم السلام - { إن الذين كذبوا بآيتنا } [الأعراف: 40]؛ وهي السنن الحسنة المنزلة على الأنبياء، وما أظهره الله تعالى على الأولياء من الكرامات والعلوم اللدنية فأنكروها.
{ واستكبروا عنها } [الأعراف: 40]؛ أي: تكبروا عن قبولها والإيمان بها، { لا تفتح لهم أبواب السمآء } [الأعراف: 40]؛ أي: أبواب سماء القلوب إلى الحضرة، { ولا يدخلون الجنة } [الأعراف: 40] جنة القربة والوصلة، { حتى يلج الجمل } [الأعراف: 40] جمل النفس المتكبرة، { في سم الخياط } [الأعراف: 40]، وهو مدخل الطريقة التي تربي النفوس الأمارة وتزكيها؛ لتصير مطمئنة فتستحق بها خطاب:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]؛ فالمعنى: النفس المتكبرة لما صارت كالجمل؛ لتكبرها لا تصلح لدخول جنة الحقيقة إلا بعد تزكيتها بأحكام الشريعة وآداب الطريقة؛ حتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فتلج في سم خياط الفناء فتدخل الجنة جنة البقاء، فافهم جدا.
{ وكذلك نجزي المجرمين } [الأعراف: 40] الذين أجرموا على أنفسهم الضعيفة اللطيفة حتى صارت من الأوزار كالجمل، بأن يجعل لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراشا وهو قوله تعالى: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } [الأعراف: 41]؛ يعني: من مخالفات النفس وقمع الهوى يكون فراشهم ولحافهم، حتى تحيط بهم فتذيبهم وتحرق عنهم أنانيتهم مع أثقال أوزارهم ليستحقوا دخول الجنة، { وكذلك نجزي الظالمين } [الأعراف: 41]؛ يعني: بهذه الطريقة تضع عنهم أوزارهم وترد مظالمهم في الدنيا؛ ليردوا القيامة مستعدين لدخول الجنة، ومن لم يجز في الدنيا بهذه الطريقة فيجزى في الآخرة كما قال تعالى:
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون
[السجدة: 21].
[7.42-46]
ثم أخبر عن أحوال أهل الجنة بعد أهوال النار بقوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الأعراف: 42] إلى قوله: { وهم بالآخرة كافرون } [الأعراف: 45]، والإشارة فيها: أن الله تعالى بفضله وكرمه خفف عن أنفس أهل الغاية الإيمان والطاعة فقال: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها } [الأعراف: 42]، رفعنا عن ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل فسيرنا عليهم العبودية بحسن التوفيق.
{ أولئك أصحاب الجنة } [الأعراف: 42]؛ أي: الذي خلقناهم للجنة مستعدين للسير إليها بأقدام الطاعات، { هم فيها خالدون } [الأعراف: 42] إذ خلقوا لها، { ونزعنا ما في صدورهم من غل } [الأعراف: 43]؛ أي: بنور قذفناه في قلوبهم وهو نور الإيمان فشرحنا صدورهم للإسلام بضوئه، { ونزعنا ما في صدورهم } من ظلمة صفات البشرية وهي: الغل، فأخرجناهم من الظلمات إلى النور، وبدلنا أخلاقهم الدنيئة الذميمة بالأخلاق العلية الحميدة، وطهرنا قلوبهم بالإيمان والعمل الصالح، وأرواحهم بماء العرفان، وأسرارهم بشراب طهور تجلي صفات الجمال وجعلناهم
إخونا على سرر متقبلين
[الحجر: 47]؛ أي: إخوانا في الله على سرر من السرور بالله، متقابلين لألطاف الله وشهود أنوار الغيب وكشوف أسرار الحق تعالى.
{ تجري من تحتهم الأنهر } [الأعراف: 43]؛ أي: تجري من تحت أسرارهم أنهار الحكمة وعيون المعرفة، { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } [الأعراف: 43] اعترافا منهم وإقرارا على أنفسهم بأنهم ينالوا ما نالوا، ولم يصلوا إليه من جزيل تلك العطيات وعظيم تلك المواهب والرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم؛ وإنما ذلك جمع ابتداء فضل منه ورحمة، { لقد جآءت رسل ربنا بالحق ونودوا } [الأعراف: 43] في أسرارهم: { أن تلكم الجنة أورثتموها } [الأعراف: 43] يا أهل المحبة من أهل السهو والغفلة، { بما كنتم تعملون } [الأعراف: 43] وتطلبون ما تحبون في متابعة الحبيب فوجدتم ما طلبتم، وإنهم لا يعملون بما يعلمون ويطلبون ما يحبون من الدنيا وشهواتها فيجدون دركات السفلى ونهاية البعد.
{ ونادى أصحاب الجنة } [الأعراف: 44]؛ أي: أرباب المحبة، { أصحاب النار } [الأعراف: 44]؛ يعني: أهل نار القطيعة، { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } [الأعراف: 44]؛ أي: فيما قال: ألا من طلبني وجدني، { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } [الأعراف: 44]؛ أي: فيما قال: من يطلب غيري لم يجدني، { قالوا نعم } [الأعراف: 44] فأجابوهم: بل وجدنا حقا، { فأذن مؤذن } [الأعراف: 44] العزة والعظمة، { بينهم أن لعنة الله على الظالمين } [الأعراف: 44] الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه، وصرفوه في غير مصرفه، { الذين يصدون } [الأعراف: 45]؛ أي: هم الذين يصدون القلب والروح، { عن سبيل الله } [الأعراف: 45] وطلبه، { ويبغونها عوجا } [الأعراف: 45]؛ أي: يصرفون وجوههم إلى الدنيا وما فيها، { وهم بالآخرة كافرون } [الأعراف: 45]؛ أي: وهم منكرون على أهل المحبة فيما يطلبون فيما تأخر عن حسهم وهم يطلبون ما يدركون بالحواس الظاهرة دون ما في الآخرة.
ثم أخبر عما بين الفريقين من الحجاب بقوله تعالى: { وبينهما حجاب } [الأعراف: 46] إلى قوله:
ولا أنتم تحزنون
[الأعراف: 49]، الإشارة فيها: أن بين أهل النار وأهل الجنة حجابا وهو من أوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية، فلا يرى أهل النار أهل الجنة من وراء ذلك الحجاب، وبين أهل الجنة وأهل الله وهم أصحاب الأعراف حجابا وهو من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة والروحانية، فلا يرى أهل الجنة أهل الله تعالى من وراء ذلك الحجاب، كما قال تعالى: { وبينهما حجاب } ، { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } [الأعراف: 46] من آثار نور القلب وظلمته، وسميت الأعراف أعرافا؛ لأنها مواطن أهل المعرفة، إنما سمي الله تعالى أهل المعرفة رجالا؛ لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه؛ لقوله تعالى:
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37].
وحيث ما ذكر الله تعالى الخواص ذكرهم برجال كقوله تعالى:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
[الأحزاب: 23]، وكقوله تعالى:
رجال يحبون أن يتطهروا
[التوبة: 108]؛ لأن وجه الامتياز بين الخواص والعوام بالرجولية في طلب الحق وعلو الهمة، فإن أصحاب الأعراف بعلو همتهم ترقوا عن حضيض البشرية ودركات النيران وصعدوا على ذروة الروحانية ودرجات الجنان، وما التفتوا إلى نعيم الدارين وما ركنوا إلى كمالات المنزلين؛ حتى عبروا على المكونات وأقاموا على الأعراف وهي: مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن، وهم مشرفون على أهل الجنة والنار، فلما رأوا أهل الجنة وهم
في شغل فاكهون
[يس: 55] وقد شغلوا بنعيمها على المولى، { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } [الأعراف: 46]؛ يعني: هنيئا لكم؛ يعني: ما أنتم فيه من النعيم المقيم والقصور.
ثم أخبر عن همة أصحاب الأعراف فقال تعالى: { لم يدخلوها وهم يطمعون } [الأعراف: 46] نعيم الجنة ودرجاتها، ولم يركنوا إلى شيء منها فعبروا عليها ولم يدخلوها، وهم على الأعراف يطمعون في الوصول إلى الله تعالى والدخول في الجنة التي أضافها الله تعالى إلى نفسه بقوله:
وادخلي جنتي
[الفجر: 30].
[7.47-51]
{ وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار } [الأعراف: 47] ابتلاء ليريهم أنه تعالى من أي دركة خلصهم؟ وبأي كرامة اختصهم؟ فيعرفوا قدر ما أنعم الله عليهم، ومن هذا القبيل يكون ما سنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية ، وما ابتلاهم الله بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق؛ ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله تعالى في الخلوات.
ففي أداء الشكر ورؤية النعمة { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } [الأعراف: 47] بعد أن خلصتنا من أوصافهم وأخلاقهم ودركاتهم ومما هم فيه لا تجعلنا مرة أخرى من جملتهم ولا تدخلنا في زمرتهم، { ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا } [الأعراف: 48]؛ يعني: الفريقين، { مآ أغنى عنكم جمعكم } [الأعراف: 48] يا أهل النار من الدنيا وزخارفها للخلاص من النار، { وما كنتم تستكبرون } [الأعراف: 48] عن قول: لا إله إلا الله، ويا أهل الجنة من الطاعات ورؤيتها من الخلاص من الجنة، { وما كنتم تستكبرون } عن السر في حقيقة لا إله إلا الله.
ثم يقول الله تعالى: { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله } [الأعراف: 49] يا أهل الجنة، { برحمة } [الأعراف: 49] من الوصول والوصال، وذلك أن من المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات يقولون لأهل المحبة والمعرفة وأرباب الطلب من دناءة هممهم: إن أحدا منكم لا ينال درجة الوصول ومرتبة الوصال ويقسمون على ذلك، ويا أهل النار برحمة من دخول الجنة.
ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف: { ادخلوا الجنة } [الأعراف: 49]؛ أي: الجنة المضافة إلي في حظائر القدس وعالم الجبروت، { لا خوف عليكم } [الأعراف: 49] من الخروج منها، { ولا أنتم تحزنون } [الأعراف: 49] على ما فاتكم من نعيم الجنة؛ إذ فزتم بشهود جمالنا ووجود وصالنا.
فاعلم أن أهل الجنة وأهل النار يرون أهل الله وهم: أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين، فإذا دخلوا جنة الحقيقة المضافة إلى الله تعالى في سرادقات العزة وعالم الجبروت انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقربين، فافهم جيدا.
وقد حكي عن أبي جعفر الأبهري أنه دخل على أبي طاهر الهمداني فقال: أين كنت فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك؟ ثم قال أبا طاهر: صدقت كنت على الباب مع الخواص، وكنت داخلا مع الأخص فما رأيتني!
ثم أخبر عن مقامات الفريقين بعد تفرد حالات أهل الله بقوله تعالى: { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } [الأعراف: 50] إلى قوله تعالى:
وضل عنهم ما كانوا يفترون
[الأعراف: 53]، الإشارة فيها: أنه تعالى بعد ذكر أصحاب الأعراف وما أنالهم من الهمم العلية وأنهم لم يدخلوا الجنة وطمعوا فيما عند الله، ذكر حالة أهل الجنة وأهل النار ومعالمهم وإنهم على قدر هممهم فيما يتناظرون على ما يتفاضلون.
فقال تعالى: { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله } [الأعراف: 50]؛ يعني: من الطعام، فإنهم كما كانوا في الدنيا عبيد البطون حريصين على الطعام والشراب؛ حتى ماتوا على ما عاشوا فيه فحشروا على ما ماتوا عليه، وإن أهل الجنة لما أطالوا الجوع والعطش في الدنيا وإنما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات الأنفس ومضايقهم بها، { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } [الأعراف: 50]، وفي الحقيقة: إن الله حرمهما عليهم حين حرم عليهم توفيق معاملات تورثهم الجنة وما فيها، وهم { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا } [الأعراف: 51]، عند عدم التوفيق للطاعة اتخذوا الدنيا وشهواتها دنيا، يعبدون الدنيا ويلعبون فيها، وباللهو يشتغلون، { وغرتهم الحيوة الدنيا } [الأعراف: 51] وزينتها عن الله وطلبه وعن الآخرة والسعي لها، فقال تعالى: { فاليوم ننسهم } [الأعراف: 51]، واليوم هو يوم اللقاء.
{ كما نسوا لقآء يومهم هذا } [الأعراف: 51]؛ أي: نسوا طلبنا وطلب ما عندنا لما كان عندهم من الدنيا، { وما كانوا بآيتنا يجحدون } [الأعراف: 51]؛ يعني: بما كانوا ينكرون على أهل كمالات الدين، ويجحدون بما أعطيناهم من الكرامات والمقامات.
[7.52-54]
{ ولقد جئناهم } [الأعراف: 52]؛ يعني: لهؤلاء المنكرين كما جئنا للمؤمنين، { بكتاب فصلناه على علم } [الأعراف: 52]؛ أي: بقرائن مبينا فيه من العلوم ما يكون، { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } [الأعراف: 52] به ويهتدون به، فاهتدى المؤمنين به إلى الله، وضل المنكرون والجاحدون به عن الله، { هل ينظرون } [الأعراف: 53]؛ أي: هل ينتظرون الفريقان { إلا تأويله } [الأعراف: 53]؛ أي: ما تؤول إليه عاقبته في شأنهم، فأما المؤمنين فيكشف عنهم الغطاء ويرش عليهم العطاء؛ ليجدوا الشفاء من محنة البعاد، وينالوا الضياء بقرب الوداد، ويصلوا في الدنيا والعقبى؛ أي: جميل المراد، وما لأهل الجحود والإنكار إلى العزة في قسمهم إلا الذلة والافتقار، وفي الآخرة إلا العذاب الشديد في دركات النار، { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } [الأعراف: 53] فإذا كشف جلال الغيب وانتفى عن قلوبهم أغطية الدين فلا بكاء لهم ينفع، ولا دعاء لهم يسمع، ولا شكوى عنهم ترفع، ولا شافع لهم يشفع، ولا دافع عنهم العذاب يدفع، ولا البلوى من دونهم تقطع، { قد خسروا أنفسهم } [الأعراف: 53] بإفساد استعداد نيل الكمالات، وتاهوا في تيه الضلال، { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [الأعراف: 53] من هواجسهم النفسانية ووساوسهم الشيطانية في طلب الدنيا ومتابعة الهوى.
ثم أخبر عن عزة ربوبيته وقدرة ألوهيته بقوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام } [الأعراف: 54]، الإشارة فيها: أن الله تعالى يعرف ذاته إلى الخلق بصفاته وهي: الربوبية، والإلوهية، والقادرية، والخالقية، والمدبرية، والحكيمية، والاستوائية، فقال تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [الأعراف: 54]، فيشير إلى أن الذي هو ربكم وسيدكم الذي تجب طاعته عليكم لربوبيته هو: الله المستحق للعبادة بالإلوهية، الذي خلق بالقادرية والخالقية السماوات والأرض بالمدبرية والحكيمية خلقها في ستة أيام، وإنما حصر في ستة أيام؛ لأن أنواع المخلوقات ستة وهي:
الأول: الأرواح المجردة.
والثاني: الملكوتيات، فمنها: الملائكة، والجن، والشياطين، وملكوت السماوات، ومنها: العقول المفردات والمركبات.
والثالث: النفوس: كنفوس الكواكب، ونفس الإنسان، ونفس الحيوان، ونفس النبات والمعادن.
والرابع: الأجرام والبساط العلوية من الأجسام اللطيفة كالعرش، والكرسي، والسماوات، والجنة والنار.
والخامس: الأجسام المفردة وهي: العناصر الأربعة.
والسادس: الأجسام المركبة الكثيفة من العناصر فتصير عن خلق كل نوع منها بيوم، وإلا فالأيام الزمانية كونها مستحيل قبل خلق السماوات والأرض، فلما أتم خلق المكونات من الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه التدبير في أموره من العرش إلى تحت الثرى، وإنما اختص العرش بالاستواء؛ لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابل للفيض الرحمانية.
واعلم أن الاستواء صفة من صفاته تعالى لا تشبه استواء المخلوقين، كالعلم صفة من صفاته تعالى لا يشبه علم المخلوقين؛ إذ
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى: 11]، ولو أمعنت النظر في خصوصية خلافتك عن الحق تعالى لعرفت نفسك فعرفت ربك، وذلك أن الله تعالى لما أراد خلق شخصك من النطفة المودعة في الرحم استعمل روحك بخلافته؛ ليتصرف في النطفة أيام الحمل فيجعلها عالما صغيرا مناسبا للعالم الكبير، فيكون بدنه بمثابة الأرض، ورأسه بمثابة السماء، وقلبه بمثابة العرش، وسره بمثابة الكرسي، وهذا كله بتدبير الروح وتصرفه خلافة عن ربه، ثم استوى الروح بعد استواء من الشخص الكامل على عرش القلب استواءا لا مكانيا لا استواءا مكانيا؛ ليتصرف في جميع أجزاء الشخص ويدبر أموره بإفاضة فيضه على القلب، فإن القلب هو: القابل لفيض الروح، ثم يفيض على سائر الأعضاء، كما أن من العرش ينصب الفيض الإلهي إلى سائر المخلوقات، فالعرش مقسم فيض الحق تعالى إلى المخلوقات كلها، كما أن القلب مقسم فيض الروح إلى القالب كله، فإذا تأملت في هذا المثال تأملا شافيا وجدته في نفي التشبيه عن الصفات المنزهة المقدسة كافيا، وتحققت حقيقة: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " - إن شاء الله تعالى - فيقول تعالى: { يغشي اليل النهار يطلبه حثيثا } [الأعراف: 54]، يخبر عن تصرفاته في المماليك بالمدبرية عند استوائه على العرش، وفيه إشارة إلى ليل ظلمات النفس عند استيلاء صفاتها وغلبات هواها على نهار أنوار القلب، وإلى نهار القلب في غلبات أنواره واستيلاء المحبة عليه.
{ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } [الأعراف: 54]؛ عنى بالأمر الخطاب بلا واسطة، كما خاطب النار
ينار كوني بردا وسلما
[الأنبياء: 69] بلا واسطة، فكانت؛ يعني: هذه العلويات مدبرات السفليات ومؤثرات فيها؛ لأنها مسخرات بأمرنا بلا واسطة، وهن واسطة بيننا وبين السفليات كتابة للقدرة وإيصالا للتصرف، كما أن يعني حركة القلم بأمر الكاتب بلا واسطة، والكتابة بواسطة القلم تصدر عن الكاتب، { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } [الأعراف: 54]، فسمي ما خلق بأمره من غير واسطة أمرا، وما خلق بواسطة خلقا، وقال تعالى: { ألا له الخلق والأمر }؛ أي: له القدرة والتصرف في العالمين بالربوبية ما خلق بالواسطة وما خلق بغير واسطة.
[7.55-58]
ثم أخبر عن رفع الوسائط أخذا بالحقائق بقوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } [الأعراف: 55] إلى قوله: { تذكرون } [الأعراف: 57].
الإشارة فيها: إنه تعالى لما رفع حجب الوسائط بينه وبين العباد بقوله:
ألا له الخلق والأمر
[الأعراف: 54] أمرهم بالرجوع في الحاجات إليه، والتضرع في المناجات بين يديه، فقال: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } ، والتضرع: ما يطلع عليه الخلق، والخفية: ما يطلع عليه الحق؛ أي: تضرعا بالجوارح وخفية بالقلوب، وفيه معنى آخر: ادعوا من ربكم بربكم تضرعا قياما بأداء حق العبودية وخفية بمطالعة حق الربوبية، { إنه لا يحب المعتدين } [الأعراف: 55] الاعتداء في الدعاء: طلب الغير منه والرضا بما سواه، { ولا تفسدوا في الأرض } [الأعراف: 56] في أرض القلوب، { بعد إصلاحها } [الأعراف: 56]؛ أي: بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط بينه وبين القلوب وفساد القلوب في رؤية غير الحق.
ويقال: من إفساد القلوب بعد إصلاحها إرسالها في أودية المنى بعد إمساكها عن متابعة الهوى، ومن ذلك الرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، { وادعوه خوفا وطمعا } [الأعراف: 56]؛ أي: لا تدعوا أحدا غيره في الخوف والرجاء فإنه الذي يجيب ويرجى؛ لأنه الضار والنافع والمعطي والمانع والمعز والمذل، وأيضا { وادعوه خوفا } من الانقطاع، { وطمعا } في الاصطناع، وأيضا: خوفا من الاثنينية، وطمعا في الوحدة.
{ إن رحمت الله } [الأعراف: 56] بذل هذه الملتمسات، { قريب من المحسنين } [الأعراف: 56] الذين يذوقون الله في الطاعات؛ أي: يعبدونه طمعا فيه لا منه، { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } [الأعراف: 57]؛ أي: رياح العناية فينشر سحاب الهداية، { حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت } [الأعراف: 57]؛ أي: كل قلب ميت، { فأنزلنا به المآء } [الأعراف: 57] المحبة، { فأخرجنا به من كل الثمرات } [الأعراف: 57]؛ وهي المشاهدات والمكاشفات وأنواع الكمالات، { كذلك نخرج الموتى } [الأعراف: 57] موتى القلوب من قبور الصدور، { لعلكم تذكرون } [الأعراف: 57]؛ أي: تذكروا أيام حياتكم في عالم الأرواح؛ إذ كنتم تردون حياض الأنس ورياض القرب عند حظائر القدس.
ثم أخبر عن البلد الطيب بقوله تعالى: { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } الإشارة فيها: أن البلد الطيب هو القلب الحي الذي أحياه الله،
وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمت
[الأنعام: 122]؛ أي: يعامل الخلق بأنوار أخلاقه الحميدة، { والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } [الأعراف: 58]، يشير به إلى: أرض النفوس الأمارة التي لا يخرج منها إلا الأخلاق الذميمة والأفعال الرديئة، فمن كان حيا بنور الله ينعكس نور قلبه على نفسه، فتنورت النفس فتبدلت أوصافها بأوصافه وتلاشت ظلمتها بنور القلب فتطمئن إلى ذكر الله وطاعته، كما هو من أوصاف القلوب كقوله تعالى:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28]، وإن كان القلب ميتا والنفس حية فظلمات صفات النفس تطل على القلب، وتبدل صفاته بصفاتها عند استيلاء صفاتها عليه فتجعل اطمئنانه بالدنيا وما فيها.
{ كذلك نصرف الآيات } [الأعراف: 58]؛ أي: تصرف النفوس أوصافها إلى أوصاف القلب وأخلاقه، { لقوم يشكرون } [الأعراف: 58]؛ أي: يعرفون قدر إنعامنا وأفضالنا في تصريف أوصاف النفس إلى أخلاق القلب، وتصريف أخلاق القلب إلى أنوار أخلاقنا فتشكروننا على ما أظهرنا من آياتنا.
[7.59-64]
ثم أخبر عن الذي خبث بقوله تعالى: { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } [الأعراف: 59] إلى قوله: { إنهم كانوا قوما عمين } [الأعراف: 64]، الإشارة فيها: أن قوله تعالى: { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } يشير إلى: قوم لهم أرض نفس خبيثة، فمن خبائثها ما نفعتها أمطار الدعوة النوحية مدة أيام حياته ألف سنة إلا خمسين عاما، وما أخبثها إفاضة الوعد والوعيد، { فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الأعراف: 59]؛ أي: عظيم نفعه وضره، فإن من انتفع فيه انتفع برب عظيم، فما أنجع فيهم ما أظهر من الدلالة؛ لأن المحروم لا تنجيه الدلالة من الضلالة.
{ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين } [الأعراف: 60] نسبوه إلى الضلالة؛ لأنهم نظروا إليه بنظر الضلالة فرأوا الحق ضلالة والضلالة حقا، { قال يقوم ليس بي ضللة } [الأعراف: 61]؛ أي: بكم الضلالة عن الحق، { ولكني رسول من رب العلمين * أبلغكم رسالات ربي } [الأعراف: 61-62] في الوعد والوعيد { وأنصح لكم } [الأعراف: 62] لكم بالدعوى لكم من الدنيا إلى العقبى، ومن العقبى إلى المولى، { وأعلم من الله ما لا تعلمون } [الأعراف: 62]؛ أي: من طلبه وجده، ومن طلب غيره لم يجده، { أوعجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم } [الأعراف: 63] وهو نظر العناية لأهل الهداية، { على رجل منكم } [الأعراف: 63]؛ أي: مثلكم في الإنسانية والبشرية. { لينذركم } [الأعراف: 63] ويوقظكم من نوم الغفلة { ولتتقوا } [الأعراف: 63] عما يقطعكم عن الله، { ولعلكم ترحمون } [الأعراف: 63] بالوصلة عن الفرقة { فكذبوه } [الأعراف: 64] فيما دعاهم إليه بسوء حظهم، { فأنجيناه } [الأعراف: 64] من ظلمات كفرهم وشؤم ضلالتهم، { والذين معه في الفلك } [الأعراف: 64] فمن كان له أرض النفس طيبة أنبتت لهم زرع الإيمان بأمطار الدعوى؛ ففازوا بأزهار النجاة وإثمار الدرجات والقربات، { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ إنهم كانوا قوما عمين } [الأعراف: 64]؛ أي: لأنهم كانوا قوما عمين عن رؤية آياتنا فما استحقوا لرؤيتنا ولا لطلبنا ولا لقبولنا، وفيه إشارة إلى نوح الروح الذي أرسله إلى قومه ببلاء القلب وهم القلب وصفاته، والنفس وصفاتها.
ومن صفة الروح: العبودية، والطاعة، ودعوة القلب والنفس وصفاتهما إلى الله تعالى وعبوديته.
ومن صفات النفس وشأنها: تكذيب الروح ومخالفته، والإباء عن قبول النصيحة، والتعجب والاستبعاد عما يلاحظ الله به الروح ويكرمه بالإنذار؛ ليتقوا قومه من عبادة الدنيا وزينتها لئلا تحرموا عن مساعدة الرحمة ومواصلة القربة، فكذبوه قومه من النفس وصفاتها، { فأنجيناه }؛ أي: الروح من ظلمات النفس وتمردها، { والذين معه } وهم القلب وصفاته الذين قبلوا دعوة نوح الروح وركبوا معه في الفلك وهو فلك الشريعة والدين، { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ }؛ أي: النفس وصفاتها في بحر الدنيا وشهواتها، { إنهم كانوا قوما عمين } عن رؤية الله والوصول إليه.
[7.65-72]
ثم أخبر عن قوم هود عليه السلام بقوله تعالى: { وإلى عاد أخاهم هودا } [الأعراف: 65]، القصة الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { وإلى عاد أخاهم هودا } إلى قوله: { الكاذبين } [الأعراف: 66]، إشارة إلى أن قلوب قوم هود أيضا نسخة خبيثة كما كانت لقوم نوح لم يخرج منها الأنكد، فلما أراد هود عليه السلام أن يبذر فيها بذر التوحيد والمعرفة لم تكن صالحة، فما خرج منها إلا نبت التشقية والتكذيب سلكوا طريق سلفهم وإخوانهم وسنوا بمثل حالهم، { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } [الأعراف: 65].
قال: { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يقوم ليس بي سفاهة } [الأعراف: 66-67]؛ أي: بكم السفاهة، { ولكني رسول من رب العلمين } [الأعراف: 67] وأنتم مكذبي لسفاهتكم، { أبلغكم رسلت ربي وأنا لكم ناصح أمين } [الأعراف: 68] فيما أدعوكم إلى الله، وإن من أسقطته القسمة لم تنفعه النصيحة، { أوعجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } [الأعراف: 69]؛ أي: يوقظكم من نوم الغفلة، ويخبر عن يوم الحسرة من قوت الدولة، فمن فرط الجهالة وغاية العنادة عجبوا من كون رجل سأل سؤلا، ولم يتعجبوا من كونهم جعلوا الصنم شريكا له!!
{ واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح } [الأعراف: 69] جعل الله الخلق بعضهم خلفا عن بعض، وجعل الكل خلفاء في الأرض ولا يفني جنسا منهم إلا أقام فوجا منهم في ذلك الجنس، فأهل الغفلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوما، وأهل الوصلة إذا انقرضوا خلف عنهم قوما، { وزادكم في الخلق بصطة } [الأعراف: 69] كما زاد قوما على من تقدمهم في بسطة الخلق، وكما وقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المعاني أوقع التفاوت بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني.
{ فاذكروا ءالآء الله } [الأعراف: 69]؛ أي: إذا لم تستحقوا لذكر الله فاذكروا نعمة الله عليكم، { لعلكم تفلحون } [الأعراف: 69] بذكر الله على الحقيقة، فلما لم يعرفوا قدر نعم الله، { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } [الأعراف: 70] جعلوا الآلهة من فرط جهالتهم وغاية ضلالتهم عدلا لله وشريكا له.
ثم قالوا من عكوفهم على التفرقة: { فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين } [الأعراف: 70] فشتان بين من لا يخرج من عنق التفرقة، ومن لا يجد لحظة عن ستر التوحيد فلا يعبد إلا واحدا، وكما لا يعبد إلا واحدا لا يشهد إلا واحدا، كما قال قائلهم: لا يهتدي قلبي إلى غيركم؛ لأنه سد عليه الطريق، قال: يعني هود في جوابهم، { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } [الأعراف: 71]؛ أي: مقالتكم تدل على حالتكم أنه أحيا بكم سطوات غضب الله وسخطه، فإن من علامات الغضب: الإعراض، ومن إمارات الإعراض والبعد إلى شهود الأغيار وتفريقه إياه في بحار الظنون؛ إذ لا تحصل للأغيار في معنى الإثبات، { ما نزل الله بها من سلطان } [الأعراف: 71].
{ أتجدلونني في أسمآء سميتموهآ } [الأعراف: 71] الآلهة، { أنتم وآبآؤكم } [الأعراف: 71] من غير أن يكون معكم من الله في ذلك حجة وبرهان، فانتظروا معاملتكم مع الله من الله، { إني معكم من المنتظرين } [الأعراف: 71]؛ يعني: جزاء معاملتكم وجزاء معاملتي، { فأنجيناه والذين معه برحمة منا } [الأعراف: 72]؛ يعني: جازيناهم على معاملتهم، { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين } [الأعراف: 72]؛ يعني: وجازيناهم على معاملتهم بإهلاكهم، { وما كانوا مؤمنين } ، وفيه إشارة إلى أن هود عليه السلام مع رتبته في النبوة ودرجته في الرسالة إنما نجا برحمة الله هو والذين آمنوا معه؛ ليعلم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون ابتداء فضل من الله ورحمة، فما نجا من نجا إلا بفضل الحق سبحانه.
[7.73-77]
ثم أخبر عن ثمود أنهم كانوا مثل قوم هود بقوله تعالى: { وإلى ثمود أخاهم صالحا } [الأعراف: 73]، الإشارة فيها: أن الله تعالى غاير بين الرسل من حيث الشرائع، وجمع بينهم في التوحيد، فقال: { وإلى ثمود أخاهم صالحا } ، { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 73] أمرهم بالعبودية، وأخبرهم عن الوحدانية في الألوهية والشرائع التي هي عبادات مختلفة، والكل مأمورون بالتوحيد على نسق واحد من أجزاء سنة الله تعالى إرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات كما قال: { قد جآءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية } [الأعراف: 73] على نسق، فالمعجزة للعوام: أن يخرج لهم من حجارة الصخرة ناقة عثراء، والمعجزة للخواص: أن يخرج من حجارة القلب ناقة السر عثراء بشعب سر السر وهي الخفي، وناقة الله تعالى التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القلب من القوى الحواس لبن الواردات الإلهية.
{ فذروها تأكل في أرض الله } [الأعراف: 73]؛ أي: ترتع في رياض القدس، وتشرب من حياض الأنس، { ولا تمسوها بسوء } [الأعراف: 73] مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة، { فيأخذكم عذاب أليم } [الأعراف: 73] بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة، { واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد } [الأعراف: 74]؛ يعني: من بعد هلاك عاد جعلكم خلفاء؛ لتستعيدوا حقيقة الخلافة ما لم يستعد به عاد وقوم نوح، { وبوأكم في الأرض } [الأعراف: 74] أرض القلوب، { تتخذون من سهولها قصورا } [الأعراف: 74] سهولها الصدور والقصور هي المعاملات بالصدق والإخلاص وهي تبني القصور في الجنان، { وتنحتون الجبال بيوتا } [الأعراف: 74]؛ هي جبال أطوار القلب، والبيوت مقام السائرين إلى الله فيها.
{ فاذكروا آلآء الله } [الأعراف: 74] النعماء عامها وخاصها، فهذا يتضمن ترويح الظاهر، والثاني يتضمن التلويح في السرائر، والترويح بوجود المسار، والتلويح بشهود الأسرار، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [الأعراف: 74] بإفساد الاستعداد الفطري، { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } [الأعراف: 75] وهو الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة، { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [الأعراف: 75] من أوصاف القلب والروح، { أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } [الأعراف: 75] أي: صالح الروح مرسل بنفخة الحق تعالى إلى بلد القلب وساكنيه؛ ليدعوهم من الأوصاف الرذية السفلية الظلمانية الحيوانية إلى الأخلاق الحميدة فالعلوية النورانية الروحانية، { قالوا } [الأعراف: 75]؛ يعني: الأوصاف القلبية.
{ إنا بمآ أرسل به مؤمنون } [الأعراف: 75]؛ أي: متبعون مشفقون، { قال الذين استكبروا } [الأعراف: 76] من النفس وأوصافها، { إنا بالذي آمنتم به } [الأعراف: 76] أيتها الأوصاف القلبية، { كافرون } [الأعراف: 76] جاحدون منكرون، { فعقروا الناقة } [الأعراف: 77]؛ يعني: النفس وصفاتها، عقروا سر القلب بسكاكين مخالفات الحق والاستكبار، { وعتوا عن أمر ربهم } [الأعراف: 77] من التوحيد والمعرفة، { وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين } [الأعراف: 77] وهذا من صفات النفس الأمارة بالسوء وهواها إن لم يؤثر فيها النصح، وتجترئ على الله؛ لا الدليل تأملته، ولا السبيل لازمته، ولا النعمة عرفت قدرها، ولا المنة قدمت بشكرها.
[7.78-84]
{ فأخذتهم الرجفة } [الأعراف: 78] رجفة الموت، { فأصبحوا في دارهم جاثمين } [الأعراف: 78]؛ أي: دار قالبهم جاثمين، جاثمين جثوم الموت ولزوم الفوت، { فتولى عنهم } [الأعراف: 79] الروح العلوي، { وقال يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي } [الأعراف: 79]؛ يعني: أخبرتكم أيتها النفس وصفاتها عن الأخلاق الحميدة التي أرسله الله معي، { ونصحت لكم } [الأعراف: 79]؛ لتتصفوا بها وتتخلقوا بأخلاقي، { ولكن لا تحبون النصحين } [الأعراف: 79]؛ لأن قول الناصح ثقيل والحق مر، وهي تستفيد أن البغضة كما قال فافهم:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة
وقد يستفيد البغضة المستنصح
وذلك أيضا من حباته أرض النفس الخبيثة ألا تقبل بدر النصيحة ولم يتب فيها.
ثم أخبر عن قوم لوط عليه السلام وفواحشهم بقوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون } [الأعراف: 80-81]، الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه } الآيتين دالة على أن اللواطة فاحشة، وإسراف ما سبق الإنسان بها من الجن والشياطين والحيوانات كلها، وأنها أفحش الفواحش وأقبحها؛ لأن الله تعالى ما أمطر الحجار على أهل الذنوب العظام، مثل: الزنا والعقوق والسرقة والقتل بغير الحق وغير ذلك من الكبار حتى الشرك.
ومن معاملاتهم ما قال عنهم. { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } [الأعراف: 82] عابوا عليهم ما أحبه الله تعالى وهو التطهر لقوله تعالى:
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين
[البقرة: 222] وأتوا بما أبغضه وهو الإسراف لقوله تعالى:
إنه لا يحب المسرفين
[الأعراف: 31]، { فأنجيناه وأهله } [الأعراف: 83] حجة لهم، { إلا امرأته كانت من الغابرين } [الأعراف: 83] الهالكين بغضا لها ولهم، { وأمطرنا عليهم } [الأعراف: 84] من سحاب القهر، { مطرا } [الأعراف: 84] من الخذلان بالغفلة حتى لم يتوبوا من أفعالهم، ولم يرجعوا من أعمالهم، { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } [الأعراف: 84] المصرين على فاحشتهم.
[7.85-87]
ثم أخبر عن قوم شعيب عليه السلام بقوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا } [الأعراف: 85] إلى قوله تعالى: { وهو خير الحاكمين } [الأعراف: 87]، { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان } [الأعراف: 85]، الإشارة: أن في قوله تعالى : { وإلى مدين أخاهم شعيبا } إلى قوله: { ولا تبخسوا الناس } [الأعراف: 85] دلالة على الأنبياء - عليهم السلام - كلهم دعوا عباد الله إلى عبادة الله وتوحيده بالبينات الظاهرات، والحجج الواضحات، والمعجزات الباهرات، وفيه أن بخس الناس، { أشياءهم } [الأعراف: 85] في المكيال والموزون من خساسة النفس، ودناءة الهمة، وغلبة الحرص، ومتابعة الهوى، وهذه الصفات الذميمة من شيم النفوس، وقد ورد الشرع بتبديل هذه الصفات وتزكية النفس، فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها.
{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [الأعراف: 85]؛ أي: في الأرض الطيبة التي جبلت على حسن الاستعداد وخلقت في أحسن تقويم، { ذلكم خير لكم } [الأعراف: 85]؛ يعني: إبقاء الكيل والميزان تزكية النفوس، وصرف الاستعداد في طلب معالي الأمور تحلية القلوب، { إن كنتم مؤمنين } [الأعراف: 85] بنيل الدرجات وتحصيل الكمالات، { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } [الأعراف: 86]؛ يعني: لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكائد.
{ وتصدون عن سبيل الله } [الأعراف: 86]؛ يعني: تمنعون أرباب الطلب عن الحق، { من آمن به } [الأعراف: 86] بالطلب، { وتبغونها عوجا } [الأعراف: 86] يعني: تطلبون الاعوجاج في طريق الحق بإظهار الباطل؛ لكي تقطعوا عليهم الطريق كما قطعتم على أنفسكم، كما أن شر المعاصي ما لا يكون لازما لصاحبه ويكون متعديا عنه إلى غيره؛ لأن ضر التعدية عائد إلى المبتدئ بقدر الأثر في التعدي، { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } [الأعراف: 86] من عليهم بتكثير العدد؛ لأن التناصر والتعاون في الأمور بكثرة العدد نعمة تامة في تصرفاتها في إعلاء كلمة الدين فهي السعادة العظمى، ومن صرفها في إعلاء كلمة الكفر فهي الشقاوة الكبرى.
{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } [الأعراف: 86] الذين أفسدوا حسن الاستعداد الفطري، وصرفوا أنعم الله في غير مصرفها، { وإن كان طآئفة منكم } [الأعراف: 87] يشير إلى القلب والروح، { آمنوا بالذي أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا } [الأعراف: 87] وهي النفس وصفاتها، فإن أكثر المؤمنين من آمن قلبه وروحه ولم تؤمن نفسه،
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53]؛ يعني: من نفوس الأنبياء - عليهم السلام - والأولياء، { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا } [الأعراف: 87]؛ يعني: بين الروح والقلب والنفس ، { وهو خير الحاكمين } [الأعراف: 87] لا تجعلوا الروح والقلب المؤمنين تبعا للنفس الكافرة في العذاب، وإذاقة ألم الهجران وتجوروا عليهما بجرمهما
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الإسراء: 15].
[7.88-91]
ثم أخبر عن المستكبرين وعاقبة الكافرين بقوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } [الأعراف: 88] إلى قوله: { جاثمين } [الأعراف: 91]، الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } إلى قوله: { جاثمين } ، إشارة إلى أن من شأن المتكبرين ودأب المتحيرين استعداد على الأزل وذلك لما فيهم من نظر التنعم وطغيان الاستغناء في دعمه الاستبداد، ولما كان حب الدنيا رأس كل خطيئة، وفتنتها أعظم من كل بلية جعل الله تعالى أهلها في البلاد سببا للهلاك والفساد، كما قال تعالى:
وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها
[الإسراء: 16].
وقوله تعالى: { أو لتعودن في ملتنا } [الأعراف: 88]، يشير إلى التأهل للخير كما لا يميلون إلى أشكالهم، فكذلك أهل الشر لا يرضون لمن رأوا، وإلا بأن يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم، والأوحد في بابه من باين نهج إضرابه، { قال أولو كنا كارهين } [الأعراف: 88]؛ يعني: نعود في ملتكم ونقول لكم: قد جعلنا الله معكم فنكون من المغترين، { على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله } [الأعراف: 89] من حكم في القسمة الأزلية وتغيرها، { إلا أن يشآء الله ربنا } [الأعراف: 89] وأن يغيرها، { وسع ربنا كل شيء علما } [الأعراف: 89]؛ أي: لأن واسع علمه الأزلي يسع فيه أن يقدر شيئا على أنه يمحوه في وقته ما ويقدر شيئا على أنه يثبته، كما قال تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت
[الرعد: 39].
{ على الله توكلنا } [الأعراف: 89] أي: تيقنا بالله أن تثبتنا على ما قدر لنا من الدين ولا يغتر علينا الحال، ثم انقطعوا عن الخلق قالوا: { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } [الأعراف: 89]؛ أي: أحكم بيننا وبينهم بإظهار ما قدرت لنا، من أمن خاتمة السوء، { وأنت خير الفاتحين } [الأعراف: 89] الحاكمين بين أهل الحق والباطل، { وقال الملأ الذين كفروا من قومه } [الأعراف: 90] لغاية جهالتهم ونهاية ضلالتهم، { لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون } [الأعراف: 90] فمن أعماهم رأوا الحق باطلا، والباطل حقا، والفلاح خسرانا والخسران فلاحا، { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } [الأعراف: 91] فصارت صورتهم تبعا لمعناهم فإنهم كانوا جاثمين الأرواح في ديار الأشباح.
[7.92-95]
ثم أخبر عن حالهم ومالهم بقوله تعالى: { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } [الأعراف: 92] إلى قوله: { كفرين } [الأعراف: 93]، الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } ، إشارة إلى: أن المكذبين والمنكرين وإن كانت لهم غلبة في وقته ولكن تندرس أيامهم بأسرع حال ويسقط ميتهم ويحمل ذكرهم وتضمحل أثارهم ويكون أهل الحق بالحق غالبا في كل أمر والباطل زاهق بكل وصف، كما قال تعالى: { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين }؛ يعني: شعيب وقومه هم الفائزون المفلحون، { فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسلت ربي ونصحت لكم } [الأعراف: 93] فما علي من إقراركم وإنكاركم شيء، إن أحسنتم فالميراث الجميل لكم، وإن أسأتم فالضرر بالمتألم عائد عليكم ومالك الأعيان أولى بها من الأعيان، فالخلق خلقه والملك ملكه، إن شاء هداهم وإن شاء غواهم، { فكيف ءاسى على قوم كفرين } [الأعراف: 93]، فما تأسف على نفي وفقد ولا أثر من كون ووجود؛ لأن لكل صادر من حكيم بالغ في حكمه كامل في قدرته.
ثم أخبر عن حكمته في البأساء والضراء بقوله تعالى: { ومآ أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء } [الأعراف: 94] إلى قوله:
الخاسرين
[الأعراف: 149]، الإشارة فيها: أن قوله تعالى: { ومآ أرسلنا في قرية من } ، يشير إلى أن سبب البأساء والضراء ابتلاءه لأوليائه وأعدائه، فالولي يتضرع إليه عند البلاء ويرجع إليه، ويتوكل عليه، ويتمسك بحبل الصبر والتسليم والرضا، ويتمسك بالعروة الوثقى، والعدو يأخذ في الجزع والكفران ولا يصبر على البلاء بالخذلان ولا يستسلم للقضاء، ويرجع في ذلك إلى الخلق ويذهل عن الحق.
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا } [الأعراف: 95]؛ يعني: فإذا تمادوا في غيهم ولم ينتبهوا من غفلتهم مد عليهم ظلال الاستدراج، ووسعنا عليهم أبواب الزور مكرا بهم في الحال، فإذا وطنوا على مساعدة الدنيا قلوبهم وركنوا إلى ما سولت لهم في امتداد أيامهم نفوسهم، { وقالوا قد مس آباءنا الضرآء والسرآء } [الأعراف: 95]، فلما لم يعتبروا بما اغتروا من الشدة والرضا أبرز لهم من مكامن التقدير ما نغص لهم طيب الحياة وأوردهم موارد الهلكات، { فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } [الأعراف: 95] أنهم يعاقبون ويعذبون.
[7.96-100]
{ ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا } [الأعراف: 96] في أن { أهل القرى } إشارة إلى أن صفات القالب لو آمنوا بما يروا إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق { واتقوا } مشتهيات النفس ومستلذات الطبع، { لفتحنا عليهم بركت من السمآء والأرض } [الأعراف: 96]؛ أي: لفتحنا على صفات النفس أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب، { ولكن كذبوا } [الأعراف: 96] بالواردات الربانية والأخلاق الروحانية، { فأخذنهم بما كانوا يكسبون } [الأعراف: 96]؛ أي: عاقبناهم بعذاب البعد بما كسبوا من مخالفات الحق وموافقات الطبع، { أفأمن أهل القرى } [الأعراف: 97]؛ أي: هذه الصفات، { أن يأتيهم بأسنا } [الأعراف: 97] في صورة القهر وفي حقيقة اللطف فأما في صورة القهر فيأتهم الموت، { بيتا } [الأعراف: 97] بالليل، { وهم نآئمون } [الأعراف: 97]، وأما في حقيقة اللطف فيأتيهم سطوات جذبنا فجاءة وهم غافلون.
{ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } [الأعراف: 98]؛ أي: يشتغلون بالدنيا فإنها لهو ولعب، { أفأمنوا مكر الله } [الأعراف: 99] فمكره مع أهل القهر بالقهر، ومع أهل اللطف باللطف، { فلا يأمن مكر الله } [الأعراف: 99] أي: أهل القهر، { إلا القوم الخاسرون } [الأعراف: 99] الذين خسروا سعادة الدارين، ومن أهل اللطف إلا { الخاسرون } من الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى، فعلى هذا أهل الله هم الآمنون من مكر الله في حقهم مكر باللطف، دل عليه قوله تعالى:
أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
[الأنعام: 82] ولهذا قال تعالى:
والله خير الماكرين
[الأنفال: 30]؛ لأن مكرهم مكر في مستحقيه وغير مستحقيه، ومكره في مستحقيه بالقهر وفي غير مستحقيه باللطف، فافهم جيدا واعتبر جدا.
ثم أخبر عن إظهار اللطف مع مستحقي القهر بقوله تعالى: { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم } [الأعراف: 100] إلى قوله:
لفاسقين
[الأعراف: 102] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم } دليلا على أنه تعالى يمن على نبينا صلى الله عليه وسلم في قومه، أو سار بسيرة من ورثوهم الأرض وعملوا أعمالهم،
فعتوا عن أمر ربهم
[الذاريات: 44] وخالفوا نبيهم وقاتلوا معه استحقوا الهلاك، وإن يصيبهم كما أصابهم ولكن الله تعالى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم ما أهلكهم، كما قال تعالى:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم
[الأنفال: 33] فأمهلهم حتى أسلموا أكثرهم، واسلموا أولادهم، وأولاد أولادهم فيه يشير إلى أن الذنوب، وإن كانت موجبة للعذاب لو شاء الله يعذبهم بها ولو شاء يعفو عنهم ويغفر لهم.
وفي قوله تعالى: { ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } [الأعراف: 100] إشارة إلى أن من سمع قول الأنبياء وقيل دعوتهم إنما كان بمشيئة الله تعالى وحسن توفيقه، ومن لم يسمع إنما كان ببغضاء الله وخذلانه إياه.
[7.101-105]
ومما يؤكد هذه المعاني قوله تعالى: { تلك القرى نقص عليك من أنبآئها } [الأعراف: 101]؛ أي: القرى التي أهلكنا أهلها، { ولقد جآءتهم رسلهم بالبينت فما كانوا ليؤمنوا } [الأعراف: 101] عند مجيء الرسل وإظهار المعجزات، { بما كذبوا من قبل } [الأعراف: 101] إيصال أرواحهم بالقالب يوم الميثاق؛ إذ قال الله تعالى لهم:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] وهم ذريات في صورة ذرة،
قالوا بلى
[الأعراف: 172] أقروا بالربوبية كلهم، ولكن كان من أركان الإيمان: إقرار باللسان وتصديق بالجنان، فوجدا في حق المؤمنين منهم، ووجد الإقرار دون التصديق في حق الكافرين منهم بأن الله قد طبع قلوبهم عند استماع الخطاب ورد الجواب.
ثم قال تعالى: { كذلك يطبع الله على قلوب الكفرين } [الأعراف: 101]؛ أي: كما طبع على قلوب الكافرين اليوم طبع على قلوب الذريات يوم الميثاق حتى أقروا بلا تصديق القلب من نتائجه، فما كانوا ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل، ثم قال تعالى: { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } [الأعراف: 102]، يشير إلى أن أكثرهم كان مما طبع الله على قلوبهم يوم الميثاق فما وفوا بما عاهدوا عليه.
{ وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين } [الأعراف: 102]؛ أي: وما وجدنا أكثر هؤلاء إلا خارجين عن الإسلام والوفاء بالعهود.
ثم أخبر عن قوم موسى عليه السلام وأنهم ساروا بسيرتهم بقوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم موسى بآيتنآ إلى فرعون وملإيه } [الأعراف: 103] إلى قوله:
رب موسى وهارون
[الأعراف: 122] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم موسى بآيتنآ إلى فرعون وملإيه } إشارة إلى أن الأغلب أهل كل زمان وقرن، أكثرهم غافلون عن الدين وحقائق مستغرقون في بحر الدنيا، مستهلكون في أودية الشهوات واللذات النفسانية الحيوانية
ظلمات بعضها فوق بعض
[النور: 40]، وإن الله من كمال رأفته ورحمته على خلقه يبعث عند انصرام كل قرن وانقراض كل هدم نبيا بعد نبي، كما يخلف قوما بعد قوم وقرنا بعد قرن ويظهر المعجزات على ذلك النبي؛ ليخرجهم بظهور نور المعجزات من ظلمات الطبيعة إلى نور الحقيقة، فبعث موسى نبيه عليه السلام، وختم إليه هارون عليه السلام صفيه إلى فرعون وأيد معه الآيات والمعجزات.
{ فظلموا بها } [الأعراف: 103] أي: ظلموا على المعجزات بأن جعلوها سحرا فوضعوها في غير موضعها، { فانظر كيف كان عقبة المفسدين } [الأعراف: 103] الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بركونهم إلى الدنيا وشهواتها، { وقال موسى يفرعون إني رسول من رب العالمين } [الأعراف: 104] يعني: رسولا من رسله الذي أرسلهم من مكارم ربوبيته إلى عالم كل زمان، { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } [الأعراف: 105]؛ لأن الرسول ما ينطق عن الهوى إلا بوحي حق يوحى من الحق، فالناطق بالحق قائم بحقائق الجميع، فان عن الخلق وآثار التفرقة، { قد جئتكم ببينة من ربكم } [الأعراف: 105] بحجة قائمة من اليد والعصا، { فأرسل معي بني إسرائيل } [الأعراف: 105] لأهديهم إلى صراط مستقيم، وأنجيهم من عذاب أليم.
[7.106-116]
{ قال إن كنت جئت بآية } [الأعراف: 106] تدل على صدق دعواك، { فأت بهآ إن كنت من الصادقين } [الأعراف: 106] لعلنا نهتدي بها، { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } [الأعراف: 107] وإنما جعل الله تعالى عصاه ثعبانا؛ لأنه أضاف العصا إلى نفسه حين قال له:
وما تلك بيمينك يموسى
[طه: 17] قال:
هي عصاي
[طه: 18]، ثم جعلها متوكأ، فقال:
أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي
[طه: 18]، ثم جعلها محل حاجاته، فقال:
ولي فيها مآرب أخرى
[طه: 18]، فيه إشارة بأن كل شيء أضفته إلى نفسك ورأيته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك، ولهذا قال القهار: { يموسى }؛ يعني: لا تمسك بها ولا تتوكأ عليها، وإلا كان قادرا على أن يجعلها في يده ثعبانا فلما ألقاها من يده { ونزع يده فإذا هي بيضآء للناظرين } [الأعراف: 108] فيه إشارة إلى أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء وتمسكها بها كانت بيضاء نقية نورانية، فلما تمسكت بالأشياء صارت ظلمانية، فكما ترغب عنها تصير بيضاء كما كانت، فافهم جدا.
وإنما قال: { بيضآء للناظرين }؛ لأنه تعالى أظهر النور الروحاني على اليد الجسماني؛ ليكون منظورا للناظرين، فإن اليد الروحاني لموسى عليه السلام كانت نورانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت منظورة للناظرين، فلما أظهر نورانيتها في بعض الأوقات خرقا للعادات على يده الجسمانية صارت منظورة للناظرين، { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } [الاعراف: 109].
فلما لم يكن لهم بصيرة ترى بها الآيات نظروا ببصر البشرية فرأوا الآيات سحرا والنبي ساحرا { يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } [الأعراف: 110]، ولا شك في أن موسى عليه السلام أراد أن يخرجهم من أرضهم، ولكن من أرض بشريتهم الظلمانية إلى نور الروحانية، { قالوا أرجه وأخاه } [الأعراف: 111]، توهموا أنهم بالتأخير وحسن التدبير وبذل الجد والتشمير يغيرون شيئا من التقدير، ولم يعلموا أن الحق غالب والحكم سابق، وعند حلول الحكم فلا سلطان للعلم والفهم، { وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } [الأعراف: 113] ظنوا أنهم يغلبون بما يسحرون، وأن لهم أجرا وإن كانوا هم الغالبين، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أبلغ من تأثير سحرهم، وإن أجرهم فيما لو كانوا مغلوبين.
{ قال نعم وإنكم لمن المقربين } [الأعراف: 114] أجرى تعالى هذا على لسان فرعون حقا، وصدق بأنهم صاروا من المقربين عند الله لا عند فرعون، { قالوا يموسى إمآ أن تلقي } [الأعراف: 115] فلما أكرموا موسى بالتقدم وعظموه بالاستئذان أكرمهم الله بالسجود والإيمان، قال ألقوا: { وإمآ أن نكون نحن الملقين } [الأعراف: 115].
{ قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءوا بسحر عظيم } [الأعراف: 116]؛ أي: عظيم في الإثم، كما قال:
سبحانك هذا بهتان عظيم
[النور: 16] وعظم إثم السحر لمعارضته بالمعجزة.
[7.117-126]
{ وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون } [الأعراف: 117] فيه إشارة إلى أن عصى الذكر كلمة قوله: " لا إله إلا الله " إذا ألقيت عند إلقاء سحر سحرة صفات النفس تبتلع إلا بنعم " لا " النفي جميع ما سحروا به أعين الناس، { فوقع الحق } [الأعراف: 118] بإثبات إلا الله.
{ وبطل ما كانوا يعملون } [الأعراف: 118] من تزيين زخارف الدنيا في العيون، { فغلبوا هنالك } [الأعراف: 119] سحرة صفات النفس بنور الذكر، { وانقلبوا صاغرين } [الأعراف: 119] ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه.
{ وألقي السحرة ساجدين } [الأعراف: 120]؛ أي صارت صفات النفس بعد التمرد ومنقادة للعبودية، { قالوا آمنا برب العالمين } [الأعراف: 121]، { رب موسى } [الأعراف: 122] الروح، { وهارون } [الأعراف: 122] القلب.
واعلم أن صفات النفس إذا تنورت بنور الذكر يبدل كفرها بالإيمان، ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل، اللهم إلا عند غرقها في بحر الواردات والمواهب الربانية؛ كفعل فرعون وإيمانه عند الغرق إذ قال:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل
[يونس: 90].
ثم أخبر عن كفر فرعون النفس بعد إيمان سحرة صفاتها بقوله تعالى: { قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم } [الأعراف: 123] إلى قوله:
فينظر كيف تعملون
[الأعراف: 129] الإشارة فيها أن من صنائع حكمة الله وبدائع قدرته أن يظهر العدو في صورة الولي، كما كان بمقام وبرز الولي في كسوة العدو، كما كان حال السحرة أصبحوا في ذي الأعداد كفارا سحرة، وأمسوا في زينة الأولياء شهداء بررة، وفيما قال فرعون لهم لما آمنوا بموسى عليه السلام: { آمنتم به قبل أن آذن لكم } [الأعراف: 123].
{ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون } [الأعراف: 123] الإشارة إلى أن: فرعون قد ظن أن الإيمان يكون موقوفا على إذنه، ولم يعلم من كمال جهله أن الإيمان موقوف بإذن الله ونظر رحمته، فخاطبهم على أنهم الذين كانوا فيما علم أنهم كانوا ثم يأتوا، وأن تلك الأسرار جرت عن رق الأشكال، وأن قلوبهم طهرت عن دنس الشبهة والأشكال، وأن شموس العرفان قد طلعت من أفق العناية واستوت في سماء الهداية، فأشهدوا الحق بنظر البقاء، وشهدوا الخلق بنظر الفناء لم يكن لتخويفات النفس فيهم سلطان ولا لشيء من العلل فيهم برهان لتقول لهم، { لأقطعن أيديكم وأرجلكم } [الأعراف: 124] لما تحقق لهم أن مصيرهم إلى الله سهل عليهم ما لقوا في مسيرتهم إلى الله، { قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون } [الأعراف: 125] ولما علموا الله وأوذوا في الله قالوا: { وما تنقم منآ إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جآءتنا } [الأعراف: 126] فصدقوا القصد إلى الله، وطلبوا الصبر على البلاء من الله تعالى بقولهم: { ربنآ أفرغ علينا صبرا } [الأعراف: 126] على المقامات في الدين.
{ وتوفنا مسلمين } [الأعراف: 126] وقلوبنا تطمئن بالإيمان واليقين، وفي القضية إلى أن فرعون النفس أيضا منكر على إيمان شجرة صفاتها ويقول: { آمنتم به } أي: بموسى الروح { قبل أن آذن لكم } يعني: بالإيمان إن هذا المكر مكرتموه يا سحرة الصفات في موافقة الروح في مدينة القالب والبدن؛ لتخرجوا منها أهلها وهم: اللذات والشهوات البدنية الجسمانية، فإن صفات النفس إذا آمنت ووافقت الروح وصفاته خرجت من البدن لذات الدنيا وشهواتها؛ فسوف تعلمون حيلي ومكائدي في إبطالكم واستيفاء اللذات والشهوات { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة، { ثم لأصلبنكم أجمعين } [الأعراف: 124] في جذوع تعلقات الدنيا وزخارفها.
{ قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون } لا إلى الدنيا وما فيها، { وما تنقم منآ إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جآءتنا }؛ يعني: انتقامك منا إنما يكون بسبب إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا، بعد أن جاءنا من ألطاف الحق ما جاءنا، فلا ينفعك الانتقام منا مع الألطاف ولا يضرنا، فإننا نتقلب إلى ربنا ونقول: { ربنآ أفرغ علينا صبرا } على قطع تعلقات الدنيا، فنترك لذاتها وشهواتها، { وتوفنا مسلمين } لعبوديتك وأحكامك الأزلية.
[7.127-131]
{ وقال الملأ من قوم فرعون } [الأعراف: 127] من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس، { أتذر موسى } [الأعراف: 127] الروح، { وقومه } [الأعراف: 127] من القلب والسر والعقل، { ليفسدوا في الأرض } [الأعراف: 127] أرض البشرية، { ويذرك وآلهتك } [الأعراف: 127] من الدنيا والشيطان والطبع، ألا تعبد، { قال } [الأعراف: 127] فرعون النفس، { سنقتل أبنآءهم } [الأعراف: 127] وأبناء صفات الروح والقلب والنفس أعمالها الصالحة؛ أي: نبطل أعمالهم بالرياء والعجب.
{ ونستحيي نسآءهم } [الأعراف: 127]؛ أي: الصفات التي تتولد منها الأعمال، { وإنا فوقهم قاهرون } [الأعراف: 127] بالمكر والخديعة والحيلة، { قال موسى } [الأعراف: 128] الروح، { لقومه } [الأعراف: 128] وهم السر والقلب والعقل، { استعينوا بالله واصبروا } [الأعراف: 128] على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الجن، { إن الأرض لله } [الأعراف: 128]؛ أي: أرض البشرية، { يورثها من يشآء من عباده } [الأعراف: 128] أرض البشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فيتصف بصفاتها { والعاقبة للمتقين } [الأعراف: 128]؛ يعني: لما فيه من الخير والسعادة للأتقياء والسعداء منهم، { قالوا } [الأعراف: 129]؛ يعني: قوم الروح له.
{ أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } [الأعراف: 129]؛ أي: من قبل أن تأتينا الواردات الروحانية قبل البلوغ كما نتأذى من أوصاف البشرية، { قال } [الأعراف: 129]؛ يعني: الروح، { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } [الأعراف: 129] النفس وصفاتها بالواردات الربانية ويدفع أذيتها عنكم، فيه يشير إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية، { ويستخلفكم } [الأعراف: 129]؛ يعني: إذا تجلى الرب بصفة من صفاته لا يبقي، { في الأرض } [الأعراف: 129] أرض البشرية من صفات النفس إلا ويبدلها بصفات الروح والقلب ويستخلفها في الأرض، { فينظر كيف تعملون } [الأعراف: 129] في إقامة العبودية وأداء شكر نعم الربوبية.
ثم أخبر عما اختبر به آل فرعون بقوله تعالى: { ولقد أخذنآ آل فرعون بالسنين } [الأعراف: 130] إلى قوله:
وكانوا عنها غافلين
[الأعراف: 136] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { ولقد أخذنآ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } [الأعراف: 130] الآية دلالة على أن المحن والشدائد والمصيبات موجبات الانتباه والاعتبار ولكن لأهل السعادة وأولي الأبصار، فأما أهل الشقاوة فلو شدد عليهم وطأة القدرة وضاعف عليهم أسباب النعمة، فلا الوطأة أصلحتهم شدتها، ولا النعمة نبهتهم كثرتها، لا بل إن مسهم يسر لاحظوه بعين الاستحقاق، { فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه } وإن منهم عسر حملوه على التطير كما قال تعالى: { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [الأعراف: 131] الكفور لا يرى فضل المنعم فيلاحظ الإنسان بعين الاستحقاق، ثم إذا اتصل به شيء مما يكره تجنى وحل الأمر على ما كان يتمنى كما قال:
مل الوصال وقال كان وكان
وكذا الملول إذا أراد قطيعة
{ ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأعراف: 131] هو الواحد المنفرد بالإيجاد لكن بصائرهم مسدودة، وعقولهم عن شهود الحق معدودة، وأفهامهم عن إدراك المعاني مردودة.
[7.132-137]
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } [الأعراف: 132] فلما رأوا الآيات بعين الجهالة والضلالة رأوها سحرا، وجعلوا الإصرار على الإنكار شعارهم، وهتكوا بألسنتهم في العتو أستارهم، { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات } [الأعراف: 133] فلما توغلوا في فنون المخالفات صب عليهم أنواع العقوبات، فلا في التكفير رغبوا ولا إلى التطهير قصدوا.
{ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين } [الأعراف: 133] في أصل الخلقة، فكانت عقوباتهم بصرف قلوبهم عن شهود الآيات والحقائق أبلغ مما اتصل بظواهرهم من فنون البلايا ونعوذ بالله من مكامن المكر، { ولما وقع عليهم الرجز } [الأعراف: 134] وهو الغضب من الله، { قالوا يموسى ادع لنا ربك } [الأعراف: 134] ولم يقولوا: ربنا إذ لم يهتدوا إلى ربوبيته، وما ازدادوا بزيادة تلك المحن إلا بعدا وأجنبية، { بما عهد عندك } [الأعراف: 134] بأن تدعوه ويجيب لك من فضله، { لئن كشفت عنا الرجز } [الأعراف: 134]؛ يعني: لو انكشف عنا حجاب الغضب والسخط، { لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرآئيل } [الأعراف: 134] { فلما كشفنا عنهم الرجز } [الأعراف: 135]، يعني: صورة الغضب والسخط وهو العذاب، { إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } [الأعراف: 135] فلما رفع عنهم صورة الرجز آمنوا بالصورة لا بالحقيقة، فلما بلغوا أجل المشيئة في إغراقهم نقضوا ما عاهدوا عليه، { فانتقمنا منهم } [الأعراف: 136] قهرا وغضبا، { فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا } [الأعراف: 136] بأنهم كذبوا بآياتنا في الظاهر وفي الحقيقة، فتكذيبهم من نتائج الغضب الحقيقي، { وكانوا عنها } [الأعراف: 136]؛ يعني: من حقائق أحكامنا، { غافلين } [الأعراف: 136] فما نفعهم العهد مع المشيئة القديمة، ولا خلفهم العقل مع الإرادة الأزلية.
ثم أخبر عن نتائج العناية لأهل السعادة بقوله تعالى: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض } [الأعراف: 137]، الإشارة فيها: أن العزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، ومن صبر على مقاساة الذل في الله توجه الله بتاج العزة، ويورثه عزة مذليه ومستضعفيه، كما قال تعالى: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون }؛ أي: يطلبون مذلتهم وهوانهم { مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } [الأعراف: 137] بإخراجها من أيدي الكفار والظلمة والفسقة وايراثها المؤمنين الموحدين الصالحين، { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرآئيل } [الأعراف: 137]؛ يعني: بالكلمة الحسنى ما قدر لهم في الأزل، قال فيهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقوله: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، فإنه قدر لهم من السعادة بما صبرهم على الشدائد في الدين كقوله تعالى: { بما صبروا } [الأعراف: 137] والصبر من أعمال أهل الجنة، قال تعالى:
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا
[الإنسان: 12]، { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } [الأعراف: 137]؛ يعني: ببني إسرائيل من الإذلال والإهانة، { وما كانوا يعرشون } [الأعراف: 137]؛ أي: يرفعون بالتكبر والتحيز لأنفسهم، والتعريش: الارتفاع، يقال: عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على ما تحته.
[7.138-141]
ثم أخبر عن إعزاز أوليائه، وإذلال أعدائه بقوله تعالى: { وجاوزنا ببني إسرآئيل البحر } [الأعراف: 138] إلى قوله تعالى: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } [الأعراف: 141] والإشارة فيها: أن بني إسرائيل القلب كانت معذبة في مصر القالب وصفاتها، فلما أخلص الله تعالى { وجاوزنا ببني إسرآئيل البحر }؛ أي: خلصنا بني إسرائيل صفات القلب من بحر الدنيا ومن فرعون النفس، { فأتوا على قوم } [الأعراف: 138]؛ أي: وصلوا إلى صفات الروح، { يعكفون على أصنام لهم } [الأعراف: 138] من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية، فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح، { قالوا يموسى } [الأعراف: 138] الوارد الرباني الذي جاوز بهم بحر الدنيا.
{ اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة } [الأعراف: 138]، يشير إلى أنه لولا فضل الله ورحمته مع العبد يثبته على قدم العبودية وصدق الطلب إلى أن يبلغه المقصد إلا إذا كان العبد يركن إلى كل شيء من حسائس الدنيا فضلا عن نفائس العقبى كقوله تعالى لسيد البشر صلى الله عليه وسلم:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
[الإسراء: 74]، قال لهم موسى الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات { قال إنكم قوم تجهلون } [الأعراف: 138] قدر الله وعنايته معكم، { إن هؤلاء } [الأعراف: 139]؛ يعني: صفات الروح، { متبر ما هم فيه } [الأعراف: 139] من الركون والعكوف على استجلاء المعاني والمعارف الروحانية، { وباطل ما كانوا يعملون } [الأعراف: 139] في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف والحقائق الإلهيات، { وإذ أنجيناكم من آل فرعون } [الأعراف: 141] يعني النفس وصفاتها { يسومونكم سوء العذاب } [الأعراف: 141]؛ أي: سوء عذاب البعد، { يقتلون أبنآءكم } [الأعراف: 141]؛ أي: يبطلون أعمالكم الصالحة التي هي متولدات من صفات القلب بآفة الرياء والعجب النفساني، { ويستحيون نسآءكم } [الأعراف: 141]؛ يعني: صفاء القلب لاستخدام النفس وصفاتها، { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } [الأعراف: 141]؛ يعني: وكان في استخدام صفات القلب النفس وصفاتها بأن يعمل الصالحات رياء وسمعة؛ لجذب المنافع الدنيوية لحظوظ النفس بلا تعظيم من ربكم، فخلصكم منه لئلا تطلبوا غيره ولا تعبدوا سواه، فلا تركنوا إلى الروحانية ولا المعقولات؛ كي تظفروا بمراتب الوصول ودرجات الوصال.
[7.142-145]
ثم أخبر عن صفات وأهل القربات بقوله تعالى: { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } [الأعراف: 142] إلى قوله: { تبت إليك وأنا أول المؤمنين } [الأعراف: 143] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } إشارة إلى الميعاد في الحقيقة كان أربعين ليلة وإن كان في الظاهر ثلاثين ليلة لقوله تعالى: { وأتممناها بعشر } فالتمام هو: الأربعون، والثلاثون ناقص، ويدل على هذا قوله تعالى:
وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة
[البقرة: 51] وإنما أظهر الوعد ثلاثين ليلة؛ لضعف البشرية قواعد ثلاثين ليلة ثم أتمها بالعشر، وفيه أن الأربعين خصوصية في استحقاق استماع الكلام للأنبياء، كما أن لها اختصاصا في ظهور ينابيع الحكمة من قلوب الأولياء بقوله صلى الله عليه وسلم:
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه "
والحكمة في تعيين عدد الأربعين: إن فيها كمال الكمال ذكرنا في البقرة.
وفي قوله تعالى: { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } [الأعراف: 142] أيضا دليل على أن ميعاد ربه في الحقيقة كان أربعين ليلة، وفي قوله تعالى: { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني } [الأعراف: 142] الإشارة فيها: إلى أن موسى عليه السلام الروح يقول لأخيه هارون القلب عند توجهه لميقات الحق ومقام المكالمة والتصدي لتجلي ربه: كن خليفتي { في قومي } من أوصاف البشرية ونعوت الإنسانية { وأصلح } [الأعراف: 142] ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة، { ولا تتبع سبيل المفسدين } [الأعراف: 142]؛ يعني: سبيل الهوى والطبيعة الحيوانية النفسانية؛ وهذا هو السر الأعظم في بعثة الروح من ذروة عالم الأرواح إلى حضيض عالم الأشباح؛ ليحصل منه خليفة من القلب الروحاني القابل للنور الرباني يكون خليفة، وخليفة رب العالمين بخلافته عند مجيء الروح لميقات ربه كما قال تعالى: { ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } [الأعراف: 143]؛ يعني: ولما حصل على بساط القرب تتابع عليه كاسات الشرب من صفو الصفات، ودارت أقداح المكالمات، واثر فيه لذا ذات أسماع الكلمات فطرب واضطرب، إذ سكر من شرب الواردات وتساكر من سماع الملاطفات في المخاطبات، فطال لسان انبساطه عند التمكن على بساطه، وعند استيلاء سلاطين الشوق وغلبات دواعي المحبة في الذوق { قال رب أرني أنظر إليك } [الأعراف: 143] قال: هيهات أنت للإثنينية منكوب وبحجب جبل الأنانية محجوب، وإنك إذا نظرت بك إلي { قال لن تراني } [الأعراف: 143]؛ لأنه لا يراني إلا من كنت له بصرا فبي يبصر، { ولكن انظر إلى الجبل } [الأعراف: 143] جبل الأنانية، { فإن استقر مكانه } [الأعراف: 143] عند التجلي { فسوف تراني } [الأعراف: 143] ببصر أنانيتك، { فلما تجلى ربه للجبل } [الأعراف: 143] أنانيته { جعله دكا } [الأعراف: 143] فانيا كأن لم يكن، { وخر موسى صعقا } [الأعراف: 143] بالأنانية، فكان ما كان بعد أن بان،
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر: 69]،
وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء: 81].
قد كان ما كان سرا أبوح به
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
ولو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش، ولولا القالب خليفته عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والرجع إلى الوجود، فافهم جدا.
ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي تفهم - إن شاء الله تعالى - { فلمآ أفاق } [الأعراف: 143] من غشية الأنانية بسطوة تجلي الربوبية، { قال } [الأعراف: 143] موسى؛ أي: هويته { سبحانك } [الأعراف: 143] تنزيها لك من خلقك واتصال الخلق بك { تبت } [الأعراف: 143] من أنانيتي، { إليك } [الأعراف: 143] إلى هويتك بك، { وأنا أول المؤمنين } [الأعراف: 143] بأنك لا ترى ولا ترى إلا بنور هويتك بك.
ثم أخبر عن اصطفائه لأوليائه بقوله تعالى: { قال يموسى إني اصطفيتك على الناس } [الأعراف: 144] الآيتين الإشارة فيهما: أن الله تعالى اصطفى كل نبي على الخلق بنوع أو نوعين أو أنواع من الكمال عند خلقته، وركب في ذروة طينته استعداد ظهور ذلك النوع من الكمال حين خمر طينة آدم بيده؛ ولهذا قال: { قال يموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [الأعراف: 144]؛ يعني: اصطفيتك عند تركيب هذين النوعين من الكمال في طينتك وهما: الرسالة والمكالمة، وفيه إشارة إلى أن نوع كمال الرؤية التي سألتنيها وما اصطفيتك به وما ركبت استعداده في طينتك، وإنما اصطفى به نبينا صلى الله عليه وسلم وخصه بذلك من بين الأنبياء - عليهم السلام كلهم - واصطفيه بجميع ما اصطفاهم به، ويدل عليه قوله تعالى:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام: 90]، ثم قال لموسى عليه السلام: { فخذ مآ آتيتك } [الأعراف: 144]؛ يعني: وما ركبت فيك استعداده واصطفيتك به من الرسالة والمكالمة، { وكن من الشاكرين } [الأعراف: 144] فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية؛ لأن الشكر يستدعي الزيادة لقوله تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم: 7]، والزيادة هي: الرؤية لقوله تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" الزيادة هي الرؤية، والحسنى الجنة ".
{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة } [الأعراف: 145]؛ يعني: ثبتنا في الألواح كل المواعظ التي بها حاجة مجملا، { وتفصيلا لكل شيء } [الأعراف: 145]؛ يعني: فصلناه بتبيين كل نوع من أنواع الكمال وما يبلغ إلى ذلك الكمال، ومن جملته أنه بين في الألواح أن الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته حتى استدعى موسى عليه السلام لنيل مقام رؤية ربه، فقال موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أصحابه، { فخذها بقوة } [الأعراف: 145]؛ يعني: خذ هذه المواعظ وما بينا لك بقوة الصدق والإخلاص والجد والاجتهاد، وأيضا بقوة منا وصدق الالتجاء إلينا؛ لنعينك ونقويك على العمل بها، { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } [الأعراف: 145]؛ يعني: هذه المواعظ تدلهم على ترك الدنيا وطلب الآخرة، ودرجات بعضها فوق بعض، وأعلاها وأحسنها فيأخذوا بأحسنها بأعلاها درجة وأكملها فضيلة، وأيضا كما طلب الآخرة أحسن من طلب الدنيا كذلك طلب الله أحسن من طلب الآخرة فيأخذوا بأحسنها، { سأوريكم دار الفاسقين } [الأعراف: 145]؛ يعني: الخارجين عن طلب الآخرة إلى طلب الدنيا فدارهم أسفل السافلين؛ لقوله تعالى:
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 5] ودار الخارجين من طلب الله إلى طلب الآخرة فدارهم الجنة، ودار الخارجين من طلب الآخرة إلى طلب الله هي
مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، فافهم جدا.
[7.146-149]
ثم أخبر عن تصرفات القدرة للعزة بقوله تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } [الأعراف: 146] إلى قوله تعالى:
يعلمون
[الأعراف: 182] الإشارة فيها: أن الكبر والتكبر من أعظم حجب أوصاف البشرية؛ لأنه يزيد في الأنانية وما لعن إبليس وطرد إلا للتكبر، وقيل له:
فما يكون لك أن تتكبر فيها
[الأعراف: 13]، وحجاب التكبر يحرم المتكبر عن رؤيات الآيات، كما قال تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق }؛ يعني: اجعل حجاب التكبر على أبصارهم لئلا يعرفوا أحبابي، { وإن يروا كل آية } [الأعراف: 146]؛ يعني: وإن يروا كل آية نؤمن على أمثالها، { لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد } [الأعراف: 146]؛ أي: طريقا يهدي إلى الحق، { لا يتخذوه سبيلا } [الأعراف: 146] لا يمشون فيه، { وإن يروا سبيل الغي } [الأعراف: 146] طريقا يهديهم إلى الباطل { يتخذوه سبيلا } [الأعراف: 146] يمشون فيه، { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } [الأعراف: 146] من الكتب المنزلة بما أظهروا من المعجزات تكبيرا عليهم، { وكانوا عنها غافلين } [الأعراف: 146]؛ أي: معرضين عن الآيات بالتكبر.
{ والذين كذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة حبطت أعمالهم } [الأعراف: 147] جزاء على تكبرهم كما حبط على أعمال إبليس جزاء على تكبره، { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } [الأعراف: 147]؛ يعني: لما حبطت أعمالنا عندهم من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وإظهار المعجزات؛ لتكبرهم عنها جازيناهم بأن حبطت أعمالهم عندنا تكبرا عنها، نظيره قوله تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40].
ثم أخبر عن جهل اليهود واتخاذهم العجل بالمعبود بقوله تعالى: { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار } [الأعراف: 148] إلى قوله:
وأنت أرحم الراحمين
[الأعراف: 151] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا } إشارة إلى أن سامري الهوى من بعد توجه موسى الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلي زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب قبط صفات النفس، { عجلا جسدا } وهي الدنيا، { له خوار } يدعوا الخلق به إلى العبادة، { ألم يروا أنه } [الأعراف: 148] عبدة عجل الدنيا أنه { لا يكلمهم } [الأعراف: 148] بالخير، { ولا يهديهم سبيلا } [الأعراف: 148] إلى الحق، { اتخذوه } [الأعراف: 148] إلها ومعبودا بالجهل، { وكانوا ظالمين } [الأعراف: 148] في ذلك؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وبدلوا طلب الحق ومحبته بطلب الدنيا ومحبتها.
وفي قوله تعالى: { ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا } [الأعراف: 149] إشارة إلى أن صفات القلب لما أيدت بتأييد الحق علمت أنها ضلت طريق الحق، وأخطأت فيما تعلقت برعونات البشرية عند غيبة موسى الروح إلى قوم أوصاف الإنسان، وتغييره إياها فيما فعلت من الالتفات إلى الدنيا وزينتها ندمت من فعلها وعادت إلى ما كانت فيه من عبودية الحق والإخلاص في طلبه، وذلك قوله تعالى { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا } [الأعراف: 149]؛ يعني: بجذبات العناية، { ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 149] الذين يعبدون الدنيا وزينتها وشهواتها من صفات النفس.
[7.150-153]
{ ولما رجع موسى } [الأعراف: 150] الروح من صفات مكالمة الحق، { إلى قومه } [الأعراف: 150] من أوصاف الإنسانية، { غضبن } [الأعراف: 150] مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا، { أسفا } [الأعراف: 150] على ما فات لها من عبودية الحق، { قال بئسما خلفتموني } [الأعراف: 150] بصفات القلب، { من بعدي } [الأعراف: 150]؛ أي: غيبتي، { أعجلتم أمر ربكم } [الأعراف: 150]؛ أي: استعجلتم بالرجوع إلى الدنيا وزينتها والتعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمركم به ربكم، وفيه إشارة إلى أن أرباب الطلب وأصحاب السلوك لا ينبغي أن يلتفتوا إلى شيء من الدنيا، ولا يتعلقوا بها في إناء القلب والسلوك؛ لئلا ينقطعوا عن الحق، اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى فيأمرهم المولى أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق إلى المولى، وتسليكهم في طريق الدنيا والعقبى، { وألقى الألواح } [الأعراف: 150]؛ يعني: ما لاح الخروج من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي، { وأخذ برأس أخيه } [الأعراف: 150] يعني: القلب فإنه أخ الروح، { يجره إليه } [الأعراف: 150] قهرا وفرا عند استيلاء الطبيعة الروحانية، { قال ابن أم } [الأعراف: 150] وهما من أب وأم، أبوهما الأمر وأمهما الخلق، وإنما نسبه إلى الخلق؛ لأن في عالم الخلق تواضعا وتذللا بالنسبة إلى عالم الأمر، فافهم جدا.
{ إن القوم استضعفوني } [الأعراف: 150]؛ يعني: أن أوصاف البشرية استذلوني بالغلبات عند غيبتك، { وكادوا يقتلونني } [الأعراف: 150] وكذلك يكون استيلاء صفات البشرية وغلباتها حلل غيبة الروح وشغله بنوع من الأنواع قهر القلب وهلاكه، { فلا تشمت بي الأعدآء } [الأعراف: 150] وهم: الشيطان والنفس والهوى، { ولا تجعلني مع القوم الظلمين } [الأعراف: 150] الذين عبدوا عجل الدنيا وهم: صفات القلب، يشير إلى أن صفات القلب تتغير وتتلون بلون صفات النفس ورعوناتها؛ ومن هنا يكون شنشنة الشيطان من أرباب الطريقة ورعوناتهم وزلات أقدامهم، ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما يمرض بتغير صفاته، كما أن النفس لا تتغير من حيث هي هي عما جبلت عليه من حيث الدنيا وطلبها وإنما تغير صفاتها من الأمارية إلى اللوامية والملهمية والرجوع إلى الخالق، ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادة المشومة إلى طبعها وجبلتها
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23].
وفي قوله تعالى: { قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك } [الأعراف: 151] الإشارة إلى: السير في الصفات؛ لأن المغفرة والرحمة من الصفات، فيشير إلى أن لموسى الروح، ولأخيه هارون القلب استعدادا لقبول الجذبة الإلهية التي تدخلها في عالم الصفات، { وأنت أرحم الراحمين } [الأعراف: 151]؛ لأن غيرك من الراحمين عاجز عن إدخال غيره في صفاته، وأنت قادر على ذلك لمن تشاء، يدل عليه قوله تعالى:
يدخل من يشآء في رحمته
[الشورى: 8].
ثم أخبر عن أهل الغضب بقوله تعالى: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم } [الأعراف: 152] الإشارة فيها: أن الذين اتخذوا العجل؛ أي: اتخذوا عجل الهوى إلها يدل عليه قوله تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43]، { سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } [الأعراف: 152]؛ يعني: عبادة الهوى موجبة لغضب الله تعالى، دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما عبد في الأرض آله أبغض على الله من الهوى "
، وإن عابد الهوى يكون ذليل شهوات النفس وأسير صفاتها الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية ما دام يميل إلى الحياة الدنيوية، { وكذلك نجزي المفترين } [الأعراف: 152]؛ يعني: كذلك نجازي بالغضب والطرد الإبعاد وذلة عبادة الهوى المدعين الذين يفترون على الله أنه أعطانا قوة لا تضر بنا عبادة الهوى والرجوع إلى طلب الخلق، { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [الأعراف: 153]؛ يعني: يعفو عنهم تلك السيئات، ويرحمهم بنيل القربات والكرامات.
[7.154-156]
ثم أخبر أن رضا الرب في سكون الغضب بقوله تعالى: { ولما سكت عن موسى الغضب } [الأعراف: 154] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح } [الأعراف: 154] إشارة إلى أن موسى عليه السلام الروح مهما اتصف بصفة من صفات النفس مثلا: الغضب وغيره وباقي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء تلك الصفة، ولما سكت عنه تلك الصفة واضمحلت يعود إليه ما كان بحاله من تلك اللوائح الربانية والكشوف الربانية، { وفي نسختها } [الأعراف: 154]؛ أي: في المنتسخ منها؛ يعني: في الذي عاد إلى الروح من اللوائح التي ألقاها عند غلبة صفة من صفات النفس { هدى } [الأعراف: 154] ما يهدي إلى الحق { ورحمة } [الأعراف: 154] ما هو يرحم، { للذين هم لربهم يرهبون } [الأعراف: 154]؛ أي: على أهل الرغبة والرهبة ممن يرغب إلى الله بصدق الطلب، ويرهب من عذاب أليم والانقطاع عنه.
ثم أخبر عن اختيار أهل الاختيار بقوله تعالى: { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } [الأعراف: 155] إلى قوله: { والذين هم بآياتنا يؤمنون } [الأعراف: 156] الإشارة فيها: أن الله تعالى امتحن موسى عليه السلام باختيار قومه، كما قال تعالى: { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } ليعلم أن المختار من الخلق من اختاره الله لا الذي اختاره الخلق، وأن لله الاختيار الحقيقي؛ لقوله تعالى:
وربك يخلق ما يشآء ويختار
[القصص: 68] وليس للخلق الاختيار الحقيقي لقوله تعالى:
ما كان لهم الخيرة
[القصص: 68] ثم استخرج من القوم المختار ما كان موجبا للرجفة والصعقة والمهالك وهو: سوء الأدب في سؤال الرؤية جهارا، وكان ذلك مستورا عن نظر موسى عليه السلام متمكنا في جبلتهم وكان الله المتولي للسرائر، وحكم موسى بظاهر صلاحيتهم فأراه الله تعالى أن الذين اختارهم يكون مثلك لقوله تعالى
وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى
[طه: 13]، والذي يختاره يكون كالقوم، فلما تحقق موسى عليه السلام أن المختار من اختاره الله حكم بسفاهة القوم، وأظهر الاستكانة والتضرع والاعتذار والتوبة والإنابة والاستغفار والاسترحام، كما قال تعالى: { فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ } [الأعراف: 155] وفيه إشارة أخرى: أن نار شوق الرؤية كما كانت متمكنة في قلب موسى عليه السلام بالقوة، وإنما ظهرت بالفعل بعد أن سمع كلام الله تعالى، فإن من اصطكاك حجر القلب ظهرت شرر نار الشوق فاشتعل منه كبريت اللسان الصدوق وصعدت شعلة السؤال،
قال رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]، كذلك كانت نار الشوق متمكنة في أحجاره قلوب العوام فباصطكاك زناد سماع الكلام ظهر شوق الشرر فاشتعل منه كبريت اللسان، ولما لم يكن اللسان لسان النبوة صعد منه دخان السؤال الموجب للصعقة والرجفة؛ والسر فيه أن يعلم موسى عليه السلام وغيره أن قلوب العباد مختصة بكرامة إيداع المحبة فيها؛ لئلا يظن موسى أنه مخصوص به، ويعذره غيره عن تلك المسألة فإنها من غلبات الشوق فظهر عند استماع كلام المحبوب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه "
وبالأصبعين يشير إلى صفات الجمال والجلال، وليس لغير الإنسان قلب مخصوص بهذه الكرامة، وإقامة القلب في أن يجعله مرآة صفات الجمال فيكون الغالب عليه الشوق والمحبة لطفا ورحمة، وإزاغته في أن يجعله مرآة صفات الجلال فيكون الغالب عليه الحرص على الدنيا والشهوة قهرا وعزة، فالنكتة فيه أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصا بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقرونا بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله:
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143] قدم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية، فإن نار الشوق تصاعدت بسوء الأدب، فقالوا:
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55] قدموا الجحود والإنكار وأخروا طلب الرؤية جهارا
فأخذتكم الصعقة
[البقرة: 55] بظلمهم، فشتان بين صعقة موسى عليه السلام وبين صعقة قومه، فأن صعقته كانت صعقة اللطف مع تجلي الربوبية، وإن صعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار العزة والعظمة، ولما كان موسى عليه السلام في مقام التوحيد ثابتا كان ينظر بنور الوحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله تعالى، فرأى سفاهة القوم وما صدر منهم من آثار صفات قهره فتنة واختبارا لهم، فلما دارت كؤوس شراب المكالمات وسكر بأقداح المناجاة زل قدمه على بساط الانبساط فقال: { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشآء } [الأعراف: 155]؛ أي: تزيغ قلب من تشاء بإصبع صفة القهر.
{ وتهدي من تشآء } [الأعراف: 155]؛ أي: تقيم قلب من تشاء بأصبع صفة اللطف؛ ليرى جمالك في مرآة القلب، { أنت ولينا } [الأعراف: 155] المتولي لأمورنا والناظر في هدايتنا، { فاغفر لنا } [الأعراف: 155] ما صدر منا، { وارحمنا } [الأعراف: 155] بنعمة الرؤية التي ساكناها، { وأنت خير الغافرين } [الأعراف: 155]؛ أي: خير من يستر على ذنب المذنبين؛ يعني أنهم يسترون الذنب ولا يعطون سؤالهم، وأنت الذي تستر الذنب وتبدل السيئات بالحسنات وتعطي سؤال أهل الزلات، { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } [الأعراف: 156] بعد حسنة الرؤية كما كتبت لمحمد صلى الله عليه وسلم ولخواص أمته هذه الحسنة في الدنيا.
{ وفي الآخرة } [الأعراف: 156]؛ يعني: خصنا بهذه على الفضيلة في الدنيا والآخرة، { إنا هدنآ إليك } [الأعراف: 156]؛ أي: رجعنا إليك في طلب هذه الفضيلة في السر لا بالعلانية وأنت الذي تعلم السر وأخفى؛ فأجابهم الله تعالى سرا بسر وإضمارا بإضمار، { قال عذابي أصيب به من أشآء } [الأعراف: 156]؛ أي: بصفة قهري آخذ من أشاء، وبقراءة من قرأ أساء من الإساءة؛ أي: من أساء في الأدب عند سؤال الرؤية، قالوا:
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55]، آخذهم على سوء أدبهم، فأدبهم تأديب عذاب الفرقة، { ورحمتي وسعت كل شيء } [الأعراف: 156] نعمة وإيجادا وتربية، { فسأكتبها } [الأعراف: 156] مني حسنة الرؤية والرحمة التي أنتم تسألونها، { للذين يتقون ويؤتون الزكاة } [الأعراف: 156]؛ يعني: يتقون الله عن غيره، ويؤتون عن نصاب هذا المقام الزكاة طلابه، { والذين هم بآياتنا يؤمنون } [الأعراف: 156] الذين هم يؤمنون؛ يعني: الذين هم يؤمنون بأنوار شواهد الآيات لا بالتقليد بل بالتحقيق وهم خواص هذه الأمة، كما عرف أحوالهم وصرح أعمالهم بقوله تعالى:
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي
[الأعراف: 157].
[7.157-159]
ثم أخبر عن أمة هذا النبي من المؤمن والولي بقوله تعالى: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعدا لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة وهي: مقام الرسالة والنبوة: التي هي شركة بينه وبين الأنبياء والرسل، والمقام الأمي: الذي هو مخصوص به صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء - عليهم السلام -؛ ومعنى الأمي: أنه كان أم الموجودات وأصلها سمي أميا، كما سميت مكة أم القرى؛ لأنها كانت مبدأ القرى وأصلها، وكما سمى أم الكتاب أما؛ لأنها مبدأ الكتب وأصلها، فأما إتباعه في مقام الرسالة فإنه يأخذ منه ما آتاه الرسول وينتهي عما نهاه، كما قال تعالى:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7].
فإن الرسالة تتعلق بأحكام الظاهر، والنبوة تتعلق بأحكام الباطن، فللعوام شركة مع الخواص في الانتفاع من الرسالة، وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة، فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتح له أحوال النبوة في الباطن، من مقام الأنبياء تنبئة الحق تعالى بحيث يصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهواتف الملكية، وربما يؤول حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة، ولعل ما يصير مأمورا بدعوة الخلق إلى الحق في المتابعة لا بالاستقلال، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "
يشير إلى هذا المقام، وذلك أن المتقدمين من بني إسرائيل في زمن الأنبياء - عليهم السلام - لما وصلوا إلى مقام الأنبياء أعطوا النبوة - والله أعلم - وكانوا مقررين لدين رسولهم، حاكمين بالكتب المنزلة على رسلهم، فكذلك هؤلاء القوم كما قال:
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
[الأنبياء: 37].
وأما أتباعه في مقام أمته صلى الله عليه وسلم فكذلك مخصوص بأخص الخواص من متابعيه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رجع بالسير من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى، ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد، ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى مقام الوحدة كما قال:
أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد
[الكهف: 110] كما قال تعالى:
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 8-9]، فقاب قوسين عبارة عن: مقام التوحيد، أو أدنى: عن مقام الوحدة تفهم - إن شاء الله تعالى - فمن رجع بالسير في متابعته عن مقام البشرية إلى أن بلغ مقام الروحانية، ثم بجذبات النبوة في مقام التوحيد، ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانيته إلى مقام الوحدة، فقد حظي بمقام أميته صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [الأعراف: 157] يشير إلى أنه مكتوبا عندهم وإلا فهو مكتوب عنده
في مقعد صدق
[القمر: 55]، { يأمرهم بالمعروف } [الأعراف: 157] وهو طلب الحق والميل إليه، { وينهاهم عن المنكر } [الأعراف: 157] وهو طلب ما سواه والانقطاع عنه، { ويحل لهم الطيبات } [الأعراف: 157] إلى القربات إلى الله تعالى، وإن الطيب هو الله تعالى، { ويحرم عليهم الخبآئث } [الأعراف: 157] وهي الدنيا وما يباعدهم عن الله، { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [الأعراف: 157]؛ يعني: إصرهم من العهد الذي كان بين الله تعالى وبين حبيبه صلى الله عليه وسلم، بأن لا يوصل أحد إلى مقام أميته وحبيبته إلا أمته وأهل شفاعته تبعيته، كما قال تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم "
، فكان من هذا العهد عليهم شدة وأغلال منعهم من الوصل إلى هذا المقام.
فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: { فالذين آمنوا به وعزروه } [الأعراف: 157]؛ أي: وقروه، واختصاص هذا المقام أنه مخصوص به من بين سائر الأنبياء والرسل، { ونصروه } [الأعراف: 157] بالمتابعة، { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [الأعراف: 157]؛ يعني: حين اختطف بأنوار الهداية عن أنانيته فاستفاد نور الوحدة، كما قال تعالى:
قد جآءكم من الله نور
[المائدة: 15]؛ يعني: محمد صلى الله عليه وسلم،
وكتاب مبين
[المائدة: 15]؛ يعني: القرآن، فأمروا بمتابعة هذا النور؛ ليقتبسوا منه نور الوحدة فيفوزوا بالسعادة الكبرى والنعمة العظمى.
{ أولئك هم المفلحون } [الأعراف: 157] من حجب الأنانية الفائزون بنور الوحدة، ثم أمر الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أنه هو رسول الله المبعوث إليهم جميعا، ثم بعد تعريفه لهم عرف نفسه فقال تعالى: { قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموت والأرض } [الأعراف: 158]؛ أي: سماوات القلوب وأرض النفوس، { لا إله إلا هو } [الأعراف: 158]؛ أي: لا مدبر فيهما غيره، { يحيي } [الأعراف: 158] قلب من يشاء بنور الوحدة، { ويميت } [الأعراف: 158] نفسه عن صفات البشرية والأنانية، { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } [الأعراف: 158]؛ يعني: آمنوا إيمان أهل التوحيد بالله وبرسوله المخصوص بعد الرسالة والنبوة بالله بنور الله وهو: نور الوحدة، وكلماته وهي: ما أوحى الله إليه ليلة المعراج بلا واسطة، كما قال تعالى:
ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه
[البقرة: 285]؛ يعني: إيمان العيان في مقام الوحدة.
ثم أمرهم باتباعه للوصول إلى مقام الوحدة وخصوصية أميته، فقال تعالى: { واتبعوه لعلكم تهتدون * ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } [الأعراف: 158-159] إلى قوله:
بما كانوا يظلمون
[الأعراف: 162] الإشارة فيها: أن الله تعالى بعد إظهار كمالات أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم خواص القوم، ثم أخبر عن عوامهم؛ ليظهر الفرق بين الفريقين، فقال تعالى: { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق }؛ يعني: خواصهم الذي يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى عليه السلام.
{ وبه يعدلون } [الأعراف: 159]؛ أي: به يحكمون بين العوام فشتان بين أمة أمية بلغوا على مراتب الروحانية بالسير في متابعة النبي الأمي، ثم اختطفوا عن أنانية روحانيتهم بجذبات أنوار المتابعة إلى مقام الوحدة التي هي مصدر وجودهم في بقاء الوحدة كما قال تعالى:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق "
وللرجوع والوصول إلى هذا المقام سموا أميون، فإنهم رجعوا إلى أصلهم الذي صدروا منه إيجادا وبين أمة كان نبيهم محجوبا بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية بقوله تعالى:
أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143] فأجب:
لن تراني
[الأعراف: 143] لأنك كنت بك لا بي، فإنه لا يراني إلا من كان بي لابه، فأكون بصره الذي يبصر به، وهذا مقام الأمة الأمية، فلهذا قال موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة أحمد شوقا إلى لقاء ربه، فافهم جدا.
[7.160-161]
ثم أخبر عمن أنعم به على تلك الأمة، وعما كفروا بأنعمه، فقال تعالى: { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [الأعراف: 160]؛ لأنهم ما حمدوا الله على ما أنعم عليهم، ولا شكروه على نعمه التي أعطاهم؛ ليستحقوا المزيد بل كانوا [يستبدلون] الذي هو أدنى بالذي خير، وكفروا بأنعم الله فاستحقوا العذاب الأليم هذا فيما أنعم الله عليهم من الدنيوية النعمة والأخروية أيضا أفسدوا على أنفسهم وكفروا بها كما قال تعالى: { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين } [الأعراف: 161].
[7.162-166]
أفسدوا هذه النعمة على أنفسهم بتبديل القول، كما قال تعالى: { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم } [الأعراف: 162] فاستحقوا الرجز والهلاك بظلمهم، كما قال تعالى: { فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون } [الأعراف: 162] وقد مر تحقيق هذه الآية في سورة البقرة.
ثم أخبر عن بعض مقالاتهم وسوء حالاتهم بقوله تعالى: { وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } [الأعراف: 163] إلى قوله: { كونوا قردة خاسئين } [الأعراف: 166] يشير إلى أن القرية الجسد الحيواني على شاطئ بحر البشرية وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية، وهي على ثلاثة أصناف:
منها: صنف روحاني: كصفات الروح.
وصنف: ما هو قلبي: كصفات القلب.
وصنف: نفساني: كصفات النفس الأمارة بالسوء، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله، فصنف أمسك عن الصيد ونهي عنه وهو: الصفات الروحانية، وصنف أمسك ولم ينه وهو: الصفات القلبية، وصنف يحرمه وهو: الصفات النفسانية.
{ إذ يعدون في السبت } [الأعراف: 163] إذ يعدون في سبت المحارم، { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا } [الأعراف: 163] بعد الدواعي البشرية عند هيجان ظهور المحارم، وإغواء الشيطان في تزينها فيتوفر الداعي فيما حرم الله تعالى؛ لأن الإنسان حريص على ما منع، { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } [الأعراف: 163] فيما لم يحرم الله لا نهيج لهم حسان الدواعي ولا يتوفر، { كذلك نبلوهم } [الأعراف: 163]؛ أي: الصنف الذي هو الصفات النفسانية، { بما كانوا يفسقون } [الأعراف: 163]؛ أي: بما كانوا من طبيعة النفس وصفاتها الخروج من أمر الله وطاعته وأنها أمارة بالسوء، { وإذ قالت أمة منهم } [الأعراف: 164]؛ أي: صنف هو من صفات القلب لصنف من صفات الروح، { لم تعظون قوما } [الأعراف: 164]؛ أي: صنفا من صفات النفس، { الله مهلكهم } [الأعراف: 164]؛ أي: مهلكهم بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات، { أو معذبهم عذابا شديدا } [الأعراف: 164] وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية.
{ قالوا } [الأعراف: 164]؛ يعني: الصفات الروحانية، { معذرة إلى ربكم } [الأعراف: 164]؛ أي: لتكونوا معذورين عند ربكم، فيما خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، فإنا فعلنا ما كان علينا، وما تغيرنا عن أوصاف الروحانية الملكية، { ولعلهم يتقون } [الأعراف: 164]؛ أي: ولعل النفس وصفاتها يتقون عن الأمارية وتصفون بالمأمورية والظلمانية إلى ذكر الله وطاعته فإنها قابلة لها، { فلما نسوا ما ذكروا به } [الأعراف: 165]؛ أي: تركوا النصيحة والمواعظ الروحانية، { أنجينا الذين ينهون عن السوء } [الأعراف: 165]؛ يعني: الروح وصفاتها، فإنهم كانوا ينهون النفس عن الأمارية بالسوء، المعنى: أن من كان القلب عليه صفات الروح وقهر النفس وبذل صفاتها بالتزكية والتخلية، فإنه من أهل النجات وأرباب الدرجات وأصحاب القربات.
{ وأخذنا الذين ظلموا } [الأعراف: 165]؛ يعني: النفس وصفاتها، فإن الظلم من شيم النفس، ومن كان الغالب عليه النفس صفاتها، { بعذاب بئيس } [الأعراف: 165] وهو عذاب إبطال الاستعداد؛ لقبول الفيض الإلهي وعذاب البعد عن حوار الخلق، { بما كانوا يفسقون } [الأعراف: 165] بشؤم ما كانوا يخرجون من أنوار الصفات الروحانية إلى ظلمات الصفات النفسانية الحيوانية، { فلما عتوا عن ما نهوا عنه } [الأعراف: 166]؛ أي: فلما بلغوا في اليم الطبعي والأوصاف السبعية والبهيمية، { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } [الأعراف: 166]؛ يعني: بدلنا صفاتهم الروحانية المكية بالصفات القردية والخنزيرية بأمر التكوين، كما قال تعالى:
إنما قولنا لشيء إذآ أردناه
[النحل: 40] خاسئين؛ أي: قانطين بعد فساد الاستعداد الفطري عن إصلاحه، كما قال تعالى تقنيطا لأهل النار:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون: 108].
[7.167-170]
ثم أخبر عن ابتلاء أهل البلاء بالحسنات والسيئات بقوله تعالى: { وإذ تأذن ربك } [الأعراف: 167] إلى قوله: { إنا لا نضيع أجر المصلحين } [الأعراف: 170] يشير بقوله تعالى: { وإذ تأذن ربك } إلى أن الله تعالى حكم بقضائه وقدره في الأزلية أن الأرواح والقلوب اللاتي يتبعن النفس وهواها، { ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم } [الأعراف: 167] وهو الشيطان، فإنه هو المنظور إلى يوم يبعثون، وهو يوم القيامة يسومهم، { سوء العذاب } [الأعراف: 167] وهو الإبعاد عن العبودية والإضلال عن الصراط المستقيم، فيعذبون بعذاب الفرقة والقطيعة عن الحق، وعذاب الخزية والمذلة للنفس والشيطان، { إن ربك لسريع العقاب } [الأعراف: 167]؛ يعني: عقابهم يزيد في الدنيا، وهي لهم ليزدادوا إنما هذا عقوبة في الدنيا وهو يورث العقوبة في الآخرة.
{ وإنه لغفور } [الأعراف: 167]؛ يعني: يغفر ذنوب من يرجع إليه ويتوب؛ أي: الأرواح والقلوب إن رجعت عن متابعة النفس وهواها وتابت إلى الله واستغفرت لغفرت، فإنه { رحيم } [الأعراف: 167] يرحم من تاب إليه، وفيه معنى آخر: { إن ربك لسريع العقاب }؛ أي: يعاقب المؤمنين في الدنيا بأنواع البلاء،
من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات
[البقرة: 155]، ويوفقهم الصبر على ذلك؛ ليجعله كفارة لذنوبهم حتى إذا خرجوا أتقياء من الدنيا لا يعذبون في الآخرة ولا يعاقبون ويجدون الله، { وإنه لغفور رحيم } لهم في الآخرة، { وقطعناهم } [الأعراف: 168]؛ يعني: فرقنا الأرواح والقلوب، { في الأرض } [الأعراف: 168] أرض الأجساد، { أمما } [الأعراف: 168] فرقا، { منهم الصالحون } [الأعراف: 168]؛ أي: قابلون لفيض نور الله، { ومنهم دون ذلك } [الأعراف: 168] في المقبول.
{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } [الأعراف: 168]؛ يعني: جعلنا الحسنات وهي: الطاعات والخيرات، والسيئات وهي: المعاصي والمظالم وسيلة الرجوع إلى الحق وقبول فيض النور، فأما الحسنات فبقدم الطاعات والخيرات يتقرب العبد بها إلى ربه، وأما السيئات فبقدم ترك المعاصي ورد المظالم يتقرب بها إليه، فقال تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، وقال: لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم، وعن بعض المشايخ أنه قال: خطوات وقد وصلت، وفيه معنى آخر: وبلوناهم بالحسنات؛ ليرجعوا إلينا بالشكر والسيئات؛ ليرجعوا بقدم الصبر، فبقدمي الشكر والصبر يرجع إلينا الأرواح والقلوب، وأيضا: { وبلوناهم بالحسنات }؛ أي: بكثرة الطاعات ورؤيتها والعجب بها، كما كان حال إبليس، { والسيئات }؛ أي: بالمعاصي ورؤيتها والندامة عليها والتوبة منها والخوف والخشية من ربه، كما كان حال آدم عليه السلام فرجع إلى الله تعالى وقال:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23].
{ فخلف من بعدهم خلف } [الأعراف: 169]؛ أي: فخلف الأرواح والقلوب من بعدهم لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد الصدق، خلف السوء وهم: النفوس الأمارة بالسوء، { ورثوا الكتب } [الأعراف: 169] وهو ما ألهمهم الله به الأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار ورثت النفوس، { يأخذون عرض هذا الأدنى } [الأعراف: 169]؛ يعني: من شأن النفوس؛ أي: يجعلون المواهب الربانية والكشف الروحاني ذريعة العروض الدنيوية ويصرفوها في تحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات والشهوات، { ويقولون سيغفر لنا } [الأعراف: 169]؛ أي: لأنا وصلنا إلى مقام ورتبة يغفر لنا ويعفو عنا مثل هذه الزلات والخطيئات كما هو مذهب أهل الإباحة جهالة وغرورا منهم، وفيه معنى آخر: وهو أنهم يقولون: سيغفر لنا إذا استغفرنا عنها، وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب.
{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } [الأعراف: 169]؛ أي: لم يمنعوا عن مثله بعد الاستغفار، بل يتعرضونه ولا يبالون به، { ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب } [الأعراف: 169]؛ يعني: ألم يكن من مقتضيات مواهب الحق والمواعظ والحكم والإلهامات الربانية، { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } [الأعراف: 169]؛ أي: لا ينطقون بما لم يعقلوا ولا يفترون على الله، بل يقولون على الله ما هو الحق، { ودرسوا ما فيه } [الأعراف: 169]؛ أي: قرءوا على أنفسهم وعلى غيرهم ما هو الحق والحقيقة لتلك الكشوف الروحانية من خرجها بتسويلات النفس والوساوس الشيطانية، { والدار الآخرة خير للذين يتقون } [الأعراف: 169]؛ يعني: من حقائق تلك الكشوف، وإن الدار الآخرة ونعيمها والسعادة المؤخرة فيها خير من الدنيا وما فيها للذين يتقون بالله عما سواه، { أفلا تعقلون } [الأعراف: 169]؛ يعني: النفوس التي تطلب الدنيا وشهواتها بالدين بعد أن يتمتعوا بمواهب الحق بتبعية الأرواح والقلوب، { والذين يمسكون بالكتاب } [الأعراف: 170]؛ يعني: النفوس المتمسكة بتلك المواهب والكشوف والإلهامات.
{ وأقاموا الصلاة } [الأعراف: 170]؛ أي: وأداموا على العبودية والرجوع إلى الله والمناجاة معه، { إنا لا نضيع أجر المصلحين } [الأعراف: 170]؛ أي: لا نضيع أجر النفوس القابلة لأنوار الله تعالى مالها بالاقتباس من نور الله من الأرواح والقلوب، فإن النفوس مع أماريتها بالسوء تصير باتباع الأرواح والقلوب وتزكيتها على وفق الشريعة وقانون الطريقة صالحة لأنوار الله لفيضه ورحمته، ولهذا ذكر النفوس بالمصلحين هاهنا، كما ذكر القلوب والأرواح ثمة بالصالحين حين قال تعالى: { منهم الصالحون } [الأعراف: 168] وإنما قال لها الصالحون؛ لأنها خلقت في أصل الخلقة صالحة لقبول فيض نور الله بالتربية والتزكية والتخلية بعد أن لم تكن صالحة له، ولهذا قال تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 7-10].
[7.171-174]
ثم أخبر عن طبيعة الإنسان إن وكل إليها بالخذلان بقوله تعالى: { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } [الأعراف: 171] يشير إلى أن الإنسان لو وكل إلى نفسه وطبيعته لا يقبل شيئا من الأمور الدينية طبعا، ولا يحمل أثقاله قطعا؛ إلا أن يعان على القبول والحمل، كما كان حال بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها رفع الله على رأسهم جبلا، { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم } [الأعراف: 171] فاضطروا إلى القبول، فكذلك أرباب العناية رفع الله تعالى على رؤوسهم جبل رحمة، { كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم } إن لم يتوجهوا على الطلب ولم يطلبوا أثقال المجاهدات والرياضيات؛ أي: لو وكلوا إلى أنفسهم ما حملوا، وفي قوله تعالى: { خذوا مآ ءاتينكم بقوة } [الأعراف: 171] إشارة إلى أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق تعالى وهو أمر التحويل؛ أي: يحولهم بالقدرة؛ أي: بأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم، { واذكروا ما فيه } [الأعراف: 171]؛ يعني: فيما أتاكم الله من فضله، { لعلكم تتقون } [الأعراف: 171] عما سواه به.
ثم أخبر عن حال الإنسان أنه ما وكله إلى طبيعة طينته في أصل الخلقة، بل ألزمه التوحيد في حال التجريد بقوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا } [الأعراف: 172] إلى قوله: { ولعلهم يرجعون } [الأعراف: 174] يشير إلى أن أخذ المخلوقين يكون أخذ الشيء الموجود من الشيء الموجود، وأن أخذ الخالق تارة هو أخذ الشيء المعدوم من العدم، كقوله تعالى:
خلقتك من قبل ولم تك شيئا
[مريم: 9]، وتارة هو أخذ الشيء المعدوم من الشيء المعدوم، كقوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم } [الأعراف: 172] فكانوا معدومين، فأخذ من كمال قدرته ذريتهم المعدومة إلى يوم القيامة من ظهورهم المعدومة من بني آدم المعدومين، فأخذ الله تعالى تلك وأعطاهم وجودا مناسبا لتلك الحالة، وإنا قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني ءادم } خص النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب، وما قال: ربكم ليعلم أن في معنى الآية دقة وغموض لا يطلع عليها غيره ومن أنعم الله به عليه من خواص متابعيه.
{ من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم }؛ أي: فاستخرج الذريات المودعة في ظهور بني آدم عليه السلام من ذريته إلى يوم القيامة من ظهر آدم عليه السلام وهو في العدم بعد،
ولم تك شيئا
[مريم: 9] فكان هذا الاستخراج قدميا، وآدم عليه السلام عدميا فتجلى عليهم بالصفة الربوبية ورباهم بلا هم، فبوجوده جعل وجودهم وجودا هو به؛ أي: أعطاهم شهودا هو به يشاهدون به بأنفسهم المعدومة، فكانوا يسمعون الخطاب { ألست بربكم } [الأعراف: 172] من لسان حال التجلي، وبه أجابوه: { قالوا بلى } [الأعراف: 172] أنت ربنا الذي أعطيتنا وجود الأنانية ربانية به سمعنا كلامك وبه أجبنا خطابك، فالمسبحون منهم كانوا على ثلاث طبقات:
السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة:
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة
[النحل: 78] كما يناسب تلك الحالة، ثم نظر إلى السابقين بنظر المحبة فجعلهم مستعدين لمحبته؛ كقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، ونور سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بأنوار المحبة، فلما قال: { ألست بربكم } فبالسمع المنور بنور المحبة سمعوا خطابه، وبالأبصار المنورة شاهدوا جماله، وبالقلوب المنورة نظروا لقائه وفهموا خطابه، فأجابوه بلسان المحبة شوقا وصدقا وتعبدا ورقا وإيمانا حقا؛ لاختصاصهم بنور المحبة، قالوا: بلى أنت ربنا ومحبوبنا ومعبودنا.
وأما أصحاب الميمنة: فإن لم يختصوا بنور المحبة فلم يبتلوا بنار المحبة كما ابتلى بها أصحاب المشأمة، فسمعوا الخطاب بالسمع الرباني، وأبصروا الشواهد بالأبصار الربانية؛ وفهموا تعريف الوحدانية بالقلوب الربانية؛ فأجابوه بلسان الإيمان: { قالوا بلى } أنت ربنا ومعبودنا.
وأما أصحاب المشأمة: فامتحنوا بإظهار العزة والعلا، وحجبوا برداء الكبرياء، فسمعوا الخطاب من وراء الحجاب وعلى الأبصار غشاوة الاختيار والقلوب في أكنة العزة عن الأغيار، فلم يسمعوه بسمع القبول والطاعة، فأجابوه بلسان الإقرار بالاضطرار، وهم في دهشة الوقار ورعشة الافتقار.
وأما الاستخراج الفطري: فلما استخرج الله تعالى من ظهر آدم ذرات بينة استخرج من ظهورهم ذرات ذرياتهم المودعة فيها إلى يوم القيامة، والأرواح في تلك الحالة جنود مجندة في ثلاثة صفوف:
الصف الأول: أرواح السابقين.
والصف الثاني: أرواح أصحاب الميمنة.
والصف الثالث: أصحاب المشأمة.
وأما ذرات السابقين في الصف الأول: بحذا أرواحهم.
وذرات أصحاب الميمنة في الصف الثاني: بحذا أرواحهم.
وذرات أصحاب المشأمة في الصف الثالث: بحذا أرواحهم، فتنورت الذرات بأنوار أرواحها وكسبت تلك الذرات الموجودة بالوجود الرباني لباس الوجود الروحاني، وكسبت تلك السمع والأبصار والأفئدة الربانية لباسا روحانيا.
ثم خاطبهم الحق تعالى: { ألست بربكم } فسمع السابقون بسمع روحاني رباني نوراني خطابه، وشاهدوا بأبصار روحانية ربانية نورانية جماله، وأجابوا بأفئدة روحانية نورانية بنور المحبة لقائه، فأجابوه على المحبة: { قالوا بلى } أنت ربنا المحبوب والمعبود، { شهدنآ } [الأعراف: 172]؛ أي: شاهدنا محبوبيتك؛ فأخذوا مواثيقهم ألا يحبوا ولا يعبدوا إلا إياه، وسمع أصحاب الميمنة بسمع روحاني خطابه، وطالعوا بأبصار روحانية جلاله، وآمنوا بأفئدة ربانية بإلهيته، فأجابوه على العبودية: { قالوا بلى } أنت ربنا المعبود و
سمعنا وأطعنا
[البقرة: 285]، فأخذ مواثيقهم
ألا تعبدوا إلا إياه
[الإسراء: 23]، وسمع أصحاب المشأمة خطابه بسمع روحاني من وراء حجاب العزة، وفي آذانهم وقر العزة، وعلى أبصارهم غشاوة الشقاوة، وعلى أفئدتهم ختم المحنة، فأجابوه على الكلفة: { قالوا بلى } أنت ربنا سمعا كرها، فأخذ مواثيقهم على العبودية؛ فلهذا يرجع التفاوت بين الخليقة في الكفر والإيمان؛ أي: تفاوت الاستعدادات الروحانية والربانية، فافهم جدا.
ثم اعلم أننا لا نجد الله تعالى ذكر أنه كل أحدا وهو بعد في العدم إلا بني آدم، فإنه كلمهم وهم غير موجودين، فأجابوه وهم معدومون، فجرى بالجود في الوجود ما جرى إلا الوجود، فهذا بدايتهم وإلى هذا ينتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى هو سمعهم وأبصارهم وألسنتهم، كما قال تعالى:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق "
، وإلى هذا أشار الجنيد - رحمه الله - حين سئل ما النهاية، وإنما أخذ الله عنهم هذا الميثاق في هذه البداية .
{ أن تقولوا يوم القيامة } [الأعراف: 172]؛ أي: لا تقولوا، { إنا كنا عن هذا غافلين } [الأعراف: 172]؛ أي: كما أغفل عن هذه المرتبة البرية كلها، { أو تقولوا إنمآ أشرك آباؤنا من قبل } [الأعراف: 173]؛ أي أشركوا بأن رضوا الأثنينية، وما رجعوا إلى الوحدة بالفناء في الله، { وكنا ذرية من بعدهم } [الأعراف: 173] مقتديا بهم؛ لأنا استخرجنا الذرية من ظهور آبائهم لهذا الميثاق؛ لئلا يقولوا { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } [الأعراف: 173] الذي أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة، { وكذلك نفصل الآيات } [الأعراف: 174]؛ أي: نبينها، والآيات تدلك على الرجوع إلى الله تعالى، { ولعلهم يرجعون } [الأعراف: 174] بهذه الآيات التي شرحناها عن البداية إليها في النهاية وهو مقام الوحدة تفهم إن شاء الله تعالى.
[7.175-179]
ثم أخبر عمن أبطل الاستعداد الفطري، وانسلخ من الآيات بقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } [الأعراف: 175] إلى قوله تعالى: { فأولئك هم الخاسرون } [الأعراف: 178] الإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } الإشارة إلى من خصه الله تعالى بآياته وهي: الكتاب والحكمة والكرامات والمعجزات، وهي مخصوصة للأنبياء والأولياء، ثم وكله إلى نفسه فمن خاصته نفسه الأمارة بالسوء أن تنسلخ منها بأن تميل إلى الدنيا وزخارفها وشهواتها، ويتبع هواها في طلب المال والجاه والقبول والشهرة والرئاسة، فلما وقع فرغ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته أدركته؛ فغره الشيطان وجعله من الهالكين الضالين عن الحق وطلبه؛ ليعلم أن المعصوم من عصمه الله تعالى، كما قال - عز وجل - في يوسف عليه السلام:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف: 24]، وفيه إشارة: إلى أن لا يأمن السالك المحق مكر الله ولو بلغ أقصى مقامات الأنبياء والمرسلين، فلا يغلق على نفسه أبواب المجاهدات والرياضات ومخالفات النفس وهواها في كل حال، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين وأئمة السلف والمشايخ المتقدمين، ولا يفتح على نفسه أبواب التنعم والتمتع الدنيوي في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمسكن؛ لأنه كما أن الله تعالى جعل في مكان الغيب للسعداء ألطافا خفية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكذلك في مكامن الغيب للأشقياء أصنافا من البلايا خفية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فليحترز السالك الصادق بل البالغ الواصل والكامل الحاذق أن يتعرض لتلك البلايا بالتوسع في الدنيا والتبسط في الأحوال وتتبع الهوى.
فإن في قوله تعالى: { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } [الأعراف: 176] إشارة إلى أن الطالب الصادق وإن بلغ في سيره إلى الدرجة العليا والرتبة القصوى بحيث يستحق الرفعة الإلهية؛ وهي عبارة عن: اجتذابه من الأنانية إلى الهوية بالجذبات الربوبية، ثم يلتفت إلى ما سوى الحق، ويركن إلى شيء من الدنيا، ويميل إليها، [فتأخذه] الغيرة الإلهية وتستدرجه إلى أسفل دركة يماثل فيها الكلب، كما قال تعالى: { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } [الأعراف: 176] يشير إلى أن يصير بالاستدراج بحيث أن نصحته ووعظته ونبهته عن حاله لم يقبل النصح ولم يتنبه، ويتسلك بالدعاوي ويتثبت بالأعداء ويقابلك بالإنكار ويسبك بالإعراض، وإن تركته في بلد الأرض البشرية ويتبع دعاوي الهوى فلا يغترن جاهل مغبون بأن اتباع الهوى لا يضره، فإن الله تعالى ما عذر الأنبياء عن إتباع الهوى وأوعدهم بالضلال كقوله تعالى:
يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26].
{ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } [الأعراف: 176]؛ أي: قوله: { كمثل الكلب } مثل قوم { الذين كذبوا بآياتنا }؛ والتكذيب بالآيات: ترك العمل بها، أو الغرور و[إنكار] ظهورها { فاقصص القصص } [الأعراف: 176] أخبرهم عن أحوال المغرورين الممكورين، { لعلهم يتفكرون } [الأعراف: 176] في أحوالهم ويحترزون عن أعمالهم، { سآء مثلا } [الأعراف: 177]؛ يعني: ويعملون ساء مثلا، { القوم الذين كذبوا بآياتنا } [الأعراف: 177]؛ لأن مثلهم { كمثل الكلب } ، { وأنفسهم كانوا يظلمون } [الأعراف: 177] بأنهم نزلوا عن مرتبة الملكية إلى الدركة الكلبية، ثم قال تعالى: { من يهد الله فهو المهتدي } [الأعراف: 178]؛ يعني: من أدركته العناية، وحقيقة الهداية اليوم؛ لئلا ينزل عن المراتب العلوية إلى المدارك السفلية فهو الذي أصابه رشاش النور الذي رش عليهم من نوره، وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأ فقد ضل "
، { ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } [الأعراف: 178]؛ يعني: من خذله الله تعالى حتى اتبع هواه فأضله الهوى عن سبيل الله فهم الذين أخطاهم ذلك النور ولم يصبهم فوقعوا في الضلالة والخسران.
ثم أخبر عن أمارات المخلوقين لأجل النار وصفات الكفار بقوله تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } [الأعراف: 179] يشير إلى أن الله تعالى خلق الخلق أطوارا، خلق طورا منها للقرب والمحبة؛ وهم: أهل الله وخاصته إظهارا للحسن والجمال، وكانوا به يسمعون كلامه ويبصرون جماله، وبه يعرفون كماله، وخلق طورا منها للجنة ونعيمها؛ وهم: أهل الجنة إظهارا للطف والرحمة، فجعل لهم قلوبا يفقهون بها دلائل التوحيد والمعرفة، وأعينا يبصرون بها آيات الحق في الآفاق والأنفس، وآذانا يسمعون بها خطاب الحق وكلامه ودعوة الأنبياء إلى الحق، وخلق أطوارا منها للنار وحجبها؛ وهم: أهل النار إظهارا للقهر والعزة، كما قال تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } [الأعراف: 179]؛ يعني: دلائل التوحيد والمعرفة.
{ ولهم أعين لا يبصرون بها } [الأعراف: 179]؛ يعني: آيات الحق، { ولهم آذان لا يسمعون بهآ } [الأعراف: 179]، يعني: خطاب الحق بسمع القلوب، وفي الحقيقة كان يوم الميثاق هذا القول محجوبين عن شواهد بحجب الكبرياء والعزة فأثمرهم اليوم تلك البذر أثمار صفات، { أولئك كالأنعام } [الأعراف: 179]؛ لأن الأنعام لا يعرفون الله ليحبوه ويطلبوه فهم كذلك، { بل هم أضل } [الأعراف: 179]؛ لأنهم لم يكن للأنعام استعدادهم للمعرفة والطلب، وأنهم كانوا مستعدين للمعرفة والطلب فأبطلوا الاستعداد الفطري للمعرفة والطلب بالركون إلى شهوات الدنيا وزينتها وإتباع الهوى، فباعوا الآخرة بالأولى، والدين بالدنيا، وتركوا طلب المولى فصاروا أضل من الأنعام لإفساد الاستعداد، { أولئك هم الغافلون } [الأعراف: 179] عن الله وكمالات أهل المعرفة والطلب وعزتهم.
[7.180-186]
ثم أخبر عن أسمائه الحسنى وصفاته العليا بقوله تعالى: { ولله الأسمآء الحسنى } [الأعراف: 180] إلى قوله: { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [الأعراف: 182] يشير إلى أن اسم الله له بمثابة العلم للحق وهو: اسم ذاته تعالى، والباقي من الأسماء هو أسماء الصفات؛ لأنه قال تبارك وتعالى: { ولله الأسمآء الحسنى } فأضاف الأسماء إلى اسم الله، وأسماؤه كلها مشتقة من صفاته إلا اسم " الله " فإنه غير مشتق عندنا وعند الأكثرين؛ لأنه اسم الذات، وكما أن ذاته تبارك وتعالى غير مخلوقة من شيء كذلك اسمه غير مشتق من شيء، فإن الأشياء غير مخلوقة وما اشتق من مخلوق فهو أيضا مخلوق، فأسماء صفاته تعالى بعضها مشتق من الصفات الذاتية فهو غير مخلوق، وبعضها مشتق من صفات الفعل فهو مخلوق؛ لأن صفات الذات: كالحياة والسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة والإرادة والبقاء قديمة غير مخلوقة، وذاته سبحانه تبارك وتعالى في الأزل بها موصوفة، وصفات الفعل: كالخلق والرزق والعطاء والمنع وغيره من صفات الفعل مخلوقة تضاف إليه عند الإيجاد، فلما أوجد الخلق وأعطاهم الوزن سمي خالقا ورازقا، إلا أنه تعالى كان في الأزل قادرا على الخالقية والرازقية، فقوله تعالى: { ولله الأسمآء الحسنى }؛ أي: الصفات الحسنى.
{ فادعوه بها } [الأعراف: 180]؛ أي: فادعوا الله بكل اسم مشتق من صفة من صفاته، بأن تتصفوا وتتخلقوا بتلك الصفة كالاتصاف بها بالأعمال والنيات الصالحة كصفة الخالقية، فإن الاتصاف بها أن تكون مناكحة للتوالد والتناسل لخلافة الخالق، كما قيل لحكيم وهو يواقع زوجته: ما تعمل؟ قال: إن تم فإنسانا، والاتصاف بصفة الرازقية بأن: ينفق ما رزقه الله على المحتاجين ولا يدخر منه شيئا فعلى هذا قس الباقي، وأما التخلق بها فبالأحوال وذلك بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله وبوجهه إليه؛ ليتجلى له بتلك الصفات فيتخلق بها وهذا تحقيق قوله:
" كنت له سمعا وبصرا فبي يسمع وبي يبصر ".
{ وذروا الذين يلحدون في أسمآئه } [الأعراف: 180] قال: يميلون صفاته؛ أي: لا يتصفون بها، وتسميته تعالى باسم لم يسم به نفسه أيضا من الإلحاد، كما يسمونه الفلاسفة ب " العلة الأولى " و " الموجب بالذات " يعنون به: أنه تعالى غير مختار في فعله وخلقة وإيجاده تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ومن وصفه لم يرد به النص فأيضا إلحاد، { سيجزون ما كانوا يعملون } [الأعراف: 180] سيجزون الخذلان؛ ليعلموا بالطبع والهوى { ما كانوا يعملون } بالإلحاد في الأسماء والصفات فيكونوا
كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179].
{ وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق } [الأعراف: 181]؛ يعني: وزروا هؤلاء الملحدين في الأسماء فإنهم ضالون، وإنا خلقنا طائفة من الخواص { يهدون بالحق }؛ أي: يتصفون بصفات الحق، { وبه يعدلون } [الأعراف: 181]؛ أي: وبالحق يحكمون ويميلون إلى الأعمال والأحوال والصفات والأخلاق، { والذين كذبوا بآيتنا } [الأعراف: 182]؛ أي: لم يعملوا بها ولم يتصفوا بصفاتنا، يشير إلى: أحوال أرباب الظواهر فإنهم يعملون بأعمال الشريعة ظاهرا ويستحقون بها المراتب العلية، ولم يعملوا بأعمال بواطنها في عمارة الباطن، ليتصفوا بصفات الحق، وإن تحصل لهم شيء من الأعمال الظاهرة والأحوال الباطنة يجعلونه وسيلة وذريعة لتحصيل المقاصد الدنيوية من الجاه والمال والشهوات فهذا تكذيب الآيات، { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [الأعراف: 182] بأن نكلهم إلى أنفسهم وهواها؛ ليميلوا بالطبع عن الحق، ثم يفتح عليهم أبواب ما يميل إليه هوى أنفسهم بالتدريج؛ ليندرجوا فيها ولا شعور لهم بالانحطاط عن مراتبهم والتدرج من منازلهم، بل
يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف: 104]، وهذا حقيقة قوله تعالى: { وأملي لهم إن كيدي متين } [الأعراف: 183] في إملائهم وخذلانهم بأن ينزلوا إلى الدركات وهم يحسبون أنهم يصعدون على الدرجات.
ثم أخبر عن بداية الهداية أنها التفكر والتذكر بقوله تعالى: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين } [الأعراف: 184] إلى قوله { يعمهون } [الأعراف: 186] الإشارة فيه: أن التفكر بالعقل السليم يورث النظر والاعتبار، فقوله تعالى: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } يدل على أن العاقل لو يتفكر بالعقل السليم عن آفات الوهم والخيال والتقليد والهوى في حال النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وسيرته فضلا عن معجزاته؛ لتحقق عنده أنه النبي الصادق صلى الله عليه وسلم، وإنما يدعوه إليه كل حق وصدق وأنه ينجوا بهذا التفكر من النار، كما أخبر تعالى عن حال أهل النار بقوله تعالى:
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
[الملك: 10].
وفي قوله { أولم ينظروا في ملكوت السموت والأرض وما خلق الله من شيء } [الأعراف: 185] إشارة إلى أن المكونات من نوعين:
نوع منها: ما خلق من غير شيء؛ وهو الملكوت الذي هو باطن الكون، والكون به قائم بالقدرة كقوله تعالى:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء
[يس: 83]، ونوع منها: ما خلق من شيء؛ وهو الملك الذي ظاهر الكون، فكما أن النظر في الملك بحس البصر فالنظر إلى الملكوت بالعقل والقلب، فنظر أرباب العقول فيه يفيد رؤية الآيات والاستدلال بها إلى معرفة الخالق وإثبات الصانع، ونظر أصحاب القلوب فيه يفيد شواهد الغيب، بالولوج فيه يصير إيمانه إيقانا بل عيانا، كقوله تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام: 75]؛ ليكونوا مستدلين بنظر العقول أو الموقنين بنظر القلوب.
{ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } [الأعراف: 185]؛ يعني: إن شاهدوا بمطالعة الملكوت إنهم من الفانيات فعل أجل فنائهم قد اقترب، فإن لم يؤمنوا بطريق النظر استدلالا ومشاهدة، { فبأي حديث بعده يؤمنون } [الأعراف: 185]؛ يعني: والآجال قريبة فيموتون عن الفكر، ثم قال تعالى: { من يضلل الله فلا هادي له } [الأعراف: 186]؛ أي: من خذله الله لينظر في الملكوت بنظر العقل والقلب يبقى على ضلالة البشرية وجهالة الإنسانية فلا هادي غير الله، ولا يهديه الله، { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } [الأعراف: 186]؛ أي: ونذرهم في طغيانهم بالخذلان إلى طبيعتهم في العصيان يتيهون بنعمة البصيرة ولا يرون حقا ولا يتركون باطلا.
[7.187-192]
ثم أخبر عن سؤالهم من سوء حالهم بقوله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرسها } [الأعراف: 187] إلى قوله: { يؤمنون } [الأعراف: 188] الإشارة فيها: أن الساعة عبارة عن: الساعة التي يظهر الله تعالى فيها آثار الصفة القهارية؛ لإفناء عالم الصورة وهو الملك ظاهر الكون كقوله تعالى:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16] حين تطوى السماوات وتبدل الأرض ولا يبقى من الملك وأهله داع ولا مجيب، فيجيب هو سبحانه ويقول:
لله الواحد القهار
[غافر: 16]، وفي قوله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرسها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت في السموت والأرض } [الأعراف: 187] دليل على أن للساعة ثقلا من ظهور صفة القهر يضيق منها نطاق طاقة السماوات والأرض، وأنه مما استأثر الله به نفسه، وأنها هي الساعة التي يموت فيها الخلق؛ لأنه يقول { لا تأتيكم إلا بغتة }.
وفي قوله تعالى: { يسألونك كأنك حفي عنها } [الأعراف: 187] معنى آخر من الإخفاء: وهو المنع، منعت علمها عنهم، ومنه في حديث خليفة كتبت إلى ابن عباس أن يكتب إلي ويخفي عني؛ أي: يمسك عني بعض ما عنده مما لا أحتمله وعطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فوق ثلاث فقال له: خفوت؛ أي: منعتنا أن نشمتك بعد الثلاثة، والخفو: المنع، فقال تعالى: { قل إنما علمها عند الله } [الأعراف: 187] لا عندي، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [الأعراف: 187] أن علمها عند الله وليس عندك، يدل عليه قوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } [الأعراف: 188] بمشيئة حادثة، { إلا ما شآء الله } [الأعراف: 188] في الأزل بمشيئة القديمة أن يكون لي أو يملكني ما شاء لي تمليكه، { ولو كنت أعلم الغيب } [الأعراف: 188]؛ يعني: ولو كنت كذلك، { لاستكثرت من الخير } [الأعراف: 188] من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية والأحكام الإلهية، { وما مسني السوء } [الأعراف: 188]؛ أي: الموت والحاجات، { إن أنا إلا نذير } [الأعراف: 188] لمن كان حيا بالحياة الحقيقية فيسمع كلامي وينتفع بإنذاري فيؤثر ما يبقى علي ما يفنى، { وبشير } [الأعراف: 188] بما فضل الله به على خواص عباده من الدرجات العلية المقامات السنية والكرامات والقربات، { لقوم يؤمنون } [الأعراف: 188] بها والسعي في تحصيلها، فإن الإيمان الحقيقي هو: السعي في طلب ما آمنوا به والإتيان بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه.
ثم أخبر عن الذي عنده علم الساعة بقوله تعالى: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } [الأعراف: 189] إلى قوله:
فلا تنظرون
[الأعراف: 195] والإشارة فيها: أن في قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة }؛ تعريف نفسه بالخالقية والقادرية على أنه يخلق النفوس كلها من نفس واحدة وهي: نفس آدم عليه السلام، وفيه يشير إلى أن النفوس كما خلقت من نفس واحدة فكذلك الأرواح خلقت من روح واحدة وهو: روح محمد صلى الله عليه وسلم، فكان هو أبا الأرواح كما كان آدم أبا البشر لقوله صلى الله عليه وسلم:
" أنا لكم كالوالد لولده "
وقوله صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله روحي "
فإن أول كل نوع هو المنشأ منه ذلك النوع من الحيوانات والنبات بقوله تعالى: { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [الأعراف: 189] يشير إلى أن آدم عليه السلام لما خلق ونفخ فيه الروح كان روحه مستوحشا من القلب الجسماني؛ لأنه كان أنيس الحق تعالى في حظائر القدس بكذا ألف سنة؛ ولهذا سمي إنسانا، ثم ولد له من نفسه بالنفخة الإلهية حواء، فلو لم يخلق حواء من نفسه لما سكن روحه إلى غير الحق، ومع هذا ما كان ليسكن روحه وروحها إلى شيء حتى أمر بالسكون إلى الجنة ونعيمها تأكيدا لمساكنة كل واحد منهما إلى الآخر بقوله تعالى:
وقلنا يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة
[البقرة: 35] وهذا أمر التكوين إلى سكون الروح إلى القلب؛ لأنه خلق منه؛ ولأنه كان مخصوصا بين الأصبعين من أصابع الله تعالى، وكان الروح يشم من القلب نسيم نفحات ألطاف الحق تعالى.
{ فلما تغشاها } [الأعراف: 189]؛ أي: الروح القلب، { حملت حملا خفيفا فمرت به } [الأعراف: 189]؛ أي: حمل القلب بالنفس وصفاتها حملا خفيفا في البداية بظهور أدنى أثر من أثار الصفات، خافا على أنفسهما الروح والقلب من تبدل الصفات الروحانية الأخروية النورانية بالصفات النفسانية الدنيوية الظلمانية، { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين } [الأعراف: 189].
{ فلمآ آتاهما صالحا } [الأعراف: 190]؛ أي: نفسا قابلة للعبودية، { جعلا له شركآء فيمآ آتاهما } [الأعراف: 190]؛ أي: جعل الروح والقلب وجه النفس إلى الدنيا ونعيمها؛ ليقوم القالب بها؛ ولقيامها صلاحا للعبودية، فلما استلذت النفس من الدنيا عبدتها وعبدت ما فيها فصارت عبد البطن وعبد الخميصة وعبد الدرهم والدينار، { فتعالى الله عما يشركون } [الأعراف: 190] بأن يجعلوه شريك الدنيا في التعبد والعبودية، { أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون } [الأعراف: 191] يعني: الدنيا وما فيها، { ولا يستطيعون لهم نصرا } [الأعراف: 192]؛ أي: لا يستطيع الدنيا وما فيها للروح والقلب والنفس تقوية وتربية إلا بالله تعالى، { ولآ أنفسهم ينصرون } [الأعراف: 192] للبقاء والدوام.
[7.193-197]
{ وإن تدعوهم } [الأعراف: 193] يعني: الروح والنفس والقلب، { إلى الهدى } [الأعراف: 193]؛ أي: طلب الحق، { لا يتبعوكم } [الأعراف: 193] بحولهم وقوتهم، { سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون } [الأعراف: 193] فإنهم لا يهتدون بدعائكم إلا بدعاء الله؛ لقوله تعالى:
والله يدعوا إلى دار السلام
[يونس: 25].
{ إن الذين تدعون من دون الله } [الأعراف: 194]؛ أي: تعبدوا من الدنيا وما فيها، { عباد أمثالكم } [الأعراف: 194] محتاجون كما تحتاجون، { فادعوهم } [الأعراف: 194] في حاجاتكم، { فليستجيبوا لكم } [الأعراف: 194] بقضاء حاجاتكم ونجاتكم من النار، { إن كنتم صادقين } [الأعراف: 194] أن للدنيا وما فيها منفعة أو مضرة بنفسها بل الله الضار النافع، { ألهم أرجل يمشون بهآ } [الأعراف: 195] إلى أحد باختيارهم فيعينوه، { أم لهم أيد يبطشون بهآ } [الأعراف: 195] من أحد شيئا فيغفروه، { أم لهم أعين يبصرون بهآ } [الأعراف: 195] حال أحد أو فساد حاله، { أم لهم آذان يسمعون بها } [الأعراف: 195] استدعاء أحد أو التماساته، { قل ادعوا شركآءكم } [الأعراف: 195] يا روح ويا قلب، وبالنفس من الدنيا وما فيها، { ثم كيدون } [الأعراف: 195]؛ أي: أجمعوا إلى كيدكم، { فلا تنظرون } [الأعراف: 195] ولا تمهلون، فإنكم لا تملكون نفعا ولا ضرا.
ثم أخبر عن الولاية في الخير والشر أنها لله تعالى بقوله تعالى: { إن وليي الله الذي نزل الكتاب } [الأعراف: 196] إلى قوله:
سميع عليم
[الأعراف: 200] الإشارة فيها: أن عقب قوله: { إن وليي الله الذي نزل الكتاب } يشير إن حافظي وناصري هو: الله الذي نزل الكتاب قوله تعالى:
والله يعصمك من الناس
[المائدة: 67]، { وهو يتولى الصالحين } [الأعراف: 196] فإن بتوليته إياهم وإعانته لهم يعملون الصالحات، ولو وكلهم إلى أنفسهم كانوا يعملون السيئات،
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53].
{ والذين تدعون من دونه } [الأعراف: 197]؛ أي: تعبدون من دون الله من الدنيا والهوى والشيطان والخلق، { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } [الأعراف: 197] إلا بالله؛ لأنه
وما النصر إلا من عند الله
[آل عمران: 126]، كقوله تعالى:
إن ينصركم الله فلا غالب لكم
[آل عمران: 160].
[7.198-203]
{ وإن تدعوهم إلى الهدى } [الأعراف: 198]؛ يعني: النفوس المتمردة وأهلها، { لا يسمعوا } [الأعراف: 198] بأذان القلوب وسمع القلوب؛ لأنهم
صم بكم عمي
[البقرة: 18]، { وترهم ينظرون إليك } [الأعراف: 198] إليك بالخواص الظاهرة، { وهم لا يبصرون } [الأعراف: 198] بنور البصيرة أنوار نبوتك ورسالتك وما أعطاك الله من الفضل العظيم والمقام الكريم.
{ خذ العفو } [الأعراف: 199]؛ أي: تخلق بخلق الله، فإن العفو من أخلاقه تبارك وتعالى، { وأمر بالعرف } [الأعراف: 199]؛ أي: بالمعروف وهو: طلب الحق تعالى لا في معروف العارفين، { وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف: 199] عن كل ما يدعوهم إلى غير الله وعمن يطلب ما سوى الله، فإن الجاهل هو الذي لا يعرف الله ولا يطلبه، والعالم يعرف الله ويطلبه، { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ } [الأعراف: 200] في طلب غير الله تعالى، { فاستعذ بالله } [الأعراف: 200] من غير الله بأن تفر إلى الله وتترك ما سواه، { إنه سميع } [الأعراف: 200] يسمع القبول والإجابة لما تدعوه إليه، { عليم } [الأعراف: 200]؛ أي: ينفعك وما يضرك فيسمع بما لا ينفعك ولا ما يضرك.
ثم أخبر عن أحوال الأتقياء والأشقياء بقوله تعالى: { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان } [الأعراف: 201] إلى قوله: { لقوم يؤمنون } [الأعراف: 203] الإشارة فيها: أن الذين اتقوا هم: أرباب القلوب، والتقوى من شأن القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" التقوى هنا "
أشار إلى صدره والتقوى نور يبصرون به الحق حقا والباطل باطلا، لهذا قال تعالى: { إذا مسهم طائف من الشيطان }؛ أي: إذا مس طائف خيال القلب النقي نوع طيف من عمل الشيطان يراه القلب بنور التقوى ويعرفه، فيتذكر أنه يفسده ويكدر صفاءه ويقسيه فيجتنبه ويحترز منه فذلك قوله تعالى: { تذكروا فإذا هم مبصرون } [الأعراف: 201].
{ وإخوانهم يمدونهم في الغي } [الأعراف: 202]؛ يعني: النفوس إخوان القلوب، فإن النفس والقلب توأمان ولدا من ازدواج الروح والقالب يمد النفس في الطاعة، ولولا ذلك ما صدرت من النفس طاعة؛ لأنه جبلت على الأمارية بالسوء، والنفس تمد القلب في الغواية والضلالة، ولولا ذلك لما صدر من القلب معصية ؛ لأنه جبلت على الاطمئنان بذكر الله تعالى وطاعته، { ثم لا يقصرون } [الأعراف: 202] لا يسأم كل واحد من فضلها ولا يدع ما جبل عليه؛ لئلا يأمن أرباب القلوب من كيد النفوس، ولا يقنط أرباب النفوس المسرفين على أنفسهم من رحمة الله في إصلاح أحوال قلوبهم، { وإذا لم تأتهم بآية } [الأعراف: 203]؛ يعني: لم تأت القلوب بآية من الله؛ لتعجز النفوس عن تكذيبه، { قالوا } [الأعراف: 203]؛ يعني: النفوس للقلب، { لولا اجتبيتها } [الأعراف: 203] هلا أخلقتها من خاصية قلبيك لتزكية النفوس، { قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي } [الأعراف: 203]؛ يعني: إنما أتبع إلهام الحق تعالى فلا أقدر على تزكية النفوس إلا بقوة الإلهام الرباني، { هذا بصآئر من ربكم } [الأعراف: 203]؛ يعني: هذا الإلهام وقوته واردات ربانية ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها فيها تتقوى القلوب على تزكية النفوس، وذلك { وهدى } [الأعراف: 203] من الله تعالى، { ورحمة لقوم يؤمنون } [الأعراف: 203] يصدقون أن القلب مهبط واردات الحق ومهبط أنوار أسراره.
[7.204-206]
ثم أخبر عن دأب القلوب في اجتلاب إلهامات الغيوب بقوله تعالى: { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له } [الأعراف: 204] إلى آخر السورة الإشارة فيها: أن الإنصات شرط في حسن الاستماع، وحسن الاستماع شرط في الأسماع، فقال تعالى: { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } [الأعراف: 204] بلسانكم الظاهر؛ لتسمعوا له بأذانكم الظاهرة { وأنصتوا } بألسنتكم الباطنة؛ لتسمعوا بآذانكم الباطنة، { لعلكم ترحمون } [الأعراف: 204] بالاستماع بالسمع الحقيقي، وهو قوله تعالى:
" كنت له سمعا بي يسمع "
، فمن سمع القرآن بسمع بارئه فقد سمع من قارئه، وهذا سر
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2]، فهو مستعد لخطاب، { واذكر ربك } [الأعراف: 205] بالأفعال والأخلاق والذات، { في نفسك } [الأعراف: 205] بأن تبدل أفعال نفسك بالأعمال التي أمر الله بها، وتبدل أخلاقها بأخلاق الله تعالى وتفني ذاتها في ذات الله، وهذا كما قال الله تعالى:
" وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي "
وهو سر قوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، ألا ترى أن الفراش لما ذكر الشمعة في نفسه بإفناء ذاته في ذاتها كيف ذكر الشمعة في نفسه بإبقائها ببقائه على أن تلك الحضرة منزهة عن المثل والمثال، قوله تعالى: { تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول } [الأعراف: 205] التضرع: من باب التكلف:
بداية هذا الذكر: بتبديل أفعال النفس بأعمال الشريعة يكون بالتكليف ظاهرا، ووسطه: بالتخلق بأخلاق الله بآداب الطريقة يكون مخفيا باطنا، ونهايته: بإفناء ذاتها في ذاته بأنوار الحقيقة يكون منهيا عن جهر القول، وهذا حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم:
" إفشاء سر الربوبية كفر ".
قوله تعالى: { بالغدو والآصال } [الأعراف: 205] يشير إلى: غدو الأزل وآصال الأبد، فإن الذاكر الحقيقي هو: المذكور الحقيقي، والذاكر والمذكور في الحقيقة هو: الله الأزلي الأبدي؛ لأنه تعالى قال في الأزل:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] ففي الأزل خاطبهم وكان هو الذاكر والمذكور على الحقيقة، على أنا نقول: ما ذكره إلا هو، وهذا حقيقة قول يوسف ابن الحسين الرازي: ما قال أحد الله إلا الله تعالى، ولهذا قال تعالى: { ولا تكن من الغافلين } [الأعراف: 205] الذين لا يعلمون أن الذاكر والمذكور هو: الله تعالى في الحقيقة.
ثم قال تعالى: { إن الذين عند ربك } [الأعراف: 206]؛ يعني: الذين أفنوا أفعالهم وأخلاقهم وذواتهم في أوامر الله وأخلاقه وذاته، فما بقوا عند أنفسهم وإنما بقوا ببقاء الله عنده، { لا يستكبرون عن عبادته } [الأعراف: 206]؛ لأن الاستكبار من أخلاقهم وقد أفنوها في أخلاقه، فما بقي لهم الاستكبار فكيف يستكبرون عن عبادته وقد أفنوا أفعالهم في أوامر الله وهي عبادته، فأعمالهم قائمة بالعبادة لا بالفعل، وهم في حال الفناء عن أنفسهم والبقاء بالله، { ويسبحونه } [الأعراف: 206] ينزهونه عن الحلول والاتصال والإتحاد، وعن أن يكون هو العبد أو العبد إياه؛ بل هو كما كان في الأزل
لم يكن شيئا مذكورا
[الإنسان: 1].
{ وله يسجدون } [الأعراف: 206] في الوجود والعدم من الأزل إلى الأبد، سجدوا له من الأزل في العدم منقادين مسخرين لأحكام القدرة في جادة الوجود، وسجدوا له إلى الأبد في الوجود ببذل الموجود منقادين لقربه قائمين لأحكام القدرة في تصاريف الإعدام والإيجاد والإفناء والإبقاء.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1-5]
{ يسألونك عن الأنفال } [الأنفال: 1] إلى قوله: { ورزق كريم } [الأنفال: 4] يشير إلى أن كثرة السؤال توجب الهلاك، ولهذا
" نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال "
، فلما أكثروا السؤال، قال صلى الله عليه وسلم:
" ذروني ما تركتكم، فإنه أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "
ومن كثرة سؤالهم قوله تعالى: { يسألونك عن الأنفال } وإنما سألوه لتكون الأنفال لهم فقال على خلاف ما تمنوا.
{ قل الأنفال لله والرسول } [الأنفال: 1] يعملا فيها ما شاءا لا كما شئتم؛ لتتأدبوا ولا تعترضوا على الله والرسول بطريق السؤال، وتكونوا مستسلمين لأحكامهما في دينكم ودنياكم، ولا تحرصوا على الدنيا؛ لئلا تشوبوا أعمالكم الدينية بالأعراض الدنيوية { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } [الأنفال: 1] أي اتقوا بالله عن غير الله وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الرديئة والهمم الدنيئة، وهي الحرص على الدنيا والحسد على الإخوان وغيرهما من الصفات الذميمة التي يحجب بها نور الإيمان عن القلوب { وأطيعوا الله ورسوله } [الأنفال: 1] بالتسليم لأحكامهما والائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نواهيهما { إن كنتم مؤمنين } [الأنفال: 1] تحقيقا لا تقليدا، فإن المؤمن الحقيقي هو الذي كتب الله بقلم العناية في قلبه الإيمان وأيده بروح منه فهو على نور من ربه.
كما وصفه الله تعالى بقوله: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [الأنفال: 2] فإن دخل القلوب عند سماع ذكر الله من خصوصيته النور المنبسط فيه؛ لأنه من شأن نور الإيمان أن ينقي القلب ويصفيه عن كدورات صفات النفس وظلمتها، ويلين قسوته فيلين إلى ذكر الله فيجد شوقا إلى الله، وهذا حال أهل البدايات، وأما أهل النهايات الطمأنينة والسكون بالذكر؛ لقوله تعالى:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28].
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أحب القلوب إلى الله أصلبها في دين الله، وأصفاها عن الذنوب، وأرقها على الإخوان "
، ولما جاء قوم حديثو العهد بالإسلام فسمعوا القرآن كانوا يبكون ويتأوهون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا في بداية الإسلام، ثم قست قلوبنا.
{ وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمنا } [الأنفال: 2] فجعل من شرط الإيمان الحاصل في القلوب: ازدياده عند سماع القرآن وتلاوته، وذكر الله وطاعته وعبادته؛ وذلك لأن الإيمان الحقيقي هو النور الواقع في القلوب بعد انفتاح روزنة القلوب من أنوار تجلي شموس صفات مالك يوم الدين للقلوب المشتاقة، فتكون وجوه القلوب النافرة من دنس حب الدنيا بذلك النور إلى ربها وحبيبها ناظرة، فلما تليت على أصحابها الآيات، أو تلوها، أو ذكروا بالله، أو ذكروه، أو عملوا عملا صالحا زاد انفتاح روزنتها بقدر صدقها وشوقها، فيزيد فيها نور الإيمان فيزدادون إيمانا مع إيمانهم.
{ وعلى ربهم يتوكلون } [الأنفال: 2] يعني: فحينئذ على ربهم يتوكلون لا على الدنيا وأهلها، فإن من شاهد بنور الإيمان جمال الحق وجلاله، فقد استغرق في بحر لجي من شهود الحق بحيث لا مستغرق لغيره، ويرى الأشياء مضمحلة تحت سطوات جلاله فيكون توكله عليه لا على غيره.
ومن صفاتهم أنهم { الذين يقيمون الصلاة } [الأنفال: 3] أي: يديمونها بملازمة العبودية ظاهرا وباطنا، ولا يشتغلون بطلب الدنيا وإن كانت حاجتهم، قائمة بها لإدامة الصلاة، { ومما رزقناهم ينفقون } [الأنفال: 3] أي: ومما أعطيناهم من غير طلبهم يصرفون في مصالح الدين وحراثة الآخرة وتقربا إلى الله تعالى، { أولئك هم المؤمنون حقا } [الأنفال: 4] لاستكمال شرائط الإيمان فيهم بالتحقيق لا بالتقليد، ووقوع نور الحق في قلوبهم، وتهون ظلمة الباطل عنها، { لهم درجات عند ربهم } [الأنفال: 4] على قدر استعلاء ذلك النور وتمكنهم في مقام العندية، { ومغفرة } [الأنفال: 4] أي: عطف من عواطفه يستر بنوره ظلمة وجودهم، { ورزق كريم } [الأنفال: 4] أي: عطاء كريم يناسب كرمه.
ثم أخبر عن تحقيق هذا لنبيه بقوله تعالى: { كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق } [الأنفال: 5] إلى قوله:
إن الله عزيز حكيم
[الأنفال: 10] الإشارة فيها أنه تعالى أخرج المؤمنين الذين هم المؤمنون حقا عن أوطان البشرية إلى مقام العندية بجذبات العناية، { كمآ أخرجك ربك من بيتك } [الأنفال: 5] أي: من وطن وجودك { بالحق } أي: بمجيء الحق من تجلي صفات جماله وجلاله.
{ وإن فريقا من المؤمنين } [الأنفال: 5] أي: القلب والروح، { لكارهون } [الأنفال: 5] يعني: للفناء من التجلي، فإن البقاء محبوب والفناء مكروه على كل ذي جود.
[8.6-11]
{ يجادلونك } [الأنفال: 6] الروح والقلب، { في الحق } [الأنفال: 6] أي: في مجيء الحق، { بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } [الأنفال: 6] الفناء كمن يساق إلى الموت، { وإذ يعدكم الله } [الأنفال: 7] أيها السائرون إلى الله، { إحدى الطآئفتين أنها لكم } [الأنفال: 7] إما الظفر بالأعداء وهي النفوس، فإن الظفر بها نهاية إقدام الرجال السائرين، وعزيز الواردات الروحانية وغنائم الأسرار الربانية.
{ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } [الأنفال: 7] أي: أردتم ألا تجاهدوا عدو النفس ذات المكر والحيلة والهوى، واستحليتم الواردات والشواهد الغيبية وذلك أن السير قسمان: سير السالكين على أقدام الطاعات وتبديل الصفات النفسانية إلى جنات الروحانية، وسير المجذوبين على أجنحة عنقاء الجذبات إلى وراء قاف الأنانية، ألا ترى إلى حال موسى عليه السلام أنه لما كان من السالكين كان سيره إلى ميقات ربه قال تعالى:
ولما جآء موسى لميقاتنا
[الأعراف: 143]، وكان مقامه مع الله المكالمة؛ إذ لم يجاوز طور النفس، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما كان من المجذوبين كان سيره على جناح جبريل عليه السلام إلى سدرة المنتهى ومنها على رفرف الجذبة الإلهية إلى قاب قوسين أو أدنى فكان مقامه مع الله المشاهدة لما جاوز عن قاف الأنانية، فمن العناية ألا يكل الله السائر إلى ما يوافق طبعه وهواه؛ بل يخرجه من ظلمات الطبيعة إلى نور الحقيقة، كما قال تعالى: { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } [الأنفال: 7] بجذباته.
{ ويقطع دابر الكافرين } [الأنفال: 7] يعني: يقطع بمجيء الحق دابر كفار النفوس عن المجذوبين، { ليحق الحق } [الأنفال: 8] بالمجيء، { ويبطل الباطل } [الأنفال: 8] بالزهوق عند مجيء الحق، { ولو كره المجرمون } [الأنفال: 8] أي: النفوس الأمارة بالسوء، { إذ تستغيثون ربكم } [الأنفال: 9] يعني: عند استغاثة الروح والقلب من النفوس إلى الله عند استيلاء صفاتها وغلبة هواها على الروح والقلب.
{ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة } [الأنفال: 9] أي: ألف صفة من الصفات الملكية والروحانية، { مردفين } [الأنفال: 9] متعاقبين؛ لتكون صفات النفس بها مغلوبة، { وما جعله الله } [الأنفال: 10] يعني: هذا الإمداد، { إلا بشرى } [الأنفال: 10] أي: إلا بشهادة لكم بتبديل الأخلاق.
{ ولتطمئن به } [الأنفال: 10] أي: بهذا التبديل ، { قلوبكم } [الأنفال: 10] وتتحقق عندكم النتائج من أمارات النصر والظفر بالنفوس، { وما النصر } [الأنفال: 10] الحقيقي الذي هو الظفر بالنفس وهلاكها واضمحلال صفاتها، { إلا من عند الله } [الأنفال: 10] يعني: بتجلي صفة القهارية، { إن الله عزيز } [الأنفال: 10] لا يوصل إلا بعد فناء الوجود، { حكيم } [الأنفال: 10] بمن يفنيه عنه ويبقيه به.
ثم أخبر عن آثار لطفه مع الأخيار وأثار قهره مع الأشرار بقوله تعالى: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } [الأنفال: 11] إلى قوله:
وأن للكافرين عذاب النار
[الأنفال: 14] يشير إلى: النعاس في المعركة عند مواجهة العدو وقتاله والأمن منه بدل الخوف، إنما هو من تقليب الحال إلى ضده بأمر التكوين.
كما قال تعالى للنار:
ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69] فكانت كذلك، قال للخوف: كن أمنا على محمد وأصحابه فكان، { وينزل عليكم من السمآء مآء } [الأنفال: 11] يعني: من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني، { ليطهركم به } [الأنفال: 11] من دنس الصفات النفسانية والحيوانية، { ويذهب عنكم رجز الشيطان } [الأنفال: 11] أي: وساوسه وهواجسه، { وليربط على قلوبكم } [الأنفال: 11] بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين، { ويثبت به الأقدام } [الأنفال: 11] على استقامة الطلب.
[8.12-16]
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } [الأنفال: 12] أني معكم في تثبيتهم يعني: التثبيت من الله لا من غيره نظيره قوله تعالى:
يثبت الله الذين آمنوا
[ابراهيم: 27].
{ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [الأنفال: 12] يشير إلى تثبيت المؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين وكل خير وشر منه سبحانه، قوله تعالى: { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [الأنفال: 12] هذا كله وأمثاله منه تعليما وتقديرا وتيسيرا.
{ ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله } [الأنفال: 13] أي: إلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وضرب أعناقهم بأنهم شاقوا الله ورسوله أي: خالفوهما وتركوا رضاءهما واتبعوا الهوى. يشير إلى أن كل سعادة وشقاوة تحصل للعبد في الدنيا والآخرة يكون للعبد فيه مدخل بالكسب موجب لذلك، دل عليه قوله تعالى: { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } [الأنفال: 13] أي: من شدة عقاب أنهم شاقوا الله ورسوله يعني: سبق منهم ما عاقبهم الله بالمشاقة.
{ ذلكم فذوقوه } [الأنفال: 14] أي: ذوقوا العاجل منه صورة ومعنى، أما صورة: فبالقتل والأسر والمصائب والمكروهات، وأما معنى: فبالبعد والطرد عن الحضرة، وتراكم الحجب، وموت القلب، وعمى البصيرة، وضعف الروح، وقوة النفس، واستيلاء صفاتها وغلبة هواها وما يبعده عن الحق ويقربه إلى الباطل، { وأن للكافرين } [الأنفال: 14] في الآخرة، { عذاب النار } [الأنفال: 14] عذاب نار القطيعة والحرمان.
ثم أخبر عن آداب القتال مع الكفار بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } [الأنفال: 15] الإشارة فيها: { يأيها الذين آمنوا } القلوب المؤمنة، { إذا لقيتم } كفار النفوس وصفاتها، { فلا تولوهم الأدبار } أي: لا تنهزموا من سطوات النفوس وغلبات صفاتها فتقعوا عن صراط مستقيم الطلب، وتستولي النفوس، وتنكسر القلوب وتضمحل صفاتها عند استيلاء صفات النفوس فتهلك القلوب، بل اثبتوا بالصبر عند صدمات النفوس فإن الصبر عند الصدمة الأولى، { ومن يولهم يومئذ دبره } [الأنفال: 16] ومن ينهزم من القلوب عن النفوس يوم استيلائها وغلبات صفاتها.
{ إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } [الأنفال: 16] يعني: إلا قلبا ينحرف لتهيئوا أسباب القتال مع النفس، أو راجعا إلى الاستمداد من الروح وصفاته، أو إلى ولاية الشيخ يستمد منها، أو إلى الحضرة الربانية مستمدا في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة والرياضة؛ لتنكسر غلبات صفات النفس، وتنطفئ ثورتها فيظهر شواهدها القلوب فيها بالتقوى، فإن المجاهدات تورث المشاهدات، وأما { فقد بآء بغضب من الله } [الأنفال: 16] يعني: بطرد وإبعاد منه، { ومأواه جهنم } [الأنفال: 16] البعد عن الحضرة ونار القطيعة، { وبئس المصير } [الأنفال: 16] أي: بئس المرجع والميعاد.
[8.17-21]
ثم أخبر عن إحسانه مع أهل الإيمان والعرفان بقوله تعالى: { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } [الأنفال: 17] نفى عن الصحابة القتل بالكلية، وأحال القتل إلى نفسه تعالى بقوله: { ولكن الله قتلهم }؛ لأنه تعالى كان مسبب أسباب القتل من إمداد الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار، وتقوية قلوب المؤمنين بتثبيت أقدامهم، وإذهاب رجز الشيطان عنهم، وربط الصبر على قلوبهم، فالفعل يحال إلى السبب والمسبب كقولهم: القلم يكتب مليحا، وهو السبب، والكاتب يكتب مليحا، وهو المسبب للكتابة.
وقال تعالى: { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [الأنفال: 17] نفى الرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: { وما رميت } [الأنفال: 17] ثم أثبت له الرمي بقوله: إذ رميت، ثم نفى عنه بقوله: { ولكن الله رمى } أثبت الرمي لنفسه تعالى، والفرق فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصاحبة نفي القتل عن الصحابة بالكلية، وأحاله إلى نفسه تعالى فجعلهم سببا للقتل وهو المسبب، وهاهنا ما نفى الرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية؛ بل أسند إليه الرمي ولكن نفى وجوده بالكلية في الرمي وأثبته لنفسه، وما رميت بك إذ رميت ولكن رميت بالله وذلك في مقام التجلي، فإذا تجلى الله لعبد بصفة من صفاته يظهر على العبد منه فعل يناسب تلك الصفة كما كان من حال عيسى عليه السلام، فلما تجلى له بصفات الإحياء كان يحيي الموتى بإذنه أي: به، وهذا كقوله تعالى:
" كنت له سمعا وبصرا... "
الحديث، فلما تجلى للنبي صلى الله عليه وسلم بصفة القدرة كان يرمي به حين رمى وكان يده يد الله في ذلك لما كشف الغطاء عن هذه الحقيقة في قوله تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
[الفتح: 10].
ثم أخبر الله تعالى: { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } [الأنفال: 17] أي: لينعم عليهم مما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من إظهار القدرة بالرمي بأن يهديهم إلى هذا المقام الكريم، فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام إذ لهم في رسول الله أسوة حسنة، { إن الله سميع } [الأنفال: 17] أي: مجيب لدعائهم عند طلب هذا المقام، { عليم } [الأنفال: 17] بنياتهم فيما يطلبون منه.
{ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } [الأنفال: 18] أي: ذلك الإبلاء مما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالله وقدرته؛ ليعلموا أن الله مضعف مبطل يد كفار النفوس واستيلاء صفاتها بالتجلي، ثم قال تعالى: { إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح } [الأنفال: 19] أي: إن تفتحوا قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي فقد جاءكم الفتح بالتجلي، فإن الله متجل في ذاته أزلا وأبدا فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق، فإنهم عند انغلاق أبواب قلوبهم إلى الله محرومون عن التجلي وعند انفتاح أبوابها محظوظون به، ثم قال تعالى: { وإن تنتهوا } [الأنفال: 19] أي: عن غير الله في طلب الله، { فهو خير لكم } [الأنفال: 19] من سواه، { وإن تعودوا } [الأنفال: 19] إلى الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها وزخارفها وإلى ما سوى الله، { نعد } [الأنفال: 19] إلى خذلانكم ونكفكم إلى أنفسكم وهواها ودواعيها وغلبات صفاتها.
{ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا } [الأنفال: 19] أي: لا تقوم لكم الدنيا والآخرة وما فيها مقام شيء من مواهب الله وألطافه، { ولو كثرت } [الأنفال: 19] يعني: وإن كثرت نعم الله تعالى من الدنيوية والأخروية فلا توازي شيئا مما أنعم الله على أهل الله وخاصته، { وأن الله } [الأنفال: 19] بأصناف ألطافه، { مع المؤمنين } [الأنفال: 19] بهذه المقامات وطالبها؛ ليبلغهم إليها بفضله ورحمته لا بحولهم وقوتهم.
ثم أخبر عن طريق الوصول إلى هذه الأصول بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا } [الأنفال: 20] إلى قوله:
معرضون
[الأنفال: 23] الإشارة فيها: { يأيها الذين آمنوا } الإيمان الحقيقي لا الإيمان التقليدي، { أطيعوا الله } [الأنفال: 20] فيما يدعوكم إلى حضرة جلاله، { ورسوله } [الأنفال: 20] أي: أطيعوا رسوله الذي أرسله إليكم؛ ليكون داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ولتهتدوا بنور نبوته في متابعته إلى حضرة جلاله، { ولا تولوا عنه } [الأنفال: 20] ولا تعرضوا عن الرسول ومتابعته لكيلا تنقطعوا عن الله وتهلكوا في ظلمات البشرية، { وأنتم تسمعون } [الأنفال: 20] { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } [الأنفال: 21] بآذان القلوب.
[8.22-26]
{ إن شر الدواب } [الأنفال: 22] أي: شر من دب في الوجود، { عند الله } [الأنفال: 22] في مراتب الموجودات، { الصم } [الأنفال: 22] عن استماع كلام الحق بسمع القبول والقلوب، { البكم } [الأنفال: 22] عن كلام الحق والكلام مع الحق، وإنما خص الصم والبكم بالذكر؛ لأن الأصم لا بد وأن يكون أبكم.
{ الذين لا يعقلون } [الأنفال: 22] أي: لا يعلمون لماذا خلقوا وما لهم من الاستعداد في طلب الكمال وانصرافهم في إفساد الاستعداد، فاعلم أن الإنسان خلق في أحسن تقويم قابلا للتربية والترقي مستعدا للكمال لا يبلغه الملك والقرب في بدء الخلقة دون الملك وفوق الحيوان، فبتربيته الشريعة يصير فوق الملك فيكون خير البرية وبمخالفة الشريعة ومتابعة الهوى يصير دون الحيوان فيكون شر البرية فيؤول حال من يكون خيرا من الملك إلى أن يكون شر الدواب.
ثم قال تعالى: { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } [الأنفال: 23] كلامه بسمع القبول، { ولو أسمعهم } [الأنفال: 23] بسمع القلوب قدرة عند عدم استحقاق الخيرية، { لتولوا } [الأنفال: 23] عن متابعة الرسول في أثناء السلوك، { وهم معرضون } [الأنفال: 23] عن الله وطلبه ومقبلون على الدنيا وزخارفها لما قدرهم من الشقاوة وخصوصية شر الدوابية.
ثم أخبر عمن أودع له استحقاق الخير في استجابة الله ورسوله من البرية بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } [الأنفال: 24] إلى قوله: { واعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال: 25] الإشارة فيها: أن الله تعالى يطلب للحجة من العبد الإجابة، كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة، فقال: { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } والاستجابة لله استجابة الأرواح للشهود، واستجابة القلوب للشواهد، وإجابة الأسرار للمشاهدة، وإجابة الخفي للفناء في الله، والاستجابة للرسول بالمتابعة، { إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24] بنور الله؛ يعني: يفنيكم عنكم ويبقيكم به، { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [الأنفال: 24] يعني: إذا تجلى الله على قلب المرء يحول بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه، { وأنه إليه تحشرون } [الأنفال: 24] بالفناء عنكم والبقاء به.
ثم قال تعالى: { واتقوا } [الأنفال: 25] أيها الواصلون، { فتنة } [الأنفال: 25] يعني: أن ابتلاء النفوس بشيء من حظوظها من الدنيوية والأخروية، { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة } [الأنفال: 25] يعني: لا تصيب تلك الفتنة النفوس الظالمة فقط؛ بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية، فتجذبها من حضائر القدس ورياض الأنس إلى خصائص صفات الإنس، كما قال تعالى:
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
[الأعراف: 182]، { واعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال: 25] فيما يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عند التفاوت إلى ما سواه.
ثم أخبر عن الذاكرين الشاكرين بقوله تعالى: { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } [الأنفال: 26] إلى قوله:
والله ذو الفضل العظيم
[الأنفال: 29] والإشارة فيها: { واذكروا إذ أنتم } أيها الروح والقلب، { قليل } ثم تنشأ بعد ذلك الصفات والأخلاق الروحانية، { مستضعفون } من غلبات صفات النفس وهواها واستيلاء الشيطان وحزبه؛ وذلك لأن الروح والقلب في بدء الخلقة وتعلقهما بالقالب، وكذا صفاتهما مستضعفون لأعوان التربية بلبان آداب الطريقة، وانعدام جريان أحكام الشريعة عليهم إلى إذان البلوغ والتربية في هذه المدة للنفس وصفاتها لاستحكام القالب بحمل أعباء تكاليف الشريعة، وهما أعني: الروح والقلب، { تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم } [الأنفال: 26] إلى حضائر القدس.
{ وأيدكم بنصره } [الأنفال: 26] بالواردات الربانية، { ورزقكم من الطيبات } [الأنفال: 26] من المواهب الظاهرة من لوث الحدوث، { لعلكم تشكرون } [الأنفال: 26] فتستحقون المزيد.
[8.27-30]
{ يأيها الذين آمنوا } [الأنفال: 27] أي: أيها الأرواح والقلوب المنورة بنور الإيمان المستعدة بسعادة العرفان.
{ لا تخونوا الله } [الأنفال: 27] فيما أتاكم من المواهب فتجعلوها سبيكة الدنيا واصطياد أهلها، { والرسول } [الأنفال: 27] فخيانة الرسول ترك السنة وقيام البدعة، { وتخونوا أماناتكم } [الأنفال: 27] والأمانة: هي محبة الله تعالى، وخيانتها بتبديلها بمحبة المخلوقات، يشير إلى أن أرباب القلوب وأصحاب السلوك إذا بلغوا إلى أعلى مراتب المقامات والقربات ثم التفتوا إلى شيء من الدنيا وزينتها، وخانوا الله بنوع من التصنع، وخانوا الرسول بالتبدع وترك التتبع، وتتعدى الخيانة وآفاتها إلى الأمانة التي هي المحبة، فتسلب عنهم بالتدريج فيكون ركونهم إلى الدنيا وسكونهم إلى جمع المال حرصا على الأولاد، { وأنتم تعلمون } [الأنفال: 27] أنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى، { واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم } [الأنفال: 28] تعرضون على الله لها، { فتنة } [الأنفال: 28] لها فتنة يحيركم الله بها لكي يميز الموافق من المنافق والصديق من الزنديق، فمن يعرض عن الدنيا وما فيها صدقا في طلب المولى، { وأن الله عنده أجر عظيم } [الأنفال: 28] فمن ترك ما عنده في طلب ما عند الله يجده عنده وعنده أجر عظيم، والعظيم هو الله على تحقيقه فيجد الله تبارك وتعالى.
ثم أكد الكلام بقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله } [الأنفال: 29] أي: يا من آمن بهذه المقامات والكرامات إن تتقوا بالله من غير الله، { يجعل لكم فرقانا } [الأنفال: 29] يفيض عليكم من يحال نواله فيضا من أنوار جماله القديم، فيفرق به بين الحدوث والقدم وهذا أمر عظيم لا تحتمله العقول المشوبة بآفة الوهم والخيال، { ويكفر عنكم سيئاتكم } [الأنفال: 29] سيئات وجودكم الفاني، { ويغفر لكم } [الأنفال: 29] أي: يستركم بأنوار جماله وجلاله، { والله ذو الفضل العظيم } [الأنفال: 29] لمن يجاوز عما عنده راغبا فيه عند الله، والفضل العظيم هو البقاء بعد الفناء.
ثم أخبر عن حال الماكرين الممكورين بقوله تعالى: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [الأنفال: 30] إلى قوله:
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
[الأنفال: 35] الإشارة فيها: أن للمخلوق مكرين: مكر بخلق الحيلة والعجز، ومكر الخالق من القدرة والحكمة، فمكر الخلق مع مكر الخالق باطل زاهق؛ لأن مكر الخالق حق ثابت، كما قال تعالى: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: 30] لأن مكره بالخير لمحمد صلى الله عليه وسلم ودفع الشر عنه ومكر الكفار بالشر له؛ وأيضا لأن مكره مع أهل المكر والخذلان ومكرهم مع أهل الحق العرفان؛ وأيضا لأن مكره لإصلاح حال أهل الصلاح وإفساد حال أهل الفساد، ومكرهم لإفساد حال الصلاح وإصلاح حال أهل الفساد، وذلك الإصلاح يؤدي إلى فساد حال الماكرين وحال من يريدون به الصلاح لقوله تعالى:
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر: 43].
[8.31-35]
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا } [الأنفال: 31] وما سمعوا على الحقيقة؛ لأنها قرآن يهدي إلى الرشد كما سمعت الجن وأنهم سمعوا أساطير الأولين، ولهذا { لو نشآء لقلنا مثل هذا إن هذآ إلا أساطير الأولين } [الأنفال: 31] فإنهم يقدرون على أن يقولوا: { أساطير الأولين } ولكن لا يقدرون على أن يقولوا مثل القرآن؛ لأن القرآن كلام الله وصفته القديمة وما يقولون هو كلامهم المحدث المخلوق، فلا يكون مثل القرآن في الصلاة والصفة والمعنى والحقيقة والأسرار والأنوار، ولا يقدر على مثله الخلائق كلهم كما قال تعالى:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
[الإسراء: 88].
ثم انظر كيف استخرج الله منهم عقيب دعوتهم { لو نشآء لقلنا مثل هذا } قولهم: { إن هذآ إلا أساطير الأولين } ، { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [الأنفال: 32] ليعلم أن غاية عقلهم ونهاية فهمهم أن يقولوا مثل هذه المقالة من غاية الضلالة والجهالة، ولا يقولوا بدلا عنها: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ومتعنا به واجعله شفاء قلوبنا ونور به صدورنا، وأمثال هذا فكيف بمن يكون هذا حاله أن يكون مثل القرآن مقاله.
ثم قال تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [الأنفال: 33] يا محمد وإن طلبوا العذاب بالجهل؛ لأنك رحمتي فيهم كما قال تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إنما أنا رحمة مهداة "
، فالرحمة والعذاب ضدان، فالضدان لا يجتمعان، { وما كان الله معذبهم } [الأنفال: 33] في الدنيا والآخرة، { وهم يستغفرون } [الأنفال: 33] يعني: وهم أهل الاستغفار أي: أهل الإيمان؛ لقوله تعالى:
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم
[النساء: 147]، وقال تعالى:
وإني لغفار لمن تاب
[طه: 82].
ثم قال تعالى: { وما لهم ألا يعذبهم الله } [الأنفال: 34] إذ لم يستغفروا لم يؤمنوا، { وهم يصدون } [الأنفال: 34] يعني: أهل الإيمان، { عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه } [الأنفال: 34] فيه إشارة إلى أن الله تعالى لا يعذب أولياءه وإن فعلوا؛ بل يتوب عليهم ويجعلهم من المتقين كما قال تعالى: { إن أوليآؤه إلا المتقون } [الأنفال: 34] وفيه إشارة إلى أن الأولياء هم الأتقياء بالله عما سواه، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأنفال: 34] ولكن أكثر المتقين لا يعلمون أنهم أولياء الله، وبه يشير إلى إيمان بعض الأولياء لا يجوز أن يعلم الأولى، ولكن الأكثرين من الأولياء لا يعلمون أنهم أهل الولاية، ثم قال تعالى: { وما كان صلاتهم } [الأنفال: 35] يعني: ما كان الكفار يوم كفرهم، { عند البيت } [الأنفال: 35] مع عظم قدره بدل الصلاة التي تصيب أهل السعادة بشقاوتهم، { إلا مكآء وتصدية فذوقوا العذاب } [الأنفال: 35] أي: عذاب هذه الشقاوة، { بما كنتم تكفرون } [الأنفال: 35] أي: بشؤم كفركم.
[8.36-40]
ثم أخبر عن خسارة أهل الكفر وخسارتهم بقوله تعالى: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } [الأنفال: 36] إلى قوله: { أولئك هم الخاسرون } [الأنفال: 37] الإشارة فيها: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا } أي: كما أن من دأب الكفار أن ينفقوا أموالهم التي لها صلاحية الإنفاق في سبيل الله، ولتقبل القلوب بها إلى الله؛ ليصدوا عن سبيل الله الخلق بها، كذلك دأب كفار النفوس، أن تنفقوا أموال الاستعداد الفطري التي لها صلاحية الصرف في طلب الله وتحصيل الكمال الإنساني؛ ليصدوا القلوب والأرواح المقبلة إلى الله تعالى عن سبيل الله وطلبه باتباع الهوى وطلب شهوات الدنيا، { فسينفقونها } [الأنفال: 36] يعني: الاستعدادات في استيفاء اللذات الحيوانية والشيطانية، { ثم تكون عليهم حسرة } [الأنفال: 36] أي: عند تحقيق فسادها وتضيع فرصتها، كما قيل:
أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات
فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات
{ ثم يغلبون } [الأنفال: 36] أي: لا يظفرون بالمرامات الدنيوية التي هي مرام النفوس كلها في الأعمال القصيرة المتشابهة وتفوت لهم السعادات الكاملة الأخروية الأبدية، { والذين كفروا } [الأنفال: 36] يعني: من الأرواح والقلوب باتباعهم الهوى، وطلب شهوات الدنيا في موافقة النفوس ومخالفة الشريعة والطريقة، { إلى جهنم يحشرون } [الأنفال: 36] أي: يجمعون في جهنم البعد والقطيعة عن الله تعالى مع النفوس المتمردة.
{ ليميز الله الخبيث من الطيب } [الأنفال: 37] أي: ليميز الأرواح والقلوب الخبيثة التي تخدع النفوس تميل إلى الدنيا وزخارفها، وتتبع الهوى وتتحرى لغة الشرائع والأنبياء - عليهم السلام - من الأرواح والقلوب الطيبة التي لا تتبع الهوى، ولا تركن إلى الدنيا، ولا تنخدع بخداع النفوس وحيلها؛ بل تقبل إلى الله وطلبه في متابعة الأنبياء ومخالفة الهوى، وأيضا الطيب من الأحوال ما يبذل في طلب الله تعالى على الطالبين، والخبيث ما يلتفت إليه الغالب من غير حاجة ضرورية، فينقله الله تعالى وطلبه يكون قاطع طريقه.
{ ويجعل الخبيث بعضه على بعض } [الأنفال: 37] أي: بعض أرواح القلوب الخبيثة على بعض النفوس، { فيركمه جميعا } [الأنفال: 37] وذلك أن الله تعالى خلق الروح نورانيا علويا وخلق النفس ظلمانية سفلية ثم أشرك بينهما وجعل رأس مالهما الاستعداد الفطري القابل للترقي والكمال في القربة والمعرفة والخسارة والنقصان فيها؛ لربح كل واحدة منها على تجارة قوله تعالى:
هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم
[الصف: 10-11] ولتستعين كل واحدة منهما في الترقي من مقامه بما أودع فيهما، فمن الناس من ربح روحه ونفسه جميعا على هذه التجارة بأن آمن وجاهد بنفسه وماله في سبيل الله وطلبه وبلغ مبلغ الرجال البالغين، ومنهم من ربح روحه بأن آمن بالله ورسوله وخسرت نفسه بأن عصت الله وخالفت الشريعة، ومنهم من خسر روحه ونفسه جميعا بأن لم يؤمن بالله ورسوله وكفر بهما.
قيل: دخل على الشبلي - رحمه الله - في وقت وفاته وهو يقول: " يجوز يجوز " ، فقيل له: ما معنى قولك: " يجوز "؟
فقال: خلق الله الروح والنفس وأشرك بين الروح والنفس فعملا واتجرا سنين كثيرة فحوسبا؛ فإذا هما قد خسرا وليس معهما ربح فقد عزما على الافتراق، وأنا أقول: شركة لا ربح فيها يجوز أن يقع بين الشريكين افتراق.
ثم أخبر عن مغفرته مع أهل رحمته بقوله تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [الأنفال: 38] إلى قوله: { ونعم النصير } [الأنفال: 40] الإشارة: { قل للذين كفروا } من الأرواح والقلوب بأن ستروا النور الروحاني بظلمات الصفات النفسانية الحيوانية السبعية في اتباع الهوى واتباع الدين بالدنيا، { إن ينتهوا } عن اتباع الهوى ومطاوعة النفس ومخالفة الشرع، { يغفر لهم ما قد سلف } أي: تستر تلك الظلمات بنور المغفرة وهو النور الرباني الذي يمحو بالظلمات الإنسانية، { وإن يعودوا } [الأنفال: 38] لمتابعة الهوى ومخالفة الشرع، { فقد مضت سنت الأولين } [الأنفال: 38] من الأنبياء والأولياء في أن اتبعوا الهوى يضلهم عن سبيل المولى، كما قال تعالى لداود عليه السلام:
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله
[ص: 26].
{ وقاتلوهم } [الأنفال: 39] يعني: قاتلوا كفار النفوس والهوى بسيف الصدق تحت راية الشريعة في جهاد الطريقة، { حتى لا تكون } [الأنفال: 39] النفس والهوى عند الاستيلاء وغلبات صفاتها، { فتنة } [الأنفال: 39] آفة مانعة لكم عن الوصول إلى عالم الحقيقة، { ويكون الدين كله لله } [الأنفال: 39] ببذل الوجود وفقد الوجود لنيل الجود ، { فإن انتهوا } [الأنفال: 39] النفوس عن معاملاتها، وتبدلت عن أوصافها، وطاوعت القلوب والأرواح، وصارت مأمورة مطمئنة تحت الأحكام، { فإن الله بما يعملون } [الأنفال: 39] في عبوديته وصدق طلبه، { بصير } [الأنفال: 39] لا يخفى عليه نقير ولا قطمير فيجازيهم على قدر مساعيهم.
{ وإن تولوا } [الأنفال: 40] أي: أعرضوا النفوس عن الحقوق، وأقبلوا إلى الشهوات والحظوظ، { فاعلموا } [الأنفال: 40] أيها القلوب والأرواح، { أن الله مولاكم } [الأنفال: 40] في الهداية وناصركم على قهر النفوس وقمع الهوى، { نعم المولى } [الأنفال: 40] هو مولاكم لتهتدوا به، { ونعم النصير } [الأنفال: 40] في دفع ما يقطعكم عنه، وناصركم في الوصول إليه.
[8.41-45]
ثم أخبر عن دعائم الغنائم بقوله تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [الأنفال: 41] إلى قوله: { ترجع الأمور } [الأنفال: 44] الإشارة فيه: { واعلموا أنما غنمتم من شيء } يا أهل الجهاد الأكبر عند الفطرة النفوس التي هي عدوكم وغنائم النفوس المقتولة ما تبدلت به صفاتها من التخلق بأخلاق الله تعالى: { فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [الأنفال: 41] يشير إلى أن ما غنمتم عند رفع حجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار، ولا تنفقون أكثر من خمسها في الله مخلصا وللرسول متابعا { ولذي القربى } يعني: الإخوان في الله تواصلا، { واليتامى } يعني: أهل الطلب الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال.
{ والمساكين } يعني: الطالبين الصادقين، والذين تمسكوا بأيدي الإرادة أذيال إرشادكم، { وابن السبيل } يعني: الصادر والوارد من أهل الصدق والإرادة مراعيا جانب كل طائفة منهم على حسب صدقهم وإرادتهم وطلبهم واستعدادهم واستحقاقهم مؤديا حقوقهم لله في الله وبالله في متابعة الرسول إلى مقام المعاينة.
{ آمنتم بالله } [الأنفال: 41] عيانا كما آمن الرسول به ليلة المعراج وكوشفتم بحقائق، { ومآ أنزلنا على عبدنا } [الأنفال: 41] في سر:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، { يوم الفرقان } [الأنفال: 41] الذي فيه
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2]، { الفرقان يوم التقى الجمعان } [الأنفال: 41] جميع الصفات الإنسانية، وجميع الأخلاق الربانية، فصار لمحمد صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى خلوة لا يسع فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل، { والله على كل شيء قدير } [الأنفال: 41] أي: قادر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء من الوجود والبقاء بالمعبود، كما أوصل إليه رسوله، وقد أعطاكم هذه المرتبة وقدركم وأكرمكم بها أيها الصادقون في الطلب، { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } [الأنفال: 42] أي: نفوسكم بجانب الدنيا نازلة، { وهم بالعدوة القصوى } [الأنفال: 42] يعني: الأرواح بأقصى عالم الملكوت.
{ والركب أسفل منكم } [الأنفال: 42] يعني: الهياكل والقوالب بأسفل من الأرواح والنفوس، فإنها أسفل سافلين أي: إلى القوالب، { ولو تواعدتم } [الأنفال: 42] أيها الأرواح والنفوس والأجساد بالإجماع، { لاختلفتم في الميعاد } [الأنفال: 42] لما بينكم من التباين والاختلاف والضدية يعني: لما جمعتم بالاختيار لاختلاف طبائعكم، { ولكن } [الأنفال: 42] جمعكم الله بالقدرة والحكمة، { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } [الأنفال: 42] ليجعل مرافق أرواحكم في مقعد صدق عن مليك مقتدر بعدما كانت في أقصى الملكوت ومنازل نفوسكم في عالم الأرواح مع الملائكة المقربين.
كما قال تعالى:
فادخلي في عبادي
[الفجر: 29] بعدما كانت محبوسة في سجن الدنيا، ومقامات أجسادكم في جنات النعيم وأعلى عليين بعدما كانت أسفل سافلين، { ليهلك } [الأنفال: 42] من أرواح الأشياء المزرؤة لجهنم، { من هلك } [الأنفال: 42] بمخالفة الشرائع، وتكذيب الأنبياء، ومتابعة الهوى، ومحبة الدنيا واستيفاء لذاتها وشهواتها، { عن بينة } [الأنفال: 42] أي: عن حجة ثابتة عليه بعد اجتماع الأرواح والنفوس والأجساد، مستعدة لقبول الإيمان والكفر وتصديق الأنبياء وتكذيبهم ومتابعتهم ومخالفتهم مستجمعة أسباب تمتعات الدنيوية والأخروية.
{ ويحيى } [الأنفال: 42] من أرواح السعداء المخلوقة للجنات والقربات، { من حي } [الأنفال: 42] بالإيمان وأنواره والإيقان وأسراره والعرفان وحقائقه، { عن بينة } [الأنفال: 42] حجة ثابتة عليه بعد كماله الاستعداد، وصرفه في طلب الكمال والوصول إلى حضرة ملك ذي الجلال، { وإن الله لسميع } [الأنفال: 42] لمن دعاه بالوصول والوصال إليه بالغدو والآصال، { عليم } [الأنفال: 42] بأحوال العباد ومصالحهم.
{ إذ يريكهم الله في منامك قليلا } [الأنفال: 43] مع كثرتهم في الصورة ليعتبر نومكم بأنهم قليلو المعنى قليلو القوة والشوكة، وأنه تعالى يكثر قلبكم بالملائكة وقوة القلب ويظهركم عليهم، { ولو أراكهم كثيرا } [الأنفال: 43] في الصورة والمعنى فحسبتموهم ذات الشوكة، { لفشلتم } [الأنفال: 43] كما هو طبع الإنسان، { ولتنازعتم في الأمر } [الأنفال: 43] أمر القتال، { ولكن الله سلم } [الأنفال: 43] قلوبكم عن الموت البشري بما أراكهم قليلا، { إنه عليم بذات الصدور } [الأنفال: 43] عالم بما في القلوب.
{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } [الأنفال: 44] أي: في أعين الصحابة كما أراكهم في النوم قليلا؛ ليعلم أن نومكم وحي ولا خلاف فيه لئلا تفشلوا، { ويقللكم في أعينهم } [الأنفال: 44] لأنهم ينظرون إليكم بالأبصار الظاهرة لا يرون كثرة معناكم وقوة قلوبكم ومددكم من الملائكة، فإنهم عمي البصائر والقلوب ولئلا يفروا من القتال كما فر إبليس لما رأى مدد الملائكة وهو قد جاء مع الكفار في صورة سراقة فقالوا له: أين تفر؟ فقال: لهم إني أرى ما لا ترون، والحكمة في ذلك { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } [الأنفال: 44] في علم الله، ومشيئته بقضائه وقدره وحكمة بالغة منه، وفيه إشارة إلى أن من سنة الله تعالى أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم حقائق الأشياء حقا وصدقا وهو يخبر بها ثم يرونها أرباب الصورة في الظاهر بضدها ابتلاء واختيارا للمؤمن والمنافق يزل قدمه ويشوش حاله، وبالاعتراض يزيد نفاقه على النفاق وعماه على العمى، { وإلى الله ترجع الأمور } [الأنفال: 44] فحال المؤمن وأمره يرجع إلى رضاه، وحال المنافق يرجع إلى سخطه، والرضا والسخط من آثار لطفه وقهره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم أخبر عن أسباب الفلاح لأرباب الصلاح بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } [الأنفال: 45] إلى قوله:
شديد العقاب
[الأنفال: 48] والإشارة فيها: { يأيها الذين آمنوا } [الأنفال: 45] يشير إلى أن القلوب والأرواح المؤمنة بشواهد الحق، { إذا لقيتم فئة } [الأنفال: 45] جماعة العدو، فالنفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها، { فاثبتوا } [الأنفال: 45] على ما أنتم عليه من اليقين والصدق والإخلاص والقلب، { واذكروا الله كثيرا } [ألأنفال: 45] فإنكم بمداومة الذكر تعبرون عن ظلمات الوجود، { لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45] تخلصون عن ظلمات الخلقية وتفوزون بأنوار الحقيقة.
[8.46-48]
{ وأطيعوا الله } [الأنفال: 46] ببذل الوجود في هويته.
{ ورسوله } [الأنفال: 46] فيما يقربكم إلى الله بأعماله وأحواله، فإن طاعته طاعة الله على الحقيقة وطاعة رسوله فيما يتيسر للعبد خلاصه عن صفات الوجود بآثار الوجود، { ولا تنازعوا } [الأنفال: 46] مع الإخوان في الله والأقران، فإنه يثبت الأنانية ويحجب عن الهوية ويزل الإقدام في طلب المرام، { فتفشلوا وتذهب ريحكم } [الأنفال: 46] عند الأعداء فتستولي النفس والشيطان، { واصبروا } [الأنفال: 46] عند تنازع الأقران والإخوان على الدين والتواضع وخفض الجناح وترك الرعونة وإخفاء السر، { إن الله مع الصابرين } [الأنفال: 46] الذين لا تنازع فيهم لحفظهم عن الرجوع إلى البشرية بالنصرة الربوبية.
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } [الأنفال: 47] أي: ديار أوصافهم، { بطرا ورئآء الناس } [الأنفال: 47] يعني: إذا كان الله معكم عند صبركم معينا لكم على الاستقامة، فلا تكونوا كالذين خرجوا من الدنيا وزينتها وتركوا أوطانهم وتزييوا بزي القوم تصنعا وشرفا في الإرادة، وما خرجوا عن أطوارهم ودواعي نفوسهم وداروا البلاد وزاروا العباد، وتفرحوا ليتباهوا بذلك على الإخوان ويتنافسوا مع الأقران، { ويصدون عن سبيل الله } [الأنفال: 47] الطالبين الصادقين بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم، { والله بما يعملون محيط } [الأنفال: 47] أي: بما يعملون مهلكهم يعني: إنما يهلكون بما يعملون.
ثم أخبر عن أحوال أهل التنازع، فقال تعالى: { وإذ زين لهم الشيطان } [الأنفال: 48] حين ظفر بهم عند التنازع، { أعمالهم } [الأنفال: 48] التي بها تنازعوا واختلفوا وتفاخروا.
{ وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } [الأنفال: 48] أي: النفس والهوى والدنيا والشيطان فغرهم بذلك، قال: { وإني جار لكم } [الأنفال: 48] أي: مجيركم من آفة الرياء والعجب، وذلك أن الشيطان إذا ظفر بالسالك يغره بالقوة والكمال والبلوغ إلى مرتبة الرجال أنه لا يضره التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات؛ بل يضعه في نفي الرياء إذ هو طريق أصل الملامة وبه ليسلك سبيل السلام.
{ فلما ترآءت الفئتان } [الأنفال: 48] فئة الأرواح والقلوب، وفئة النفوس وصفاتها وهواها والدنيا وشهواتها، وأمد الله تعالى فئة القلوب والأرواح بالأوصاف الملكية والواردات الربانية، وانهزمت النفوس وعساكرها، وزهقت أباطيلهم بمجيء الحق، { نكص } [الأنفال: 48] الشيطان.
{ على عقبيه } [الأنفال: 48] فيه إشارة إلى أن الشيطان عند استيلاء النفس وغلبات أوصافها وهواها يزين الدنيا وشهواتها وزخارفها للنفوس، ويعينها على طلبها واستيفاء لذاتها؛ ليضلها عن سبيل الله ، فلما استولت القلوب والأرواح على النفوس، وانقادت النفوس لحزب الله انكسرت أوصافها وهواها، واطمأنت بذكر الله وطاعته يكون الشيطان مخالفا لها بعد أن كان موافقا ومحبا ومعاونا لها، فيفر منها ويتبرأ منها، كما قال تعالى: { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } [الأنفال: 48] فلا يبقى له مدخل يدخل بها في النفوس ويوسوسها؛ لأنه يرى بنظر الروحاني على النفوس من القلوب أنوار الرباني ولو وقع على الشيطان منها تلألؤ يحرقه في الحال ولهذا قال: { إني أخاف الله والله شديد العقاب } [الأنفال: 48] وقد صدق الكذوب أنه يخاف من شدة عقاب الله تعالى، فإن عقابه وومضان بروق صفة قهره لو وقع عليه لتلاشى، ولذلك كان من يفر من ظل عمر و " ما سلك عمر رضي الله عنه فجا إلا وسلك الشيطان فجا آخر "؛ لئلا يقع عليه عكس نور ولاية عمر رضي الله عنه فيحرقه، وقد علم الشيطان أنه من المعذبين المعاقبين، وإنما خوفه من الله من شدة عقابه؛ لأنه يعلم أن لا نهاية لشدة عقابه والله قادر على أن يعاقبه بعقوبة أشد من الأخرى، وفيه إشارة أخرى إلى أن خوفه من الله تعالى يدل على أنه غير منقطع الرجاء، والله أعلم.
[8.49-54]
ثم أخبر عن مرض قلوب أهل الشقاوة وسلامة قلوب أهل الوفاق بقوله تعالى: { إذ يقول المنافقون } [الأنفال: 49] إلى قوله: { وكل كانوا ظالمين } [الأنفال: 54] الإشارة فيه: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } ومرض القلب على نوعين: نوع منه الشك في الإيمان والدين وحقيقته فذلك مرض قلوب الكفار والمنافقين، والثاني: ميلها للدنيا وشهواتها وملاحظة الحظوظ النفسانية وهو مرض قلوب المسلمين، والإشارة فيه: أن المرض كما يكون في قلوب الكفار والمنافقين بقدر كفرهم ونفاقهم وبقية ظلمات الكفر يكون في قلوب المسلمين بقدر معاصيهم من الأوصاف الذميمة الحيوانية، فمعالجة مرض قلوب الكفار والمنافقين بالإيمان والتصديق واليقين، ومعالجة مرض قلوب المسلمين بترك الدنيا وشهواتها وترك الحظوظ النفسانية، فإن ماتوا في مرضهم فهم من أهل النجاة من النار بعد العذاب وشفاعة الأنبياء، وربما يؤدي مرضهم بترك المعالجة والاحتمال إلى الهلاك وهو الكفر كما كان حال بعض المسلمين من الذين قالوا: غر هؤلاء دينهم، فلما تركوا العلاج وانقطعوا عن الطبيب وهو النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعوا من الغداء والمخالف وهو قولهم: { غر هؤلاء دينهم } [الأنفال: 49] هلكوا مع الهالكين ومن مرض قلوبهم فاعلموا أن { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز } [الأعراف: 49] منيع شر الأعداء من المتوكلين عليه، { حكيم } [الأنفال: 49] بنصرة المقللين على المكثرين، { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا } [الأنفال: 50] أي: الذين قالوا: غر هؤلاء دينهم، وكفروا باستحقاقهم بالدين، وأهل الدين { الملائكة يضربون وجوههم } [الأنفال: 50] يعني: إذا يقلبون وجوههم عن الإيمان إلى الكفر، { وأدبارهم } [الأنفال: 50] عن الكفر إلى الإيمان، ويقولون يوم القيامة { وذوقوا عذاب الحريق } [الأنفال: 50] والندم على ما فعلوا وارتدوا، { ذلك بما قدمت أيديكم } [الأنفال: 51] من الارتداد والكفر، { وأن الله ليس بظلم للعبيد } [الأنفال: 51] بأن يجازي أهل الأيمان بجهنم وعذابها، وإنما يجازي أهل الكفر والنفاق والارتداد بظلمهم على أنفسهم.
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله } [الأنفال: 52] أي: بمعجزات الأنبياء، { فأخذهم الله بذنوبهم } [الأنفال: 52] أي: جازاهم الله بقدر ذنوبهم، { إن الله قوي } [الأنفال: 52] في المجازات إظهارا للعزة والعظم، { شديد العقاب } [الأنفال: 52] لو يعاقبهم على قدر كماليته، فإن غير منتاه، وإنما يعاقبهم على قدر ذنوبهم { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم } [الأنفال: 53] أي: يكن مبدلا أحسن تقويم واستعداد عطائهم بضده، { حتى يغيروا } [الأنفال: 53] بالكفر والتكذيب وسوء العمل، { ما بأنفسهم } [الأنفال: 53] من نعمة الاستعدادات الحسنة، { وأن الله سميع } [الأنفال: 53] لمن دعاه إلى قهره بسوء أعماله ولسان حاله، { عليم } [الأنفال: 53] بما يستحقون في المجازاة، وبقدر استحقاقهم العذاب فيجازيهم به، { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم } [الأنفال: 54] إذا غيروا ما بأنفسهم من نعمة حسن الاستعداد بأن { كذبوا بآيات ربهم } [الأنفال: 54] من معجزات الأنبياء والكتب المنزلة عليهم، فلما غيروا ما بأنفسهم من النعمة غيرنا نعمة حسن الاستعداد الفطري.
{ فأهلكناهم بذنوبهم } [الأنفال: 54] أي: أفسدنا استعدادهم بشؤم معاملاتهم السيئة فهلكوا، { وأغرقنآ آل فرعون } [الأنفال : 54] يعني: فرعون وقومه أغرقناهم في بحر الهلاك لفساد استعدادهم بالكلية، فاختصوا بالاستغراق في بحر الهلاك عن غيرهم ادعاء فرعون بالربوبية وإقرار قومه وتصديقهم إياه بها، وهذا غاية فساد جوهر الروحانية باستيلاء الصفات النفسانية، ثم قال تعالى: { وكل كانوا ظالمين } [الأنفال: 54] يعني: كل من كفر بالله وكذب بآياته كانوا ظالمي أنفسهم؛ لاستعدادهم أن يبلغوا في الظلم والكفر وما بلغ فرعون وقومه.
[8.55-60]
ثم أخبر عن أهل الكفر أنهم شر الدواب بقوله تعالى: { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [الأنفال: 55] إلى قوله: { وأنتم لا تظلمون } [الأنفال: 60] الإشارة فيه: { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } يعني: بالذين كفروا النفوس المتمردة الأمارة بالسوء هم عند الله محكومون بالشقاوة في الأزل مكتوبون بشر الدواب كقوله:
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل
[الفرقان: 44]، { فهم لا يؤمنون } [الأنفال: 55] لما حكموا بالشقاوة الأبدي وإنما صاروا شر الدواب لأنهم { الذين عاهدت منهم } [الأنفال: 56] يوم الميثاق والخطاب مع الروح؛ لأن النفس المودعة في الذرة التي أخذ الله تعالى من ظهر آدم عليه السلام أقرت بربوبية الحق تعالى وعاهدته بتبعية الروح؛ لأن نوره وصفته غلبت على ظلمة النفس وصفاتها، { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } [الأنفال: 56] بمعصية من المعاصي وذنب من الذنوب، { وهم لا يتقون } [الأنفال: 56] من خاتمة السوء فيما ينقضون العهد مع الله بالإشراك وعبادة الهوى.
{ فإما تثقفنهم في الحرب } [الأنفال: 57] أي: لو ظفرت يا روح ببعض صفات النفس في جهادها، { فشرد بهم من خلفهم } [الأنفال: 57] أي: بالغ في تبديل تلك الصفات التي هي خلقها، { لعلهم يذكرون } [الأنفال: 57] يعتبرون ويتبدلون بالصفات الروحانية والأخلاق الربانية، { وإما تخافن من قوم خيانة } [الأنفال: 58] أي: تفرست من بعض تلك الصفات خيانة نقض العهد، والعود إلى طبعها الخسيس، والرجوع إلى أوصافها، { فانبذ إليهم على سوآء } [الأنفال: 58] يعني: أظهر عليهم عداوتك معهم، وجاهدهم على سوية رجوعهم حتى يفنوا إلى العهد، ويتركوا خيانة النقض، { إن الله لا يحب الخائنين } [الأنفال: 58] معه في العهود، { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } [الأنفال: 59] أي: النفوس التي كفرت ونقضت العهود ورجعت إلى أوصافها أنهم سبقونا وخرجوا من تصرفنا.
{ إنهم لا يعجزون } [الأنفال: 59] أي: لا يعجزوني عن التصرف فيهم فلا يقنطوا من رحمتي في صلاح حالهم، { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } [الأنفال: 60] أي: من قوة الروح وغلبات صفاتها وأعداءه بمداومة الذكر وقطع التعلق، { ومن رباط الخيل } [الأنفال: 60] أي: من رباط القلب بطريق المراقبة لئلا يلتفت إلى الدنيا وزينتها، { ترهبون به } [الأنفال: 60] يعني: بالذكر والمراقبة، { عدو الله وعدوكم } [الأنفال: 60] أي: الشيطان والنفس، { وآخرين من دونهم } [الأنفال: 60] من نفوس شياطين الأنس، { لا تعلمونهم } [الأنفال: 60] أنهم عدوكم من الأحباب والأصدقاء والأقرباء، { الله يعلمهم } [الأنفال: 60] أنهم عدو لكم كقوله تعالى:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم
[التغابن: 14].
{ وما تنفقوا من شيء } [الأنفال: 60] أي: في شهوات النفس ولذاتها والدنيا وزينتها بطريق الذكر والمراقبة، { في سبيل الله } [الأنفال: 60] في طلبه والسير إليه، { يوف إليكم } [الأنفال: 60] أي: يوف لكم فوائده في مزيد القربة، كما قال تعالى:
" من تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا "
، { وأنتم لا تظلمون } [الأنفال: 60] فيما تقربتم به إليه إلى الله تعالى، بل يضاعفه ويؤت من لدنه أجرا عظيما.
[8.61-64]
ثم أخبر عن التوسل والتوكل بقوله تعالى: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } [الأنفال: 61] إلى قوله: { من المؤمنين } [الأنفال: 64] الإشارة فيه: { وإن جنحوا } أي: النفس وصفاتها لتسلم بينها وبين القلب والروح { فاجنح لها } وذلك أن النفس لما رأت صدق الطالب الصادق في الصدق وشاهدت جده في الاجتهاد، وتحقق عندها ثباتها على مخالفتها، ومواظبته في العبودية، وتألفت مع الطاعات والعبادات، فتنور بأنوارها وتنقاد لأحكام الشريعة، وتزكى بتزكية الطريقة، وتتنسم روائح الحقيقة، وتطمئن إلى ذكر الله تعالى، فحينئذ يجوز مصالحتها على القيام بأداء الأوامر والنواهي والفرائض والسنن وترك الدنيا وزينتها وشهواتها على تبديل الصفات النفسانية الحيوانية بالأخلاق الروحانية الربانية، وألا يحمل عليها إصرا من دوام المجاهدة والرياضة البدنية ولكن مع هذا لا يعتمد على النفس وصلحها، بل يكون الطالب متيقظا محتاجا متوكلا على الله تعالى في مراقبتها؛ لئلا تخدعه وتمكر به، ولهذا قال تعالى: { وتوكل على الله } أي: ثق بلطفه وكرمه ولا تثق بالنفس وخديعتها ومكرها، { إنه هو السميع } [الأنفال: 61] لما دعوته إليه في رعايتك من خداع النفس ومكرها، { العليم } [الأنفال: 61] بمكائدها، ومنعها منها، { وإن يريدوا أن يخدعوك } [الأنفال: 62] يعني: النفس والشيطان والدنيا.
{ فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } [الأنفال: 62] أي: وأيدك بالروح والقلب وسر المؤمنين وألف بين الروح والقلب والسر والمؤمنين، { وألف بين قلوبهم } [الأنفال: 63] يعني: ألف بين الروح والقلب والسر وبين النفس وصفاتها، { لو أنفقت ما في الأرض جميعا } [الأنفال: 63] يعني: في أرض وجودك من السعي والجد والاجتهاد، { مآ ألفت بين قلوبهم } [الأنفال: 63] أي: بينهم لما فيهم من التضاد الروحاني والنفساني الظلماني، { ولكن الله ألف بينهم } [الأنفال: 63] بالقدرة الكاملة والحكمة البالغة، { إنه عزيز } [الأنفال: 63] لعزته ألف بين الروح والنفس والقلب والقالب؛ ليكون الشخص الإنساني طلسما على كنز وجوده، { حكيم } [الأنفال: 63] فيما حكم ووتر بكسر الطلسم والوصول إلى كنز، { يأيها النبي حسبك الله } [الأنفال: 64] مطلوبا ومقصودا ومعبودا ومحبوبا، { ومن اتبعك من المؤمنين } [الأنفال: 64] أي: لمتابعيك المخصوصين بالاتباع الحقيقي بأن يكون مطلوبهم ومحبوبهم الله سبحانه وتعالى.
[8.65-69]
ثم أخبر عن طريق الوصال أنه بالقتال بقوله تعالى: { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } [الأنفال: 65] إلى قوله: { والله مع الصابرين } [الأنفال: 66] الإشارة فيها: { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } يعني: بالإقدام عليه بنفسك؛ ليقتدوا بك، ويحرضوا على القتال بحرصك عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد الحرب أقرب إلى العدو، ومنهم كما قال علي - رضي الله عنه وكرم الله وجهه -: كنا إذا احمر البأس في القوم فعينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحدا أقرب إلى العدو منه، ولذلك قال تعالى: { إن يكن منكم عشرون صابرون } [الأنفال: 65] جعل النبي صلى الله عليه وسلم منهم عند لقاء العدو وصابرون في البأساء والضراء وتحت أحكام القضاء، { يغلبوا مئتين } [الأنفال: 65] لأن الله مع الصابرين بالنصر والعون، { وإن يكن منكم مئة } [الأنفال: 65] متوكلة على الله لهم صابرة في بذل الروح يعلمون بفقه القلب أنهم لا يصيبهم إلا ما كتب الله لهم.
{ يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } [الأنفال: 65] أي: ليسوا يفقهون بفقه القلب ليتوكلوا على الله، وليعلموا أنه لا يصيبهم إلا ما قدر لهم، { الآن خفف الله عنكم } [الأنفال: 66] أيها الضعفاء، { وعلم أن فيكم ضعفا } [الأنفال: 66] في التوكل واليقين، { فإن يكن منكم مئة صابرة } [الأنفال: 66] يعني: من أهل يصبرون على لقاء المائتين، { يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } [الأنفال: 66] يعني: الغلبة والظفر ليس من قوتكم؛ لأنكم ضعفاء، وإنما هو بحكم الله الأزلي ونصره، وإلى الأقوياء وهم محمد صلى الله عليه وسلم والذين معه أشداء على الكفار؛ لقوة توكلهم ويقينهم وفقه قلوبهم لا يفر واحد منهم من مائة من العدو كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل القوة، ما قال عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم أفارقه ورسول الله على بغلة بيضاء أهداها له فرقة بن بغامة المذامي، فلما التقى المسلمون بالكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس رضي الله عنه: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إرادة ألا تسرع، وأبو سفيان أخذ ركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه صابرين أولي قوة لم يفروا مع القوم، { والله مع الصابرين } [الأنفال: 66] في التثبيت والتصبر كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من يصبر يصبره الله تعالى ".
ثم أخبر عمن اختار الأولى عن الآخرة بقوله تعالى: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } [الأنفال: 67] إلى قوله: { إن الله غفور رحيم } [الأنفال: 69] الإشارة فيها: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ما كان أخذ الفداء من الأسارى شيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لنبي من الأنبياء - عليهم السلام - فإنه رغبة في الدنيا، ومن شيمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ما لي وللدنيا "
، { حتى يثخن في الأرض } [الأرض: 67] أي: يبالغ في قهره الأعداء، وقذف الرعب في قلوبهم، ورسوخ أمر الدين في قلوب المؤمنين، فأما أخذ الفداء كان لرغبة بعضكم في الدنيا بعد أن شاوركم فيه بأمر الله تعالى إذ أمره بقوله:
وشاورهم في الأمر
[آل عمران: 159] فرغب أكثركم فيه.
والذي يدل على هذا التأويل قوله تعالى: { تريدون عرض الدنيا } [الأنفال: 67] خاطب به القوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يشير: أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه يكون مائلا إلى الدنيا راغبا فيها بالطبع، { والله يريد الآخرة } [الأنفال: 67] يعني: والذي يريد الآخرة منكم ليس سجيته وطبعه، وإنما هو من توفيق الله إياه وتأثير نظر عنايته ورحمته إلى قلبه ونفسه، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، { والله عزيز } [الأنفال: 67] لا ينظر بنظر العناية إلا الجاهل العزة، { حكيم } [الأنفال: 67] فيمن يعزه بنظر العناية، وفيمن يذله بالسخط والخذلان، { لولا كتاب من الله سبق } [الأنفال: 68] بالبقاء على هؤلاء الأسارى ليؤمن بعضهم ويؤمن أولاد بعضهم وذراريهم، { لمسكم فيمآ أخذتم } [الأنفال: 68] من الغنائم وملتم إلى الدنيا وأخذتم جعلا على الجهاد في سبيل الله، { عذاب عظيم } [الأنفال: 68] بأن يجعل جهادكم في سبيل الدنيا، ويخرجكم عن ثوابه في الآخرة بل يعاقبكم عليه، { فكلوا مما غنمتم حلالا } [الأنفال: 69] بأن تجعلوه في عدة الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر.
{ طيبا } [الأنفال: 69] أي: طيبا به نفوسكم في الإنفاق طيبا عن لون محبته وتعلقه بقلوبكم، { واتقوا الله } [الأنفال: 69] أي: اتقوا بالله عما سواه، { إن الله غفور } [الأنفال: 69] يغفر بأنوار جوده ظلمات وجودكم، { رحيم } [الأنفال: 69] بكم فيما يفنيكم عنكم ويبقيكم به.
[8.70-72]
ثم يخبر عمن حكمة استبقاء الأسارى بقوله تعالى: { يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } [الأنفال: 70] يشير إلى النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذكر عليها والظفر؛ يعني: قل لها: { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } [الأنفال: 70] من الاطمئنان على ذكر الله والعبودية والانقياد تحت أحكامه، { يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم } [الأنفال: 70] يعني: إن أخذ منكم شهوات الدنيا ونعيمها وزينتها يبدلكم الله نعيم الجنة ودرجاتها وهي خير منها؛ لأن الدنيا ونعيمها فانية والجنة ونعيمها باقية، { ويغفر لكم } [الأنفال: 70] يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته، { والله غفور } [الأنفال: 70] ساتر بأنوار صفاته لمن طلب ستره، { رحيم } [الأنفال: 70] بهم بأن رحمهم يستر الوجود من أنوار الشهود، { وإن يريدوا خيانتك } [الأنفال: 71] يعني: إن سامحت النفوس المأمورة في إطلاقها عن إشرافها على بعض شهواتها المشروعة فتريد خيانتك؛ أي: التجاوز عن حد الشريعة أو الطريقة، { فقد خانوا الله من قبل } [الأنفال: 71] بالتجاوز عن الشريعة أو الطريقة، { فأمكن منهم } [الأنفال: 71] عند استيلاء الذكر عليها والمجاهدة، فجاهدها بملازمة الذكر ونفي الشهوات عنها، { والله عليم } [الأنفال: 71] بأحوالها، { حكيم } [الأنفال: 71] فيما دبره من أمر جهادها وتزكيتها عن أوصافه الذميمة.
ثم أخبر عن أهل الجهاد بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا } [الأنفال: 72] إلى آخر السورة، الإشارة: { إن الذين آمنوا } بأن طلب الله حق وواجب وهاجروا غير الله، فهاجروا عن أفعالهم القبيحة الطبيعية إلى الأفعال الحسنة الشرعية، وعن أوصافهم الذميمة إلى الأخلاق الحميدة، وعن وجودهم المجازي إلى الوجود الحقيقي، { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } [الأنفال: 72] ببذلها، { في سبيل الله } [الأنفال: 72] أي: في طلب الحق وترك كل باطل هو غير الحق، { والذين ءاووا } [الأنفال: 72] ذكر الله ومحبته وصدق طلبه في القلوب، { ونصروا } [الأنفال: 72] المحنة بالذكر الدائم والطلب القائم، { أولئك بعضهم أوليآء بعض } [الأنفال: 72] في المرافقة والموافقة والطلب والسير إلى الله، { والذين آمنوا } [الأنفال: 72] بأن الطلب حق، { ولم يهاجروا } [الأنفال: 72] عن أفعالهم وأوصافهم ووجودهم المجازي، { ما لكم } [الأنفال: 72] أيها الطالبون الصادقون: { من ولايتهم من شيء } [الأنفال: 72] من موالاتهم ومخاطبتهم.
{ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين } [الأنفال: 72] أي: وإن استمردوكم في طلب الدين، { فعليكم النصر } [الأنفال: 72] أي: الهداية ليتحقق عندهم وجوب الطلب؛ يعني: الذين آمنوا بالطلب ولم يهاجروا من أوصافهم بعد، فإن جاءوكم واستعانوا بكم في الطلب وتمسكوا بأذيال الوصال منكم فعليكم أن تدلوهم طريق الحق بمعاملتكم وسيركم؛ ليقتدوا بكم بأحوالكم، { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } [الأنفال: 72] يعني: إلا على بعض أحوالكم مما صالحتم نفوسكم بعدما جاهدتموها وأسرتموها سرا فلا تدلوا الطلاب على هذه الأحوال فإنهم بعد في بدء أمر الجهاد لا يصلح لهم الاطلاع على مصالحة الواصلين مع نفوسهم ليميلوا إلى الصلح في أوان الجهاد والقتال مع النفوس، { والله بما تعملون } [الأنفال: 72] من الصلح والجهاد، { بصير } [الأنفال: 72] يسلم الصلح للواصلين دون المجاهدين الطالبين.
[8.73-75]
{ والذين كفروا } [الأنفال: 73] أي: ستروا الحق وأنكروا على أرباب القلب وركنوا إلى البطالة، { بعضهم أوليآء بعض } [الأنفال: 73] في الضلالة والإضلال، { إلا تفعلوه } [الأنفال: 73] أي: لا تتركوا اطلاعهم على مصالحتكم النفوس وعلى بعض أحوالكم، ولا تحترزوا عن موالاة أهل البطالة، ولا تكونوا أولياء مرافقيكم وموافقتكم، { تكن فتنة في الأرض } [الأنفال: 73] أي: في أرض قلوب الطالبين فيغتروا عن جهاد النفوس، { وفساد كبير } [الأنفال: 73] في موالاتكم أهل البطالة لكم ونفركم بالإنكار عليكم فيها، وفي ترك الموالاة مع مرافقيكم وموافقتكم، { والذين ءامنوا } [الأنفال: 74] بأن طلب الله واجب، { وهاجروا } [الأنفال: 74] عما سواه، { وجهدوا } [الأنفال: 74] أنفسهم، { في سبيل الله } [الأنفال: 74] أي: في طلب الله، { والذين ءاووا } [الأنفال: 74] محبة الله في قلوبهم، { ونصروا } [الأنفال: 74] أي: أمدوا المحبة بملازمة الذكر حتى يصير المحب محبوبا والذاكر مذكورا لقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، وقوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152].
{ أولئك هم المؤمنون حقا } [الأنفال: 74] يعني: هم المؤمنون مستكملين الأيمان الذين وجدوا الحق تعالى في فقد وجودهم، { لهم مغفرة } [الأنفال: 74] أي: صفة من صفات الحق سترتهم عنها بها، { ورزق كريم } [الأنفال: 74] أي: رزقوا من كرم الكريم فتخلقوا بأخلاق الكريمة، { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } [الأنفال: 75] يشير إلى أن كل سالك صادق يسلك طريق الحق لقي من المتأخرين على قدر الإيمان والهجرة والجهاد الحقيقي - كما مر ذكره - فهو من المتقدمين؛ لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء، فالواصلون كلهم كنفس واحدة وهم متبرئون عن الزمان والمكان، استوى عندهم الأمس واليوم والغد، والقرب والبعد، والعلو والسفل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أمتي كالمطر لا تدري أولهم خير أم آخرهم "
وقد ألمت آخرين من إخوانه، وقال:
" واشوقاه إلى لقاء إخواني "
، { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [الأنفال: 75] هم أولوا رحم الوصول في كتاب علم الله السابق كقوله تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
[الأنبياء: 101] إن الله بكل شيء في الأزل، { إن الله بكل شيء عليم } [الأنفال: 75] من المقبولين والمردودين، ومن الواصلين والمنقطعين.
[9 - سورة التوبة]
[9.1-4]
قوله تعالى: { برآءة } [التوبة: 1] إلى قوله: { إن الله يحب المتقين } [التوبة: 4].
الإشارة فيها: فاعلم أن الحكمة ترك كتابة { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول السورة براءة، وكتابتها في سورة النمل؛ ليعلم أنها آية مكررة في القرآن، وأنها أكثر مما أنزلت في أوائل السور؛ لتكون فاصلة بين السورتين، ولتكون كل سورة متوجة بتاج اسم الله تعالى وصفة جماله وجلاله، فحيث نزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، فلما لم تنزل في أول براءة ما كتبت في أولها ونزلت في أول النمل وفي أثنائها كتبت في الموضعين جميعا.
{ برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } [التوبة: 1] يشير إلى أن النفوس المتمردة المشركة التي اتخذت الهوى إلها وتعبدت صنم الدنيا فهادها الروح والقلب في أوان الطفولية، وعاهدها على ألا يجاهداها ولا يقاتلاها إلى حد البلوغ، وهي أيضا لا تتعرض لهما لاستكمال القالب واستواء القوى البشرية التي بها يتحمل حمل الأمانة، واعيا لأركان الشريعة وظهور كمال العقل الذي يستعد لقبول الدعوة وإجابتها، وبه يعرف الرسل ومعجزاتهم، وبه يثبت الصانع ويرى تعبده واجبا لأداء شكر نعمه، وإن الله ورسوله بريء من تلك المعاهدة بعد البلوغ، فإنه وإن نقض عهد النفوس مع القلوب والأرواح؛ لأن النفس قبل البلوغ كانت تتصرف في المأكول والمشروب والملبوس؛ لتربية القالب ودفع الحاجة الماسة غالبا وذلك لم يكن فقرا جدا للقلب والروح، فأما البلوغ فزاد في تلك التربية بالمأكول والمشروب والملبوس الضروري الشهوة، ولما ظهرت الشهوة شملت آفتها المأكول والمشروب والنكوح واشتعلت نيرانها وأشعلت يوما بيوم وفيها مرض القلب والروح وبعثت الأنبياء ولدفع هذا المرض وعلاجه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت لرفع العادات وترك الشهوات ".
وفي قوله تعالى : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [التوبة: 2] إشارة إلى أن للنفوس في أرض البشرية سيرا وساحة لتكميل الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية التي تتولد بازدواج الروح العلوي النوراني المفرد والقالب السفلي الظلماني المركب من العناصر الأربعة، فالنباتية: تولد الماء، والحيوانية: تولد الريح، والشيطانية: تولد النار، والإنسانية: تولد التراب.
فلتكتمل هذه الصفات أرخيت أزمة النفوس في مراتع الدنيا ونعيمها إلى البلاغة ثم قال: { واعلموا } [التوبة: 2] يعني: نفوس أهل السعادة { أنكم غير معجزي الله } [التوبة: 2] أي: لا تعجزونه أن ينزعكم عن المراتع الدنيوية ويمتعكم بالمنافع الأخروية { وأن الله مخزي الكافرين } [التوبة: 2] يعني: مهلك أهل الشقاوة في تيه الغفلات والشهوات، { وأذان من الله ورسوله } [التوبة: 3] أي: أعلام وأخيار منهما.
{ إلى الناس } [التوبة: 3] أي: إلى الصفات الناسوتية، { يوم الحج الأكبر } [التوبة: 3] يوم الوصول إلى كعبة الوصال والحج الأكبر يوم الوصول إلى كعبة القلب، { أن الله بريء من المشركين ورسوله } [التوبة: 3] يشير إلى أن زيارة كعبة الوصال وطوافها حرام على مشركي الصفات الناسوتية؛ لأنها تميل إلى غير الله، وتركن إلى ما سواه فلا تطوف الناسوتية حول كعبة اللاهوتية إلا بعد فنائها فيها، { فإن تبتم } [التوبة: 3] على الناسوتية بإفنائها في اللاهوتية.
{ فهو خير لكم } يشير إلى أن قيامكم بالله خير لكم من قيامكم بالناسوت، { وإن توليتم } عن الله وركنتم إلى غيره، { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } أي: لا تعجزونه عن التصرف فيكم، أما لأهل السعادة فبالجذبات الإلهية يفنيكم عنكم ويبقيكم به، وأما لأهل الشقاوة فبالطرد والتعذيب بألم الفراق ونار القطيعة، كما قال تعالى: { وبشر الذين كفروا } [التوبة: 3] أي: تولوا وأعرضوا عنا، { بعذاب أليم } [التوبة: 3].
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين } [التوبة: 4] يشير إلى أن النفوس المشركة بأنها من مع ميلها إلى غير الله عاهدت مع القلوب على أن توافقهم في العبودية وتحمل أحباء الشريعة، { ثم لم ينقصوكم شيئا } [التوبة: 4] من شرائط العبودية، { ولم يظاهروا عليكم أحدا } [التوبة: 4] أي: لم يعاونوا عليكم أعداءكم من الشيطان والدنيا وزخارفها ولم يتابعوا الهوى وتداركوا العهد بالوفاء تجانبا عن الجفاء، { فأتموا إليهم عهدهم } [التوبة: 4] بالمدارة والرفق، { إلى مدتهم } [التوبة: 4] إلى أوان طلوع شمس سعادتهم عن أفق العناية، فإن لكل أجل كتاب فتداركهم العناية الأزلية بخطاب
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 27-28] إما في حال الحياة، وإما في وقت الوفاة، { إن الله يحب المتقين } [التوبة: 4] الذين يتقون به عما سواه.
[9.5-8]
ثم أخبر عن حال المشركين وقتلهم بقوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } إلى قوله:
ينتهون
[التوبة: 12].
الإشارة فيه قوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } يشير إلى استكمال الأوصاف الأربعة التي بها قوام الإنسان من النباتية والحيوانية والشيطانية كما مر ذكرها في الآيات المتقدمة؛ يعني: مهما كملت النفس هذه الصفات بها تصير مشركة؛ لأن بهذه الأوصاف تميل إلى الدنيا وزخارفها وتعبد الهوى والشيطان، { فاقتلوا المشركين } أي: النفوس المشركة بسيف الصدق وقتلها في نهيها عن هواها ومنعها عن مشتهاها واستعمالها على خلاف طبعها وضد طبيعتها.
{ حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] يعني: في الطاعة والمعصية، فقتلها في الطاعة بملازمتها ومداومتها عليها، وفي المعصية بنظافتها عن مشاربها فيها وإعجابها بها وتحصيلها إياها، { وخذوهم } [التوبة: 5] بآداب الطريقة، { واحصروهم } [التوبة: 5] والجأوهم إلى حصار الحقيقة.
{ واقعدوا لهم كل مرصد } [التوبة: 5] يشير إلى مراقبة أحوال النفوس وشد طرف خيلها، أي: ارقبوا مقرها ومهربها، { فإن تابوا } [التوبة: 5] رجعوا إلى الله ورجعت النفوس عن هواها إلى طلب الحق تعالى، { وأقاموا الصلوة } [التوبة: 5] أي: داومت على العبودية والتوجه الحق، { وءاتوا الزكوة } [التوبة: 5] عن أوصافها الذميمة، { فخلوا سبيلهم } [التوبة: 5] عن مفلسات الشدائد بالرياضات والمجاهدات؛ ليعملوا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة، فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية، { إن الله غفور } [التوبة: 5] يستر بصفاته الراجعين إليه، { رحيم } [التوبة: 5] بإقباله إليهم لحصولهم لديه.
{ وإن أحد من المشركين } [التوبة: 6] يعني: من مشركي النفوس يشير إلى إحدى صفات النفوس، { استجارك } [التوبة: 6] بالقلب يعني: بعض صفات النفس إن مال إلى جوار القلب، ويرغب في نوع من العبودية وترك ما هو المخصوص به من الصفات الذميمة، { فأجره حتى يسمع كلام الله } [التوبة: 6] حتى يلهم بإلهام الله ويميز به الفجور والتقوى، فتتزكى عن الفجور وتتحلى بالتقوى، { ثم أبلغه } [التوبة: 6] بالإخلاص والاجتهاد، { مأمنه } [التوبة: 6] وهو دار الجذبة الإلهية، وإن الجذبة إذا تعلقت بصفة من صفات النفس تنجذب النفس بجميع صفاتها من سطوة جذبة الحق، فإن بطش ربك لشديد، { ذلك بأنهم } [التوبة: 6] يعني: النفس وصفاتها، { قوم لا يعلمون } [التوبة: 6] الله والطاعة فلا يقبلون إليه ويعلمون الدنيا وشهواتها فيرغبون إليها.
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } [التوبة: 7] يشير إلى مشركي النفوس كيف يكون، إما ثبات على العهد الذي عاهدت الله تعالى يوم الميثاق على أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا من الدنيا والآخرة، وذلك أن النفس ما دامت حية باقية على صفاتها الذميمة غير المبدلة بالحميدة، ولا يمكنها العبودية الخالصة من قرب الطمع في المقاصد الدنيوية والأخروية؛ لأنها خلقت من السفليات وجبلت ميالة إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها بالطبع وإن صقل الطبع الطمع بالتزكية عنها وآل إلى الصلاح أمرها وتخلقت بالأخلاق الروحانية، فحينئذ تميل من الشهوات الدنيوية الفانية إلى شهوات نعيم الجنة الباقية كقوله تعالى:
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
[الزخرف: 71].
{ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } التوبة: 7] وهو مقام الوصول الذي حرام على أهل الدنيا والآخرة وهو مقام أهل الله خاصة، فإن النفس إذا تنورت بالأنوار المنعكسة من تجلي صفات الجلال والجمال لمرآة القلب تفنى عن أوصافها المخلوقية وتبقى بالأنوار الخالقية، فيثبتها الله على العهد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة محفوظة عن خصائصها، { فما استقاموا لكم } [التوبة: 7] عن الصراط المستقيم فتصهر بالدين القويم، { فاستقيموا لهم } [التوبة: 7] على مهادنة النفوس من ترك جهادها بشدائد فتك الطريقة وسرح في رياض متسع الشريعة، { إن الله يحب المتقين } [التوبة: 7] أي: النفوس المتقية بالله عما سواه.
ثم أخبر عن خصوصية النفوس، وإنها لا تصلح للثبات على الاستقامة، وأنها غير مأمونة عنها فقال: { كيف وإن يظهروا عليكم } [التوبة: 8] إلى قوله:
لعلهم ينتهون
[التوبة: 12] يشير إلى أن النفس في جميع الأحوال مترقبة للظفر بالقلب والروح، { لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } [التوبة: 8] أي: لا يحفظوا فيكم حقوق الجنسية، فإن الخليقة بعضها من بعض الأرواح والقلوب والنفوس والأصدقاء بالعهد، فإنها مجبولة على الجفاء ونقض العهود، { يرضونكم بأفواههم } [التوبة: 8] بالأعمال الظاهرة، { وتأبى قلوبهم } [التوبة: 8] طبيعتهم وجبلتهم اختيارا ما يرضونكم به اضطرارا، { وأكثرهم فاسقون } [التوبة: 8] فيما يعملون للرياء والنفاق خارجون عن الصدق والإخلاص.
[9.9-13]
{ اشتروا بآيات الله } [التوبة: 9] أي: بدلالات توصلهم إلى الله تعالى، { ثمنا قليلا } [التوبة: 9] من متاع الدنيا ومصالحها ومنافعها.
{ فصدوا عن سبيله } [التوبة: 9] أي: قطعوا طرقه على الأرواح والقلوب، { إنهم سآء ما كانوا يعملون } [التوبة: 9] حين انقطعوا عن الحق وقطعوا طريقه على طالبه، { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } [التوبة: 10] يعني: لا يرعون حقا من حقوق القلب والروح عند الاستيلاء، فلا ترقبوا فيهم أيضا حقا من حقوقهم إذا ظفرتم أيتها القلوب والأرواح بالنفوس، { وأولئك هم المعتدون } [التوبة: 10] المجاوزون عن الحق وطلبه، { فإن تابوا وأقاموا الصلوة } [التوبة: 11] أي: فإن رجعوا عن الاعتداء إلى إقامة العبودية وطلب الحق، { وءاتوا الزكوة } [التوبة: 11] أي: وتزكت عن طبعها وأوصاف جبلتها، { فإخونكم في الدين } [التوبة: 11] رفقاؤكم في طلب الحق، فارقبوا حقوق إخوانهم كما ترقبون حقوقكم كما لنفسك عليك حق، { ونفصل الأيت } [التوبة: 11] ونبين دلالات طريق الحق والوصول إليه، { لقوم يعلمون } [التوبة: 11] أن السير إلى الله من أهم المهمات وأعظم الكمالات.
{ وإن نكثوا أيمانهم } [التوبة: 12] أي: إن نقضوا النفوس عهودهم، { من بعد عهدهم } [التوبة: 12] من بعد ما عاهدوه على العبودية والمطاوعة، { وطعنوا في دينكم } [التوبة: 12] أي: أنكروا على مذهب السلوك والقلب، { فقاتلوا أئمة الكفر } [التوبة: 12] أي: فجاهدوا حق جهادها؛ أي: كما أن القلوب والأرواح أئمة الدين والإيمان، فالنفوس أئمة الكفر ومعدنه، { إنهم لا أيمان لهم } [التوبة: 12] أي: لأنه جاء لهم بالعهد على طلب الحق تعالى وبذل ما سواه، { لعلهم ينتهون } [التوبة: 12] لكي ينتهوا عن طبيعتهم وعما جبلوا عليه من الأمارية بالسوء.
ثم أخبر عن قتال الناكثين بقوله تعالى: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } [التوبة: 13] إلى قوله:
والله عليم حكيم
[التوبة: 15] إلى اتباعه في جهاد النفس التي نقضت عهدها وشدة رياضتها لئلا تتعود نكث العهد وتعود إلى شؤم طبعها وعادتها الأمارية بالسوء بعد اطمئنانها إلى ذكر الله، وطلبه انفتاح روزنة القلب إلى عالم الغيب، { وهموا بإخراج الرسول } [التوبة: 13] يعني: الواردات الغيبية بانسداد وزنة القلب بنتائج الصفات الإنسانية، { وهم بدءوكم أول مرة } [التوبة: 13] المنازعة والمخالفة والمقاتلة مع القلب والروح في بدء الأمر كان من سمة النفوس وطبعها.
{ أتخشونهم } [التوبة: 13] يعني: أتخشون فوت حظوظ النفس في اجتهادها؟ { فالله أحق أن تخشوه } [التوبة: 13] أي: خفية فوات حقوق الله والوصول إليه أولى، { إن كنتم مؤمنين } [التوبة: 13] بالوصول إليه فأقيموهم يعني: النفوس.
[9.14-19]
{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } [التوبة: 14] أي: القلوب والأرواح باستيلائكم عليها كما عذبتكم عند استيلائها عليكم، { ويخزهم } [التوبة: 14] ويذلهم بالقهر والقمع، { وينصركم عليهم } [التوبة: 14] بالظفر بها، { ويشف صدور قوم مؤمنين } [التوبة: 14] أي: الأرواح والقلوب المؤمنة بانتقامهم من النفوس الكافرة الناكثة العهود، { ويذهب غيظ قلوبهم } [التوبة: 15] يعني: وحشتها وكدورتها، { ويتوب الله على من يشآء } [التوبة: 15] من النفوس إلى الرجوع إلى الحق قبل التمادي من غير احتياج برياضة شديدة، { والله عليم } [التوبة: 15] بالنفوس التي ترجع بالشريعة إلى الحق والتي تتمادي في الباطل، { حكيم } [التوبة: 15] فيما حكم ودبر في كليتها.
ثم أخبر عن لزوم الجهاد مع أهل العناد بقوله تعالى: { أم حسبتم أن تتركوا } [التوبة: 16] الإشارة فيها أم حسبتهم أيتها النفوس الأمارة بالسوء أن تتركوا بلا رياضة ومجاهدة، { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } [التوبة: 16] بترك الهوى وشهوات الدنيا، { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين } [التوبة: 16] يعني: الأرواح والقلوب، { وليجة } [التوبة: 16] أولياء من الشيطان والدنيا والهوى، { والله خبير بما تعملون } [التوبة: 16] من التوجه إلى الحق بالصدق مخلصا ومستويا بالأعراض والعلل.
ثم أخبر عن أحوال الأعمال مردودها ومقبولها بقوله تعالى: { ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله } [التوبة: 17] إلى قوله: { والله لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة: 19] الإشارة فيها { ما كان للمشركين } إشارة إلى النفوس الأمارة بالسوء المشركة التي تعبد الهوى والدنيا وشهواتها يعني: ما كان من شيمة أمارتها عمارة مسجد الله وهي القلوب، وهم { شهدين على أنفسهم بالكفر } [التوبة: 17] يعني: وهم مقرون على ما جبلت عليه النفوس من التمرد وتعبد الهوى، { أولئك حبطت أعملهم } [التوبة: 17] أي: صدرت عنهم رياء وسمعة، { وفي النار } [التوبة: 17] أي: نار البعد والقطيعة، { هم خلدون } [التوبة: 17] { إنما يعمر مسجد الله } [التوبة: 18] أي: يعمر مساجد القلوب ويزينها من النفوس { من ءامن بالله واليوم الآخر } [التوبة: 18] أي: صدق بأن المقصود والمعبود هو الله لا الدنيا وشهواتها الفانية وعمل نيل السعادة الأخروية الباقية، { وأقام الصلوة وءاتى الزكوة } [التوبة: 18] أي: أدام المناجاة مع الله بصدق القلب، وأدى حق التزكية عن الأخلاق الذميمة والأوصاف الرديئة، فإن بها عمارة القلوب، { ولم يخش إلا الله } [التوبة: 18] أي: لم يخف من فوات الحظوظ الدنياوية في طلب الله، وإنما يخاف فوات الحقوق الإلهية، { فعسى أولئك } [التوبة: 18] يعني: النفوس عقب هذه الأحوال، { أن يكونوا من المهتدين } [التوبة: 18] من الله إلى الله، { أجعلتم سقاية الحاج } [التوبة: 19] يشير إلى المستخدمين من هذه الطائفة الذين ينصبون نفوسهم لخدمة أرباب الطلب ولهم أغراض فاسدة، يقول: أتجعلون هذه الخدمة المنسوبة بالأغراض.
{ وعمارة المسجد الحرام } [التوبة: 19] أي: الأعمال الموجبة بعمارة القلوب إذا كانت خالصة عن الرياء والأغراض من الزهد والتصوف والتقيد بالمشوبات بالرياء والهوى، { كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } [التوبة: 19] أي: مساويا إيمانه واعتقاده طلب الله تعالى وهو مجاهد في السير إلى الله، { لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة: 19] الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها رياء وسمعه إلى حضرة جلاله.
[9.20-24]
ثم أخبر عن أهل الوفاق بعد ذكر أهل النفاق بقوله تعالى: { الذين آمنوا وهاجروا } [التوبة: 20] الإشارة فيهما: { الذين آمنوا } أي: القلوب المؤمنة، { وهاجروا } أي: الأرواح المهاجرة إلى القوالب والأجساد، { وجاهدوا } [التوبة: 20] أي: القلوب والأرواح التي جاهدت النفوس، { في سبيل الله } [التوبة: 20] أي: في طلب الله والسير إليه، { بأموالهم وأنفسهم } [التوبة: 20] أي: ببذل الوجود والموجود جميعا في الله.
{ أعظم درجة } [التوبة: 20] أي: قربة، { عند الله } [التوبة: 20] أي: في مقام العندية من النفوس المتمردة، { وأولئك هم الفائزون } [التوبة: 20] الناجون من حجب الوجود المجازي ، { يبشرهم ربهم } [التوبة: 21] بعد الخلاص عن حبس الوجود، { برحمة منه ورضوان } [التوبة: 21] أي: بتجلي صفات لطفه، { وجنات لهم } [التوبة: 21] من فراديس القلوب، { فيها نعيم مقيم } [التوبة: 21] من الشواهد والكشوف، { خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم } [التوبة: 22] أي: في الازدياد أبد الآباد يعني: من وصل إلى مقام العندية، فالله العظيم أجره أي: يجده في مقام العندية.
ثم أخبر عن ترك موالاة الكفار وإن كانوا آباء وأقرباء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان } [التوبة: 23] الآيتين: { يأيها الذين آمنوا } يشير إلى القلوب شواهد الحق، { لا تتخذوا آبآءكم } أي: الأرواح، { وإخوانكم } أي: النفوس، فإن بازدواج الأرواح والأشباح تولدت القلوب والنفوس منها، فالأرواح للقلوب بمثابة الآباء والنفوس بمثابة الإخوان.
ثم اعلم أن لكل واحد من الروح والقلب والنفس كفرا وإيمانا مناسبا لحاله، والكفر: هو الستر والحجاب، والإيمان: هو الشهود والكشف، فكفر بالروح من حجاب الأنانية الروحانية والبقاء مع الله تعالى، وإيمانه بالفناء عن أنانيته في الله وبقائه بالله، وكفر القلب: موته ومرضه وصممه وبكمه وعماه وهو الكفر الحقيقي، وإيمانه: سلامته عن هذه والعلل والآفات وإحيائه بالنور الساطع الرباني من كتابة الله فيه بقلم الكرم، به يشاهد الحق تعالى ويكاشف بصفاته وهو الإيمان الحقيقي ومعدنه القلب.
وكفر النفس: انهماكها في شهوات الدنيا واستغراقها باستيفاء لذاتها وبقاء صفاتها الحيوانية والشيطانية، وإيمانها: بخروجها عن صفاتها الطبيعة الظلمانية إلى الأخلاق الروحانية الشرعية النورانية واطمئنانها بالذكر وأنسها مع الله، فربما تكون بعض هذه الخلقة مؤمنا وبعضها كافرا، فمعنى الآية يشير إلى أن القلوب المؤمنة لا ينبغي أن يتخذوا آباءهم الأرواح وإخوانهم النفوس أولياء، ولا يتركوا عداوتهم بترك الجهاد معهم { إن استحبوا الكفر على الإيمان } أي: اختاروا الوقوف مع أوصافهم فيه كفرهم ولا يخرجون من ظلمات طباعهم إلى أنوار مواهب الحق تعالى.
قال تعالى: { ومن يتولهم منكم } [التوبة: 23] يعني: كل قلب مؤمن يواسي الروح والنفس في استحبابها الكفر، ولا يجاهدها ليخرجهما من كفر طبعهما إلى نور إيمانهما { فأولئك هم الظالمون } [التوبة: 23] الواضعون المداراة والمواساة في غير موضعها، فإن المداراة في الطريق كفر.
وفي قوله تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا } [التوبة: 24] أي: الآخرة، إشارة إلى أن أصل الدين هو محبة الله تعالى، وأن صرفه استعداد محبة الله في هذه الأشياء المذكورة فيها فسق وهو الخروج من محبة الخالق، من أثر محبة المخلوق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي، واستوجب الحرمان وإدراكه القهر والخذلان، ولهذا قال تعالى: { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } [التوبة: 24] أي: بقهره، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } [التوبة: 24] الخارجين عن حسن الاستعداد؛ يعني: لا يهديهم إلى حضرة جلاله وقبول فيض جماله بعد إبطال حسن الاستعداد.
[9.25-29]
ثم أخبر عن كرم الخالقية وكرم المخلوقية بقوله تعالى: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } [التوبة: 25] إلى قوله: { والله غفور رحيم } [التوبة: 27]، { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } أي: نصركم الله في جهاد النفوس الذي هو الجهاد الأكبر بالظفر عليها في مقامات كثيرة، { ويوم حنين } [التوبة: 25] فيه إشارة إلى تحنين القلوب شوقا إلى ربها وحنن حنين قلوبكم إلى اللقاء حسبتم أنكم تبلغون بكثرة الطاعات، وتنالونه بمجرد الأعمال وهو قوله تعالى: { إذ أعجبتكم كثرتكم } [التوبة: 25] يشير إلى كثرة الطاعات، { فلم تغن عنكم } [التوبة: 25] كثرتها، { شيئا } [التوبة: 25] فما حسنت قلوبهم إليه، { وضاقت عليكم الأرض } [التوبة: 25] أرض الوجود.
{ بما رحبت } [التوبة: 25] أي: بما وسعت، { ثم وليتم } [التوبة: 25] أي: أعرضتم عن الطلب لما احتجبتم بحجب العجب، وانقطع عنكم إمداد الفيض الرباني غلب عليكم هوى النفوس حتى وليتم عما توليتم من صدق القلب وجهاد النفوس، { مدبرين } [التوبة: 25] إلى أسفل الطبيعة الحيوانية، وذلك ليتحقق لكم أن من أقبل إلى الحق فبالحق أقبل ومن عدم توفيق الإقبال أدبر بلوم نفسه، { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [التوبة: 26] وهي واردات ترد على القلوب والأرواح المؤمنة، { وأنزل جنودا لم تروها } [التوبة: 26] من الفيض الرباني.
{ وعذب الذين كفروا } [التوبة: 26] أي: النفوس المتمردة عذبها بنهيها عن هواها، واستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة، وتزكيتها عن أوصافها، { وذلك جزآء الكافرين } [التوبة: 26] أي: وذلك علاج النفوس المتمردة، { ثم يتوب الله من بعد ذلك } [التوبة: 27] أي: من بعد ذلك العلاج، { على من يشآء } [التوبة: 27] يعني: يرد ما يشاء من النفوس بجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] إلى حضرة جلاله، وهذا إشارة إلى السير إلى الله بالله، { والله غفور } [التوبة: 27] بصفة مغفرته للسائرين إليه، { رحيم } [التوبة: 27] بهم فيما يغفر لهم.
ثم أخبر عن حال المشركين بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } [التوبة: 28] الإشارة فيها: { يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } يشير الخطاب إلى الأرواح المؤمنة، وإعلانها عن أحوال النفوس المشركة أنها نجس ونجاستها شركها، أنها تعبد الدنيا والشيطان والهوى من دون الله، { فلا يقربوا المسجد الحرام } [التوبة: 28] وهو القلب، { بعد عامهم هذا } [التوبة: 28] أي: بعد البلوغ، وذلك أن الله تعالى قد رفع قلم التكليف عن الإنسان إلى أن يبلغ لاستكمال القالب، ففي تلك الحالة كانت النفس وصفاتها تطفن حول كعبة القلب مستمدات من قوته العقلية والروحانية، وبهذا يظفرون بمشتهياتهن من الدنيا ونعيمها حتى صار دأبهن تعبد الدنيا والإشراك بالله طبعهن، وبذلك الكامل القالب واستوت أوصاف البشرية الحيوانية عند ظهور الشهوة بالبلوغ، ثم أجرى الله عليهم قلم التكليف، ونهى القلوب عن اتباع النفوس، وأمرها بقتالها ونهاها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة.
ثم قال تعالى: { وإن خفتم عيلة } [التوبة: 28] يعني: فاقة عن الحظوظ، وذلك أن للقلب من الجهة التي تلي النفس حظوظا يستلذ بها عند اتباع النفس واتصافه بصفاتها، فلما منعت النفس عن طوافها حول القلب خاف القلب من فوات حظوظه من الشهوات بتبعية النفس فقال تعالى: { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } [التوبة: 28] أي: بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب يغنيه الله من تلك الحظوظ بما يفتح عليه من فضل مواهبه من أنواره وآياته الربانية والشواهد والكشوف الرحمانية، { إن شآء } [التوبة: 28] فيه إشارة إلى أن ما عند الله لا ينال إلا بمشيئته، { إن الله عليم } [التوبة: 28] بمستحق فضله، { حكيم } [التوبة: 28] فيما حكم وقدر، ثم أمر بقتال النفوس المشركة فقال تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون } [التوبة: 29] أي: من النفوس، { بالله } [التوبة: 29] بتعبده.
{ ولا باليوم الآخر } [التوبة: 29] أي: يعملن لتعبد الدنيا وتمتعا بها كالبهائم، { ولا يحرمون ما حرم الله } [التوبة: 29] من حب الدنيا وشهواتها، فإنه رأس كل خطيئة، { ورسوله } [التوبة: 29] أي: وما حرم رسوله على نفسه منها، { ولا يدينون دين الحق } [التوبة: 29] أي: لا يطلبون الله، فإن دين الحق هو طلبه.
{ من الذين أوتوا الكتاب } [التوبة: 29] أي: من النفوس التي ألهمت بالإلهامات الربانية والخواطر الرحمانية، ثم غلب عليها الهوى ومالت إلى الدنيا وشهواتها وما عملت بما ألهمت، فأمر بقتالها وجهادها وما خالفتها، { حتى يعطوا الجزية } [التوبة: 29] وجزيتها معاملاتها على خلاف طبعها، { عن يد وهم صاغرون } [التوبة: 29] يعني: عن حكم صاحب قوة وهو الشرع وعن عجز وعن ذل وهوان.
[9.30-34]
ثم أخبر عن حال النفوس الملهمة بقوله تعالى: { وقالت اليهود عزير ابن الله } [التوبة: 30] إلى قوله: { ولو كره المشركون } [التوبة: 33]، { وقالت اليهود عزير ابن الله } [التوبة: 30] يشير إلى تهود النفس، وعزير القلب، وذلك لأن النفس خلقت من ملكوت العناصر الأربعة، وهي ظلمانية سفلية محجوبة عن الله تعالى، وهي ظلومة جهولة، والقلب خلق من الملكوت الأعلى، ولهذا الستر هو بين أصبعين من أصابع الرحمن أي: بين صفتي اللطف والقهر والجمال والجلال، وهو نوراني علوي ومهبط أنوار الحق ومورد الواردات والمواهب الربانية ومعدن العلوم اللدنية ومظهر صفات اللطف والقهر ومنح علم.
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] انعكس من مرآة القلب آثار أنوار الواردات والمعارف الصادرة عن الحضرة على النفس المظلمة نورت وألهمت عن القلب بتلك المعارف والعلوم التي هي بمعزل عنها تقول القلب ابن الله كما قالت اليهود لما سمعت، والعلوم التي هي بمعزل عنها عزير ابن الله.
{ وقالت النصارى المسيح ابن الله } [التوبة: 30] يشير بالنصارى إلى القلب الغلف الذي هو مكمن مرض حب الدنيا ونعيمها، وبالمسيح إلى الروح المشرف باختصاص إضافة من روح المفرز بنفحة الحق، وذلك الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقتربا بتجلي صفة إبداع الحق، ومبدعية الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرف الخيال فيتخيل القلب نسبة الأبوة والبنوة بين الله والعبد؛ إذ البنوة أخص التعلقات بالوالد، وإذا كوشف العبد بهذا الابتلاء ينسب الروح بأنها إنزال الله، ولهذا السر أزال الحق سبحانه وتعالى هذه الشبهة مع سورة الإخلاص بقوله:
لم يلد
[الإخلاص: 3].
{ ذلك قولهم بأفواههم } [التوبة: 30] أي: ليسوا على تحقيق في هذا القول، { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } [التوبة: 30] يوافقون قول النفوس الكافرة الكاذبة قبل إيمان القلوب والأرواح، { قاتلهم الله أنى يؤفكون } [التوبة: 30] يكذبون، { اتخذوا } [التوبة: 31] أي: النفوس.
{ أحبارهم } [التوبة: 31] أي: قلوبهم، { ورهبانهم } [التوبة: 31] أي: أرواحهم، { أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم } [التوبة: 31] يشير إلى الخفي الذي فوق الأرواح، وهو استولد منه بنفحة الحق كما تولد عيسى عليه السلام عن مريم - رضي الله عنها - بنفحة الحق، وإنما اتخذت النفوس القلوب والأرواح والخفاء أربابا؛ لأن الخفي هو أول مظهر الفيض الإلهي الذي منه التربية، ثم الروح، ثم القلب، ثم النفس، ثم القالب، فالنفس من قصر نظرها ترى منشأ تربيتها القلب، فتتخذه ربا ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى التربية من الخفي فتتخذه ربا من دون الله، فإن نظرها لا يرتقي إلى أن ترى الحق تعالى، فإن رؤية الحق من شأن القلب لا من شأن النفس كقوله تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11].
{ ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } [التوبة: 31] أي: ليروا مصدر الأمور ومنشأ الأفاعيل والمعبود الحقيقي إلها واحدا صمدا لا شيرك له، { لا إله إلا هو } [التوبة: 31] أي: لا معبود سواه، { سبحانه عما يشركون } [التوبة: 31] يجعلون له أندادا من الدنيا وما فيها، ومن الآخرة وما فيها؛ يعني: هو منزه عن كل شريك أثبتته النفوس، فإن من شيم النفوس اتخاذ الهوى والدنيا والشيطان إلها، { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم } [التوبة: 32] أي: هوى النفوس إطفاء النور الإلهي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانية عن مصابيح الروحانية.
{ ويأبى الله إلا أن يتم نوره } [التوبة: 32] يعني من سنة الله لا يسلط النفوس على القلوب المنورة بنور الله؛ ليطفئوا أنوار الله، بل من سنته أن يتم نوره الذي رش على الأرواح في بدء الخلقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد هدي ومن أخطأه فقد ضل "
فإتمام ذلك النور المرشش بالاهتداء.
{ ولو كره الكفرون } [التوبة: 32] أي: ولو كرهت النفوس الكافرة، { هو الذي أرسل رسوله } [التوبة: 33] وهو النور المرشش، { بالهدى } [التوبة: 33] أي: بالهداية.
{ ودين الحق } [التوبة: 33] أي: بطلب الحق يعني: من طلب الحق واهتدى إليه إنما كان بهداية النور المرشش ولو لم يكن ذلك النور ما اهتدى إلى الله أحد؛ لقوله تعالى:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
{ ليظهره على الدين كله } [التوبة: 33] أي: ليظهر النور المرشش في طلب الحق على طلب غيره كله، { ولو كره المشركون } [التوبة: 33] ولو كرهت النفوس المشركة ترك ما سوى الله لطبعها؛ لأن من طبعها طلب غير الله وهو إشراكها بالله.
ثم أخبر عن أحبار غير أخيار بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار } [التوبة: 34] الآيتين: { يأيها الذين آمنوا } بأسرارهم ولم يتمكن الإيمان من سرائرهم، { إن كثيرا من الأحبار } أي: القلوب، { والرهبان } [التوبة: 34] أي: الأرواح، { ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } [التوبة: 34] أي: يتمتعون من حظوظ النفس بطالة وخسارة؛ لأن حظوظ القلب والأرواح من المطالعات الروحانية والمشاهدات الربانية والأحوال السنية العلوية.
{ والذين يكنزون الذهب والفضة } [التوبة: 34] وهم الذين يكنزون الذهب والفضة حرصا وطمعا في الاستمتاع من حظوظ النفوس، { ولا ينفقونها في سبيل الله } [التوبة: 34] ليقطعوا مسافة البعد عن الله تعالى بقدمي ترك الدنيا وقمع الهوى، { فبشرهم بعذاب أليم } [التوبة: 34] وهو عذاب البعد والقطيعة.
[9.35-39]
{ يوم يحمى عليها } [التوبة: 35] أي: على ما لم ينفقوه في طلب الحق، { في نار جهنم } [التوبة: 35] أي: يحمي نار جهنم الحرص، { فتكوى بها جباههم } [التوبة: 35] أي: جباه القلوب والأرواح؛ لأنها لا تتوجه للحق وطلبه، { وجنوبهم } [التوبة: 35] أي: لئلا تتجافى عن المضاجع المكونات، يدعون ربهم خوفا من القطيعة، وطمعا في الوصول إلى عالم الحقيقة، { وظهورهم } [التوبة: 35] أي: لئلا تركع وتتواضع لله تعالى.
{ هذا ما كنزتم لأنفسكم } [التوبة: 35] أي: يقال هذا الذي أصابكم من الحرمان، وكثرة الهجران ما خصكم وأخرتم بخسران أنفسكم، { فذوقوا ما كنتم تكنزون } [التوبة: 35] أي: الآن في الآخرة، فذوقوا من ألم الحرمان والخسران الحاصل في الدنيا من كي نار الحرص ولم تكونوا تذوقوا؛ لأنكم كنتم في منام الغفلة عن الآخرة، والنائم لا يذوق ألم الكي في النوم، وإنما يذوقوه عند الانتباه
" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ".
ثم أخبر عن عدة الشهور التي وجبت فيها الزكاة على الجمهور بقوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر } [التوبة: 36] أي: إن تقدير عدة الشهور عند الله في الأزل اثنا عشر، { شهرا في كتاب الله } [التوبة: 36] في علم الله، { يوم خلق السموت والأرض منهآ أربعة حرم } [التوبة: 36] يعني: اقتضت الحكمة الإلهية الأزلية أن يكون من الشهور.
{ يوم خلق السموت والأرض منهآ أربعة حرم } أي: يعظم انتهاك المحارم فيها بأشد ما يعظم في غيرها؛ بل هي أشهر الطاعات والعبادات محرمة فيها الشواغل الدنيوية والحظوظ النفسانية على الطلاب، وفيه إشارة إلي أن أيام الطالب وأوقات عمره ينبغي أن تصرف جملتها في الطلب فإن لم يتيسر له ذلك فثلثاها وإلا فنصفها، وإن لم يكن فمحرم صرف ثلثها في غير الطلب ولا يفلح من نقص من صرف الثلث شيئا في الطلب إذ لا بد له من صرف بعض عمره في تهيئ معاشه ومعاش أهله وعياله، ومن استغنى عن هذا المانع فمحرم عليه صرف لحظة من عمره في غير الطلب وتوابعه كما قال { ذلك الدين القيم } [التوبة: 36] أي: المستقيم يعني: من صرف شيئا من عمره في شيء غير طلب الحق ما استقام دينه؛ بل فيه اعوجاج بقدر ذلك فافهم جدا.
ثم قال: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } [التوبة: 36] أي: في ثلث العمر لأن الأربعة هي ثلث الاثني عشر ، يعني: إن صرفتم شيئا من ثلث أعماركم المحرم في شيء من المصالح الدنيوية فقد ظلمتم أنفسكم باستيلائها على القلوب والأرواح عند غلبات صفاتها؛ لأنه مهما يكن صرف أكثر العمر في الدنيا ومصالحها واستيفاء الحظوظ النفسانية تكون النفس غالبة على القلب والروح فتخالفهما وتنازعهما بجميع صفاتها الذميمة، وتميل إلى الدنيا وشهواتها وتعبد هواها فتكون مشركة بالله فلهذا قال: { وقاتلوا المشركين كآفة } [التوبة: 36] أي: قلوبكم وصفاتها وأرواحكم وصفاتها.
{ كما يقاتلونكم كآفة } [التوبة: 36] أي: النفوس وصفاتها جميعا ومقاتلة النفوس بمخالفتها وردعها عن هواها وكسر صفاتها ومنعها عن شهواتها وشغلها بالطاعات والعبادات واستعمالها في المعاملات الروحانية والقلبية وجملتها التزكية عن الأوصاف الذميمة والتحلية بالأخلاق الحميدة ثم قال: { واعلموا أن الله مع المتقين } [التوبة: 36] وهم القلوب والأرواح المتقية عن الشرك يعنى عن الالتفات لغير الله ولو لم يكن الله معهم بالنصر والتوفيق لما اتقوا بالله عما سواه.
قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر } [التوبة: 37] يشير إلى أن الكفر من شيم النفوس الأمارة بالسوء، وإنما جاء الشرع ليجعلها مأمورة مسلمة لأوامره ونواهيه، فتأخير الأشهر الحرم وتبديلها زيادة في الكفر الطبعي النفساني، { يضل به } [التوبة: 37] عن سبيل الله.
{ الذين كفروا } [التوبة: 37] أي: النفوس الكافرة ليزداد كفرها على الكفر وبعدها على البعد؛ لأنها مع كفرها تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله وهو كفر، وذلك قوله تعالى: { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } [التوبة: 37] إلى قوله: { زين لهم سوء أعمالهم } [التوبة: 37] لأنهم يحبسون أي: مواطأة، { ليواطئوا عدة ما حرم الله } [التوبة: 37] مع تأخيره وتبديله بالطبع، وتغيير المأمور به محمودا، ولا يعلمون أنه كفر زادوه في كفرهم، { فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } [التوبة: 37] أي: إنما لم يهتدوا إلى الإيمان؛ لأن الله ما هداهم.
ثم أخبر عن حث الرجال على القتال بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [التوبة: 38] الآيتين، { يأيها الذين آمنوا } أي: يا أيتها الأرواح والقلوب المؤمنة، { ما لكم } [التوبة : 38] أي: ما مصيبتكم وبلواكم، { إذا قيل لكم } يعني: بالإلهام الرباني، { انفروا في سبيل الله } أي: اخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب الله والسير إليه إذ آمنتم به.
{ اثاقلتم إلى الأرض } أي: تثاقلتم إلى أرض الدنيا وملتم إلى شهواتها كالنفوس الكافرة، { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [التوبة: 38] كيف رضيتم من أنفسكم بركونها إلى الدنيا وشهواتها، وترك الآخرة ونعيمها، واستحسنتم بأن تبيعوا الدين بالدنيا وتريدون الفاني على الباقي؟
{ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } [التوبة: 38] فإن الكثير الفاني قليل بالنسبة إلى القليل الباقي، فكيف أن الدنيا مع فنائها قليل بالنسبة إلى الآخرة مع بقائها، والآخرة ببقائها كثيرة بالنسبة إلى الدنيا مع فنائها!
{ إلا تنفروا } [التوبة: 39] أي: لا تخرجوا من الدنيا وسجنها وقيود شهواتها أيتها الأرواح والقلوب الروحانية، { يعذبكم عذابا أليما } [التوبة: 39] بإبطال أنوار الروحانية، واستيلاء ظلمات الصفات النفسانية، وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية، وألم عذاب البعد عن الحضرة الربانية.
{ ويستبدل قوما غيركم } [التوبة: 39] من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة، { ولا تضروه شيئا } [التوبة: 39] على ترك الخروج؛ ولكن تضرون أنفسكم بالحرمان عن تلك السعادات، { والله على كل شيء قدير } [التوبة: 39] أي: وهو قادر على استبدال قوم ممن يشاء ومتى يشاء.
[9.40-45]
ثم أخبر عن ترك النصر كما لم يضره كذلك لا يضره ترك الخروج بقوله تعالى: { إلا تنصروه فقد نصره الله } [التوبة: 40] إلا تنصروه يا أرباب الصورة بأن تكونوا معه فقد نصره الله في عالم الحقيقة بأن كان معه، { إذ أخرجه الذين كفروا } [التوبة: 40] من مكة ولم يخرجوا معه بالنصر إلا أبو بكر رضي الله عنه، { ثاني اثنين إذ هما في الغار } [التوبة: 40] الوحدة الأزلية والخلوة الحبيبية، إذ لا يسعه ملك مقرب ولا نبي مرسل حين لا حين، وكان الله ولم يكن معه شيء فخلق ببديع فطرته أول ما خلق الله نور وجود حبيبه، فكان ثاني اثنين في غار الغيرة ومقام المعية، وله صلى الله عليه وسلم مع الله وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلى أن شرف الله تعالى أبا بكر رضي الله عنه باختصاص هذين القائلين بتبعيته صلى الله عليه وسلم؛ أعني: مقام ثاني اثنين ومقام العندية كما قال تعالى: { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } [التوبة: 40]، وأنه تعالى متكلم به من الأزل إلى الأبد فدل على أن أبا بكر رضي الله عنه كان مكرما في الأزل بهذه الكرامة وهو ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال، فكما أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا كان أبا بكر ثانيه فقط، فكذلك لما خرج من العدم كان أبو بكر ثانيه وفي عالم الأرواح، بل كان ثانيه في غار العدم، ولم يكن لأحد من الخلق هذا الاختصاص من معه غير أبي بكر رضي الله عنه والذي يدل قوله صلى لله عليه وسلم:
" ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
وكان أبو بكر رضي الله عنه ثانيه في سباق الطلب والسير إلى الله تعالى في الجاهلية، والذي يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
" كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان فسبقته فتبعني، ولو سبقني لتبعته "
، وكان ثانيه في الإسلام دل عليه قوله تعالى:
والذي جآء بالصدق وصدق به
[الزمر: 33] وكان ثانيه في إمامة المسلمين يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه:
" مروا أبا بكر فليصل بالناس "
فلما كان أبو بكر رضي الله عنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق في بدء الخلقة وفي خلال حياته في مقامات وأحوال كثيرة، فقد تعين أن يكون ثانيه بعد وفاته في الخلافة كما قاله صلى الله عليه وسلم:
" يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر "
والذي يؤكد قولنا في أن أبا بكر كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وأنه كان متعينا للخلافة بعدما أورده الشيخ الفضل بن سهل في تصديق خلافة أبي بكر رضي الله عنه فقال: إنه خير الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خلافته حق واجب من الله تعالى.
قال الله عز وجل: { ثاني اثنين إذ هما في الغار } حصل له في كل أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثانيه فأطلق القول أنه ثاني اثنين، ولم يعلقه بأنه ثاني اثنين في الغار فيكون ثانيه بحضوره معه في الغار فيكون مخصوصا بثانيه في الغار فقط، فلما قال: { إذ هما } دل على عموم الحال حتى يقول دليل بأنه مخصوص بثانيه في الغار فقال: ومن النبي صلى الله عليه وسلم واجب في عظم الدين وهو بأصحابه في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلف.
وذكر فيه بإسناده إلى عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه:
" " ليؤم الناس أبو بكر " فقالت عائشة لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل رقيق، وإنه إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقالت حفصة: يا رسول الله إن أبا بكر رقيق، وإنه إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال: " يؤم الناس أبو بكر " وقالت: فأعدت ذلك، فقال: " مه إنكن لأنتن صواحب يوسف ليؤم الناس أبو بكر "
وقال: لما عورض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سهل الخلقة لين الجانب أجل وأغلظ لحضور الحق الذي لا يجوز غيره وهذا بين لا خفاء فيه.
وقال دليل آخر أن خلافته حق لا يجوز غيره ما أخبرنا محمد بن بكر، وذكر إسنادها إلى عبد الله بن زمعة قال: لما استعز بالنبي صلى الله عليه وسلم وسلم وأنا عنده في نفر من الناس دعاه بلال إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مروا أبا بكر يصلي بالناس، قال: فخرجنا، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا، فقلت: يا عمر، قم فصل للناس، فتقدم فكبر، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته - وكان عمر رجلا مجهرا - قال: فأين أبو بكر؟ يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة ، فصلى بالناس ".
قال: لولا أنه حق لا يجوز غيره ما أعيدت تلك الصلاة ولولا أنه حق واجب ينظر بأبي بكر لكان في الناس غير عمر حضور وغيب، وبعث إلى أبي بكر وهو غائب ونادى الصلاة؛ لأنه حضر وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الصلاة في ذلك الوقت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان غير ذلك لم تجب الإعادة، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والصحابة بأجمعهم خلف عبد الرحمن بن عوف وهم في مسيرهم إلى تبوك فجاز ولم يوجب إعادة، ولو لم يعد تلك الصلاة كانت الخلافة شرعا لمن كان، فلما أعيدت تأكدت الخلافة.
ثم ذكر دليلا وكيدا آخر بإسناده عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر وعمر "
، فلما قال " من بعدي " دل على أن الخلافة لهما حق، فأمره بالاقتداء بهما حق واجب.
وقال: دليل وكيد آخر ثم ذكر بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فخرجت معه فدخل حائطا من حيطان الأنصار فدخلت معه فقال: يا أنس أغلق الباب فأغلقته، فإذا برجل يقرع الباب فقال: يا أنس افتح له وبشره بالجنة، وأخبره أنه يلي أمتي من بعدي فذهبت أفتح له لا أدري من هو فإذا هو أبو بكر فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم ".
وقال: دليل وكيد آخر ثم ذكر بإسناده عن سفينة قال:
" بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ووضع حجرا، ثم قال لأبي بكر: ضع حجرك إلى جنب حجري، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال لعثمان: ضع حجر إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء من بعدي ".
ثم روى عن زيد بن وهب بإسناده قال علي رضي الله عنه: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر في صلاتنا، واختاره لنا فرضينا لدنيانا من استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاتنا، ثم ذكر دلائل خلافته كثيرة يطول ذكرها، فتحقق أن أبا بكر رضي الله عنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق في بدء الخلقة إلى أن كان ثانيه في القبر بعد وفاته، وثانيه فيما صب الله في صدره من أسرار النبوة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر "
وبذلك استحق أن يكون ثانيه في الخلافة من بعده.
والذي يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: { فأنزل الله سكينته عليه } [التوبة: 40] يعني: على أبي بكر في الغار، { وأيده بجنود لم تروها } [التوبة: 40] وهي حقائق الإيمان، ودقائق العرفان، ودقائق الإيقان من سوابق الإحسان ولواحق العيان ولا يبعد أن إنزال السكينة كان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم والتأييد بالجنود له.
ثم صب النبي صلى الله عليه وسلم ما صب الله تعالى في صدره من حقائق السكينة والتأييد في صدر أبي بكر رضي الله عنه بتصرف قوله:
" لا تحزن إن الله معنا "
فنزلت السكينة على أبي بكر وحصل له التأييد بقوله صلى الله عليه وسلم:
" ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما "
ليستحق بذلك كله أن يكون ثانيه في الخلافة.
{ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } [التوبة: 40] يشير به إلى الذين ارتدوا من العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم من دفع الزكاة، فقهرهم الله تعالى وأظهر أبا بكر عليهم، { وكلمة الله هي العليا } [التوبة: 40] وهي قول الحق الذي قاله الصديق: " والله لو منعوا عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه " ، { والله عزيز } [التوبة: 40] يعز بعزته أولياءه بالنصر، { حكيم } [التوبة: 40] فيما يذل بحكمته أعداءه بالقهر.
ثم أخبر عن حق الأولياء على قهر الأعداء بقوله تعالى: { انفروا خفافا } [التوبة: 41] إلى قوله:
والله عليم بالظالمين
[التوبة: 47] انفروا أيها الطلاب في طلب الحق خفافا مجردين من علائق الأولاد والأهالي منقطعين من علائق الأموال والأملاك، { وثقالا } [التوبة: 41] مشمولين ومتأهلين، وأيضا خفافا من قطع علائق تعلقات الكونين وثقالا معتصمين بحبل الثقلين، وأيضا خفافا مجذوبين بالعناية وثقالا سالكين بالهداية، { وجاهدوا بأموالكم } [التوبة: 41] بإنفاقها، { وأنفسكم } [التوبة: 41] ببذلها، { في سبيل الله } [التوبة: 41] في السير إلى الله على قدمي بذل الأموال والنفس، وإنما قدم أثقال المال في طلب الحق على بذل النفس؛ لأن بذل النفس مع بقاء الصفات الذميمة غير معتبر، وإنما الاعتبار بأن ينقي النفس عن دنس صفاتها، ثم تفنى ببذلها في الله بالله لله، فإن من صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها، فأشار بإنفاق المال إلى ترك الدنيا؛ لينقطع عن النفس وصفاتها ما هو مادة تربيتها وتقوية صفاتها.
{ ذلكم خير لكم } [التوبة: 41] يعني: ترك الدنيا وبذل النفس خير لكم في طلب الحق من المال والنفس، { إن كنتم تعلمون } [التوبة: 41] قدر طلب الحق وعزة السير إليه، فإن الحاصل من المال والنفس الوزر والوبال، والحاصل من طلب الحق الوصول والوصال، ثم قال تعالى: { لو كان عرضا قريبا } [التوبة: 42] لو كان مطلوبك يا محمد الدنيا، وزينتها، { وسفرا قاصدا } [التوبة: 42] وهي تتبع شهوات النفس وهواها، { لاتبعوك } [التوبة: 42] أرباب النفوس وطلاب الدنيا، { ولكن بعدت عليهم الشقة } [التوبة: 42] ولأنها الخروج عن الدنيا وزينتها وترك شهواتها وقهر النفس وقمع صفاتها فلم يكونوا متابعيك.
{ وسيحلفون بالله } [التوبة: 42] يعني: أرباب النفوس، { لو استطعنا لخرجنا معكم } [التوبة: 42] يا أرباب القلوب من الدنيا وما فيها كما خرجتم عنها، { يهلكون أنفسهم } [التوبة: 42] في مهالك شهوات الدنيا؛ إذ لم يخرجوا عنها وما يخلفون عن عدم الاستطاعة للخروج، { والله يعلم إنهم لكاذبون } [التوبة: 42] فيما يخلفون؛ لأن استطاعة الخروج شاملة لكافة الخلق مركوزة في جبلتهم.
ثم قال تعالى: { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [التوبة: 43] قدم العفو على العتاب تصديقا وتحقيقا؛ لقوله تعالى:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح: 2]، وقوله تعالى: { لم أذنت لهم } ما كان على وجه الكتاب حقيقة؛ بل كان على وجه إظهار لطفه معه وكمال رأفته في حقه؛ لقوله: { لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا } [التوبة: 43] جعل فائدة عدم الإذن راجعة إليه صلى الله عليه وسلم لا إلى غيره؛ يعني: ليحصل ذلك العلم والمعرفة بمن صدقك أنه مؤمن، { وتعلم الكاذبين } [التوبة: 43] المنافقين من المؤمنين الصادقين.
ثم بين تعالى الصادقين والكاذبين فقال: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر } [التوبة: 44] أي: إن يطلب الإذن المقصود عن الجهاد والمعنوي والصوري من لم يكن إيمانه بالنور الإلهي الموجب لليقين؛ بل يكون إيمانه تقلدا ونفاقا، { أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } [التوبة: 44] { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } [التوبة: 45] عند عدم الإيقان.
{ فهم في ريبهم } [التوبة: 45] أي: في ظلمة ريبهم، { يترددون } [التوبة: 45] بين أوصافهم الذميمة النفسانية والطبائع الحيوانية لا داعية لهم في الخروج عنها إلى الأنوار الروحانية والأخلاق الربانية.
[9.46-50]
{ ولو أرادوا الخروج } [التوبة: 46] أي: لو وجدوا في قلوبهم دواعي الخروج عن المراتب الحيوانية، { لأعدوا له عدة } [التوبة: 46] وهي متابعة الأنبياء؛ لأنهم بعثوا لخروجهم من الظلمات الحيوانية إلى النور الربانية، { ولكن كره الله } [التوبة: 46] في الأزل، { انبعاثهم } [التوبة: 46] أي: كره أن يوفقهم لداعية الطلب إظهارا للقهر.
{ فثبطهم } [التوبة: 46] أي: حبسهم في سجن البشرية وأخلى لهم القعود فيه، { وقيل } [التوبة: 46] بأمر التكوين، { اقعدوا } [التوبة: 46] راضين بالحبس فرحين بما لديكم من التمتعات الحيوانية، { مع القاعدين } [التوبة: 46] في أسفل الطبيعة المستلذين بالشهوات النفسانية، { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } [التوبة: 47] يشير إلى أن قعود أهل الطبيعة في خير البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك؛ وذلك لأنهم لو خرجوا عن البشرية بالهوى والطبيعة لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة فهي في صحبة الصادقين السالكين ما زادوهم إلا تشويشا وتفرقة بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وأفسدوا عليكم أمر الطلب، وأقعدوا عن السير والسلوك.
{ يبغونكم الفتنة } [التوبة: 47] يعني: التغيير والدعوة إلى الشهوات واللذات والميلان إلى الدنيا وزينتها وتعذر الوصول إلى المرام بالاستطعام، { وفيكم سماعون لهم } [التوبة: 47] أي: من يسمع المنكرين من أحوالكم ما يزيد في إنكارهم عليكم، { والله عليم بالظالمين } [التوبة: 47] الذين هم أرباب النفوس وإن الصلاح أن يكونوا في حبس البشرية قاعدين.
ثم أخبر عن باغي الفتنة بقوله تعالى: { لقد ابتغوا الفتنة } [التوبة: 48] إلى قوله:
إنا معكم متربصون
[التوبة: 52]، { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } يشير إلى صفات النفس اتبعت فتنة شهوة المأكول والمشروب ومستلذات النفوس ومستحسنات الهوى من قبل، { وقلبوا لك } [التوبة: 48] يا روح، { الأمور } [التوبة: 48] وهي الأمور الروحانية، وحسن الاستعداد في طلب السعادات الأخروية، واستكمال الإنسانية إلى أوان البلوغ، { حتى جآء الحق } [التوبة: 48] وهو العقل القابل لأوامر الشرع، { وظهر أمر الله } [التوبة: 48] وهو أمر الدعوة إلى الحق، { وهم كارهون } [التوبة: 48] يعني: على كره من النفس وصفاتها.
{ ومنهم من يقول ائذن لي } [التوبة: 49] وهو الهوى يستأذن الروح بأن يكون له مدخل في جميع مشارعه الدنيوية؛ لتكون مشوبة بالهوى بقوله: { ولا تفتني } [التوبة: 49] يشير إلى أن الروح كلما يدعو الهوى إلى استعمال في المنازل الروحانية والمواهب فإن الهوى مركب المحبة يقول: لا تعتني بتلك المعارف ولا تقيدوني بتلك العوارف، وذلك منه اعتلال لدفع الصعود على العلويات؛ لأن طبعه الهبوط.
{ ألا في الفتنة سقطوا } [التوبة: 49] يعني: اعتلاله لدفع الصعود هو عين فتنة الهبوط، { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } [التوبة: 49] يعني: جهنم البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها، { إن تصبك حسنة } [التوبة: 50] يا روح من عواطف الحق وإحسانه، { تسؤهم } [التوبة: 50] تحزن النفس وصفاتها؛ لأن بها تظفر الروح عليها، { وإن تصبك مصيبة } [التوبة: 50] من المواقع والقواطع عن السير.
{ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } [التوبة: 50] أي: أخذنا نصيبا من المواقع الحيوانية لما خلفنا في السير إلى المعالم الروحانية والمعارف الربانية، { ويتولوا } [التوبة: 50] الروح وأوصافه، { وهم فرحون } [التوبة: 50] بما لديهم من المراتع البهيمية.
[9.51-54]
{ قل } [التوبة: 51] يا روح، { لن يصيبنآ } [التوبة: 51] من الموانع، { إلا ما كتب الله لنا } [التوبة: 51] لتربية ما يصيبنا من الفترات والوقفات لا علينا من الرد والطرد، { هو مولانا } [التوبة: 51] ولينا ومربينا ومؤدبنا يفعل بنا ما هو صلاح ديننا ولإصلاح حالنا.
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [التوبة: 51] فليثقوا بحسن عاطفته، وليكل أمر تربيتها إلى القلوب والأرواح المؤمنة، { قل } [التوبة: 52] يا روح، { هل تربصون بنآ } [التوبة: 52] أيتها النفس وصفاتها بنا، { إلا إحدى الحسنيين } [التوبة: 52] الإحسان والعواطف الروحانية والوقفة والغيرة الموجبة لحسن التربية والتأديب والتجربة، { ونحن نتربص بكم } [التوبة: 52] لأنه { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } [التوبة: 52] من الابتلاء والمصيبات.
{ أو بأيدينا } [التوبة: 52] استيلاء وغلبة لنستعملكم في الطاعات والعبادات، ونمنعكم من المخالفات ومتابعة الهوى وطلب الدنيا وإصغاء لشهواتها، { فتربصوا } [التوبة: 52] لنا، { إنا معكم متربصون } [التوبة: 52] للظفر بكم.
ثم أخبر عن إنفاق أهل النفاق بقوله تعالى: { قل أنفقوا طوعا أو كرها } [التوبة: 53] إلى قوله:
لولوا إليه وهم يجمحون
[التوبة: 57] يشير إلى أن الطاعة في العبودية بثلاثة أنواع: بالمال، والبدن، والقلب، أما بالمال: فهو الإنفاق في سبيل الله، وأما بالبدن فهو القيام بالأوامر والنواهي والسنن والآداب المستحسنة المستحبة، وأما بالقلب فهو الإيمان والصدق والإخلاص في النية، وأن الطاعة بالمال والبدن مقبولة لقوله تعالى صلى الله عليه وسلم:
" نية المؤمن أبلغ من عمله ".
وفي الآية الأولى إشارة أخرى: قل يا روح النفس وصفاتها اتقوا أي: اتركوا ما هو مشتهياتكم ومستلذاتكم من المال والجاه والنعم من المأكولات والمشروبات والمنكوح والملبوس، { طوعا } أي: رضاء { أو كرها } أي: نفاقا، { لن يتقبل منكم } [التوبة:53] هذه الرياضة والمجاهدة، { إنكم كنتم قوما فاسقين } [التوبة: 53] خارجين عن الإخلاص والإيمان، { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } [التوبة: 54].
[9.55-59]
{ فلا تعجبك أمولهم ولا أولدهم } [التوبة: 55] يعني: أصحاب النفوس المتمردة، { إنما يريد الله ليعذبهم بها } [التوبة: 55] بتلك الأموال والأولاد، { في الحيوة الدنيا } [التوبة: 55] أي: في مدة العمر يعذبهم بها أن يشغلهم بها ويلهيهم عن ذكر الله وطاعته ومحبته وطلبه بذكرها ومحبتها وطلبها، كما قال تعالى:
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله
[المنافقون: 9]، وقوله تعالى: { إنما يريد الله } يدل على أن الله تعالى يريد الكفر للكافرين، وألا يرضى الكفر كما قال تعالى: { وتزهق أنفسهم وهم كفرون } [التوبة: 55] والكافر كافران: كافر يجحد المنعم، وكافر يجحد النعمة.
{ ويحلفون بالله } [التوبة: 56] يعني: النفس وصفاتها مع الروح والقلب والسر عند استيلائهم عليها والظفر بها، { إنهم لمنكم } [التوبة: 56] في أصل الخلقة والجبلة يعني: على سجيتكم وسيرتكم، { وما هم منكم } [التوبة: 56] لأن منشأكم عالم الأمر والأرواح ومنشأهم عالم الخلق والأشباح.
{ ولكنهم قوم يفرقون } [التوبة: 56] من سطوات قهركم عند غلبات الأنوار الروحانية، فإن النفس وصفاتها لما انعكست عليها أنواع الفيض الرباني عن مرآة القلب انكسرت ظلمة طبيعتها وانخمدت نار شهواتها، فتفزع من فنائها وهلاكها بالكلية، فتلتجئ إلى الروح والقلب والسر وتخدعهم بالحلف كما خدع إبليس آدم وحواء بالحلف كقوله تعالى:
وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين
[الأعراف: 21]
فدلاهما بغرور
[الأعراف: 22]، فتريد النفس أن تدلي الروح والقلب بغرور، { إنهم لمنكم } يعني: في الطاعة، { لو يجدون } [التوبة: 57] يعني: النفس وصفاتها، { ملجئا } [التوبة: 57] أي: مهربا ومفرا، { أو مغارات أو مدخلا } [التوبة: 57] يتخلصون بها عن استيلاء الروح وصفاتها، { لولوا إليه وهم يجمحون } [التوبة: 57] عن الانقياد والعبودية.
ثم أخبر عن الرضا بالعطاء والرضا بما قضى المولى بقوله تعالى: { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [التوبة: 58] الآيتان تشير الأولى إلى النفاق وأهله بأن رضا المنافق وسخطه في إعطاء الدنيا ومتاعها وفي المنع عنها؛ لأن النفاق تزيين الظاهر بأركان الإسلام، وتعطيل الباطن عن أنوار الإيمان، والقلب العطل عن نور الإيمان يكون مزينا له بظلمة الكفر وحب الدنيا، فلا يرضى إلا بوجدان الدنيا ويسخط بفقدها.
{ ولو أنهم رضوا مآ آتاهم الله ورسوله } [التوبة: 59] يشير إلى أن الرضا بالقضاء من أمارات الإيمان وتزيين القلب بنوره، فلما حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم شاهدوا بنور الإيمان شواهد الحق، { وقالوا حسبنا الله } [التوبة: 59] فإن الله كاف لعبده، ومن وجد الله فقد ما دونه؛ لأن فقدان الله في وجدان ما سواه، ووجدانه في فقدان ما سواه، ومن وجده يرضى به ويقول: { سيؤتينا الله من فضله ورسوله } [التوبة: 59] من الوحي والبيان والدلائل والبرهان، { إنآ إلى الله راغبون } [التوبة: 59] لا إلى الدنيا والعقبى وما فيها غير المولى.
[9.60-63]
ثم أخبر عن مستحقي الصدقات ومصارفها وما فيها غير المولى ومستعدي المواهب وعوارفها بقوله تعالى: { إنما الصدقات للفقرآء } [التوبة: 60] إنما الصدقات هي صدقات الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من يوم وليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يتصدق بها على من يشاء من عباده الفقراء، وهم الأغنياء بالله الفانون عنهم الباقون به "
، وهذا حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم:
" والفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة "
وهو سر ما قال الواسطي: الفقير لا يحتاج إلى الله؛ وذلك لأنه غني به، والشيء بالشيء لا يحتاج إليه.
{ والمساكين } [التوبة: 60] وهم الذين لهم بقية أوصاف الوجود، فهم في سفينة بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة
وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا
[الكهف: 79].
{ والعاملين عليها } [التوبة: 60] وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أصحاب الأحوال.
{ والمؤلفة قلوبهم } [التوبة: 60] وهم الذين يتألفون قلوبهم بذكر الله إلى الله المتقربون إليه بالتباعد عما سواه.
{ وفي الرقاب } [التوبة: 60] وهم المكاتبون قلوبهم عن رق الموجودات تحريا لعبودية موجدها والمكاتب عبد ما بقى عليه درهم، { والغارمين } [التوبة: 60] وهم الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبعائها وخواصها وهم محبوسون في سجن الوجود بقروضهم وإنهم في استخلاص ذممهم عن القروض بردها، فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص من حبس الوجود، { وفي سبيل الله } [التوبة: 60] وهم الغزاة المجاهدون في الجهاد الأكبر وهو الجهاد مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا.
{ وابن السبيل } [التوبة: 60] وهم المسافرون عن أوطان الطبيعة والبشرية السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة بسفارة الأنبياء والأولياء، { فريضة من الله } [التوبة: 60] أي: هذا السير والجهاد ورد القرض والحرية عن رق الموجودات وتألف القلوب إلى الله واستعمال أعمال الشريعة، والتمسكن والافتقار إلى الله طلبا للاستغناء به أمر واجب على العباد من الله، وهذه الصدقات من المواهب الربانية والألطاف الإلهية للطالبين الصداقين أمر أوجبه الله تعالى في ذمة كرمه لهم كما قال تعالى:
" ألا من طلبني وجدني ".
{ والله عليم } [التوبة: 60] بطالبيه، { حكيم } [التوبة: 60] فيما يعادونهم على الطلب للوجدان كما قال تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ".
ثم أخبر عن المنافقين المؤذين بقوله تعالى: { ومنهم الذين يؤذون النبي } [التوبة: 61] إلى قوله: { ذلك الخزي العظيم } [التوبة: 63] يشير إلى أن من أمارات النفاق إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤية محامده بنظر المذمة والعيب كما قالوا: هو أذن يسمع ما يقال، عابوه به، وقد مدحه الله به فقال: { قل أذن خير لكم } [التوبة: 61] يعني: سامعية خير لكم؛ لأن له مقام السامعية، فيسمع لما أوحى الله إليه إما بواسطة الملك، وإما بغير الواسطة كما قال تعالى:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10] فيبلغكم رسالات ربه ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة.
{ يؤمن بالله } [التوبة: 61] أي: يكون إيمانه بشهود نور الله إيمانا غيبا بما نزل إليه من ربه بلا واسطة كما كان ليلة المعراج بقوله تعالى:
ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه
[البقرة: 285] يعني: بلا واسطة إيمانا عينيا لا إيمانا غيبيا كما كان يؤمن بما أنزل به الروح الأمين على قلبه، { ويؤمن للمؤمنين } [التوبة: 61] أي: فوائد إيمانه تعود إلى المؤمنين كما تعود إلى نفسه.
{ ورحمة للذين آمنوا منكم } [التوبة: 61] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وهو صورة رحمة الحق لمن آمن منكم واهتدى بهداه، { والذين يؤذون رسول الله } [التوبة: 61] بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، { لهم عذاب أليم } [التوبة: 61] هو عذاب البعد والقطيعة؛ يعني: إيذاؤهم لرسول الله من نتائج عذاب البعد ولو كانوا أهل القرب لم ينتج منهم الإيذاء.
{ يحلفون بالله لكم } [التوبة: 62] يعني: لكم بالنفاق لا بالله بالإخلاص، { ليرضوكم } [التوبة: 62] بالنفاق، { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [التوبة: 62] يرضوه بالإخلاص، { إن كانوا مؤمنين } [التوبة: 62] لأن من أمارات الإيمان طلب رضا الله ورسوله، { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله } [التوبة: 63] جهلا وكفرا، { فأن له نار جهنم } [التوبة: 63] لأنه خلق لها وهي خلقت له، { خالدا فيها } [التوبة: 63] وهي نار القطيعة، { ذلك الخزي العظيم } [التوبة: 63] يعني: الخلود في نار القطيعة من الله العظيم هو الخزي العظيم.
[9.64-67]
ثم أخبر عن أن الحذر لا يفيد مع القدر بقوله تعالى: { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم } [التوبة: 64] إلى قوله: { هم الفاسقون } [التوبة: 67] يشير إلى أن المنافقين وإن اعتقدوا نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم واعتقدوا ثبوته حتى خافوا نزول السورة بالإنباء بما في قلوبهم من الكفر والنفاق وإفشاء أسرارهم لم ينفعهم مجرد الاعتقاد والإقرار باللسان في ثبوت الإيمان مع أدنى شك دخلهم فيه، وأنه لم ينفعهم الحذر مع القدر، وهذا تحقيق قوله:
" ولا ينفع ذا الجد ".
{ قل استهزءوا } [التوبة: 64] وهذا أمر التكوين، وقد مضى لهم القدر بالاستهزاء، { إن الله مخرج } [التوبة: 64] بقضائه وقدره، { ما تحذرون } [التوبة: 64] لتعلموا أن الحكم والمشيئة له لا لغيره، { ولئن سألتهم } [التوبة: 65] عن أفعالهم وأحوالهم.
{ ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } [التوبة: 65] يعني: يحيلون الأمور الموجبة للكفر إلى أنفسهم؛ لقصور نظرهم وهم عن رؤية وجوب إجلال الله بمعزل، وأنهم عن أحكامه الأزلية وقضائه غافلون، { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } [التوبة: 65] على زعمكم أنكم كنتم مصدر الأمور ومرجعها بمشيئتكم، { لا تعتذروا } [التوبة: 66] يعني: بمثل هذه الأعذار لأنكم { قد كفرتم } [التوبة: 66] فيما اعتذرتم به.
{ بعد إيمانكم } [التوبة: 66] بعد إقراركم بالكفر بقولكم: { إنما كنا نخوض ونلعب } ، { إن نعف عن طآئفة منكم } [التوبة: 66] إظهارا للفضل والرحمة، { نعذب طآئفة } [التوبة: 66] إظهارا للقهر والعزة، { بأنهم كانوا مجرمين } [التوبة: 66] يشير به إلى أن إظهار اللطف والرحمة بلا سبب محتمل، ولكن إظهار القدر لا يكون إلا بسبب جرم من المجرمين.
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [التوبة: 67] يعني: طينة نفوسهم وجبلة قلوبهم من جنس واحد وأرواحهم متقاربة في صف واحد من صفوف الأرواح؛ إذ هي جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، فمعاملاتهم من نتائج خصوصية أرواحهم السفلية بالنسبة إلى الأرواح العلوية فمن نتائج خصوصيتها، { يأمرون بالمنكر } [التوبة: 67] وهو ما يقطعهم عن الله ويبعدهم عنه.
{ وينهون عن المعروف } [التوبة: 67] وهو ما يقربهم إلى الله ويوصلهم به، { ويقبضون أيديهم } [التوبة: 67] عن فعل الخير وصدق النيات، { نسوا الله } [التوبة: 67] فيما فعلوا من المعاصي وترك الأوامر، فلو ذكروه قبل الإتيان لم يفعلوا ما فعلوا، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروه لما فعلوه كقوله تعالى:
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم
[آل عمران: 135] ونسوه بترك الطلب وصدق التوجه؛ إذ هم توجهوا للدنيا وشهواتها، { فنسيهم } [التوبة: 67] بالخذلان ووكلهم أنفسهم في الطغيان والعصيان، { إن المنافقين هم الفاسقون } [التوبة: 67] الخارجون عن قبول فيض النور الإلهي حين خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره.
[9.68-70]
ثم أخبر عن وعيد المنافقين بقوله تعالى: { وعد الله المنافقين } [التوبة: 68] إلى قوله: { يظلمون } [التوبة: 70]، { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار } في الأزل في قسمة
نحن قسمنا بينهم معيشتهم
[الزخرف: 32].
{ نار جهنم خالدين فيها } [التوبة: 68] وهي نار جهنم الحرص والحرمان؛ إذ لم يصيبهم رشاش نور الجمال بقوا في نار قهر العظمة والجلال، { هي حسبهم } [التوبة: 68] إذ هي نصيبهم في تلك القسمة، { ولعنهم الله } [التوبة: 68] وطردهم بسوط نفاقهم وكفرهم.
{ ولهم عذاب مقيم } [التوبة: 68] من البعد ونار القطيعة، { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة } [التوبة: 69] بالاستعداد الفطري، { وأكثر أموالا وأولادا } [التوبة: 69] بالاعتداد وطلب الكمال، { فاستمتعوا بخلاقهم } [التوبة: 69] أي: فصرفوا الاستعداد والاعتداد في الانتفاع بالشهوات العاجلة دون الارتفاع في الدرجات الآجلة.
{ فاستمتعتم بخلاقكم } [التوبة: 69] أي: رضيتم بنصيبكم من التمتعات الدنيوية والنفسانية، وضيعتم استعدادكم في قبول الفيض الإلهي الروحاني، { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } [التوبة: 69] كما رضيت الأمم الخالية بنصيبهم من الحظوظ النفسانية، وإضاعة حقوقهم الروحانية الربانية، { وخضتم } [التوبة: 69] في تحصيل الباطل وترك الحق ورضيتم بالخسران والحرمان، { كالذي خاضوا } [التوبة: 69] فيما لا يعنيهم وضيعوا ما يعنيهم.
{ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } [التوبة: 69]؛ إذ كان حاصل تحصيلهم منها الوبال والحسرة والبعد والحجاب؛ إذ ما أورثتهم إلا عذاب القطيعة والحرمان عن جوار الرحمن واحتباس في النيران، { وأولئك هم الخاسرون } [التوبة: 69] في رأس مال العمر والاستعداد وما أعدهم الله من الاعتداد؛ لأنهم صرفوا في عبودية الهوى ومخالفة رضا المولى.
{ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبرهيم وأصحب مدين والمؤتفكت } [التوبة: 70] ليعتبروا بها، { أتتهم رسلهم بالبينت } [التوبة: 70] ليهتدوا بها فتداركهم الشقاء واستقبلوهم بالإباء، فأدركهم البلاء وأهلكوا ولم ينفعهم الإباء، { فما كان الله ليظلمهم } [التوبة: 70] عن الاستعداد والاعتداد، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [التوبة: 70] بصرف الاستعداد والاعتداد فيما أمرهم الهوى على خلاف أمر المولى فخسروا الآخرة والأولى.
[9.71-74]
ثم أخبر عن أحوال المؤمنين والمؤمنات وأوصافهم بقوله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض } [التوبة: 71] الآيتين: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض }؛ لأن ائتلافهم من نتائج تعارف الأرواح قبل تعلقها بالأشباح للمناسبة الفطرية؛ إذ الأرواح لما كانت مجندة فما كان منها في صف واحد كانت بينهم مناسبة الجنسية صاروا نفسا واحدة بمد بعضهم بعضا، وكانوا كالبنيان يشد بعضه بعضا فلهذا يأمرون بالمعروف أي: ينصح بعضهم بعضا في طلب الله وهو المعروف الحقيقي، كما قال:
" فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف "
؛ والمعنى: { يأمرون } [التوبة: 71] بطلب، { بالمعروف وينهون عن المنكر } [التوبة: 71] وهو ما يقطع العبد عن الله تعالى من الدنيا وغيرها.
{ ويقيمون الصلاة } [التوبة: 71] يشير إلى مراقبة القلب وحضوره مع الله تعالى، { ويؤتون الزكاة } [التوبة: 71] يشير إلى إنفاق ما فضل عن كفافهم الضروري، { ويطيعون الله ورسوله } [التوبة: 71] يشير إلى الإخلاص في معاملاتهم، فإن المنافقين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ ولكن لا يطيعون الله ورسوله في ذلك، إنما يطيعون النفس والهوى لمصالح دنياهم، { أولئك } [التوبة: 71] هم يعني: المخلصين، { سيرحمهم الله } [التوبة: 71] بنظره إليهم بنظر الرحمة، ويخرجهم من ظلمات النفسانية إلى أنوار الصفات الروحانية الربانية.
{ إن الله عزيز } [التوبة: 71] أي: منيع لا يصل إليه لعزته إلا المخلصون في عبوديته، { حكيم } [التوبة: 71] يختار بحكمته من يشاء من عباده لمعرفته وقربته.
ثم قال تعالى: { وعد الله } [التوبة: 72] يعني: أهل المقامات والكرامات الذين هم من { المؤمنين والمؤمنات } [التوبة: 72] والموصوفين بما ذكره، { جنات } [التوبة: 72] مقامات رفيعة.
{ تجري من تحتها الأنهار } [التوبة: 72] أي: الأسرار والحكم، { خالدين فيها } [التوبة: 72] أي: مقيمين في تلك الأحوال متمكنين لا متلونين، { ومساكن } [التوبة: 72] أي: مقامات، { طيبة } [التوبة: 72] على قدر مراتب النفوس المطمئنة الطاهرة، فإن الطيبات للطيبين، { في جنات عدن } [التوبة: 72] أي: مقامات علية قريبة.
{ ورضوان من الله أكبر } [التوبة: 72] يعني: أكبر من جميع هذه المقامات؛ لأن الرضا باب الله الأعظم، والرضا من الله يوجب رضا العبد كما قال الله تعالى:
رضي الله عنهم ورضوا عنه
[التوبة: 100] والعبد لا يرضى من الله تعالى إلا بنيل كمال مقصوده منه، ولهذا من على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكرامة السنية.
وقال تعالى:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى: 5] الحبيب لا يرضى من الحبيب بشيء دونه، وأيضا ورضوان من الله أكبر؛ لأنه من صفاته وما دونه من أفعاله والأفعال محدثة والصفات قديمة، { ذلك هو الفوز العظيم } [التوبة: 72]؛ لأنه هو الفوز بصفات الله العظيم.
ثم أخبر عن الجهاد مع أهل العناد بقوله تعالى: { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } [التوبة: 73] يشير إلى القلب الذي له بناء من مقام الأنبياء، ويأمره بالجهاد مع كفار النفس وصفاتها، وهذا مقام المشايخ أن يجاهدوا مع نفوسهم أو نفوس مريديهم كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الشيخ في قومه كالنبي في أمته "
فأمر بالجهاد مع كافر النفس وصفاتها بسيف الصدق، فجهاد النفوس بمنعها عن شهواتها واستعمالها في حمل الشريعة على خلاف الطبيعة، فالنفوس بعضهما كفار لم تسلم أي: لم يستسلموا للمشايخ في تربيتها في هداها بالدعوى إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعضها المنافقون وهم الذين أدعوا الإرادة والاستسلام إلى المشايخ في الظاهر، ولم يوفوا بما عاهدوا عليه فجهادها بإلزامها مقاساة شدائد الرياضات في التزكية على متمثل أمر الشيخ ونواهيه ولو يرى عليها الإباء والامتناع فلا يفنيها إلا التشديد والغلظة.
كما قال تعالى: { واغلظ عليهم } [التوبة: 73] فالواجب عليه أن يبالغ في مخالفتها ومؤاخذتها في أحكام الطريقة، فإن فاءت إلى أمر الله فهو المراد وإلا استوجبت لما خلقت له، { ومأواهم جهنم } [التوبة: 73] أي: مرجعهم جهنم البعد ونار القطيعة، { وبئس المصير } [التوبة: 73] مرجعهم.
وفي قوله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } [التوبة: 74] إشارة إلى أحوال بعض المريدين عند استيلاء النفوس وغلبة هواها، وظفر الشيطان أن ينكروا على مشايخهم ويقولوا في حقهم كلمة الكفر كلمة الإنكار والاعتراض، ويعرضوا عنهم بقلوبهم بعد الإرادة والاستسلام، فإذا وقف المشايخ عن أحوال ضمائرهم وعلل الإرادة في سرائرهم يحلفون بالله لهم ما قالوا وما أنكروا.
{ وهموا بما لم ينالوا } [التوبة: 74] يعني: وهم بعضهم أن يثبت له مرتبة الشيخوخة قبل أوانها، ويظهر الدعوى إلى نفسه وإن لم ينلها، { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } [التوبة: 74] وما أنكروا على الشيخ وخرجوا عن أمره إلا أن الشيخ نبأهم بلبان فضل الله عن حكمة الولاية؛ ليروا آثار الرشد على أنفسهم، فلم يحتملوا الضيق حوصلة الهمة، فزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فأصمهم بذلك وأعمى أبصارهم.
{ فإن يتوبوا } [التوبة: 74] يرجعوا إلى ولاية الشيخ بطريق الالتجاء { يك خيرا لهم } [التوبة: 74] بأن يتخلصوا من غيرة الولاية وردها فإنها مهلكة ويتمسكوا بحبل الولاية فإنها منجية { وإن يتولوا } [التوبة: 74] أي: يعرضوا عن ولاية الشيخ { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } [التوبة: 74] بعذاب رد الولاية، فإن مرتد الطريقة أعظم ذنبا من مرتد الشريعة.
قال الجنيد رحمه الله: لو أقبل صديق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله، فأما عذابه في الدنيا فبسلب الصدق والرد على باب الطلب وإرخاء الحجاب وذله وتقوية الهوى وتبديل الإخلاص بالرياء، والحرص على الدنيا وطلب الرفعة والجاه، وأما عذابه في الآخرة فباشتعال نيران الحسرة والندامة على قلبه المعذب بنار القطيعة وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
{ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } [التوبة: 74] يشير إلى أن من ابتلي برد ولاية شيخ كامل ولو امتلأت الأرض بالمشايخ وأرباب الولاية وهو يتمسك بذيل إرادتهم غير أن شيخه رده لا يمكن لأحدهم إعانته وإخراجه من ورطة الرد إلا ما شاء الله تعالى.
[9.75-79]
ثم أخبر عن آفة حب الدنيا والركون إليها بقوله تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } [التوبة: 75] إلى قوله: { علام الغيوب } [التوبة: 78] { ومنهم من عاهد الله } تشير إلى أن نفوس المنافقين مستدعية في أصل الخلقة لنقض العهد مع الله تعالى وأخلاق الوعد والخيانة في الأمانة والكذب كما نطق بها الحديث إنها تعد المنافق بالصلاحية والسخاوة، وحمل أعباء الشريعة على خلاف طبعها وجبلها حرصا على الدنيا واستيفاء شهواتها، وأنها لا توفي بما وعدته.
وإن المنافقين صنفان: صنف معلن الإسلام مستتر الكفر في بدء الأمر وذلك لغلبات صفات النفاق وقوتها في النفس، فيظهر بالفعل ما كان بالقوة وذلك لضعفها في النفس، فيعقبهم النفاق إلى الأبد بالسلوك الواقع في قلوبهم، وهم عن هذا النوع من النفاق غافلون وهم يصومون ويصلون ويزعمون أنهم مسلمون كما نطق به الحديث:
" وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ".
وقوله تعالى: { فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به } [التوبة: 76] يشير إلى أن نفس المنافق كذبت فيما حدثت وأخلفت فيما وعدت بالسخاء فبخلت، { وتولوا وهم معرضون } [التوبة: 76] من الصلاحية وعن حمل أعباء الشريعة، { فأعقبهم } [التوبة: 77] هذه الصفات والمعاملات.
{ نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه } [التوبة: 77] أي: يلقون جزاء النفاق، { بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } [التوبة: 77] إن كان سبب النفاق ومنيته في القلوب خلف الوعد وكذب الحديث، { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم } [التوبة: 78] أي: النفاق المستكمن في النفوس صفاته وهم لا يشعرون، { ونجواهم } [التوبة: 78] أي: يناجيهم به النفوس من النفاق وتسول لهم ولهم الشعور به، { وأن الله علام الغيوب } [التوبة: 78] أي: هو عالم بما توسوس به نفوسهم وهو غيب عن الخلق، وعالم بما يكن في قلوبهم وهو غيب عن نفوسهم، ولهذا قال: { علام الغيوب } وبها يشير إلى الصنفين من المنافقين.
ثم أخبر عن نعوت أهل النفاق مع أهل الوفاق بقوله تعالى: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات } [التوبة: 79] يشير إلى الاستعداد الفطري للمؤمنين والمنافقين، وذلك أن قلب المؤمن منور بالإيمان وروحه متوجهة إلى الحق، فالحق يؤيد روحه بتأييده بنظر العناية وتوفيق العبودية فيطلع من الروح نور روحاني مؤيد بنور رباني فتنبعث منه الخواطر الربانية الداعية إلى الله تعالى بأعمال موجبة القربة من الفرائض والنوافل، فتارة تكون تلك الأعمال بدنية كالصوم والصلاة، وتارة تكون مالية كالزكاة والصدقات فيطوع بالصدقة فضلا عن الزكاة عن استطاعته كما قال تعالى: { والذين لا يجدون إلا جهدهم } [التوبة: 79] وأن قلب المنافق مظلم بظلمات صفات النفس؛ لعدم نور الإيمان وروحه متوجه إلى الدنيا وزخارفها بتبعية النفس الأمارة بالسوء مطرودا بالخذلان قرين الشيطان، فيتأثر الخذلان وظلمة الشيطان تصعد من النفس ظلمة نفسانية تنفي القلب عن قبول الدعوة، وإجابة الرسول، واتباع الأوامر واجتناب النواهي بالصدق وتنبعث منه الخواطر النفسانية الظلمانية، فبذلك تمتع عن أداء الفرائض فضلا عن النوافل والتطوعات، ويعيب المطوعين من المؤمنين في الرياضات والذين لا يجدون إلا جهدهم وينظر إليهم وإلى أعمالهم وصدقاتهم بنظر الحقارة.
{ فيسخرون منهم سخر الله منهم } [التوبة: 79] ذكر سخرية المنافقين من المؤمنين بصيغة الاستقبال والحال، وذكر سخرية الله من المنافقين بصيغة الماضي يشير إلى أن سخريتهم من نتائج سخريته منهم وهي الخذلان؛ فالمعنى: أن خذلان الله إياهم وقعوا في سخرية المؤمنين، { ولهم عذاب أليم } [التوبة: 79] من الخذلان وهو القطيعة من الله تعالى.
[9.80-82]
{ استغفر لهم } [التوبة: 80] من هذه صفتهم وأحوالهم وأنهم لا يتغيرون عنها، { أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [التوبة: 80] لأنه تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا يشير إلى أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم حين يستغفر لنفسه.
كما قال تعالى:
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك
[النساء: 64] وإنما قال: لا يقبل استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا برسوله، فبشؤم كفرهم منعوا قبول الاستغفار لهم لا بأن ليس لاستغفاره أثر قبول عند الله كما قال تعالى: { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين } [التوبة: 80] أي: الخارجين عن إصابة النور المرشش عليهم في بدء الخلقة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل ".
وقال الله تعالى:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40] من نعوت المنافقين ذكر قوله تعالى: { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } [التوبة: 81] أي: قعودهم عن الجهالة، ومخالفة سيرة رسول الله واتباعه وليس من أمارات الإيمان فرحهم بذلك، { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } [التوبة: 81] أي: كرهوا بذلها في طلب الحق ولو كان فيهم الإيمان ما فرحوا بالقعود وما كرهوا الجهاد، { وقالوا لا تنفروا في الحر } [التوبة: 81] يشير إلى أنهم لو يؤمنوا بنار جهنم حتى احترزوا عن حر الشمس ولم يحترزوا عن نار جهنم، { قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } [التوبة: 81] فقه القلوب بنور الإيمان، { فليضحكوا قليلا } [التوبة: 82] يشير إلى سرور النفوس بالتمتعات الحيوانية من المراتع البهيمية في الدنيا أياما قلائل.
{ وليبكوا كثيرا } [التوبة: 82] يشير إلى مقاسات الشدائد الأخروية الباقية، { جزآء بما كانوا يكسبون } [التوبة: 82] من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة التمتعات الحيوانية وتعدية صفات النفس إليها.
[9.83-86]
{ فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم } [التوبة: 83] أي: من المخلفين، وإنما قال إلى طائفة لأن طائفة من المخلفين ثبتوا على نفاقهم، وطائفة منهم تابوا ورجعوا عن كفرهم ونفاقهم؛ فالمعنى: إن رجعك الله إلى طائفة منهم من الذين ثبتوا على النفاق ولم يتوبوا.
{ فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } [التوبة: 83] يشير إلى أن استئذانهم للخروج أو قتالهم العدو من النفاق فلا تقبل منهم، فإن الله لا يقبل منهم، فإن قيل: كانت أعمال المنافقين من الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد مقبولة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن مقبولة عند الله تعالى فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر "
فما كانت الحكمة في أن الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يقبل من المخلفين أعمالهم من الخروج معه والقتال مع العدو، وغير ذلك قلنا: الحكمة في ذلك الله أعلم: أن المنافقين لما كانوا يظهرون الإسلام والائتمار بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم مع ما يضمرون من الكفر والنفاق فكانت أعمالهم مقبولة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وسرائرهم مركونة إلى الله تعالى؛ طمعا في إنابتهم ورجوعهم من النفاق إلى الوفاق، فلما أظهروا ما كانوا يضمرون من النفاق، وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا عنه وقعدوا عن الجهاد ورضوا به وأصروا على كفرهم ونفاقهم، وما ندموا على ما فعلوا فأشير إليهم { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } [التوبة: 83] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يقبل منهم أعمالهم المشوبة بالنفاق، وقيل له: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } [التوبة: 84] ماتوا يؤمنون بك ولا بصلواتك إنها حق ودعائك أنه صدق.
{ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } [التوبة: 84] لأنهم خارجون عن الاستعداد الفطري؛ لقبول الإيمان، { ولا تعجبك أمولهم وأولدهم } [التوبة: 85]؛ يعني: إن الأموال والأولاد وإن كانت نعمة مني في حق المؤمنين فإنها نعمة مني في حق الكافرين والمنافقين، { إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا } [التوبة: 85] بأن يجعلها مباعدا لقلوبهم عن الله وطلبه، ويجعلها بينهم وبينه أشد عذاب من الحجاب كما قال بعضهم: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب؛ وذلك لأنه من عذب بالحجاب فقد حرم عن الإيمان كما قال تعالى: { وتزهق أنفسهم وهم كفرون } [التوبة: 85] مستور والقلب بحجاب حب المال والأولاد.
ثم أخبر عن أمارات أهل النفاق وعلامات أهل الوفاق بقوله تعالى: { وإذآ أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم } [التوبة: 86] إلى قوله:
ذلك الفوز العظيم
[التوبة: 89] يشير إلى أن من أمارات النفاق الفتور والقصور لأرباب القلب القعود عن الجهاد والركون إلى الدنيا وشهواتها وميلان الطبع إلى السفليات والرضاء بالمنازلة إلى المراتب الدنية الخسيسة كما أخبر عنهم.
وقال تعالى: { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } [التوبة: 86] عن الطلب والجهاد.
[9.87-93]
{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } [التوبة: 87] من أرباب الشهوات والعلاقات، { وطبع على قلوبهم } [التوبة: 87] بطابع حب الدنيا وزينتها واتباع شهواتها، { فهم لا يفقهون } [التوبة: 87] فإن بالطبع يزول فقه القلب حتى لا يكون له شعور على الطبع، { فهم لا يفقهون } أي: لا يشعرون أنهم محجوبون عن الله بحجاب الدنيا.
{ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } [التوبة: 88] يشير إلى أن من أمارات أهل الصدق وأرباب الطلب الجد والاجتهاد في طلب الحق ببذل الأموال والأنفس، فإنهم شاهدوا بنور الصدق وشواهد الحق، فاستقلوا الفانيات واستكثروا الباقيات وتحقق لهم أن ما عندهم من الأموال والأنفس ينفد وما عند الله باق؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى.
{ وأولئك لهم الخيرات } [التوبة: 88] وهي على نوعين: خيرات تتعلق بالعبد وأعماله وهي الحسنات أخرى مع أنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وخيرات تتعلق بمواهب الحق؛ يعني: لمساعي العبودية نالوا خيرات الربوبية.
{ وأولئك هم المفلحون } [التوبة: 88] الذين ظفروا بنفوسهم؛ إذ بذلوها في سبيل الله وتخلصوا عن حجب صفاتها، { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } [التوبة: 89] أي: هم الذين أعد الله لهم في الأزل بساتين المعاني وتجري من تحتها أنهار الحكم، { خالدين فيها } [التوبة: 89] ينتفعون بها إلى الأبد من غير انقطاع أو فترة، { ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 89] أي: ذلك الفلاح والخلاص عن حجب النفس وصفاتها هو الفوز العظيم؛ لأن عظم الفوز على قدر عظم الحجب، ولا حجاب أعظم من حجاب النفس والفوز عنها يكون فوزا عظيما، والله أعلم.
قوله تعالى: { وجآء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم } [التوبة: 90] إلى قوله: { فهم لا يعلمون } [التوبة: 93] يشير إلى أن الخلق ثلاث طبقات:
الأولى المعذرون، وهم المقصرون المعترفون بتقصيرهم وذنوبهم المعذرون عن تقصيرهم التائبون عن ذنوبهم المتداركون بالرحمة والمغفرة.
والثانية: القاعدون، وهم الكاذبون الكذابون الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله من الكافرين والمنافقين المتداركون بالخذلان والعذاب الأليم، كما قال تعالى: { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } [التوبة: 90].
والثالثة: المؤمنون الصادقون الناصحون المخلصون ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والعجزة والفقراء وهم أهل العذر، فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمالات بالظواهر عند العجز مع استعمال البواطن في القلب بقدر الاستعداد كما قال تعالى: { ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } [التوبة: 91] يعني: إذا أحسنوا في طلب الله اتباع رسوله بقدر قدرتهم وتمكينهم، ولذلك قال تعالى: { ما على المحسنين من سبيل } [التوبة: 91] إلى الخذلان.
{ والله غفور } [التوبة: 91] أي: يجبر تقصيرهم عند العذر بالمغفرة، { رحيم } [التوبة: 91] بأن يرحمهم ويعطيهم من فضله ما أعطى أهل الجد والاجتهاد عند القدرة، { ولا على الذين إذا مآ أتوك } [التوبة: 92] أي: بطريق المتابعة بقدر الاستعداد، { لتحملهم } [التوبة: 92] على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات ودرجات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية، { قلت لا أجد مآ أحملكم عليه } [التوبة: 92] عزة وترفعا واستغناء ودلالا كما قال تعالى لموسى عليه السلام عند سؤاله بقوله:
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني
[الأعراف: 143] ليزيد بهذا المنع والتعذر شوق موسى عليه السلام فكان منع النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الحمل من هذا القبيل، فزاد لهم الشوق والحرص على العزة، { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا } [التوبة: 92] على فوات ساعات الغزو صورة ومعنى.
{ ألا يجدوا ما ينفقون } [التوبة: 92] أي: ما يستعملون من الأسباب الموصلة لهم إلى مقامات العلية والمواهب السنية إلا بعد الابتلاء بالمنع والتعذر لتقوى داعية القلب، وتزيد في الصدق فلما غلب الشوق وزاد الطلب أعطي مأمولهم وأجيب سؤلهم في الصورة والمعنى، كما أعطاهم النبي الحمالات في الصورة كما ذكره في رواية أبي موسى الأشعري، وفي المعنى كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمل أرباب الطلب على جناح النبوة بقوله تعالى:
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
[الشعراء: 215].
ثم قال تعالى: { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء } [التوبة: 93] أي: الخذلان لمن يحتال في العقود عن طلب الكمال بطريق الاستعداد والاستئذان من غير حقيقة الأعذار، { وهم أغنيآء } أي: لهم الاستعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال؛ لكسل النفس وجنايتها طلبا لاستراحة وتحصيل اللذات والشهوات الحيوانية، { رضوا } [التوبة: 93] بالخذلان وعدم التوفيق وخسة النفس، { بأن يكونوا مع الخوالف } [التوبة: 93] وهم معدومو الاستعدادات الكاملة المبلغة إلى مقامات الكمال.
{ وطبع الله على قلوبهم } [التوبة: 93] بطابع رضاهم بالمقام الأدون، { فهم لا يعلمون } [التوبة: 93] أنهم مطبعون على قلوبهم؛ لأن من خصائص الطبع الجهل بما لهم وهذا هو الاستدراج الموعود بقوله:
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
[القلم: 44].
[9.94-96]
ثم أخبر عن اعتزاز المنافقين واعتذارهم بقوله تعالى: { يعتذرون إليكم } [التوبة: 94] إلى قوله: { الفاسقين } [التوبة: 96]، { إذا رجعتم إليهم } [التوبة: 94] يشير إلى حال أهل الخذلان القاعدين عن طلب الكمال لو رجعتم إليهم وقلتم: لم تقعدون عن الطلب وتبطلون استعداد الكمال في طلب الشهوات واللذات الدنيوية والفانية؟ يعتذرون إليكم بالأكاذيب والأباطيل، { قل لا تعتذروا } [التوبة: 94] بالأكاذيب، { لن نؤمن لكم } [التوبة: 94] لن نصدقكم في ذلك، { قد نبأنا الله من أخباركم } [التوبة: 94] بالفراسة الصادقة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ".
{ وسيرى الله عملكم ورسوله } [التوبة: 94] فإن الأعمال من نتائج الأحوال، { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } [التوبة: 94] إلى من لا يخفى عليه خافية من الأعمال الظاهرة والأحوال الباطنة، { فينبئكم بما كنتم تعملون } [التوبة: 94] بجزاء أعمالكم إن كانت حسنة فبالحسنات، وإن كانت سيئة فبالسيئات.
قوله تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم } [التوبة: 95] يشير إلى منافقي أهل الطلب الذين يظهرون زي هذه الطائفة، ويعدون أنفسهم من جملتهم، ولا يسلكون مسلكهم ولا يتصفون بصفاتهم، فإذا انقلبتم إليهم أيها النصحاء بالنصيحة لئلا يقنعوا بالتشبه بهذه الطائفة؛ ليحلفون بالله كذبا ونفاقا في إظهار الأعذار، { لتعرضوا عنهم } [التوبة: 95] أي: لتتركوا نصيحتهم ولومهم، { فأعرضوا عنهم } [التوبة: 95] أي: دعوهم ونفاقهم إذا تحققتم أنهم غير قابلي النصيحة والصلاح، { إنهم رجس } [التوبة: 95] جبلوا على طينة خبيثة غير طيبة، { ومأواهم جهنم } [التوبة: 95] أي: مرجعهم إلى نيران البعد والحسرة.
{ جزآء بما كانوا يكسبون } [التوبة: 95] يعني: طينتهم وإن كانت خبيثة في أصل الخلقة ما كانت مستحقة لكمال البعد فيما كسبوا بجناية تلك الطينة الذميمة صاروا مستحقين لكمال العبد لهذه النيران، { يحلفون لكم لترضوا عنهم } [التوبة: 96] أي: يطلبون رضاكم بسخط الله بحلفهم بالله كذبا، { فإن ترضوا عنهم } [التوبة: 96] بأن لم تعلموا كذبهم ونفاقهم، { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } [التوبة: 96] الخارجين عن الطاعة إلا بعد الرجوع إلى الطاعة.
[9.97-100]
ثم أخبر عن نفاق الأعراب ووفاق بعضهم بقوله تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } [التوبة: 97] إلى قوله: { إن الله غفور رحيم } [التوبة: 99] الإشارة فيه إلى أن في عالم الإنسان بدوا وهو نفسه، وحضرا هو قلبه، كما أن في العالم بدوا وحضرا.
وقوله تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } يشير إلى النفس وهواها، فإن الكفر بها ذاتية كما أن الإيمان للقلب ذاتي من فطرة الله التي فطر الناس عليها، فيحتمل أن يصير القلب كافرا بسراية صفاته إليه فيتلون بلون النفس، كما يحتمل أن تصير النفس مؤمنة بسراية صفة القلب إليها فتتلون بلون القلب، ولكن النفس تكون أشد كفرا ونفاقا من القلب وإن كان كافرا، كما أن القلب يكون أشد إيمانا من النفس وإن كانت مؤمنة، { وأجدر } [التوبة: 97] يعني: النفس صفاتها أولى من القلب.
{ ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله } [التوبة: 97] من الواردات النازلة على الروح، { والله عليم حكيم } [التوبة: 97] في أن يجعل بعض النفس الكافرة مؤمنة، وبعض القلب المؤمن كافرا، { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } [التوبة: 98] أي: من النفوس من يعتقد أن ما ينفق من الجد والاجتهاد في طلب الكمال.
{ مغرما } أي: لا حاصل أو سعيه صلاح وهذه خصائص النفس الأمارة بالسوء، فإن أنفق أن تكون مقهورة تحت سطوات الشريعة والطريقة فيصدر منها اختيارا واضطرارا بذل جهد وسعي في طلب الكمال على خلاف طبعها؛ لتتحسر على ذلك وتحتال في إبطائها والخلاص منها طلبا للاستراحة وتتبع شهواتها ولذاتها، { ويتربص بكم الدوائر } [التوبة: 98] أي: ينتظر آفة تفتح للقلب، ويترصد فترة مانعة للقلب على الاشتغال بطلب الكمال، { عليهم دآئرة السوء } [التوبة: 98] أي: على النفوس يدور البلاء من استيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها وطبعها، { والله سميع } [التوبة: 98] سمع في الأزل، وأجاب هذا الدعاء في حقها وألزمها مطاوعة الشرع ومخالفة الهوى، { عليم } [التوبة: 98] بمن يسمع في حقه الدعاء.
{ ومن الأعراب } [التوبة: 99] أي: ومن النفوس، { من يؤمن بالله } [التوبة: 99] أي: من يؤمن بنور الله بعد أن تجلى الله سبحانه على قلبه فتنور وأشرقت أرض النفس بنور ربها، فتؤمن بالله بنوره وترى الدرجات الأخروية بهذا النور فتؤمن بها، { ويتخذ ما ينفق } [التوبة: 99] من الجد والاجتهاد في طلب الكمال، { قربات عند الله } [التوبة: 99] على قضية:
" من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ".
{ وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم } [التوبة: 99] أي: موجب بعمليات الروح، فإن السالك مهما يسلك في مهامه النفس وأودية القلوب كل خطوة يخطوها كما تقربه إلى الله يتقرب الله إليه بأصناف ألطافه بقربة تقربه إلى الروح، ويتقرب الروح إليه بتجليات صفاته وتصرفات أوصافهم، { سيدخلهم الله في رحمته } [التوبة: 99] بجذبات ألطافه يأخذهم منهم ويهديهم برحمته إليه، { إن الله غفور } [التوبة: 99] أي: ستار بصفته ومغفرته للصادق السالك الطالب العاشق، { رحيم } [التوبة: 99] بطالبيه؛ إذ لا يصلون إليه إلا بجذبات رحمته.
ثم أخبر عن السابقين الصادقين العاشقين بقوله تعالى: { والسابقون الأولون } [التوبة: 100] أي: الذين سبقت لهم العناية الأزلية كما قال تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
[الأنبياء: 101] الأولون في سبق العناية لهم أيضا، والسابقون في الخروج من العدم، الأولون عند الخروج، وهم أهل الصف الأول في عالم الأرواح؛ إذ كانت الأرواح صفوفا كالجنود المجندة، وأيضا السابقون في الخروج عن صلب آدم عليه السلام عند أخذ ربهم وعند سماع خطاب ربهم حين قال:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] والسابقون الأولون في جواب:
بلى
[الأعراف: 172].
وأيضا السابقون الأولون في تجلي ربهم بصفة ربوبيته لهم حتى عرفوه بهذه الصفة فأجابوه بقولهم: { بلى } فلهم السبق في استماع الخطاب والرؤية والمعرفة والإقرار والإجابة، وأيضا السابقون في استحقاق المحبة نداء اختصاصهم بتشريف
يحبهم
[المائدة: 54] في الأزل، الأولون بأداء حق المحبة في سر
ويحبونه
[المائدة: 54]، وأيضا السابقون الأولون في تجديد عهد المحبة عند تجلي صفة الربوبية يوم الميثاق، وأيضا السابقون الأولون عند تخمر طينة آدم بيده أربعين صباحا ومماساة الحضرة الربوبية على أقرانهم الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال، وأيضا السابقون في مقامات الوصول عن أقرانهم الأولون من الذين وصلوا تلك المقامات.
واعلم أن هذه السبق مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
" نحن الآخرون السابقون "
أي: الآخرون خروجا في الصورة، السابقون دخولا في المقامات المذكورة كلها، قوله تعالى: { من المهاجرين } [التوبة: 100] أي: الذي هاجروا عن أوطان البشرية إلى أوطان الروحانية، وعن الروحانية إلى كمال الإنسانية، وعن الإنسانية إلى الصفات الربانية، وعن الناسوتية إلى اللاهوتية، { والأنصار } [التوبة: 100] أي: الذين كانوا أنصار الله في طلب الله مع الإخوان في الله.
{ والذين اتبعوهم بإحسان } [التوبة: 100] أي: الذين اتبعوا أهل السبق وبذلوا جهدهم في الوصول إليهم والإلحاق بهم بقدر الإمكان، كما كان حال أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الطلب بالمسابقة معه قبل بعثته حيث قال:
" كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان "
كما قال تعالى:
ألحقنا بهم ذريتهم
[الطور: 21]، وكقول يوسف عليه السلام:
وألحقني بالصالحين
[يوسف: 101] يعني: أنا متابع لهم فألحقني بهم.
{ رضي الله عنهم } [التوبة: 100] عن السابقين في الأزل؛ إذ هم السابقون بنيل الرضوان فرضي عنهم بأن يكونوا من أهل محبته وقربته والوصول إليه فأعطاهم ما به رضي الله عنهم وارتضى لهم بنيل ما أعطاهم وارتضى لهم من الكمالات، ورضي أيضا عنهم بإعطاء حق الطلب بما ارتضاه لهم ببذل الجهود في الصبر على الصراط المستقيم ورضي عن المتابعين لهم ببذل التوفيق والاتباع السابقين إذ اتبعوهم بالإحسان والإمكان وحسب الاستعداد.
{ ورضوا عنه } [التوبة: 100] إذ بلغهم أعلى درجات السابقين بقدر وهو علو الهمة في الطلب وبذل الجد والاجتهاد على قوم المتابعة، والوصول إلى أعلى درجات مقامات السابقين بقدر استعدادهم ونالوا منه مأمولهم وأعطى لهم سؤلهم، { وأعد لهم جنات } [التوبة: 100] في قلوبهم بساتين أشجارها الإيمان واليقين والصدق والإخلاص والتوكل والتسليم والرضا، { تجري تحتها الأنهار } [التوبة: 100] من ماء العناية والمواهب الربانية.
{ خالدين فيهآ أبدا } [التوبة: 100] أي: لا تنقطع عنهم العناية، ويزيد في أثمار تلك الأشجار من المشاهدات والمكاشفات الربانية إلى أبد الآباد، { ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100] وهو الفناء عن الأوصاف الإنسانية، والبقاء بالصفات الربانية.
[9.101-104]
ثم أخبر عن أرباب النفاق من الأعراب بقوله تعالى: { وممن حولكم من الأعراب منفقون } [التوبة: 101] إلى قوله: { هو التواب الرحيم } [التوبة: 104]، { وممن حولكم من الأعراب } يشير إلى صفات النفس، فإنها بمثابة الأعراب بالنسبة إلى مدينة القلب وصفاته، وإنها تدور حول القلب؛ يعني: من أعراب صفات النفس بعضها منافق لاحتمال أن يكون بعضها منافقا، وبعضها كافرا، وبعضها مسلما، فالمنافق منها كالصفة الحيوانية من الشهوات، فإنها تبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس لسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهرا الحقيقة؛ لأنها تتبدل بالكلية بحيث تنزع عنها الشهوة بحيث تكون مغلوبة فيها بالسياسة، وهذا حال المنافق أن يكون ظاهره بخلاف باطنه بالرئاسة.
والكافر منها كالصفة البهيمية في طلب الغذاء من المأكول والمشروب، فإنها لا تتبدل بضدها وكالاستغناء عن الأكل والشرب؛ لحاجة الجسد إلى الغذاء لبدل ما يتحلل من الجسد، والمسلم: كالصفة السبعية والشيطانية من الغضب والكبر والعداوة والكذب والخيانة، فإنها تحتمل أن تتبدل بضدها من الحلم والتواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإسلام وترشح نور الإيمان عن القلب وانشراح الصدر بنور ربها، وهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب، ففيها بعض النفاق كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب والخيانة وخلف الوعد والغدر من النفاق، فقال:
" من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ".
قوله تعالى: { ومن أهل المدينة } [التوبة: 101] يعني: مدينة القلب وأهلها صفاته، { مردوا على النفاق } [التوبة: 101] وذلك باستيلاء صفات النفس على صفات القلب عند تصرف أنوار القلب عند تصرف ظلمات النفس وأوصافها فيها، فيظهر فيها النفاق مذبذبة بين إيمان الصفات الحميدة وكفر الصفات الذميمة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، { لا تعلمهم نحن نعلمهم } [التوبة: 101] يعني: لا يعرف هذه الأحوال أرباب علوم الظاهر، ويعرفها أصحاب الكشوف الباطنة، { سنعذبهم مرتين } [التوبة: 101] مرة بأحكام الشريعة، ومرة بآداب الحقيقة؛ أي: نعذبهم بتكاليف أوامر الشرع ونواهيها ونعذبهم عن الأخلاق الذميمة بدقائق تربية الطريقة عند الانفطام عن مألوفات الطبيعة.
{ ثم يردون } [التوبة: 101] بجذبات اللطف والقهر، { إلى عذاب عظيم } [التوبة: 101] عند فناء أوصافهم بتجلي العزة عن صفات اللطف والجمال، وإلى عذاب عظيم عند بقاء أوصافهم بالستر وإسبال حجبها للجلال طردا وبعدا عن حضرة الجمال.
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } [التوبة: 102] أي: القلب وصفاته اعترفوا بذنوب شوب صفات النفس والتلوث بها، { خلطوا عملا صالحا } [التوبة: 102] وهو صدق التوجه في طلب الحق والإعراض عن الباطل، { وآخر سيئا } [التوبة: 102] وهو مطاوعة النفس وهواها في بعض الأوقات، { عسى الله أن يتوب عليهم } [التوبة: 102] أي: يوفقهم للرجوع إلى الحق بالكلية والإعراض عما سواه، { إن الله غفور } [التوبة: 102] يستر بكرمه صفات القلوب، { رحيم } [التوبة: 102] يمحو بماء رحمته لوث شهوات النفوس.
{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [التوبة: 103] يشير إلى أن حب المال نجاسة تنجس القلوب وتغطيها، فيتطرق إليها الشيطان ويلقي فيها الطغيان، ومن هذا ينفتح عليها أبواب العصيان وتندرج إلى الأسفل بالاستدراج والخذلان، فلا تنحسم مادة هذا الفساد إلا بتطهر القلب بأنوار الهمة العلية النبوية وتنويره بنور صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أمر بقوله تعالى: { وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم } [التوبة: 103] أي: موفية لسكون القلوب إلى العبودية وطمأنينتها بأنس الربوبية؛ إذ بنور الصلاة تزول عن القلوب ظلمات ركونها إلى الدنيا ويظهر سكونها إلى المولى.
{ والله سميع } [التوبة: 103] يسمع اعتراف القلوب بالذنوب وتوبتها، ويجيب دعاء الرسول في تزكيتها وتطهيرها، { عليم } [التوبة: 103] بتجلية القلوب بأنوار الغيوب بعد تزكيتها عن دنس الفضول، { ألم يعلموا } [التوبة: 104] أرباب الذنوب من أصحاب القلوب، { أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [التوبة: 104] أي: علموا؛ لأنهم شاهدوا في قلوبهم آثار قبول التوبة بصدق الأوبة.
{ ويأخذ الصدقات } [التوبة: 104] يشير به إلى خلوص النية في الإعطاء وعلو الهمة وفسحة الرجاء أي: المعطي ينبغي ألا يظن أنه يعطي الصدقة إلى الفقير وبها يمن عليه، فتبطل صدقته بالمن، ويعلم أنه يعطي إلى الله تعالى؛ لأنه الآخذ، فلا يرى الفقير بل يرى الله سبحانه وتعالى، فيرجوا الثواب والجزاء منه لا من غيره، وفي هذه الآية رجاء عظيم أنه تعالى يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات، ولولا هذا الكرم واللطف ما نجا أحد من قهره، { وأن الله هو التواب الرحيم } [التوبة: 104] هو الموفق للتوبة بلطفه وكرمه، ولولا توفيقه ما تاب مذنب قط كما لا يتوب إبليس؛ لعدم التوفيق { الرحيم } بعباده بأن يمحو آثار ظلمة الذنوب عن القلوب بنور رحمته.
[9.105-110]
ثم أخبر عن ظهور الأحوال بصدور الأعمال بقوله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } [التوبة: 105] يشير إلى أن عمل المحسن يخلص إلى السماوات بقدر قوة صدقه وإخلاصه، فالله تعالى يراه بنور ألوهيته، وروح الرسول صلى الله عليه وسلم يراه بنور نبوته، وأرواح المؤمنين بنور إيمانهم، فاستعلاء ذلك النور وصفاؤه وضوؤه يكون على قدر علو همة المحسن وخلوص نيته وصفاء طويته، وإن لعمل المسيء ظلمة تصعد إلى السماوات بقدر قوة عقليته وخباثة نفسه، فإنه تعالى يراها وروح رسوله وأرواح المؤمنين، { وستردون } [التوبة: 105] بأقدام أعمالكم.
{ إلى عالم الغيب والشهادة } [التوبة: 105] أي: إلى الله الذي هو عالم بما غاب عنكم وغبتم عنه، فأما ما غاب عنكم فهو نتائج أعمالكم من الخير والشر وجزاؤها فإنها إن لم تغب عنكم زدتم في الخير وما عملتم شرا، وأما ما غبتم عنه فهو تقدير الأزل والحكمة فيما جرى به القلم من أعمال الخير والشر وعالم بما تشاهدون بالعيون والقلوب في الملك والملكوت، { فينبئكم بما كنتم تعملون } [التوبة: 105] فيجزيكم بمكافآت أعمالكم نتائج الخير والشر الذي قد غاب عنكم حين مباشرة أعمالكم الخير بالخير والشر بالشر فتعلمون ما كنتم تعملون.
ثم أخبر عن الموقوفين لقضائه وقدره لقوله تعالى: { وآخرون مرجون لأمر الله } [التوبة: 106] يشير إلى الحكمة الأزلية التي اقتضت إقدام بعض النفوس على الذنوب وتأخير توبتهم وهم مترددون بين الخوف والرجاء، { إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } [التوبة: 106] ولهم فيما بين ذلك تربية؛ ليطيروا بجناحي الخوف والرجاء إلى أن يصلوا إلى مقام الفيض والبسط إلى أن يبلغوا سرادقات الأنس والهيبة، ثم ليطيروا بجناحي الأنس والهيبة إلى قاب قوسين الستر والتجلي والوحدة، { والله عليم } [التوبة: 106] بتربية عباده، { حكيم } [التوبة: 106] بمن يصلح للقرب والقبول ومن يصلح للبعد.
ثم أخبر عن إرادة أهل النفاق بأعمال أهل الوفاق بقوله تعالى: { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا } [التوبة: 107] إلى قوله: { والله عليم حكيم } [التوبة : 110] يشير به إلى أهل الطبيعة اتخذوا مزبلة النفس مسجدا ضرارا لأرباب الحقيقة وكفروا بأحوالهم، كما أنهم اتخذوا بستان القلب مسجدا يذكرون الله فيه ويطلبونه، وهذا وصف مدعي الطلب الكذابين في دعواهم المتشبهين بزي أرباب الصدق والطلب، { وتفريقا بين المؤمنين } [التوبة: 107] الطالبين الصادقين بإظهار الدعوى من غير المعنى أن يفرقوا بين الأحوال في الله، وفي طلبه بأنواع الحيل تارة بطلب صحته معهم ومرافقتهم في الأسفل، وتارة بذكر البلدان وكثرة النعم فيها وطيب هوائها وكرم أهلها وإرادتهم بهذه الطائفة؛ ليزجوهم عن خدمة المشايخ ومحبة الإخوان.
{ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } [التوبة: 107] ليوفقهم في بلاء صحبة الإباحية من مدعي الفقر والمعرفة وهم يحاربون الله بترك دينه وشريعته وإحياء سنته، { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } [التوبة: 107] فيما دعوناكم إليه، { والله يشهد إنهم لكاذبون } [التوبة: 107] فيما يدعون ويحلفون، { لا تقم فيه أبدا } [التوبة: 108] يخاطب رسول الهداية والعناية لا تقم في مزبلة النفس، وإن اتخذت مسجدا مشابها لمساجد القلوب.
{ لمسجد أسس على التقوى } [التوبة: 108] أي: مسجد القلب أسس على العبودية والطاعة والإقرار بالوحدانية، { من أول يوم } [التوبة: 108] الميثاق عند خطاب
ألست بربكم
[ الأعراف: 172] وجواب:
قالوا بلى
[الأعراف: 172]، { أحق أن تقوم فيه } [التوبة: 108] يا رسول الهداية والعناية؛ لأن { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } [التوبة: 108] وهم الأوصاف الحميدة والأخلاق الكريمة من القلب دأبهم التطهير عن الصفات الذميمة والأخلاق اللئيمة؛ بل عن دنس الوجود ولوث الحدوث، { والله يحب المطهرين } [التوبة: 108] الفانين عن وجودهم الباقين بالله، ولولا محبته إياهم ما وفقهم بالتطهير.
{ أفمن أسس بنيانه } [التوبة: 109] أي: جبل وقت الفطرة بتقدير الأزل، { على تقوى من الله } [التوبة: 109] أي التوحيد والمعرفة، { ورضوان } [التوبة: 109] أي: خلق لطلب رضا الله ونيل الرضا من الله كقوله تعالى:
رضي الله عنهم ورضوا عنه
[التوبة: 100]، { خير أم من أسس بنيانه } [التوبة: 109] أي: جبل حال الفطرة والتقدير، { على شفا جرف هار } [التوبة: 109] أي: على شفا مهلكة فاسقة، { فانهار به } [التوبة: 109] وخسف بهم، { في نار جهنم } [التوبة: 109] البعد عن الله.
{ والله لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة : 109] ما داموا على ظلمهم وهو وضع عبادة الدنيا ومحبتها والحرص في طلبها، وموضع عبادة الله ومحبته والصدق في طلبه، فإذا غيروا ما بأنفهسم من طلب الدنيا وشهواتها يغير الله ما بهم من الكفر والطغيان والخذلان، { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة } [التوبة: 110] عند الفطرة على الشقاوة بنيت شكا ونفاقا وخذلانا، { في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم } [التوبة: 110] ويخرب الله فيها بنيان الشقاوة بنور الهداية من يشاء من عباده، { والله عليم } [التوبة: 110] بمن يشاء به السعادة، { حكيم } [التوبة: 110] بمن أراد به الشقاوة وحكم بها في الأزل.
[9.111-112]
ثم أخبر عن أمارات أهل السعادة وعلامات أهل السعادة بقوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [التوبة: 111] الآيتين: { إن الله اشترى } في التقدير الأزلي، { من المؤمنين } أي: أهل الإيمان والصدق، فإنهم جبلوا على استعداد هذه المبايعة لا من أهل الكفر والنفاق والكذب، فإنهم غير مستعدين لهذه المبايعة لأنفسهم وأموالهم، { بأن لهم الجنة } [التوبة: 111] أي: يبذلون النفس والمال في الجهاد الأصغر مع الكفار.
{ يقاتلون } [التوبة: 111] يجاهدون، { في سبيل الله } [التوبة: 111] أي: في طلب سبيل الله، وهو الجنة؛ أي: يبذلون النفس لأهل الجهاد الأصغر، { فيقتلون } [التوبة: 111] يعني: يطلبون الجنة بصرف المال في مصالح الجهاد وبذل النفس، فأما قتلهم الأعداء فهم الغزاة فلهم الجنة، وأما قتلهم الأعداء فهم الشهداء فلهم الجنة، والجهاد الأكبر مع النفوس المتمردة،
يجاهدون في سبيل الله
[المائدة: 54] أي: في طلب الله وهو لأهل الجهاد الأكبر.
{ ويقتلون } [التوبة: 111] يعني: يقتلون النفس الأمارة بالسوء بسيف الصدق ومخالفة هواها وتبديل أخلاقها وبذل المال في مصالح قتلها والجهاد وبقتلها يصل العبد إلى ربه، { ويقتلون } يعني: بقتل النفس بجذبات الألوهية وتجلي صفات الربوبية، وفيه إشارة أخرى أن الله تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، واشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الله تبارك وتعالى، فهؤلاء يبذلون القلوب والأرواح في طلب الله، كما أن المؤمنين يبذلون الأنس والأموال في طلب الجنة.
{ وعدا عليه حقا } [التوبة: 111] يعني: الوعد لكلا الفريقين حق على الله تعالى إنجازه ، { في التوراة والإنجيل والقرآن } [التوبة: 111] أي: هذا الوعد حقيقته إنجازه ثابت في الكتب كلها، { ومن أوفى بعهده من الله } [التوبة: 111] أي: لا يكون أحد وافيا بالعهد وفاء الله بعده؛ لأنه تعالى قادر على الوفاء وغيره عاجز عنه إلا بتوفيقه إياه.
{ فاستبشروا } [التوبة: 111] يعني: الفريقين، { ببيعكم الذي بايعتم به } [التوبة: 111] في طلب الجنة وطلب الله تعالى، { وذلك هو الفوز العظيم } [التوبة: 111] أي: الفوز عن النفس والقلب والروح بالبذل في طلب الله فوز عظيم؛ لأنه يصل إلى الله العظيم.
ثم ذكر أصناف الواصلين وأوصافهم في مراتب الوصول فقال تعالى: { التائبون } [التوبة: 112] وهو الراجعون إلى الله بكليتهم فزهدوا في الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذات والشهوات والدرجات النفسانية والروحانية فهم يرجعون به منهم إليه على قدم العبودية، كما قال تعالى: { التائبون }.
{ العابدون } [التوبة: 112] يعني: التائبون عن عبادة ما سوى الله وطلبه الراجعون إليه بعبادته وطاعته؛ لقوله تعالى:
" ما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ".
{ الحامدون } [التوبة: 112] يعني: حامدون الله على ما وفقهم لنعمة القالب، { السائحون } [التوبة: 112] أي: السائرون إلى الله بترك شغلهم عنهم.
{ الراكعون } [التوبة: 112] الخاضعون المنكسرون الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم.
{ الساجدون } [التوبة: 112] أي: الساقطون عنهم على عتبة الوحدة بلا هم، { الآمرون بالمعروف } [التوبة: 112] أي: المأمورون بالرجوع إلى الخلق، القائمون بالله في الأمر بالمعروف، { والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله } [التوبة: 112] أي: لئلا يتجاوزوا عن الله وطلبه في طلب غيره، { وبشر المؤمنين } [التوبة: 112] أي: الطالبين بنيل ما طلبوا في الله بالسير في هذه المراتب العلية والمقامات السنية.
[9.113-116]
ثم أخبر عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن استغفارهم للمشركين بقوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [التوبة: 113]، إلى قوله: { من ولي ولا نصير } [التوبة: 116] يشير إلى أن الله تعالى ما أودع ولاية الهداية الإلهية واستجلاء العناية الربانية في الاستعدادات الإنسانية لا للأنبياء ولا للأولياء، { ولو كانوا أولي قربى } [التوبة: 113] والرفعة فيه أن يكون أكثر اهتماما في حق الأقرباء وهم أحب إليه من غيرهم فيجتهد فيهم غاية الاجتهاد في طلب المراد؛ وذلك لأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية، كما صرح به في قوله تعالى:
إنك لا تهدي من أحببت
[القصص: 56] أي: من لا أريد هدايته، وهذا معنى قوله تعالى: { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } [التوبة: 113] أي: المردودون من أهل البعد؛ يعني: ليس للأنبياء والأولياء تبديل خلق الله ولا تبديل لكلمات الله، فمن حكمت المشيئة الأزلية والحكمة الإلهية بشقاوته لا ينفعه استغفار المستغفرين ولا شفاعة الشافعين، كما لم ينفعه إنذار المنذرين وعدوة النبيين، ومن اقتضت الحكمة الإلهية والإرادة الأزلية سعادته فإنه تنفعه الشفاعة والإنذار والهداية، كما قال تعالى:
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
[الشورى: 52] أي: للمقبولين من أهل القربة والكرامة.
ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه فقال تعالى: { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه } [التوبة: 114] يعني: استدل إبراهيم بمواعدة أبيه أن يكون أبوه من المقبولين فينفعه استغفاره فاستغفره ربه، { فلما تبين له أنه عدو لله } [التوبة: 114] أي: المردودين، { تبرأ منه } [التوبة: 114] وتولى إلى الله تعالى.
{ إن إبراهيم لأواه حليم } [التوبة: 114] الأواه المتبرئ من المخلوقات؛ لكثرة نيل المواجيد والكرامات، فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه، فمهما ورد له وارد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق ويفر من الخلق ويفر إلى الحق ملحا من جلدة الإنسانية منفردا للفردانية متوحدا للوحدانية، حليم عما أصابه من الخلق للحق، فلا رجوع من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال، كما قال لجبريل عليه السلام: ابتلاه الله به في الهواء، لما ألقى بالمنجنيق إلى النار عند قوله: " ألك حاجة " كيف أرجع من الحق في تلك الحالة لمقال: أما إليك فلا.
{ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } [التوبة: 115] يعني: إذ هداهم بالتوحيد والتفريد إلى الوحدانية والفردانية لا يردهم بالمكر إلا إلى الإثنينية والبعد، { حتى يبين لهم ما يتقون } [التوبة: 115] من آفات البشرية وعاهات خصائص الدنيوية التي رأس كل خطيئة وبلية، فإذا لم يحترزوا عنها ووقعوا فيها بعيدا بالاستدراج إلى ما خرجوا منها بالوجد من لوث الوجود من حيث لا يعلمون، وهذا يدل على الحور بعد الكور نعوذ بالله منه.
وفيه إشارة أخرى وهي أن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء من الحق لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو، والصحو بعد السكر، وقد سماه المشايخ الإثبات الثاني، حتى يتبين لهم ما يتقون من الأعمال والأفعال والأقوال رعاية لتلك الأحوال.
{ إن الله بكل شيء } [التوبة: 115] من الآفات المفسدة للأحوال وبكل شيء من المرامات لمصلحة الحال، { عليم } [التوبة: 115] يلهم بها القلوب الحاضرة ويسمع بها الآذان الواعية، { إن الله له ملك السموت والأرض } [التوبة: 116] تلك القدرة والإيجاد عليهما وما فيهما، { يحيي } [التوبة: 116] بنور ربوبيته من يشاء، { ويميت } [التوبة: 116] عن صفات بشريته من يشاء، { وما لكم من دون الله من ولي } [التوبة: 116] يعطيكم الولاية، { ولا نصير } [التوبة: 116] ينصركم عن الظفر بنفوسكم للهداية، فلا يشغلكم طلب الملك عن المالك، فإن طالب الملك لا يجدي المالك ولا يبقي الملك معه، طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعا.
[9.117-121]
ثم أخبر عن تأثير عنايته وآثار هدايته بقوله تعالى: { لقد تاب الله على النبي } [التوبة: 117] إلى قوله: { وكونوا مع الصادقين } [التوبة: 119]، { لقد تاب الله على النبي } أي: تاب عليه في الأزل قبل أن يذنب، وإذا وقعت التوبة من الله قبل الذنب فيكون الذنب قبل أن يقع مغفورا، يدل عليه قوله تعالى:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح: 2] فالمغفرة مقدمة على الذنب، وكذلك قوله تعالى:
عفا الله عنك لم أذنت لهم
[التوبة: 43] قدم العفو على الاعتراض، ولعل هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لتكون فائدة الذنب عائدة عليه من غير توب عن دنس الذنب، فإنه لم يكن لصورة الذنب فائدة راجعة إلى معنى الذنب لما أجرى الله صغيرة النبي من أنبيائه، وفي شرح هذا طول لا نشرع فيه.
وفيه معنى آخر وهو أن التوبة فضل من الله تعالى ورحمة مخصوصة به لينعم بذلك على عباده فكل نعمة وفضل يوصله الله إلى عباده تكون عبارة على ولاية النبوة، فمنها يفيض على المهاجرين والأنصار وجميع الأمة، فلهذا قال تعالى: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } [التوبة: 117] يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم
" ما صب الله في صدري شيئا إلا وصبه في صدر أبي بكر رضي الله عنه ".
{ الذين اتبعوه في ساعة العسرة } [التوبة: 117] عسرة ترك الدنيا وشهواتها ولذاتها، وعسرة نهي النفس عن هواها وعسرة الصبر على جهاد النفس ومخالفة هواها، وعسرة انقياد النفس لتكاليف الشرع واستعمالها، { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } [التوبة: 117] تميل إلى الدنيا وشهواتها طبعا، { ثم تاب عليهم } [التوبة: 117] بإفاضته نور العناية والرحمة؛ ليرجعوا من طلب الدنيا وشهواتها إلى طلب الآخرة ودرجاتها.
{ إنه بهم رءوف رحيم } [التوبة: 117] في الأزل والرحمة خلقهم، وفيه إشارة: { لقد تاب الله على النبي } أي: نبي الروح، فإنه بمنزلة النبي يأخذ بإلهام الحق حقائق الدين ويبلغها إلى أمته من القلب والنفس والجوارح والأعضاء، فالمعنى: أفاض الله على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة الروحانية إلى مدينة الجسدانية، والأنصار من القلب والنفس وصافتهما الذين هم ساكنوا مدينة الجسد فيضان الرحمة.
{ الذين اتبعوه في ساعة العسرة } أي: اتبعوا الروح ساعة رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة؛ إذ هم نشأوا من عالم السفل يعسر عليهم السير إلى عالم العلو { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } [التوبة: 117] من النفس وصفاتها وهواها، فإن ميلها طبعا إلى عالم السفل، ثم تاب عليهم بإضافة الفيض الرباني؛ لتغلبهم عن طبعهم { إنه بهم رءوف رحيم } [التوبة: 117]؛ ليجعلهم بالسير بالشريعة قابلا للرجوع إلى عالم الحقيقة.
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا } [التوبة: 118] من النفس والهوى والطبع وما اتبعوا الروح عند رجوعه إلى عالم العلو ابتداء حتى تمكنوا في عالم السفل وحصلوا فيه ما يحتاجون إليه من أسباب العبودية عند رجوعهم إلى عالم الربوبية بجذبة:
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 28]، { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض } [التوبة: 118] أرض السفل عند إصابة الفيض الإلهي شوقا إلى تلك الحضرة، { بما رحبت } [التوبة: 118] بعدما وسعت أرض السفل لهم بالطبع، { وضاقت عليهم أنفسهم } [التوبة: 118] تحنثا إلى تلك السعادات.
{ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } [التوبة: 118] إلا الفرار إليه، { ثم تاب عليهم } [التوبة: 118] جذبهم عن العالم السفلي بجذبة العناية، { ليتوبوا } [التوبة: 118] أي: يرجعوا إلى الله ولو لم تتداركهم جذبة العناية ما تابوا وما رجعوا عن طبعهم وما رغبوا في طلب الله، { إن الله هو التواب الرحيم } [التوبة: 118] أي: هو الذي يجذبهم بجذب الرحمة عنهم وعن طبعهم وعماهم فيه من الميل إلى السفليات، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبدا.
ثم عمم الدعوة وقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا } [التوبة: 119] قولا وتصديقا، { اتقوا الله } [التوبة: 119] بالأعمال الصالحات واتقوا بالله عن غير الله، { وكونوا مع الصادقين } [التوبة: 119] لتبلغوا بتربيتهم وقوة ولايتهم إلى مراتب الصديقين وإلى مقام الاتقاء بالله عما سواه، وأيضا كونوا مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق، لما أجابوا الله عند خطاب
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172] وصدقوا الله على ما عاهدوا عليه ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا من مقاصد الدنيا والآخرة.
ثم أخبر عن وجود ترك التكلف في التخلف بقوله تعالى: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } [التوبة: 120] الآيتين: { ما كان لأهل المدينة } مدينة القالب وأهلها النفس والهوى والقلب، { ومن حولهم من الأعراب } أعراب الصفات النفسانية والقلبية، { أن يتخلفوا عن رسول الله } رسول الروح؛ إذ هو راجع إلى الله وسائر إليه، { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } [التوبة: 120] عن بذل وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله، { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } [التوبة: 120] من ماء الشهوات، { ولا نصب } [التوبة: 120] من أنواع المجاهدات، { ولا مخمصة } [التوبة: 120] بترك اللذات وطعام الدنيا، { في سبيل الله } [التوبة: 120] في طلب الله، { ولا يطأون موطئا } [التوبة: 120] مقاما من مقامات الفناء، { يغيظ الكفار } [التوبة: 120] النفس والهوى، { ولا ينالون من عدو } [التوبة: 120] الشيطان والدنيا والنفس .
{ نيلا } [التوبة: 120] أي: نيلا ومحنة وفقرا وفاقة وجهرا وحزنا، وغير ذلك من أسباب الفناء، { إلا كتب لهم به عمل صالح } [التوبة: 120] من البقاء بالله بعد الفناء في الله، { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } [التوبة: 120] الفانين في الله فيبقيهم بالله ليعبدوه به على المشاهدة؛ لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
{ ولا ينفقون نفقة } [التوبة: 121] من بذل الوجود، { صغيرة ولا كبيرة } [التوبة: 121] الصغيرة بذل وجود الصفات، والكبيرة بذل وجود الذات في صفات الله تعالى وذاته تعالى القدس، { ولا يقطعون واديا } [التوبة: 121] من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح، { إلا كتب لهم } [التوبة: 121] كل واد من هذه الأودية وقربة ومنزلة ودرجة، كما قال تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ".
{ ليجزيهم الله } [التوبة: 121] البقاء به والفناء عن نفسه، { أحسن ما كانوا يعملون } [التوبة: 121] أي: بأحسن مقام كانوا يعملون العبودية في طلبه؛ لأن طلبهم على قدر معرفتهم وسطح نظرهم وجزاء ما يطيق عنه نطاق عقولهم مفهومهم، كما قال تعالى:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ".
[9.122-127]
ثم أخبر عن نفي النفر بقوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كآفة } [التوبة: 122] والإشارة فيه أن الله تعالى يندب خواص عباده بقوله تعالى: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة } [التوبة: 122] إلى رحلة الصورة والمعنى، ففي طلب أهل الكمال الكاملين المكملين الواصلين الموصلين، كما ندب موسى إلى الرحلة في طلب الخضر - عليهما السلام - { ليتفقهوا في الدين } [التوبة: 122] ليتفقهوا في السير إلى الله تعالى، والسير بالله، والسير في الله، وأما رحلة المعنى فلما كان حال إبراهيم عليه السلام قال:
إني ذاهب إلى ربي
[الصافات: 99]، فهو السير من القالب وصفاته إلى القلب وصفاته، ومن القلب وصفاته إلى الروح إلى التخلق بأخلاق الله بقدم فناء أوصافه، وهو السير إلى الله، ومن أخلاق الله إلى ذات الله بقدم فناء ذاته بتجلي صفات الله وهو السير بالله، ومن أنانيته إلى هويته ومن هويته في ألوهيته إلى أبد الآباد وهو السير في الله بالله من الله، وتقدس فقال: { فلولا نفر من كل فرقة } أي: فهلا نفر من كل قوم وقبيلة وبلدة وقرية، { منهم طآئفة } من خواصهم ومستعديهم للطلب، { ليتفقهوا في الدين } أي: ليتعلموا السير إلى الله من السائرين الواصلين إليه.
{ ولينذروا قومهم } [التوبة: 122] أي: ليعلموا القوم المستعدين لطلب الله المحبين المحبوبين الذين خصهم الله بالمحبة من بين خليقته، بقوله تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] إنكم القوم الموعودون من الله بالإتيان من المحبين والمحبوبين، { إذا رجعوا إليهم } [التوبة: 122] أي: بعد الوصول مأمورين بالرجوع إلى الخلق بالدعوة والتربية، { لعلهم يحذرون } [التوبة: 122] من غير الله ويرغبون إليه، وأيضا يحذرون الحرمان عن الوصول إلى الله تعالى.
ثم أخبر عن القتال في طلب الكمال بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } [التوبة: 123] إلى قوله: { لا يفقهون } [التوبة: 127]، { يأيها الذين آمنوا } أي: صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما دلكم إلى الله بإذنه، { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } أي: جاهدوا كفار النفس وصفاتها بمخالفة هواها وتبديل صفاتها وحملها على طاعة الله والمجاهدة في سبيله، فإنها تحجبك عن الله، { وليجدوا فيكم غلظة } [التوبة: 123] هي عزيمة صادقة في فنائها بترك شهواتها ولذاتها ومستحسناتها ومنازعاتها في هواها وحملها على المتابعة في طلب الحق، { واعلموا أن الله مع المتقين } [التوبة: 123] بجذبة الوصول لتبقوا به عما سواه.
{ وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } [التوبة: 124] يشير إلى أن من علامات النفاق ما لا يظهر في القلب الاستهزاء، فإنهم يقولون على طريق الاستهزاء بالقرآن وبمن آمن به، ثم أجابهم الله تعالى: { فأما الذين آمنوا } [التوبة: 124] أي: بما أنزل من القرآن، { فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } [التوبة: 124] يشير إلى أن في كل سورة وآية وكلمة وحرف من القرآن نور، فالمؤمن إذا صدق النبي فيما جاء به من القرآن ينتقل النور من القرآن المنزل بطريق تصديقه إلى قلب المؤمن، فيضم إلى نور الإيمان فيزداد الإيمان المتمكن في القلب، وهذا يدل على أن الإيمان بكل حرف وآية من القرآن يزيد في إيمان المؤمن بقدر ازدياد الإيمان يزداد نوره في القلب.
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } [التوبة: 125] مرض القلب ظلمة شكه ونفاقه وكفره وهو ضد سلامته وسلامة القلب خلوة من الظلمة لحصول النور فيه، { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } [التوبة: 125] أي ظلمة إلى ظلمتهم؛ لأنه إن كان في الإيمان بكل حرف وآية من القرآن نور، فكذلك في الإنكار والكفر بكل حرف وآية من القرآن ظلمة، فيضم إلى ظلمة الكفر والإنكار المتمكن به في القلب المريض فيزيد في مزيد رجس كفرهم ونفاقهم، { وماتوا وهم كافرون } [التوبة: 125] يشير إلى أن موت القلب مودع في الكفر والنفاق.
ثم أخبر عن موت القلب بقوله تعالى: { أولا يرون } [التوبة: 126] كل، { أنهم يفتنون } [التوبة: 126] بالبلاء والمصائب، { في كل عام مرة أو مرتين } [التوبة: 126] وهذه الفتنة موجبة لانتباه القلب الحي نظيره قوله تعالى:
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر
[السجدة: 21].
وقوله تعالى:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب
[ق: 37] أي: قلب حي، { ثم لا يتوبون } [التوبة: 126] إلى الله، { ولا هم يذكرون } [التوبة: 126] ويتعظون من قلوبهم ميتة والقلب الميت لا يرجع إلى الله ولا يؤثر فيه نصح الناصحين كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، وقال تعالى:
لينذر من كان حيا
[يس: 70] أي: من كان قلبه حيا.
ثم أخبر عن أمارات القلوب الميتة فقال تعالى: { وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } [التوبة: 127] بالإنكار عليها والإنكار من أمارات موت القلب، كما أن التصديق والإقرار من أمارات حياة القلب، { هل يراكم من أحد } [التوبة: 127] أي يقول رآكم أحد في مقام الإنكار والنفاق يريدون به النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعني: نحن ننكر القرآن ومحمد بالرسالة فهل يرى محمد إنكارنا على رسالته وعلى القرآن؟ فإنه إن كان رسولا يرانا بنور رسالته ويخبره الله عن حالنا، { ثم انصرفوا } [التوبة: 127] على هذه الحسبان والغرور؛ لأنه { صرف الله قلوبهم } [التوبة: 127] بإنكارهم وحسبانهم عن الإيمان ورؤية الحق بأنهم؛ أي: ذلك الصرف، { بأنهم قوم لا يفقهون } [التوبة: 127] أي: ليس له فقه القلب من أمارات حياته وهو رؤية الحق وحياة القلب بالنور كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمت
[الأنعام: 122]، فافهم جدا.
[9.128-129]
ثم أخبر عن نعمة بعثة النبي وإعراضهم عن القبول بقوله تعالى: { لقد جآءكم } [التوبة: 128] أي: من الله، { رسول من أنفسكم } [التوبة: 128] في البشرية، وهذا تسكين العوام لئلا ينفروا عنه ويمتنعون عن متابعته ويقولوا: لا طاقة لنا بمتابعته؛ لأنه ليس من جنسنا في البشرية، نظيره قوله تعالى:
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف: 110] وفيه إشارة الخواص؛ إذ يقولون: إن أحدا من جنس البشرية أوصل إلى هذه المراتب العلية والمقامات السنية بالاستقلال، فيحتمل أن يصل في متابعته إليها كما قال تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31] ومقام المحبوبية من أشرف المقامات وأعلاها، فلما تحصل بالمتابعة فأدناها أولى بالحصول، وأما بقراءة من قرأ أنفسكم - بفتح الفاء - فيشير به إلى نفاسة جوهرة في أصل الخلقة؛ لأنه أول جوهرا يدعه الله تعالى كما قال:
" أول ما خلق الله روحي ".
وأيضا يشير به إلى نفاسة جوهره في الخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين وعروجه إلى مقام أو أدنى وعلو همته؛
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 16-17] واختصاصه برؤية القدر؛ أي: من آيات ربه الكبرى وتحليته بحليته،
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، { عزيز عليه ما عنتم } [التوبة: 128] أي: يشق عليه انقطاعكم عن الله تعالى: { حريص عليكم } [التوبة: 128] في إيصالكم إلى الله تعالى وإنزالكم
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، { بالمؤمنين رءوف رحيم } [التوبة: 128] لتربيتهم في الدين المتين بالرفق، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق وبالرحمة يعفو عنهم سيئاتهم "
، كما أمره الله تعالى
فاعف عنهم واصفح
[المائدة: 13].
وفي قوله: { بالمؤمنين رءوف رحيم } [التوبة: 128] في حق نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى لنفسه عز وجل:
إن الله بالناس لرءوف رحيم
[الحج: 65]، وفيه لطيفة شريفة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان مخلوقا كانت رأفته ورحمته مخلوقة فصارت مخصوصة بالمؤمنين لضعف الخلقة، وأن الله تعالى لما كان خالقا كانت رأفته ورحمته قديمة، فكانت عامة للناس لقوة الخالقية من الناس كان قابلا للرأفة والرحمة النبوية؛ لأنها كانت من نتائج الرأفة والرحمة الخالقية، كما قال تعالى:
فبما رحمة من الله لنت لهم
[آل عمران: 159].
{ فإن تولوا } [التوبة: 129] أي: اعرضوا عن قبول نصحك ورأفتك ورحمتك ولم يسعوك في طلب الحق، { فقل حسبي الله } [التوبة: 129].
يشير إلى أن تبليغ الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم كان موجبا لقربته إلى الله تعالى وقبوله، فلما بلغ رسالته فقد تم مقصوده من الله تعالى وقربته إن قبلوا منه أو اعرضوا عنه { لا إله إلا هو } [التوبة: 129] أي: لا مقصود ولا مطلوب في جميع الأحوال، { عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } [التوبة: 129] أي: هو العظيم الذي يحتاج العرش مع عظمته إلى ربوبيته مع اختصاص العرش باستواء صفة رحمانيته عليه - والله أعلم - إن قبلوا منه أو أعرضوا عنه، { لا إله إلا هو } [التوبة: 129] أي: المقصود ولا مطلوب ولا محبوب ولا معبود لي فيما عملت إلا الله، { عليه توكلت } [التوبة: 129] أي: هو كان مقصودي ومطلوبي في جميع الأحوال، { وهو رب العرش العظيم } [التوبة: 129] أي: هو العظيم الذي يحتاج العرش مع عظمته إلى ربوبيته مع اختصاص العرش باستواء صفة رحمانيته عليه.
[10 - سورة يونس]
[10.1-5]
{ الر تلك آيات الكتاب الحكيم } [يونس: 1] إلى قوله: { إن هذا لساحر مبين } [يونس: 2] اعلم أن في قوله: { الر } إشارتين: إشارة من الحق للحق وإلى عبده المصطفى وحبيبه المجتبى، وإشارة من الحق لنبيه وإليه صلى الله عليه وسلم، فالأولى قسم منه تعالى يقول: بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم، وبلطفي معك في الوجود ورحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد، والثانية قسم منه يقول: بأنسك معي حين خلقت روحك أول شيء خلقته، فلم يكن معنا ثالث، وبلبيك الذي أجبتني به في العدم حين دعوتك للخروج منه فخاطبتك، وقلت يا سين أي يا سيد قلت لبيك وسعديك إشارتين: إشارة من الحق للحق إلى عبده المصطفى وحبيبه المجتبى، وإشارة مني: والخير كله في يديك وبرجوعك منك إلي حين قلت لنفسك:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28].
{ تلك آيات الكتاب الحكيم } [يونس: 1] إن هذه الآيات المنزلة عليك تلك آيات الكتاب الحكيم الذي وعدتك في الأزل وأورثته لك ولأمتك، وقلت ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عندنا فاختص هذا الكتاب بأن يكون حكيما من سائر الكتب؛ أي: حاكما يحكم على الكتب كلها بتبديل الشرائع والنسخ ولا يحكم عليه كتاب أبدا، واختص هذه الأمة بالاصطفاء من بين سائر الأمم وأورثهم هذا الكتاب، ومعنى الوراثة: أن يكون في الباقي هذه الأمة يرثه بعضهم من بعض إلى قيام الساعة، ولا ينسخه كتاب كما نسخ هو جميع الكتب فسماه حكيما أيضا؛ لأنه أودع الله الحكم فيها كلها كقوله تعالى:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين
[الأنعام: 59] أي: ولا رطب من الحكم القديمة، ولا يابس من الأحكام المحدثة إلا في القرآن وهو بيان لمن أراد الله براياتها.
{ أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم } [يونس: 2] يشير إلى أنهم يتعجبون من إيحائنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان رجلا منهم، وفيه رأينا رجوليته قبل الوحي وتبليغ الرسالة من بينهم، ولهذا السر ما أوحي إلى امرأة بالنبوة قط، وفيه إشارة { أكان للناس } أي: للناس أيام الله قبل أيام الدنيا عجبا، { أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس } [يونس: 2] أي: الناسي الذي نسى عهدي الذي عهدته إليه، { وبشر الذين آمنوا } [يونس: 2] أي: كانوا مقربين ذاكرين بذلك العهد ولم ينقضوا عهدي وما نسوا، { أن لهم قدم صدق عند ربهم } [يونس: 2] بأن خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم وهو سيد في عالم الأرواح بقوله تعالى:
يأيها النبي إنآ أرسلنك
[الأحزاب: 45] أي: من كتم العدم إلى الوجود شاهد؛ أي: كنت أول من خرج من العدم إلى الوجود شاهد كلي يخرج من العدم إلى الوجود، فتعرف المقبولين من المردودين ومبشرا للمقبولين بأن له قدم صدق من العناية الأزلية عند ربهم في الأزل ونذيرا للمردودين، وإن كان
وسوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
[يس: 10] وداعيا إلى الله بإذنه.
وهذه الدعوى إلى الله تعالى مخصوص بها إليه صلى الله عليه وسلم وأمته، وهذه من حملة القدم الصادقة لهذه الأمة عند ربهم
وسراجا منيرا
[الأحزاب: 46] أي: ليهتدوا بك إلى الله؛ المعنى: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مخاطبا بالنبوة في عالم الأرواح؛ ولهذا قال:
" كنت نبيا وآدم بين الماء والطين "
، والتبشير والإنذار والدعوة والأرواح كانت مستمعة بخطاب الحق، كما سمعوا خطاب:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، والآن في عالم الصورة من كامن المؤمنين المقبولين لا يتعجب من تجديد ذلك الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن روحه من الذاكرين المقربين لا من الناسين المنكرين؛ ولكن من كان من الكافرين المردودين، فقد نسى روحه ذلك العهد فلا بد له من التعجب والإنكار.
{ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين } [يونس: 2] المسحورون فقد سحرهم سحرة صفات فرعون النفس، فجعلوهم
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171].
ثم أمر عن الانتفاع بربوبيته مودعا في عبوديته بقوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموت والأرض } [يونس: 3] الآيتين: { إن ربكم الله الذي } أي: مربيكم ومدر أموركم الذي { خلق السموت والأرض } في عالم الصورة وهو العالم الأكبر، { في ستة أيام } من الأنواع الست وهي: الأفلاك والكواكب والعناصر والحيوان والنبات والجماد.
{ ثم استوى على العرش } [يونس: 3] والعرش جسماني روحاني ذو جهتين: جهة منه تلي العالم الروحاني، وجهة منه تلي العالم الجسماني { يدبر الأمر } [يونس: 3] لفيضان فيض الرحمانية على العرش، فإنه أول قابض لفيض الرحمانية، وهذا أحد تفاسير
الرحمن على العرش استوى
[طه: 5]، ثم من العرش ينقسم الفيض، فإنه مقسم الفيض فيجري في مجاري جعلها الله من العرش إلى ما دونه من المكونات، وأنواع المخلوقات فبذلك الفيض تدور الأفلاك كما تدور الرحى بالماء، به تؤثر الكواكب، وبه تولد العناصر وتظهر خواصه، وبه يتولد الحيوان ذا حس وحركة، وبه ينبت النبات ذا حركة بلا حس، وبه تغير المعادن بلا حس ولا حركة، وفيه إشارة أخرى.
{ إن ربكم الله الذي } يربيكم هو الذي { خلق السموت } سماوات أرواحكم { والأرض } أرض نفوسكم في عالم المعنى، وهو العالم الأصغر { في ستة أيام } أي: من ستة أنواع وهي الروح والقلب والعقل والنفس التي هي الروح الحيوانية والنفس النباتية التي هي النامية وخواص المعادن، وهي في الإنسان قوة قابلة لتغير الأحوال والأوصاف والألوان.
{ ثم استوى على العرش } على عرش القلب { يدبر الأمر } أمر السعادة والشقاوة ويهيئ أسبابهما من الأخلاق والأحوال والأعمال والأفعال والأقوال والحركات والسكنات، وإلى هذا يشير قوله:
" قلوب العباد بيدي الله يقلبها كيف يشاء ".
{ ما من شفيع إلا من بعد إذنه } [يونس: 3] يشير إلى أن الله تعالى خلق العالمين الأكبر والأصغر على قوانين حكمته البالغة، وهو الذي يعلم صلاح العالمين وفسادهما يدبر فيهما كما قدر في الأزل، فلا مساغ لأحد أن يرى فيهما مصلحة دون ما رآه الله، فيشفع الله تعالى في تبديل شيء مما قدر ودبر، فإنه
لا تبديل لخلق الله
[الروم: 30] وبالأخذ شمول نظر أن يرى ما يرى الله تعالى في مصلحة تدبير العالمين ولا مصلحة نفسه، كما قال الله تعالى:
مآ أشهدتهم خلق السموت والأرض ولا خلق أنفسهم
[الكهف: 51] إلا من بعد أن يأذن الله تعالى، يأذن له في الشفاعة فيما اقتضت الحكمة الأزلية تبديله بواسطة شفاعته، { ذلكم الله ربكم } [يونس: 3] أي: هو ربكم الذي قال لكم:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] يوم الميثاق، قلتم: { بلى } وعهد إليكم
أن لا تعبدوا الشيطان
[يس: 60] { فاعبدوه } [يونس: 3] أي: فاعبدوه ووحدوه ولا تعبدوا غيره كما عهد إليكم، { أفلا تذكرون } [يونس: 3] أي: أفلا تذكرون ذلك العهد والميثاق الذي جرى بيننا، { إليه مرجعكم جميعا } [يونس: 4] أي: جرى الميثاق على أن يكون رجوع القبول والمردود إلى حضرته:
فأما المقبول: فرجوعه إليه بجذبات العناية التي صورتها خطاب:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28].
وحقيقتها: انجذاب القلب إلى الله نقاء.
ونتيجتها: غروب النفس عن الدنيا، واستواء الذهب والدر عندها، وانزعاج القلب عما سوى الله تعالى، واستغراق الروح في بحر الشوق والمحبة، والتبرؤ عما سوى الله، وهيمان السر وحيرته في شهود الحق ورجوعه عن الخلق.
وأما المردود: فرجوعه بغير اختياره مغلولا بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار على وجوههم وهي صورة صفة قهر الله، ومن نتائج قهر الله تعلقاته بالدنيا وما فيها، واستيلاء صفات النفس عليه من الحرص والبخل والأمل والكبر والغضب والشهوة والحسد والحقد والعداوة والشره، فإن كل واحدة منهما حلقة تلك السلاسل وغل من الأغلال يسحبون إلى النار.
{ وعد الله حقا } [يونس: 4] أي: وعده بالرجوع إليه لجميع الخلائق حق وصدق، { إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده } [يونس: 4] يشير إلى أن الله تعالى إنما خلق الخلق ابتداء، وأجرى عليه الأعمال والأحوال في الدنيا من الخير؛ ليعيدهم في الآخرة بعد إفنائهم، فإن الدنيا مرزعة الآخرة وليحصدوا فيها ما زرعوه في الدنيا، فمن زرع الخير يحصد السلامة، ومن زرع الشر يحصد الندامة.
كما قال الله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
[الزلزلة: 7] وهذا معنى قوله تعالى: { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } [يونس: 4] أي: بالميزان والعدل والحساب فجر الإيمان بقسط الإيمان؛ أي: بوزنه وحسب كماله ونقصانه، وجزاء العمل ببسط صدق العبد وإخلاصه وقلة العمل وكثرته، { والذين كفروا } [يونس: 4] أي: أعرضوا عن الحق وطلبه والإيمان ومتابعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم { لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } [يونس: 4] أي: بجزاء ما كانوا يكفرون، وأيضا بقدر ما كانوا يكفرون بنعم الله، ويصرفون في مخالفته وموافقة النفس والهوى.
ثم أخبر عن قدرته الكاملة ونعمه الشاملة بقوله تعالى: { هو الذي جعل الشمس ضيآء } [يونس: 5] إلى قوله:
رب العالمين
[يونس: 10].
إشارة فيها أن الله تعالى { هو الذي جعل الشمس ضيآء } أي: جعل الروح ضياء يستنير به قمر القلب، كما قال الله تعالى: { والقمر نورا } [يونس: 5] فاعلم أن الله تعالى خلق الروح نورانيا له ضياء كالشمس، وخلق القلب صافيا كالقمر قابلا للنور والظلمة، وخلق النفس ظلمانية كالأرض، فيها وقع قمر القلب في مواجهة شمس الروح يتنور بضيائها، ومهما وقع في مقابلة أرض النفس ينعكس فيها ظلمتها، وسمي القلب قلبا لمعنيين: أحدهما: إنه خلق بين الروح والنفس فهو قلبهما. والثاني: كقلب أحواله تارة يكون نورانيا؛ لقبول فيض الروح، وتارة يكون ظلمانيا؛ لقبول ظلمة النفس، وفيه إشارة أخرى وهي: أن الشمس على صفات الربوبية ضياء يتنور به قمر القلب فيكون على نور من ربه.
{ وقدره منازل } [يونس: 5] أي: لذلك النور في القلب مراتب إن كان من ضياء شمس الروح فله مراتب الأخلاق الرحمانية، وإن كان من ضياء شمس تجلي صفات الربوبية فله منازل العبودية من الزهد والتوكل واليقين والصدق والإخلاص، { لتعلموا عدد السنين والحساب } [يونس: 5] أي: عدد سنين المقامات وحسنات الكشوف والمشاهدات، فإن مراتب أنواع المقامات بحسب الكشوف والمشاهدات للإسلام نور ينشرح به صدر المسلم، وللإيمان نور يتنور به قلب المؤمن، وللإحسان نور يتنور به سر المحسن للكشوف وهو الولي، وللنبوة نور يتجلى به روح النبي صلى الله عليه وسلم، وللرسالة نور يتجوهر به ذات الرسول، وهذه الأنوار كلها من صفات الله تعالى فكل يشاهد بحسب نوره من هذه الأنواع، ويكاشف له الحقائق والأسرار.
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40]،
يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35]، { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } [يونس: 5] أي: ما خلق هذه المراتب والدرجات والمقامات في الظاهر والباطن إلا لتبين الحق وإظهار الحقيقة، كما قال الله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53].
{ يفصل الآيات } [يونس: 5] أي: يبينها، { لقوم يعلمون } [يونس: 5] يفهمون إشاراتنا.
[10.6-10]
{ إن في اختلاف اليل والنهار } [يونس: 6] ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية، { وما خلق الله في السموت والأرض } [يونس: 6] سماوات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف الأخلاق، وتبدل بعضها ببعض واستيلاء بعضها على بعض، { لآيات } [يونس: 6] دالة على المعرفة بالتوحيد، { لقوم يتقون } [يونس: 6] يحذرون عن الأخلاق الذميمة وتبدلها بالأخلاق الحميدة على قانون معالجة الشريعة والطريقة بالأمر لا بالطبع، { إن الذين لا يرجون لقآءنا } [يونس: 7] أي: لا يعتقدون السير إلينا والوصول بنا لدناءة همتهم وخسة نفسهم وقعود نظرهم ما طلبونا { ورضوا بالحيوة الدنيا } [يونس: 7] التمتعات الدنيوية والنفسانية الحيوانية.
{ واطمأنوا بها } [يونس: 7] ركنوا إلى مالها وجاهها وشهواتها، { والذين هم عن آياتنا غافلون } [يونس: 7] وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها وكانوا أصحاب الرياضات والمجاهدات من أهل الأديان والملل والبراهمة والفلاسفة والإباحية، ولكن كانوا معرضين عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا من أهل الأهواء والبدع.
{ أولئك مأواهم النار } [يونس: 8] نار البعد والطرد والحسرة، { بما كانوا يكسبون } [يونس: 8] بأعمالهم الردية وأخلاقهم الدنية، { إن الذين آمنوا } [يونس: 9] أي: اعتقدوا طلبنا والوصول إلينا، { وعملوا الصالحات } [يونس: 9] أي: العمل الذي يصلح أن يسلكوا به سبيلنا، { يهديهم ربهم بإيمانهم } [يونس: 9] أي: بصدق اعتقادهم في الطلب، ووفور إخلاصهم في السير يهديهم ربهم إلى حضرة ربوبيته على طريق جنات القلب، { تجري من تحتهم الأنهار } [يونس: 9] أنهار الحكمة ومياه المعرفة.
{ في جنات النعيم } [يونس: 9] نعيم ملاطفات الحق ومشاهداته، { دعواهم فيها سبحانك اللهم } [يونس: 10] أي: دعاؤهم تنزيه تلك الحضرة عن دنس إدراكات العقول إياها ولوث وصول أهل الطبيعة إليها لما عاينوها وشاهدوها.
{ وتحيتهم فيها سلام } [يونس: 10] أي: تحيتهم في الله سلامة بقائهم ببقائه، { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [يونس: 10] يشير إلى نيل مقاصدهم وكمال مراتبهم وإتمام النعمة عليهم، فالحمد والشكر والثناء على النعم يكون ورد وقتهم، ولسان حالهم.
[10.11-14]
ثم أخبر عن كرمه بالبر مع أهل الشريعة بقوله: { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } [يونس: 11] إلى قوله: { كيف تعملون } [يونس: 14].
اعلم أن في قوله: { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } إشارة إلى أن الشر من نتائج أخلاق الناس وأوصافهم الذميمة النفسانية ليس له مدد من الله ليظهر أثره فيهم عاجلا، بل يكلهم الله إلى أنفسهم والصفات المجبولة عليها، والخير كله من نتائج نظر العناية الربانية يستمده من بحر الفضل والكرم، فيظهر أثره فيهم آجلا وهو سر قوله تعالى:
" سبقت رحمتي على غضبي "
، ولو كان السبق للغضب والقهر؛ لقضى إليهم أجلهم بهلاك الصورة، والمعنى يدل على هذا التأويل قوله تعالى: { فنذر الذين لا يرجون لقآءنا } [يونس: 11] أي: الذين لا يشتاقون إلى لقائنا فيسلكون طريق وصولنا على أقدام الخيرات، { في طغيانهم يعمهون } [يونس: 11] المعنى: فنذرهم بالخذلان إلى طغيان نفوسهم الأمارة بالسوء، متحيزين في دينه ضلالة النفوس؛ ليزدادوا شرا مع شرهم، فيظهر أثره فيهم بالتدريج آجلا.
وفي قوله تعالى: { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما } [يوسن: 12] أشار إلى خاصية نفس الإنسان أنها لا ترجع إلى الله طبعا إلا في مقام الحاجة الضرورية بالاضطرار في أية حالة يكون من حالاتها، { فلما كشفنا عنه ضره } [يونس: 12] أي: إذا استجبنا دعاءها وقضينا حاجتها، { مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه } [يونس: 12] عاد المشئوم إلى طبعه، فرجعت قهقري إلى خاصية أنانيتها وهي نسيان حضرتنا وكفران نعمتنا، إن الإنسان لظلوم كفار، { كذلك زين للمسرفين } [يونس: 12] أي: للمقصرين في محبتنا وطلبنا والمجاوزين عن حد محبة غيرنا وطلب ما سوانا، { ما كانوا يعملون } [يونس: 12] من الإسراف في تركنا وطلب غيرنا.
{ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } [يونس: 13] أي: أوضعوا محبتنا وطلب لقائنا في غير موضعها من الدنيا والآخرة وما فيهما، { وجآءتهم رسلهم بالبينات } [يونس: 13] بالحجج القاطعة قالا وحالا؛ ليدلوهم بها إلى محبتنا وطلبنا، { وما كانوا ليؤمنوا } [يونس: 13] بتلك الحجج؛ ليهتدوا إلينا بنور الإيمان إذ وكلناهم إلى أنفسهم بالخذلان، { كذلك نجزي القوم المجرمين } [يونس: 13] فكلهم إلى أنفسهم بشؤم جرائمهم فهلكهم كما هلكنا القرون الماضية في متابعة أهوائهم واستغراقهم في طلب شهواتهم، { ثم جعلناكم } [يونس: 14] يا أمة محمد { خلائف في الأرض من بعدهم } [يونس: 14] أي: من إهلاكهم به يشير إلى أن لهذه الأمة اختصاصا باستحقاق الخلافة الحقيقية التي أودعها في آدم عليه السلام بقوله تعالى:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30] ولهذا السر ما كان في أمة من الأمم من الخلفاء ما كان في هذه الأمة بالصورة والمعنى، { لننظر كيف تعملون } [يونس: 14] في خلافتنا، ثم اعلم أن المخالفة صورة ومعنى كما أن صورة الخلافة مبنية على الحكم بين الرغبة بالعدل والسوية وقانون الشرع والاجتناب من متابعة الهوى والطبع ، كذلك معنى الخلافة مبينة على الحكم بين الرغبة المعنوية وهي: الجوارح والأعضاء والقلب والروح والسر والنفس وصفاتها وأخلاقها والحواس الخمسة والقوى النفسانية والخلق كما كان سيرة الأنبياء - عليهم السلام - وخواص الأولياء في طلب الحق ومجانبة الباطل، وترك ما سوى الله للوصول إلى الله، وسيأتي شرحها في موضعه إن شاء الله.
[10.15-19]
ثم أخبر عن حال من خالف الخلافة وحال وافقها بقوله: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } [يونس: 15] إلى قوله: { سبحانه وتعالى عما يشركون } [يونس: 18]، { وإذا تتلى عليهم } أي: على ذوي النفس المتمردة، { آياتنا بينات } أي: القرآن المبين بحقائق الأشياء.
{ قال الذين لا يرجون لقآءنا } [يونس: 15] أي: أرباب النفوس الذين ما فيهم الشوق إلى لقاء الحق؛ لأن تشوق النفس وشوقها وهواها إلى الدنيا وزخارفها، وإن شوق الحق والصدق في طلبه من نشأة القلب وقلوب أرباب النفوس ميتة ونفوسهم حية، فلما كان في القرآن ما يوافق القلوب ويخالف النفوس ما قبلوه أرباب النفوس، وقالوا: يا محمد { ائت بقرآن غير هذآ } [يونس: 15] أي: بقرآن يوافق طباعنا وفيه ما يهوى به أنفسنا، { أو بدله } [يونس: 15] أنت كما بدلوا من اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل أحبارهم ورهبانهم بما كانوا موافقا لهواهم فضلوا وأضلوا كثيرا، { قل } [يونس: 15] يا محمد.
{ ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } [يونس: 15] أي: ليس اتباع أرباب النفوس، ولا اتباع هوى نفسي إلا اتباع الوحي فيما أمر به أو نهى عنه، { إني أخاف إن عصيت ربي } [يونس: 15] أي: إن خالفته لهوى غيره، { عذاب يوم عظيم } [يونس: 15] أي: عذاب يوم تجزي فيه عظام الأمور، وهي فريق في الجنة، وفريق في السعير، فلفريق سعادة القرب والمواصلة وهي أجر عظيم، ولفريق شقاوة اليد والمفارقة وهي عذاب عظيم. { قل لو شآء الله ما تلوته عليكم } [يونس: 16] أي: القرآن لأني أمي وليست التلاوة والقراءة من شأني كما كان حالي مع جبريل عليه السلام أول ما نزل فقال لي:
" اقرأ، قلت: لست بقارئ، فغطني جبريل عليه السلام ثم أرسلني، فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [العلق: 1] فقرأته لما جعلني قارئا ولو شاء الله ألا أقرأه ما كنت قادرا على قراءته عليكم "
، { ولا أدراكم به } [يونس: 16]، وما كنت أعلمك بالقرآن ولا أعلمك.
{ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } [يونس: 16] أي: من قبل نزول القرآن وما كنت تاليا للقرآن، { أفلا تعقلون } [يونس: 16] لكي تتفكروا وتدركوا بنظر العقل المميز الحق من الباطل والهدى من الضلال، { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [يونس: 17] في دعوة النبوة والرسالة ونزول القرآن، { أو كذب بآيته } [يونس: 17] يعني: أو من كذب بالقرآن وبمن أنزل عليه، { إنه لا يفلح المجرمون } [يونس: 17] أي: لا يتخلص الكذابون والمكذبون من فيه الكفر وحجب الهوى وعذاب البعد وحجبهم النفس، { ويعبدون من دون الله } [يونس: 18] أي: ويعبد المكذبون مع كفرهم وتكذيبهم بالأنبياء.
{ ما لا يضرهم } [يونس: 18] أي: لا يعبدوا، { ولا ينفعهم } [يونس: 18] إذ يعبدوه، { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [الأنبياء: 18] لا ينحتون في الخشب والحجارة ويجعلون شريكا لله في العبادة، { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } [يونس: 18] شريكا لنفسه لا شفيعا بغير إذنه، { في السموت } [يونس: 18] ممن في السماوات من الملائكة والنجوم، { ولا في الأرض } [يونس: 18] أي: ولا ممن في الأرض من الأنبياء والمرسلين والأولياء والمؤمنين.
كما قال:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة: 255]، ثم نزه نفسه عما أضافوه إليه، فقاله سبحانه وتعالى: { سبحانه وتعالى عما يشركون } [يونس: 18] أي: عما أثبتوا له شريكا في العبادة وشفيعا في الشفاعة فأخر عن أخلاقه الناس بعد الائتلاف بقوله تعالى: { وما كان الناس إلا أمة واحدة } [يونس: 19] الآيتين: { وما كان الناس إلا أمة واحدة } يعني: في بدء الخلقة وأصل الفطرة التي فطر الناس عليها في عالم الأرواح، كما قال تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4] أي: أرواح الإنسان قبل تعلقها بالقالب، فلما تعلقت به قال:
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 5].
{ فاختلفوا } [يونس: 19] أي: استماع خطاب:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] إذ الأرواح كانت جنودا مجندة في صفوف مختلفة فاستمع كل طائفة على حسب حالها في القرب والبعد من تلك الصفوف، { فاختلفوا } عند جواب: { بلى } لأن جواب كل طائفة بحسب استماعه الخطاب، ثم بعد الولادة اختلفوا بحسب تربية الوالدين كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "
، ثم اختلفوا بعد البلوغ بحسب المعاملات الطبيعية والشرعية.
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } [يونس: 19] أي: حكم قدره الله تعالى بأن لا يجازي عباده عن كل اختلاف حتى يبلغهم بتغير الأحوال واختلافهم إلى السعادة المقدرة لهم وإلى الشقاوة المقدرة لهم، { لقضي بينهم } [يونس: 19] بالهلاك والعذاب مجازاة لهم، { فيما فيه يختلفون } [يونس: 19] من كفران النعم فإنكار النبوة ورد الشريعة واتباع الهوى بالطبيعة.
[10.20-23]
{ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } [يونس: 20] أي: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم معجزة ظاهرة نشاهدها، { فقل إنما الغيب لله } [يونس: 20] يشير إلى معنيين:
أحدهما: إن الغيب هو عالم الملكوت الذي يتنزل منه الآيات، ويتظهر منه للمعجزات بإنزال الله تعالى وإظهاره فهو لله وبحكمه ينزل الآيات منه متى شاء كما شاء، { فانتظروا } [يونس: 20] فإنه ينزلها، { إني معكم من المنتظرين } [يونس: 20] أي: لينزلها.
والثاني: إن الغيب هو عالم الغيب فهو الله وهو الذي قدر الأشياء بحكمته ومشيئته، فإن اقتضت الحكمة والمشيئة الأزلية بإنزال آية من آياته وأوصاف ملتمسكم فإنه سينزل { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } لإنزالها.
{ وإذآ أذقنا الناس رحمة } [يونس: 21] أي: أذقناهم دون توبة وإنابة، أو صدق طلب الوصول إلى بعض المقامات، أو ذوق كشف وشهود من بعد ضر، { من بعد ضرآء مستهم } [يونس: 21] وهو الفسق والفجور والأخلاق وحجب الأوصاف البشرية وصفات الروحانية، { إذا لهم مكر في آياتنا } [يونس: 21] بإظهارها مع غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول عند الخلق واستتباعهم والرئاسة عليهم وجذب المنافع منهم، { قل الله أسرع مكرا } [يونس: 21] في إيصال مجازاة مكرهم إليهم باستدراجهم عن تلك المقامات والكرامات إلى دركات البعد وتراكم الحجب من حيث لا يعلمون، { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } [يونس: 21] أي: غير خاف علينا قدر مراتب مكرهم فيجازيهم على حسب ما تمكرون.
ثم أخبر عن حال الخلق ومالهم بقوله تعالى: { هو الذي يسيركم في البر والبحر } [يونس: 22] الآيتين: هو الذين يسيركم في بر البشرية وبحر الروحانية، وأيضا في بر العبودية وبحر الربوبية، { حتى إذا كنتم في الفلك } [يونس: 22] جذبات العناية، { وجرين بهم بريح طيبة } [يونس: 22] بهبوب نسيمات رياح شهود الجمال، { وفرحوا بها } [يونس: 22] فرح الوصول.
{ جآءتها ريح عاصف } [يونس: 22] أي: ثم هبت نكبا تجلى صفات الجلال، { وجآءهم الموج } [يونس: 22] البلايا والمحن عند التلاطم والتراكم، { من كل مكان } [يونس: 22] من أماكن النعم ومكان النقم، { وظنوا أنهم أحيط بهم } [يونس: 22]؛ أي: تحقق لهم أنهم وقفوا في ورطة الهلاك بالنعم والنقم، { دعوا الله } أي: رجعوا إليه وما التفتوا إلى النعم استغراقا بالنقم، وما وهنوا لما أصابهم من النقم في طلب المنتقم وكان دعاؤهم بالله لله.
{ دعوا الله مخلصين له الدين } [يونس: 22] بالتبرؤ عما سواه، والتولي إلى مولاهم فقالوا: مخلصين عن الوجود معتصمين بالجود، { لئن أنجيتنا من هذه } [يونس: 22] من هذه البلايا والمحن والركون إليها، { لنكونن من الشاكرين } [يونس: 22] لنعمة وجدان وجود النعم بالنقم، { فلمآ أنجاهم } [يونس: 23] من البلايا والمحن بالمعبود عن نعمها والصبر على نقمها، { إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } [يونس: 23] لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال، واستغراق لحجج بحر الجلال تداركتهم عواطف العزة والكبرياء
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
[الأعراف: 182] ومن استدراجهم أنهم يبغون ويطلبون في الأرض ما سوى الحق غير الحق؛ يعني: أرأيت طالب الحق طالبا لغير الحق؟ فاعلم أنه من المستدرجين والممكورين.
ثم قال: { يأيها الناس } [يونس: 23] أي: الناسي من تلك المقامات والكرامات، { إنما بغيكم على أنفسكم } [يونس: 23] طلبكم غير الحق يضر بأنفسكم بحرمانكم عن الله باشتغالكم بغير الله، { متاع الحياة الدنيا } أي: ما طلبتم بدلا عن الله هو متاع الحياة الدنيا الفانية، { ثم إلينا مرجعكم } [يونس: 23] إن كنتم أهل العناية بالاختيار، وإن كنتم أهل الغواية بالاضطرار، { فننبئكم } [يونس: 23] بالمجازاة والمكافأة لطفا أو عنفا، { بما كنتم تعملون } [يونس: 23] أي: ينفع ما كنتم تعملون عند الرجوع بالصدق إلينا، أو بضر ما كنتم تعملون بالركون والسلوك إلى غيرنا بأقوال أهل الإشارة في قوله: { مخلصين له الدين } قال: المخلص في دعائه هو من لا يصحبه في نفسه سوى رؤية من يدعوه.
قال الجنيد: الإخلاص ما يؤيده الله بأي عمل كان.
قال رويم: الإخلاص ارتفاع رؤيتك من الفعل، قال ابن معاذ: الإخلاص ألا تتلون النفس فيحفظ، قال الشيخ: هذه أموالهم رضي الله عنهم وهذا كله عندي إخلاص العوام والخواص، فأما إخلاص أخص الخواص فمعاملات يجزيها الله بهوية الربوبية بعد فناء أنانيته العبودية، والخلاص بجوده غير جنس وجوده.
[10.24-27]
ثم أخبر عن حال الدنيا وحال أهلها بقوله تعالى: { إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء } [يونس: 24] قوله: { إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء } مثل ضربه الله تعالى للحياة الدنيوية الفانية بماء هو الفيض الروحاني أنزل من سماء القلب إلى الأرض البشرية، { فاختلط به } [يونس: 24] بذلك الفيض، { نبات الأرض } [يونس: 24] أي: الصفات المتولدة من أرض البشرية، { مما يأكل الناس } [يونس: 24] أي: مما ينفع الناس من الأخلاق الحميدة الإنسانية، { والأنعام } [يونس: 24] أي: الصفات الذميمة البهيمية والسبعية التي يصير البشر بها كالأنعام بل هم أضل، { حتى إذآ أخذت الأرض } [يونس: 24] أرض النفس.
{ زخرفها } [يونس: 24] أي: زينتها من تلك الأخلاق والوقائع والكشوف الروحانية والشواهد القلبية، { وازينت } [يونس: 24] أي: تزينت النفس بها، { وظن أهلهآ } [يونس: 24] أي: أصحاب النفس، { أنهم قادرون عليهآ } [يونس: 24] أي: مالكون لها؛ يعني: يحسبون ويغيرون إن تلك الأحوال والوقائع صارت لهم مقاما، { أتاهآ أمرنا } [يونس: 24] حكمنا الأزلية، { ليلا } [يونس: 24] أي: عند استيلاء ظلمات النفس وغلباتها.
{ أو نهارا } [يونس: 24] يعني: أو عند بقاء ضوء الفيض الروحاني، ولكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية به وقع في ورطة اعتقاد سبق كالفلاسفة والطبائعية والحلولية والإباحية.
{ فجعلناها حصيدا } [يونس: 24] أي: جعلنا تلك الكشوف والأحوال الدالة على القبول مقلوعة مستأصلة، { كأن لم تغن بالأمس } [يونس: 24] أي: كأن لم تكن النفس بها زينة فيما مضى، { كذلك نفصل الآيات } [يونس: 24] أي: كما شرحنا في هذا المثال الأحوال الدنيا، وظهور زخارفها، وغرور أهلها بها، وفساد حالها في عاقبة أمرها، كذلك نبين دلالة الطريق إلى الله، ونشرح إشارات الفترات والآفات في طريق السائرين إلى الله، { لقوم يتفكرون } [يونس: 24] في عزة هذا الشأن وعظم ثناؤه وصعوبة قطع مفاوزه وشدة اقتحام عقباته بلا دليل مرشد وهاد مطيب، ثم يتمسكون بأذيال المشايخ الكبار، أو يتثبتون بهممهم العليا؛ لينجوا بهم عن هذه المهالك ويسلكوا هذه المسالك.
ثم أخبر عن المفكر السالك والمتكبر الهالك بقوله تعالى: { والله يدعوا إلى دار السلام } [يونس: 25] إلى قوله: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [يونس: 27] { والله يدعوا إلى دار السلام } يدعو أزلا وأبدا عباده إلى دار السلام وهي العدم صورة وظاهرا، وعلم الله وصفته؛ يعني: وحقيقته.
وإنما سمي العدم والعلم دار السلام؛ لأن العدم كان دارا قد سلم المعدوم فيها من آفة الحجب الروحانية والجسمانية والعلم دار قد سلم المعلوم فيها من آفة الإثنينية والشركة في الوجود وهي دار الوحدانية؛ وأيضا لأن السلام هو الله تعالى، والعلم صفته القائمة بذاته فالله تعالى بفضله وكرمه يدعو عباده أزلا من العدم إلى الوجود ومن العلم وهو الصفة إلى الفعل وهو الخلق ويدعوهم أبدا من الوجود إلى العدم، ومن الفعل إلى العلم فدعاهم من العلم إلى الوجود بالنفخة، وهي قوله تعالى:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29].
ودعاهم من الوجود إلى العدم، والعلم بالجذبة وهي قوله تعالى:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالجذبة إلى علم الله الأزلي الأبدي، قال: قد علمت ما كان وسيكون؛ وذلك لأنه صار عالما بعلم الله لا بعلم نفسه وهو قوله تعالى:
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء: 113] وإنما علمه ذلك العلم حين قال له:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19] أي: فاعلم بعلم الله الذي دعيت بالجذبة إليه لا إله في الوجود إلا الله، فإن العلم الإلهي محيط بالوجود كله كما قال:
قد أحاط بكل شيء علما
[الطلاق: 12] فأنت بعلمه محيط بالوجود كله، فتعلم حقيقة أن ليس في الوجود إله غير الله.
ثم قال تعالى: { ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } [يونس: 25] فلما جعل الله دعوة الخلق من العلم إلى العمل، ومن الوجود إلى العدم، والعلم عامة جعل الهداية بالمشيئة إلى الأزل، والعلم وهو الصراط المستقيم خاصة يعني: هو يهديهم بالجذبة الكاملة إلى علم القديم بمشيئة الأزلية خاصة، وهذا مقام السير في الله بالله.
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [يونس: 26] أي: للذين عاملوا الله على مشاهدة، فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه { الحسنى } وهي شواهد الحق والنظر إليه وزيادة { وزيادة } هي ما زاد على النظر بالوصول إلى العلم الأزلي مجذوبا من أنانيته إلى هويته وإفناء الناسوتية في اللاهوتية، { ولا يرهق وجوههم قتر } [يونس: 26] لا يصيبهم غبار الحجاب.
{ ولا ذلة } [يونس: 26] أي: ولا ذلة وجود يقتضي الاثنينية، { أولئك أصحاب الجنة } [يونس: 26] جنة السير في الله، { هم فيها خالدون } [يونس: 26] دائمون في السير بجذبات العناية، { والذين كسبوا السيئات } [يونس: 27] أي: اكتسبوا بأعمالهم السوء في طلب الدنيا وشهواتها ولذاتها، وارتكاب ما حرم الله عليهم ونهاهم عنه، وترك ما أمرهم الله به من الفرائض والانقطاع في طريق الله، والقعود عن الصراط المستقيم الذي هو إلى علم الله.
{ جزآء سيئة بمثلها } [يونس: 27] أي: جزاؤهم الخذلان والإهمال في تلك الورطة؛ ليهلكوا عن بينة اكتسابهم بالتوحيد إلى الدنيا، وإعراضهم عن المولى، { وترهقهم ذلة } [يونس: 27] البعد والحجاب والطرد عن الباب، { ما لهم من الله من عاصم } [يونس: 27] أي: جاذب يمنعهم عن الخوف في الدركات، { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } [يونس: 27] إذ توجهوا إلى السفليات، وفي ظلمانيات صفات الحيوانية والسبعية والشيطانية ظلمات بعضها في بعض، { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [يونس: 27] معذبون بدوام البعد وذل الحجاب.
[10.28-30]
ثم أخبر عن حشر جميعهم ونشر صنيعهم بقوله تعالى: { ويوم نحشرهم جميعا } [يونس: 28] إلى قوله: { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [يونس: 30]، { ويوم نحشرهم جميعا } أي: اجتماع أوراح الإنسان وحقائق الأشياء التي تعبدونها من دون الله مثل الدنيا والهوى والأصنام، { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } [يونس: 28] أي: تخاطب أرواح المشركين بأن قفوا مكانكم أي: المكان الذي اخترتم بالجهل بعد إذ كنتم علويي المكان.
{ أنتم وشركآؤكم } [يونس: 28] أي: انزلوا أنتم وشركاؤكم إلى المكان السفلي وهو مكان شركائكم إذ تعلقتم بهم، { فزيلنا بينهم } [يونس: 28] أي: فرقنا بين المشركين وشركائهم بأن نعذب المشركين بعذاب البعد والطرد عن الحضرة وألم المفارقة وحسرة إبطال استعداد المواصلة ولا نعذب الشركاء بهذه العقوبات لعدم استعدادهم في قبول كمال القرب { وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } [يونس: 28] بل كنتم تعبدون هواكم لأنه ما عبد في الأرض إله ابغض إلا بالهوى فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" ما عبد في الأرض إله أبغض على الله من الهوى ".
وقال تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية: 23]، { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم } [يونس: 29]، فيما شاهد { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } [يونس: 29] أي: كنا في غفلة عن ذوق عبادتكم إيانا وحفظها ومشربها؛ بل كان الحظ والمشرب والذوق لهواكم في استيفاء اللذات والشهوات والتمتعات الدنيوية والأخروية عند عبادتنا بلا شعور منا بخلاف عبادة الله، فإن في عبادة الله رضاه وشعوره بها ومنه المدد والتوفيق وعليه الجزاء والثواب، { هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت } [يونس: 30] أي: في ذلك الحال تبتلي كل نفس ما قدمت من التعلقات بالأشياء والتمسكات بها، { وردوا إلى الله } [يونس: 30] في الحكم والقرب والبعد واللذة والألم { مولاهم الحق } [يونس: 30] أي: متوليهم في ذلك هو الله أي: في إذاقة اللذات من القرب والألم من البعد لا غيره من الشركاء، { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [يونس: 30] أن للشركاء أثرا في القربة والشفاعة.
[10.31-33]
ثم أخبر عن مولاهم ليكون به تولاهم بقوله تعالى: { قل من يرزقكم من السمآء والأرض } [يونس: 31] إلى قوله: { لا يؤمنون } [يونس: 33]، { قل من يرزقكم من السمآء والأرض } أي: من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس، ويخرج من أرض القلب نبات الأفعال والأعمال، وأيضا من سماء القلب مطر آثار فيض الروح، ويخرج من أرض القلب عيان صفات البشرية الحيوانية، ومن سماء الروح مطر فيض الروح، ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة.
[10.59-61]
قوله تعالى: { مآ أنزل الله لكم من رزق } يشير إلى رزق القلوب والأرواح فضلا عن رزق النفوس والأشباح من الواردات الروحانية والشواهد الربانية التي ترد على القلوب الصافية المتوجهة إلى الحضرة وتشاهد الأرواح الزكية من مشاهد العزة ومواهب الحكمة.
{ فجعلتم منه حراما } [يونس: 59] أي: على أنفسكم لخيانة أنفسكم وركاكة عقولكم ودناءة همتكم، { وحلالا } [يونس: 59] على أرباب القلوب النقية وأصحاب الهمم العلية أي: حديث أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادة ونيل هذه الكرامات ليس من شأنها، وإنما هو من شأن الأخيار والكبراء وخواص الأولياء والأنبياء.
{ قل ءآلله أذن لكم } [يونس: 59] أن تعرضوا عن هذه المقامات العلية والأحوال السنية وتجبلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها، { أم على الله تفترون } [يونس: 59] بأنه تعالى اختص قوما بالدعوة إلى هذه الدرجات الرفيعة دوننا، بل عمت دعوته لقوله:
والله يدعوا إلى دار السلام
[يونس: 25]، وقوله تعالى:
يدعوكم ليغفر لكم
[إبراهيم: 10].
{ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } [يونس: 60] أي: وما ظن أهل الافتراء عند كشف الغطاء عن درجات أرباب الولاء ودركات عبدة الأهوال لا يتبدلون بعذاب الحرمان وسوء عاقبة أهل الخذلان، { إن الله لذو فضل على الناس } [يونس: 60] بمساواة الاستعداد في قبول الفيض، { ولكن أكثرهم لا يشكرون } [يونس: 60] بأن يصرفوا استعدادهم في تعرض نفحات الألطاف التي هي دائمة الهبوب من منهات العناية وعلمه تعالى.
{ وما تكون في شأن } [يونس: 61] أي: يا محمد، { وما تكون في شأن وما تتلوا منه } التي هي مختصة بك، { وما تتلوا منه } أي: من شأن النبوة، { من قرآن } [يونس: 61] تقرأه عليهم، { ولا تعملون } [يونس: 61] يا أمة محمد، { من عمل } [يونس: 61] أي: من أعمال الأمة ومن قبول القرآن ورده.
{ إلا كنا عليكم شهودا } [يونس: 61] أي: شاهدا على أعمالكم، { إذ تفيضون فيه } [يونس: 61] أي: تسرعون فيه بنياتكم في القبول والرد والعمل به، { وما يعزب عن ربك } [يونس: 61] ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا، { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض } [يونس: 61] عما ظهر من حركة أرض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر ، { ولا في السمآء } [يونس: 61] أي: سماء القلوب بالنيات الفاسدة، { ولا أصغر من ذلك } [يونس: 61] أي: من الحركة وهو القصد دون الفعل، { ولا أكبر } [يونس: 61] أكبر في النية وهو العمل، { إلا في كتاب مبين } [يونس: 61] أي: في أم الكتاب الذي هو عنه في الأزل إلى الأبد.
[10.62-66]
ثم أخبر عن حال أوليائه بعد كشف حال أعدائه بقوله تعالى: { ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم } [يونس: 62] إلى قوله: { هو الفوز العظيم } [يونس: 64]، { ألا إن أوليآء الله } [يونس: 62] أي: أحباء الله وأعداء نفوسهم، فإن الولاية هي معرفة الله ومعرفة نفوسهم، فمعرفة الله رؤيته بنظر المحبة، ومعرفة النفس رؤيتها بنظر العداوة عند كشف غطاء أحوالها وأوصافها، فإذا عرفتها حق المعرفة علمت أنها عدوة الله ولك معالجتها بالمعاندة والمكابدة وما آمنت مكرها وكيدها وما نظرت إليها بنظر الشفقة والرحمة.
فهذا حال أولياء الله أنه { لا خوف عليهم } [يونس: 62] من تمني الضرر بنفوسهم، { ولا هم يحزنون } [يونس: 62] على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة فيما بينهم، ثم وصفهم فقال: { الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس: 63] بالله عما سواه ويفرون إليه مما عداه فيخرجهم الله من ظلمات التعلق بالكونين إلى نور الوصال والوصول.
ثم أخبر عن مجازاتهم فقال: { لهم البشرى في الحياة الدنيا } [يونس: 64] أي: المبشرات التي هي تلي النبوة من الوقائع التي ترى بين النوم واليقظة والإلهامات والكشوف وما يرد عليهم من المواهب والمشاهدات، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لم يبق من النبوة إلا المبشرات "
، { وفي الآخرة } [يونس: 64] وبشراهم بكشف القناع عن جمال العزة عن سطوات تجلي نور القدم وزهوق ظلمة الحدث وليبقوا بإبقاء الحق رحمة منه كما قال الله تعالى:
يبشرهم ربهم برحمة منه
[التوبة: 21].
{ لا تبديل لكلمات الله } [يونس: 64] أي: لا تتغير أحكامه الأزلية حيث قال للولي: كن وليا، وللعدو: كن عدوا، وكانوا كانوا كما أراد بالحكمة البالغة فلا تغيير لكلمة الولي وكلمة العدو، { ذلك هو الفوز العظيم } [يونس: 64] أي: ذلك الثبات لكلمة الولي وعدم تغييرها وتبدلها في حق الولي { هو الفوز العظيم } للولي، فإنه فاز بالوصول إلى الله العظيم.
ثم أخبر عن العزة تسلية لأهل العزة بقوله تعالى: { ولا يحزنك قولهم } [يونس: 65] إلى قوله:
يكفرون
[يونس: 70]، { ولا يحزنك قولهم } الخطاب مع رسول القلب أي: يا رسول القلب لا يحزنك قول مشركي النفوس وهواجسهم فيما يحدثونك من استمتاعك لشهوات الدنيا ولذاتها ويزينون زخارفها في نظرك؛ ليقطعوا عليك طريق الحق تعالى، ويدلوك على متابعة الهوى.
{ إن العزة لله جميعا } [يونس: 65] في الدنيا والآخرة يعز من يشاء في الدنيا دون الآخرة، ويعز من يشاء في الآخرة دون الدنيا، ويعز في الدنيا والآخرة جميعا، فلا تضره هواجس النفس ووساوس الشيطان في احتظاظه بشهوات الدنيا ونعيمها والتزين بزينتها، ولا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
[الأعراف: 32] فيكون من خواص عباده الذين أتاهم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة؛ بل يكون لبعضهم نعيم الدنيا معينا على تحصيل نعيم الآخرة كما جاء في الحديث الرباني:
" وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك ".
{ هو السميع } [يونس: 65] لحديث النفوس، { العليم } [يونس: 65] بأمزجة عباده يدفع ما يضر بهم ويحيطهم ما لا ينفعهم منه، { ألا إن لله من في السموت } [يونس: 66] من القلوب السماوية، { ومن في الأرض } [يونس: 66] من النفوس الأرضية أي: القلوب والنفوس ملك له وعبيد يفعل بهم وفيهم ما يشاء وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
{ وما يتبع الذين } [يونس: 66] أي: النفوس، { يدعون من دون الله شركآء } [يونس: 66] من الدنيا والهوى والمعنى، وما يتبع النفوس الهوى والدنيا ويتخذونها شركاء الله { من دون الله } أي: بغير الله.
{ إن يتبعون إلا الظن } [يونس: 66] أي: يظنون أنهم يتبعون الهوى باختيار نفوسهم لا باختيار الله، ولا يعلمون أنه ما كان لهم الخيرة، { وإن هم إلا يخرصون } [يونس: 66] أي: بأن لهم الخيرة دون الله.
[10.67-71]
ثم أخبر عن الحكمة في إهمال النفوس في بعض الأوقات لاتباع الهوى فقال: { هو الذي جعل لكم اليل } [يونس: 67] أي : ليل البشرية التي بها التمتع للنفوس في شهوات الدنيا ولذاتها، { لتسكنوا فيه } [يونس: 67] فتستريحوا من نصب المجاهدات، أو تعب الطاعات في بعض الأوقات، ويزول عنكم ملالة النفوس وكلالة القلوب، ويستجد شوقكم وشوق طلبكم فيه، ويجعل بعد ذلك لكم نهار الروحانية مبصرا.
{ والنهار مبصرا } [يونس: 67] أي: نهار الروحانية مبصر أي: راضيا وبصيرة بها مصالح السلوك والترقي في المقامات ويتدارك بها ما فاته بالوقفات في ليل البشرية، { إن في ذلك } [يونس: 67] الإهمال، { لآيات } [يونس: 67] دلالات، { لقوم يسمعون } [يونس: 67] حقائق القرآن بسمع القلوب الواعية.
ثم أخبر عن الآفات والشبهات التي تقع في أثناء السلوك عند ظهور نهار الروحانية؛ ليحترز المسالك عنها فقال: { قالوا اتخذ الله ولدا } [يونس: 68] أي: مشركو النفوس، { قالوا } عند تجلي الروح بالخلافة في صفة الربوبية مقترنا بتجلي صفة إبداع الحق وقع الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرف الخيال حتى نسبت الأبوة والبنوة لنص المقامات بالوالد إذ تحققت الأبوة والبنوة، وهذا الكشف والإملاء هو مبدأ ضلالة اليهود والنصارى في قولهم:
عزير ابن الله
[التوبة: 30]
المسيح ابن الله
[التوبة: 30]، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
كما قال الله تعالى: { سبحانه هو الغني } [يونس: 68] عن اتخاذ الولد واحتياجه إلينا، { له ما في السموت } [يونس: 68] سماوات الروحانية من الأحوال والكشوف والمشاهدات، { وما في الأرض } [يونس: 68] أرض النفوس من الوهم والخيلاء وما ينشئن من الشبهات والآفات.
{ إن عندكم من سلطان } [يونس: 68] أي: ما عند النفوس حجة تصلح لصنع هذه الشبهات، { بهذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون } [يونس: 68] وحقيقته، { قل } [يونس: 69] يا قلب النفوس، { إن الذين يفترون على الله الكذب } [يونس: 69] من النفوس الأمارة بالسوء، { لا يفلحون } [يونس: 69] لا يظفرون بكشف الحقائق ما داموا على هذه الصفة.
{ متاع في الدنيا } [يونس: 70] أي: حاصل أمرهم وقصارى أمنيتهم أن يتمتعوا في الدنيا من ملاذها وشهواتها أياما قليلا، { ثم إلينا مرجعهم } [يونس: 70] جبرا وقهرا، { ثم نذيقهم العذاب الشديد } [يونس: 70] من ألم البعد عن الحضرة، { بما كانوا يكفرون } [يونس: 70] أي: بكفرهم إذا أثبتوا الأبوة والنبوة ووقعوا في عذاب البعد ولكن في الدنيا ما ذاقوا ألم العذاب؛ لأنهم كانوا نياما، والنائم لا يجد ألم شيء من الجراحات حتى ينتبه
" والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا "
، ثم بعد الموت يذوقون ألم ما بهم من العذاب.
ثم أخبر عن عاقبة المنذرين المكذبين بقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ نوح } [يونس: 71] إلى قوله:
المعتدين
[يونس: 74]، { واتل عليهم نبأ نوح } يشير إلى نوح الروح، { إذ قال لقومه } [يونس: 71] وهم: القلب والبشر والنفس وصفاتهم، { يقوم إن كان كبر عليكم مقامي } [يونس: 71] أي: عظم عليكم مقامي في الأخلاق الحميدة الروحانية، { وتذكيري بآيات الله } [يونس: 71] أي: أن أدعوكم بدلالات الله وبراهينه إليه وإلى التخلق بأخلاقي وأخلاق الله.
{ فعلى الله توكلت } [يونس: 71] فيما أدعوكم إليه بأن توقفكم؛ لتحصيل ما أدلكم عليه من المقامات الكريمة والدرجات الرفيعة، فإن أبيتم إلا تلك الدركات النفسانية الحيوانية وعاديتموني على الدعوة للنجاة منها، { فأجمعوا أمركم وشركآءكم } [يونس: 71] لا عليكم وكيدكم وادعوا شركاءكم من الهوى والشيطان والدنيا؛ ليجمعوا مكرهم مع مكركم.
{ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } [يونس: 71] أي: بحيث لا يكون من المكر والحيل شيء مخفي ولا على شركائكم، { ثم اقضوا إلي } [يونس: 71] أي: امضوا ما جمعتم من المكر ومعاونة الشركاء إلي، { ولا تنظرون } [يونس: 71] أي: ولا تؤخرون في سوء تريدون بي، فإنكم إن سعيتم غاية السعي وبذلتم الجهود لتمكروا لي وتردوا قولي فلا تقدروا على ضري ونفعي إلا بإذن الله.
[10.72-75]
{ فإن توليتم } [يونس: 72] أي: أعرضتم عن نصحي، { فما سألتكم } [يونس: 72] على النصح في دعواتكم إلى الله، { من أجر } [يونس: 72] من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية، { إن أجري إلا على الله } [يونس: 72] أي: ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله.
{ وأمرت أن أكون من المسلمين } [يونس: 72] أي: ممن أسلم وجهه لله في طلب الله، { فكذبوه فنجيناه } [يونس: 73] أي: خلصناه نوح الروح من الغرق في بحر الدنيا، { ومن معه في الفلك } [يونس: 73] أي: الذين ركبوا معه في سفينة الشريعة من القلب والبشر والنفس والهوى، { وجعلناهم خلائف } [يونس: 73] أي: خلفاء الله في أرضه وهم مقر صفاته ومظهر آياته، { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } [يونس: 73] بدلائلنا وبراهيننا من الشيطان وبعض النفوس المتمردة في بحر الدنيا وشهواتها.
{ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } [يونس: 73] أي: الذين أنذرهم نوح الروح بإلهامات الله، { ثم بعثنا من بعده } [يونس: 74] أي: بعد نوح الروح، { رسلا إلى قومهم } [الروح: 74] من الأنبياء، { فجآءوهم بالبينت } [يونس: 74] بالمعجزات الظاهرة.
{ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } [يونس: 74] أي: لم يصدقوا الأنبياء بمعجزاتهم بشؤم ما كذبوا نوح الروح، وما قبلوا دعوته في السير إلى الله، فيه إشارة إلى أن من لم يؤمن قبله بدعوة الروح وإلهام الحق إراءة آياته لا يؤمن بدعوة الأنبياء ومعجزاتهم، { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } [يونس: 74] الذين جاوزوا الحق إذ لم يستمعوا دعوة الروح إلى الباطل وهو تكذيب نوح الروح لئلا يقبلوا دعوة الأنبياء عليهم السلام.
ثم أخبر عن بعث الأنبياء وتكذيب الأشقياء بقوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون } [يونس: 75] إلى قوله:
من القوم الكافرين
[يونس: 86]، { ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون } أي: أوحينا وألهمنا من بعد نوح الروح وصفاته إلى موسى القلب، وهارون السر، { إلى فرعون وملإيه } [يونس: 75] أي: فرعون النفس وصفاته، { بآيتنا } [يونس: 75] يعني: عصا ذكر لا إله إلا الله كانت معجزة القلب وله يد بيضاء في استعمالها.
{ فاستكبروا } [يونس: 75] عن قبول لا إله إلا الله وذلك أن فرعون النفس يدعي الربوبية ولا يثبت إلها غيره، كما قال الله تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43]، { وكانوا } [يونس: 75] يعني: النفس وصفاتها، { قوما مجرمين } [يونس: 75] آمرين بالسوء.
[10.76-80]
{ فلما جآءهم الحق من عندنا } [يونس: 76] الذكر الذي هو من صفاتنا، فيعمل عمل الثعبان، ويظهر المعجزات مع فرعون النفس وصفاتها.
{ قالوا إن هذا لسحر مبين } [يونس: 76] يعني: فرعون النفس ترى معجزة ثعبان الذكر سحرا، { قال موسى } [يونس: 77] أي: موسى القلب، { أتقولون للحق لما جآءكم } [يونس: 77] أي: معجزات الذكر، { أسحر هذا } [يونس: 77] أي: تشكون وتشبهونها بالسحر.
{ ولا يفلح الساحرون } [يونس: 77] أي: لا فلاح في السحر، والفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي والظفر بالوجود الحقيقي، وإنما الفلاح في الذكر بقوله:
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
[الأنفال: 45]، { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا } [يونس: 78] وهذا من كلام النفس وصفاتها مع القلب ذكر التصرف عن عبادة الدنيا والهوى، { وتكون لكما } [يونس: 78] السر والقلب، { الكبريآء } [يونس: 78] السلطنة والتصرف.
{ في الأرض } [يونس: 78] أي: أرض القالب، { وما نحن لكما بمؤمنين } [يونس: 78] بمتبعين ولا مصدقين، { وقال فرعون } [يونس: 79] النفس، { ائتوني بكل ساحر عليم } [يونس: 79] من الشياطين والنفوس المتمردة الساحرة في البيان، وبالوساوس والهواجس والتمويهات، { فلما جآء السحرة قال لهم موسى } [يونس: 80] القلب، { ألقوا مآ أنتم ملقون } [يونس: 80] من تمويهاتكم.
[10.81-86]
{ فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر } [يونس: 81] والتمويه، { إن الله سيبطله } [يونس: 81] بثعبان الذكر، فإنه حق التمويه باطل، وإذا جاء الحق وزهق الباطل، { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } [يونس: 81] من أهل التمويهات.
{ ويحق الله الحق } [يونس: 82] أي: الذكر، { بكلماته } [يونس: 82] وهي لا إله إلا الله، { ولو كره المجرمون } [يونس: 82] من أهل الهوى من النفوس المتمردة الأمارة بالسوء، { فمآ آمن لموسى } [يونس: 83] القلب، { إلا ذرية من قومه } [يونس: 83] وهي صفاته ويجوز أن يكون إلها في قومه راجعة إلى فرعون النفس أي: ما آمن لموسى القلب إلا بعض صفات فرعون النفس، فإنه يمكن تبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية.
{ على خوف من فرعون وملئهم } [يونس: 83] يعني: من خوف فرعون النفس والهوى والدنيا وشهواتها بأن تبدلوها بأخلاقها الطبيعية التي جبلت النفس عليها، وبهذا يشير إلى أن النفس وإن تبدلت صفاتها الأمارية إلى المطمئنة لا يؤمن مكرها وتبدلها من المطمئنة إلى الأمارية كما كان حال بلعام وبرصيصا، { أن يفتنهم } [يونس: 83] بالدنيا وشهواتها للمجاوزين حد الطريقة والشريعة في تحصيل ملاذها وشهواتها وترجع النفس قهقري إلى إشارتها، { وإن فرعون } [يونس: 83] النفس.
{ لعال } [يونس: 83] أي: لها علو وقوة، { في الأرض } [يونس: 83] البشرية بالتصرف فيها، { وإنه لمن المسرفين } [يونس: 83] المجاوزين حد الشريعة والطريقة في تحصيل ملاذها وشهواتها، { وقال موسى } [يونس: 84] القلب، { يقوم إن كنتم آمنتم بالله } [يونس: 84] أي: قال موسى القلب مع صفاته أي: مع صفات النفس التي آمنت بما جاء القلب من الذكر والإلهام ومواهب الحق إن كان إيمانكم حقيقيا من الله وهدايته.
{ فعليه توكلوا } [يونس: 84] إلا على الدنيا وملاذها، { إن كنتم مسلمين } [يونس: 84] إن استسلمتم الله وفوضتم أموركم إليه، { فقالوا على الله توكلنا } [يونس: 85] لا على غيره، ثم رجعوا إلى الله تأكيدا لتوكلهم عليه، وطلبوا منه ألا يفتنهم بالقوم الظالمين وهم فرعون النفس والهوى والدنيا فقالوا: { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } [يونس: 85]، { ونجنا برحمتك } [يونس: 86] أي: خلصنا، { من القوم الكافرين } [يونس: 86] أي: من شر قوم يسترون الحق بالباطل ويستعملوننا في التخلق بأخلاقهم الذميمة.
[10.87-92]
ثم أخبر عن حال موسى وأخيه وحال فرعون وتابعيه بقوله: { وأوحينآ إلى موسى وأخيه } [يونس: 87] إلى قوله: { لغافلون } [يونس: 92]، { وأوحينآ إلى موسى وأخيه } [يونس: 87] أي: إلى موسى القلب وهارون السر، { أن تبوءا } أي: تهيئا، { لقومكما } [يونس: 87] لصفاتكما، { بمصر } [يونس: 87] عالم الروحانية، { بيوتا } [يونس: 87] مقامات؛ وذلك لأن القلب والسر بصفاتهما وساطة بين الروح والنفس، فيشير إلى ألا تتخذوا المنازل في عالم النفس السفلية واتخذوا المقامات في عالم الروح العلوي.
{ واجعلوا بيوتكم قبلة } [يونس: 87] أي: اجعلوا مقاماتكم في عالم الروحانية المتوجهة في قبلة طلب الحق أي: لا تقيموا في الروحانية، { وأقيموا الصلاة } [يونس: 87] أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى القربات والموصلات الربانية، { وبشر المؤمنين } [يونس: 87] المصدقين السائرين إلى الله بالوصول والوصال، { وقال موسى } [يونس: 88] القلب موافقا للشر.
{ ربنآ إنك آتيت فرعون } [يونس: 88] النفس، { وملأه } [يونس: 88] أي: صفاته، { زينة } [يونس: 88] أي: جعلت ما على الأرض من مستلذات النفس وشهواتها زينة في نظرها؛ لأنها ملائمة طبعها، { وأموالا } [يونس: 88] أي: جعلت الأموال سبب تحصيل مرادات النفس ومرامها، { في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } [يونس: 88] أي: ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا عن السير في طلبك، ويضلوا عبادك بها عن طلبك شغلا بتمتعاتها وغرورا بغنائها وتفاخرا بجمعها.
{ ربنا اطمس على أموالهم } [يونس: 88] بمحقها أو بتحقيرها في نظرهم، { واشدد على قلوبهم } [يونس: 88] أي: واشدد طريق النظر إلى الدنيا وما فيها على قلوبهم، واجعل همتهم علية في طلبك للنظر إليك، { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [يونس: 88] فإن النفس وصفاتها لا تؤمن بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم فطامهم عن الدنيا وشهواتها، فإن الفطام عن المألوفات شديد.
{ قال قد أجيبت دعوتكما } [يونس: 89] أي: دعوة القلب والسير بما سألوا الله في حق النفس وصفاتها وفطامها عن ملاذ الدنيا، { فاستقيما } [يونس: 89] يا قلب السير في طلب الحق والسير إليه، { ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون } [يونس: 89] الطريق إلى الله ولا يعرفون قدره وهمتهم الدنيا وشهواتها عن أثر إجابة الدعوة فقال: { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } [يونس: 90] بنو إسرائيل وهم: القلب والسر وصفاتهما { البحر } بحر الملكوت أي سلكناهم في بحر الروحانية الملكوتية، { فأتبعهم فرعون } [يونس: 90] النفس، { وجنوده } [يونس: 90] وصفاته في بحر الملكوت يعني: الفطام عن شهوات عالم الملك، { بغيا وعدوا } [يونس: 90] أي: حسدا وعداوة؛ لأن النفس لا تجاوز بحر الملكوت إلا بعلمه واضطرارا، فإن السير في الملكوت ليس من طبعها، فلا مسلك إلا قهرا وقسرا { حتى إذآ أدركه الغرق } [يونس: 90] يعني: فلما هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل استغرق موسى القلب وبنو إسرائيل صفاته في لجي بحر الوصال، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية فأدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة تلك الفرق.
{ قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين } [يونس: 90] ومن أمارات أغطية فرعون النفس من عالم الملكوت الروحاني أنه عند الغرق ما تمسك بحبل التوفيق بيد الصدق والاستقلال، وما قال: آمنت بالله الذي لا إله إلا هو، وإنما تمسك بيد الاضطرار والتقليد، فقال: { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل } فقيل له: { آلآن وقد عصيت قبل } [يونس: 91] أي: قبل الاضطرار.
{ وكنت من المفسدين } [يونس: 91] أي: كنت ممن يملك نفسه ويهلك غيره، { فاليوم ننجيك ببدنك } [يونس: 92] أي: بنفسك وقالبك من بحر الضلالة، { لتكون لمن خلفك آية } [يونس: 92] أي: دليلا على كمال قدرتنا، ومزيد عنايتنا بأن من اتبع خواص عبادنا نجعلهم من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات، { وإن كثيرا من الناس } [يونس: 92] أي: من أهل النسيان، { عن آياتنا } [يونس: 92] الدالة إلينا، { لغافلون } [يونس: 92] لشغلهم بغيرنا.
[10.93-98]
ثم أخبر عن أهل الصدق والعرفان وأهل الاختلاف والخذلان بقوله تعالى: { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } [يونس: 93] قوله تعالى: { بوأنا بني إسرائيل } يشير بإسرائيل إلى الروح العلوي، وببنيه إلى القلب والسر فإنهما من لذات دون النفس؛ لأنها إن كانت من مولداته ولكنها من البنات لا من البنين { مبوأ صدق } منزلا عليا في جوار الروح أتى طبعا.
{ ورزقناهم من الطيبات } [يونس: 93] أي: من الفيض الرباني الفائض الروح العلوي بأنهما خلقا متصفين بصفات الروح، وما يلي إلى عالم العلوي من الحضرة من صفة الرحمانية فيفيض من الروح على القلب؛ لأن القلب من الروح بمنزلة العرش من الرب وهو محل استواء صفة الرحمانية من الرب يعني: محل ظهوره هذه الصفة الاختصاصية بقبول فيض هذه الصفة أولا، كذلك مستوى عرش القلب وهو قابل الفيض الروحانية أولا، فكل ما فاض من صفة الرحمانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر، فافهم جدا.
{ فما اختلفوا حتى جآءهم العلم } [يونس: 93] أي: ما اختلف القلب والسر من وصف خلقهما على الصفات الروحانية حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكام القرآن، وأركان الشريعة، والسير إلى الله تعالى على أقدام الطريقة، والوصول إلى عالم الحقيقة، وذلك عند البلوغ وجذب تكاليف الشرع، المقبل من قبلها صار مقبولا، والمدبر من دبرها فصار مردودا، وأيضا بقوله: { مبوأ صدق } [يونس: 93] أي: بين الأصبعين من أصابع الرحمن، فإنه مأوى القلوب متوجهين إلى حضرت الجلال، { فما اختلفوا حتى جآءهم العلم } [يونس: 93]؛ أي: ما تغيروا عن أحوالهم حتى أدركهم علم الله الأزلي بما قدر وقفي فيهم بالسعادة والشقاوة، فأقام قلوب أهل السعادة على الطاعة والعبودية، وقبول الدعوة، وطلب الحق، وأزاغ قلوب أهل الشقاوة عنها إلى المعصية والتمرد ورد الدعوة وترك الحق.
{ إن ربك يقضي بينهم } [يونس: 93] بالقبول والرد، { يوم القيامة } [يونس: 93] على قدر اختلافهم وتغير أحوالهم، { فيما كانوا فيه يختلفون } [يونس: 93] بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم ، قال: الأعمال نتائج الأحوال، والأقوال من نتائج الأعمال.
ثم أخبر عن أهل الشك والتكذيب وأهل الحجج والتقريب بقوله تعالى: { فإن كنت في شك } [يونس: 94] إلى قوله: { ومتعناهم إلى حين } [يونس: 98].
قوله: { فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك } [يونس: 94] أي: مما خصصناك به من سائر الأنبياء والمرسلين من خصوصية ختم النبوة، وخيرية الأمة، وإعطائك الحق المودود والمقام المحمود، وغير ذلك من المواهب السنية والمراتب العلية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } [يونس: 94] فإنا قد بينا في الكتب المنزلة طرفا عن علو قدرك، وعظم شأنك، ورفعة مكانك، ورتبة سلطانك؛ ليتحقق لك ويتبين عندك أن ما جاءه من الحق فهو حقك لا تغير فيه ولا تبديل، وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا فصبر النظر وفي الهمة، فإذا أنعم عليه بفتح باب الكرامات وهبوب رياح السعادات يكتال عليه بأدنى الكيل ما يضيق به ذرعه وينكسر به فرعه، فلا يحمل ما يحتمل عليه، ولا يتحقق ما ينفعل به لديه، فيقلن: أنه مما يخادع به الأطفال وشك فيما يصادفه من الآمال، بل هو من كرامة الأحياء، أو من وخامة الابتلاء.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف: 110] يرتع في هذه الرياض باختصاص
يوحى إلي
[الكهف: 110] يسقى بكاسات المناولات من تلك الحياض، فشك عند سكره من شراب الوصال إذا أدبر عليه بإقدام الجمال والجلال أنها في شهود التلوين، أو من كشوف التمكين حتى أدركته العناية الأزلية والسابقة الأولية فأكرم بخطاب: { لقد جآءك الحق من ربك } [يونس: 94] فتحقق الاجتباء، وزال عنه الأسر لما بدل سكره بالصحو، وزالت صفات بشريته إلى المحو، بل كان هذا فما كان النهي نهي التكوين به كلام الأزلي فخاطبه في الأزل وهو بعد في العدم.
{ فلا تكونن من الممترين } [يونس: 94] ممتريا كما قال:
تكونن من الجهلين
[الأنعام: 35] فما كان جاهلا، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" لا أشك ولا أسأل ".
{ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك } [يونس: 96] وهي قوله: هؤلاء في النار ولا أبالي؛ أي: وجبت عليهم النار سبق هذه الكلمة فيهم، { لا يؤمنون } [يونس: 96] { ولو جآءتهم كل آية } [يونس: 97] لأنهم خلقوا مستعدين للعمى والضلالة، كما قال الله تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا
[الأعراف: 179]، وقال:
أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون
[يونس: 43] فهؤلاء خلقوا ليكونوا مظهر صفات الذين لا يؤمنون، { حتى يروا العذاب الأليم } [يونس: 97] وهو عذاب البعد وألم الفراق.
ثم أخبر أن إيمان الناس ما قبل عن قوم إلا قوم يونس عليه السلام فقال تعالى: { فلولا كانت قرية آمنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس } [يونس: 98] وذلك لأن أقواما آخرين آمنوا حين عاشوا العذاب وغشيهم بقية مثل: فرعون وقومه، وقوم لوط، وقوم نوح وغيرهم من الأمم فآمنوا حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا، وما آمنوا بالغيب، وإنما الإيمان للقبول هو الإيمان بالغيب كقوله تعالى:
الذين يؤمنون بالغيب
[البقرة: 3] وقوم يونس عليه السلام لما أصبحوا رأوا غيما العذاب كما وعدهم يونس عليه السلام آمنوا وصدقوا يونس فيما وعدهم قبل العيان، وكان إيمانهم بالغيب، وتابوا إلى الله بالصدق،
دعوا الله مخلصين له الدين
[يونس: 22] بالتضرع والابتهال، فاستجاب الله دعوتهم وقبل توبتهم.
ومن أمارة سعادتهم أنه ما جاءهم العذاب بغتة كما جاء لأقوام آخرين كقوله تعالى:
تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون
[يوسف: 107] وأنهم مكنوا حتى التجاؤا إلى الله تعالى ودعوه مضطرين، فإنه من سنة كرمه تعالى أن يجيب المضطر إذا دعا وما يكن غيرهم للالتجاء وخلوص الدعاء، فكان إيمان قوم يونس عليه السلام إيمانا حقيقيا مقبولا كما قال تعالى: { لمآ آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم } [يونس: 98] بالإيمان والأعمال الصالحة، { إلى حين } [يونس: 98] آجالهم.
[10.99-103]
ثم أخبر عن الإيمان أنه بالتوفيق لا بالخذلان بقوله تعالى: { ولو شآء ربك لآمن من في الأرض } [يونس: 99] إلى قوله: { ننج المؤمنين } [يونس: 103]، { ولو شآء ربك } أي: في الأزل، { لآمن من في الأرض كلهم جميعا } أي: قدر لهم الإيمان في الأزل كما قدر لبعضهم وهيأ لهم أسباب الهداية، كما هيأ لبعضهم وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه كما كتب بعضهم، وذلك
" أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة... "
الحديث، كما قال صلى الله عليه وسلم: وكان إصابة النور لمشيئة الله تعالى وهي تهيؤ أسباب الهداية وعبارة من كناية عن الحق، { أفأنت } [يونس: 99] يا محمد، { تكره الناس } [يونس: 99] الذين لم يصبهم النور المرشش.
{ حتى يكونوا مؤمنين } [يونس: 99] بالنور لما علمنا أن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور { وما كان لنفس } [يونس: 100]، مظلمة { أن تؤمن إلا بإذن الله } [يونس: 100]، وإذنه بإصابة النور المرشش.
{ ويجعل الرجس } [يونس: 100] أي: عذاب الحجاب، { على الذين لا يعقلون } [يونس: 100] سنة الله في الهداية والخذلان بأن سنته أن تهدي العقول المؤيدة بنور الإيمان إلى توحيد الله ومعرفته ولا تهدى العقول المجردة عن نور الإيمان إلى ذلك، وهذا رد على الفلاسفة أنهم يحسبون أن للعقول المجردة عن الإيمان سبيلا إلى التوحيد والمعرفة، { قل انظروا } [يونس: 101] بالعقول الخالية عن الإيمان.
{ ماذا في السموت والأرض } [يونس: 101] من الآيات الظاهرة وفي سماوات القلوب وأرض النفوس من الآيات الباطنة هل تنفعكم هذه العقول، وتحصيل الإيمان هو من كتابه الحق ونوره، فإذا علمتم أنه محال فاعلموا أنه { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [يونس: 101] إلا بالكتابة السابقة والنور المرشش أي: لا تغنيهم العقول المجردة عن نور الإيمان عند رؤية الآيات إلا أن تكون مؤيدة بالنور، { فهل ينتظرون } [يونس: 102] ويا أرباب العقول المجردة عن نور الإيمان.
{ إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [يونس: 102] يعني: كانوا ينتظرون ما قدرنا لهم من أمر السعادة والشقاوة حتى نبشرهم لما خلقوا له ويهيئ أسبابه، { قل فانتظروا } [يونس: 102] حصول أسبابه وظهور ما قدرنا لكم، { إني معكم من المنتظرين } [يونس: 102] ليدخل أو إن ما قدرنا لكم، { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } [يونس: 103] لما قدرنا لهم من أمر السعادة عند تهيؤ أسباب السعادة وظهورها من الشقاوة، { كذلك حقا علينا ننج المؤمنين } [يونس : 103] من الشقاوة في كل زمان بانعدام أسبابها وتهيؤ أسباب السعادة.
[10.104-107]
ثم أخبر عن اختلاف الفريقين في الطريق بقوله تعالى: { قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني } [يونس: 104] إلى قوله: { وهو الغفور الرحيم } [يونس: 107] { يأيها الناس } يشير إلى أن الخطاب مع محمد الروح، والناس عبارة عن النفس الناسية وصفاتها؛ فالمعنى: قل يا روح للنفس وصفاتها، إن كنتم في شأن من ديني الذي هو عبادة الله وطاعته ومحبته وطلبه؛ لأن دينكم عبادة الهوى والدنيا وطاعتها ومحبتها وتظنون أن غيركم على دينكم.
{ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } [يونس: 104] من الهوى والشيطان والدنيا وشهواتها، { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } [يونس: 104] يميتكم ويفنيكم يعني: وفاة النفس وصفاتها وفنائها متضمنة في عبودية الله ومحبته وطلبه، وترك طاعة النفس، وعبادة الهوى طلب الدنيا، { وأمرت أن أكون من المؤمنين } [يونس: 104] بلقاء الله والوصول إليه.
{ وأن أقم وجهك للدين } [يونس: 105] أي: استقم في توجهك لله وطلبه، { حنيفا } [يونس: 105] أي: طاهرا من لون الالتفات إلى ما سواه مائلا إليه { ولا تكونن من المشركين } [يونس: 105] يعني: النفس وصفاتها أنها تعبد غير الله، وإن حملنا الآية على ظاهرها في حق النبي صلى الله عليه وسلم ويشير إلى أنه كان مخاطبا عند الفطرة { وأن أقم وجهك للدين } حنيفا إلى الله مخلصا.
{ ولا تكونن من المشركين } [يونس: 105] من طالبي الدنيا وعابدي الهوى في طلب الله تعالى، فكان كما أمر بقوله تعالى: { وأمرت أن أكون من المؤمنين } [يونس: 104] يعني: ولا أكون من المشركين.
{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } [يونس: 106] في الدنيا والآخرة منهما، فإن النفع والضر إلى النافع والضار لا إلى الدنيا والآخرة ونعمتهما ونقمتهما، { فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } [يونس: 106] الذين يضعون النفع والضر في غير موضعهما.
ثم قال تأكيدا لهذا المعنى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } [يونس: 107] لأنه لا يدفع الضر إلا الضار، { وإن يردك بخير فلا رآد لفضله } [يونس: 107] إلا المتفضل به فله النفع والضر والخير والشر، { يصيب به من يشآء من عباده } [يونس: 107] بقدر استحقاقهم على حسب استعدادهم، { وهو الغفور } [يونس: 107] يستر بنور وجهه ظلمة وجود الصديقين، { الرحيم } [يونس: 107] بتقرب برحمته إلى الطالبين الفارقين.
[10.108-109]
ثم أخبر عن هذا الخلق أنه في الاقتداء بالحق بقوله تعالى: { قل يأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم } [يونس: 108] السورة: { قل يأيها الناس } أي: ناسي خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172] وأعلين مرتبتكم إذ كنتم تسمعون خطابي عني بلا واسطة، { قد جآءكم الحق } وهو القرآن وهو الحبل المتين المرسل، { من ربكم } بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم إذا نزل به الروح الأمين على قلبه، { فمن اهتدى } [يونس: 108] إلى الاعتصام به كما قال الله تعالى:
واعتصموا بحبل الله
[آل عمران: 103]. { فإنما يهتدي لنفسه } [يونس: 108] بأن يخلصها من أسفل السافلين، ويعود بها إلى أعلى عليين مقامها؛ ليسمع خطاب ربها بلا واسطة بقوله:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28]، { ومن ضل } [يونس: 108] عن الاعتصام به، { فإنما يضل عليها } [يونس: 108] لأنها تبقى في أسفل الدنيا بعيدة عن الله تعالى معذبة بعذاب البعد وألم الفراق. { ومآ أنا عليكم بوكيل } [يونس: 108] لأعتصم به بوكالتكم، فأوردتكم إلى تلك المقامات والدرجات، وأخلصكم من هذه السفليات والدركات بغير اختياركم، وإنما أنا مأمور بتبليغ الوحي والرسالة والتذكير والموعظة، كقول { واتبع ما يوحى إليك } [يونس: 109] يعني: بالاعتصام به لنفسك وبالتبليغ إلى أمتك، { واصبر حتى يحكم الله } [يونس: 109] بالقبول لأهل السعادة، والرد لأهل الشقاوة لكل ميسر لما خلق له، { وهو خير الحاكمين } [يونس: 109] فيما حكم بقبول الدعوة والقرآن والأحكام والعمل بها لمن سبقت العناية الأزلية، ويرد الدعوة والقرآن والأحكام والعمل بها لمن أدركته الشقاوة الأزلية.
[11 - سورة هود]
[11.1-5]
{ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } [هود: 1] إلى قوله: { إنه عليم بذات الصدور } [هود: 5].
فقوله: { بسم الله } يشير إلى: الذات، { الرحمن } يشير إلى: صفة الجلال، { الرحيم } يشير إلى صفة الجمال، والمعنى: أن هاتين الصفتين قائمتان بذاته جل جلاله، وباقي الأسماء مشتملة على هاتين الصفتين وهما من صفات القهر واللطف، قوله: { الر } يشير بالألف: إلى الله، وباللام: إلى جبريل ، وبالراء: إلى الرسول؛ يعني: ما أنزل الله مع جبريل إلى الرسول، { كتاب أحكمت آياته } يعني: القرآن كتاب أحكمت بالحكم آياته، كقوله تعالى:
ويعلمكم الكتاب والحكمة
[البقرة: 151] فالكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي الحقائق والمعاني والأسرار التي أدرجت في آياته، { ثم فصلت } أي: بينت لقلب العارفين تلك الحقائق والحكم.
{ من لدن حكيم } [هود: 1] أودع فيها بالحكمة البالغة التي لا يقدر غيره أبدا عليها فيها، وهذا سر من أسرار إعجاز القرآن، { خبير } [هود: 1] على تعليمها من لدنه لمن يشاء من عباده كقوله تعالى:
فوجدا عبدا من عبادنآ آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما
[الكهف: 65] يشير إلى أن القرآن ظهرا يطلع عليه أهل اللغة، وبطنا لا يطلع عليه إلا أرباب القلوب الذين أكرمهم الله بالعلم اللدني ورأس الحكمة، وسرها أن يقول: يا محمد لأمتك أمرتم { ألا تعبدوا إلا الله } [هود: 2] أي: لا تعبدوا الشيطان ولا الدنيا ولا الهوى ولا ما سوى الله، { إنني لكم منه نذير } [هود: 2] أنذركم بالقطيعة من الله تعالى أن تعبدوا أو تطيعوا وتحبوا غيره، وعذاب العبد في الجحيم، { وبشير } [هود: 2] أبشركم أن تعبدوه وتطيعوه وتحبوه بالوصول ونعيم الوصال في دار الجلال.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بالدعوة إلى الله من بين الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام - يدل عليه قوله تعالى:
يأيها النبي إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه
[الأحزاب: 45-46].
فقوله تعالى: { ألا تعبدوا إلا الله } يشير إلى ألا تطلبوا غير الله، ثم قال: { وأن استغفروا ربكم } [هود: 3] فيما فرطتم من أيام عمرك في طلب غير الله، وترك طلبه، وتحصيل الحجب، وإبطال الاستعداد الفطري ليكون الاستغفار وتزكية لنفوسكم وتصفية لقلوبكم، { ثم توبوا إليه } [هود: 3] أي: ارجعوا بقدم السلوك إلى الله؛ لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار وهي قوله: { يمتعكم متاعا حسنا } [هود: 3] وهو الترقي في المقامات من السفليات إلى العلويات، ومن العلويات إلى حضرة العلي الكبير، { إلى أجل مسمى } [هود: 3] وهو انقضاء مقامات السلوك، وابتداء درجات الوصول، { ويؤت كل ذي فضل } [هود: 3] ذي صدق واجتهاد في الطلب، { فضله } [هود: 3] في درجات الوصول، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات.
{ وإن تولوا } [هود: 3] أي: أعرضوا عن الطلب والسير إلى الله، { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } [هود: 3] أي: عذاب يوم الانقطاع عن الله الكبير، فإنه أكبر الكبائر وعذابه أعظم المصائب إلى { إلى الله مرجعكم } [هود: 4] طوعا أو كرها، فإن كان بالطوع يتقرب إليكم بجذبات العناية، كما قال:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، وإن كان بالكره يسبحون في النار على وجوههم، { وهو على كل شيء } [هود: 4] من اللطف والقهر، { قدير } [هود: 4].
{ ألا إنهم يثنون صدورهم } [هود: 5] أي: يقلبون؛ لأن ثني صدورهم في الدنيا من نتائج حرمانهم النور المرشش في عالم الأرواح حين رش عليهم من نوره، نزل تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لحال من كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن يثني صدره وطاعة قدر واشتد على نفسه بثيابه لئلا يعرفهم النبوة ولئلا يسمعوا قراءته كراهة لها وهم كفار، { ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم } [هود: 5] ثياب الجسمانية على وجه الروح.
{ يعلم ما يسرون } [هود: 5] من حرمان النور بنقصان الحرمان تحت يثاب القلب، { وما يعلنون } [هود: 5] من ثني الصدور والاستخفاء ما لا يخفى عليه قبل جنس ما شريف، فإنه يظهر المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وله حلو الكلام وحسن المنظر، وله الجنة صلى الله عليه وسلم مجالسة ومحادثة وهو يضمر خلاف ما يظهر والله مطلع على ما في نفسه بقوله تعالى: { إنه عليم بذات الصدور } [هود: 5] بما في الصدور في القلوب الظلمانية الفارغة عن النورانية التي بها الاهتداء منها الاقتداء بالأنبياء - عليهم السلام - والله أعلم.
[11.6-11]
ثم أخبر عن إحاطة علمه بجميع الأشياء من الأموات والأحياء لقوله تعالى: { وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها } [هود: 6] ونشأها لتكفل أيام تفضلا ورحمة، وإنا إلى لطف الوصول تحقيقا لوصول وحملا عن التوكيل فيه إلى قوله: { يستهزءون } [هود: 8].
وقوله: { وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها } [هود: 6] يشير إلى أن كل حيوان خلقه الله تعالى صفة مخصوصة وبجنسه، ولكل جنس منه غذاء مخصوص ذلك الجنس، فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادهم يخلق غذائهم ملائما لأجسادهم ويرزقهم دهم ويرزقهم منه ما يصلح لكل جنس من الحيوان أو يعلم، { مستقرها } [هود: 6] في العدم، ويعلم أنه كيف قدرها مستعدة لقبول تلك الصورة المختصة بها.
ويعلم { ومستودعها } [هود: 6] الذي تؤل إليه عند استكمال صورتها ومعناها المستودع فيها، وللإنسان خاصة يعلم مستقر روحه في عالم الأرواح أكان في الصف الأول، أو في الثاني، أو في الثالث، أو في الرابع، فإنه جاء في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف "
إن الأرواح كانت في أربعة صفوف:
كان في الصف الأول: أرواح الأنبياء وأرواح خواص الأولياء.
وفي الصف الثاني: أرواح الأولياء وأرواح خواص المؤمنين.
وفي الصف الثالث: أرواح المؤمنين والمسلمين.
وفي الصف الرابع: أرواح الكفار والمنافقين، ويعلم مستودع روحه عنه استكمال مرتبة كل نفس منهم من دركات النيران، ودرجات الجنات إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، { كل في كتاب مبين } [هود: 6] أي: عنده في أم الكتاب التي لا تعبر منه من المحو والإثبات.
ثم أخبر عن الإنسان من بين سائر المخلوقات، فإن خلق أصناف المكونات كانت تبعا لوجوده وسببا لاستكماله في السعادة والشقاوة، فقال: { وهو الذي خلق السموت } [هود: 7] سماوات الأرواح والملكوت { والأرض } [هود: 7] أرض الأجسام والأجساد؛ معناه: خلق السماوات والأرض لحكمة بالغة وهي أن يجعلهما مساكن لعباده، وينعمهم بأنواع النعم، ويكلفهم بالأمر والنهي عن المنكر، وأطاع التائب بالجنة ومن دون ذلك بالنار، { في ستة أيام } [هود: 7] في ستة أصناف: جماد ومعدن ونبات وحيوان وإنسان وأرواح، ولكل صنف منها أنواع يطول شرحها.
{ وكان عرشه على المآء } [هود: 7] أي: خلق السماوات والأرض لأنه لم يكن تحت العرش سوى الماء، وكان ذلك الماء من الريح، { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [هود: 7] يعني: هذه الأصناف من المخلوقات مقتضيات لوجود الإنسان وتربيته ومعرفة نفسه ومعرفة خالقه وسعادته وشقاوته، فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحل السعد أو الأشقياء، وإن الابتلاء على قسمين:
قسم للسعداء: وهو بلاء حسن وذلك أن السعيد لا يجعل المكونات مطلبه ومقصده الأصلي بل يجعل ذلك حضرة المولى والرفيق الأعلى، ويجعل ما سوى المولى بإذن مولاه وأمره ونهيه وسيلة إلى القربات وتحصيل الكمالات، فهو أحسن عملا، وقسم للأشقياء: وهو بلاء سيء وذلك أن الشقي يجعل المكونات مطلبه ومقصده الأصلي ويتقيد بشهواتها ولذاتها، ولم يتخلص من نار الحرص عليها والحسرة على فواتها، ويجعل ما أنعم الله عليه من الطاعات والعلوم التي هي ذريعة إلى الدرجات والقربات وسيلة إلى نيل مقاصده الفانية واستيفاء شهواته النفسانية فهو أسوء عمل.
{ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت } [هود: 7] يعني: لئن قلت للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة؛ لتحيوا بالحقيقة، فإن الحياة الحقيقية يكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية، { ليقولن الذين كفروا } [هود: 7] أي: ستروا استعدادهم الفطري يتعلق المكونات ومحبتها وهم الأشقياء، { إن هذآ إلا سحر مبين } [هود: 7] كلام مموه لا أصل له، { ولئن أخرنا عنهم العذاب } [هود: 8] أي: ذوق العذاب وهو ألم البعد؛ لأن العذاب واقع لهم، ولكن لا يذوقون ألمه ولهذا يقال يوم القيامة:
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
[الأحقاف: 34].
{ إلى أمة معدودة } [هود: 8] أي: إلى حين ظهور ذوق العذاب للأمة المعدودة من الأشقياء ليكونوا في جملتهم، { ليقولن } [هود: 8] الأشقياء من غاية غفلتهم ونهاية شقوتهم، { ما يحبسه } [هود: 8] أي: ما يحبس العذاب عنا، { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم } [هود: 8] أي: عذاب البعد حين يأتي كل واحد من الأشقياء باستجلاب ترك المأمورات، واستجلاب إتيان المنهيات لا يفارقهم، { وحاق بهم } [هود: 8] أي: لزمهم ووجب عليهم.
{ ما كانوا به يستهزءون } [هود: 8] جزاء ما كانوا يظنون بالله ظن السوء ويتكلمون به استهزاء، فإن جزاء أعمال العباد من الخير والشر تصل إلى القال في الحال بتصفية القلب عن صد الحجب، والأخلاق الذميمة النفسانية، وتحليته بأنوار شواهد الحق، والأخلاق الحميدة الروحانية والربانية، ولكن لا يرى في الدنيا بعين اليقين وحق اليقين، وإنما يرى في الآخرة إذ قيل لهم:
فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد
[ق: 22]،
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 8].
ثم أخبر عن غفلة الإنسان في الدنيا عن الخير والشر والنفع والضر، ولقوله تعالى: { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } [هود: 9] إلى قوله: { وأجر كبير } [هود: 11]، { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } أي: أذقناهم بعض المقامات من قربنا، وبعض المشاهدات من شواهدنا، { ثم نزعناها منه } [هود: 9] بشؤم بعض خطاياه وزلاته ابتلاء وامتحانا غيرة وعزة لئلا يجترئ في سوء الأدب، { إنه ليئوس } [هود: 9] أي: من خصوصية الإنسان أن ييأس من روح الله ويقنط من رحمته جهلا منه عند ابتلاءه بإصابة ذنب وخطأ، { كفور } [هود: 9] لنعمتنا؛ وذلك لأن من رحمة الله ونعمة على عبده أنه إذا أسرف على نفسه، ثم تاب ورجع إلى ربه وجده غفورا رحيما، فمن ابتلي بذل الحجاب والرد عن الباب كان من شرط عبوديته أن لا ييأس من روح الله ولا يكفر بنعمته كإبليس، بل يرجو رحمة ربه، وتاب من خطاياه، واستغفر من ذنوبه، ويرجع إلى ربه معترفا بظلمة على نفسه كآدم عليه السلام ليجتبيه ربه فيتوب عليه ويهديه.
{ ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته } [هود: 10] أي: أنعمنا عليه بالقبول بعد الرد وأذقناه برد عفونا وحلاوة طاعتنا، { ليقولن ذهب السيئات عني } [هود: 10] صرت معصوما مطهرا مرفوع مدفوع الحجب النقاب فيعجبه نفسه، فينظر إليها بنظر الإعجاب، وينظر إلى غيره بنظر الاحتقار، { إنه لفرح } [هود: 10] بما لديه من إعجاب نفسه
إن الله لا يحب الفرحين
[القصص: 76]، { فخور } [هود: 10] على الأقران ممكور الرحمن.
إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
[النساء: 36]،
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
[الأعراف: 99] ففي كلتي حالتيه مذموم في حال اليأس وكفران النعمة، وفي حال الإعجاب بنفسه وأمنه من مكر الله، { إلا الذين صبروا } [هود: 11] في حالتي الشدة والرخاء والنعماء والضراء، فلا يقنطه في الضراء ولا يعجب في النعماء، { وعملوا الصالحات } [هود: 11] للنعماء صابرين للضراء، { أولئك لهم مغفرة } [هود: 11] في الشكر، { وأجر كبير } [هود: 11] في الصبر.
[11.12-16]
ثم أخبر عن استدعاء الكفار وضيق صدر النبي صلى الله عليه وسلم المختار بقوله: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } [هود: 12] إلى قوله: { ما كانوا يعملون } [هود: 16] قوله: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي: لثقله، { وضآئق به صدرك } [هود: 12] بحمله مثل قوله:
وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
[التوبة: 20]، { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز } [هود: 12] لئلا يطمع في أموالنا، { أو جآء معه ملك } [هود: 12] ليعينه على الجهاد كما جاء جبريل عليه السلام لوطا ليعينه في إهلاك قومه، ثم قال تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم: { إنمآ أنت نذير } [هود: 12] يعني: فما عليك إلا التبليغ والإنذار، { والله على كل شيء وكيل } [هود: 12] من إنزال الكتب وإرسال الملك والهداية؛ لقبول الدعوة والضلالة لرد الدعوة، فيجري عليهم ما يشاء كما يشاء.
{ أم يقولون افتراه } [هود: 13] محمد صلى الله عليه وسلم من نفسه فيما يأمرنا من الجهاد بأموالنا وأنفسنا، وفيما يصعب علينا من الأوامر والنواهي، { قل فأتوا بعشر سور مثله } [هود: 13] مثل القرآن المشتمل على الحكم والمعاني والأسرار والأنوار والدقائق والحقائق والفصاحة والبلاغة والهداية والإعجاز والإرشاد إلى سبيل الرشاد، { مفتريت } [هود: 13] إن كان مفترى، { وادعوا من استطعتم من دون الله } [هود: 13] ليفتري معكم، { والله على كل شيء وكيل } [هود: 12] بأنه مفتري، فإن لما افترى إنسان بقدر إنسان آخر أن يفتري مثله، { فإلم يستجيبوا لكم } [هود: 14] أهل العالم جنسه وأنسه في افتراء مثله.
{ فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله } [هود: 14] لا بعلم الخلق، فإن فيه الأخبار عما سيأتي وهو يعد في الغيب إلا الله، { وأن لا إله إلا هو } [هود: 14] الذي أنزل القرآن وليس إلا آخر إن ينزل مثل ما أنزل الله، { فهل أنتم مسلمون } [هود: 14] بهذه الدلائل والبراهين التي تلقى الإسلام في الصدور، وتقذف الإيمان في القلوب المستعدة لقبول الإيمان.
ثم أخبر عمن يختار الحياة الدنيا وزينة الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث، ولا يختار الآخرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس فقال : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } [هود: 15] في طلب الدنيا وشهواتها؛ أي: في الدنيا، { وهم فيها لا يبخسون } [هود: 15] لا ينقصون في الدنيا بما سعوا في طلبه، ولكن لا يقضون في الآخرة من أجورهم وإن كانت الأعمال الأخروية؛ لأنهم طلبوا بذلك الدنيا وأرادوا بها الفاني وآثروها على الباقي.
{ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } [هود: 16] وإن أشد النيران نار القطيعة، { وحبط ما صنعوا } [هود: 16] أعمال الخير، { فيها } [هود: 16] في الدنيا الدنية، { وباطل ما كانوا يعملون } [هود: 16] من الأعمال فإن كانت حقا؛ لأنهم عملوها لغير وجه الله وهو باطل، وبه يشير إلى كل من عمل عملا يطلب به غير الله بأن عمله ومطلوبه باطل كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن أصدق كلمة قالتها العرب: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".
[11.17-19]
ثم أخبر عن المؤمن وحاله والكافر ومآله بقوله تعالى: { أفمن كان على بينة من ربه } [هود: 17] أي: على كشف وبيان من تجلي صفة من صفات ربه، { ويتلوه شاهد منه } [هود: 17] أي: ويتبع الكشف شاهد من شواهد الحق، فإن الكشف يكون مع الشهود ويكون بلا شهود والمعنى: { أفمن كان على بينة } [هود: 17] على بينة من كشوف الحق وشواهده.
{ أفمن كان على بينة } من العقل والنقل مع احتمال السهو والغلط فيها، وحمل الآية في الظاهر على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه أولى وأحرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان على بينة من ربه، وكان أبو بكر شاهدا يتلوه بالإيمان والتصديق يدل عليه قوله تعالى:
والذي جآء بالصدق
[الزمر: 33] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم،
وصدق به
[الزمر: 33] يعني: أبا بكر - رضي الله وأرضاه - وهو الذي كان تاليه وثانيه في الغار، وتاليه في الإمامة في مرضه صلى الله عليه وسلم حين قال:
" مروا أبا بكر فليصل بالناس "
، وكان تاليه بالخلافة بإجماع الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - حيث قال صلى الله عليه وسلم لإبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -:
" أنتما مني بمنزلة السمع والبصر ".
{ ومن قبله } [هود: 17] أي: قبل أبي بكر رضي الله عنه وشهادته بالنبوة كان، { كتاب موسى } [هود: 17] وهو التوراة، { إماما } [هود: 17] يأتم به قومه بعده، وفي أيام محمد صلى الله عليه وسلم كما ائتم به عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما من أحبار اليهود، ولأنه كان فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة { ورحمة } [هود: 17] أي: الكتاب كان رحمة لأهل الرحمة، وهم الذين يؤمنون بالكتاب وبما فيه كما قال: { أولئك يؤمنون به } [هود: 17] يعني: أهل الرحمة { ومن يكفر به } [هود: 17] أي: بالكتاب وبما فيه { من الأحزاب فالنار موعده } [هود: 17] أي: حزب أهل الكتاب وحزب الكفار وحزب المنافقين، وإن زعموا أنهم مسلمون؛ لأن الإسلام لا يكون بدعوى اللسان فحسب، وإنما يحتاج مع دعوى اللسان إلى صدق الجنان وعمل الأركان.
{ فلا تك في مرية منه } [هود: 17] أي: من أن يكون الكافر بك وبما جئت به من أهل النار؛ لأن الإيمان بك إيمان بي، وإن طاعتك طاعتي، فلا يخطرن ببالك أني من سعة رحمتي لعلي أرحم من كفر بك كائنا من كان، فإني لا أرحمهم لأنهم مظاهر قهري { إنه الحق من ربك } [هود: 17] أي: يكون له مظاهر صفات القهر كما يكون له مظاهر صفات اللطف { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [هود: 17] بصفات لطفه لرجائهم المذموم ولغرورهم المشئوم بكرم الله، فإنه غرهم بالله وكرمه، الشيطان الغرور.
ثم أخبر عن جزاء أهل الافتراء بقوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [هود: 18] إلى قوله:
هم الأخسرون
[هود: 22]، { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [هود: 18] أي: ادعى مع الله رتبة في المكاشفات والمشاهدات والمنازلات والمحادثات والمكالمات، وغيرها من المقامات التي لم يشاهدها وما مست قدمه ساحتها، وإنما يدعي حصولها دعوته النفس وطلبا للرئاسة واستجلاب حظوظ النفس بطريق التزهد والشيخوخة، { أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد } [هود: 18] وهم أولياء الله الذين هم شهداؤه في أرضه يدل عليه قوله تعالى:
وتكونوا شهدآء على الناس
[الحج: 78].
{ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } [هود: 18] يشهدون عليهم بالكذب في الدنيا والآخرة ويلعنوهم، { ألا لعنة الله على الظالمين } [هود: 18] ينزلون بأنفسهم منزل السادة الكبرى، { الذين يصدون عن سبيل الله } [هود: 19] أي يصدون الطالبين عن طلب الحق بادعائهم الشيخوخة ويقطعون سبيل الله على طالبيه بالدعوة إلى أنفسهم، ويمنعونهم أن تمسكوا بذيل إرادة صاحب ولاية يهديهم إلى الحق ويسلكهم في الله تعالى.
{ ويبغونها عوجا } [هود: 19] عن الحق، { وهم بالآخرة هم كافرون } [هود: 19] على الحقيقة؛ لأن من يؤمن بالآخرة، ولقاء الله والحساب والجزاء على الأعمال لا يجري مع الله بمثل هذه المعاملات.
[11.20-24]
{ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } [هود: 20] أي: لم يعجزوني بأن أهلكهم في الدنيا؛ لئلا يبقوا في الأرض متمتعين بها.
{ وما كان لهم من دون الله من أوليآء } ينتفعون بهم في الدنيا والآخرة انتفاع النجاة، بل { يضاعف لهم العذاب } [هود: 20] عذاب الضلال والإضلال، فإنهم ضلوا عن سبيل الله بطلب الدنيا، وأضلوا أهل الإرادة عن طريق الحق باستتباعهم.
{ ما كانوا يستطيعون السمع } [هود: 20] ليسمعوا نصح الله ورسوله، ونصح الناصحين، { وما كانوا يبصرون } [هود: 20] أي: ما كانوا لهم بصر يبصرون بها الحق، ولا سمع يسمعون به الحق عن أهل الحق، { أولئك الذين خسروا أنفسهم } [هود: 21] بأنهم باعوا الدين بالدنيا، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ورضا الله، { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [هود: 21] أي: ما كان لافترائهم حاصل إلا الندامة والغرامة، { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } [هود: 22] لأنهم مؤاخذون بخسرانهم وخسران اتباعهم بحسبانهم أنهم يحسنون صنعا كقوله تعالى:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا
[الكهف: 103].
ثم أخبر عن مثل أهل الهداية وأهل الغواية بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم } [هود: 23]، { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي: آمنوا بطلب الله، وطلبوه على أقدام معاملات صالحات للطلب المفيدات للوصول إلى المطلوب، { وأخبتوا } أي: أنابوا، { إلى ربهم } بالكلية، ولم يطلبوا منه إلا هو واطمأنوا به.
{ أولئك أصحاب الجنة } [هود: 23] أي: أرباب الجنة كما يقال لرب الدار: صاحب الدار وهم مطلوبو الجنة لا طلابها، وإنما هم طلاب الله، { هم فيها خالدون } [هود: 23] طلابا عن الضالين المضلين، والطالبين المجتبين، { مثل الفريقين كالأعمى والأصم } [هود: 24]. ثم أخبر والأعمى الذي لا يبصر الحق حقا والباطل باطلا، بل يبصر الباطل حقا والحق باطلا، والأصم لا يسمع الحق حقا والباطل باطلا، بل يسمع الباطل حقا والحق باطلا، { والبصير والسميع } [هود: 24] البصير الذي يرى الحق حقا ويتبعه، ويرى الباطل باطلا ويجتبيه، والسميع الذي يسمع الحق حقا ويعمل به والباطل باطلا ولا يعمل به، وأيضا البصير من كان الله بصره فبه يبصره، والسميع من كان الله سمعه فيسمع به، ومن أبصر بالله لا يبصر غير الله، ومن سمع بالله لا يسمع إلا من الله، { هل يستويان مثلا أفلا تذكرون } [هود: 24] أي: أفلا تتذكرون يوم الميثاق إن كنتم تسمعون خطاب:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] بالله من الله تصبرونه به وتعرفونه به وتحبونه به.
[11.25-28]
ثم أخبر عن قوم عموا وصموا بقوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا } [هود: 25] أي: نوح الروح، { إلى قومه } [هود: 25] وهم القلب والنفس والبدن، { إني لكم نذير مبين } [هود: 25] أي: منذر بالحقيقة، { أن لا تعبدوا إلا الله } [هود: 26] أي: لا تعبدوا الدنيا وشهواتها والآخرة ودرجاتها، فإن عبادة الله مهما كانت معلولة بشيء من الدنيا والآخرة فإنه عبد ذلك الشيء لا الله على الحقيقة، { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } [هود: 26] وهو يوم القطيعة عن الله، وعذاب الفرقة شديد، وألم البعد عظيم، { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } [هود: 27] وهم القلب والنفس والهوى والطبيعة البشرية.
{ ما نراك إلا بشرا مثلنا } [هود: 27] أي: مخلوقا محتاجا مثلنا، وفيه إشارة أخرى وهي النفس سفلية وطبعها سفلي ونظرها سفلي، والروح علوي ولها طبع علوي، فالروح العلوي من خصائصه دعوة غيره إلى عالمه؛ لأنه بنظره العلوي يرى شرف العلويات وعزتها، ويرى السفليات وخستها وذلتها، فمن طبعه العلوي يدعو السفلي إلى العلويات، والنفس السفلي بنظرها السفلي لا ترى العلويات ولا تميل بطباعها السفلية إلى العلويات؛ بل تميل إلى السفليات وترى بنظرها السفلي كل شيء سفليا فتدعو غيرها إلى عالمها، فمن هاهنا ترى الروح العلوي بنظر المثلية ، فكذلك صاحب هذه النفس يرى صاحب الروح العلوي بنظر المثلية فيقول: { ما نراك إلا بشرا مثلنا } [هود: 27] فلهذا ينظرون إلى الأنبياء ولا ترضيهم النبوة؛ بل يرونهم بنظر الكذب والسحر والجنون، ويرون أتباع الأنبياء بنظر الحقارة كما قالوا: { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين } [هود: 27].
فأما الأراذل من أتباع الروح والبدن وجوارحه الظاهرة، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح، ويستعمل الجوارح بالأعمال الشرعية؛ ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يستعمل بالأعمال الشريعة الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق.
قال: { قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } [هود: 28] برهان من شواهد الحق؛ { وآتاني رحمة من عنده } [هود: 28] موهبة مواهب الحق ونورا يهتدي به، { فعميت عليكم } [هود: 28] وهي أن النفس بمعزل من رؤية الحق وآياته ومواهبه وشواهده، { أنلزمكموها } [هود: 28] أي: أنلزمكم رؤيتها، { وأنتم لها كارهون } [هود: 28] وهي أن النفس كارهة بطبعها لطلب المقامات العلية والأحوال السنية.
[11.29-32]
{ ويقوم لا أسألكم عليه } [هود: 29] أي: على دعوتكم من السفليات إلى العلويات وجوار رب العالمين، { مالا } [هود: 29] مما يميلون إليه من الشهوات السفلية؛ لأنها ليست من مشاربه، { إن أجري إلا على الله } [هود: 29] لما دون مشربي هو الواردات الإلهية والشواهد الربانية، { ومآ أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم } [هود: 29] يشير إلى أن النفس من طبعها أنها تنادي من استعمال البدن وجوارحه في تكاليف الشرع فيستدعي من الروح ويقول: أتريد أن أؤمن بك وأتخلق بأخلاقك، فامنع البدن وجوارحه من استعمال الشرعية فيجتنبها الروح ويقول: { ومآ أنا بطارد } مانع الذين آمنوا من البدن وجوارحه من استعمال الشرعية؛ لأنهم اعتقدوا { إنهم ملاقوا ربهم } بالعين التي هي ناظر بهم وهي مستفادة من رؤية الحق من الأنوار المودعة في أعمال الشريعة.
{ ولكني أراكم } [هود: 29] يا نفس الهوى والطبيعة، { قوما تجهلون } [هود: 29] لا تقبلون بجهلكم دعوة قبلها البدن وجوارحه في العبودية للرجوع إلى حضرة الربوبية والاستعداد بالرؤية.
{ ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم } [هود: 30] أي: من يمنعني من عذاب الله وقهره إن منعت البدن من الطاعة والعبودية، واقتصر على تجرد يقين النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلاسفة وأهل الإباحة بأن يقولوا: إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلية بالأخلاق الحميدة، فلا عبرة للأعمال البدنية كذبوا الله ورسوله فضلوا وأضلوا كثيرا، وإن القول ما قال المشايخ: الظاهر عنوان الباطن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يستقيم إيمان أحدكم حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى تستقيم أعماله "
يعني: أركان الشريعة على جوارحه.
{ أفلا تذكرون } [هود: 30] أن جمعية الباطن واستقامة الإيمان من نتائج استعمال الشريعة في الظاهر، والجمعية الحقيقية في الباطن هي المتولدة من الأنوار المودعة في أركان الشرع تسري إلى الباطن عن استعمال الشريعة في الظاهر وإن الله تعالى أودع النور في الشرع والظلمة في الطبع، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع، فافهم جدا.
{ ولا أقول لكم عندي خزآئن الله } [هود: 31] يعني: المواهب المخزونة المكنونة عند الله في الغيب، { ولا أعلم الغيب } [هود: 31] أي: وما أنا بقادر على ما في الغيب المعنى ليس في هذه الأشياء لأدعوكم إلى نفسي وأدعوكم إلى اتباعي بها، { ولا أقول إني ملك } [هود: 31] لا أحتاج في الاستكمال إلى البدن وجوارحه، { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } [هود: 31] أي: البدن وجوارحه الذين تنظرون إليهم بنظر الحقارة، { لن يؤتيهم الله خيرا } [هود: 31] أي: استعدادا لتحصيل الدرجات العلوية إذ هم مخلوقون من السفليات، { الله أعلم بما في أنفسهم } [هود: 31] أي: في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال.
{ إني إذا لمن الظلمين } [هود: 31] أي: منعتهم عن العبودية، { قالوا ينوح } أي: يا روح، { قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } في طلب الحق ووعدتنا العذاب على رد الدعوة، { فأتنا بما تعدنآ } من العذاب، { إن كنت من الصادقين } [هود: 32].
[11.33-38]
{ قال إنما يأتيكم به الله إن شآء } [هود: 33] فيه إشارة بهم إلى أن وقوع العذاب بمشيئة الله لا بالأعمال الموجبة للوقوع، { ومآ أنتم بمعجزين } [هود: 33] أي: بمعجزي الله أن يأتيكم العذاب في الدنيا والآخرة، { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد } [هود: 34] في الأزل، { أن يغويكم } [هود: 34] إشارة إلى أن نصح الأنبياء ودعوتهم لا يفيد الهداية مع إرادة الله الغواية.
{ هو ربكم } [هود: 34] أي: استعداد،
ما شآء ركبك
[الانفطار: 8] أي: صفة من السعادة التي أراد بكم ربكم، { وإليه ترجعون } [هود: 34] على طريق السعادة والشقاوة كما شاء في الأزل، { أم يقولون } [هود: 35] النفس والهوى والطبيعة، { افتراه } [هود: 35] الروح، هذه المعاني من عنده.
{ قل إن افتريته فعلي إجرامي } [هود: 35] أي: إجرام افترائي، { وأنا بريء مما تجرمون } [هود: 35] من التكذيب، وفيه إشارة إلى أن ذنوب النفس لا تنافي صفاء الروح ولا يكدرها ما كان الروح متبرئا من ذنوب النفس متأسفا على معاملات النفس وتتبع هواها.
ثم أخبر عن أهل الإيمان وأهل الخذلان بقوله تعالى: { وأوحي إلى نوح } [هود: 36] أي: نوح الروح، { أنه لن يؤمن من قومك } [هود: 36] وهم القلب وصفاته، والسر والنفس وصفاتها، والبدن وجوارحه، { إلا من قد آمن } [هود: 36] من خواص العباد وهم: القلب وصفاته، والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه، فأما النفس فإنها لا تؤمن أبدا اللهم إلا نفوس الأنبياء - عليهم السلام - وخواص الأولياء، فإنها تسلم أحيانا دون الإيمان وحال النفوس كأحوال الأعراب كقوله تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات: 14] فإن معدن الإيمان القلوب ومظهر الإسلام النفوس؛ لأن الإسلام الحقيقي الذي قال تعالى فيه:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22] وهو ضوء قد انعكس من مرآة القلب المنور بنور الإيمان، وأما إسلام الأعراب إذ قال تعالى لهم:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات: 14] لم يكن ضوء منعكسا من مرآة القلب المنور، ولكن هو ضوء منعكس من النور المودع في كلمة التوحيد والشهادتين والأعمال الصالحة المشروعة عند إتيانها بالصدق.
فاعلم أن إيمان الخواص ينزل من الحق تعالى بنظر عناية القلوب القابلة للفيض الإلهي بلا واسطة، وإيمان العوام يدخل في قلوبهم من طريق الإقرار باللسان والعمل بالأركان، { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } [هود: 36] نفوس السعداء من أعمال الشر، فإنها لهم كالجسد للإكسير ينقلب ذهبا مقبولا عند طرح الروح عليها، كذلك تنقلب أعمال الشر خيرا عند طرح التوبة عليها.
كما قال تعالى:
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70] ولا تبتئس على نفوس الأشقياء بما كانوا يفعلون؛ لأنها حجة الله على شقاوتهم وبتلك السلاسل يسبحون في النار على وجوههم.
{ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } [هود: 37] أي: اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك، فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها، ويفعل عن حقائقها وأسرارها وحكمها ومعانيها، فتجرد عن آفات الحواس والوهم والخيال والنفس وصفاتها والعقل المنسوب بها؛ لتستحق تزكية النفس تحليها الإلهامات الربانية بفجور النفس وتقواها؛ لتكون سفينة الشريعة معمولة لنجاة راكبها من طوفان النفس والدنيا.
{ ولا تخاطبني في الذين ظلموا } [هود: 37] أي: النفوس فإن الظالم شيمتها،
إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72]؛ لأنها تضع الأشياء في غير موضعها تضع عبادة الحق في هواها والدنيا وشهواتها، وهذا الخطاب يحسم مادة الطمع من إيمان النفوس، وفيها حكمة يطول شرحها، ومنها ترقي أهل الكمالات إلى الأبد، فافهم جدا.
وإن النفس ممكر مكر الحق حتى لا يأمن منها وصفاتها، { إنهم مغرقون } [هود: 37] في طوفان الفتن إلا من سلمه الله منه، والسلامة في ركوب سفينة الشريعة فإن نوح الروح إن لم يركبها كان من المغرقين.
{ ويصنع الفلك } [هود: 38] أي: عند تركيب أركان سفينة الشريعة واستعمالها، { وكلما مر عليه ملأ من قومه } [هود: 38] وهم النفس وهواها وصفاتها، { سخروا منه } [هود: 38] أي: استعمال أركان الشريعة الظاهرة، فإنها بمعزل عن أسرارها وأنوارها، { قال } [هود: 38] يعني: نوح الروح، { إن تسخروا منا } [هود: 38] بجهلكم عن فائدة هذه السفينة، { فإنا نسخر منكم } [هود: 38] إذ نجونا وهلكتم لعلمنا بها وجهلكم بها، { كما تسخرون } [هود: 38] منا بجهلكم بها.
[11.39-44]
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } [هود: 39] أي: عذاب القطيعة أن يبعده عن الحق، { ويحل عليه عذاب مقيم } [هود: 39] أي: عذاب الفرقة الأبدية.
{ حتى إذا جآء أمرنا } [هود: 40] وهو حد البلاغة التي يكون العبد مأمورا بالركوب على سفينة الشريعة، { وفار التنور } [هود: 40] أي: يفور ماء الشهوة من تنور القالب { قلنا احمل فيها من كل } [هود: 40] في سفينة الشريعة، { من كل } صفة من صفات النفس، { زوجين اثنين } [هود: 40] أي: كل صفة وزوجها كالشهوة وزوجها العفة، والحرص وزوجه القناعة، والبخل وزوجه السخاوة، والغضب وزوجه الحلم، والحقد وزوجه السلامة، والعداوة وزوجها المحبة، والتكبر وزوجه التواضع، والتأني وزوجه العجلة.
{ وأهلك } [هود: 40] أي: واحمل معك أهلك صفات الروح { إلا من سبق عليه القول } [هود: 40] من النفس، { ومن آمن } [هود: 40] أي: آمن معك من القلب والسر { ومآ آمن معه } [هود: 40] غالبا، { إلا قليل } [هود: 40] من صفات القلب فيه إشارة إلى أن كل ما كان من هذه الصفات وأزواجها في معزل عن سفينة الشريعة فهو غريق في طوفان الفتن، وهذا رد على الفلاسفة والإباحية فإنهم يعتقدون أن من أصلح أخلاقها الذميمة وعالجها بضدها من الأخلاق الحميدة فلا يحتاج إلى الركوب في سفينة الشرع ولا يعلمون أن الإصلاح والعلاج إذا صدرا من طبيعة لا يفيد أن النجاة؛ لأن الطبيعة لا تعلم كيفية الإصلاح والعلاج ولا مقدار تزكية النفس وتحليتها، وإن كانت الطبيعة واقفة على صلاح النفس وفسادها لعالجها في ابتداء أمرها وما كانت النفس محتاجة إلى طبيب عالم بالأمراض ومعالجتها وهم الأنبياء - عليهم السلام - حيث قال:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته
[الجمعة: 2] ليعلموا المرض من الصحة والداء من الدواء.
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
[الجمعة: 2] فبالتزكية عن الصفات الطبيعية يستحقون تحلية أخلاق الشريعة الربانية.
{ وقال اركبوا فيها } [هود: 41] وهذا الأمر بالركوب يشير إلى كشف سر من أسرار الشريعة وهو أن من ركب سفينة الشرع لا بالطبع وتقليد الآباء والمعلمين لم تنفعه النجاة بالحقيقة، كما ركب المنافقون بالطبع لا بالأمر فلم ينفعهم، وكما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح فلم ينفعه، وإنما النجاة لمن ركب فيها بالأمر وتحفظ أدب المقام بقوله : { بسم الله مجريها ومرساها } [هود: 41] أي: يكون مجراها من الله ومرساها إلى الله، كقوله تعالى:
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم: 42]، { إن ربي لغفور } [هود: 41] بالنجاة لمن ركبها بالأمر لا بالطبع، { رحيم } [هود: 41].
{ وهي تجري } [هود: 42] يعني: سفينة الشريعة، { بهم } [هود: 42] بمن ركبها بالأمر، { في موج } [هود: 42] أي: موج الفتن، { كالجبال } [هود: 42] من عظمتها، { ونادى نوح } [هود: 42] الروح، { ابنه } [هود: 42] كنعان النفس المتولدة بينه وبين القلب، { وكان في معزل } [هود: 42] من معرفة الله وطلبه، { يبني اركب معنا } [هود: 42] سفينة الشريعة { ولا تكن مع الكافرين } [هود: 42] من الشياطين المتمردة والأبالسة الملعونة المطرودة، { قال } [هود: 43] يعني: كنعان النفس، { سآوي إلى جبل } [هود: 43] أي: جبل العقل، { يعصمني من المآء } [هود: 43] من ماء الفتن.
قوله: { قال لا عاصم اليوم من أمر الله } [هود: 43] يعني: إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزول ماء ملاذ الدنيا وفتنها من سماء القضاء لا يتخلص منه بسفينة الشريعة فلا عاصم منه غيرها، وذلك قوله: { إلا من رحم } [هود: 43] أي: رحمه الله بالتوفيق للاعتصام بسفينة الشريعة، { وحال بينهما الموج } [هود: 43] أي: بين كنعان النفس المعتصم بجبل العقل وبين العقل موج الشهوات النفسانية الحيوانية وفتن زخارف الدنيا، { فكان من المغرقين } [هود: 43] يعني: كل نفس لا تعتصم بسفينة الشريعة وتريد أن تعتصم بجبل العقل لتتخلص به من طوفان الفتن المهلكة كما هو حال الفلاسفة لا يتهيأ له متمناه وهو من الهالكين.
ثم أخبر عن حالة من ركب سفينة الشريعة بقوله: { وقيل يأرض ابلعي مآءك } [هود: 44] ماء شهواتها، { ويسمآء } [هود: 44] الفضاء، { أقلعي } [هود: 44] عن إنزال مطر الآفات، { وغيض المآء } [هود: 44] أي: ماء الفتن أي: نقض ظلمتها بنور الشرع وسكنت سورتها، { وقضي الأمر } [هود: 44] أي: انقضى ما كان مقدار من طوفان الفتن للابتلاء والتربية، { واستوت } [هود: 44] أي: سفينة الشريعة، { على الجودي } [هود: 44] وهو مقام التمكين يعني: أيام الطوفان كانت مقام التكوين في معرض الآفات والهلاك، فلما مضت تلك الأيام إلى الأمر إلى مقام التمكن وفيه النجاة والثبات ونيل الدرجات، { وقيل بعدا } [هود: 44] أي: فرقة وهلاكا، { للقوم الظالمين } [هود: 44] الذين ظلموا أنفسهم بالتقاعد عن ركوب الشريعة.
[11.45-49]
ثم أخبر عن آفة الطبيعة مع أهل الشريعة بقوله تعالى: { ونادى نوح } [هود: 45] أي: نوح الروح، { ربه فقال رب إن ابني } [هود: 45] أي: النفس المتولدة من ازدواج الروح والقالب، { من أهلي وإن وعدك الحق } [هود: 45] وذلك أن الله تعالى لما أراد بحكمته أن ينزل الأرواح المقدسة العلوية من أعلى عليين جواره، وقربه إلى أسفل سافلين القلب قالت أرواح الأنبياء والأولياء وخواص المؤمنين: يا ربنا وإلهنا تنزلنا من أعلى مقامات قربك إلى أسفل دركات بعدك، ومن عالم البقاء إلى عالم الفناء، ومن دار السرور واللقاء إلى دار الحزن والبلاء، ومن منزل التجرد والتواصل إلى منزل التوالد والتناسل، ومن رتبة الاصطفاء والاجتباء إلى مرتبة الاجتهاد والابتلاء، فوهبهم الله من عواطف إحسانه بأن ينجيهم وأهليهم من ورطات الهلاك، فكان من قضية حكمته أن يكون لنوح عليه السلام أربعة بنين: ثلاثة منهم مؤمنون وواحد كافر، فكذلك حكم أن يكون للروح أربعة بنين: ثلاثة منهم مؤمنون وهم: القلب والسر والعقل، وواحد كافر وهو النفس، فكما كان ثلاثة من بني نوح معه في السفينة، وكان واحد في معزل منه، فكذلك ثلاثة من بني الروح معه كانوا معه في سفينة الشريعة وكان واحد وهو كافر النفس في معزل منه من الدين والشريعة، فلما أشرف ولده الكافر على الغرق في بحر الدنيا وطوفان الآخرة.
{ رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } [هود: 45] يعني: فإن أنجيته أو أغرقته أنت أعدل العادلين فيما تفعل؛ لأنك حكيم وأحكم الحكماء لا تخلو أفعالك من حكمة وعدل أنت أعلم بها.
{ قال } [هود: 46] أي: الرب تعالى للروح، { ينوح إنه ليس من أهلك } [هود: 46] أي: من أهل دينك وملتك والأهلية على نوعين: أهلية القرابة والدين وما نفى أهلية القرابة لتولدها من الروح ثم أظهر علة نفي الأهلية الدينية فقال: { إنه عمل غير صالح } [هود: 46] أي: خلق الأمارية بالسوء وهذه سيرتها أبدا، ثم أدب الروح آداب أهل القربة فقال: { فلا تسئلن ما ليس لك به علم } [هود: 46] أي: علم حقيقي بأن يجوز أهل القربة على بساط القرب هذا الانبساط { إني أعظك } [هود: 46] يا روح القدس { أن تكون } [هود: 46] أي: على البساط بهذا الانبساط.
{ من الجاهلين } أي: من النفوس الجاهلة الظالمة، وفيه إشارة إلى أن الروح العالم العلوي يصير بمتابعة النفس وهواها جاهلا سفلي الطبع دنيء الهمة، { قال } [هود: 47] أي: الروح { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [هود: 47] من التماس نجاة النفس الممتحنة بآفات الدنيا وشهواتها من طوفان الفتن، { وإلا تغفر لي } [هود: 47] تؤدبني بأنوار المغفرة { وترحمني } [هود: 47] على عجزي عن الاهتداء بغير هداك { أكن من الخاسرين } [هود: 47] يشير إلى الرحمة وهي المانعة للروح من الخسران.
{ قيل ينوح } [هود: 48] أي: نوح الروح، { اهبط } [هود: 48] إنزل من سفينة الشريعة وتحمل تكاليفها عند مفارقة الجسد وخلاص طوفان النفس، { بسلام منا وبركات عليك } [هود: 48] السلام: هو النجاة، والبركات: هي الدرجات، { وعلى أمم ممن معك } [هود: 48] في سفينة الشريعة من القلب والسر والنفس والعقل، { وأمم } [هود: 48] أي: النفوس التي لم تكن مع الروح في سفينة الشريعة، { سنمتعهم } [هود: 48] من الحظوظ النفسانية الدنيوية، { ثم يمسهم منا } [هود: 48] من بعدنا، { عذاب أليم } [هود: 48] تمنعها من الحظوظ، وتمرنها على الانقياد.
ثم أخبر أن هذه الإشارات في تربية الروح والنفس في بيان حالها وفساد أمرها أمور غيبية فقال: { تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك } [هود: 49] يا محمد، { ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هذا } [هود: 49] أي: من قبل أن أشرنا بها إليك وعلمناكها، { فاصبر } [هود: 49] على تربية الروح والنفس على ما أشرنا به إليك، { إن العاقبة } [هود: 49] أي: الخاتمة الحسنة، { للمتقين } [هود: 49] لمن اتقى عن طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى بسفينة الشريعة عن تشييد هذه القاعدة.
[11.50-53]
وتأكيد هذه الفائدة بقوله تعالى: { وإلى عاد أخاهم هودا } [هود: 50] القصة، { وإلى عاد أخاهم هودا } [هود: 50] يشير بهود إلى القلب، وبعاد إلى النفس وصفاتها، فإن القلب أخو عاد النفس؛ لأنها قد تولد من ازدواج الروح والقالب، والمعنى : إنا أرسلنا هود القلب إلى عاد النفس كما أرسلنا نوح الروح إلى قومه، وبهذا المعنى يشير إلى أن القلب قابل لفيض الحق تعالى، كما أن الروح قابل لفيضه.
{ قال يقوم اعبدوا الله } [هود: 50] يشير إلى أن النفس وصفاتها أن يتوجهوا لعبودية الحق وطلبه، { ما لكم من إله غيره } [هود: 50] أي: ليس لشيء دونه استحقاق معبوديتكم ومحبوبيتكم ومطلوبيتكم، { إن أنتم إلا مفترون } [هود: 50] فيما تتخذون الهوى والدنيا معبودا ومطلوبا، { يقوم لا أسألكم عليه أجرا } [هود: 51] أي: على تبليغ ما أنزلنا إليكم؛ لا أطلب منكم أجرا من ثناء الخلق والجاه عندهم، وأمثال هذا مما يتعلق بمشارب النفس؛ لأنه ليس من مشرب القلب، { إن أجري إلا على الذي فطرني } [هود: 51] مما يتعلق بلوامع النورانية وطوالع الروحانية وشواهد الربانية، فإنها من مشارب القلوب، { أفلا تعقلون } [هود: 51] أن مشربي غير مشربكم.
{ ويقوم استغفروا ربكم } [هود: 52] أي: اطلبوا منه المغفرة، فإنها صفة من صفاته، { ثم توبوا إليه } [هود: 52] أي: بمعاونة صفة المغفرة ارجعوا إلى حضرة الربوبية، فإن السير إليه لا يمكن إلا به كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
سبحان الذى أسرى بعبده
[الإسراء: 1].
{ يرسل السمآء عليكم مدرارا } [هود: 52] أي: إذا رجعتم به إليه يرسل عليكم مطر أصناف الألطاف الإلهية وأنوار الفيض الربانية مدرارا من سحاب العناية، { ويزدكم قوة } [هود: 52] التأييد الرباني، { إلى قوتكم } [هود: 52] من أنوار الإيمان، { ولا تتولوا } [هود: 52] عن الحق وطلبه، { مجرمين } [هود: 52] في طلب غيره يشير إلى صدق التوجه وثبات قدم الطلب، { قالوا } [هود: 53] أي: النفس وصفاتها.
{ يهود } [هود: 53] أي: يا قلب، { ما جئتنا ببينة } [هود: 53] برهان نستدل به على ما يقول إنه الحق وهو طريق الحق، وبه يتوصل إلى الحق والبرهان، واردات ترد على القلوب من علام الغيوب فتعجز النفس عن تكذيبها لصدمات سطواتها، وكل نفس لم يأت القلب إليها بهذا البرهان لا تتابع القلب، وتقول: { ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا } [هود: 53] من الشهوات والمستلذات الحيوانية.
{ عن قولك } [هود: 53] أي: بمجرد قولك من غير التأييد الرباني ودلائل البرهان، { وما نحن لك بمؤمنين } [هود: 53] بمصدقين بالبرهان.
[11.54-60]
{ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [هود: 54] أي: ما نقول في سبب دعوتنا إلى غير مشاربنا لك إلا بعض مشتهياتنا تبعك في الطلب وعز عليك تحصيله، فأردت أن تترك مشاربنا ونطلب مشاربك، { قال } [هود: 54] أي: القلب في الجواب، { إني أشهد الله واشهدوا } [هود: 54] أنتم أيضا، { أني بريء مما تشركون } [هود: 54] { من دونه } [هود: 55] أي: بريء من المشارب كلها غير مشرب يسقيني فيه الله عز وجل من شراب طهور يطهرني من لوث الحدث.
ثم قال: { فكيدوني جميعا } [هود: 55] يا نفس الهوى والشيطان والدنيا، فيها إشارة إلى أن النفس وأخواتها في كيد القلب على الدوام والقلب المؤيد بالتأييد الرباني لا يبالي بكيدهم، وأنه متوكل على الله في جميع الحالات متظهر به حتى يقول: { ثم لا تنظرون } [هود: 55] فيما تقدرون في كيدي وعداوتي، { إني توكلت على الله ربي وربكم } [هود: 56] أي: هو الذي يربيني على طلب الحق، ويربيكم على طلب الباطل، { ما من دآبة } [هود: 56] تدب في طلب الخير والشر، { إلا هو آخذ بناصيتهآ } [هود: 56] يجرها بها إلى الخير والشر وهي في قبضة قدرته مذللة.
{ إن ربي على صراط مستقيم } [هود: 56] في إصلاح أهل الخير وإفساد أهل الشر، وفيه إشارة أخرى: { إن ربي على صراط مستقيم } يدل طالبيه به عليه بقوله: من طلبه فليطلبه على صراط مستقيم الشريعة على أقدام الطريقة، فإنه يصل إليه بالحقيقة، وأيضا يعني: الصراط المستقيم هو الذي ينتهي إليه لا إلى غيره كقوله:
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم: 42]، { فإن تولوا } [هود: 57] طالبو غير الله عن طلب الله قل يا قلب.
{ فقد أبلغتكم } [هود: 57] بالإلهام، { مآ أرسلت به إليكم } [هود: 57] من دعوتكم إلى الحق أي: فإن لم تستجيبوا لي فيما دعوتكم إليه وهو طلب الكمال لاستحقاق الخلافة التي خلق الخلق لأجلها كما قال:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30] يجعل الله تعالى خلافته في مستحقيها، { ويستخلف ربي قوما } [هود: 57] مستحقين لها، { غيركم } [هود: 57] وهو الروح والسر والقلب.
{ ولا تضرونه شيئا } [هود: 57] أي: لمن يجعله الله خليفة، { إن ربي على كل شيء حفيظ } [هود: 57] ليحفظه في خصوصيته السيئة لا يقدر أحد على تغييرها، فلا يقدروا أهل الشقاوة على تغيير سعادة أهل السعادة، ولا أهل السعادة قادرون على تغير شقاوة أهل الشقاوة؛ لأن كلها محفوظة بحفظ الحق.
{ ولما جآء أمرنا } [هود: 58] بالشقاوة لأهل الشقاوة، { نجينا هودا } [هود: 58] القلب، { والذين آمنوا معه } [هود: 58] من الروح وصفاته والبدن وجوارحه، { برحمة منا } [هود: 58] بعناية سابقة، { ونجيناهم } [هود: 58] من الشقاوة، { من عذاب غليظ } [هود: 58] فيه إشارة إلى أن العذاب نوعان: خفيف وغليظ، فالخفيف: هو عذاب الشقاوة المقدرة قبل خلق الخلق، والغليظ: هو عذاب الشقي بشقاوة معاملات الأشقياء التي تجري عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود.
ثم أخبر عن عاد النفس المخلوقة على الجحود لا تغيرها الآيات وشهودها، فقال: { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله } [هود: 59] أي الروح والقلب والسر، فإنهم رسل الحق إلى النفس والبدن، { واتبعوا أمر كل جبار } [هود: 59] على الحق، { عنيد } [هود: 59] عاند الحق؛ لأنها مجبولة عليها لسر عظيم وشأن جسيم، { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } [هود: 60] بالطرد عن الحضرة إلى طلب شهوات الدنيا ونصيب وجدانها وتعب فقدانها، { ويوم القيامة } [هود: 60] بالبعد والخسران والحرمان وعذاب النيران، { ألا إن عادا } [هود: 60] أي: النفس وصفاتها، { كفروا ربهم } [هود: 60] بأن آمنوا بغيره وطلبوه وأعرضوا عن الله وطلبه، { ألا بعدا } [هود: 60] وطردا وفرقة وقطيعة وحسرة، { لعاد } [هود: 60] النفس، { قوم هود } [هود: 60] أي: هم قوم لم يقبلوا نصيحة هود القلب، وما تركوا مشاربهم الدنيوية الفانية وتركوا مشارب القلب الدينية الباقية.
[11.64-68]
ثم أخبر عن تأكيد هذه المعاني وتشييد هذه المباني بقوله تعالى:
وإلى ثمود أخاهم صالحا
[هود: 61] والإشارة فيه ما سبق ذكره في قصة هود وعاد إلى قوله: { ويقوم هذه ناقة الله لكم آية } [هود: 64] يشير بالناقة إلى ما أخرج الله له بضرب عصا صالح القلب وهي عصا الذكر على صخرة السر من ناقة عشراء، وهو حكمة الله تعالى تضع في الحال فصيل تفصيل الدين وأحكامه، وهي آية يستدل بها على حكيم هذه الحكمة.
{ فذروها تأكل في أرض الله } [هود: 64] أرض البشرية عشب صفاتها ونبات خواطرها ودواعيها وتشرب من مشارب ثمود النفس شهواتها يوم وردها عند غلبات واردات ويحلبون لبنها لبن الأسرار والمعاني مثل الذين كنتم تشربون من ماء الشهوات يوم عيشها؛ يعني: عند عدم غلبات الواردات، وهو عبارة عن حال الصحو والسكر والستر والتجلي.
{ ولا تمسوها بسوء } [هود: 64] أي: لا تنحروا ناقة الحكمة بحربة معاملات الجهالة، { فيأخذكم عذاب قريب } [هود: 64] وهو عذاب الجهل الذي يحصل في الحال عند انعدام الحكمة، فإنه إيذاء أردأ من الجهل، { فعقروها } [هود: 65] يشير إلى ثمود النفس الأمارة بالسوء فمسوها بسوء، { فقال } [هود: 65] صالح القلب، { تمتعوا في داركم } [هود: 65] أي: الدنيا، فإنها مسكن النفس ومقرها.
{ ثلاثة أيام } [هود: 65] اليوم الأول: هو يوم الجهل وفيه تصفر الوجوه، واليوم الثاني: هو يوم الغفلة وفيه تحمر الوجوه، واليوم الثالث: هو يوم الدين والختم على القلوب وفيه تسود الوجوه، { ذلك وعد غير مكذوب } [هود: 65] لأن وقوعه بالبعد في الحال، { فلما جآء أمرنا } [هود: 66] بالعذاب.
{ نجينا صالحا } [هود: 66] أي: صالح القلب، { والذين آمنوا معه } [هود: 66] من الروح والسر وغيرهما من البدن وجوارحه، { برحمة منا } [هود: 66] وهي توفيق أعمال النجاة، { ومن خزي يومئذ } [هود: 66] أي: نجيناهم من الهلاك هلاك الدين ومن خزي يوم القيامة، { إن ربك } [هود: 66] الذي يربيك يا قلب، { هو القوي } [هود: 66] على تربيتك وحفظك من آفة الهلاك والفساد، { العزيز } [هود: 66] في تقوية أهل العزة وتربيتهم.
{ وأخذ الذين ظلموا } [هود: 67] وضعوا عبادة الله ومحبته في غير موضعها من الدنيا والهوى وهو ثمود النفس وصفاتها، { الصيحة } [هود: 67] وهي صاعقة القهر وفيها صوت كل شيء في الأرض أي: صوت تعلق كل شيء من الدنيا وشهواتها جمعت فعادت صاعقة القهر، { فأصبحوا في ديارهم } [هود: 67] وهي أسفل السافلين الطبيعة.
{ جاثمين } [هود: 67] هالكين؛ { كأن لم يغنوا فيهآ } [هود: 68] كأن لم يفهموا فيها سالمين، { ألا إن ثمود } [هود: 68] ثمود النفس، { كفروا ربهم } [هود: 68] ستروا الحق بالباطل.
{ ألا بعدا } [هود: 68] طردا ولعنا، { لثمود } [هود : 68] النفس عن الحضرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم إشارة أي: خلال النفس وصفاتها بعذاب البعد عن صاعقة القهر إلا ما كان في حرم الله تعالى وهو الشريعة يعني: النفس وصفاتها وإن لم تكن آمنت ولكن التجأت إلى حرم الشريعة، آمنت من عذاب البعد فيكون بقدر التجائها في القرب وجوار الحق وهو الجنة، ولهذا قال للنفس المطمئنة:
فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 29-30].
[11.69-76]
ثم أخبر عن مظهر اللطف بقوله تعالى: { ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى } [هود: 69] الجليل إلى الخليل وبشرى سلام الجليل، { قالوا سلاما } [هود: 69] أي: نبلغك سلاما قولا من رب رحيم، { قال سلام } [هود: 69] أي: علينا سلام الجليل وهذا كما كان حال الحبيب ليلة أسري به قال:
" " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين "
والفرق بين الحبيب والخليل أن سلام الحبيب بلا واسطة وسلام الخليل بواسطة الرسل، وفي سلام الحبيب زيادة رحمة الله وبركاته، { فما لبث أن جآء بعجل حنيذ } [هود: 69] تكرمة لسلام الخليل وإعزازا لرسله.
{ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة } [هود: 70] ما كان خوف إبراهيم خوف البشرية على نفسه، فإنه حين رمي بالمنجنيق إلى النار ما خاف على نفسه وقال:
أسلمت لرب العالمين
[البقرة: 131] وإنما كان خوفه خوف الرحمة والشفقة على قومه يدل عليه قوله تعالى: { قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط } [هود: 70] أي: ما أرسلنا إلى قومك فكن طيب النفس.
{ وامرأته قآئمة } [هود: 71] أي: بالخدمة عليهم، { فضحكت فبشرناها بإسحاق } [هود: 71]، فهذه البشارة لها ما كانت بشارة تتعلق ببشريتها وحيوانيتها، وما كان ضحكها لسرور بحصول الابن الذي هو من زينة الدنيا، وإنما كان ضحكها لسرور نجاة القوم من العذاب، وكان بشارتها نبوة ابنها إسحاق بعد إبراهيم، { ومن ورآء إسحاق يعقوب } [هود: 71] أي: بعد إسحاق يكون يعقوب نبيا، وتكون النبوة في عقبهم إلى عهد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون من عقب إسماعيل عليه السلام { قالت يويلتى ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب } [هود: 72] أي: على خلاف العادة وعلى خلاف سنة الله التي قد خلت من قبل.
{ قالوا أتعجبين من أمر الله } [هود: 73] أي: من قدرة الله، فإن لله تعالى سنة وقدرة، فيجري أمر العوام بمشيئته وأمر الخواص إظهارا للآية والإعجاز بقدرته فأجرى أمركم بقدرته وهي { رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت } [هود: 73] بيت النبوة كرامة لكم.
{ إنه حميد } [هود: 73] على ما يجرى في السنة والقدرة، { مجيد } [هود: 73] فيما ينعم به على العوام والخواص، { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } [هود: 74] أي: الخوف من هلاك قومه، { وجآءته البشرى } [هود: 74] بنجاتهم، { يجادلنا في قوم لوط } [هود: 74] لدفع الهلاك عنهم جدال الضعيف مع القوي لا جدال القوي مع الضعيف جدال المحتاج الفقير مع الكريم الغني وجدال الرحمة والمعاطفة.
وطلب النجاة للضعفاء والمساكين الهالكين يدل عليه قوله تعالى: { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } [هود: 75] أي: كان جلاله لحلمه تأوهه عليهم وأنه مع ذلك منيب راجع إلى الله في جميع أحواله أي: ما تكون بعض أحواله مشوبا بعلة راجعة إلى حفظ نفسه، بل كلها الله وبالله وإلى الله، { يإبرهيم أعرض عن هذآ } [هود: 76] أي: عن هذا الجلال بالحلم والرحمة على غير أهل الرحمة، { إنه قد جآء أمر ربك } [هود: 76] أي: حكم ربك وقضائه الأزلي فإنه لا راد لحكمة وقضائه، { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } [هود: 76] بدعا أحد ولا شفاعة أحد وإنك مأجور مشوب فيما جادلتنا لنجاتهم، وهذا كمال النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" اشفعوا فلتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء ".
[11.77-80]
{ ولما جآءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا } [هود: 77] أي: أحزنه مجيئهم وضاق قلبه؛ لأنهم جاءوا لإهلاك قومه كان مجيئهم إبراهيم بشارة لنجاة قومه من الهلاك، وللوط هما وحزنا لهلاك قومه بالعذاب، { وقال هذا يوم عصيب } [هود: 77] لأنه كان فيه قطع الرجاء عن إيمان القوم واليأس عن إصلاح حالهم، { وجآءه قومه يهرعون إليه } [هود: 78] غافلين عن حالهم جاهلين بما لهم.
{ ومن قبل كانوا يعملون السيئات } [هود: 78] الموجبة للهلاك والعذاب فجاءوا مسرعين مستقبلي العذاب، وطلبوا من بيت النبوة من أهل الطهارة معاملة سوءتهم نجباته نفوسهم؛ ليستحقوا بذلك كمال الصفات وسرعة العذاب.
{ قال } [هود: 78] لوط عليه السلام حجة عليهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب، { يقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } [هود: 78] كان يفدي أولاده لدفع الهلاك عن قومه، { فاتقوا الله } [هود: 78] بترك هذه المعاملة السوء، { ولا تخزون في ضيفي } [هود: 78] بإظهار معاملتكم، { أليس منكم رجل رشيد } [هود: 78] يقبل نصحي ويتوب إلى الله بالصدق فينجيكم الله من العذاب ببركته.
{ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } [هود: 79] يستحق به تزويجهن، { وإنك لتعلم ما نريد } [هود: 79] من هذه المعاملة السوء وهو في الحقيقة طلب ما أعد الله لنا في الأزل من قهره؛ يعني: الهلاك بالعذاب.
{ قال } [هود: 80] يعني: لوط، { لو أن لي بكم قوة } [هود: 80] واستطاعة لأردكم عن طلب الهلاك وأمنعكم من العذاب، { أو آوي إلى ركن شديد } [هود: 80] وهو الالتجاء إلى الله تعالى؛ ليؤيدني بالنصرة في منعكم من الهلاك لفعلت، ولكن حكم الله وقضائه سابق وأمره نافذ.
[11.81-83]
{ قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } [هود: 81] يعني: هذه القوم لا يصلون إليك وإلى مقام تريد أن توصلهم إليه، { فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد } [هود: 81] إلى ما هم فيه من الدنيا وزينتها ومتاعها أراد به تجرد الباطن عن الدنيا وما فيها، فإن التجارة من الهلاك والعذاب منوط به، { إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم } [هود: 81] لأنها تلتفت إلى ما يلتفتون إليه قومك فيصيبها من العذاب والهلاك ما أصابهم. { إن موعدهم الصبح } [هود: 81] صبح يوم وفاتكم، { أليس الصبح بقريب } [هود: 81] وهو الموت. { فلما جآء أمرنا } [هود: 82] أي: حكمنا الأزلي، { جعلنا عاليها } [هود: 82] أي: عالي الدنيا، { سافلها } [هود: 82] يوم القيامة، { وأمطرنا عليها } [هود: 82] أي: على قرى الذوات الخبيثة السفلية، { حجارة من سجيل } أي: من سجين جهنم، { منضود } [هود: 82] معدا.
{ مسومة } [هود: 83] باسم صاحبها، { عند ربك } [هود: 83] وهي إشارة إلى قساوة القلب التي تقسو القلوب، فهي كالحجارة وأشد قسوة، وهي مقدرة تمطر هي كل قلب مقدار ما قدر له يدل عليه قوله: { وما هي من الظالمين ببعيد } [هود: 83] أي: وما تلك القساوة في قلب الظالمين ببعيد، فإن الظلم من نتائج تلك القساوة.
[11.84-88]
ثم أخبر عن فعال ناقصي المكيال بقوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا } [هود: 84] القصة قوله: { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله } يشير إلى أن جميع الأنبياء - عليهم السلام - كانت كلمتهم في التوحيد واحدة لأن الإله واحد وهي الدعوة إلى الواحد بالمعبودية والمعرفة والطلب، ولأنه { ما لكم من إله غيره } [هود: 84] تعبدونه وتحبونه وتطلبونه غيره { ولا تنقصوا المكيال والميزان } [هود: 84] أي: مكيال المحبة وميزان الطلب، فإن للمحبة مكيال أو هو عداوة ما سوى الله تعالى كما قال الخليل عليه السلام عند إظهار الخلقة:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، فإنك إن تحب أحدا أو شيئا مع الله فقد نقصت في مكيال محبة الله، وإن للطالب ميزانا وهو السير على قدمي الشريعة والطريقة كما قبل خطوتان وقد وصلت، فإن خطوت خطوة دونهما فقد نقصت من الميزان.
{ إني أراكم بخير } [هود: 84] وهو حسن الاستعداد في طلب الحق، { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } [هود: 84] وهو عذاب فساد الاستعداد وبطلان طلب غير الحق، ودوام إحاطته يوم يكمل فينادي: { ويقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } [هود: 85] أي: بالقسط على الله في تعظيم أمره وعلى الخلق في الشفقة عليهم، { ولا تبخسوا الناس أشيآءهم } حقوقهم من النصيحة وحسن المعاشرة في الله والله، { ولا تعثوا في الأرض } [هود: 85] أرض وجودكم، { مفسدين } [هود: 85] استعدادكم بمخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة، { بقيت الله } [هود: 86] أي: بقاؤكم بإبقاء الله، { خير لكم } [هود: 86] مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان، { إن كنتم مؤمنين } [هود: 86] مصدقين بهذه المقامات والكرامات.
{ ومآ أنا عليكم بحفيظ } [هود: 86] أي: بحافظ عليكم حسن استعدادكم، فإنما على أن أنصح لكم بحفظ الاستعداد وصرفه في طلب الحق، فإني أدلكم على كيفية الطلب والوجدان، { قالوا يشعيب أصلوتك } [هود: 87] في طلب الحق بزعمك، { تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ } [هود: 87] من الدنيا وشهواتها وتمتعاتها، { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } [هود: 87] من الترك والإنفاق على الفقراء والإخراج من أيدينا ونحن بها من غيرنا، { إنك لأنت الحليم الرشيد } [هود: 87] فيما تأمرنا أي: ما أنت بحليم ولا رشيد فيما ترشدنا إليه، { قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } [هود: 88] دلالة وهداية من ربي، { ورزقني منه } [هود: 88] أي: من نور هدايته، { رزقا حسنا } [هود: 88] نورا تاما أرى صلاح الأمور وفسادها، فآمركم بطلب الحق، وأنهاكم عن طلب غير الحق.
{ ومآ أريد أن أخالفكم } [هود: 88] فيما أأمركم به، { إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح } [هود: 88] إصلاح ما أفسدتم من حسن الاستعداد في طلب غير الحق، { ما استطعت } [هود: 88] أي: بقدر علمي وبذل جهدي، { وما توفيقي } [هود: 88] في الإصلاح، { إلا بالله } [هود: 88] بعونه وهدايته والتوفيق اختصاص العبد بعناية أزلية ورعاية أبدية، { عليه توكلت } [هود: 88] فيما اختصني به في الأزل، { وإليه أنيب } [هود: 88] فيما قدر لي لا إلى غيره، والتوكل على ثلاثة أوجه:
توكل المبتدئ: وهو ترك الأسباب في طلب المعاش.
وتوكل المتوسط: وهو ترك طلب المعاش في طلب العيش مع الله.
وتوكل المنتهي: وهو استهلاك الوجود في وجود الله وإفناء الاختيار في اختيار الله؛ ليبقى في هويته بلا هو متصرفا في الأسباب به، ولا يرى التصرف والأسباب إلا لمسبب الأسباب.
[11.89-93]
{ ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح } [هود: 89] من العذاب، وذلك إن في طبيعة الإنسان مركوزة من صفات الشيطنة الإباء والاستكبار، ومن طبعه أنه حريص على ما تبع كان آدم عليه السلام لما منع من أكل الشجرة حرص على أكلها، فلهاتين الصفتين إذا أمر بشيء أبى واستكبر، وإذا نهى عن شيء حرص على إتيانه لا سيما إذا صدر الأمر والنهي من إنسان مثله، فإن طاعة الله هينة القبول بالنسبة إلى طاعة المخلوق؛ ولأن في الطاعة ذلة وهوانا وكسرا للنفس، وأن ما يحتمل المخلوق من خالقه أكثر مما يحتمله من مخلوق مثله، ولهذا السر بعث الله الأنبياء - عليهم السلام - وأمر الخلق بطاعتهم، فقال:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
[النساء: 59] فمن كان موفقا من الله تعالى بالعناية الأزلية يأمر بما أمر به، وينتهي عما نهي عنه، ويطيع الرسل فيما جاءوا به أخرجته الطاعة من ظلمات صفات المخلوقة إلى نور صفاته الخالقية، ومن أدركته الشقاوة في الأزل تداركه الخذلان، ووكل إلى نفسه وطبعه، فلا يطيع الله ورسوله، ويتمرد عن قبول الدعوة، ويستكبر على الرسول ويعاديه، ويزد بمعاداته ما أمره الله به فيصيبه قهر الله وعذابه.
{ مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد } [هود: 89] أي: وما معاملة قوم لوط من معاملتكم وذنوبهم من ذنوبكم ببعيد؛ لأن الكفر كله من جنس واحد وصفات الكفر قريب بعضها من بعض، { واستغفروا ربكم } [هود: 90] من صفات الكفر ومعاملته وبدلوها بصفات الإسلام ومعاملته، فإنها تزكية النفوس عن الصفات الذميمة، { ثم توبوا } [هود: 90] أي: ارجعوا، { إليه } [هود: 90] على قدمي الشريعة والطريقة سائرين منكم به؛ ليحليكم بتحلية الحقيقة وهي الفناء عنكم والبقاء به، { إن ربي رحيم } [هود: 90] السائرين منهم إليه بالتوفيق والتيسير، { ودود } [هود: 90] محب لمحبة هاد لطالبيه، { قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } [هود: 91] في ذلك؛ لأنهم كانوا من القلب وفقهه بمعزل لهم
قلوب لا يفقهون بها
[الأعراف: 179].
{ وإنا لنراك فينا ضعيفا } [هود: 91] أي: ضعيف الرأي ناقص العقل؛ وذلك لأنه كما يرى العاقل السفيه ضعيف الرأي يرى السفيه العاقل ضعيف الرأي، { ولولا رهطك لرجمناك } [هود: 91] يشير إلى أن الجاهل بصير برؤية الخلق أعمى برؤية الحق، فهؤلاء قد رأوا رهط شعيب، وأنهم حفظته ومنعتهم عنهم وما قالوا: إن الله تعالى حافظه وناصره، ولهذا قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم:
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله
[الحشر: 13]، ولهذا المعنى، قالوا: { ومآ أنت علينا بعزيز } [هود: 91] يشير إلى من كان على الله تعالى عزيزا، فإنه ليس على الجاهل بعزيز، { قال يقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا } [هود: 92] أي: جعلتم الخلق من أعينكم فتفزعون منهم، وجعلتم الله وراء ظهوركم فلا تفزعون منه، { إن ربي بما تعملون } [هود: 92] في ظاهركم وبما تسترون في باطنكم، { محيط } [هود: 92] علمه فيجازيكم به.
{ ويقوم اعملوا على مكانتكم } يعني: إذ لا تقبلوا نصيحتي وتعلمون بالطبيعة اعملوا على تمكنكم بالخذلان، { إني عمل } [هود: 93] بالتوفيق في الله، { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } [هود: 93] وهو عذب البعد والقطيعة، { ومن هو كذب } [هود: 93] في دعواه من بيننا، { وارتقبوا } [هود: 93] سخط الله فيما ادعيتم، { إني معكم رقيب } [هود: 93] رقيب مرتقب رضاء الله فيما ادعيت.
[11.94-99]
{ ولما جآء أمرنا } [هود: 94] الذي قدرناه في الأزل من العذاب والهلاك لقوم شعيب.
{ نجينا شعيبا } [هود: 94] كما كان قضاؤنا في الأزل من العذاب والهلاك والكفر والضلال، { والذين آمنوا معه برحمة } [هود: 94] أزلية صدرت، { منا } [هود: 94] فيهم، { وأخذت الذين ظلموا } [هود: 94] أي: ظلموا على أنفسهم بالإباء والاستكبار عن قبول دعوة الأنبياء، { الصيحة } [هود: 94] وهي اجتماع أصوات صفاتهم الذميمة المهلكة، { فأصبحوا في ديارهم } [هود: 94] في دركاتهم السفلية التي اطمأنوا بها، { جاثمين } [هود: 94] كأنهم الجيف بلا أرواح، { كأن لم يغنوا فيهآ } [هود: 95] أي: كأن لم يكونوا قط في عالم الأرواح؛ لأنهم أفسدوا الاستعداد الروحاني الفطري في طلب الدنيا، واستيفاء شهواتها والاستكبار عن قبول الحق، { ألا بعدا لمدين } [هود: 95] لتمردهم عن الحق وتماديهم في الباطن، { كما بعدت ثمود } [هود: 95] عن الحق.
ثم أخبر عن حال أهل القرب وحال أهل البعد بقوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين } [هود: 96] إلى قوله:
غير منقوص
[هود: 109]، { ولقد أرسلنا موسى } [هود: 96] أي: الروح، { بآياتنا } [هود: 96] أي: بصفاتنا، فإن من صفات الله أنه حي، وأنه سميع بصير متكلم قادر عالم مريد باق بالروح بهذه الصفات كلها موصوف، والصفات لله تعالى ذاتية قديمة وقائمة بذاته جل جلاله والروح محدثة مخلوقة قائمة بقيومية الله تعالى، { وسلطان مبين } [هود: 96] وهو استيلاء الروحانية على البشرية، { إلى فرعون وملئه } [هود: 97] أو إلى فرعون النفس وصفاتها البهيمية والسبعية والشيطانية.
{ فاتبعوا أمر فرعون } أي: فاتبعوا الصفات { أمر فرعون } النفس؛ لأن أمرها ملائم لصفاتها، { ومآ أمر فرعون برشيد } لأن فرعون النفس الأمارة بالسوء، { يقدم قومه } أي: يتقدم النفس صفاتها، { يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود } [هود: 98] أي: موضع ورودهم هو البعد من الله تعالى، والمورود وهو النفس وصفاتها؛ يعني: الورد مناسب لحال المورود، ولو كان لهذا المورود خير من هذا المكان ظالما؛ لأنه وضع الشيء في غير وضعه، { وأتبعوا في هذه لعنة } [هود: 99] أي: اتبع النفس وصفاتها مع استحقاقها لهذا الورد اليوم في الدنيا بمعاملاتها السيئات طردا وبعدا وحجبا على حجبها، { ويوم القيامة } [هود: 99] من نتائج هذه المعاملات وجزائها أيضا اتبعوا لعنة عذابا فوق العذاب وهو ذوق ألم العذاب وحسرة الحرمان وحسرات فوت التدارك { بئس الرفد } [هود: 99] وهو ما أعطوا من اللعنة ونتائجها، { المرفود } [هود: 99] المعطى.
[11.100-107]
{ ذلك من أنبآء القرى } [هود: 100] أخبارا عن أحوال الأخيار والأرواح والنفوس الساكنة فيها، { نقصه عليك } [هود: 100] نخبرك؛ لتكون عالما بأحوال، { منها قآئم } [هود: 100] من الأجساد بعضها قائم قابل لتداول ما فات عنها وإصلاح ما أفسدت النفس منها، { وحصيد } [هود: 100] أي: ومن الأجساد ما هو محصود بمحصد الموت ما يؤمن عند التدارك، { وما ظلمناهم } [هود: 101] فيما أعطيناهم من استعداد الروحاني والجسماني والحيواني، فإنه آله تحصيل كآلات لا يدركها الملائكة المقربون، { ولكن ظلموا أنفسهم } [هود: 101] باستعمالها على وفق الطبيعة على بدل حكم الشريعة فافسدوا استعدادهم في عبادة طاغوت الهوى ووثن الدنيا وأصنام شهواتها.
{ فما أغنت عنهم آلهتهم } [هود: 101] من الهوى والدنيا وشهواتها، { التي يدعون } [هود: 101] يعبدون، { من دون الله من شيء } [هود: 101] من سخط الله ولعنته.
{ لما جآء أمر ربك } [هود: 101] أي: الأمر الذي قدر لهم في الأزل من الطرد والإبعاد، { وما زادوهم } [هود: 101] أي: الآلهة وعبادتها، { غير تتبيب } [هود: 101] غير تخسير وهو خسارة عبادتها وحسرة ترك عبادة الله وفوات تلك السعادة، { وكذلك } [هود: 102] أي: كما أخذ الروح والنفس بما أفسدوا استعدادهم كذلك، { أخذ ربك إذا أخذ القرى } [هود: 102] وهي الأجساد والأبدان، { وهي ظالمة } [هود: 102] بأعمالها على وفق طبع النفس الأمارة بالسوء من السيئات البدنية على خلاف الأحكام الشرعية، { إن أخذه أليم } [هود: 102] للأبدان، { شديد } [هود: 102] على النفوس والأرواح بالبعد والخذلان.
{ إن في ذلك } [هود: 103] أي: فيما ذكر من إفساد الاستعداد والأخذ به، { لآية } [هود: 103] دلالة يستدل بها على الحق والتوحيد، { لمن خاف عذاب الآخرة } [هود: 103] أي: المؤمن؛ لأن غير المؤمن لا يخاف عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بها وهي أن الله تعالى لا يجير الظالم؛ ولكن يمهله ويكله إلى نفسه يظلم على نفسه وعلى نفس غيره فيؤاخذه الله تعالى بظلمه عدلا منه؛ ولكنه إذا نظر بفضله ورحمته إلى عبد بنظر العناية يزيل بنور العناية ظلمات أمارية نفسه فتصير نفسه مأمورة لأمر الشريعة فلا يعمل إلا للنجاة من عذاب الآخرة ونيل الدرجات والقربات في الآخرة.
{ ذلك } [هود: 103] يعني: الآخرة، { يوم مجموع له الناس } [هود: 103] أي: يجمع فيه بين الأرواح والنفوس والأجساد، { وذلك يوم مشهود } [هود: 103] فيه أعمال العباد تغيرها وتصيرها كل واحد يشاهد أعماله وقارئ كتابه { وما نؤخره } [هود: 104] إلى اليوم المشهود، { إلا لأجل معدود } [هود: 104] وقت معلوم.
{ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } [هود: 105] يعني: يوم لا تتكلم فيه النفوس؛ لظهور سطوة آثار القهر إلا بإذن الله، { فمنهم شقي } [هود: 105] محكوم عليه بالشقاوة في الأزل، { وسعيد } [هود: 105] محكوم عليه بالسعادة في الأزل، وعلامة الشقاوة: الإعراض عن الحق وطلبه، والإصرار على المعاصي من غير ندم عليها، والحرص على الدنيا حلالها وحرامها، وأخذ الدين بالهوى والتقليد والبدع، وعلامة السعادة: الإقبال على الله وطلبه، والاستغفار عن المعاصي، والتوبة إلى الله، والقناعة باليسير من الدنيا، وطلب الحلال منها، واتباع السنة، واجتناب البدعة، ومخالفة الهوى.
{ فأما الذين شقوا } [هود: 106] في الأزل، { ففي النار } [هود: 106] نار الحسرة والقطيعة، { لهم فيها زفير } [هود: 106] من الحسرة { وشهيق } [هود: 106] من القطيعة، { خالدين فيها } [هود: 107] في نار القطيعة، { ما دامت السموت } [هود: 107] سماوات الأرواح والقلوب، { والأرض } [هود: 107] أرض النفوس والبشرية، { إلا ما شآء ربك } [هود: 107] من السعداء من الأشقياء؛ ذلك لأن أهل الشقاء على ضربين: شقي وأشقى، فيكون من أهل التوحيد شقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد، فالمعاصي تدخله النار، والتوحيد يخرجه منها، ويكون من أهل الكفر والبدعة أشقى يصليه كفره وتكذيبه إلى النار فيبقى فيها خالدا مخلدا.
{ إن ربك فعال لما يريد } [هود: 107] من الأزل وهو أخرج أهل التوحيد عن النار وأخلد أهل الكفر فيها.
[11.108-113]
{ وأما الذين سعدوا ففي الجنة } [هود: 108] في جوار الحق وقربه، { خالدين فيها ما دامت السموت } [هود: 108] سماوات الأرواح والقلوب، { والأرض } [هود: 108] أرض النفوس والبشرية به يشير إلى أن الأرواح والقلوب والنفوس باقيات إلى الأبد.
{ إلا ما شآء ربك } [هود: 108] من السعداء؛ وذلك لأن أهل السعادة على ضربين: سعيد وأسعد، فالسعيد من يبقى في الجنة ودرجاتها وغرفاتها العليين بحب العبادة والعبودية، والأسعد من يدخل الجنة، ويعبر عن درجاتها إلى مقامات القربة بحسب المعرفة والتقوى والمحبة كقوله تعالى:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" " إن أهل الجنة ليرون أهل العليين كما يرى أحدكم الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمرو منهم في أنعم مكان " فمن كان من أهل الجنة وأهل العليين فلهم خلود في الجنة، ومن كان في مقام مقعد الصدق فهو في أنعم مقام من الجنة فلهم الخروج من الجنة بجذبات العناية إلى عالم الوحدة "
والسر في هذا أن السالك يسلك بقدم المعاملات إلى أعلى مقام الروحانية من حضيض البشرية وهو بعد في مقام الاثنينية وهو سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، فلا عبور عن هذا المقام للملك المقرب ولا للنبي المرسل إلا برفرف جذبة العناية فإنها توازى عمل الثقلين وبها يصل العبد إلى عالم الوحدة فافهم جدا.
فما أبقى هناك الدخول والخروج والاستثناء بقوله: { إلا ما شآء ربك } راجع إلى هذا المقام ولهذا قال: { عطآء غير مجذوذ } [هود: 108]؛ لأنه لا انقطاع له ولا تغيير فيه.
{ فلا تك } [هود: 109] يا محمد، { في مرية مما يعبد هؤلاء } [هود: 109] يعني: أهل الدنيا فإنهم يعبدون الهوى، وبالهوى يعبدون ما يعبدون من دون الله ؛ لأنهم أهل التقليد لا أهل التحقيق.
{ ما يعبدون } [هود: 109] الهوى، { إلا كما يعبد آباؤهم } [هود: 109]، { من قبل } بالطبع، { وإنا لموفوهم نصيبهم } [هود: 109] الذي قدرنا لهم في قسمة الأزل من السعادة والشقاوة والقرب والبعد واللطف والعنف، { غير منقوص } [هود: 109] مما قسمناه لهم مثقال ذرة، ولو اجتمعت الجن والإنس على أن ينقصوا منها شيئا لم يقدروا.
ثم أخبر عن اختلاف طبائع الإنسان من أهل العناية والخذلان بقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } [هود: 110] إلى قوله: { لا تنصرون } [هود: 113] قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } يشير به إلى أن كتاب الله هو محل النفوس وهو الصراط المستقيم إلى الله تعالى، والنفوس مختلفة فمنها قابلة للاستقامة على الصراط، ومنها غير قابلة لها، فالمؤمن بالكتاب، والفاعل به هو قابل للاستقامة، والكافر به هو غير قابل للاستقامة، { ولولا كلمة سبقت } [هود: 110] في الأزل، { من ربك } [هود: 110] لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر، وتأخيرهما لاستكمال السعادة والشقاوة لنفسها ولغيرها في الأزل، { لقضي بينهم } [هود: 110] بالعذاب والهلاك يعني: بين أهل السعادة والشقاوة.
{ وإنهم لفي شك } [هود: 110] أي: إنما أخرنا القضاء؛ لأنهم في شك، { منه } [هود: 110] من الكتاب هل ينزل من الله أم لا؟ فبالشك تكمل شقاوتهم في مدة حياتهم، { مريب } [هود: 110] لغيرهم في هذه المدة؛ المعنى: إنما أخرناهم ليكملوا في الشقاوة أنفسهم ويكملوا فيها غيرهم، { وإن كلا } [هود: 111] أي: الكامل في الشقاوة والمكمل، { لما ليوفينهم ربك أعمالهم } [هود: 111] التي يكمل بها الشقاوة، { إنه بما يعملون } [هود: 111] من الأعمال المكلمة للشقاوة، { خبير } [هود: 111] لأنه قدرها في الأزل لهم.
ثم خصص أمة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها قابلة للاستقامة فقال: { فاستقم } [هود: 112] أي: استقامة، { كمآ أمرت } [هود: 112] في الأزل بأمر التكوين، { ومن تاب معك } [هود: 112] أي: كما آمن من آمن، ورجع إلى الله { معك } فيه إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج عن طريق الاستقامة إلا ما اختص منها بالأمر عند التكوين بالاستقامة فإنها قابلة للاستقامة، وهي التي تهدي إلى الصراط المستقيم.
ثم قال: { ولا تطغوا } كما أمرهم بالاستقامة نهاهم عن الطغيان فما طغوا، { إنه بما تعملون } أي: بما تعملون في الدنيا، { بصير } [هود: 112] به في الأزل؛ لأنه جعل في جبلتكم مركوزا، وهيأنا لكم أسباب إخراجه منكم، ذلك تقدير العزيز العليم، { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } [هود: 113] وهذا خطاب أيضا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه عند الأمر بالتكوين لا جرم ما ركنوا إلى الذين ظلموا.
وفي قوله: { فتمسكم النار } [هود: 113] إشارة إلى أن الركون إلى الظالمين موجب لعذاب النار لكائن من كان.
{ وما لكم من دون الله من أوليآء } [هود: 113] يشير إلى أن الله تعالى هو ناصر أوليائه، ووليهم في الأزل إلى الأبد لا غيره؛ يعني: إن استنصرتم من غير الله الذي هو ناصركم لا ينصركم الله، { ثم لا تنصرون } [هود: 113] من غير الله؛ لأن إن النصر إلا من عند الله.
[11.114-119]
ثم أخبر عن سيئات الأولياء؛ لأنها تذهبها حسناتهم بقوله تعالى: { وأقم الصلاة طرفي النهار } [هود: 114] إلى قوله: { أجمعين } [هود: 119] بقوله تعالى: { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل } يشير إلى أن مرور ساعات عمر الإنسان وأوقاته عليه، مقبول له وهو في الخسران منه إلا أن يكون مردودها عليه في الأعمال الصالحة يدل على هذا قوله تعالى:
والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر: 1-3] وذلك لأن تعلق الروح النوراني العلوي بالجسد الظلماني السفلى موجب لخسران الروح إلا أن تتداركه أنوار الأعمال الصالحة الشرعية فتربي الروح وترقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية؛ بل إلى الوحدانية الربانية وتدفع عنه ظلمة الجسد السفلى كما أن إلقاء الحبة في الأرض موجب لخسران الحبة إلا أن يتداركها الماء فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، فكذلك خص الله تعالى من أوقات عمر العبد طرفي النهار.
{ وزلفا من اليل } [هود: 114] من الليل من أيام عمره بأن يصرف في إقامة الصلاة، وبه يشير إلى إدامة الذكر والطاعة والعبادة في أكثر النهار، ويصرف منه مقدار ما كان له ضرورة من الحاجات الإنسانية، فيها، { وزلفا من اليل } [هود: 114] أي: ويصرف بعض ساعات الليل على قدر الصدق في الطلب في الذكر والطاعة، ويستريح في بعضها؛ لاسترواح القوى البشرية، ودفع كلالة الحواس ليقوم في أثناء الليل منشاطا للذكر والطاعة.
{ إن الحسنات يذهبن السيئات } [هود: 114] أي: أنوار الحسنات وهي الأعمال الصالحة والذكر في المراقبة في طرفي النهار وزلفا من الليل يذهبن ظلمات سيئات الأوقات التي تصرف في قضاء الحوائج النفسانية الإنسانية وما يتولد من الاشتغال بها، { ذلك } [هود: 114] أي: الذي أشرنا إليه، { ذكرى للذاكرين } [هود: 114] عظة لأهل الذكر
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
[آل عمران: 191] أي: رقود أجسادهم ذاكرا أرواحهم، { واصبر } [هود: 115] يعني: أيها الطالب الصادق والفاسق والوامق على صرف الأوقات في طلب المحبوب بدوام الذكر، ومراقبة القلب، وترك الشهوات، ومخالفة الهوى والطبيعة.
{ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [هود: 115] أي: سعي الطالبين كما قال الله تعالى:
" ألا من طلبني وجدني "
؛ لأن من سنة كلامه قوله تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، { فلولا } [هود: 116] فهلا، { كان من القرون من قبلكم أولوا بقية } [هود: 116] من أرباب النظر وأصحاب القلوب، { ينهون } [هود: 116] أهل الكفر والطغيان والفسوق، { عن الفساد } [هود: 116] أي: عن إفساد استعدادهم، { في الأرض } [هود: 116] أي: في الصرف لشهوات أرض البشرية.
{ إلا قليلا } [هود: 116] من الأنبياء وأتباعهم الذين كانوا ينهونهم فلا يتناهون عما نهوا عنه، { ممن أنجينا منهم } [هود: 116] أي: من جملتهم، { واتبع الذين ظلموا } [هود: 116] إذ لم يتناهوا عما نهوا عنه، { مآ أترفوا فيه } [هود: 116] من شهوات الدنيا ولذاتها، { وكانوا مجرمين } [هود: 116]؛ إذ لم يتناهوا عما نهوا عنه، فأهلكوا جميعا به يشير إلى أن كل قوم لم يكن فيهم آمر بالمعروف وناه عن المنكر من أرباب الصدق وهم مجتمعون على الفساد؛ إذ لا يأتمرون بالأمر بالمعروف ولا يتناهون بالنهي عن المنكر فإنهم هالكون.
{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } [هود: 117] أي: بغير استحقاق الهلاك، { وأهلها مصلحون } [هود: 117] والصلاح من يصرف استعداده الفطري في طلب الحق، ولا يفسده مع طلب غيره ، { ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة } [هود: 118] في طلب الحق، { ولا يزالون } [هود: 118] الخلق { مختلفين } [هود: 118] في الطلب، فمنهم: من طلب الدنيا، ومنهم: من طلب الآخرة، ومنهم: من طلب الحق تعالى، { إلا من رحم ربك } [هود: 119] فأخرجهم بنور رحمته عن ظلمة طبيعتهم الجسمانية والروحانية إلى نور طلب الربوبية، فلا يكونون طلابا للدنيا والعقبى؛ بل يكونون طلاب جمال الله وجلاله.
{ ولذلك خلقهم } [هود: 119] أي: ولطلب الله تعالى خلقهم، وأكرمهم بحسن استعدادهم للطلب، وفضلهم على العالمين بفضيلة الوجدان، { وتمت كلمة ربك } [هود: 119] في الأزل؛ إذ قال:
" هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي "
، { لأملأن جهنم من الجنة } أي: من الأرواح المستهلكة المتمردة وهم: إبليس وأتباعه، { والناس } [هود: 119] وهم: النفوس الأمارات بالسوء، { أجمعين } [هود: 119] كلهم الفريقين المعرضين عن الله تعالى وطلبه.
[11.120-123]
ثم أخبر عن الاعتبار في الأخبار بقوله تعالى: { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [هود: 120] إلى آخر السورة، قوله تعالى: { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } ليشير إلى أن تثبيت القلوب على الدين، والطاعة إلى الله تعالى لا إلى غيره؛ لأنه قال: { نثبت به فؤادك } وإنه يكون منه بالواسطة وبغير الواسطة: فأما الواسطة: فهاهنا كما قال الله تعالى: { ما نثبت به فؤادك } أي: بالأنباء عن أقاصيص الرسل، وكقوله تعالى:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت
[إبراهيم: 27].
وأما بغير الواسطة كقوله تعالى:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
[الإسراء: 74] وهذا التثبيت من إنزال السكينة في قلبه بغير واسطة كقوله تعالى:
فأنزل الله سكينته على رسوله
[الفتح: 26]، وكقوله تعالى:
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمنا مع إيمنهم
[الفتح: 4].
فاعلم أنه كما يزاد الإيمان بالسكينة فكذلك يزداد اليقين على اليقين باستماع الأنبياء - صلوات الله على نبينا وعليهم - والأمم السالفة لمن يثبت الله به قلبه، ومن لم يثبت الله قلبه يزداد شكه على الشك وكفره على الكفر؛ لأن الله تعالى أودع في كل شيء لطفه وقهره، فمن فتح عليه لطفه أغلق عليه باب قهره، ومن فتح عليه باب قهره أغلق عليه باب لطفه، ومن فتح الله عليه باب قهره ولطفه جاءه الحق من هذا الباب، كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { وجآءك في هذه الحق } [هود: 120] وفيه إشارة إلى أنك لست بقادر أن تجيء في هذا الحق؛ لأن أبواب اللطف والقهر مغلوقة والمفتاح بيد الفتاح ولا يقدر غير الفتاح أن يفتحه، فإذا هو الذي يفتح باب لطفه في كل شيء على العبد ويجيء بكرمه فيه بلا كيف وأين.
{ وموعظة } [هود: 120] أي: وفي هذا المعنى موعظة، { وذكرى للمؤمنين } [هود: 120] ليطلبوا الحق من باب لطفه في كل شيء، ولا يطلبوه من باب قهره، { وقل للذين لا يؤمنون } [هود: 121] بطلب الحق من باب لطفه ووجدانه.
{ اعملوا على مكانتكم } [هود: 121] في طلب القاصد من باب قهر الحق، { إنا عاملون } [هود: 121] في طلب الحق من باب لطفه، { وانتظروا } [هود: 122] قهر الحق من باب قهره، { إنا منتظرون } [هود: 122] وجدان الحق من باب لطفه.
{ ولله غيب السموت والأرض } [هود: 123] أي: من غاب عنكم مما أودع من لطفه في سماوات القلوب، ومن قهره في أرض النفوس، { وإليه يرجع الأمر كله } [هود: 123] بأن يفتح على أهل السعادة أبواب قلوبهم؛ ليصلوا إلى لطفه وبلطفه يصلوا إليه، ويفتح على أهل الشقاوة أبواب نفوسهم؛ ليصلوا إلى قهره وبقهره يحتجبوا عن الوصول والوصال، { فاعبده } [هود: 123] أيها الطالب المحق ولا تعبد غيره في الدنيا والآخرة لتجده.
{ وتوكل عليه } [هود: 123] في الطلب لا على طلبك، فإنك إن كنت بك طالبا له لا تجده، وإن كنت به طالبا له فهو الواجد والمطلوب والطالب الموجود، { وما ربك بغافل عما تعملون } [هود: 123] إلى الأبد؛ لأنه قدركم وما تعملون قبل أن خلقكم وما تعملون، ويعلم ما تعملون، وأنتم لا تعلمون ما تعملون.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-5]
{ الر } [يوسف: 1] يشير بالألف إلى الله، وباللام إلى جبريل، وبالراء إلى الرسول؛ أي: ما أنزل الله تعالى على لسان جبريل على قلب الرسول، { تلك آيات الكتاب المبين } [يوسف: 1] أي: تلك دلالة كتاب المحبوب؛ ليهدي أعجب البيان طريق الوصول إلى المحبوب، { إنآ أنزلناه } [يوسف: 2] أي: كتابنا، { قرآنا عربيا } [يوسف: 2] أي: كسوناه للقراءة كسوة العربية.
{ لعلكم تعقلون } [يوسف: 2] حقائق معانيه وأسراره ومبانيه وإشاراته بما أزهى لغتكم كما أنزلنا التوراة على أهلها بلغة العبري، والإنجيل بلغة السرياني يشير به إلى أن حقيقة كلام الله تعالى منزهة في كلاميته عن كسوة الحروف والأصوات واللغات؛ ولكن الخلق يحتاجون في تعقل معانيه إلى كسوة الحروف واللغات.
{ نحن نقص عليك أحسن القصص } [يوسف: 3] أي: أحسن قصة تدل المحب على طريق الرجوع والسلوك والوصول إلى المحبوب، وإن كان في كل قصة من القصص التي ذكرناها في القرآن نوع من هذا، ولكن قصة يوسف أحسنها وأجملها وأكملها وأتمها مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان، ورجوعه إلى الله ووصوله إليه؛ وذلك لأنها تشير إلى معرفة تركيب الإنسان من الروح والقلب والسر والنفس، وخواصه الخمسة الظاهرة، وقواه الستة الباطنة، والبدن وابتلائه بالدنيا، وغير ذلك إلى أن يبلغ الإنسان أعلى مراتبه كما سيجيء شرحه في مواضعه إن شاء الله تعالى وحده.
{ بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن } [يوسف: 3] أي: ندلك بنور إيحاء القرآن إليك على أحسنية هذه القصة، { وإن كنت من قبله } [يوسف: 3] أي: قبل نور الإيحاء، { لمن الغافلين } [يوسف: 3] عن هذه الحقائق والدقائق؛ لأنها لا تدرك إلا بنور الوحي.
{ إذ قال } [يوسف: 4] عالم الأرواح، { يوسف } [يوسف: 4] القلب، { لأبيه } [يوسف: 4] يعقوب الروح، { يأبت إني رأيت } [يوسف: 4] بنور الروحانية، { أحد عشر كوكبا } [يوسف: 4] وهي: الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والقوى الستة من المتفكرة والمتذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحس المشترك، فإن كل واحد من هذه الحواس والقوى كوكب مضيء يدرك به معنى مناسب به وهم إخوة يوسف القلب؛ لأنهم تولدوا بازدواج يعقوب الروح وراحيل النفس كلهم بنواب واحد، { والشمس } [يوسف: 4] شمس الروح والنفس والحواس والقوى.
{ قال يبني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } [يوسف: 5] يشير إلى أن للحواس والقوى حسدا على القلب لما أودع الله فيه من استدارة قبول الفيض الإلهي ما لم يودع فيها، فلها كيد على حسب حسدها مع القلب بتقوية الشيطان وأعوانه، { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } [يوسف: 5].
[12.6]
ثم عبر يعقوب بالروح عن رؤيا يوسف القلب بقوله: { وكذلك يجتبيك ربك } [يوسف: 6] عن سائر المخلوقات فضلا عن أقربائك، { ويعلمك من تأويل الأحاديث } [يوسف: 6] وهو العلم اللدني الذي يختص به القلب، { ويتم نعمته عليك } [يوسف: 6] بأن يتجلى لك ويستوي عليك إذ القلب عرش حقيقي لله تبارك وتعالى دون ما سوى الله كما قاله تعالى:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
وهذا الاستحقاق كان ليوسف القلب مختصا بكمال الحسن.
{ وعلى ءال يعقوب } [يوسف: 6] أي: إذا تجلى الله تبارك وتعالى للقلب تنعكس أنوار التجلي على مرآة القلب عن جميع المتولدات في الروح، كالحواس والقوى وغير ذلك من آل يعقوب الروح، { كمآ أتمهآ على أبويك من قبل } [يوسف: 6] وهما: { إبراهيم } [يوسف: 6] السر، { وإسحاق } [يوسف: 6] الخفي، وبهما يستحق القلب قبول فيض التجلي، ولله في هذا ألطاف خفية لا يطلع عليها إلا صاحب وقت مع الله لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، { إن ربك عليم } [يوسف: 6] بهذه الأحوال، { حكيم } [يوسف: 6] فيما يضعها عند المخصوصين بها.
[12.7-9]
ثم أخبر عن آيات قصة يوسف وأخواته يشير إلى: { لقد كان في يوسف } [يوسف: 7] القلب، { وإخوته } [يوسف: 7] الأحد عشر: الحواس الخمس والقوى الستة، { آيات } [يوسف: 7] دلالات، { للسائلين } [يوسف: 7] أي: السائلين طريق العبور إلى الله وهم الطالبون الصادقون، { إذ قالوا } [يوسف: 8] أي: الحواس والقوى في حقيقة الأمر.
{ ليوسف } [يوسف: 8] أي: يوسف القلب، { وأخوه } [يوسف: 8] بنيامين وهو الحس المشترك، فإن له من الحواس والقوى اختصاصا بالقلب، { أحب إلى أبينا } [يوسف: 8] وهو الروح، { منا } [يوسف: 8] وذلك لأن القلب هو عرش الروح ومحل استوائه عليه الحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش.
{ ونحن عصبة } [يوسف: 8] أي: عشرة من الحواس القوى، { إن أبانا } [يوسف: 8] يعني: الروح، { لفي ضلال مبين } [يوسف: 8] بأن يختار الاثنين على العشرة، { اقتلوا يوسف } [يوسف: 9] أي: يوسف القلب بسكين الهوى، فإن موت القلب يعني: في الهوى، وهو السم القاتل للقلب ، { أو اطرحوه أرضا } [يوسف: 9] أي: أرض البشرية، { يخل لكم وجه أبيكم } [يوسف: 9] يعني: بعد موت القلب يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى؛ لتحصيل شهواتها ومراداتها، { وتكونوا من بعده } [يوسف: 9] بعد موت القلب، { قوما صالحين } [يوسف: 9] لتنعم الحيواني والنفساني.
[12.10-11]
{ قال قآئل منهم } [يوسف: 10] وهو يهوذا المفكرة، { لا تقتلوا يوسف } [يوسف: 10] القلب والقوة، { وألقوه في غيبت الجب } [يوسف: 10] جب القالب وسفل البشرية، { يلتقطه بعض السيارة } [يوسف: 10] أي: سيارة الجولات النفسانية، { إن كنتم فاعلين } [يوسف: 10] فاعلين به.
{ قالوا يأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف } [يوسف: 11] يشير إلى كيد الحواس والقوى بيوسف القلب، فإن القلب ما دام في نظر الروح مراقب له غير مشغول باستعمال الحواس والقوى في اللعب والهوى والتمتع من مراتع البهيمي على صحته وسلامته، فاستدعى أكواس والقوى من الروح أن يرسل يوسف القلب معهم إلى مراتعهم الحيوانية؛ ليتمتعوا به في غيبة يعقوب الروح وهو لا يأمنهم عليه لأنه واقف على مكيدتهم وأنهم يدعون نصحه وحفظه عن الآفات كما قالوا: { وإنا له لناصحون } [يوسف: 11].
[12.12-13]
{ أرسله معنا غدا يرتع } [يوسف: 12] في مراتعنا، { ويلعب } [يوسف: 12] في ملاعبنا وهي الدنيا، فإنها لعب ولهو، { وإنا له لحافظون } [يوسف: 12] عن فتنة الدنيا وآفاتها، { قال } [يوسف: 13] يعقوب الروح، { إني ليحزنني أن تذهبوا به } [يوسف: 13] أي: بيوسف القلب، { وأخاف أن يأكله الذئب } [يوسف: 13] ذئب الشيطان، فإن القلب إذا بعد عن الروح ونظره يقرب منه الشيطان ويتصرف فيه ويهلكه، { وأنتم عنه غافلون } [يوسف: 13] لانشغالكم بتحصيل مرامكم.
[12.14-16]
{ قالوا لئن أكله الذئب } [يوسف: 14] أي: أهلكه الشيطان، { ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون } [يوسف: 14] لأن خسران جميع أعضاء الإنسان في هلاك القلب، وذبحها في سلامة القلب، { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيبت الجب } [يوسف: 15] وذلك لأن إلقاء القلب العلوي في سفل جب القلب إنما يكون بإجماع الحواس وقوى البشرية باستعماله في طلب الشهوات.
ثم قال: { وأوحينآ إليه } [يوسف: 15] أي: إلى يوسف القلب، { لتنبئنهم بأمرهم هذا } [يوسف: 15] أي: بما أرادوا أن يضروك فينفعوك، { وهم لا يشعرون } [يوسف: 15] يشير إلى أن من خصوصيته تعلق الروح بالقالب أن يتولد منها القلب العلوي والنفس السفلية والقوى والحواس، فيكون ميل الروح والقلب ونزاعهما إلى عالم الروحانية، وميل النفس والقوى والحواس إلى عالم الحيوانية، فإن وكل الإنسان إلى طبعه تكون الغلبة للنفس والبدن على الروح والقلب وهذا حال الأشقياء، وإن أيد القلب بالوحي في غيابة جب القالب إذ سبقت له العناية الأزلية يكون القلب للروح والقلب على النفس والبدن وهذا حال السعداء، { وجآءوا أباهم عشآء يبكون } [يوسف: 16].
[12.17-20]
{ قالوا يأبانآ إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } [يوسف: 17] { وجآءوا على قميصه بدم كذب } [يوسف: 18] هذه كلها إشارة إلى تزوير الحواس والقوى، وتلبيسها وتمويهاتها وتخيلاتها الفاسدة وكذباتها وحيلها ومكرها وكيدها وتوهماتها وتسويلاتها المجبولة عليها وإلا كانت للأنبياء.
وفي قوله: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } [يوسف: 18] إشارة إلى معرفة الروح المؤيدة بنور الإيمان أنه يقف على النفس وصفاتها، وما جبلت الحواس والقوى عليه، ولا يقبل منها تمويهاتها وتسويلاتها، ويرى الأمور كلها من عند الله وأحكامه الأزلية، فصبر عليها صبرا جميلا وهو الصبر على ظهور ما أراده الله فيها بالإرادة القديمة، والتسليم لها والرضاء بها.
وبقوله تعالى: { والله المستعان على ما تصفون } [يوسف: 18] يشير إلى الاستعانة بالله على الصبر الجميل فيما يجري من قضائه وقدره، وهذا كله من اختصاص الروح العلوي المؤيد بتأييد الله، ومن ثمرة الصبر الجميل من الروح نجاة القلب من غيابة جب القلب بجذبات العناية كما قال تعالى: { وجاءت سيارة } [يوسف: 19] وهي هبوب نفحات ألطاف الحق، { فأرسلوا واردهم } [يوسف: 19] أي: وارد من واردات تلك النفحات، { فأدلى دلوه } [يوسف: 19] دلو جذبة من جذبات الحق، فخلص يوسف القلب من جب طبيعة القالب.
{ قال يبشرى هذا غلام وأسروه بضاعة } [يوسف: 19] يشير إلى أن القلب كما له بشارة من تعلق الجذبة وخلاصه في الجب؛ فكذلك الجذبة بشارة في تعلقها بالقلب وإخلاصه من الجب وهي من أسرار
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، { والله عليم } [يوسف: 19] بالحكمة في البشارتين، { بما يعملون } [يوسف: 19] من شراءه بثمن بخس، { وشروه بثمن بخس } [يوسف: 20] وهو الحظوظ الفانية، { دراهم معدودة } [يوسف: 20] احتظاظ أيام معدودة.
{ وكانوا فيه } [يوسف: 20] أي: في يوسف القلب، { من الزاهدين } [يوسف: 20] لأنهم ما عرفوا قدره؛ وذلك لأن الحواس والقوى مستعدة للاحتظاظ بتمتعاته الدنيوية الفانية، والقلب يعد الاحتظاظ بتمتعات الأخروية الباقية؛ بل هو مستعد للاحتظاظ بشواهد الربانية، وإنه إذا سقي بشراب طهور تجلي الجمال والجلال يهرق سواه على أرض النفوس والقوى والحواس فيحتظون، وللأرض من كأس الكرام نصيب، فلما أخرجوه من جب الطبيعة ذهبوا إلى مصر الشريعة.
[12.21]
قوله: { وقال الذي اشتراه من مصر } [يوسف: 21] وهو عزيز مصر الشريعة أي: الدليل والمربي على جادة الطريقة؛ ليوصله إلى عالم الحقيقة، { لامرأته } [يوسف: 21] وهي الدنيا، { أكرمي مثواه } [يوسف: 21] اخدمي له في منزل الجسد بقدر حاجته الماسة.
{ عسى أن ينفعنآ } [يوسف: 21] حيث يكون صاحب الشريعة، وملكا من ملوك الدنيا يتصرف فينا بإكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة، { أو نتخذه ولدا } [يوسف: 21] نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة والفطام عن الدنيا الدنية، { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } [يوسف: 21] يشير إلى تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو ليعلم علم تأويل الرؤيا وهو علم النبوة، كما قال: { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } [يوسف: 21] فكما أن الثمرة على الشجرة إنما تظهر إذا كان أصل الشجرة راسخا في الأرض، فكذلك على شجرة القلب إنما تظهر ثمرات العلوم اللدنية والمشاهدة الربانية إذا كان قدم القلب ثابتا في طينة الإنسانية.
{ والله غالب على أمره } بمعنيين: أحدهما: أن يكون الله غالبا على أمر القلب أي: يكون الغالب على أمره ومحبة الله وطلبه، والثاني: أن يكون الغالب على أمر القلب جذبات العناية لتقيمه على صراط مستقيم الفناء منه والبقاء بالله، فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله؛ لأنه باق بهويته، فإن عن أنانية نفسه، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [يوسف: 21] أنهم خلقوا مستعدين لقبول هذه الكمالية يصرفون استعدادهم فيما يورثهم النقصان والخسران.
[12.22-26]
{ ولما بلغ أشده } أي: مبلغ كمالية استعداده لقبول فيض الألوهية، { آتيناه حكما وعلما } أفضنا عليه سجال الحكمة الألوهية والعلم اللدني.
{ وكذلك نجزي المحسنين } [يوسف: 22] أي: كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم بفضلنا وكرمنا، كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح؛ إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة.
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } [يوسف: 23] يشير به إلى أن يوسف القلب وإن بلغ أعلى مراتبه في مقام الحقيقة وفنائه عن صفات الأنانية واستغراقه في بحر صفات اللاهوتية لا تنقطع عنه تصرفات زليخاء الدنيا ما دام هو في بيتها وهو الجسد، فإن الجسد للقلب بيت دنيوي، فالمعنى: إن راودت يوسف القلب زليخاء الدنيا التي يوسف القلب في بيتها أي: في الجسد الدنيوي وعن نفسه؛ لما رأت في نفسه تعلقه بالجسد داعية إلى الاحتظاظ من الحظوظ الدنيوية ليحتظ بها وتحتظ به.
{ وغلقت الأبواب } [يوسف: 23] وهي أبواب أركان الشريعة يعني: إذا فتحت الدنيا على القلب أبواب شهواتها وحظوظها غلقت عليه أبواب الشريعة التي يدخل منها أنوار الرحمة والهداية ونفحات الألطاف والعناية.
{ وقالت } [يوسف: 23] أي: الدنيا، { هيت لك } [يوسف: 23] أقبل إلي وأعرض عن الحق، { قال } يعني: القلب الفاني عن نفسه الباقي بربه، { قال معاذ الله } [يوسف: 23] أي: عياذي بالله عما سواه، { إنه ربي } [يوسف: 23] رباني بلبان ألطاف ربوبيته، { أحسن مثواي } [يوسف: 23] مقامي في عالم الحقيقة فلا أعرض عنه، { إنه لا يفلح الظالمون } [يوسف: 23] الذين يقبلون إلى الدنيا ويعرضون عن الولي.
{ ولقد همت به } [يوسف: 24] أي: همت الدنيا بالقلب لما رأت فيه من الحاجة الضرورية للإنسانية إليها، { وهم بها } [يوسف: 24] أي: هم القلب بها فوق الحاجة الضرورية إليها لما ركنت النفس الحريصة على الدنيا ولذاتها، { لولا أن رأى } [يوسف: 24] القلب، { برهان ربه } [يوسف: 24] وهو نور القناعة التي في نتائج نظر العناية إلى قلوب الصادقين، { كذلك لنصرف عنه } [يوسف: 24] من القلب بنظر العناية { السوء } [يوسف: 24] وهو الحرص على الدنيا، { والفحشآء } [يوسف: 24] وهي تصرف حب الدنيا فيه { إنه من عبادنا } [يوسف: 24] لا من عباد الدنيا وغيرها، { المخلصين } [يوسف: 24] مما سوانا أي: المخلصين في جنس الوجود المجازي، الموصلين إلى الوجود الحقيقي، وهذا مقام كمالية القلب أن يكون عبدا لله حرا عما سواه، فانيا عن أوصاف وجوده، باقيا بأوصاف ربه.
{ واستبقا الباب } [يوسف: 25] يشير إلى أن يوسف القلب لما رأى برهان ربه وهو نور نظر العناية التي من نتائجها القناعة هرب من زليخاء الدنيا وما يخدع بزينتها وشهواتها اتبعته زليخاء الدنيا واستبقا الباب وهو الموت، فإن الموت باب بين الدنيا والآخرة وكل الناس داخله، فمن خرج من باب دار الدنيا دخل دار الآخرة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فتعلقت زليخاء الدنيا بيد شهواتها بذيل قميص بشرية يوسف القلب قبل خروجه من باب الموت الحقيقي.
{ وقدت قميصه } [يوسف: 25] بشريته، { من دبر } [يوسف: 25] فلما خرج يوسف من باب موت البشرية والصفات الحيوانية واتبعته زليخاء الدنيا، { وألفيا سيدها لدى الباب } [يوسف: 25] وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخاء الدنيا، وإنما سمي سيدها؛ لأن أصحاب الولايات هم سادة الدنيا والآخرة، وهم الرجال على الحقيقة يتصرفون في الدنيا كتصرف الرجل في امرأته.
{ قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا } [يوسف: 25] يشير إلى أن ما جزاء قلب يتصرف في الدنيا بالسوء وهو على خلاف الشريعة ووفق الطبيعة، { إلا أن يسجن } [يوسف: 25] في سجن الصفات الذميمة النفسانية، { أو عذاب أليم } [يوسف: 25] أي: يعذب بألم البعد والفراق، { قال } [يوسف: 26] يوسف القلب وأظهر عداوة زليخاء الدنيا بعد أن خرقت قميص بشريته وخرج من باب الموت عن صفاتها، { هي راودتني عن نفسي } [يوسف: 26] لأنها كانت مأمورة بخدمتي كما قال:
" يا دنيا اخدمي من خدمني "
وإني كنت فارا منها، لقوله:
ففروا إلى الله
[الذاريات: 50].
{ وشهد شاهد من أهلهآ } [يوسف: 26] أي: حكم بينهما حاكم وهو العقل الغريزي دون العقل المجرد، فإن الغريزي دنيوي والمجرد أخروي، فالمعنى أن حاكم العقل الغريزي الذي هو من أهل زليخاء حكم { إن كان قميصه قد من قبل } [يوسف: 26] أي: إن كان قميص بشرية يوسف القلب قد من قبل يدل على أن التابع كان يوسف القلب على قدمي الهوى والحرص، فعدل عن الصراط المستقيم بالعصمة وقد قميص بشريته من قبل { فصدقت } [يوسف: 26] زليخاء الدنيا أنها متبوعة { وهو من الكاذبين } [يوسف: 26] في دعواه إنها راودتني عن نفسي واتبعتني.
[12.27-31]
{ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت } [يوسف: 27] زليخاء الدنيا أنها متبوعة { وهو من الصادقين } [يوسف: 27]؛ يعني: يوسف القلب، وإن زليخاء الدنيا راودته عن نفسه واتبعته وإنه متبوع، { فلما رأى قميصه قد من دبر } [يوسف: 28] حكم حاكم العقل أن يد تصرف زليخاء الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته، { قال إنه } [يوسف: 28] أي: تعلق قميص بشرية يوسف القلب.
{ من كيدكن } [يوسف: 28] أي: من كيد الدنيا وشهواتها، { إن كيدكن عظيم } [يوسف: 28] لا تكن تكيدن في أمر عظيم وهو قطع طريق الوصول إلى الله العظيم على القلب السليم، { يوسف أعرض عن هذا } [يوسف: 29] أي: يا يوسف القلب أعرض عن زليخاء الدنيا، فإن كثرة الذكر تورث المحبة وحب الدنيا رأس كل خطيئة، { واستغفري لذنبك } [يوسف: 29] أي: استغفر يا زليخاء الدنيا، { إنك كنت } [يوسف: 29] بزينتك وشهواتك قاطعة عن طريق الله تعالى على يوسف القلب وأنت في ذلك، { من الخاطئين } [يوسف: 29] الذين ضلوا عن الطريق وأضلوا كثيرا.
{ وقال نسوة في المدينة } [يوسف: 30] يشير بالنسوة: إلى صفات البشرية النفسانية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد، { امرأة العزيز } [يوسف: 30] وهي الدنيا، { تراود فتاها عن نفسه } [يوسف: 30] تطالب عبدها وهو القلب كان عبد الدنيا في البداية لحاجته إليها للتربية، فلما كمل القلب وصفا وصقل عن دنس البشرية استأهل المنظر الإلهي فتجلى له الرب تبارك وتعالى فتنور القلب بنور جماله وجلاله احتاج إليه كل شيء وسجد له حتى الدنيا { قد شغفها حبا } [يوسف: 30] أي: أحبته الدنيا غاية الحب لما ترى عليه آثار جمال الحق، ولما لم يكن لنسوة صفات البشرية اطلاع على جمال يوسف القلب كن يلمن الدنيا على محبته، فقلن، { إنا لنراها في ضلال مبين } [يوسف: 30]، { فلما سمعت } [يوسف: 31] أي: زليخاء الدنيا، { بمكرهن } [يوسف: 31] في ملامتها، { أرسلت إليهن } [يوسف: 31] أي: الصفات، { وأعتدت لهن متكئا } [يوسف: 31] أي: تهيأت طعمة مناسبة لكل صفة منها، { وآتت كل واحدة منهن سكينا } [يوسف: 31] وهي سكين الذكر، { وقالت } [يوسف: 31] زليخاء الدنيا ليوسف القلب، { اخرج عليهن } [يوسف: 31] وهو إشارة إلى غلبة أحوال القلب على صفات البشرية.
{ فلما رأينه } [يوسف: 31] أي: وقفن على جماله وكماله، { أكبرنه } [يوسف: 31] أي: أكبرن جماله أن يكون جمال البشر { وقطعن أيديهن } [يوسف: 31] بسكين الذكر عن تعلق ما سوى الله تعالى، { وقلن حاش لله ما هذا بشرا } [يوسف: 31] أي: جماله بشر، { إن هذآ إلا ملك كريم } [يوسف: 31] ما هذا إلا جمال ملك كريم، وهو الله تعالى بقراءة من قرأ (ملك) بكسر اللام.
[12.32-34]
{ قالت } [يوسف: 32] زليخاء الدنيا النسوة الصفات، { فذلكن الذي لمتنني فيه } [يوسف: 32] في محبة هذا الجمال، { ولقد راودته عن نفسه } [يوسف: 32] اعترفت عند استيلاء المحبة وغلباتها من نالت من محبة بعض ما نالته، وقدمت نفسها لنفس المحبوب، واستهدفت نفسها للملامة، وجعلت العصمة حظ المحبوب.
فقالت: { فاستعصم } [يوسف: 32] يعني: أنا الذي عرضت عليه نفسي وتعرضت للفجور وهو الذي أعرض عني واعتصم بالله، { ولئن لم يفعل مآ آمره ليسجنن } [يوسف: 32] وهذا أيضا إظهار الشر والظلم عن نفسها، وإظهار الخير والعفة عنه عن نفس محبوبها حتى استخرجت منه قول: { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [يوسف: 33] فيه إشارة إلى أن القلب إذا لم يتابع أمر الدنيا وهوى نفسه، ولم يجب إلى ما يدعوه وداعي البشرية يكون مسجونا في سجن الشرع والعصمة من الله.
وفي قوله: { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [يوسف: 33] إشارة إلى أن القلب وإن كان في كماله كقلب من الأنبياء لو خلي إلى طبعه ولم يعصمه الله تعالى عن مكائد الدنيا، وآفات الدواعي البشرية، وهواجس النفس، ووسواس الشيطان يميل إلى ما يدعونه إليه ويكون من جملة النفوس الظلومة الجهولة، { فاستجاب له ربه } [يوسف: 34] يجيب المضطر إذا دعاه، { فصرف عنه كيدهن } [يوسف: 34] عن القلب كيد الدنيا وصفات النفس، { إنه هو السميع } [يوسف: 34] لمن دعاه، { العليم } [يوسف: 34] بذاته وذواتهم.
[12.35-36]
وقوله: { ثم بدا لهم } [يوسف: 35] أي: ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن راعى صلاحية القلب، { من بعد ما رأوا الآيات } [يوسف: 35] وهي آثار عناية الله تعالى، وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه، { ليسجننه } [يوسف: 35] في سجن الشرع، { حتى حين } [يوسف: 35] أي: إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظره قول،
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99] أي: الموت إذ النبي مسلم مع كماله في الدنيا، والنبوة والرسالة مأمور من محبوبه بأن يكن مسجونا في سجن الشرع حتى حين موته فكيف من دونه؟ والله أعلم.
قوله: { ودخل معه السجن فتيان } [يوسف: 36] يشير إلى أنه لما دخل يوسف القلب سجن الشريعة، { ودخل معه السجن فتيان } [يوسف: 36] وهما ساقي النفس وخباز البدن غلامان لملك الروح أحدهما صاحب شرابه والآخر صاحب طعامه، فالنفس صاحب شرابه تهيئ لملك الروح ما يصلح له شربه منه، فإن الروح العلوي الأخروي لا يعمل عملا في السفلي البدني إلا بشرب يشربه النفس، والبدن صاحب طعامه الذي يهيئ من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح، والروح لا تبقى إلا بغذاء روحاني باق كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني، وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بأن يجعلا السم في شراب ملك الروح وطعامه فيهلكاه، وهو سم الهوى والمعصية فإذ كانا محبوسين في سجن الشريعة أمن ملك الروح من شرهما.
{ قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله } [يوسف: 36] يشير إلى أن النفس البدن كلاهما ينادي وأهل الدنيا نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وكل عمل يعمل أهل الدنيا فهو بمثابة الرؤيا التي رآها النائم، فإذا انتبه بالموت يكون له تأويله يظهر في الآخرة، ويوسف القلب بتأويل منامات أهل الدنيا عالم؛ لأنه من المحسنين كما قال: { إنا نراك من المحسنين } [يوسف: 36].
[12.37-38]
{ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } [يوسف: 37] يعني: قال الذين يعبدون الله على الرؤية والمشاهدة بقلوب حاضرة عند مولاهم
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-23]، فكل حكم صدر من تلك الحضرة فهم شاهدوه في الغيب قبل نزوله إلى عالم الشهادة، فكساه القوة المتحلية عند عبوره عليها كسوة خيالية تناسب معناه، تصاحب الرؤيا إن كان عالما بلسان الخيال فيعتبره وإلا يعرضه على المعبر ليكون ترجما فأله، فيترجم له لسان الخيال ويخبره عن الحكم الصدر عن الحضرة الإلهية، فلهذا كانت الرؤيا الصالحة جزءا من أجزاء النبوة؛ لأنه نوع من الوحي الصادر من الله، وتأويل الرؤيا جزءا أيضا من أجزاء النبوة؛ لأنه علم لدني يعلمه من يشاء من عباده كما قال يوسف عليه السلام: { ذلكما مما علمني ربي } ثم قال: { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } [يوسف: 37] يعني: تركت هذه الملة، { علمني ربي } وفيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة، وملتهم أنهم قوم لا يؤمنون بالله؛ لأن النفس تدعي الربوبية كما قال نفس فرعون:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24] والهوى يدعي الإلهية كما قال تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43] والطبيعة هي التي ضد البشرية.
{ واتبعت ملة آبآئي إبراهيم } [يوسف: 38] السر، { وإسحاق } [يوسف: 38] الخفي، { ويعقوب } [يوسف: 38] الروح، وكانت ملتهم التوحيد والمعرفة، وأنهم أرباب الكشوف وأصحاب المشاهدات، { ما كان لنآ أن نشرك بالله من شيء } [يوسف: 38] من الأشياء التي هي ما سوى الحق تبارك وتعالى، { ذلك من فضل الله علينا } [يوسف: 38] إذا أعطانا هذه الهداية.
{ وعلى الناس } [يوسف: 38] يعني: النفس والبدن والأعضاء والجوارح بأن أفضنا عليهم فما أفاض الله علينا، { ولكن أكثر الناس } [يوسف: 38] يعني: الذين نسوا نعمة الله، { لا يشكرون } [يوسف: 38] على نور فضله وكرمه.
[12.39-41]
وقوله: { يصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير } [يوسف: 39] يشير إلى النفس والبدن أنهما صاحبا يوسف القلب في سجن الشريعة، وأرباب متفرقون من الدنيا والهوى والشيطان، { خير أم الله الواحد القهار } [يوسف: 39] لما دونه، { ما تعبدون من دونه إلا أسمآء سميتموهآ أنتم } [يوسف: 40] يا أهل النفوس، { وآبآؤكم } [يوسف: 40] أهل الدنيا ليس تحتها طائل وهي ظل زائل.
{ مآ أنزل الله بها } [يوسف: 40] أي: بعبادتها، { من سلطان } [يوسف: 40] حجة وبرهان، { إن الحكم } [يوسف : 40] في الوجود والعدم، { إلا لله } [يوسف: 40] بإيجاد المعدود وبإعدام الموجود، { أمر } [يوسف: 40] بحكمه، { ألا تعبدوا إلا إياه } [يوسف: 40] ولا تعبدوا نحوه، { ذلك الدين القيم } [يوسف: 40] القيوم والصراط المستقيم، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [يوسف: 40] حقيقة هذا المعنى، بل يدعون بعبادة الهوى والدنيا، { يصاحبي السجن } [يوسف: 41] وهما النفس والبدن، { أمآ أحدكما } [يوسف: 41] وهو النفس.
{ فيسقي ربه } [يوسف: 41] أي: سيده وهو الروح، { خمرا } [يوسف: 41] وهو ما خامر العقل مرة من شراب الشهوات واللذات النفسانية، وتارة بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات الربانية وهي باقية في خدمة ملك الروح، { وأما الآخر } [يوسف: 41] وهو البدن، { فيصلب } [يوسف: 41] بحبل الموت، { فتأكل الطير } [يوسف: 41] طير أعوان ملك الموت، { من رأسه } [يوسف: 41] الخيالات الفاسدة التي جمعت في أم دماغه، { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [يوسف: 41] أي: قضي في الأزل على هذه الصفة الأمر الذي أنتم اليوم فيه تطلبان الفتوى، والله أعلم.
[12.42-43]
وقال: { وقال للذي ظن أنه ناج منهما } [يوسف: 42] أي: وقال يوسف القلب المسجون في حبس صفات البشرية للنفس، { اذكرني عند ربك } [يوسف: 42] وهو الروح يشير إلى أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن يذكره بالمعاملات المستحسنة الشريعة عند الروح استقوى بها الروح، وينبه عن نوم الغفلة المنسية من الحواس الخمس، ويسعى في استخلاص القلب عن أسرار الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمدا من الألطاف الربانية.
{ فأنساه الشيطان ذكر ربه } [يوسف: 42] يعني: الشيطان ووسواسه يمحو عن النفس أثر إلهامات القلب؛ لينسي النفس ذكر الروح بتلك المعاملات، وفيه معنى آخر: وهو أن الشيطان أنسى القلب ذكر ربه يعني: ذكر الله حتى استغاث بالنفس؛ لتذكره عند الروح ولو استعان الله لخلصه في الحال.
{ فلبث في السجن بضع سنين } [يوسف: 42] يشير به إلى صفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي: الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر، وإذا أراد الله أن يخلص القلب عن سجن صفات البشرية يري الروح الذي هو ملك مصر القالب رؤيا، كما قال تعالى: { وقال الملك } [يوسف: 43] أي: الروح، { إني أرى سبع بقرات سمان } [يوسف: 43]، وهن صفات البشرية السبع، { يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } [يوسف: 43]، يشير بهن إلى صفات الروحانية السبع التي هن أضداده صفات البشرية وهن: القناعة والسخاء والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع.
{ يأيها الملأ } [يوسف: 43] أي: الأعضاء والجوارح والحواس والقوى، { أفتوني في رؤياي } [يوسف: 43] أي: فيما رأيت في الملكوت بالغيب عنكم، { إن كنتم للرءيا } [يوسف: 43] أي: لا يرى في الملكوت، { تعبرون } [يوسف: 43] تعلمون تأويله.
[12.44-46]
{ قالوا } [يوسف: 44] أي: الأعضاء والجوارح والحواس والقوى، { أضغاث أحلام } [يوسف: 44] لا أصل لها، { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [يوسف: 44] يعني: ليس التصرف في الملكوت، ومعرفة شواهده من شأننا، { وقال الذي نجا منهما } [يوسف: 45] أي: النفس الملهمة من القلب، { وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } [يوسف: 45] إلى يوسف القلب يشير به إلى أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئا مما يجري في الملكوت يرجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه فالقلب يخبرها؛ لأنه يشاهد الملكوت ويطالع شواهده وهو واقف بلسان الغيب، وهو ترجمان بين الروحانيات والنفس مما يفهم من لسان الغيب الروحاني يا أول النفس، ويفهما تارة بلسان الخيال، وتارة بالفكر السليم، وتارة بالإلهام.
{ يوسف أيها الصديق } [يوسف: 46] أي: يا يوسف القلب، والصديق هو الذي يصدق مما يرى من شواهد الحق ويصدق فيما يرى للحق، وهذا من أوصاف القلب السليم يدل عليه قوله تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11] وقال الكتاني: حدثني قلبي عن ربي، فصدق القلب فيما حدث به الرب وصدق فيما حدث به عنه، { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس } [يوسف: 46] أي: إلى الأجزاء الإنسانية، { لعلهم يعلمون } [يوسف: 46] من أخباركم لهم من الغيب وأحوال الملكوت ما لا تعلمون.
[12.47-50]
{ قال } أي: يوسف القلب، { تزرعون سبع سنين دأبا } يشير به إلى أن تربية صفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة، وذلك في سني أوان الطفولية قبل البلوغ وظهور العقل وجريان قلم التكلف عليه { فما حصدتم فذروه في سنبله } [يوسف: 47] أي: فما حصدتم من هذه الصفات عند الكمالية فلا تستعملوه وذروه في أماكنه، { إلا قليلا مما تأكلون } [يوسف: 47] أي: قليلا مما تعيشون به وهو بمنزلة الغناء لمصالح قيام القالب إلى أن يبلغوا حد البلاغة، ويظهر نور العقل في مصباح السر عن زجاجة القلب كأنه كوكب دري { ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد } [يوسف: 48] من صفات الروحانية والأخلاق الحميدة.
{ يأكلن ما قدمتم لهن } [يوسف: 48] يشير به إلى أن نور العقل إذا أيدناه بتأييد أنوار تكاليف الشرع بعد البلوغ وشرفه بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وهو صفات البشرية السبع وتقواها، وهو الاجتناب بالتزكية عن هذه الصفات، والتحلية بصفات الروحانية السبع العجاف قد أكلت السبع السمان، وإنما سمي السبع العجاف؛ لأنها من عالم الأرواح وهو لطيف فسميت العجاف، وصفات البشرية عن عالم الأجسام كثيفات وهو كثيف فسميت السمان، { إلا قليلا مما تحصنون } [يوسف: 48] أي: لا يبقى من صفات البشرية عند غلبات الصفات الروحانية إلا قليلا تحصن بها الإنسان حياة قالبه وبقاء صورته.
{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } [يوسف: 49] يشير به إلى أن بعد غلبات صفات الروحانية، واضمحلال صفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية يتبرأ العبد عن معاملاته، وينجو عن محبة وجوده وحجب أنانيته، وكان حصنه وملجأه الحق تبارك وتعالى { وقال الملك } [يوسف: 50] أي: الروح، { ائتوني به } [يوسف: 50] أي: فلما أخبر القلب بنور الله كما رآه الروح في عالم الملكوت وتأويله استحق لقربة الروح وصحبته فاستدعى حضوره، { فلما جآءه الرسول } [يوسف: 50] وهو النفس، ولاقى رسالة الروح في استحضاره وخلاصه عن سجن صفات البشرية.
{ قال ارجع إلى ربك } [يوسف: 50] أي: الروح، { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } [يوسف: 50] يشير بالنسوة إلى الأوصاف الإنسانية، فلما رأين جمال يوسف القلب المنور بنور الله ولهن من حسنه وجماله، وقطعن أيديهن عن الدنيا وملاذها وشهواتها، { إن ربي بكيدهن عليم } [يوسف: 50] أي: بكيد أوصاف الإنسانية في طلب شهوات الدنيا وتبدأ إنما قطعن أيدي طلبهن عنها لما شاهدت كمالات السعادات الأخروية الباقية فآثروها على الدنيا الفانية.
[12.51-52]
{ قال } [يوسف: 51] يعني: الروح للأوصاف الإنسانية، { ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه } [يوسف: 51] أي: يوسف القلب هل رأيتن فيه مناسبة حتى ملن إليه؟ { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } [يوسف: 51] يناسب حالنا، { قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق } [يوسف: 51] ظهر الحق وخفي الباطل إذا الأوصاف الإنسانية شاهدة جمال يوسف القلب وعزته في طلب الحق وترك زليخاء الدنيا، { أنا راودته عن نفسه } بكمال جماله حاله ونقصان قبيح حالي، { وإنه لمن الصادقين } [يوسف: 51] في طلب الحق، وترك متابعة الهوى في طلب الدنيا.
{ ذلك } [يوسف: 52] الرد من الرسول لنفسه؛ أي: طلب الروح، { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [يوسف: 52] يشير به إلى كلام القلب المنظور بنظر العناية أنه لما غاب عن حضرة الروح؛ لانشغاله بتربية النفس والقالب وتدبير مصالحهما ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها، { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } [يوسف: 52] أي: لا يرشد كيد من خانه؛ أي: بائع الدين بالدنيا.
[12.53-57]
ثم قال: إظهار للعجز من نفس والفضل من ربه، { ومآ أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } [يوسف: 53] يعني: خلقت النفس على جبلة الأمارية بالسوء طبعا حين خليت إلى طبعها لا يأتي منها إلا الشر ولا تأمر بالسوء، ولكن إذا رحمها ربها ونظر إليها بنظر العناية يقبلها من طبعها ويبدل صفاتها، ويجعل أماريتها مبدلة بالمأمورية وشريتها بالخيرية، فإذا تنفس صبح الهداية في ليلة البشرية وأضاء أفق سماء القلب صارت النفس لوامة تلوم نفسها على شر فعلتها، وندمت على ما صدر عنها من الأمارية بالسوء، فيتوب الله عليها فان الندم توبة، وإذا طلعت شمس العناية من أفق الهداية صارت النفس ملهمة إذ هي تنورت بأنوار شمس العناية فألهمها نورها فجورها وتقواها، وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية وأشرقت الأرض بنور ربها صارت النفس مطمئنة مستعدة لخطاب ربها بجذبة
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 28]، { إن ربي غفور } [يوسف: 53] لنفس تائبة راجعة إليه، { رحيم } [يوسف: 53] لمن أحسن طاعته وعبوديته.
{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } [يوسف: 54]، ويشير إلى أن ملك الروح لما وقف على حسن استعداد يوسف القلب، وأن له اختصاصا بالله في علم تأويل ما يرى الروح ما أراه الحق تعالى من مكنونات الغيب، ولم يعلم حقيقته إلا أن يؤوله القلب له بما خص الله تعالى القلب بالنظر إليه، وهو ينظر بنور الله الذي هو من خصوصيته نظر الله تعالى إليه فيرى حقائق الأشياء بالنور، فالروح تسعى في خلاص القلب عن سجن صفات البشرية؛ ليكون خالصا له في كشف حقائق الأشياء، ولم يعلم أنه خلق لإصلاح جميع رعايا مملكته روحانية وجسمانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا أصلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب ".
وللقلب اختصاص آخر بالله تعالى دون سائر المخلوقات فهو به خالصته للحق دون الخلق وهو قوله:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي، وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
وهذا كما كان حال ملك مصر مع يوسف لما رأى أن له علم تأويل رؤياه الذي هو بمعزل عن عمله قال: { ائتوني به أستخلصه لنفسي } [يوسف: 54] لما علم أنه خلق لإصلاح جميع رعاياها ملك مصر وغيرها، وهو خالصة الله تعالى لا يصلح أن يكون خالصة للملك، ولكن الله تعالى استحسن من الملك إحسانه مع يوسف واستخلاصه من السجن، فما أحسن إليه بأن رزقه الإيمان، واستخلصه من سجن الكفر والجهل، وجعله خالصته بحضرته بالعبودية، وترك الدنيا وزخارفها، وطلب الآخرة ودرجاتها.
{ قال } يوسف القلب لملك الروح { اجعلني على خزآئن الأرض } [يوسف: 55] أي: خزائن أرض الجسد، فإن لله تعالى في كل عضو من أعضاء ظاهر الجسد وباطنه خزانة من اللطف والقهر فيها نعمة أخرى، كالعين فيها نعمة البصر فإن استعملها في رؤية البصر ورؤية الآيات والصنائع فيجد اللطف وينتفع به، وإن استعملها في مستلذاتها وشهوات النفس ولم يحفظ نفسه منها فتجد القهر ويضره ذلك، وقس الباقي على هذا المثال، ولهذا قال يوسف: { إني حفيظ عليم } [يوسف: 55] أي: حافظ نفسي فيها عما يضرها عليم بنفعها وضرها واستعمالها فيما ينفع ولا يضر.
{ وكذلك مكنا ليوسف } ليوسف القلب، { في الأرض } أرض الجسد، { يتبوأ منها } أي: يتصرف في جميع الأعضاء، { حيث يشآء } [يوسف: 56] من تلك الخزائن، { نصيب برحمتنا من نشآء } [يوسف: 56] يشير إلى أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكلة إلى مشيئة الله تعالى لا إلى مشيئة الخلق، فإن الخلق لو وصلوا إلى شيمهم ومشيئتهم أصابوا من تلك الخزائن باستعمالهم نعمها في مشتهيات نفوسهم القهر الموجع فيها دون اللطف.
{ ولا نضيع أجر المحسنين } [يوسف: 56] أي: الحافظين نفوسهم عن هواها وشهواتها العالمين بالتصرف في تلك الخزائن على وفق الشرع وخلاف الطبع، { ولأجر الآخرة } [يوسف: 57] أي: رفعة الدرجات الأخرويات والنعم الباقيات، { خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } [يوسف: 57] من الشهوات الدنيويات الفانيات بالطاعات والقربات، فلما تمكن يوسف القلب في حمي مملكة مصر الجسد بالتأييد الرباني، وصارت خزائن أرض الجسد تحت تصرفه واحتاجت رعايا الأعضاء والجوارح إليه حتى أوصاف البشرية التي هي بمثابة إخوة يوسف فجاءوا إليه في طلب الميسرة.
[12.58-62]
كما قال تعالى: { وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه } ، وهم الأوصاف البشرية، { فعرفهم } يوسف القلب؛ لأنه ينظر بنور الله، { وهم له منكرون } [يوسف: 58] لبقائهم في الظلمة، وحرمانهم عن نور التوبة والاستغفار، وكذا كان حال يوسف مع إخوته فإنه عرفهم بنور المعرفة والنبوة.
{ وهم له منكرون } لبقاء ظلمة معاصيهم وحرمانهم عن نور النبوة والاستغفار، ولو عرفوه حق المعرفة ما باعوه بثمن بخس، ولو لم يعرفهم يوسف أنهم أولاد الأنبياء، وأنهم مستعدون للنبوة ما عفي عنهم واستغفر لهم،
قال لا تثريب عليكم اليوم
[يوسف: 92] وما أحال فعلهم إلى الشيطان، وقال:
نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي
[يوسف: 100].
{ ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } [يوسف: 59] يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه أوصاف البشرية بدل صفاتها المذمومة النفسانية بالصفات المحمودة الروحانية، واستدعى منها استحضار بنيامين السر وهو أخو يوسف القلب حقا، وذلك أن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد تبديل الصفات الذميمة بالحميدة، وإذا حضر السر مع القلب يوفى إليه بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية.
ثم قال: { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } [يوسف: 60] يشير إلى أن كيل الأوصاف إنما يكون بكيل السر وحضوره مع القلب بعد خلاصه عن تصرف الأوصاف، فإذا لم يكن خلاصه عنهم فلا يكون لهم عند القلب كيل حقيقي بتبديل أوصافهم ولا قوة لهم عند القلب فأجابوه، { قالوا سنراود عنه أباه } [يوسف: 61] نخدع عنه إياه بإبقاء الكيل عليه كما أوفيت علينا، { وإنا لفاعلون } [يوسف: 61] ما نريد من إخفاء السر.
{ وقال } [يوسف: 62] يعني: يوسف القلب، { لفتيانه } [يوسف: 62] أي: لصفاته في الأصل، { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } [يوسف: 62] أي: بضاعة إخوته وهم أوصاف البشرية، وبضاعتهم الأعمال الصالحة البدنية يشير إلى أن بضاعة كل عمل من أعمال البدنية التي تجري بهما أوصاف البشرية إلى حضرة يوسف القلب هي مردودة إليها؛ لأن القلب مستغن عنها، وإنما أوصاف البشرية محتاجة إليها، فإن النفس تتأدب وتتزكى بها وتتحسن بأخلاقها، وقال الله تعالى:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
[الإسراء: 7].
وإن تربية القلب إنما هي بالأعمال القلبية الروحانية كالنيات الصالحة، ولهذا قال صلى الله عليه سلم
" نية المؤمن خير من عمله "
وفي رواية:
" أبلغ من عمله "
وكما العزائم الصادقة، والأخلاق الحميدة، والإقبال على الله، والإعراض عما سواه، وصدق الطلب والتوجه للحق، وتخليص محبة الله عن شركة محبة المخلوقات، والتسليم والرضاء بالقضاء، وبذل الوجود المجازي في طلب الوجود الحقيقي، وهذا كله من قبيل التزكية والتصفية لسعي العبودية، ثم كمال تربية القلب من مواهب الربوبية بالتجلية وهي طلوع شمس مشاهدات أنوار الحق، وإظهار أنواع مكاشفاته من مشارق غيب الغيوب، وتجلي صفاته وذاته.
وفي قوله: { لعلهم يعرفونهآ إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } [يوسف: 62] إشارة إلى أن أوصاف البشرية إذا انقلبوا ببضاعة طاعتها إلى النفس وصفاتها يعرونها أنها تصلح لها لا للقلب، فتزكى النفس بتزكي الطاعات وتتربى بها، فتتزكى عن صفة الأمارية فتصير مأمورة مطمئنة، فتستحق لجذبة خطاب الحق وأمر:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] فترجع النفس مع أوصاف بشريتها إلى حضرة الربوبية، فيكون طريقها على يوسف القلب وأهاليه، كقوله:
فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 29-30].
[12.63-67]
{ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا منع منا الكيل فأرسل معنآ أخانا } [يوسف: 63] وهو بنيامين السر، { نكتل وإنا له لحافظون } [يوسف: 63] يشير إلى أن أوصاف البشرية، { فلما رجعوا } [يوسف: 63] عن أحواله إلى ربهم كان عبورهم، { إلى أبيهم } [يوسف: 63] يعقوب الروح، { قالوا يأبانا منع منا الكيل } [يوسف: 63] أي: الكيل الكامل إذا لم يكن معنا أخونا بنيامين السر فأرسله معنا نكتل بحضوره معنا الكيل الكامل من خزائن يوسف القلب، { وإنا له لحافظون } [يوسف: 63] عن تصرفات الشيطان ومكائد الدنيا.
{ قال } [يوسف: 64] يعقوب الروح، { هل آمنكم عليه إلا كمآ أمنتكم على أخيه } [يوسف: 64] يوسف القلب، { من قبل فالله خير حافظا } [يوسف: 64] أي: آمنته عليه منكم، { وهو أرحم الراحمين } [يوسف: 64] لمن يتوكل عليه ويأمنه، { ولما فتحوا متاعهم } [يوسف: 65] أي: الذي استغفاره من القلب، { وجدوا بضاعتهم } [يوسف: 65] أي: فوائد طاعتهم، { ردت إليهم } [يوسف: 65] عائدة عليهم، { قالوا يأبانا ما نبغي } [يوسف: 65] ما نطلب وراء هذا، وفي لنا كيل المعرفة والتوحيد، { هذه بضاعتنا } [يوسف: 65] من الأعمال الصالحة، { ردت إلينا } [يوسف: 65] فوائدها ترجع إلى يوسف القلب.
{ ونمير أهلنا } [يوسف: 65] وهم: الأعضاء والجوارح تحصيل لهم قوتا روحانيا يزيد في قوتهم الجسدانية، { ونحفظ أخانا } [يوسف: 65] من حوادث النفسانية ووساوس الشيطانية، { ونزداد } [يوسف: 65] بواسطة حضور أخيه السر من القلب، { كيل بعير } [يوسف: 65] من الفوائد الروحانية الربانية، { ذلك كيل يسير } [يوسف: 65] يسره الله.
{ قال } [يوسف: 66] يعقوب الروح، { لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله } [يوسف: 66] وهو همة علية وعزيمة صادقة، { لتأتنني به } [يوسف: 66] أي: بالسر مع الفوائد الربانية، { إلا أن يحاط بكم } [يوسف: 66] أي: إلا أن يغلب عليكم الأحكام الأزلية والحكم الإلهية، { فلمآ آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } [يوسف: 66].
{ وقال يبني } [يوسف: 67] يشير إلى أنه توكيل بعد التوكيل كقوله تعالى: { لا تدخلوا من باب واحد } [يوسف : 67] يشير إلى توصية الروح لأوصاف إلى البشرية عند تقربها إلى القلب واستفادتها منه ألا يتقربوا إليه بنوع واحد من المعاملات، { وادخلوا من أبواب متفرقة ومآ أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } [يوسف: 67] من أنواع العبودية، فإن في ذلك سعي العباد وجهدهم والمسبب بالأسباب، وما يغني هذه الأسباب من الله وأحكامه الأزلي من شيء إن لم يوافقها، ولا حكم في الأشياء إلا الله ينبغي للمتوكلين أن يتوكلوا عليه لا على الأسباب، فإن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ".
[12.68-72]
{ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء } [يوسف: 68] إلى قضاها؛ يعني: فعلوا ما أمرهم بعقول الروح، فدخلوا من أبواب من أنواع العبودية وإن لم يغني عنهم من دون الله شيء، { إلا حاجة في نفس يعقوب } [يوسف: 68] الروح، { قضاها } [يوسف: 68] وهي امتثال لأمر الحق فيما أمره كما قال: { وإنه لذو علم لما علمناه } [يوسف: 68] يعني: ما أمرهم بشيء الإيمان علمناه وأمرناه، { ولكن أكثر الناس } [يوسف: 68] يعني: أرباب الصورة، { لا يعلمون } [يوسف: 68] أن ما يجري على خواص العباد إنما هو بوحينا وإلهامنا وتعليمنا فهم لا يعلمون بما نأمرهم، ونحن نفعل ما نشاء بحكمتنا.
{ ولما دخلوا } [يوسف: 69] أي: الأوصاف البشرية ومعهم السر، { على يوسف } [يوسف: 69] القلب، { آوى إليه أخاه } [يوسف: 69] أي: القلب إليه السر لأنه أخوه الحقيقي لمناسبة الروحانية التي اختصا بهما دون إخوانهما الأوصاف، فإنهم يختصون بالبشرية النفسانية، { قال إني أنا أخوك } [يوسف: 69] إني أخوك الحقيقي، { فلا تبتئس } [يوسف: 69] إن وصلت بي، { بما كانوا يعملون } [يوسف: 69] ذلك في مفارقتي؛ وذلك لأن السر مما يكون مفارقا عن القلب مقارنا للأوصاف يكون محروما عن كمالات مستعد لها مباشرا للأوصاف ممنوعا عن المرام خاسرا خائبا.
{ فلما جهزهم بجهازهم } [يوسف: 70] يعني: القلب لما جهزهم الأوصاف بما يلائم أحوالها، { جعل السقاية في رحل أخيه } [يوسف: 70] وهي مشربه كان منه شربه؛ ليكون شربهما واحد، فإنهما رضعا بلبان واحد، { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } [يوسف: 70]، { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } [يوسف: 71]، { قالوا نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير } [يوسف: 72] سرقتم في الأول يوسف وشريتموه بدراهم بخس من متاع الدنيا وشهواتها، وسرقتم في الآخر صواع الملك ومشربته، وما هي بمشاربكم يشير إلى أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال، وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واسترد منه ما نال منها، { قالوا وأقبلوا } إلى { حمل بعير } فيه إشارة إلى أن من يكون مشاهدا لحمل البعير الذي هو علف الدواب متى يكون مستحقا لمشربه هي مشارب الملوك، { وأنا به زعيم } [يوسف: 72] أن من لم يسلم له الشرب من تلك المشارب في حرم عنها لم يحرم عن موانع الحيوانات، فيأكلون كما تأكل الأنعام.
[12.73-76]
{ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } [يوسف: 73] أي: علمتم أننا من المقبلين على يوسف القلب لا من المردودين المعرضين عنه المقبلين على النفس المفسدين في الدنيا كما قالت الملائكة:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] { وما كنا سارقين } [يوسف: 73] إذ أخذنا يوسف القلب وألقيناه في جب البشرية، بل كنا ساعين في نيل مملكة مصر العبودية؛ ليكون عزيزا فيها ونحن نكون دليلا له، { قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين } [يوسف: 74] أي: فما جزاء السارق إن كنتم سارقين. { قالوا جزآؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } [يوسف: 75] أي: جزاء من وجد فيه هذه المشرب نفسه بأن يفديها في طلب الشرب من هذا المشرب، فإن لكل شارب مشربا ولكل مشرب فدية، ففدية مشرب الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته، وكسب فدية شرب الشارب من مشرب الآخرة ترك الدنيا وشهواتها، وسعادة في الطاعات والعبادات والمجاهدات، وفدية شرب المشارب من شربة محبة الله وطلبه بذل وجوده الشارب،
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة: 60] فهو جزاؤه كل جزاء الحطب الموقد النار الوقود بالنار.
{ كذلك نجزي الظالمين } [يوسف: 75] بل المظلومين الجهولين الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعا في أن يكون حريف الملك وشربيه قبل بلوغهم، { فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه } [يوسف: 76] والإشارة فيه: إن الأوصاف البشرية مستحقة أن يكون سقاية الملك توجد في أوعيتهم، فإن تلك السقاية إنما توجد في دعاء القلب أو السر.
{ كذلك كدنا ليوسف } [يوسف: 76] يعني: كما كاد أوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذا ألقوه في جب البشرية كدنا لهم عند قسمة الأقوات من خيرات الملك جعلنا قسمتهم من علف الدواب، وقسم بنيامين السر بقوته الملك، { كذلك كدنا ليوسف } القلب، { ما كان } [يوسف: 76] ليوسف القلب، { ليأخذ أخاه } [يوسف: 76] السر ويضمه إلى نفسه، { في دين الملك } [يوسف: 67] أي: في طلب دين الملك بل في الملك، { إلا أن يشآء الله } [يوسف: 76] فيدبر تدبير التيسير هذا الشأن العظيم والشأن الجسيم، فإن المدبر هو الله الرافع لا غيره كقوله: { نرفع درجات من نشآء } [يوسف: 76] من عندنا بأن نؤتيه علم الصعود من حضيض البشرية إلى ذروة العبودية بتوفيق الربوبية.
{ وفوق كل ذي علم } [يوسف: 76] آتيناه علم الصعود، { عليم } [يوسف: 76] بجذبة من المقعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم، وهو السير في الله بالله إلى الله، وهذا إسراع لما يسعه أدعية الإنسان، والله أعلم.
[12.77-81]
{ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [يوسف: 77] الإشارة فيها أن إخوة يوسف القلب وهم أوصاف البشرية { قالوا } تهمة على يوسف القلب وأخيه بنيامين وإن كانا أخوين من أعزة أولاد يعقوب الروح وأطهرهم وأشرفهم وأحبهم إلى أبيهم منهم، فإنهما قابلان لتهمة السرقة في بدء الأمر وهي الإسراف من شهواته الدنيوية النفسانية على أنهما مخصوصان بحظوظ الأخروية الروحانية؛ فلما سمع يوسف القلب ما اتهم وأخيه به من السرقة من قبل أخوته من أوصاف البشرية على أن الخيانة والسرقة من شأنهم.
{ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } [يوسف: 77] إن هذا من شأنكم وصنيعكم بنا، { قال } [يوسف: 77] في نفسه، { أنتم شر مكانا } [يوسف: 77] في الخيانة ممن مشبوه بها، { والله أعلم بما تصفون } [يوسف: 77] أنه من صفتنا أو صنيعكم.
وفي قوله: { قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه } [يوسف: 78] إشارة إلى أن أوصاف البشرية لما رأت عزة القلب وعلمت أنه يملك مصر القالب وصار عزيزها، وعرفت اختصاص البشرية بفدائها النفس، وجعلت هذه الفدية وسيلة، وقربة إلى يعقوب الروح، وسببا لإرضاء القلب لانتفاعها من أجساد كما قال { إنا نراك من المحسنين } [يوسف: 78] وإحسانه التجاوز عن إساءتهم والتقرب إليهم بدل إساءتهم إليه.
{ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } [يوسف: 79] أي: معاذ الله أن نقبل بالصحبة والمخالطة من لم يكن من جنسنا، ويكون صحبة معنا بالكراهية والنفاق إلا من وجدنا متاعنا من الصدق والمحبة والطلب والإخلاص، وسر نظر العناية الإلهية عنده وإن قبلنا من لم يكن مخلصا مستحقا لصحبتنا ولم نجد عنده متاعنا، { إنآ إذا لظالمون } [يوسف: 79] واضعون الشيء في غير موضعه.
{ فلما استيأسوا } [يوسف: 80] أوصاف البشرية من القلب أن يقبلهم بالصحبة، { منه خلصوا نجيا } [يوسف: 80] أي: خلصوا عن أوصافهم الذميمة في التناجي، { قال كبيرهم } [يوسف: 80] وهو صفة العقل، { ألم تعلموا أن أباكم } [يوسف: 80] يعني: الروح، { قد أخذ عليكم موثقا من الله } [يوسف: 80] يعني: يوم الميثاق
ألا تعبدوا إلا الله
[هود: 2].
{ ومن قبل ما فرطتم في يوسف } [يوسف: 80] القلب بأن ألقيتموه في جب البشرية، { فلن أبرح الأرض } [يوسف: 80] فناء القلب وهي الصدر، { حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } [يوسف: 80] إشارة الله إلى أن صفة العقل لما كلفت عن أوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفها، ويصير محكومة لأوامر الروح، ومستسلمة لأحكام الحق والخير له في الاستسلام لأحكامه؛ لأنه { خير الحاكمين }.
وفي قوله: { ارجعوا إلى أبيكم } [يوسف: 81] إشارة إلى أن العقل المخلص من أوصاف البشرية يحكم على أوصاف البشرية بالرجوع إلى عالم أبيهم الروح على أقدام العبودية، وتبديل أخلاقه الذميمة بالحميدة، { فقولوا يأبانا إن ابنك } [يوسف: 81] بنيامين، { سرق } [يوسف: 81] أي: أخذ بالسرقة؛ لأنه وجد في رحله سقاية الملك؛ أي: محبة الله تعالى هي مشربة له، وبها يكتال الملك على وفده من محبته وطالبيه لقوله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
{ وما شهدنآ إلا بما علمنا } [يوسف: 81] من ظهور أحواله، { وما كنا للغيب حافظين } [يوسف: 81] أي: ما كنا عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة حافظين بأن جعل السقاية في رحله محيط بنا.
[12.82-86]
{ وسئل القرية التي كنا فيها } [يوسف: 82] يعني: أهل مصر الملكوت من الملائكة الكرام الكاتبين، { والعير التي أقبلنا فيها } [يوسف: 82] أرواح الأنبياء والأولياء، { وإنا لصادقون } [يوسف: 82] فيما أخبرناكم، وفي قوله: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } [يوسف: 83] إشارة إلى أن للنفس تسويلات، ولأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح، وله مقاساتها والمواساة بها لإمضاء أحكام الله وقضائه وقدره صبر جميل، وهو أن يصبر على إمضاء أحكامه، ولا يعترض عليه ولا يعارضه بتبديل الأحكام، بل يستسلم إليه قبل قضائه وقدره ويقول: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } [يوسف: 83] يشير إلى أن متولدات الروح والقلب والسر والأوصاف وغيرها، وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد؛ لتحصيل أسباب استكمل بها الروح، وترقي عن مقامات الروحانية إلى درجات قربات الربانية، فإن الله تعالى بجذبات العناية يجمعهم ويأتي بهم جميعا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، { إنه هو العليم } [يوسف: 83] بأنه فوقهم، { الحكيم } [يوسف: 83] فيما فرقهم فبحكمه يجمعهم.
وفي قوله: { وتولى عنهم وقال يأسفى على يوسف } [يوسف: 84] إشارة إلى أن كمالية يعقوب الروح في الإعراض عما سوى الحق تعالى، ولا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب؛ وذلك لأن القلب مرآة جمال الحق تعالى، فتأسف صاحب الجمال على المرآة ما هو على المرآة إنما هو على الجمال، فيكون تأسف الروح على القلب تأسفه وحزنه إلى مشاهد جمال الحق؛ لأنه لا يشاهد إلا في مرآة القلب، ولهذا أشار بقوله: { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } [يوسف: 84] لأن المشاهدة حظ العين وابيضت عيناه في انتظارها، ولما كانت أوصاف البشرية تعدل عما كان عند يعقوب الروح من الشوق المبرح والقلق المزعج.
{ قالوا } [يوسف: 85] على تأسفه، { تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين } [يوسف: 85] طالما يلوم أهل الشفاعة المحبين، ومن علامة المحب: ألا يخاف في الله لومة لائم، فيه يشير إلى أن لا بد للمحب من ملامة الخلق، فأول ملامتي في العالم آدم عليه السلام حين لامت فيه الملائكة قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] ولو أمعنت النظر لرأيت أول ملامتي على الحقيقة حضرة الربوبية بقولهم: { أتجعل فيها } وذلك لأنه تعالى كان أول محب أودع المحبة وهو قول { يحبهم } ، فافهم جدا.
{ قال } [يوسف: 86] يعقوب الروح في جوابهم حين حسبوا أن تأسفه وحزنه على يوسف القلب له خاصة: { إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله } [يوسف: 86] أي: لأني أعلم من جمال الله وكماله وعظمته وجلاله واستحقاقه للمحبة والشوق إلى لقائه، { ما لا تعلمون } [يوسف: 86].
[12.87-90]
وفي قوله: { يبني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله } [يوسف: 87] إشارة إلى أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره، { ولا تيأسوا من روح الله } أي: ريحه منهما؛ بل من وجد قلبه وجد فيه ربه؛ إذ هو سبحانه وتعالى متجل لقلوب أولياء المؤمنين وقد وعد الله بوجدانه الطالبين فقال:
" ألا من طلبني وجدني "
والسر فيه أن طلب الحق تعالى يكون بالقلب لا بالقالب، ووجدانه أيضا يكون في القلب كما قال موسى عليه السلام: " إلهي أين أجدك؟ قال: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " أي: من محبتي.
وفي قوله: { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [يوسف: 87] إشارة إلى أن ترك طلب الله تعالى واليأس من وجدانه كفر، { فلما دخلوا عليه } [يوسف: 88] يشير إلى أن إخوة أوصاف البشرية لما وصلوا بسر أحكام الشريعة، وتدبير آداب الطريقة إلى سرادقات حضرة يوسف القلب، وأراد سلطانه في مملكة مصر الملكوت، وشاهدوا منه آثار العزة والجبروت وقد مسهم ضر تعلقات الجسمانية، وتصرفات الدنياوية، وانعدام أقوات الروحانية، وتحقق عندهم احتياجهم لإنعامه وإحسانه، { قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا } [يوسف: 88] وهم قوى الإنسانية { الضر وجئنا ببضاعة مزجاة } [يوسف: 88] في الأعمال البدنية، والأفعال الإنسانية، والسعي في الترقي عن حضيض الحيوانية إلى ذروة كمال الروحانية.
{ فأوف لنا الكيل } [يوسف: 88] بإفاضة سجال العوارف الروحانية علينا، وإسباغ ظلال العواطف الربانية لدينا، { وتصدق علينآ } [يوسف: 88] بإسبال سبحات الإعزاز والإكرام، وإدرار ما شاء من العطاء والإنعام، { إن الله يجزي المتصدقين } [يوسف: 88] بإعطاء الخلق العفو عما سلف كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
" أنفق أنفق عليك "
، { قال } [يوسف: 89] يوسف القلب، { هل علمتم } [يوسف: 89] بأوصاف البشرية، { ما فعلتم بيوسف } [يوسف: 89] القلب أن ألقيتموه في غيابة جب الحيوانية، { وأخيه } [يوسف: 89] وبنيامين السر بعدتموه عن يعقوب الروح.
{ إذ أنتم جاهلون } [يوسف: 89] أي: إذا كنتم على طبيعة الظلومية والجهولية الإنسانية تظلمون على أرباب الروحانية جهلا منكم، فلما عرفهم ضيفهم به عرفوه، { قالوا أءنك لأنت يوسف } [يوسف: 90] القلب الذي ما عرفنا قدرك، وأردنا بالجهل إذلالك، وأراد الحق تعالى إعزازك وإكرامك، { قال أنا يوسف وهذا أخي } [يوسف: 90] وهذا أخي بنيامين السر، { قد من الله علينآ } [يوسف: 90] بأن جمعنا شملنا بعد ما فرقتمونا، { إنه من يتق } [يوسف: 90] عن شهوات الدنيا، { ويصبر } [يوسف: 90] على مجاهدة تركها، وأيضا من يتق عن غير الله ويصبر على مقاساة شدائد طلبه، { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [يوسف: 90] الذين أحسنوا السعي في الطلب بأن يوصلهم إلى المقصود والمطلوب كما قال:
" ألا من طلبني وجدني ".
[12.91-95]
{ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } [يوسف: 91] أي: اختارك بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال، { وإن كنا لخاطئين } [يوسف: 91] في الإقبال على استيفاء حظوظ الحيوانية، والإعراض عن حقوق الربانية، { قال لا تثريب عليكم اليوم } [يوسف: 92] يشير إلى أن أوصاف البشرية مجبولة في الهداية على استيفاء حظوظ الحيوانية بصرف القلب والسر والروح، فإذا أدركتها العناية بالجذب، وأذاقها الله من مشارب الروحانية أعرضت عن تلك الحظوظ، وتقبل على تلك المشارب، وتتصرف لصفات القلب يقبلها القلب، ويعفوا عن ما سلف منها في حقه، ويغفر الله تعالى لها ما صدر عنها في البداية؛ لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى تربية القلب وإن كان مضرا له في البداية كما كان حال إخوة يوسف مع يوسف أضره صنيعهم في البداية، ولكنه سبب رفعة منزلته ونيل مملكته في النهاية فلذلك { يغفر الله لكم } [يوسف: 92].
وفي قوله: { وهو أرحم الراحمين } [يوسف: 92] إشارة إلى أنه تعالى أرحم من أن يجزي على عبد من عباده المقبولين أمرا يكون فيه ضر ولعبد آخر في الحال، ويقع نفع في المآل ثم لا يرفعه لاسترضاء الخصم ليعفوا عنه ما جرى منه، ويستغفر له حتى رحمه الله، وأيضا: إنه تعالى أرحم للعبد المؤمن من والديه وجميع الرحماء.
وفي قوله: { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا } [يوسف: 93] إشارة إلى أن قميص يوسف القلب من ثياب الجنة، وهو كسوة كساه الله تعالى من أنوار جماله إذا ألقى على وجه يعقوب الروح الأعمى يرتد بصيرا، ومن هذا السر أرباب القلوب من المشايخ يلبسون المريدين خرقتهم؛ ليعزه ببركة الخرقة إلى أرواح المريدين فيذهب عنهم العمى التي حصلت من حب الدنيا والتصرف فيها.
وفي قوله: { وأتوني بأهلكم أجمعين } [يوسف: 93] إشارة إلى أن الواجب على أوصاف البشرية إذ وصلوا إلى حضرة القلب أن يأتوه بأهلهم القوى الإنسانية الباطنية، والحواس الخمس الظاهرة { أجمعين } يعني: يتوجهون إلى حضرة القلب، ويعرضون عن النفس وهواها، { ولما فصلت العير } أي: غير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق، { قال أبوهم } يعني: يعقوب الروح، { إني لأجد ريح يوسف } [يوسف: 94] القلب كما قال:
نسيم الصبا أهدى إلى نسيمها
من بلدة فيها الحبيب مقيم
{ لولا أن تفندون } [يوسف: 94] تعيروني بتهمة العشق وقد عيروني { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم } [يوسف: 95] أي: من العشق، ولا بد للعشاق من اللائم:
يا عاذل العاشقين دع فئة
أضلها الله كيف ترشدها
[12.96-100]
{ فلمآ أن جآء البشير } [يوسف: 96] من حضرة يوسف القلب إلى يعقوب الروح بقميص أنوار الجمال، { ألقاه على وجهه فارتد بصيرا } [يوسف: 96] يشير إلى أن يعقوب الروح كان بصيرا في بدء الفطرة ثم عمي؛ لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها، ثم ارتد بصيرا بوارد من القلب:
ورد البشير بما أقر الأعينا
وشفى النفوس وهز غايات المنى
وفيه إشارة إلى أن القلب في بدء الأمر كان محتاجا إلى الروح في الاستكمال، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين الإصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صارت الروح محتاجا إليه لاستنارته بأنوار الحق؛ وذلك لأن القلب بمثابة المصابيح في قبول أنوار الإلهية، والروح بمثابة الزيت، فيحتاج المصباح في البداية بالزيت في قبول النار، ولكن الزيت محتاج إلى مصباح وتركيبه في النار ليقبل بواسطته النار، فإن الزيت بلا مصباح وآلاته ليس قابلا للنار، فافهم جدا.
ثم قال: يعني يعقوب الروح لما ارتد بصيرا، { قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } [يوسف: 96] يا أوصاف البشرية؛ لأنه مخصوص من الله تعالى بنفخته وبالإضافة إلى نفسه تبارك وتعالى بقوله تعالى:
ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29]، { قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين } [97] فيما فعلنا معك ومع يوسف القلب بالظلومية والجهولية، { قال } [يوسف: 98] يعقوب الروح، { سوف أستغفر لكم ربي } بواقعة يوسف القلب حين حضوري مع الله، { إنه هو الغفور } لمن تاب ورجع إليه، { الرحيم } [يوسف: 98] لمن يتوسل إليه بخواصه ومحبته وأوليائه ومقربيه. { فلما دخلوا } [يوسف: 99] يعني: وصلوا الروح وزوجات النفس وأولاده وأوصافه ورفع أبويه على العرش، إذ قال: { آوى إليه أبويه } [يوسف: 99] ليعلم أن القلب بمثابة العرش وهو على الحقيقة عرش الرحمن، وفي الآية تقديم وتأخير في المعنى تقديرها: { على يوسف آوى إليه أبويه } وأنه رفع أبويه على العرش، { وقال ادخلوا مصر } [يوسف: 99] أي: مصر حضرة الملك العزيز، { إن شآء الله } [يوسف: 99] لأن لا يصل إلى حضرته أحد إلا بجذبة مشيئته، { آمنين } [يوسف: 99] على الانقطاع عن تلك الحضرة الملك العزيز، فإنها منزهة عن الاتصال والانفصال والانقطاع عنها.
{ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا } [يوسف: 100] لما رأوه وعرفوا أنه عرش الحق تبارك وتعالى، فالسجدة كانت على الحقيقة لرب العرش لا للعرش، وقال يوسف القلب: { وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل } [يوسف: 100] أي: من قبل الوجود أن كنت نائما بنوم العدم، { قد جعلها ربي حقا } [يوسف: 100] أي: جعلها في عالم الوجود الحقيقي، { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن } [يوسف: 100] أي: من سجن الوجود؛ ولهذا قال: { أخرجني من السجن } ولم يقل من الجب البشرية، ونعمة إخراجه من سجن الوجود أو فر من نعمة إخراجه من جب البشرية.
{ وجآء بكم من البدو } أي: بدو الطبيعة البشرية، { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [يوسف: 100] بالإفساد وقطع رحم الروحانية حتى ألقوني في جب البشرية، { إن ربي لطيف } [يوسف: 100] يريد للطفه، { لما يشآء } [يوسف: 100] من الأمور المهلكة جعلها أسباب سعادة الدارين لمن شاء، { إنه هو العليم } [يوسف: 100] بما قدر لعباده كيف تبدو بما دبر من الأمر كيف دبر، { الحكيم } [يوسف: 100] فيما قدر ودبر بما دبر في الأزل وما دبر إلى الأبد شيئا فشيئا، بل قدر ودبر بالحكمة البالغة ما شاء كما شاء، كما أنه تبارك وتعالى قدر ودبر جميع مراتب سلوك الإنسان في عالم البشرية من مبدأ سيره إلى انتهاء وصوله إلى حضرة الربوبية مرتبا على قصة يوسف ويعقوب وولده وعزيز وزوجته - عليهم السلام - وسماها أحسن القصص؛ لأنها أتم وأكمل في القصص كلها في هذا الشأن.
[12.101-105]
ثم أنطقه بسوابق إحسانه إليه وسوابغ إنعامه عليه حتى قال: { رب قد آتيتني من الملك } [يوسف: 101] ملك الوصول والوصال { وعلمتني من تأويل الأحاديث } وهو مراتب النبوة ونهاية كمالية الإنسان به، { فاطر السموت والأرض } [يوسف: 101] أي: فاطر السماوات عالم الأرواح، وفاطر أرض البشرية؛ لتخرجني من فطر الوجود المجازي، { أنت وليي في الدنيا والآخرة } [يوسف: 101] أي: أنت متولي أمري لتخلصني من حجب الدنيا والآخرة، { توفنى مسلما } أي: أمتني عني بك مستسلما، { وألحقني بالصالحين } [يوسف: 101] للبقاء بك بأن تفنيني عني وتبقيني ببقائك الأزلي الأبدي.
قوله: { ذلك من أنبآء الغيب } [يوسف: 102] يشير إلى الذي فهمناك من مناسبة قصة يوسف وإخوته مع أهل السلوك السائرين إلى الله من أخبار الغيب الذي غابت عن أرباب علم الظاهر، ولا يعمله إلا أهل الغيب وهم الوالجون ملكوت السماوات والأرض، الغواصون في بحر بطن القرآن، المستخرجون درر معانيه من أصداف ألفاظه وكلماته، { نوحيه إليك } [يوسف: 102] القصة وحقائق معانيها المودعة فيها المستجمعة قواعد سلوك السائرين إلى الله من أخبار الغيبية.
{ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } [يوسف: 102] في الكيد والمكر بيوسف، ولكن كنت بالمعنى حاضرا { إذ أجمعوا أمرهم } يعني: إخوة يوسف القلب وهم أوصاف البشرية؛ ليكيدوا ويمكروا بيوسف القلب ويلقوه في جب البشرية وأسفل الطبيعة وسجن الدنيا، { وهم يمكرون } [يوسف: 102] أي: طبعهم المكر والكيد.
{ ومآ أكثر الناس } [يوسف: 103] أي: وما أكثر الصفات الناسوتية، { ولو حرصت } [يوسف: 103] يا محمد اللاهوتية، { بمؤمنين } [يوسف: 103] مصدقيك فيما تدعوهم إليه من مقامات القرب والكمالات والتوحيد والمعرفة.
{ وما تسألهم عليه من أجر } [يوسف: 104] يشير إلى أن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية، وإن دعتها إلى الاستكمال؛ لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها، { إن هو إلا ذكر للعالمين } [يوسف: 104] أي: دعوتها عامة لمن تعلق بالعالمين إلى رب العالمين، { وكأين من آية في السموت والأرض } [يوسف: 105] أي: وكم من آية دالة إلى الحق في سماوات القلوب وأرض النفوس، { يمرون } [يوسف: 105] من أوصاف الإنسانية، { عليها وهم عنها معرضون } [يوسف: 105] لإقبالهم على الدنيا وشهواتها.
[12.106-110]
{ وما يؤمن أكثرهم بالله } [يوسف: 106] أي: وما يؤمن من أكثر أوصاف الإنسانية بطلب الله والتبديل بصفاته، { إلا وهم مشركون } [يوسف: 106] في طلب الدنيا وشهواتها وطلب الآخرة ونعيمها، وأيضا وما أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله، فإن من يرى السبب فهو مشرك، ومن يرى المسبب فهو موحد إن
كل شيء هالك
في نظر الموحد
إلا وجهه
[القصص: 88].
{ أفأمنوا } [يوسف: 107] أهل الشرك بالأسباب، { أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة } [يوسف: 107] وهي أمر من الله بلا سبب من الأسباب، وفي الحقيقة يشير بالساعة إلى عشق ومحبة من الله بلا سبب من الأسباب، وقيل: العشق عذاب الله، { بغتة وهم لا يشعرون } [يوسف: 107] له سبب غير الله.
ثم قال: { قل هذه سبيلي } [يوسف: 108] أي: رؤية الأمور من الله لا من الأسباب، وأيضا: { قل } يا محمد هذه الدعوة إلى الله فضلا عن سبيله، { سبيلي } وسنتي من بين سائر الأنبياء والرسل، { أدعوا إلى الله } [يوسف: 108] لا إلى سواه، { على بصيرة } [يوسف: 108] أي: على معرفة بالسلوك المسلوك إليه، { أنا ومن اتبعني } [يوسف: 108] أي: هذه الدعوة مخصوصة لي ولمن اتبعني من أمتي مستسلما لي عند تسليك الوصول، { وسبحان الله } [يوسف: 108] أي: تنزيها لله على شركة الأسباب، { ومآ أنا من المشركين } [يوسف: 108] في الطلب والمخلصين إلى الأسباب.
وقوله: { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } [يوسف: 109] إشارة إلى أن الرسالة لا يستحقها إلا الرجال البالغون المستعدون للوحي من أهل القرى بالملكوت والأرواح، لا من أهل المدائن في ملك الأجساد، ولهذا قبل الرجال من القرى، { أفلم يسيروا } [يوسف: 109] أهل مدائن الأجساد المطمئنون إلى الدنيا، { في الأرض } [يوسف: 109] في أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة؛ ليخرجوا من ظلمة الدنيا إلى نور الآخرة، { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [يوسف: 109] إذ رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وليشاهدوا حقيقة قوله: { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } [يوسف: 109] لتعرضوا عن الزكاة إلى الدنيا الدنية، وتقبلوا على الآخرة الشريعة في طلب والحقيقة.
وفي قوله: { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا } [يوسف: 110] إشارة إلى أن في إبطاء النصر ابتلاء للرسل والأمم، فأما الرسل فاستيأسوا وظنوا أنهم وذلك ليس من شأنهم، وأما الأمم فكذبوا الرسل وليس هذا من حقهم، ثم يشير بقوله: { جآءهم نصرنا فنجي من نشآء } [يوسف: 110] إلى أن النصر كان للرسل منجيا عن الابتلاء، وللأمم المكذبة مهلكة بالعذاب، ثم أكد هذا المعنى بقوله: { ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } [يوسف: 110] أي: المكذبين؛ والمعنى: ويرد بأسنا عن القوم المطيعين.
[12.111]
ثم أخبر عن حقيقة قصصهم فقالوا: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [يوسف: 111]، وهم الذين استخرجوا لباب الحقائق عن شهود الصور، فهم الفائزون بحقائق شاهدوها في مقامات السلوك فعلموا أنها { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه } من أسرار السير إلى الله والكتب المتقدمة { وتفصيل كل شيء } [يوسف: 111] يحتاج إليه السائرون إلى الله في معرفة المقامات، { وهدى } [يوسف: 111] أي: هداية، { ورحمة } [يوسف: 111] في بيان السلوك، { لقوم يؤمنون } [يوسف: 111] بالوصول والوصال من عباب الكرم والأفضال.
قال الشيخ المصنف رضي الله عنه:
ومن أخبار قصة يوسف عليه السلام ما أخبرنا الشيخ ابن أبي الفتوح أسعد بن أبي فضائل بن خلف العجلي في عموم إجازته، قال أبو الفتح إسماعيل بن أبي الفضل المقري إجازة، حدثنا أبو المظفر عبد الله بن شبيب بن عبد الله المقري إملاء، ثنا القاضي أبو محمد بن يوسف بن يعقوب الطيبي به، ثنا أحمد بن إسحاق بن نيخاب، ثنا محمد ابن أبي العوام، ثنا أبي، ثنا داود بن سليمان عن محمد بن مسلم، قال: بلغني أنه لما ألقى يوسف عليه السلام في الجب، قال: يا شاهد غير غائب، يا قريب غير بعيد، يا غالب غير مغلوب، اجعل لي من أمري هذا فرجا ومخرجا من حيث لا أحتسب، قال: بات فيه.
وأخبرنا أبو الفتح قال: أنا جعفر بن عبد الواحد بن محمد في كتابه، ثنا أبو بكر محمد بن الفضل، ثنا محمد بن إسحاق بن محمد، ثنا علي بن سليمان بن عبد السلام المقري، ثنا أبو الفضل العباس بن يوسف الشكلي، ثنا أبو حفص - يعني: العلائي -، حدثني القاسم بن الحكم عن محمد بن الحسين، ثنا محمد بن صرف عن نافع بن عمرو ابن الجمحي، قال: قال رجل ليوسف عليه السلام: إني أحبك، قال: ما أريد أن يحبني أحدا إلا الله عز وجل، وما لقي من الحب أحد ما لقيت، أحبني أبي فأخذوني إخوتي فألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فأخذوني وألقوني في السجن، وقد قيل على لسان: لك المحبة ما عدى منافعها سوى محبة رب واحد صمد أحبه صادقا في الحب، فاكتتمت منه المحبة بين الروح والجسد، مالي والحب، إن الحب أوردني حبسا طويلا بلا جرم إلى أحد.
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي، أنا أخبرنا أبو القاسم زاهد بن ظاهر أنا، إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتابه، ثنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو سعيد الرحبي، ثنا الحسن بن داود عن الحسن عن سمرة عن كعب قال: نعم ولد ليعقوب يوسف الصديق الذي اصطفاه الله واجتباه وأكرمه، وقسم له من الجمال الثلثين وباقي عباده الثلث، وكان يشبه آدم يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية فلما عصى آدم نزع منه النور والبهاء والحسن.
وكان الله عز وجل أعطى آدم الحسن والجمال والنور والبهاء يوم خلقه، فلما فعل ما فعل وأصاب الذنب نزع منه، ثم وهب الله لآدم عليه السلام الثلثين من الجمال مع التوبة التي تاب الله عليه، ثم إن الله تعالى أعطى يوسف الحس والجمال النور والبهاء الذي كان نزعه حين أصابه الذنب، وذلك أن الله تعالى أحب أن يري العباد أنه قادر على ما يشاء، وأعطى يوسف الحسن والجمال ما لم يعط أحدا من الناس، ثم أعطاه الله العلم بتأويل الرؤيا وكان يخبر بالأمر الذي رآه في منامه أنه سيكون قبل أن يكون علمه الله، كما
علم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31]، وكان إذ ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وكان إذا تكلم رأيت شعاع النور في كلامه يلتهب التهابا بين ثناياه عليه السلام.
وتذكير أهل الإشارات نكتا في قصة يوسف عليه السلام فأردت أن أذكر بعضها تبركا بكلامهم؛ إذ فيه أنواع المواعظ وقالوا: حكي أن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقع يوسف عليها وهو عريان، وأتاه جبريل عليه السلام بقميص وألبسه إياه وبشره بالنبوة والمرتبة والعز والمملكة، واحتياج إخوته وقيامهم بين يدي سرير ملكه بالعجز، وضرب جناحه في البئر فصار البئر منورا، وعلمه أن يقول: يا كاشف كل كربة، يا مؤنس كل وحيد، يا صاحب كل غريب، يا من لا إله إلا أنت، سبحانك أسألك أن تجعل لي فرجا ومخرجا، وأن تجرد حبك في قلبي حتى لا يكون لي هم، وأن تحفظني برحمتك يا أرحم الراحمين، فاستطاب الموضع وفرج واستبشر، فكذلك المؤمن السعيد المقبول عمله إذا احتضر بكى عليه الأهلون، ورأى هو قداسة القبر واللحد ومفارقة الأولاد وغربة الوحدة، وكذلك يبكي فإذا وضع في القبر وجده روضة، وبشر بالكرامات اطمأن في لحده وتمنى لو كان قبل ذلك، قال الله تعالى أخبارا عمن هذه حالته قال:
يليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين
[يس: 26-27].
والناس مسيء أو مصلح ولا يبتغي لواحد منها أن يعقل، فإن كان مصلحا فقد دنا الفراغ، وإن كان مسيئا فقد دنا طي صحيفته، وورود حضرته ومعانيه الأهوال، إن لم يغفر له عالم الخفيات فليبادر إلى تدارك أمره، وقيل أيضا: الناس غني وفقير، فينبغي للفقير أن يرجا الأيام القلائل على طاعة الله كيلا يفتقر في الآخرة، فما أسوأ الفقر بعد التيسير، وما أسوأ الحزن بعد الفرح، وما أشد البلاء بعد النعمة.
وقيل في قوله خبرا عنهم:
يرتع ويلعب
[يوسف: 12] رضي يعقوب بلعبهم لا جرم ابتلي بما ابتلي، فاللعب خلقنا، وقيل: خدعوا أباهم بميعاد لذيذ، ثم فرقوا به بينه وبين والده، فينبغي للمؤمن أن يعتبر ولا ينخدع بما يخدع بالشيطان من المواعيد واللذائذ الباطلة، وقد قيل: أعدت شيء مشتغل بالدنيا، والموت يطلبه، وغافل ليس بمفعول عنه، وضاحك ملأ فيه ولا يدري إلى أي الدارين مصيره، وقيل أيضا: أكرم الله أربعة من الصبيان في حال صباهم:
* الأول: عيسى عليه السلام كما قال في حقه:
ويعلمه الكتب والحكمة
[آل عمران: 48] ومما حكي من حكمته قوله: معاشر الحواريين لا تجعلوا اليوم همكم، عند كل يوم همه.
* والثاني: يحيى عليه السلام كما قال في حقه:
وآتيناه الحكم صبيا
[مريم: 12]، ومما روي من حكمة أنه قال: من حي بالموافقة فإنه لا يموت بالمخالفة، فإن كنت اليوم حيا بالمخالفة تكن غدا ميتا بالعقوبة، وإنما لقن الحكمة كما حكي؛ ولهذا ندب الآباء إلى تعليم الصبيان أمور دينهم في صباهم؛ ليعتادوها ويشبوا عليها.
* والثالث: سليمان عليه السلام أكرم في صباه بالفهم كما قال:
ففهمناها سليمان
[الأنبياء: 79].
* والرابع: يوسف عليه السلام أوتي الحكمة في صباه فقوي سره لاحتمال البنيان، فأهل الولاء يحتملون أعباء البلاء، وقيل: البئر موضع الهلكة، ولما وصلت إليها بركته صارت موضع السلامة والنار موضع الحرقة، فلما وصلت إليها حشمة الخليل انقلبت بإذن الله نزهته وروضته، والغار كانت محل الوحشة، فلما وصلت إليها حشمة المصطفى صلى الله عليه وسلم صارت مزار الأولياء، كذلك القبر محل الوحشة، فإذا وضع فيه من صحبته التوحيد والمعرفة والطاعة انقلب روضة من رياض الجنة كما قال:
فروح وريحان وجنت نعيم
[الواقعة: 89].
وروي أنه لما جعل يوسف عليه السلام في الجب أضاء له الجب وعذب ماؤه حتى كان يغنيه من الطعام والشراب.
ومن العبر في قصة يوسف عليه السلام: أن من أراد الله إكرامه فلن يضره كيد كائد، وحكي أنه انتهى رجل إلى باب ملك، فقال له الملك: سل حاجتك فإني سخي بها؟ فقال: زوجني ابنتك، فاستنكف الملك من ذلك وصار رهين قوله فاحتال، فقال: ضاع مني خاتم صفته كذا وكذا، فإن طلبته ووجدته زوجتك ابنتي، فقال الرجل: لا أقعد إلا إن أجده، ثم ذهب فانتهى إلى شط دجلة وكان خائفا فاتفق أنه رأى حوتا وأخذ بيده وشق خوفه، فرأى خاتما بتلك الصفة، فذهب به إلى الملك، فقال الملك: هذا أراد الله إعزازه فما أصنع فزوجه، فكذا حال يوسف لما أراد الله إعزازه ضاع سعيهم ومكرهم ولم يغنوا شيئا قوله:
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيبت الجب
[يوسف: 15] ينبغي للعاقل أن ينظر إلى سرور يوسف وقت خروجه مع إخوته المسيرة والتماشي فما كان إلا ساعة، ثم دفع إلى غم طويل ومحنة عظيمة كذلك من سر بشيء سوى الله فإنه يكون سروره ساعة، ثم يدفع إلى غم وبلاء ومحنة لا ينقطع كما قيل السرور بغير الله محال والسكون إلى ما سوى الله محال.
وقوله تعالى:
وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم
[يوسف: 15] هذا لما أوحي إليه ذلك طابت نفسه وطاب له محنة البئر، وكذا طاب القتل على الشهداء يوعد الله الصادق في مواعيده، وكذا طاب المرض على المريض لما في الصبر عليه من رجاء الثواب الجزيل، وكذلك سكرات الموت على المؤمن تطيب تنجيز الله وعده الصدق، فسبحانه من لطيف ما أراد به، واجتهد إخوة يوسف في مباعدة يوسف من قلب أبيه، وأوقعوه في مثل تلك المحنة فلم يزدد إلا حبا، فهكذا ينبغي أن يكون أن أمر المحب لا يزداد بتوالي المحسن عليه إلا حبا.
وقوله تعالى:
وجآءوا أباهم عشآء يبكون
[يوسف: 16] فليس كل بكاء يكون حقا فقد يبكي الظالم كما في قصة يوسف وإخوته وجاءت امرأة إلى القاضي أبي هاشم وهي تبكي فقيل له: هذه ضعيفة تبكي، فقال: ليس كل من بكى صدق، قال الله تعالى:
وجآءوا أباهم عشآء يبكون
[يوسف: 16] فالبكاء على وجوه:
* الأول: بكاء الحياء، وهو كان لآدم عليه السلام بكى مائتي سنة بعد الذلة حياء من الله تعالى، وحكي أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: " يا ابن آدم أين الشكر على العطاء؟ فإن لم يكن فأين الرضاء بالقضاء؟ فإن لم يكن فأين الصبر على البلاء؟ فإن لم يكن فأين النفي عن الهوى؟ فإن لم يكن فأين الوفاء لإله السماء؟ فإن لم يكن فأين البكاء على الجفاء؟ ".
* والثاني: بكاء الخجلة، وهو لداود عليه السلام بكى أربعين سنة، ثم ملأ كفه دمعا ودفعها إلى السماء فقال: " يا رب أما ترحم دمعي؟ فأوحى الله تعالى إليه: تذكر دمعك وتنسى ذنبك، فغشي عليه خجلا مما قاله " وفي حديث غريب:
" أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبكي كلما ذكرتك [ففيض] بكائي خجلا من الله تعالى، فهل ينفعني ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " كل قطرة منها تطفئ بحورا من النار " ".
* والثالث: البكاء خوفا من النار، فقال تعالى:
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا
[التوبة: 82] وحكي أن يحيى بن زكريا - عليهم السلام - كان على المنبر يوما فقال: أتاني جبريل آنفا فقال: إن في النار دركة يقال لها: سكران فيها جبل يقال له: غضبان لا ينجوا منها إلا الباكون من خشية الله، ثم بكى حتى غشي عليه وسقط من الكرسي، فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام، وقيل لبعضهم: ما يغنيك لا تخف، وقال: ولو أن الله تعالى أوعدني بعصيانه الحبس في الحمام لكنت خائفا به كيف، وقد قال:
إن جهنم كانت مرصادا
[النبأ: 21] وقال أبو العباس المغربي:
يا سائل القلب عما كنت تأمن
أما سمعت بذكر الموت والنار
ما لي أراك قد أذنبت مبتسما
والله خوف من يعصيه بالنار
ما لنا وأهل النار في تعب كم
من عذاب لأهل النار في النار
* والرابع: البكاء من هيبة الله وهو بكاء الأنبياء، وكما قال:
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين
[مريم: 58].
* والخامس: بكاء الشوق وهو لشعيب عليه السلام، حكي أنه بكى حتى أظلمت عيناه ثلاث مرات، وحكي أنه كانت لامرأة بنت صغيرة تبكي أبدا، فجاءت والدتها إلى الحسن البصري - رحمة الله عليه - فعرضت بنتها والتمست أن يحضرها، فجاء الحسن فقال لها: يا جارية إن لعينك عليك حقا، قالت: إن عيني إن كانت تصلح لرؤية الله فألف مثلها في سبيله، وإن لم تكن أهلا لذلك فدعها تعمى، فقام الحسن وقال: جئت واعظا فوقعت بما أوعظ.
* والسادس: بكاء فوت الطاعة، قال الله تعالى:
ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم
[التوبة: 92] وحكي أنه دخل رجل على فتح الموصلي وقال: يا شيخ كنت على بساط الأنس وفتح إلى طريق البسط، فتدللت وإليه فوقعت عما كنت عليه فكيف السبيل إليه؟ قال: فبكى، قال: كلنا في هذا ولكن أنشدك أبياتا سمعتها فبكيت عليها:
قف بالديار فهذه آثارهم
تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أسائل مخبرا
عن أهلها أو ناطقا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها
فارقت من تهوى فعز الملتقى
* والسابع: بكاء الحيلة، قال الله تعالى:
وجآءوا أباهم عشآء يبكون
[يوسف: 16] فالإخوة كانوا يبكون احتيالا شوقا إلى الله، فشتان ما بين البكائين قوله تعالى:
وجآءوا على قميصه بدم كذب
[يوسف: 18] فحكي أنه لما رأى يعقوب القميص قال: فلئن كان كما قلتم كان الذئب مشفقا على القميص فلبسته أشفق على يوسف كما أشفق على القميص، فلئن كنتم صادقين فاذهبوا فخذوا الذئب وأتوني به، وكان يهوذا رجلا إذا صاح على أسد سقط من هيبته، فأخذوا ذئبا ولوثوا مخالبه بالدم وأتوا يعقوب به مشدود اليد والرجل، فقال: خلوه فخلوه، فقال يعقوب: يا روبيل سله لم أكل يوسف، فسأله فلم يجبه، فقال يعقوب: لم لا تجيبه؟ فقال: يا نبي الله إن بنيك عقوك وعصوك، ونحن نهينا أن نكلم العصاة، فقال: لم لا ترحم يوسف وفجعتني به؟ فقال: بعزة الله ما أكلت يوسف وإني مظلوم مكذوب علي، وأني غريب من بلاد مصر جئت لأهل قرابة لي هاهنا أنا لا أحوم حول غنمك فكيف آكل ابنك؟ فقال يعقوب: فمن فعل؟ فقال: الله لا يهتك سر خلقه، فإنا لا أهتك سرهم، ولما رأى يعقوب القميص صحيحا مؤخرا غير مخرق رجا أن يكون يوسف حيا، فكذا حال المؤمن وإن تلوث بخطاياه فما دام لباس الإيمان صحيحا فالرجاء باق.
قوله تعالى:
وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم
[يوسف: 19] قيل: خرج ثلاثة في طلب ثلاثة، فوجدوا ما هو خير من مطلوبهم؛ خرج موسى للاصطلاء فوجد الاصطفاء، وخرج طالوت في طلب حماره فوجد الملك.
وخرج وارد السيارة فأدلى دلوه، فأخرج به فوجد يوسف، وقيل: وارد السيارة كان شخصا من جملتهم، ووارد المؤمن في طلبه الدعاء، ووارد السيارة لم يخب سعيه، فكذا سعي المؤمن في طلبه لا يخيب.
وقيل: لما دخل يوسف في الجب لم يكن له بد من حبل يعتصم به الخروج، فأرسل إليه حبل السيارة فأخرج به، كذلك المذنب في جب العصيان محتاج إلى حبل يعتصم به؛ ليخرج منه وهو الالتجاء إلى الله تعالى بالعمل بكلامه واتباع أوامره كما قال:
واعتصموا بحبل الله جميعا
[آل عمران: 103]، وكذا الالتجاء إلى بابه والفرار إليه من الذنوب كما قال:
واعتصموا بالله هو مولاكم
[الحج: 78].
قيل: لما مر سيارة بجب يوسف نجا بسببهم، فكذا المارون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا مروا بجهنم نجا المحبوسون من هذه الأمة ببركة شفاعتهم.
وقيل: طلب السيارة الماء فوجدوا يوسف، وطلب موسى النار فوجد النبوة، وطلب سليمان الحوت فوجد خاتم الملك، وطلبت امرأة العزيز يوسف فوجدت الإيمان، وطلب طالوت الحمار فوجد الملك، وطلب بنيامين الطعام فوجد أخاه، فمن لم يطلب يوسف وجده، وعمر رضي الله عنه لم يكن في طلب الإيمان حين قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد الإيمان، والسحرة لم يطلبوا الإيمان فوجدوا الإيمان، فإذا كان كذلك فالمؤمن يطلب رضا الله مدة عمره بأعماله أولى وأحق بأن يجد مراده.
قوله:
وشروه بثمن بخس
[يوسف: 20] لو خرجوا بما سواه لما اشترى؛ لأن قيمة يوسف كانت أكثر من أن يصل إليها الطالبون، فكذلك الجنة لو طلبت بما هو قيمتها بحقيقة لم ينلها أحد، وقال: القيمة لها.
وقيل: اطلبوها ولو بلقمة، ولو بحرفة، ولو تحية، ولو بكلمة طيبة حتى ينالها الطالبون أنه رأى واجدان المشابه في المنام بعد وفاته، وقيل له: كيف حالك؟ فقال: أحسن حالي، قيل: وبما نلت؟ وقال: كنت أمر يوما ببعض الطرق فرأيت فقيرا حزينا وكان معي تفاحة فأعطيتها إياه، فلما مت وجدت تلك التفاحة قد سدت باب النار.
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه
[يوسف: 21] قيل الإحسان حسن إلى كل واحد وإلى المملوك أحسن؛ لأنه لا يجد ملجأ إليه ويعتصم به، وقال عزيز مصر:
عسى أن ينفعنآ
[يوسف: 21] وكان كما توقع، وكذا قالت آسية بنت مزاحم في حق موسى عليه السلام:
عسى أن ينفعنا
[القصص: 9] فصدق ظنها ونالت المعرفة بسببه، وقال يعقوب:
عسى الله أن يأتيني بهم جميعا
[يوسف: 83] فصدق بصدق ظنه، فكذا قول الله عز وجل:
عسى الله أن يتوب عليهم
[التوبة: 102] أولى وأحق أن يتحقق قوله تعالى:
وغلقت الأبواب
[يوسف: 23] ليكون نظر يوسف إليها، وكذا إذا أكرم عبدا أغلق عليه أبواب الشهوات واللذات، ونفره عن الخلق حتى يكون جملة نظره مقصورة على أموره.
وقيل: غلقت هي الأبواب؛ ليكون يوسف معها ويخلو للشهوة، والله تعالى فتح له باب العصمة؛ ليخرج طاهرا نقيا من بين ذلك ليعلم أن الباب الذي يغلقه المخلوق يسهل، والباب الذي يغلقه الله لا يفتحه أبدا أحدا، قال الله تعالى:
ما يفتح الله للناس من رحمة
[فاطر: 2] ولما رد يوسف بتهمة وهمية أيد من الله تعالى بالعصمة؛ ليعلم أن من جاهد في الله أيد بتوفيقه كما قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69].
وقيل: كانت الحكمة في ذلك أن الملائكة قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] فابتلوا بهاروت وماروت، وموافقته المرأة من غير مراودة منها، وعصم يوسف مع حسنه وجمال المرأة ومراودتها ليكرمه بالعرض على الملائكة، ويعلمهم أنه يعلم ما لا تعلمون، كما قال الله تعالى:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة: 30] والنكتة فيه أنه لما التجأ في ابتداء الأمر إلى الله واستعاذ به أعاذه وعصمه، فينبغي للمؤمن أن يفزع في ابتداء هوله إليه ليعيذه، وكذا ينبغي أن يكون أمر المؤمن في إشارة رضاء الله أغلب من إشارة هوى نفسه، فقد قيل خمسة أشياء من أعجب العجائب:
* أحدها: أن الله تعالى [مهد ويسر] للخلق ما في الأرض، ثم إنهم يبخلون برغيف.
* والثاني: أنه أمدهم بنعمه، قال:
وما بكم من نعمة فمن الله
[النحل: 53]، ثم إنهم استعملوها في خدمة عدوه.
* والثالث: أنه يغيث لمن استغاث، وهم يفزعون إلى مخلوق ضعيف لا ينفع ولا يضر في إلا بإغاثة الله تعالى إياه كذلك.
* والرابع: أنهم يرجون ثوابه، ثم يعملون للخلق.
* والخامس: أنه خالقهم ورازقهم وملكهم، وتمر إليه كل أمورهم وهو مطلع عليهم، ثم أنهم يستحيون عنه في ضعيف مثلهم ولا يستحيون منه.
وقيل لما اجتمع يوسف والمرأة في موضع واحد صاح الشيطان فرحا، قال: ظفرت به، فرد فرحه بعصمة الله، ولما وصل موسى إلى البحر وكان وراءه فرعون وجنوده فرح الشيطان وقال: البحر أمامهم والسيوف وراءهم ولم يدر أن النجاة كانت حظهم من الله تعالى، فكذلك أمر المؤمن وقت النزع إن أيد بعناية لن يضره من شيطان ونجا من المخاوف على مراغمة الشياطين عصمنا الله في شرهم.
وروي أن كافرا قتل مسلما في غزاة، ثم إن القفل انفتح في قلب القاتل وأقبل إلى صف المؤمنين، وآمن وأقبل على الكفار وقاتلهم حتى قتل فدفنا في موضع واحد، وروي أنهما معا في الجنة، فإذا كان الله معك فمن يضرك، وإذا كان الله عليك فمن ينقذك، وإذا نصرك فمن يهينك، وإذا خذلك فمن ينصرك، جعلنا الله من المحظوظين بعنايته ورعايته.
وقوله:
هي راودتني عن نفسي
[يوسف: 26] لما بهتت عليه أخذ يقضي عن حقيقة الحال، ولو لم يبهت لما فضحا قوله:
وشهد شاهد من أهلهآ
[يوسف: 26] قيل كان صبيا في المهد شهد بذلك كرامة ليوسف، ولم يكن في ضمير يوسف أن ينطق الله ذلك النبي، فلما حفظ يوسف أمر الله حفظ الله أمره وأنطق ببراءة يوسف.
وقوله:
واستبقا الباب
[يوسف: 25] لما دفع يوسف قدما لله تعالى لا آثما به، أيده الله بعصمة، ولما تحير التجأ إلى الله تعالى فأعانه وحكي أن واحدا من المشايخ جاور مكة عشرين سنة، فاشتهى اللبن فخرج بطلبه فوقع بصره على جارية عسقلانية وشغف قلبه بها فقال: يا جارية أين تذهبين؟ فقالت: يا شيخ لو كنت عارفا لما تبعت شهوتك، ولو كنت صادقا في دعوى المحبة لما تعلق قلبك بي، ولما تجاسرت على النظر إلي، فلما سمع الشيخ كلامها ندم وقلع عينيه بإصبعه ورمى بها، فمضت أيام وأزالت الألم عنه القرار، فرأى ليلة يوسف في منامه وقال له: أقر الله عينك بسلامتك عن الجارية العسقلانية، ومسح بيده عينه، فاستيقظ وله عينان مضيئتان أشد ضوءا مما كانت قبله.
وقوله: جزاء عنها
قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا
[يوسف: 25] إلا كانت تكرمه وتعظمه وتدار به، فلما وصلت إلى حضرة سيدها، وخافت سطوته قلبت الأمر وسعت به وخاصمته
قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا
[يوسف: 25] فكذا العبد ينفق عمره على مراعاة الأهل والولد ويسعى بأمورهم، فإذا رأى أهوال القيامة، وخاف من سطوة الملك الجبار أعرض عن الكل كما قال:
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه
[عبس: 34-35].
فمحبة العادات تدوم إلى مخالفة الحبيب فحينئذ تنقطع، ومحبة الشهوات تدوم إلى زوال الشهوة، ومحبة الولادة تدوم إلى الموت، ومحبة الواصلة تدوم إلى الفراق، ومحبة العشق إلى أن تتباعد، ومحبة الطمع في الأغنياء تدوم إلى المنع والرد، ومحبة التعاون على أمر الحق والتوافق على الاعتقاد والحق تدوم إلى الجنة كما قال:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف: 67] ومحبة الحق تعالى مؤبدة كما قال الله تعالى:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54].
ولما شهد اليهود على مريم بالفساد، وشهد عيسى ببراءتها كما قال:
إني عبد الله
[مريم: 30] إلى قوله:
وبرا بولدتي
[مريم: 32] ولما رمي يوسف بالتهمة شهد الصبي ببراءته، ولما شهد الكفار بأن الله اتخذ ولدا شهد المؤمنون ببراءته وتقديسه غير ذلك، ولما شهد المنافقون على عائشة - رضي الله عنها - مما لم تفعل برأها الله مما قالوا، ويحكى أنه لما نال يوسف الملك أمره الله على لسان جبريل بأن يجعل ذلك الشخص الذي شهد ببراءته وهو في المهد وزيرا له قضاء لحق شهادته له، فنرجو أن الله لا يضيع شهادتنا بتوحيده وتقديسه مدة عمرنا.
وقيل: إن المرأة لم تدر أن الشاهد في البيت ولو علمت ما فعلت فالعبد المذنب لو استيقظ من نوم الغفلة وعقل وعلم أن الشهود منه مستبقيا كأنه يراهم لما أقدم على المعصية، قال الله تعالى:
والله على كل شيء شهيد
[البروج: 9] وقال:
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ق: 18].
وقوله:
إن كيدكن عظيم
[يوسف: 28] قيل: سمي عظيما؛ لأنه بهتان وذنب البهتان أثقل من السماوات، وإنما قال:
وخلق الإنسان ضعيفا
[النساء: 28] لأن الآدمي يسعى مدة عمره في نيل مراده، ثم يموت قبل أن يناله.
وقوله:
يوسف أعرض عن هذا
[يوسف: 29] قيل: فعل عزيز مصر فعل الكرام؛ لأنه قال في الابتداء:
أكرمي مثواه
[يوسف: 21] ولما رأى تلك الحالة لم يتعجل بعقوبته، ثم تثبت وتعرف الحال حتى شهد شاهد بذلك، ولما بين الأمر عفا عن المجرم ويشفع إلى المظلوم بقوله:
يوسف أعرض عن هذا
[يوسف: 29] أو قيل: لما قصد يوسف الخروج من دارها وجد العصمة، فكذلك المؤمن إذا قطع طريقه عن الشيطان وهي الدنيا وجد العصمة أيضا.
ويحكى أنه كان لشقيق البلخي صاحب، فخرج يوما بيت نار المجوس لينظر فاعتبر به، فرأى شيخا يوقد النيران فرأى جارية بين يديه لم ير أحسن منها فعلق قلبه بها وقال: ليتني أرزق هذه، فخرج من بيت النار وفرش السجادة وجعل يبكي ويتضرع، فلما كانت وقت الصبح سمع صياحا داخل البيت وقيل: ماتت الجارية، فسمعوا صوتا أخرجوها إلى الرجل حتى يقرأ عليها فتصح، فأخرجوها فرآها مغشيا عليها لعلة عرفها، فقال: أن برأت هل تسلم وتزوجنيها؟ قال: نعم، فقرأ عليها القرآن فأفاقت وبرأت وأسلم الرجل وأسلمت الجارية وزوجها إياه وأسلم جماعة بيت النار.
وعن علي بن معاذ أنه خرج إلى مقبرة بالبصرة فرأى شابا في زاوية عريانا يقول: يا سيد ما أعظم ما واريتني، وما أجل ما ألبستني، فقال له: تقول هذا وأنت عريان؟ قال: عراني مما يورث الندامة وألبسني ما يورث الكرامة، وعراني مما يوجب الملامة وألبسني مما يوجب السلامة، وإن يوسف خاف عن معصية الله حتى هرب، وإن الإيمان أصل الخوف، فمن لا خوف له لا إيمان، فلما كادت تلك المرأة رجع وبال كيدها إلى نفسها حتى أقرت بذنبها، وقال:
الآن حصحص الحق
[يوسف: 51] أنا راودته ليعلم أن المكر لشيء حاق بأهله، كاد نمرود إبراهيم فأهلكه الله ونجا إبراهيم، وكاد فرعون موسى فدمر عليه ونجا موسى من كيده، وكاد تسعة رهط صالحا فنجا وأهلكوا، وكادت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم فأهلكوا وأظفر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله:
وقال نسوة في المدينة
[يوسف: 30]، قيل: أحببن ثلاث نسوة ثلاثة من المؤمنين فنلن أكبر مما طلبن:
* الأولى: أحبت امرأة العزيز يوسف عليه السلام فنالت من بركته المعرفة، فيحكى أن هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيديهن قلن ليوسف وهو في السجن: أحب سيدتك التي اشترتك وإن أردتنا فنحن لك، فيقول يوسف: معاذ الله لا أعصي الله وإن بقيت في السجن، ولما علم عزيز مصر أن امرأته عشقت يوسف حلف أنه لا يخرج من السجن ما دام حيا، فتفكرت المرأة وقالت: شاب حديث السن ويخاف عقوبة الله فأنا أولى أن أخاف، فآمنت واشتغلت بعبادة الله تعالى.
* الثانية: آسية امرأة فرعون أحبت موسى فنالت ببركة موسى الجنة
إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة
[التحريم: 11].
* الثالثة: خديجة - رضي الله عنها - أحبت محمدا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة نالت بركة الهداية بالإسلام، فمحبة أولياء الله سبب لنيل الرحمة فما ظنك بمحبة الله تعالى.
وقيل أيضا: هؤلاء النسوة أصابتهن الغمة والمحنة، فالغمة نعمة الضيافة، والمحنة قطع الأيدي، ثم كن تنسين الكل عند رؤية يوسف، فكذا المؤمن تصيبه النعمة والمحنة في الدنيا، وفي القبر يرى الوحشة، وفي القيامة يرى الأهوال، وعلى الصراط يرى أنواع عذاب جهنم، وفي الجنة يرى ألوان نعمها، فإذا أكرم برؤية الله تعالى نسي الكل وشغله عن كل نعيم، قال الحسن: لو يبقى أهل الجنة في الرؤية على حالتهم لا يخطر ببالهم شيء.
وقيل: هؤلاء النسوة يحملن ما أصابهن في مشاهدة يوسف، وكذا المرء يتحمل مؤنة الزوجية بمشاهدة الأهل والولد فكيف لا يتحمل مدعي المحبة الله تعالى مشقة بلائه طمعا في مشاهدته؟
وقيل: هؤلاء النسوة لما شغلن بجمال يوسف قطعن أيديهن ولم يحسسن بذلك، فلما أفقن وجدن ألم القطع والتلوث بالدماء وبقيت الحسرة عليهن، فكذا طالب الدنيا يتعب نفسه بطلبها ويتحمل المشاق في جمعها ويبتلى بذلك ولا يحس بآلامها، ثم عند انقطاع الأنفاس يفيق من سكرته ويرى ديوانه مسودا بالسيئات وعمره ضائعا في الزلات ويبقى في غصص الحسرات نعوذ بالله منها.
وقيل: أكمل الله تعالى ليوسف ثلاث أشياء الحسن كما روي أنه أعطي ثلثي الحسن، وحكي أنه في سنة الجدب كانوا ينظرون إليه فيشبعون، وكانت رؤية عذابهم وكانوا لا يحسون بألم الجوع في مشاهدته، وأكمل له المحبة أيضا فجمع له بين فراق الوالد وغصة الغربة ومشقة الجب والحبس والابتلاء بالنسوة، وأكمل له العصمة حتى عصم مع شدة السيئات، وشره الشهوة، وجمال النسوة، وإمكان انتهاز الفرصة، والتمكن من قضاء الشهوة في الخلق.
وقوله:
قال رب السجن أحب إلي
[يوسف: 33] أي: الدعاء باسم الرب آداب الملائكة والأنبياء المرسلين، قال الله تعالى خبرا عن حملة العرش: إنهم يقولون:
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا
[غافر: 7].
وقال إبراهيم:
رب هب لي من الصالحين
[الصافات: 100]
ربنآ إني أسكنت من ذريتي
[إبراهيم: 37]
قال نوح رب إنهم عصوني
[نوح: 21]، قال موسى
رب اغفر لي ولأخي
[الأعراف: 151] وقال شعيب:
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق
[الأعراف: 89] وعلم نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - يدعوه باسم الرب قال:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا
[آل عمران: 191].
وقيل: قال يوسف:
رب السجن أحب إلي
[يوسف: 33] وقال الغافل: الدنيا أحب إلي ورضي بالحياة الدنيا، وقال الكافر: عبادة الصنم أحب إلي ورضي بالحياة الدنيا
يحبونهم كحب الله
[البقرة: 165]، وقال المؤمن: الرب أحب إلي من نفسي وروحي
والذين آمنوا أشد حبا لله
[البقرة: 165] وكل موكل بمحبوبه، فللكافر صنمه ولصاحب الدنيا دنياه، وللمؤمن مولاه كما قال:
أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير
[الأنفال: 40].
وقيل: السجون ثلاثة: سجن يوسف، وسجن يونس، وسجن المؤمن.
* وقال يوسف:
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه
[يوسف: 33] أي: من فراق الخليل، وعصيان الجليل، ومن مقاساة النيران، ومن سرابيل القطران.
* وأما يونس: فلما حبس أقر بالظلم على نفسه فقال:
سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء: 87] ولما ذم نفسه فهو ممدوح، ولما مدحه الله بقوله:
فلولا أنه كان من المسبحين
[الصافات: 143] ليعلم أن من مدح نفسه فهو مذموم، ومن ذم نفسه فهو ممدوح، ولما مدح إبليس نفسه فقال:
أنا خير منه
[الأعراف: 12] ذمه الله تعالى بقوله:
أبى واستكبر وكان من الكفرين
[البقرة: 34] فلما ذم آدم نفسه بقوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23] مدحه الله تعالى
ثم اجتباه ربه
[طه: 122] وكذا الكفار مدحوا أنفسهم فقالوا:
أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ
[الأنعام: 53] فذمهم الله بقوله:
أولئك هم شر البرية
[البينة: 6] ولما ذم المؤمنون أنفسهم بقولهم:
ربنا اغفر لنا ذنوبنا
[الأعراف: 147] مدحهم الله تعالى بقوله:
التائبون العابدون
[التوبة: 112].
*وأما الدنيا فإنها سجن المؤمن وإن كان غنيا متنعما فيها، فذلك بالإضافة إلى نعيم الجنة سجن وأن الكافر وإن كان فقيرا فذلك بالإضافة إلى عذاب الآخرة جنة.
وقيل: سميت الدنيا سجن المؤمن؛ لأن من سجن فإنه يقدم ما معه إلى بيته، والمؤمن ينبغي أن يقدم ما معه إلى داره وهي الآخرة.
* ولأن المسجون أبدا يلزم نفسه ويقول: مالي ولهذا العصيان، والمؤمن يقول: مالي وزخارف الدنيا وغرورها ومكرها.
* ولأن المسجون ممنوع من مراده ومقصوده كما شاء، فكذا المؤمن ممنوع عما يشاء ويهواه من أمانيه البطالة.
* ولأن المسجون يخاف كل ساعة أنه يخرج ويقام عليه الساسة، والمؤمن ممنوع عما يشاء ويهواه من أمانيه إلى القيامة ويقام عليه ما يستحقه.
* ولأن المسجون يجتهد أن يرضي خصومه لئلا يتظلموا عليه عند الملك فيقسم عليه الساسة، فكذا المؤمن يجتهد في دنياه أن يرضي خصومه لئلا يخاصموه بحضرة مولاه غدا.
* ولأن المسجون يتضرع إلى الثواب والحجاب وكل نفس لها تعلق بالملك ويتشفع به إليه في أمره، فكذا المؤمن يتوسل بكل أحد إلى الله تعالى ويسأل الله بكل لسان بأن ينقذه عن مهاوي الهلكة.
* ولأن المسجون يدعي رفع الصفة كل يوم بل كل وقت فلعل الملك يرحمه في وقت من الأوقات، فكذا المؤمن ينبغي ألا يفتر عن رفع قضيته كل ساعة فعسى الله أن يرحمه.
* ولأن المسجون إذا جوزي في السجن ولم يفضح بين أيدي الناس فذلك أهون عليه، فكذا المؤمن إذا ابتلي في دار الدنيا فإنه يحمد الله على أن جوزي بذنوبه في هذه الدنيا الفانية ولم تؤخر عقوبته إلى دار البقاء.
* ولأن المسجون يرجو الفرح وإن كان على خطر ولا يأمن وإن كان يرجو الخروج، فكذا المؤمن يرجو عمره بين خوفه ورجائه إلى أن ينتهي عمره.
وقوله:
يصاحبي السجن أمآ أحدكما فيسقي ربه خمرا
[يوسف: 41] قام الطباخ والساقي فرأيا رؤياهما فوصل أحدها إلى نعيم الدنيا، والآخر إلى العقوبة،
فريق في الجنة وفريق في السعير
[الشورى: 7]، ولو كان يعلم الطباخ ما يرى في منامه لما نام، فكذا الغافل لو أنه يدري ما يصيبه من الغفلة ما غفل ساعة، والساقي ترك الخيانة وأشفق على سيده ولم يداهن فنجا وفاز، والطباخ خان وداهن وأعرض عن مراعاة حق سيده فهلك، فكذا أمر الخائن العاصي المداهن المعرض عن طاعة الله المتبع أوامر أعدائه قال الله تعالى:
أفتتخذونه وذريته أوليآء
[الكهف: 50].
ويحكى أنه لما دخل يوسف السجن بكى وقال: هذا غضب مخلوق فكيف سخط الخالق؟ فقيل له: أطلب منه ألا يحبسك، فقال: هو ربي يفعل ما يشاء، وإنما قال هذا يعني الله تعالى، فظنوه يعني مشتريه، فقالوا: نعم العبد هو لمولاه.
وقوله:
يوسف أيها الصديق
[يوسف: 46] اعلم أنه سمى الله تعالى إبراهيم صديقا، قال:
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا
[مريم: 41] وسمى إدريس صديقا:
واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا
[مريم: 56] وأخبر عن تسمية يوسف صديقا:
يوسف أيها الصديق
[يوسف: 46].
وسمى مريم صديقة
وأمه صديقة
[المائدة: 75]، وسمى أبا بكر: صديقا،
والذي جآء بالصدق
[الزمر: 33] وسمى المؤمنين صديقين:
والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون
[الحديد: 19].
وأعطى إبراهيم الخلة،
واتخذ الله إبراهيم خليلا
[النساء: 125]، وأعطى إدريس الرفعة
ورفعناه مكانا عليا
[مريم: 57] ويوسف التمكين
وكذلك مكنا ليوسف
[يوسف: 56]، ومريم الاصطفاء والطهارة كما قال:
إن الله اصطفك وطهرك
[آل عمران: 42] والصديق الخلافة كما قال:
ليستخلفنهم في الأرض
[النور: 55] والمؤمنين ملازمة الإيمان كما قال:
وألزمهم كلمة التقوى
[الفتح: 26].
قوله:
قال تزرعون سبع سنين دأبا
[يوسف: 47] قال يوسف لهم: ما بين أيديكم أيام السعة ومن بعدها أيام المحنة، فادخروا في السعة للضيق، ومن أيام النعمة لأيام المحنة، ومن أيام الزائلة لأيام الباقيات، فيا مؤمن أنت في دار الدنيا في نعمة ومكنة وفسحة، فخذ من نفسك لنفسك، ومن حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن غنائك لفقرك.
وقوله:
فذروه في سنبله
[يوسف: 47] أي: إن أظهرتموه فأصابه الغبار والآفات وأكله الديدان والأكلة، فييأسون من جعل طاعتك تخفيا كيلا يصيبها آفات الرياء والعجب فتحبط وتصير هباء منثورا، وكان أمر براءة يوسف خافيا، فلما باحت وأظهرت الستر
حصحص الحق
[يوسف: 51] وأقرت هي بجرمها وببراءة يوسف، فكذا في القيامة يتبين أمر المطيع من أمر العاصي، ويتميز المجرم من الصالح كما قال:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس: 59]، وقال:
يوم تبلى السرآئر
[الطارق: 9].
وقيل: من له ذخيرة في أيام القحط فإنه يكون مسرور الحالة، ومن يكون فقيرا معدما فإنه يكون حزينا متحيرا، فكذا أمر المطيع والعاصي في القيامة؛ فالمطيع:
في عيشة راضية * في جنة عالية
[الحاقة: 21-22] والعاصي في حسرة يا لها من حسرة
يقول يليتني قدمت لحياتي
[الفجر: 24] وفي القحط يتضرع الفقير إلى الغني ولا يغنيه ذلك، وكذلك في الآخرة يتضرع العاصي إلى المطيع؛ ليحنو عليه بحسنة ولا تسمح نفسه بذلك لا يتحمل عنه خطيئة واحدة كما قال:
وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى
[فاطر: 18].
ويحكى أنه لما اشترى يوسف أهل مصر ولم يبق لهم شيء وبقي من سنين القحط بقية قالوا ليوسف: نحن الآن عبيدك ونفقتنا عليك وقد جعنا، فتحير يوسف فأتاه جبريل وقال: اخرج إليهم فإن الله تعالى جعل مشاهدتك غذاءهم، فأمر يوسف أن يخرج أهل مصر بنسائهم ورجالهم وصبيانهم ويقفوا بالطرقات ففعلوا وخرج يوسف ومر بهم، فلما رأوه شبعوا ولم يحتاجوا إلى الطعام والشراب إلى أسبوع آخر، فجعل الله لقاء يوسف غذاء لهم سنة كاملة إلى أن حصل الخصب والنعمة، وإنما لم يلم يوسف في تزكية نفسه
إني حفيظ عليم
[يوسف: 55] لأنه أراد حفظ أمور الرعية، وبث العدل بينهم، والإنفاق عليهم بقدر ما يكفيهم لئلا يهلكوا بسنين الجدب، وأراد بتولي ذلك إبقاء عليهم، ومراعاة لحياتهم، وأراد تحقيق رؤياه؛ ليصل إليه إخوته منقادين خاشعين لحاله، ويصل هو إلى لقاء الشيخ الحزين عليه السلام.
قوله:
فعرفهم وهم له منكرون
[يوسف: 58] قيل: إنما أنكروا؛ لأنهم كانوا قد جفوه، والجفاء يورث الوحشة ويذهب الألفة، ويورث المخالفة ويذهب الموافقة، ويورث المحاربة ويذهب المسالمة، ويبعد ولا يقرب، وينكر المعروف، ولما صفوا تحت سريره فكان بلسان الحال ناداه انظروا ماذا فعلتم بيوسف؟ وماذا صنع الله به؟ أنتم أهنتموه والله أعزه، وأنتم جعلتموه في الجب والله جعله على سرير الملك؛ ليعلم العالمون أن العزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله،
تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء
[آل عمران: 26].
وقيل: إن يوسف جعل في الجب ثم في السجن، فلم يعرضه الله تعالى في تلك الحالة على إخوته، ولما توجه بتاج الملك عرضه عليهم، وكذا أمر المؤمن يكون نطفة ثم علقة ولا يعرض في هذه الأحوال، فإذا تمت خلقته وكملت صورته أظهر وعرض، ثم إذا توفاه يعرض للإتيان أماته وأقبره، فإذا أعاد خلقه عرضه مكرما بلباس التوحيد متوجا بتاج الملك كما قال:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم: 85].
ويحكى أنه لما دخل إخوته مصر نادى مناد: لا ينبغي أن يبايع ويشاري الكنعانيين أحد؛ لأن الملك يريد مبايعتهم وكأنهم قالوا في أنفسهم: ولم لم يعد لهم بمناد ينادي: لا ينبغي أن يبايع ويشاري الكنعانيين، فأجابهم بلسان الحال؛ لأن معظم مقصود يوسف بتمكينه كان أولئك فحسب، كما قال اليهود والنصارى: " ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا، وأمة محمد أقل عملا وأكثر أجرا، فقيل لهم: أظلمتكم شيئا؟ وهل أنقصتكم شيئا من أجوركم؟ فقالوا: لا، فقيل: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ، فالمقصود هو محمد وأتباعه، وقيل: " لولا محمد صلى الله عليه وسلم لما خلق آدم ".
وحكي أنه كان يؤخر قضاء حاجات إخوته كيلا يتنحوا عن بابه ويكونوا بحضرته، وكان يسارع في قضاء حاجات الأغيار؛ ليصرفهم عن بابه، فالله تعالى يقضي حاجات المطرودين عن قريب لئلا يكونوا على بابه، ويؤخر قضاء حاجات المؤمن؛ ليبقى على بابه.
قوله تعالى:
فالله خير حافظا
[يوسف: 64] لما استحفظ الله ابنه حفظه ورده إليه، فإنه لا يضيع، قوله: { يبني } أضافهم لنفسه وإن جفوه ولم يقطع نسبهم بسبب جفائهم كما قال تعالى:
يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
[الزمر: 53].
وقوله:
وادخلوا من أبواب متفرقة
[يوسف: 67] قال: هذا الافتراق بقي في بني إسرائيل، انفلق البحر لهم اثنتي عشرة فلقة كما قال:
فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
[الشعراء: 63].
وقال:
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما
[الأعراف: 160] وقال:
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا
[البقرة: 60] وقال:
وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا
[المائدة : 12] وقال في حق المؤمنين:
وألف بين قلوبهم
[الأنفال: 63] وقال:
يأيها الذين آمنوا
[الأنفال: 45] وقال:
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
[الأحراب: 35] وقال:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض
[التوبة: 71] فلا ينبغي للمؤمنين أن يتفرقوا؛ بل ينبغي أن يكونوا كنفس واحدة يشد بعضهم بعضا.
وقيل: أربعة نفر أمروا بدخول أربعة أبواب كما قال:
وأتوا البيوت من أبوابها
[البقرة: 189] وذلك لموافقة الشرع ومخالفة الهوى، وأمروا إخوة يوسف بدخول أبواب مصر؛ لكمال النفقة وحسن المقال:
لا تدخلوا من باب واحد
[يوسف: 67] وأمروا الكفرة بدخول أبواب النار لإظهار العقوبة والنكال كما قال:
ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها
[الزمر: 72] وأمر المؤمنون بدخول الجنان بكمال الكرامة وإظهار النوال كما قال:
ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون
[الأعراف: 49].
وقيل: أربعة أبواب فتحت لأربعة نفر لأربعة أشياء فتحت أبواب النعمة للغافلين؛ للاستدراج والإمهال كما قال:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء
[الأنعام: 44]، وفتحت أبواب السماء على قوم نوح للخزي والنكال كما قال:
ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر
[القمر: 11]، وفتحت أبواب النار على الكفار للعقوبة والسلاسل والأغلال كما قال:
حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها
[الزمر: 73]، وفتحت أبواب الجنان على المؤمنين للفضل والأفضال كما قال:
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا
[الزمر: 73].
وقوله:
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم
[يوسف: 65] كان ظاهر الدنيا الإهانة، وباطنها الإكرام كما كل ممنوع ومردود مهان، وليس كل من لا يستطيع الحج مطرودا، ولا كل من لا يجد مالا يتصدق به مهجورا، وقوله لموسى عليه السلام:
لن تراني
[الأعراف: 143] لم يرد بذلك إهانته؛ بل إكرامه إذا لم يكن يطيق ذلك، أو لو تجلى له لما بقي كما يدك الجبل، فالدنيا دار البلاء لا دار الفناء مع هذه الدنيا الخسيسة كيف ينال العبد شرف رؤية الله تعالى وهو أشرف كل شرف وأكرمه، وروي عن عبد الله بن المبارك أراد يغزو سنة فلم يوفق لذلك تلك السنة، فحزن لذلك فرأى في المنام: لا تحزن، فإنك لو غزوت لأسرت، ولو أسرت لكفرت .
وورد في حكاية أنه خرج واحد للحج فلما جاء فاته وقت الحج فقال: آه، فأعجب بتأوهه إنسان فقال له: كذا حجة أبيعك بهذه التأوه، فقال: اشتريتها، فرأى في المنام أنك ما تعرف قدر ذلك التأوه وبعته رخيصا، ورأى المشتري في منامه أنه قيل له: اشتريت التأوه رخيصا، فذلك الأنين خير لك من كذا وكذا حجة.
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم
[يوسف: 65] فاستبشروا، كذا المؤمن عند الموت إذا كان معه بضاعته فرح فرحة لا يوازيها فرحة، ومن خسر الأصل والربح بقي في حسرة لا يوازيها أعاذنا الله منها.
وقوله:
ثم أذن مؤذن أيتها العير
[يوسف: 70] ذكر في القرآن أذان الظالمين
فأذن مؤذن بينهم
[الأعراف: 44] وأذان الحاج،
وأذن في الناس بالحج
[الحج: 27]، وأذن البراءة في المشركين
وأذان من الله ورسوله إلى الناس
[التوبة: 3]، وأذان إخوة يوسف
ثم أذن مؤذن أيتها العير
[يوسف: 70] فأذان الظالمين لتعسرهم وطردهم، وأذن المشركين للبراءة منهم، وأذان الحاج للدعوى والكرامة، وأذان إخوة يوسف للعتاب والملامة، ونسبة بنيامين إلى الشرف لم يكن إهانة له؛ بل كان تدرجا في إكرامه؛ لينتزعه من أيديهم ويمسكه عنده على أكرم وجه، وهذا كما خرق الخضر عليه السلام السفينة لا ليغرقها؛ بل لينقذها من أيدي الظالم الغاصب، ثم لما نجا أهلها أصلح بلوح أعاده فيها، فكذا بنيامين استنقذه من أيديهم ثم لما وصل يعقوب إلى يوسف أظهر الحال وبان أن ذلك كان تدرجا إلى إعزازه وإكرامه.
قال المؤذن:
ولمن جآء به حمل بعير
[يوسف: 72] لأنه كان سقاية الملك وكان مخصوصا، فمن كان يأتي به فله النوال، ومن كان يكيد له فعليه النكال، وكذا قلب المؤمن خزانة أمر الحق فمن أتاه به فله النوال، ومن أخان له عن حقوقه خيف عليه النكال، والصدوق إذا لم يكن فيه جوهر فأي قدر له، فالقلب إذا لم يكن فيه اهتمام بأمور الآخرة فأي قدر وقيمة له قلب ملة أمور الحق فأكرم به من خزانة، وفي محالات الدنيا فحظر الحسرات قال الله تعالى:
يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى
[الفجر: 23].
وقيل: استدرجهم يوسف على أحسن وجه ففرحوا وقالوا: رعانا الملك برعايته، وعاملنا باللطف ولم يشعروا بالأمور المعقب عنهم حتى ساروا قليلا، فأذن مؤذن خلفهم:
أيتها العير إنكم لسارقون
[يوسف: 70] فانصرفوا عن وجهتكم، فكذا العبد يقر بنعمته، وحصول مآربه، وتيسير مقاصده، ولا يعلم الشر المعقب إلى أن يحضره الموت، فإذ ذاك تبين حقيقة حاله من المقربين أم من المستدرجين.
وقيل: الحكمة في ذلك مكافأتهم بأن لم يرحموا يوسف حتى كان يتضرع إليهم في أن لا يجعلوه في الجب فلم يجيبوه إلى ذلك فكان فكافأهم بأن ألجأهم إلى أن يتضرعوا ويقولوا:
قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا
[يوسف: 78] فتضرعوا إليه ولم يسعفهم بمرادهم، ثم مع ظهور أمر السرقة وخوف الساسة والنكال فادوا أخاهم بأنفسهم وقالوا:
فخذ أحدنا مكانه
[يوسف: 78].
وقيل: فعل إخوة يوسف ما لم يكن لهم أن يفعلوه فبقوا مدة أربعين سنة وأكثر في غم جفاء الأخ وعقوق الوالد ومعصية الرب، فكذلك العبد العاصي يغر بالدنيا ويعصي الله غافلا، ثم يفاجئه الأجل فيفارق الدنيا ويتوجه إلى الآخرة ويدخل القبر إلى يوم النشور ومعه عمله وحكم الحاكم العدل الذي لا يميل ولا يخال قدامه، وفقنا الله لما فيه نجاتنا، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
ويحكى أن يوسف عليه السلام كان إذا اجتمع إخوته على بابه أمر بنيامين ليقف بالعرش، وإذا خلا به أحله على سرير الملك، وكان إخوته إذا رأوه حزنوا فيما أصابه، فكذا المؤمن المقبول يأتيه الموت ويجعل في حصار لحده ويبكي أقاربه عليه ويقولون: المسكين بقي في وحشة القبر وظلمته، ولا يدرون أنه في لذة ما توازيها لذة، وفي راحة لا تساويها راحة كما قال:
يليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي
[يس: 26-27] ولما أرادوا أن يذهبوا بنيامين معهم قالوا:
فأرسل معنآ أخانا
[يوسف: 63] فنسبوه إلى أنفسهم ولما رأوه بالسرقة لم ينسبوه.
وقيل: إن ينتهي بلاء بقرب سبب رد السائل وذبحه العجل بحضرة أمه، ثم ينفرج وينكشف، فما أمر البلاء إلى الفرج بعد اشتداده وقوله تعالى:
وتولى عنهم وقال يأسفى على يوسف
[يوسف: 84] كأنه خلا عنهم بنفسه، واشتغل بما ابتلي به، وتأسف على يوسف، فلهذا كان خوفه على يوسف أشد، وأتاه كيدهم فإنه مقيم باختباره.
وقوله:
وابيضت عيناه
[يوسف: 84] إشارة إلى أنه ينبغي أن يذكر الأنبياء بالحرمة، فلم يقل عمي عند بلائه بعبادة حسنة، فقال:
وابيضت عيناه
[يوسف: 84].
وقوله:
وأعلم من الله ما لا تعلمون
[يوسف: 86] إنما قال ذلك لأنه روي أنه أتاه ملك الموت وهو في صومعته فسلم عليه، فقال له يعقوب، من أنت؟ فقد اقشعرت أعضائي واضطربت بسلامك، فقال: أنا ملك الموت الذي لا يمنعني حصن حصين، فقال يعقوب: كنت أرجو أن أرى يوسف قبل أن أموت، فالآن جئتني لقبض روحي، فقال: ما جئت روحك ولو جئت كذلك ما أمهلت ساعة، فقال له يعقوب: بحق الله هل قبضت روحي يوسف؟ قال: لا هو حي وستلقاه عن قريب.
فلذلك قوله:
وأعلم من الله ما لا تعلمون
[يوسف: 86] قال بعض أهل الإشارة: لما كان خوف يعقوب من قبض ملك الموت روح يوسف أتاه الأمن جهة خوفه فبشره ملك الموت، فكذا المؤمن خوفه من الموت ولا خوف على المؤمن إن مات على الإيمان كما قال:
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا
[فصلت: 30].
وروي أيضا: أن يوسف كان يوما في الصحراء فرأى أعرابيا ركاب نجيبة فقال له: أين تقصد؟ قال: كنعان، فقال يوسف: لي معك سفر فمن حقك أن تحقني ما أعهد إليك، فعاهده الأعرابي أن يأتي بما تعهد إليه، فقال له: إذا دخلت أرض كنعان فاذهب إلى يعقوب فقل له: إن ابنك يوسف بأرض مصر، وإن طلب منك علامة فالعلامة هذه السقطة على سرتي، فلما وصل الأعرابي إلى أرض كنعان أتى إلى يعقوب وقال: يا نبي الله أبشر فيوسفك المفقود بأرض مصر ويقرأ عليك السلام، فقال: بأي علامة؟ فذكر العلامة، فقال: ما حاجتك؟ فقال الأعرابي: لي مال كثير وليس لي ولد، ادعو الله لي بالولد فدعا له فرزقه بنين له، فلهذا قال:
وأعلم من الله ما لا تعلمون
[يوسف: 86].
فأملى يعقوب كتابا فكتبوه:
من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله إلى والي مصر:
اعلم أني قد كبرت وضعفت، وذهب عني النوم [والراحة]، ونحن أهل بيت هم أهل البلاء، وهدف المحنة، وامتحنت بفراق قرة عيني يوسف منذ أربعين سنة أنا مبتلي بفراقه، وهذا الابن الآخر اتهمته بالسرقة وهو ابن نبي الله وليس بسارق، فالله الله أرسله إلي فهو مؤنسي، وإن لم ترسله إلي ضرك دعائي عليك، فإن الله لا يرد دعاء المظلومين، ودفعه إلى روبيل ابنه حتى يوصله إلى يوسف.
فقال يوسف: بلغه سلامي وقل له: إن إبراهيم صبر وظفر، وكذا إسحاق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا، فلما سمع جواب الكتاب قال: هذا كلام الأنبياء! يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه.
قوله:
يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر
[يوسف: 88] أظهروا عجزهم وأعرضوا ما كان لهم وعدوه يسيرا، ثم أظهروا ضرهم بقولهم: فأوف لنا الكيل ثم أظهروا ضرورتهم، فقالوا: أو تصدق علينا، ثم نكروا كرم الحق بقولهم:
إن الله يجزي المتصدقين
[يوسف: 88] ففعل يوسف أيضا خمسة أشياء عاتب بقوله:
هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه
[يوسف: 89] لقنهم حجتهم بقوله:
إذ أنتم جاهلون
[يوسف: 89] حتى يقولوا: فعلنا بجهالة، ثم عفا بقوله:
قال لا تثريب عليكم اليوم
[يوسف: 92] وثم صار شفيعا في حقهم بقوله:
يغفر الله لكم
[يوسف: 92] ثم قوى رجاهم في قلوبهم بقوله:
وهو أرحم الراحمين
[يوسف: 92].
فكذلك أيها العبد المؤمن تب إلى الله كما قال:
والذين جاهدوا
[العنكبوت: 69] وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون وأنب إليه كما قال:
وأنيبوا إلى ربكم
[الزمر: 54]
ففروا إلى الله
[الذاريات: 50] ثم تستمر لعبادته كما قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69] احترز من كيد الشيطان كما قال:
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا
[فاطر: 6] ثم خالف هواك كما قال: وأما من خالف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإذا فعلت ذلك أكرمت بالقبول كما قال:
وقابل التوب
[غافر: 3] وبالمغفرة كما قال:
إن الله يغفر الذنوب جميعا
[الزمر: 53] وتبديل السيئات الحسنات كما قال:
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70] وبالنجاة من العذاب كما قال:
ثم ننجي الذين اتقوا
[مريم: 72] وبدخول الجنة كما قال:
يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب
[غافر: 40].
وقوله:
إني لأجد ريح يوسف
[يوسف: 94] يحكى أن ريح الثوب لم يجدها الإخوة ووجدها يعقوب؛ لأن الإخوة كانوا عاقين لوالديهم، وكان الثوب من الجنة فلم يجدوا ريحه، ثم بعد ذلك رحموا وغفروا وقيل لم يجدوا ريح الثوب؛ لأنهم ما احترموا يوسف، بل هتكوا حرمته فلا جرم لم يجدوا ريحه كما لا يجد غير التائب ريح التوبة في الآخرة.
وقيل: كان ليوسف قميص المحبة
وجآءوا على قميصه بدم كذب
[يوسف: 18]، وقميصه الفتنة
وقدت قميصه من دبر
[يوسف: 25] وقميصه البشارة،
اذهبوا بقميصي هذا
[يوسف: 93] ولما كان يوم البلاء تباغضوا، ولما كان يوم الفرح توادوا واستبشروا وتنافسوا أيهم يذهب بالقميص ويبشر يعقوب به، هكذا قال الله تعالى:
وتلك الأيام نداولها بين الناس
[آل عمران: 140] فسبحانه من عزيز حميد فقال: لما يريد بقلب الدهور ويحدث الأمور بعد الأمور.
وقوله:
سوف أستغفر لكم ربي
[يوسف: 98] قيل: إنما أخر؛ لأن ما ينال بالهوينا لا يعرف قدره فأراد أن يكونوا بين الخوف والرجاء، ثم إذا نالوه فإن أهل الجنة لو طلقوا فيها لما عرفوا قدرها، وقيل: إنما أخر الاستغفار؛ لأن يعقوب عليه السلام كان شفيعا، والشفيع لا يشفع إلا برضاء الخصم، فأخر حتى يسترضى يوسف قوله:
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن
[يوسف: 100] ولم يقل: إذ أخرجني في الجب بحضرة إخوته إنه كان في الجب أياما قليلا وهي ثلاثة أيام.
وروي أنه ما بات في الجب وبقي في السجن سنين كان مع غير أبناء الجنس، وكان في الجب الملك يؤنسه؛ ولأنه لم يرد أن يذكر أمر الجب بحضرة إخوته إذ هم جعلوه فيه تكرما وتلطفا، فلقد عفا عنهم
قال لا تثريب عليكم اليوم
[يوسف: 92] وطلب المغفرة لهم كما قال:
يغفر الله لكم
[يوسف: 92] وقوى رجائهم بقوله:
وهو أرحم الراحمين
[يوسف: 92] ولم يذكر لهم ما فعلوه معه وأحال ذنبهم على الشيطان فقال:
من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي
[يوسف: 100]، وبدأ ينزغ الشيطان بنفسه فقال:
بيني وبين إخوتي
[يوسف: 100] وصلوات الله عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين الذين كانوا معادن الكرم واللطف ومحاسن الشيم عامة.
وقوله:
رب قد آتيتني من الملك
[يوسف: 101] أخاف إعطاء الملك من الله تعالى؛ لأنه هو
مالك الملك تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء
[آل عمران: 26]، وقال:
من الملك
[يوسف: 101] ولم يقل: من الملك؛ لأنه كان ملك مصر فحسب، وكذا ملك المخلوقين في الدنيا لا يكون كاملا بل يكون معيبا بالنقائص وآمنا ملكهم التام في الدار السلام؛ إذ يلقون ما يشتهون ولا يمتنع عليهم مراد كما قال:
وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا
[الإنسان: 20] أهلنا الله لذلك بلطفه وكرمه، وإنما بدأ بذكر الله ثم يعلم التأويل؛ لأن مقصوده من الملك كان بث المعدلة وإمساك الطعام على الدعية، والسبب إلى إبقاء أرواحهم فكان هذا النفع أعم من نفع علم التأويل، فلهذا قدم ذكره وقيل: أعطي ثلاثة من الأنبياء النبوة والعلم والملك، وأود كما قال:
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء
[البقرة: 251] وسليمان ويوسف، وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم النبوة والعلم وملك القناعة، وأعطي عيسى النبوة والعلم وملك الزهد في الدنيا.
وأخبر عن يوسف أنه قال:
أنت وليي في الدنيا والآخرة
[يوسف: 101]، وقال لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
ادعوا شركآءكم
[القصص: 64] ثم كيدون فلا تنظرون
إن وليي الله الذي نزل الكتاب
[الأعراف: 196] وقال في حق المؤمنين:
الله ولي الذين آمنوا
[البقرة: 257] فانظر هل توازي هذه الكرامة كرامة؟ ثبتنا الله على الإيمان.
قوله:
توفنى مسلما
[يوسف: 101] يدل على: إن من حق العبد أن يتضرع دائما إلى الله في تثبيته على الإيمان، وكذا قوله تعالى خبرا عن إبراهيم
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام
[إبراهيم: 35]، وروي أن جبريل عليه السلام قال: " متى لعن إبليس لم يبق ملك مقرب إلا وهو يخاف زوال الإيمان " ، ويقول : ربنا لا تغير اسمنا ولا تبدل جسمنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، فكأن يوسف قال: رب احفظني في ميزان التأديب حتى لم أرض أضرع، واحفظني في ملك حتى لم أظلم بل عدلت، وقد بقي الفزع الأكبر فلا تمتني إلا مسلما، وألحقني في الآخرة بالصالحين.
قال يحيى بن معاذ: من تمام نعمة الله على يوسف بأن يجعله [منبأ] على أخوته، واضطرهم إلى الخضوع له والتذلل بين يديه بقولهم:
وإن كنا لخاطئين
[يوسف: 91] وقال سهل: نعمته عليك تصديق الرؤيا الذي رأيته لك.
وقال بعضهم: ويتم نعمته عليك بأن عصمك عن أفعال ما تليق بك ولآبائك، قال الحكماء في قوله:
والله غالب على أمره
[يوسف: 21] أي: حيث أمر يعقوب يوسف - عليهم السلام - بألا يقص رؤياه على إخوته فغلبه أمر الله تعالى حتى قص، ثم أراد يعقوب ألا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد إخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكورا مشهورا، ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب أمره حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم دبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين تائبين فغلب أمره حتى نسوا الدين، وأضروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة فقالوا:
وإن كنا لخاطئين
[يوسف: 91].
وقالوا لأبيهم:
وإن كنا لخاطئين
[يوسف: 91] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالقميص والدم والبكاء فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال:
بل سولت لكم أنفسكم
[يوسف: 18] ثم احتالوا أن تذهب محبته عن قلب أبيه فقلب أمره حتى زادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمره حتى نسي الساقي ذكر يوسف
فلبث في السجن بضع سنين
[يوسف: 42]، ثم احتالت امرأة العزيز أن تزيل المراودة عن نفسها حين قالت:
ما جزآء من أراد بأهلك سوءا
[يوسف: 25] فغلب أمره حتى شاهد الشاهد من أهلها.
وقال ابن عباس رضي الله عنه:
والله غالب على أمره
[يوسف: 21] على ما أراد من قضائه لا يغلب على أمره غالب، ولا يبطل إرادته منازع فهو قادر على أمره من غير منازع، قال جعفر بن محمد الصادق سلام الله عليهما: البرهان النبوة التي أودع الله تعالى في العلم في صدره فهي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله، وقيل: هو ما أتاه الله تعالى في العلم والحكمة.
وقال أهل الإشارة: إن المؤمن له برهان من ربه في صدره من معرفته فرأى ذلك البرهان وزواجره، وقال سهل: عصمه الله من الفعل ولم يعصمه من الهم، وقال المزني: غلب عليها الطبع فهمت بالمعصية وغلب على يوسف التوفيق.
ومن العبر والمواعظ والفوائد في هذه القصة.
* أنه قال: لقد كان في يوسف وإخوته فلم ينقطع الوصلة بينهم بالجفاء الذي وقع منهم؛ لبقاء أصل الدين في مؤاخاته بخلاف ابن نوح، فإنه قال في حقه:
إنه ليس من أهلك
[هود: 46] ولا في إخوة يوسف عزموا على أن يتضرعوا إلى الله إلى التوبة والإنابة.
كما أخبر عنهم بقوله تعالى:
وتكونوا من بعده قوما صالحين
[يوسف: 9] قال بعض المفسرين: وأما كنعان فلم يعزم على الالتجاء إلى الله تعالى، بل
قال سآوي إلى جبل يعصمني من المآء
[هود: 43].
* ومنها: روي أنه ابتلي بذلك الفراق؛ لأن امرأته حين وجدت ريح قدرهم فسألت عن يعقوب من ذلك الطعام فقال: اذهبي إلى بيتك مشاهدي إليك، ثم نسي وعدهم فابتلي بذلك الفراق، وقيل: ببيدائه ذبح عجلا بحضرة أمه فينبغي أن يعتبر ويحترز من أمثال ذلك.
* ومنها: أنه أظهر لبنيه زيادة محبة ليوسف فحملهم ذلك على أن فعلوا ما فعلوا، فينبغي أن يعتبر المؤمن ويسوي بين أولاده جهده في المحبة وأن لم يمكنه فليكتم ذلك عنهم، ولذلك يستحب في شرعنا التسوية بين الأولاد في العطاء.
* ومنها: ألا يأمن من نزغات الشيطان في حال من الأحوال، فإنهم كانوا من أبناء النبي عليه السلام ومع ذلك نزغ الشيطان بينهم.
* ومنها: اجتناب الجسد إذا حملهم الحسد على فعلهم ذلك.
* ومنها: أن المحبة سبب البلاء، فمن ادعى المحبة فليستعد للبلاء.
* ومنها: ألا يوثق بكل أحد، ولا يؤتمن على أحد، ائتمن يعقوب بنيه على ابنه فأصابه منهم ما أصاب.
* ومنها: أن الأولاد فتنة، ولقد روي في القصة أنه التمس من الله أن يرسله، فيعمد إلى الصحراء فلم يرد أن يمسكه.
* ومنها: فضيلتي الصبر، فلقد صبر يعقوب فنال الفرج، وصبر يوسف فنال الملك والمراد، وصبرت زليخاء فبلغت المقصود.
* ومنها: فضيلة الحلم، فلقد حلم عنهم حين قدر عليهم وقال:
قال لا تثريب عليكم اليوم
[يوسف: 92].
* ومنها: أن الإقرار بالذنب سبب العفو، فإنهم قالوا:
وإن كنا لخاطئين
[يوسف: 91] قابلهم بأنه قال:
قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم
[يوسف: 92].
* ومنها: من يريد الله رفعه فلن يضره كيد كائد، فلقد كادوا ليوسف فلم يمكنهم دفع رفعته
والله غالب على أمره
[يوسف: 21] ولقد كاد الكفار رسولنا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:
وإذ يمكر بك الذين كفروا
[الأنفال: 30] فلم يدفعوا مراد الله فيه، فكذلك المؤمن إذا كانت معه عناية الله لم يضره كيد جني ولا كيد أنسي به، ونسأل الله تعالى ألا يخلبنا عن عنايته ورعايته بفضله وكرمه فهم بموعظتها، وقال رويم: همت زليخاء بالمعصية، وهم يوسف بالرجوع إليها في الفرار منها، وذلك قوله عز وجل:
واستبقا الباب
[يوسف: 25] قال ابن عطاء: لولا أن رأى برهان ربه أي: واعظا من قلبه، وهو قوله عليه السلام: " واعظ الله في قلب كل مؤمن ".
وقال الجنيد: تحرك طبع البشرية في يوسف ولم يعدوه طبع العادة والعبد في تحريك الخلقة غير مذموم، وفي مقالة المعصية ملوم، وذكر الله على يوسف همه على طريق المحمدة لا على طريق المذمة.
وقال أبو عثمان: ما كان هم بها إلا هم شفقة عليها، ودعا إلى الله في قطع تلك الهمة الدنية عنها كيف يكون هم يوسف غير ذلك أو هم أنها بدا والله تعالى يقول:
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء
[يوسف: 24]، فكانت الفحشاء مصروفة عنه كيف يبقى عليه موضع هم دوني.
قال الشيخ المصنف رضي الله عنه: همت به زليخاء هم النفسانية الهوائية، لكن بمناسبة وقضاء الربانية، وهم بها يوسف هم ائتلاف الروحانية لمناسبة أحكام الأزلية بينهما بالزوجية، فإن كان هم زليخاء هم العاشقين بالمعشوق وكان هم يوسف هم الزوج بزوجته لولا أن رأى برهان ربه وهو وارد رباني يرد على قلب نوراني مؤيد بروح من عالم الأنبياء الذي يحكم على الغيب بعلم تأويل الأحاديث فأنبأه أنه زوجته، ولكن ما قال بعد وقت الازدواج فهم بسائق والزجر لعدم انقضاء مدة كما قال:
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء
[يوسف: 24] والسوء شغل البضع بنكاح الغير، والفحشاء المباشرة قبل النكاح.
قال الجنيد: سئل السري ما علامة المحبة قال: ما ذكره الله في كتابه (قد شغفها حبا)، قال: ألا يرى جفاء الحبيب جفاء، بل يرى جفاؤه وفاء.
وقال الشبلي: علامة الصدق في المحبة استواء المحبة في الشدة والرخاء، وقال سمنون: الشغاف في المحبة امتلاء القلب منها حتى لا يكون لشيء عندها فيه مكان، وقال الشبلي: الشغاف نهاية العشق.
وقال جعفر: الشغاف مثل القيم أظلم قلبها عن النظر في غيره والاشتغال بسواه.
وقال بعضهم رضي الله عنهم: الشغاف جلد رقيق على وجه حبة القلب وهو مبلغ غاية عشق المخلوق، فلا يتجاوز عشق المخلوق الشغاف وجه القلب هي مبلغ عشق الخالق، فيجاوز الشغاف ويبلغ حبة القلب.
قال بعضهم في قوله تعالى:
فلما رأينه أكبرنه
[يوسف: 31] يشاهدن حسنا غير موضع الشهوة مؤيدا بعصم النبوة فأكبرنه.
وقال أبو سعيد الخراز: المحب من يكون في حال المشاهدة غائبا عن حسه فانيا عن نفسه لا يحسن بما يجري عليه.
قال مخلوف: في رؤية مخلوق لم يتألم بقطع اليد ولم يحس به وأنتم تتألمون مما يصيبكم من أثقال المحبة بالحقيقة.
قال سهل:
ما هذا إلا بشر مثلكم
[المؤمنون: 24] ما هذا إلا ملك في أخلاقه بشر في صورته.
قال محمد بن علي بن زين العابدين - سلام الله عليهم -: ما هذا بأهل أن يدعي إلى المفاسد بل مثله يكرم، وينزه عن مواضع الاعتراضات لكرم أخلاقه ولطف شمائله.
وقال ابن عطاء في قوله:
إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53] بالنفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس تجري على طبعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بحمد عن سوء المطالبة، فمن أعرض عن الجهد فقد أطلق عناده النفس وغفل عن الرعاية الأدب، فمهما أماتها فهو شريك في مرادها.
وقال الجنيد: من أعان نفسه على هواها فقد أشرك في قتل نفسه والعبودية ملازمة الأدب والطغيان سوء الأدب.
وقال سهل: خلق الله النفس، وجعل طبعها بالجهل، وجعل الهوى أقرب الأشياء إليها، وجعل الهوى الباب الذي منه الهلاك.
وقال الواسطي: النفس ظلمة وسراجها سرها، فمن لم يكن له سر فهو ظلمه أبدا.
وقال سهل:
إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53] ليس لها في الأخلاق نصيب.
وقال الشيخ رضي الله عنه: إن النفس خلقت أمارة بالسوء، فإذا رحمها ربها جعلها مأمورة، وبنور الرحمة مستورة، وبالواردات الربانية مقهورة، وبنظر العناية منظورة، وذنوبها مغفورة، وأخلاقها المذمومة محمودة، وعلى العبودية مطمئنة، ولجذبات الإلهية قابلة، وإلى ربها راجعة راضية مرضية في زمرة خواص العباد داخلة، ولجنة جوار الحق مستلهمة، وبسطوات تجلي صفات الجمال والجلال فانية، وبصفة بقاء الله باقية.
وعن محمد بن كعب القرطبي عن الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - قضي القضية فقال رجل من ناحية المسجد: يا أمير المؤمنين ليل القضاء كما قضيت، قال: كيف هو؟ قال: هو كذا أو كذا، قال: صدقت وأخطأت
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف: 76].
قال بعضهم في قوله:
نرفع درجات من نشآء
[يوسف: 76] بالعلم، وقيل: بالتقوى، وقيل: بنزع الشهوات والأهواء عنه، وقيل: بالاستقامة، وقيل: بالمكاشفة والمشاهدة، وقيل: بالفراسة الصادقة، وقيل: بالمعرفة والتوفيق، وقيل: بإجابة الدعاء، وقيل: بالإقبال على الآخرة والإعراض عن الدنيا، وقيل: بمعرفة مكائد النفس.
وقال الجنيد: رفع درجات في يشاء بإسقاط الكونين عنه ورفعه عن الالتفات إلى الأحوال والمقامات؛ ليكون خالصا لنا بلا علة.
وقال بعضهم رضي الله عنهم: نرفع درجات من نشاء بالبقاء بعد الفناء؛ ليكون فانيا عن وجوده المجازي باقيا بوجوده الحقيقي.
وقال بعضهم في قوله:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف: 76] فوق كل ذي معرفة عارف إلى أن تنتهي المعرفة إلى المعروف، فتسقط الأوصاف ويبقى حقا محضا.
وقال بعضهم: العلوم تتفاوت على مقدار الصنائع والتعليم إلى أن ترى من يتلقف العلم من الحق ورزق العلم اللدني، فذلك العالم بالعلم اللدني الذي لا عالم فوقه في الخلق.
وقال الشيخ رضي الله عنه:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف: 76] في المنقول والمعقول { عليم } هو عالم بالله.
وقال بعضهم: الصبر الجميل الذي ليس فيه إظهار الشكور والإحساس بالبلوى.
وقال الشيخ رضي الله عنه: الصبر جميل إن ترى البلاء جميلا من الجليل، والصبر يدفع البلاء إلى الخليل.
وقال الجنيد في قوله:
وتولى عنهم
[يوسف: 84] وقال: يا أسفا على يوسف أعرض عنهم لما لم يجد من عندهم الفرج، ولم ير فيهم [مسكا لب كوباه]،
وقال يأسفى على يوسف
[يوسف: 84] لم يترك في هذا النفس الواحد بقيا حتى أوحى الله تعالى إليه أن يا موسى على غيري ذلك الصبر الجميل الذي وعدتنا في نفسك أبنائي، وقد أخذنا منك واحدا، وأبقيناك عشرا وأنت مع هذا تظهر الشكوى وتقول: صبر جميل.
قال ابن عطاء: بكاء يعقوب وتأسفه لفقد الألفة، وذلك أنه لما لقي يوسف عليه السلام زاد في البكاء، فقال: با أبت أتبكي عند الفراق وعند التلاقي، قال: ذلك بكاء حرقة القلوب وهذا بكاء الدهش.
وقال أبو سعيد القرشي: أوحى الله تعالى إلى يعقوب تتأسف على غيري وعزتي لأخذن عينك ولا أردهما إليك حتى تنساه.
وسئل أبو سعيد القرشي لم لم يذهب عين آدم وداود من هول بكائهما وذهبت عين يعقوب؟ قال: لأن بكاءهما كان من خوف الله، وبكاء يعقوب كان على فقد ولده فحفظا وعوتب.
وقيل:
وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم
[يوسف: 84]، وقال: بكاء الأحزان؛ يعمي العيون، وبكاء الشوق يجلي العيون، وقال أيضا: الطبيب الحاذق من يأخذ الدواء من الداء الذي يعقوب عمى بفقد يوسف فلم يبصر الآباء بإلقاء الثوب على وجهه، وأنشد المجنون في معناه:
تداويت من ليلى بليلى عن الهوى
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
قال الشيخ رضي الله عنه: ما كان بكاء يعقوب وتأسفه على فقد صورة يوسف، وإنما كان على خوف فقد قلب يوسف في يوسف، وابيضت عيناه من الحزن على هذا المعنى ألا ترى أنه لما ألقى على وجهه بقميص يوسف كيف ارتد بصيرا؛ لأنه شم في قميصه رائحة سلامة قلبه، فكما أنه كان عماء من حزن فقد قلب يوسف كان بصره من سرور وسلامة قلب يوسف.
قال ابن عطاء في قوله:
وأعلم من الله ما لا تعلمون
[يوسف: 86] كان علمه الله كان حقيقة وعلمكم به علم استدلال.
وقال الجنيد في قوله:
ولا تيأسوا من روح الله
[يوسف: 87]، تحقق رجاء الراجين عند تواتر النعم وترادف المصائب؛ لأن الله تعالى يقول:
ولا تيأسوا من روح الله
[يوسف: 87] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أفضل العبادة انتظار الفرج ".
قال أبو عثمان في قوله:
رب قد آتيتني من الملك
[يوسف: 101]، قال بما كان يجري عليه في حالتي السراء والضراء وهذا هو الملك.
قال ابن عطاء: الملك هو احتياج حساده إليه وقال بعضهم: هو القناعة فيه.
قال الشيخ رضي الله عنه: هو أراه البرهان أخبرهم بها ليملك نفسه وينهاها به عن الهوى.
وقال الصادق في قوله:
إن ربي لطيف لما يشآء
[يوسف: 100] أوقف حكم عباده تحت مشيئته إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وإن شاء قربهم، وإن شاء بعدهم؛ لتكون المشيئة والقدرة له لا لغيره.
وعن سهل في قوله:
توفنى مسلما
[يوسف: 101] قال: أمتني وأنا مسلم إليك أمري معرض إليك شافي لا يكون لي إلى نفسي مجال ولا تدبير في سبب من الأسباب.
وقال: الدينوري:
وألحقني بالصالحين
[يوسف: 101] في إصلاحهم لمجالستك وحضرتك، وأسقطت عنهم الخلق، وأزلت عنهم رعونات الطبع.
قال أبو صالح: من العباد من زين الله تعالى ظاهره بآداب الخدمة، ونور باطنه بنور المعرفة.
وجعله راحة للخلق سعد ببركته من قصده، وما يؤمن من أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.
قال الواسطي: وهم مشتركون في ملاحظة الخواطر والكرامات، وقال بعضهم: وما يؤمن أكثرهم باللسان إلا وهم مشركون عند نزول النوائب في الرجوع إلى سواه، والاعتماد فيه على ضعيف مثلهم وفي قوله:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة
[يوسف: 108].
قال ابن عطاء: أدعوكم إلى من تعودتم من النعم والأفضال والبر والتوال على الأفعال، وهو الله الذي لم يزل ولا يزال تبارك العزيز المتعال.
وقال بعضهم: فرق بين من دعا إلى الله وبين من دعا إلى سبيل الله؛ فمن دعا إلى الله يدعو الخلق إليه به لا يكون فيه حظ لنفسه، ومن دعى إلى سبيل الله يدعوهم بنفسه إليه لذلك كثرت الإجابة لمن يدعوا إلى سبيله لمشاكلة الطبع، وقل من يجيب لمن يدعو إلى الله؛ لأن فيه مفارقة الطبع والنفس، وقال بعضهم: البصيرة من لباس الأرواح، وليس لها من الأجسام حظ.
وقال الواسطي: على بصيرة أيقن بالله أنه ليس إليه من الهداية شيء.
وقال ابن عطاء: منهم: من اتبع على الظاهر، ومنهم: من اتبعه على الحقيقة، والتحقيق فذلك الذي قال الله تعالى:
أنا ومن اتبعني
[يوسف: 108]، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
قال الصادق: لأولي الأمر أو مع الله، وقال ابن عطاء: عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ في آن، أن النفس ليست بمحل الأمن والاعتقاد عليها، وصلى الله تعالى على محمد وآله أجمعين.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-4]
فقال: { تلك آيات الكتاب } [الرعد: 1] أي: تلك الحروف من { المر } آيات الكتاب، وبها يقسم فبالألف منها يشير إلى قوله:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم
[البقرة: 255] وباللام يشير إلى: قوله:
له مقاليد السموت والأرض
[الشورى: 12] وبالراء إلى رسوله، والله أعلم { والذي أنزل إليك من ربك الحق } [الرعد: 1]، فمن القسم وجوابه أن الذي أنزل إليك من ربك من القرآن حق وصدق فمن اعتصم به، وهو حبل الله ينجيه من الأسفل الذي هبط إليه بقوله:
اهبطوا منها
[البقرة: 38]، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بأن هذا القرآن حبل من الله يوصل المعتصم به إليه.
ثم قال تأكيدا لإيمان أهل الإيمان به: { الله الذي رفع السموت بغير عمد ترونها } [الرعد: 2] يعني: رفعها بالعمد، وهي القدرة والحكمة، ولكن لا ترونها أنها قائمة بها يعني الله الذي رفع السماوات بالقدرة والحكمة قادر على أن يوصل المعتصم بحبل القرآن إلى أعلى الدرجات، وأفضل القربات على أنه جل جلاله، { ثم استوى على العرش } بعد رفع السماوات من كمال قدرته وحكمته أي: غلبه بقدرته لتدبير المكونات { وسخر الشمس والقمر } [الرعد: 2] لمصالح العالم، وإظهار القدرة عليه { كل يجري لأجل مسمى } من آجال الخلق، والعالم بالإفناء والإحياء والإيجاد والإعدام { يدبر الأمر } أمر العالم، فهذا يدل على أن الاستواء لتدبير لا لتشبيه { يفصل الآيات } [الرعد: 2] التي تدل على كمال القدرة والحكمة { لعلكم } بهذه الاستدلالات { بلقآء ربكم } [الرعد: 2] بالوصول إليه { توقنون } [الرعد: 2] فتجاهدون في طلبه.
{ وهو الذي } من حسن تدبيره { مد الأرض } [الرعد: 3] أرض البشرية { وجعل فيها رواسى } [الرعد: 3] أوصاف الروحانيات { وأنهارا } [الرعد: 3] من مياه القدرة والحكمة، { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [الرعد: 3] أي: مشاهدات روحانية ومكاشفات ربانية { يغشى اليل النهار } [الرعد: 3] أي: يغشي ليل أوصافه النفسانية منها أخلاق الروحانية { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [الرعد: 3] في حقائق الأشياء، فيهتدون بها إلى معرفة مدبرها ومنشئها، { وفي الأرض } [الرعد: 4] الإنسانية قطع من النفس والقلب والروح والسر والخفي { متجاورات } متقاربات بقرب الجوار مختلفات في الحقائق: فمنها: حيوانية، ومنها: ملكوتية، ومنها: روحانية، ومنها: جبروتية، ومنها: عظموتية.
{ وجنات } وبالجنات يشير إلى هذه الأعيان المستعدة لقبول الفيض عند قبولها، وتثميرها { من أعناب } وهي ثم النفس من الصفات ما يدل على الغفلة والحماقة والسهو واللهو، فإنها أصل السكر { وزرع } وهي ثمرة القلب، فإن القلب بمثابة الأرض الطيبة القابلة للزرع من بذر صفاته الروحانية والنفسانية، فيأتي بذر صفة من الصفات؛ إذا زرعت يتجوهر القلب بجوهر تلك الصفة؛ فتارة: يصير بظلمات النفس ظلما نبتا، وتارة: يصير بنور الروح نوارنيا، وتارة: يصير بنور الرب ربانيا.
كما قال:
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر: 69]، { ونخيل } وهو الروح ذو فنون من الأخلاق الحميدة الروحانية؛ كالكرم والجود والسخاء والشجاعة والقناعة والحلم والحياء والتواضع والشفقة { صنوان وغير صنوان } وهي ثمر الجبروت وبه يكشف أسرار الجبروت التي بين الرب والعبد، ولها مثل ومثال يحكى منها.
كما قال تعالى:
إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10]، وكما قيل بين المحبين سر ليس مفشيه { يسقى بمآء واحد } [الرعد: 4] وهو ماء القدرة والحكمة { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [الرعد: 4] في الثمرات والنتائج فبعضها أشرف من بعض، وإن كان لكل واحدة منها شرف في موضعه لاحتياج الإنشاء في أثناء السلوك { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [الرعد: 4] الذين يلتمسون من القرآن أسرار آيات تدلهم على السير إلى الله، وتهديهم إلى صراط المستقيم إليه.
[13.5-9]
{ وإن تعجب } [الرعد: 5] أي: تعلم أنك يا محمد لا تعجب شيئا؛ لأنك ترى الأشياء منا ومن قدرتها، وإنك تعلم أنا على كل شيء قدير، ولكن تعجب على عباده أهل الطبيعة إذا رأوا شيئا غير معتاد لهم أو شيئا ينافي نظر عقولهم { فعجب قولهم } أي: فتعجب من قولهم: { أإذا كنا ترابا } [الرعد: 5] أي: صرنا ترابا بعد الموت.
{ أإنا لفي خلق جديد } [الرعد: 5] أي: يعود تراب أجسادنا أجسادا كما كان، ويعود إليها أرواحنا فنحيى مرة أخرى، فمعنى الآية أنهم يتعجبون من قدرة الله بأن يكونوا خلقا جديدا بعد الموت، وليس هذا تعجب من قدرة الله؛ لأن الله هو الذي خلقهم من لا شيء في البداية إذا لم تكن الأرواح والأجساد ولا التراب فلا أهون عليه أن يجعلهم من شيء وهو التراب والأرواح، ولكن العجب تعجبهم بعد أن رأوا الله خلقهم من لا شيء.
{ أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم } [الرعد: 5] وهي أغلال الشقاوة التي جعل التقدير الأزلي في أعناقهم كما قال:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه
[الإسراء: 13] { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [الرعد: 5] أي: هم الذين قال الله تعالى فيهم في الأزل:
" هؤلاء في النار ولا أبالي وهؤلاء في الجنة ولا أبالي "
قال أمرهم إلى أن يكونوا أصحاب النار إلى الأبد.
{ ويستعجلونك بالسيئة } [الرعد: 6] أي: من أمارة هؤلاء القوم استعجالهم بالكفر والمعاصي { قبل الحسنة } [الرعد: 6] أي: قبل الإيمان والطاعة؛ لأنهم أهل الخذلان { وقد خلت من قبلهم المثلات } [الرعد: 6] أي: مضت من قبلهم وجودهم في التقدير الأزلي العقوبات { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } [الرعد: 6]، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
" هؤلاء في الجنة ولا أبالي ".
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } [الرعد: 7] أي: علامة يستدل بها على نبوتك يا محمد { إنمآ أنت منذر } [الرعد: 7] على الفريقين أي: ليس عليك هدايتهم، { ولكل قوم } من الفريقين { هاد } [الرعد: 7] يهديهم إلى الجنة، وإلى النار وهو الله الذي قال لهم:
" هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي "
هاد لأهل العناية بالإيمان، والطاعة إلى الجنة، وهاد لأهل الخذلان بالكفر والعصيان إلى النار { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } [الرعد: 8] من السعيد والشقي والولي والعدو والجواد والبخيل والعالم والجاهل والعاقل والسيد والكريم واللئيم وحسن الخلق وسيئ الخلق، وأيضا: { يعلم ما تحمل كل أنثى } [الرعد: 8] ذرة من ذرات المكونات من الآيات الدالة على وحدانيته؛ لأنه أودعه فيها وقال:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، وقال الشاعر:
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
أيضا يعلم أنه ما أودع فيها من الخواص والطباع { وما تغيض الأرحام } [الرعد: 8] أي: أرحام الموجودات وأرحام المعدومات أي: وما تغيض من المقدرات أرحام الموجودات والمعدومات بحيث يبقى في الأرحام ولا يخرج منها { وما تزداد } [الرعد: 8]، وما يخرج منها.
{ وكل شيء عنده بمقدار } [الرعد: 8] أي: { وكل شيء } مما يخرج من أرحام الموجودات والمعدومات، وما يبقى فيها عند علمه، وحكمته { بمقدار } معين أي: معين موافق لحكمة خروج ما خرج، وبقاء ما بقي؛ لأنه { عالم الغيب والشهادة } [الرعد: 9] أي: { عالم } بما غاب عن الوجود والخروج بحكمته، وبما شهد في الوجود والخروج { الكبير } [الرعد: 9] في ذاته، وأحاط علمه بالموجودات والمعدومات وبما في أرحامها { المتعال } [الرعد: 9] في صفاته بأنه منفرد بها.
[13.10-15]
{ سوآء منكم من أسر القول } [الرعد: 10] في مكن الغيب بحيث لم يخرج منه، ولا شعور له به، { ومن جهر به } بأن يظهر القول، ويخطر بباله وله به شعور { ومن هو مستخف باليل } [الرعد: 10] أي: بليل العدم، ولم يخرج منه { وسارب بالنهار } [الرعد: 10] أي: بنهار الوجود كل هذا سواء عنده؛ لأن علمه به يحيط { له معقبات } [الرعد: 11] أي: لله معقبات في العلم والحكمة { من بين يديه } [الرعد: 11] أي: من بين يديه ما هو معلوم له.
{ ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [الرعد: 11] الذي لأمر الله بحيث لا يخرج إن شاء تكوينه يكونه، وإن شاء إعدامه فيعدمه { إن الله لا يغير ما بقوم } [الرعد: 11] في الوجود والعدم { حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد: 11] باستدعاء الوجود، أو العدم بلسان استحقاق الوجود والعدم على مقتضى حكمه ووفق مشيئته { وإذا أراد الله بقوم سوءا } [الرعد: 11] لاقتضاء حكمته الأزلية { فلا مرد له } [الرعد: 11]؛ لأنه محفوظ بمعقبات من بين يديه ومن خلفه لأمر الله { وما لهم من دونه من وال } [الرعد: 11] يحولهم من حال إلى حال { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } [الرعد: 12] يشير إلى أن البروق مختلفة، فإذا أرى الله تعالى السائر برقا من لمعان أنوار الجلال يغلب عليه خوف الانقطاع واليأس، فإذا أراه برقا من تلألؤ أنوار الجمال يغلب عليه الرجاء والاستئناس.
{ وينشىء السحاب الثقال } [الرعد: 12] من أثر الفضل والنوال بمطر الإقبال والإفضال { ويسبح الرعد بحمده } [الرعد: 13] يشير إلى أن الرعد ملك خلق من نور الهيبة الجلالية، فإذا سبح وقعت الهيبة على الخلق كلهم حتى الملائكة وتسبح { والملائكة من خيفته } [الرعد: 13] أي: من هيبته { ويرسل الصواعق } [الرعد: 13] أي: صواعق القهر من بروق أنوار جلال { فيصيب بها من يشآء } [الرعد: 13] من أهل الخذلان والضلال فيحرق حسن استدلالهم في قبول الإيمان، ويغرقهم في بحر الكفر والطغيان.
{ وهم يجدلون في الله } [الرعد: 13] أي: في ذاته وصفاته يشير به إلى أن أهل الخذلان في ذات الله وفي صفاته مثل الفلاسفة والحكماء اليونانية الذين لم يتابعوا الأنبياء، وما آمنوا بهم، وتابعوا العقل دون السمع، وبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع هم الذين أصابتهم صواعق القهر، واحترقت استعداداتهم في قبول الإيمان؛ فظلوا يجادلون في الله، هل هو فاعل مختار أو موجب بالذات لا بالاختيار؟
ويجادلون في صفات الله هل لذاته صفات قائمة به أم هو قادر بالذات، ولا صفات له؟ ومثل هذه الشبهات المكفرة المضلة من سبيل الرشاد { وهو شديد المحال } [الرعد: 13] أي: الله تبارك وتعالى شديد العقوبة، والأخذ لمن جادل فيه بالباطل { له دعوة الحق } أي: دعوته حق لمن دعاه تبارك وتعالى، والأخذ لمن جادل فيستجيب كما دعا السماوات والأرض.
وقال لهما:
ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت: 11] فاستجابوه وأيضا { له دعوة الحق } [الرعد: 14] أي: له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق، وأيضا أي: من دعا الخلق للحق تعالى فهو الحق، ومن دعا للهوى فهو باطل، وإن دعا إلى الحق { والذين يدعون من دونه } [الرعد: 14] أي: يدعون لغير الحق { لا يستجيبون لهم بشيء } [الرعد: 14] أي: لا يقبلون النصح إذا خرج من القلب والتناجي، ولا يتأثر فيهم { إلا كباسط كفيه إلى المآء ليبلغ فاه } [الرعد: 14] أي: كي يبسط يده إلى الماء أداة للخلق بأن يريد شربه { وما هو ببالغه } [الرعد: 14]، إلى فمه فلا يحصل الشرب على الحقيقة، وأنه توهم الخلق أنه شارب، وهذا مثل ضربه الله تعالى للدعاة من أهل الأهواء والبدع يدعون الخلق لغير الله، فلا يستجيبون على الحقيقة، وإن استجيبوا في الظاهر؛ لأنهم استجابوا لهم على الضلال يدل عليه قوله: { وما دعآء الكافرين إلا في ضلال } [الرعد: 14] يعني: الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء، وأهل الدرجات من المؤمنين والأرض، أي: ومن في الأرض من الملائكة والمؤمنين { طوعا } [الرعد: 15]، ومن الكافرين والمنافقين والشياطين { وكرها } [الرعد: 15] بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير.
{ وظلالهم بالغدو والآصال } [الرعد: 15] أي: نفوسهم، وإن النفوس ضلال الأرواح، وليس السجود بالطوع من شأن النفوس؛ لأن النفوس أمارة بالسوء طبعا إلا ما رحم الرب تعالى، فسجد طوعا، والإكراه على السجود بتبعية الأرواح، وأيضا { ولله يسجد من في السموت } [الرعد: 15] أي: في سماوات القلوب من صفات القلوب والأرواح ، والعقول طوعا { والأرض } [الرعد: 15] أي: ومن في أرض النفوس من صفات النفس الحيوانية والتبعية كرها؛ لأنه ليس من طبعهم السجود والانقياد.
[13.16-18]
{ قل من رب السموت } [الرعد: 16] السماوات: سموات القلوب، والأرض: أرض النفوس، ومن دبر فيها درجات الجنان بالأخلاق الحميدة، ودركات النيران بالأخلاق الذميمة، وجعل مشاهد القلوب مقامات القرب في شواهد الحق ومراتع النفوس، وشهوات الدنيا، ومنازل البعد { قل الله } أي: أجب أنت عن هذا السؤال؛ لأن الأجانب منه بمعزل { قل } للأجانب { أفاتخذتم من دونه أوليآء } [الرعد: 16] من الشيطان والدنيا والهوى وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في الدنيا والآخرة؛ لأنهم مملوك والمملوك لا يملك شيئا.
{ قل هل يستوي الأعمى والبصير } [الرعد: 16] الأعمى من يرى غير الله مالكا، ومتصرفا في الجود والبصير ضده، وأيضا الأعمى وهم النفوس؛ لأنها تتعلق بغير الله وتحب غيره، والبصير للقلوب؛ لأنها تتعلق بالله، وتحب له. فالأعمى من عمى بالحق، وأبصر بالباطل، والبصير ضده، وأيضا، الأعمى من أبصر بظلمات الهوى، والبصير من أبصر بأنوار المولى { أم هل تستوي الظلمات والنور } [الرعد: 16] أي: هل يستوي المسكن في ظلمات الطبيعة والهوى، ومن هو مستغرق في بحر نور جمال المولى { أم جعلوا } أهل الهوى { لله شركآء } [الرعد: 16] من الدنيا وأهلها.
ثم قال: { خلقوا كخلقه } [الرعد: 16] أي: خلقوا الدنيا، وأهل الدنيا شيئا مما لهم بخلق الله تعالى { فتشابه الخلق عليهم } [الرعد: 16] أي: على أهل الهوى الذين يطلبون حوائجهم فرجعوا إليهم في الطلب أو جعلوا ما سوى الله شريكا في الطلب في المحبة.
{ قل الله خالق كل شيء } [الرعد: 16] وليس غيره خالق تدل هذه الآية على أنه تعالى خالق الخير والشر { وهو الواحد } [الرعد: 16] في ذاته وصفاته { القهار } [الرعد: 16] لمن دونه أي: هو الواحد في خلق الأشياء، وقهرها لا شريك له فيه، ولا في المطلوبية ولا المحبوبية { أنزل من السمآء مآء } [الرعد: 17] من سماء القلوب ماء المحبة { فسالت أودية بقدرها } [الرعد: 17] أودية النفوس { فاحتمل السيل زبدا رابيا } [الرعد: 17] من الأخلاق الذميمة النفسانية والصفات البهيمية الحيوانية، وأنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدات أنوار الجمال فسالت أودية القلوب بقدرها.
{ فاحتمل السيل زبدا رابيا } [الرعد: 17] من أوصاف البشرية والإنسانية وأنزل من سماء الأسرار كشف ماء أنوار الجلال فسالت أودية الأرواح { فاحتمل السيل زبدا رابيا } من أنانية الروحانية، وأنزل من سماء الجبروت ماء تجلى لصفات الألوهية { فسالت أودية } الأسرار { بقدرها } فاحتمل السيل زبد الوجود المجازي، { ومما يوقدون عليه } [الرعد: 17] من البقاء { في النار }
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة: 6-7] لكيلا تبقي ولا تذر، وهي المتزكية { ابتغآء حلية } ، وهي التحلية بالبقاء، { أو متاع } وهو التمتع به منه { زبد مثله } [الرعد: 17] أي: مثل زبد البشرية، وهو زبد المعرفة والتوحيد { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد } [الرعد: 17] في الأحوال كلها { فيذهب جفآء } [الرعد: 17] بالفناء.
{ وأما ما ينفع الناس } من البقاء لله { فيمكث في الأرض } [الرعد: 17] في أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي { كذلك يضرب الله الأمثال * للذين استجابوا } [الرعد: 17-18] دعوة الحق إلى الله لربهم أي: لطلب ربهم والوصول إليه { للذين استجابوا لربهم الحسنى } [الرعد: 18] أي: للذين أجابوا الله فيما دعاهم إليه إنما أجابوه ليسبق العناية الأزلية فيهم بأحسنه كقوله:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
[الأنبياء: 101]، { والذين لم يستجيبوا له } [الرعد: 18] أي: لم يجيبوه فيما دعاهم إليه للوصول والوصال.
{ لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه } [الرعد: 18] أي: لو جعل لهم ما في الأرض البشرية من أنواع اللذات الحيوانية والحظوظ النفسانية وأضعافها { لافتدوا به } [الرعد: 18] يوم القيامة، أي: جعلوه فداء لهم من عذاب القطيعة والفراق عن التلاق { أولئك لهم سوء الحساب } [الرعد: 18] إذا حاسبوا الوصول مع القطيعة، والوصول مع الفراق { ومأواهم جهنم } [الرعد: 18] وهي نار القطيعة والبعد { وبئس المهاد } [الرعد: 18] أي: المصير والمعاد.
[13.19-24]
{ أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } [الرعد: 19] يشير به إلى أنه العالم بحقيقة نزول الوحي من الله هو البصير بنور الله والجاهل بحقيقته هو الأعمى، وهما لا يستويان { إنما يتذكر } [الرعد: 19] حقيقة هذا المعنى { أولوا الألباب } [الرعد: 19]، وهم المستخرجة عقولهم عن قشور آنات الحواس والوهم والخيال المؤيدة، فيجل أنوار الجمال والجلال.
ثم شرح أحوالهم فقال: { الذين يوفون بعهد الله } [الرعد: 20] أي: الذين عاهدهم الله على أن يحبهم ويحبونه، فأوفوا بعهده وما أحبوا غيره { ولا ينقضون الميثاق } [الرعد: 20] الذي جرى بينهم إذ أخرجهم عن ظهر آدم، وعاهدهم على التوحيد والعبودية كقوله:
ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان
[يس: 60]، فالعهد عهدان: عهد المحبة وهو للخواص، وعهد العبودية وهو للعوام، فأهل عهد المحبة ما نقضوا عهودهم أبدا، وأهل عهد العبودية من كان عهدهم مؤكدا بعهد المحبة ما نقضوه أيضا، ومن لم يكن عهدهم مؤكدا نقضوه.
ثم وصف الذين لم ينقضوه فقال: { والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب } [الرعد: 21] الوصلة مع الله بصدق الطلب، والميل إليه، والانقطاع عما سواه، { والذين صبروا } [الرعد: 22] على الانقطاع عما سواه { ابتغاء وجه ربهم } [الرعد: 22] أي: طلب الوصول إليه { وأقاموا الصلاة } [الرعد: 22] أي: أداموها؛ لأن الصلاة معراج المؤمن، وبها يصل إليه { وأنفقوا مما رزقناهم } [الرعد: 22] أي: انفصلوا عما سواه؛ ليصلوا به { سرا وعلانية } [الرعد: 22] أي: انقطعوا عما يشغل بواطنهم بالاشتغال إلى الله وما سواه وعما سواه؛ ليصلوا به لغير الله { ويدرءون بالحسنة السيئة } [الرعد: 22] أي: يدفعون بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب بالأعمال، والأحوال السيئة من الواقعات والقربات.
{ أولئك لهم عقبى الدار } [الرعد: 22]، وهي دار الوصول إلى الكمال { جنات عدن يدخلونها } [الرعد: 23] من له صلاحية الدخول فيها قريبا كان أو غريبا { والملائكة يدخلون عليهم } [الرعد: 23] تبركا وتيمنا بهم تبعا لهم { من كل باب } [الرعد: 23] دخولهم بالاستقلال على أقدام السير إلى الله بالله، ويقولون: { سلام عليكم بما صبرتم } [الرعد: 24] على صدق الطلب، وبما صبرتم عن غير الله فسلمكم الله مما سواه، وبلغكم بجذبات عنايته إلى مقامات الوصول، ودرجات الوصال { فنعم عقبى الدار } [الرعد: 24] التي أنزلكم فيها بقربه وجواره.
[13.25-29]
{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } [الرعد: 25] يشير إلى ما عاهدهم عليه يوم الميثاق حين أخرج ذرات ذرياتهم من صلب آدم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويحبونه ولا يحبوا معه شيئا إلا له، فنقضوا العهد وعبدوا غيره، وأشركوا به الأشياء وأحبوها للهوى { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } [الرعد: 25] أي: صلة رحم العبودية في طلب وصال الربوبية { ويفسدون في الأرض } [الرعد: 25]؛ أي: يسعون في إفساد أرض الاستعداد الإنسانية لقبول الفيض الربانية، { أولئك لهم اللعنة } [الرعد: 25] أي: الطرد والبعد والفراق { ولهم سوء الدار } [الرعد: 25] أي: دار القطيعة والهجران وأليم عذابها.
{ الله يبسط الرزق } [الرعد: 26] الكشوف والشهود { لمن يشآء } من عباده المحبين والمحبوبين { ويقدر } [الرعد: 26] أي: يضيق لمن فتح عليهم أبواب الدنيا وشهواتها؛ فأغرقهم فيها { وفرحوا بالحياة الدنيا } [الرعد: 26] أي: باستيفاء لذاتها { وما الحياة الدنيا في الآخرة } [الرعد: 26] أي: باستيفاء لذاتها في الآخرة بالنسبة إلى من عبر عنها، ولم يلتفت إليها فيجد في آخرها ما يجد { إلا متاع } أي: متاع أيام قلائل بأدنى شيء خسيس، فإن به { ويقول الذين كفروا } [الرعد: 27] كفروا الحق بالباطل { لولا أنزل عليه } أي: على من يدعو الخلق إلى الحق به { آية } [الرعد: 27] ظاهرة { من ربه } من المعجزات والكرامات، كما نزل على بعض ليستدلوا بها على صدق دعوتهم.
{ قل إن الله يضل من يشآء } [الرعد: 27] أي: يضله إليه مطالبا مشتاقا بجماله { ويهدي إليه من أناب } [الرعد: 27] أي: يرشد الطالب وهو من أهل الهداية في البداية، وليس ممن يشاء الله ضلالته في الأزل { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [الرعد: 28] يعني: أهل الهداية هم الذين آمنوا، ولتعلم أن القلوب أربعة:
قلب قاس: وهو قلب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها؛ لقوله تعالى: { وفرحوا بالحياة الدنيا } [الرعد: 26] واطمأنوا بها.
وقلب ناس: وهو قلب المسلم كقوله تعالى:
فنسي ولم نجد له عزما
[طه: 115] فاطمئنانه بذكر الله؛ كقوله تعالى بالتوبة ونعيم الجنة؛ كقوله تعالى:
فتاب عليه وهدى
[طه: 122].
وقلب مشتاق: وهو قلب المؤمن المطيع، فاطمئنانه بذكر الله كقوله تعالى: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } [الرعد: 28].
وقلب وجداني: وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقوله تعالى لخليله عليه السلام في جواب قوله:
أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
[البقرة: 260] بإراءتك بأي كيفية إحياء الموتى إذا تجلى لقلبي بصفة محبتك فأكون يحيي الموتى؛ ولهذا إذا تجلى الله تبارك وتعالى على قلب العبد يطمئن به، فينعكس نور الاطمئنان من مرآة قلبه على نفسه فتصير النفس مطمئنة أيضا فتستحق بجذبات العناية، وهي خطاب
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] فافهم جدا.
{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الرعد: 29] يشير إلى الذين غرسوا غرس الإيمان، وهي كلمة لا إله إلا الله في أرض القلب، وربوه بماء الشريعة ومذهب الطريقة، وهي الأعمال الصالحة حتى صار شجرة طيبة كما ضرب الله بها مثلا فقال:
ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
[إبراهيم: 24] فلما كملت الشجرة وأثمرت ثمرة الحقيقة كانت { طوبى لهم وحسن مآب } وهو الرجوع والإنابة إلى الله بنفسه لا إلى ما سواه، وهذا ثمرة الحقيقة يدل عليه قوله:
فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا
[المزمل: 19] على هذا يشير بطوبى إلى حقيقة شجرة لا إله إلا الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" طوبي شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة "
، فإن حقيقته لشجرة لا إله إلا الله في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قلب كل مؤمن منها غصن، فافهم جدا.
[13.30-32]
{ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلهآ أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينآ إليك وهم يكفرون بالرحمن } [الرعد: 30] أي: بالرحمن يشير إلى أن الأمم لما كفروا بالله كفروا بالرحمن؛ لأن الرحمانية قد اقتضت إيجاد المخلوقات، فإن القهارية كانت مقتضية الوحدانية بألا يكون معه أحد، فسبقت الرحمانية القهارية في إيجاد المخلوقات.
ولهذا السر قال الله تعالى:
إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا
[مريم: 93] فأرسل الله تعالى الرسل، وأنزل معهم الكتب ليقرأوا عليهم ويذكروهم بأيام الله التي كان الله ولم يكن معه شيء ثم أوجدهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود، وهو الذي رب كل شيء وخالقه ولا إله إلا هو وإليه المرجع والمآب.
كما قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت } [الرعد: 30] إذ لا خالق ولا رازق إلا هو { وإليه متاب } [الرعد: 30] وبهذا كان مأمورا أن يتلو على أمته، كما كان الرسل مأمورين بتلاوته على الأمم؛ ليؤمنوا بالرحمن ولا يكفروا به.
ثم أشار بقوله: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } [الرعد: 31] جبال النفوس { أو قطعت به الأرض } [الرعد: 31] أرض البشرية { أو كلم به الموتى } [الرعد: 31] موتى القلوب أي: أن لتلاوة القرآن عليهم وإن كانت هذه التأثيرات والخاصيات ويريد الله فتنتهم، كفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا به { بل لله الأمر جميعا } [الرعد: 31] في الهداية والضلالة { أفلم ييأس الذين آمنوا } [الرعد: 31] بهداية الله عن إيمان من خذله الله، وقد علموا { أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا } [الرعد: 31] كما هداهم { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } [الرعد: 31] من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر منهم موجبة للشقاوة { أو تحل قريبا من دارهم } يشير به إلى أن الأحكام الأزلية تارة تصدر منهم، وتارة من مصاحبهم، فتوافقوا في أسباب الشقاوة، وتوافقوا لما أوعدهم الله من درك الشقاوة، كما قال: { حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد } [الرعد: 31] لأهل الشقاء وإلى أن يبلغه حدها.
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك } يشير به إلى أن من أمارات أهل الشقاء الاستهزاء بالأنبياء والأولياء { فأمليت للذين كفروا } [الرعد: 32] أي: أمليت أهل الشقاء ليتدرجوا بدرجات الاستهزاء إلى أعلى مقام الشقاوة { ثم أخذتهم } أمسكتهم؛ لئلا ينجوا عن مقام الشقاء وهو غاية البعد { فكيف كان عقاب } [الرعد: 32] أي: عقابي لهم بعقاب الفرقة والقطيعة.
[13.33-37]
وبقوله: { أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت } [الرعد: 33] يشير إلى أن ليس لنفس اختيار ولا قدرة على الكسب، بل هو القائم والمتولي بأمورها فيما ليس لها فيه كإيجادها من العدم وإعدامها من الوجود وفيما لها قيمة كسب كالحركات والسكون وغير ذلك فالمعنى أنه هو قائم بنفسه وقائم على إيجاد كل نفس وإعدامها وحركاتها وسكونها، كمن هو غير قائم بنفسه وغير قائم على أمور نفسه ولسوء نفس غيره { وجعلوا } أمثال هؤلاء العجزة { لله شركآء }.
ثم قال: { قل سموهم } [الرعد: 33] بما ترون منهم من صفات الله يشير إلى أن الأسماء مأخذها من الصفات، فإن لم تروا منهم شيئا من صفات الله فكيف يسمونهم بها { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } إله غيره بل
وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله
[الزخرف: 84] { أم بظاهر من القول } [الرعد: 33] يقولون ما لا يعلمون { بل زين للذين كفروا مكرهم } [الرعد: 33] وهو اتخاذهم لله شركاء خذلانا من الله { وصدوا عن السبيل } [الرعد: 33] من سبيل الوصول، { ومن يضلل الله } بالخذلان عن سبيله { فما له من هاد } إلى سبيله بالوصول.
{ لهم عذاب في الحياة الدنيا } [الرعد: 34] وهو عذاب البعد والحجاب والغفلة والجهل وعذاب عبودية النفس والهوى والدنيا والشياطين والإنس { ولعذاب الآخرة أشق } [الرعد: 34] وهو عذاب نار القطيعة وألم البعد وحسرة التفريط في طاعة الله وندامة الإفراط في الذنوب والمعاصي على الخسارات والهبوط من الدرجات ونزول الدركات { وما لهم من الله } من خذلان الله في الدنيا وعذاب الله في الآخرة { من واق } من الخذلان والعذاب.
{ مثل الجنة التي وعد المتقون } [الرعد: 35] يشير إلى حقيقة أمر الجنة التي وعدها الله للمتقين، ووصفها بأنها { تجري من تحتها الأنهار } ، وهي أنهار الفضل والكرم، ومياه العناية والتوفيق { أكلها دآئم } [الرعد: 35] وهي مشاهدات الجمال، ومكاشفات الجلال، { وظلها } أنهم في ظل هذه المقامات والأحوال التي هي منه من وجوده لا في شمس وجودهم على الدوام بحيث لا يزول أبدا، ثم أشار بقوله: { تلك عقبى الذين اتقوا } [الرعد: 35] إلى أن تلك الأحوال والمقامات عاقبة من اتقى بالله عما سواه { وعقبى الكافرين النار } أي: عاقبة من أعرض عن هذه المقامات والأحوال نار القطيعة والحسرة.
ثم قال: { والذين آتيناهم الكتاب } [الرعد: 36] يشير به إلى الروح والقلب والسر فإنهم أهل نزول أسرار الكتاب وحقائقه عليهم { يفرحون بمآ أنزل إليك } [الرعد: 36] لإيتائهم أسرارها { ومن الأحزاب } وهم النفس والهوى والقوى { من ينكر بعضه } لثقل تكاليفه وجهل فوائده { قل } يا طالب الحق { إنمآ أمرت أن أعبد الله } أي: أسلك طريق العبودية إلى عالم الربوبية { ولا أشرك به } في طلبه { إليه } شيئا من الدنيا والآخرة { أدعوا } أي: أدعو العباد إلى الله لا إلى ما سواه { وإليه مآب } أي: ولا بد أن يكون الإياب إليه طوعا أو كرها.
{ وكذلك أنزلناه } [الرعد: 37] أي: كما أنزلنا إلى العرب هذا الحكم باقي الطلب لا يشركوا بالله شيئا، { أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم } [الرعد: 37] أي: أهواء العرب وهي الشرك في الطلب { بعد ما جآءك من العلم } [الرعد: 37] وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية { ما لك من الله من ولي } [الرعد: 37] يخرجك من ظلمات الأنانية إلى نور الوحدانية { ولا واق } [الرعد: 37] يقيك من عذاب البعد وحجاب الشركة في الوجود بالتجرد.
[13.38-43]
{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } [الرعد: 38] يشير إلى أن الرسل لما جذبتهم العناية البداية رقتهم من دركات البشرية الحيوانية إلى درجات الولاية الروحانية ثم رقتهم منها إلى معارج النبوة والرسالة الربانية في النهاية فلم يبق فيهم من دواعي البشرية وأحكام النفسانية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلى الأولاد بخصائص الحيوانية؛ بل جعل لهم رغبة في الأزواج والأولاد على وفق الشريعة بخصوصية إطلاقه في إظهار صفة الخالقية.
كما قال تعالى:
ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون
[الواقعة: 59] وفي قوله تعالى: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } [الرعد: 38] إشارة إلى أن حركات عامة الخلق وسكناتهم بمشيئة الله وإرادته وإن حركات الرسل وسكناتهم بإذن الله ورضاه.
ثم قال: { لكل أجل كتاب } [الرعد: 38] أي: لأجل أهل المشيئة والإرادة في حركاتهم وقت معين لوقوع الفعل فيه وكذلك لأهل الإذن والرضا ثم { يمحوا الله ما يشآء } لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة { ويثبت } لهم من أفاعيل أهل السعادة ويمحو ما يشاء لأهل الشقاوة من أفاعيل أهل السعادة ويثبت لهم أفاعيل أهل الشقاوة { وعنده أم الكتاب } [الرعد: 39] الذي مقدر فيه حاصل أمر كل واحد من الفريقين، وحاصلهم لا يزيد ولا ينقص { وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم } [الرعد: 40] أي: نريك بالكشف والمشاهدة بعض الذي وعدناهم من العذاب والثواب قبل وفاتك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن العشرة المبشرين وغيرهم دخولهم الجنة، وقد أخبر السائل عن أبيه حين قال إن أباك في النار وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" رأيت الجنة وفيها فلان، ورأيت النار وفيها فلان ".
{ أو نتوفينك } [الرعد: 40] قبل أن نريك من أحوالهم { فإنما عليك البلاغ } [الرعد: 40] فيما أمرناك بتبليغه ولا عليك القبول فيما يقول: { وعلينا الحساب } في الرد والقبول { أولم يروا أنا نأتي الأرض } [الرعد: 41] أرض البشرية { ننقصها من أطرافها } أي: من أوصافها بالازدياد في أوصاف الروحانية وأرض الروحانية حيث ننقصها من أخلاقها بالتبديل بالأخلاق الربانية وأرض العبودية ننقصها من آثار الخليقة وإظهار أنوار الربوبية { والله يحكم } [الرعد: 41] من الأزل وإلى الأبد.
{ لا معقب لحكمه } [الرعد: 41] أي: لا مقدم ولا مؤخر ولا مبدل لحكمه { وهو سريع الحساب } [الرعد: 41] فيما قدر ودبر وحكم فلا يسوغ لأحد تغيير حكم من أحكامه، { وقد مكر الذين من قبلهم } [الرعد: 42] إشارة إلى أن أهل كل زمان وهم يمكرون { فلله المكر جميعا } [الرعد: 42] ليمكروا بمكره ويمكروا مكرا مع أهل الحق ليبتليهم الله بمكرهم ويصيروا على مكرهم ثقة بالله أنه خير الماكرين فيثيبهم على صبرهم ثواب الصابرين ويعذب الماكرين الممكورين { يعلم ما تكسب كل نفس } [الرعد: 42] من الماكرين { وسيعلم الكفار } الذين يسترون الحق بالباطل مكرا وحيلة { لمن عقبى الدار } عند كشف الغطاء يوم اللقاء.
{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا } [الرعد: 43] فيه إشارة إلى أن من يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه ليس مرسلا من الله كما قالت الفلاسفة: إنه حكيم وليس برسول فقد كفر { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } [الرعد: 43] بتحقيق رسالتي مرسلا من الله، كما قالت الفلاسفة: إنه حكيم وليس برسول فإنه أرسلني وأنزل علي الكتاب الذي جئت به إليكم { ومن عنده علم الكتاب } وهو الذي علمه القرآن وعلمه البيان وأراه آيات القرآن ومعجزاته فبذلك علم حقيقة رسالته وشهد بها، والله أعلم.
قال أهل المعاني :
له معقبات
[الرعد: 11] أي: أن أوامر الله عز وجل على وجهين: أحدهما: قضى حلوله ووقوعه لصاحبه ذلك مما لا يوصفه أحد ولا يغيره بشر، والآخر: قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ والدليل، على هذا قصة قوم يونس في دفع النداء عنهم بدعائهم وتضرعهم وتوبتهم، وروي أنه:
" دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله أخبرني عن العبد، كم معه من ملك؟ فقال: على يمينك ملك على حسناتك، وهو أمين على الملك الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ فيقول له: لا، لعله يستغفر الله ويتوب، فإذا قال ثلاثا، قال: نعم، اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين، ما أقل مراقبته لله، وأقل استحياءه منا، يقول الله: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ق: 18]، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله: { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [الرعد: 11] وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد، وملك قائم على فيك، لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك، فهؤلاء عشرة أملاك على كل ابن آدم يتبدلون، ملائكة الليل على ملائكة النهار، لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار، فهؤلاء عشرون ملكا، على كل آدمي، عشرة بالنهار وعشرة بالليل وإبليس بالنهار، وولده بالليل "
قال قتادة وابن جريج: هذه ملائكة الله عز وجل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح، قال: إن السر في قوله تعالى:
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا
[الرعد: 12] يريكم أنوار محبته فمن خائف من يساره وطامع في يمينه.
وقال أبو بكر الثقفي: وورود الأحوال على الأسرار عندي كالبرق ولا يمكث، بل يلوح فإذا لاح ربما أزعج في خائف خوفه وربما حرك من محب محبته، قال أبو بكر بن طاهر: خوفا من أعراض الكدورة في صفاء المعرفة، وطمعا في الملاك به في إخلاص المعاملة.
وقال أبو يعقوب الأبهري، خوفا من القطع والفراق وطمعا في القرب والاشتياق، وقال ابن الريحاني في قوله:
ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته
[الرعد: 13] الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وفي قوله تعالى:
دعوة الحق
[الرعد: 14].
قال ابن عطاء: أصدق الدعاوى دعاوى الحق فمن أجاب داعي الحق بلغه إلى الحق، ومن أجاب داعي النفس رمي إلى الهلاك.
وقال الجنيد: داعي الحق فمن داعي الرسل لا يقع فيه للشيطان يد، ولا يكون فيه للنفس نصيب في دعاوى الحق إذا بدت أنوار الحق فلا يبقى على المدعو ريب ولا شك بحال.
وقال بعضهم: داعي الحق من يدعو بالحق إلى الحق وفي قوله:
وما دعآء الكافرين إلا في ضلال
[الرعد: 14].
قال جعفر بن محمد - عليهما السلام -: من دعا بنفسه إلى نفسه دعاء فهو الكفر والضلال، وذلك محل الخيانة ولسقوط من درجات الأمانة فإن الدعاوى تختلف بين داع بالحق وداع بالحق إلى الحق ودع إلى طريق الحق كل هؤلاء دعاة يدعون الخلق إلى هذه الطريق لا بأنفسهم فهذه طريق الحق وداعي يدعو بنفسه قال: أي شيء دعاؤه فهو ضلال.
وفي قوله تعالى:
طوعا وكرها
[الرعد: 15] قال الجنيد: العارض طوعا والمعروض كرها، وقال: إذا جاءته المصائب ذل وإذا جاءه الرجاء مثل
قل هل يستوي الأعمى والبصير
[الرعد: 16] قال أبو عثمان: لا يستوي من كحل بنور التوفيق مع من هو في ظلمة التدبير.
وقال أبو حفص: الأعمى حقا من يرى الله بالأشياء ولا يرى الأشياء بالله، والبصير من يكون نظره من الحق إلى المكونات.
وفي قوله:
أنزل من السمآء مآء
[الرعد: 17] قال الواسطي: خلق الله درة بيضاء صافية فلاحظها بعين الحال فذابت حياء منه
فسالت أودية بقدرها
[الرعد: 17] فصفاء القلوب من وصول ذلك الماء إليه وجمال الأسرار من نزول ذلك الشرب.
وقال ابن عطاء: هذا مثل ضربه الله للعبد إذا سال السيل في الأودية لا تبقى في الأودية نجاسة إلا كنسها أو أذهبها كذلك النور الذي قسم الله للعبد في نفسه لا يبقى فيه غفلة ولا ظلمة في أودية القلوب
فأما الزبد فيذهب جفآء
[الرعد: 17] بذلك النور يصير القلب نورا فلا يبقى فيه جفوة
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض
[الرعد: 17] يذهب الأباطيل ويبقي الحقائق.
وقال بعضهم: أنزل من السماء ماء لكم في القلوب فأخذ كل قلب بحظه ونصيبه، فكل قلب كان مؤيدا بنور التوفيق أضاء فيه سراج التوحيد، وكل قلب أيد بنور التوحيد أضاء فيه سراج التوحيد، وكل قلب أيد بنور المحبة أضاء فيه لهب الشوق، وكل قلب عمر بلهب الشوق أضاء فيه أنس القرب فالقلوب تنقلب من حالة إلى حالة حتى تستغرق في أنوار المشاهدة أخذ كل قلب بحظه ونصيبه إلى أن تبدو الأنوار على الشواهد من فضل نور السر، قال القسم في قوله:
والذين ينقضون عهد الله
[الرعد: 25] نقض العهد هو الخروج من العبودية والدخول في الربوبية، وقال بعضهم: نقض العهد هو لزوم التدبير والاختيار وترك التسليم والتفويض بعد أن أخبرك الحق:
ليس لك من الأمر شيء
[آل عمران: 128].
وقال أبو القاسم الحكيم: نقض العهد هو السكون إلى غير مسكون إليه والفرح بغير مفروح إليه، وبه قال الواسطي
وفرحوا بالحياة الدنيا
[الرعد: 26] الدنيا قذره ولك منها عبرة فمن أسرته عندها فهو أقل منها، ومن ملك جناح بعوضة أو أقل منها فذلك قدره وقال أيضا: لا تدعوا الدنيا تغرقكم في بحارها وأغرقوها في بحر التوحيد لا تجدوا منها شيئا.
وقال بعضهم: أخبر الله تعالى عن الدنيا أنها في الآخرة مبلغ والآخرة أقل خطرا في جنب الحقيقة من خطر الدنيا في الآخرة، وقال بعضهم في قوله:
قل إن الله يضل من يشآء
[الرعد: 27] { يضل } من قام إليه بنفسه واعتمد على طاعته عن سبيل رشده، ويهدي إلى سبيل رشده من رجع إليه في جميع أموره وتبرأ من حوله وقوته.
وقيل في قوله:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله
[الرعد: 28] إن القلوب على أربعة أوجه:
قلوب العامة : اطمأنت بذكر الله وتسبيحه وحمده والثناء عليه لرؤية النعمة الجارية والعافية الدائمة.
وقلوب الخاصة: اطمأنت بذكر الله وذلك في أخلاقهم وتوكلهم وشكرهم وصبرهم فسكنوا إليه.
وقلوب العلماء: اطمأنت بالصفات والأسماء والنعوت فهم يلاحظون ما يظهر بها ومنها على الدهور.
وأما الموحدون: كالفرق لا تطمئن قلوبهم بحال كيف تطمئن قلوبهم بذكر من عرفوه أو كيف تطمئن بذكر الله فمن لم يؤمنهم بل خوفهم وحذرهم.
وقال إبراهيم الخواص: يعرف الناس في حالين فمن دام سعيه وحركته كان موصوفا بنفسه لغلبات شواهد نفسه عليه لقوله:
وكان الإنسان عجولا
[الإسراء: 11] ومن دام سكونه كان موصوفا بالحق لغلبات شواهد الحق في سكينته لقوله:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28].
وقال الحسن: من ذكره الحق بخير اطمأن إليه في أبده.
وقال النهرجوري: قلوب الأولياء مواضع المطالع فهي لا تتحرك ولا تنزعج، بل تطمئن خوفا من أن ترد عليه مخافة مطالعه فتجده مترنما بسوء الأدب، قال الواسطي: هذه على أربعة أضرب:
فالأولى: للعامة؛ لأنها إذا ذكرته ودعته اطمأنت إلى ذكرها فحظها منه الإجابة للدعوة.
والثانية: الخاصة التي أطاعته وصدقت ورضيت عنه فهم مرابطون في أماكن الزيادات اطمأنت قلوبهم إلى ذلك للخاصة الذين أقبلوا فكانوا أمما وهي الملاحظة بشواهدهم وفاسدي الطبائع برؤية طاعاتهم.
والثالثة: خصوص الخصوص الذين عرفوا الأسماء والصفات فعرفوا ما خاطبهم الله تعالى به فاطمأنت قلوبهم بذكره ولها شكرها له وبرضاه عنها لا برضاها عنه.
والرابعة: الأولياء وهم الذين كشف لهم عن ذاته وعلمهم علم صفاته، فأصبح لهم الصفات فأراهم أنما تعرف إلى الخلق على أقدارهم وعلمهم أخطارهم فعلموا أن سرائرهم لا تقدر أن تطمئن إليه ولا تسكن إليه، فمن كانت الأشياء في سره كذلك فبماذا يسكن ويطمئن؟! فلا يجد لقلبه طمأنينته بقدر المطمئن إليه كلما عادت الزيادة عليها أتاها حجابا لا ينقطع بالبرق النقي؛ لأنها حجاب مستور وهباء منثور، فإذا عزمت الدخول في هذا المقام فاحتسب حظك وأعظم الله عليك أجرك.
قال الجريري: في قوله:
طوبى لهم
[الرعد: 29] طوبى لهم طوبى لمن طاب قلبه مع الله لحظة من عمره ورجع بقلبه إلى ربه وقتا من أوقاته، وقال الشيبان: طوبى لمن غاب في حضرته وحضر في غيبته، وأصبح وأمسى مراعيا لسريرته، وقال الجنيد: طابت أوقات العارفين بمعروفهم، قال الجنيد في قوله:
أفمن هو قآئم
[الرعد: 33] بالله قامت الأشياء وبه فنيت وبتجليه حسنت المحاسن وباستدباره فجت وسمجت.
وقال بعضهم: في قوله:
بل زين للذين كفروا مكرهم
[الرعد: 33] زين طرق الهلاك في عين من قدر له الهلاك فيراه رشدا فيوصله إلى المقضي عليه الهلاك.
قال أبو يزيد: اجتنب مكر النفس وانتبه له فإنه أخفى من كل خافية، وهو الذي أهلك من هلك، سئل أبو حفص في قوله:
إنمآ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به
[الرعد: 36] بالعبودية، قال: ترك ما لك ملازمة ما عليك مما أمرت به، وقال أبو عثمان: العبودية اتباع الأمر على مشاهدة الآمر.
وسئل سهل بن عبد الله: متى يصح للعبد مقام العبودية؟ قال: إذا ترك تدبيره ورضي بتدبير الله تعالى فيه، وقال الشيخ رضي الله عنه: العبودية محو حظوظ العبد في إثبات حقوق الرب، وبذل الوجود في نيل المقصود من العبودية.
وقال الحسين بن الفضل في قوله:
وكذلك أنزلناه حكما عربيا
[الرعد: 37] تصح حكم العافية؛ لأنه لا حكم ينفرد به العرب إلا حكم العافية، وقال بعضهم: أحكام العرب السخاء والشجاعة وهما من عرتي الإيمان.
قال جعفر الصادق في قوله: { لكل أجل كتاب } [الرعد: 38] أي: للرؤية وقت، وقال ابن عطاء: لكل علم بيان، ولكل إنسان عبادة، ولكل عبادة طريقة، ولكل طريقة من لم يتميز بين هذا الأحوال فليس له أن يتكلم.
وعن الواسطي في قوله: { يمحوا الله ما يشآء ويثبت } [الرعد: 39] قال: منهم من جذبه الحق ومحاه عن نفسه بنفسه، ومنهم من فني عن الحق بالحق فقيام الحق بالحق عن الربوبية فضلا عن العبودية، وقيل: { يمحوا الله ما يشآء } من شواهده حتى لا يكون على سره غير ربه ويثبت من يشاء في ظلمة مشاهده حتى يكون غائبا عن ربه أبدا.
وقال ابن عطاء: { يمحوا الله ما يشآء } عن رسوم الشواهد والأعراض وكلما يورد على سره من عظمته وهيبته وألوان أنواره فقد آتاه وأحضره، ومن محاه فقد غيبه، والحاضر مرجوع له بعدوه والغائب لا مرجوع له بعدوه ولا سبيل بعدوه إليه.
وقال الواسطي: يمحوهم عن شاهدهم وغيبهم في شواهد الحق، ويمحوهم من شهود العبودية وأوصافها ما يشاء في شواهدهم، ويمحو رسم نفوسهم ويثبتهم برسمه.
وقال ذو النون: العافية في قميص العبودية إلى أبد الأبدية، ومنهم من هو أرفع منهم درجة عليه شاهده الربوبية، ومنهم من هو أرفع درجة منهم درجة جذبهم الحق محاهم عن نفوسهم وأثبتهم عنده كذلك، قال: { يمحوا الله ما يشآء ويثبت }.
وقال سهل: { يمحوا الله ما يشآء } من الأشياء { ويثبت } الأشياء في عنده { أم الكتاب } القضاء المبرم الذي لا زيادة فيه ولا انقضاء.
وقال ابن عطاء: { يمحوا } أوصافهم { ويثبت } أسرارهم؛ لأنه موضع الشهادة.
وقال الشبلي: { يمحوا الله ما يشآء } من الأسباب { ويثبت } ما يشاء من الأقدار، وقال بعضهم: { يمحوا الله ما يشآء } يكشف من قلوب أهل محبة أحزان الشوق إليه { ويثبت } تبجيل أهل السرور والفرح به.
وقال بعضهم: { يمحوا الله ما يشآء } من قلوب أعدائه آثار حكمه وأنوار بره { ويثبت } في قلوب أوليائه ما أجرى عليها من معرفة نعوته منهم المقدمون في الأوقات والقائلون بحقوق الله من غير كلفة ولا شدة.
قال علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد الصادق قال: يمحو الكفر ويثبت الإيمان، ويمحو النكرة ويثبت المعرفة، ويمحو الغفلة ويثبت الذكر، ويمحو الهدى ويثبت العلم، ويمحو البغض ويثبت المحبة، ويمحو الضعف ويثبت القوة، ويمحو الشك ويثبت اليقين، ويمحو الهوى ويثبت الحق على هذه النسق، ودليله
كل يوم هو في شأن
[الرحمن: 29] { وعنده أم الكتاب } [الرعد: 39].
قال جعفر الكتاب: قدر فيه السعادة والشقاوة فلا يزاد فيه ولا ينقص، كما قال تعالى:
ما يبدل القول لدي
[ق: 29] قال الشيخ رضي الله عنه: { يمحوا الله ما يشآء } من الأخلاق الذميمة النفسانية { ويثبت } ما يشاء من الأخلاق الحميدة الروحانية للعوام، ويمحو من الأخلاق الروحانية ويثبت من الأخلاق الربانية للخواص، ويمحو آثار الوجود ويثبت أنوار الجود لأخص الخواص
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88].
{ وعنده أم الكتاب } وهو العلم الأزلي الأولي السرمدي القائم بذاته تعالى
أحاط بكل شيء علما
[الطلاق: 12] بلا زيادة ولا نقصان
وكل شيء عنده بمقدار
[الرعد: 8].
وفي قوله: { أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [الرعد: 41] قال محمد بن علي الباقر: يخرب الأرضون بذهاب أهل الولاية من بينهم، فلا يكون لهم مرجع في وقت محنتهم ونوائبهم فتواتر عليهم المحن فلا يكون فيهم من يكشف الله عنهم بدعائه فتخرب.
قال أبو عثمان: هم الذين ينصحون عباد الله ويحملون على طاعة الله فإذا ماتوا مات بموتهم من يصحبهم.
وفي قوله تعالى: { وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا } [الرعد: 42] قال ابن عطاء الله: المكر الحقيقي ما مكر بهم الحق حتى توهموا أنهم يمكرون ولم يعلموا أنه مكر بهم حيث سهل لهم سبيل المكر.
وقال الحسن: لا مكر أعظم من مكر الحق بعباده حيث أوهمهم أن لهم إليه سبيل أو للحدث اقتران مع القدم في وقت، والحق ثابت وصفاته ثابتة إن يكون ذكروا فلأنفسهم وإن شكروا فلأنفسهم، وإن أطاعوا فلنجاة أنفسهم ليس للحق منهم شيء مجال؛ لأنه الغني القهار.
وفي قوله: { ومن عنده علم الكتاب } قال سهل: الكتاب عزيز وعلم الكتاب أعز، وعلم الكتاب عزيز والعمل به أعز، والإخلاص في العمل أعز والإخلاص عزيز، والمشاهدة أعز والمشاهدة عزيزة في الموفقة أعز والموافقة عزيزة، والأنس في الموافقة أعز والأنس عزيز، وآداب محل الأنس أعز وصلى الله على محمد وآله الطيبين أجمعين.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-5]
{ الر } [إبراهيم: 1] يشير بالألف إلى القسم بآلائه ونعمائه، وباللام إلى لطفه وكرمه، وبالراء إلى القرآن؛ يعني: أقسم آلائي ونعمائي أن صفة لطفي وكرمي اقتضت إنزال القرآن وهو { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس } بدلالة القرآن وتعليمه ونوره وخلقه وهداه { من الظلمات } وهي ظلمات الخلقية { إلى النور } وهو نور تجلي صفة الربوبية، وذلك أن الله تعالى خلق عالم الأجساد وجعل زبدته جسم الإنسان حجابا بالنور صفات روح الإنسان وهي ظلمات الخلقية الإنسانية، وجعل العالمين بظلماتها وأنوارها حجابا لنور صفة الألوهية، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن لله سبعين ألف حجاب من نور الظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره "
وما جعل الله لنوع من أنواع الموجودات استعداد الخروج من هذه الحجب إلا للإنسان، ولا يخرج منها أحد إلا بتخريجه إياه منها، واختص المؤمن بهذه الكرامة، كما قال:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] فجعل القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم من أسباب يخرج المؤمن بهما من حجب الظلمات إلى النور { بإذن ربهم } أي: بحوله وقوته لا سبيل له إلى ذلك الآية، وإنما قال ربهم لأنه تعالى هو مربيهم، وما قال بإذن ربك ليعلم أن هذه التربية من الله لا من النبي.
ويشير بقوله: { إلى صراط العزيز الحميد } إلى أن العبور على الظلمات الجسمانية والأنوار الروحانية هو الطريق لله، وهو العزيز الذي لا يصل العبد إليه إلا بالخروج عن هذه الحجب، وهو الحميد الذي يستحق من كمالية جماله وجلاله أن يحتجب بحجب العزة والكرامة والعظمة.
وبقوله: { الله الذي له ما في السموت وما في الأرض } [إبراهيم: 2] يشير إلى أن سير السائرين إلى الله لا ينتهي بالسير في الصفات وهي العزيز الحميد، وإنما ينتهي السير في الذات وهو الله فالمكونات أفعاله، فمن بقي في أفعاله فلا يصل إلى صفاته، فمن بقي في صفاته لا يصل إلى ذاته، ومن وصل إلى ذاته وصولا بلا اتصال ولا انفصال بل وصولا بالخروج عن أنانيته إلى هويته تعالى يبقى به في صفاته وأفعاله، ثم قال: { وويل للكافرين من عذاب شديد } هو شدة ألم الانقطاع عن الله والبعد عنه.
ثم وصفهم ليعلم أن الكافر الحقيقي من هو ولا يرضى العبد باسم الانقطاع ولا يقنع بالإيمان التقليدي فقال: { الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة } [إبراهيم: 3] بالجد والاجتهاد في طلب الدنيا وشهواتها وترك الآخرة بإهمال السعي في طلبها، واحتمال الكلفة والمشقة في مخالفة هوى النفس وموافقة الشرع في تربية القلب والسير إلى الله { ويصدون عن سبيل الله } ويصرفون وجوه الطالبين عن طلب الله، ويقطعون عليهم طريق الحق في صورة النصيحة، ويلزمون الطلاب على ترك الدنيا والعزلة والغربة والانقطاع عن الخلق للتوبة إلى الحق { ويبغونها عوجا } أي: ويطلبون الآخرة بالاعوجاج عن طريقهما { أولئك في ضلال بعيد } أي: ضلوا عن طريق الحق وبعدوا عنه.
{ ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [إبراهيم: 4] أي: ليتكلم معهم بلسان عقولهم { ليبين لهم } الطريق إلى الله طريق الخروج عن كلمات أنانيتهم إلى نور هويته { فيضل الله من يشآء } بأنانيته { ويهدي من يشآء } بالخروج إلى هويته { وهو العزيز } أي: هو أعز من أن يهدي كل أحد إلى هويته { الحكيم } بأن يهدي من هو المستحق للهداية إليه. فمن هنا تحقق أنه تعالى هو الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور وغيره.
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنآ } [إبراهيم: 5] أي: أرسلنا جبريل الجذبة إلى موسى القلب بعصا الذكر واليد البيضاء من الصدق والإخلاص في استعمالها { أن أخرج قومك } وهم الروح والسر والخفي { من الظلمات إلى النور } من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي بالمداومة على الذكر ونفي الوجود المجازي وإتيان الوجود الحقيقي { وذكرهم بأيام الله } التي كان الله ولم يكن معه شيء لا من أيام الدنيا ولا من أيام الآخرة، وكانوا في مكنون علم الله وهو يحبهم بلا هم ويحبونه { إن في ذلك } التذكير والذكر { لآيات } في الخروج عن الوجود المجازي { لكل صبار شكور } يصير بالله مع الله عن غير الله شكور لنعمة الوجود الحقيقي ببذل الوجود المجازي.
[14.6-9]
{ وإذ قال موسى } [إبراهيم: 6] القلب { لقومه } الروح والسر الخفي يا قوم { اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون } النفس وهم صفاتها والدنيا والشيطان { يسومونكم سوء العذاب } بالقهر والغلبة عليكم ويأخذونكم سخرة في تحصيل مرامهم ونيل مقاصدهم { ويذبحون أبنآءكم } أي: ينفقون ما سنح منكم من الخواطر الروحاني الملكي { ويستحيون نسآءكم } يثبتون الخواطر المتولدة من الطبيعة الإنسانية الملائمة لهوى النفوس { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } لو خلاكم في تلك الحال إلى أنفسكم فأنجاكم منها.
{ وإذ تأذن ربكم } [إبراهيم: 7] وفقكم للخروج { لئن شكرتم } التوفيق { لأزيدنكم } في التقرب إلي، ولئن شكرتم التقرب لأزيدنكم في تقربي إليكم، ولئن شكرتم لقربي إليكم لأزيدنكم في المحبة لأزيدنكم في الوصول، ولئن شكرتم الوصول لأزيدنكم في التجلي، ولئن شكرتم للتجلي لأزيدنكم في الفناء عنكم، ولئن شكرتم الفناء لأزيدنكم في البقاء، ولئن شكرتم في البقاء لأزيدنكم في الوحدة، ولئن شكرتم لأزيدنكم في الصبر على الشكر على الصبر والصبر على الصبر والشكر على الشكر؛ لتكونوا عبادا شكورين، { ولئن كفرتم } نعمتي في المقامات كلها { إن عذابي } مفارقتي بترك وصلي { لشديد } فإن فوات نعيم الدنيا والآخرة شديد على النفوس، وفوات نعيم الموصولات إلي أشد عذاب للقلوب والأرواح.
{ وقال موسى } [إبراهيم: 8] القلب { إن تكفروا أنتم } أيها الروح والسر والخفي بالإعراض عن الحق والإقبال على الدنيا متابعة للنفس { ومن في الأرض جميعا } من النفس والهوى والطبيعة في أرض البشرية { فإن الله لغني } بجماله وجلاله، وكمالية ذاته وصفاته من الأزل إلى الأبد { حميد } في ذاته وصفاته وأفعاله لا تفاوت له بإيمان أحد ولا بكفره.
{ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينت فردوا أيديهم في أفوههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننآ إليه مريب } [إبراهيم: 9].
[14.10-14]
الإشارة في تحقيق قوله تعالى: { قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموت والأرض } [إبراهيم: 10] أن السماوات والأرض تدلان بما كون فاطر فطرهما فإن ثبوتهما بلا كون مكون واجب الكون محال؛ لأنه يؤدي إلى التسلسل والتسلسل محال، وذلك الكون هو الله { يدعوكم } من المكونات إلى المكون لا لحاجته إليكم بل لحاجتكم إليه { ليغفر لكم } بصفة الغفارية { من ذنوبكم } التي أصابكم من حجب ظلمات خلقية السماوات والأرض فاحتجبتم بها عنه { ويؤخركم إلى أجل مسمى } المعنى لنا أخرجكم من حجب الظلمات بصفة الغفارية يؤخركم عن السير في الصفات والذات إلى أوانه حكمة منه { قالوا } أي: للرسل { إن أنتم إلا بشر مثلنا } تعبدون الهوى والدنيا كما كان يعبد آباؤنا { تريدون } بمقالتكم { أن تصدونا عما كان يعبد آبآؤنا } الدنيا وشهواتها لتتمتعوا بها دوننا { فأتونا بسلطان مبين } ببرهان يبين لنا صدق دعواكم.
{ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر } [إبراهيم: 11] أي: كنا { مثلكم } في البشرية نعبد الهوى والدنيا { ولكن الله يمن على من يشآء من عباده } بأن يهديهم للإيمان وللمعرفة والمحبة؛ ليتركوا ما سواه ويطلبوه يبذل الموجود في نيل المقصود فإذا وجدوه دلوا عباده عليه وذلك { وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله } أي: أتيكم بما يتسلط عليكم ليفطركم إلى الله { وعلى الله } في الهداية إليه { فليتوكل المؤمنون } الذين يؤمنون بالوصول إليه.
{ وما لنآ ألا نتوكل على الله } [إبراهيم: 12] في الهداية { وقد هدانا سبلنا } وهي الإيمان والمعرفة والمحبة فإنهما سبل الوجود ومقاماته، فكذلك يهدي لنا إليه إذا توكلنا عليه { ولنصبرن على مآ آذيتمونا } بالتكذيب ورد الدعوة والإعراض عن الله { وعلى الله } في الهداية إليه { فليتوكل المتوكلون } على الله في الهداية إلى سبيله فإن للتوكل مقامات فتوكل المبتدئ قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب، وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب، وتوكل المنتهي قطع التعلق بما سوى الله للاعتصام بالله.
{ وقال الذين كفروا } [إبراهيم: 13] أي: ستروا الحق بالباطل وهم النفس والهوى { لرسلهم } وهو القلب والروح فإنهما محل إلهام الحق { لنخرجنكم من أرضنآ } أو أرض الإنسانية { أو لتعودن في ملتنا } وهي طلب الدنيا وشهواتها والتلذذ بنعيمها { فأوحى إليهم ربهم } ألهمهم { لنهلكن الظالمين } أي: لنهلكن النفس والهوى بسطوات أنوار الشريعة في استعمالها بالطريقة.
{ ولنسكننكم الأرض } [إبراهيم: 14] أرض الإنسانية { من بعدهم } أي: من بعد هلاكهم وتبدل أخلاقهم بأخلاق الروحانية والربانية { ذلك } أي: ذلك الغلبة والتمكن والاستيلاء { لمن خاف مقامي } أي: خاف مقام الوصول، وقال: العوام يخافون دخول النار والمقام فيها، والخواص يخافون فوات المقام في الجنة لأنها دار المقامة، وأخص الخواص يخافون فوات مقام الوصول { وخاف وعيد } أي: وعيد القطيعة والبعد.
[14.15-20]
{ واستفتحوا } [إبراهيم: 15] أي: استنصروا القلب والروح من الله على النفس والهوى فنصرهم { وخاب كل جبار } وهو النفس { عنيد } وهون لأنه عاند الحق { من ورآئه جهنم } [إبراهيم: 16] أي: قدام النفس في متابعة الهوى جهنم الصفات الذميمة والأخلاق الردية { ويسقى من مآء صديد } وهو ما يتولد عن الصفات والأخلاق من الأفعال النفسانية الحيوانية السبعية يسقى به الروح صاحب النفس الأمارة الكافرة.
{ يتجرعه } [إبراهيم: 17] بالتكلف { ولا يكاد يسيغه } لأنه ليس له من شربه { ويأتيه الموت } أسباب الموت من العقوبات { من كل مكان } أي: من مكان كل فعل مذموم { وما هو بميت } يستريح من ألم العقوبات التي تتولد من الأفعال في الحال { ومن ورآئه عذاب غليظ } وهو قطيعة البعد والحرمان.
{ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم } [إبراهيم: 18] يشير إلى أعمال الذين ستروا الحق بالباطل من أهل الأهواء والبدع { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } وهي ريح البدعة والاعتقاد السوء { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } من القبول { ذلك هو الضلال البعيد } أي: المبعد عن الله.
{ ألم تر أن الله خلق السموت والأرض } [إبراهيم: 19] يخاطب روح النبي صلى الله عليه وسلم فإن أول ما خلق الله روحه، ثم خلق السماوات والأرض وروحه ناظر به يشاهد خلقتها { بالحق } أي: بالله ونوره وأيضا ألم تشاهد أن الله خلق السماوات بالحق مناسبا لسماوات الأرواح وأرض النفوس ليكون بقاء النفوس وفناؤها وصلاح النفوس وفسادها وسعادة النفوس وشقاوتها بتدبير الأرواح وإفاضتها لاستعدادها قبول الفيض الإلهي في اللطف والقهر، وذلك تقدير العزيز العليم { إن يشأ يذهبكم } أي: هذا الإنسان المستعد لقبول فيض اللطف والقهر { ويأت بخلق جديد } مستعد لقبول اللطف والقهر ويأت بخلق جديد مستعد لقبول لطفه وقهره من غير الإنسان { وما ذلك على الله بعزيز } [إبراهيم: 20] وأنه
إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
[يس: 82].
[14.21-24]
ثم أخبر عن حال يوم القيامة فقال: { وبرزوا لله جميعا } [إبراهيم: 21] أي: خرجوا من القشور الفانية المحجبة الباقية جميعا من الضعيف والقوي { فقال الضعفاء } وهم المتقلدة لأهل البدع { للذين استكبروا } أي: للمبتدعين الزائفين عن الحق والسنة { إنا كنا لكم تبعا } بالتقليد { فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله } [إبراهيم: 21] عذاب البعد والانقطاع عن الله { قالوا } يعني: أهل البدع { لو هدانا الله } إلى طريق أهل السنة والجماعة، وهو الطريق إلى الله وقربه { لهديناكم } إليه به يشير إلى أن الهداية والضلالة من نتائج لطف الله وقهره ليس إلى أحد من ذلك شيء، فمن شاء جعله مظهرا لصفات لطفه ومن شاء جعله مظهرا لصفات قهره { سوآء علينآ أجزعنآ } في طلب النجاة من ورطة الهلاك وعذاب البعد { أم صبرنا } انتظار الرحمة { ما لنا من محيص } للنجاة لأنه ضاع منا آلة النجاة وأوانها.
{ وقال الشيطان لما قضي الأمر } [إبراهيم: 22] من أمر أهل السعادة بالسعادة وأمر أهل الشقاوة بالشقاوة { إن الله وعدكم وعد الحق } وهو وعد وهو حق لأهل الحق { ووعدتكم فأخلفتكم } فيما وعدكم ربكم وهو تكذيب اللقاء والتلاقي وهو وعد { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني } فيما وعدتكم بالباطل لأني خلقت لهذا، ولأني عدو مبين لكم وقد حذركم الله عداوتي { ولوموا أنفسكم } بأن صدقتموني فيما كذبتم وكذبتم الله فيما قصدتكم، وذلك أن مقالتي كان ملائما لهوى أنفسكم وكلام الحق مخالف لهواها، ومر على مذاق النفوس { مآ أنا بمصرخكم } مكافيا فيما صدقتموني { ومآ أنتم بمصرخي } مكافيا في الإحسان فيما أسأت إليكم من كرامة الإنسانية { إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل } وآمنت بوحدانية الله حين لا ينفع نفسا إيمانها { إن الظالمين لهم عذاب أليم } وهو الشيطان ومتبعوه من الإنس والجن إن الشيطان وضع الدعوة إلى الباطل من غير موضعه، وأنهم وضعوا الاتباع في غير موضعه.
{ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [إبراهيم: 23] يشير إلى أن الإنسان إذا خلا إلى طبعه لا يؤمن ولا يعمل الصالحات ولا يدخل الجنة؛ لأنه خلق ظلوما جهولا لا كفارا سفلي الطبع ونفسه
لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53] وأدخله بفضله في الإيمان والأعمال الصالحة والحسنات { جنات } القلوب { تجري من تحتها الأنهار } من ماء الحكمة { خالدين فيها بإذن ربهم } أي: لعنايته فإن لم تكن العناية لا يبقى أحد في جنة القلب ساعة ، كما لم يبق آدم عليه السلام في الجنة خالدا { تحيتهم فيها سلام } أي: تحية أهل القلوب على أهل القلوب وأهل النفوس سلام فأما على أهل القلوب لسلامة قلوبهم، وأما على أهل النفوس سلام من قلوبهم ليسلموا من شر نفوسهم، كما قال تعالى:
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
[الفرقان: 63].
{ ألم تر } [إبراهيم: 24] ألم تشاهد بنور النبوة يا محمد { كيف ضرب الله مثلا } مناسبا للاستعداد الإنساني القابل لفيض نور الإلهية دون سائر مخلوقاته بقوله تعالى: { كلمة طيبة } وهي كملة لا إله إلا الله وهي كلمة القديم وصفة وحدانيته وصورة أحديته { كشجرة طيبة } وهي شجرة طيبة عن لوث الحدوث مثمرة شواهد أنوار القدم { أصلها ثابت } في الحضرة الألوهية فإنها صفة قائمة بذاته تعالى { وفرعها في السمآء } سماء القلوب.
[14.25-27]
{ تؤتي أكلها } [إبراهيم: 25] من أنوار المشاهدات وأثمار المكاشفات { كل حين } بتقرب العبد إلى ربه يتقرب الرب تعالى إليه، وهو معنى قوله: { بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس } لمن نسي العهد الأول واستحقاقه لقبول فيض الألوهية وترك السعي في طلب تلك السعادة العظمى وأبطل استعداده في طلب الدنيا والإعراض عن المولى فهو أعظم البلوى والطامة الكبرى { لعلهم يتذكرون } الحالة الأولى وقربهم من المولى، ويتفضلون بها ويعلمون أن هدى الله هو الهدى.
{ ومثل كلمة خبيثة } [إبراهيم: 26] وهي كلمة تتولد من خباثة النفس الخبيثة الظالمة لنفسها بعقيدة السوء في ذات الله وصفاته، أو باكتساب المعاصي والظالمة لغيرها بالتعرض لعرضه وماله { كشجرة خبيثة } وهي النفس الخبيثة الأمارة بالسوء { اجتثت من فوق الأرض } بظهور المعاملات الخبيثة فوق أرض البشر { ما لها من قرار } لأنها من الأعمال الفانيات الفاسدات لا من الباقيات الصالحات.
{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } [إبراهيم: 27] أي: يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها { في الحياة الدنيا } أي: في مدة بقائهم في الدنيا { وفي الآخرة } أي: بعد مفارقة البدن به يشير إلى أن سير أصحاب الأعمال ينقطع عند مفارقة الروح عن البدن، وسير أرباب الأحوال الذين ثبت الله تعالى بأنوار الذكر أرواحهم وسيرهم في ملكوت السماوات والأرض، بل طيرهم في عالم الجبروت بأجنحة أنوار الذكر وهي جناحا النفي والإثبات، فإن نفيهم بالله عما سواه وإثباتهم بالله في الله لا ينقطع أبد الأبدين { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء } أي: يضل أصحاب النفوس الخبيثة الظالمة عن سبيل الرشاد في الإنارة بنور الألوهية بأن يخذلهم في طلب الدنيا وشهواتها ليذرهم في دركات جهنم النفوس حينا.
[14.28-33]
{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله } [إبراهيم: 28] هذا إشارة إلى نعمة ألوهيته وخالقيته ورازقيته عليهم بدلوا { كفرا } بالكفر والإنكار بالجحود { وأحلوا قومهم } أي: أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم { دار البوار } أي: الهلاك فأنزلوا أبدانهم { جهنم يصلونها وبئس القرار } [إبراهيم: 29] وهي غاية البعد عن الحضرة والحرمان من الجنان وأنزلوا أنفسهم الدركات وقلوبهم العمى والصم والجهل وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة بتبديل نعم الأخلاق الملكية الحميدة بالأخلاق الشيطانية السبعية الذميمة.
{ وجعلوا لله أندادا } [إبراهيم: 30] من الهوى والدنيا وشهواتها { ليضلوا } بها ويضلوا الناس بالامتناع { عن سبيله } عن طلب الحق تعالى والسير إليه على أقدام الشريعة والطريقة للوصول إلى الحقيقة { قل تمتعوا } بشهوات الدنيا ونعيما { فإن مصيركم إلى النار } نار جهنم للأبدان، ونار المحق والحرمان للنفوس، ونار الحياة للقلوب ونار القطيعة للأرواح.
{ قل لعبادي } [إبراهيم: 31] لا لعباد الهوى { الذين آمنوا } بنور العناية وعرفوا قدر نعمة ألوهيتي ولم يبدلوها كفرا { يقيموا الصلاة } ليلازموا العبودية ويديموا العكوف على بساط القربة ويثبتوا في المناجاة والمكالمة { وينفقوا } على الطالبين المريدين { مما رزقناهم سرا } من أسرار الألوهية { وعلانية } من أحكام العبودية في طريق الربوبية { من قبل أن يأتي يوم } وهو مفارقة الأرواح على الأبدان { لا بيع فيه } أي: لا يقدر على الإنفاق بطريق طلب المعارضة { ولا خلال } أي: ولا بطريق المخاللة من غير طلب العوض؛ لأن آلة الإنفاق خرجت من يده، وبطل استعداد دعوة الخلق إلى الحق وتربيتهم بالتسليك والتزكية والتهذيب والتأديب.
{ الله الذي خلق السموت } [إبراهيم: 32] سماوات القلوب { والأرض } أرض النفوس { وأنزل من السمآء } سماء القلوب { مآء } الحكمة { فأخرج به من الثمرات } ثمرات الطاعة { رزقا لكم } أي: رزقا لأرواحكم فإن الطاعات غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأبدان { وسخر لكم الفلك } فلك الشريعة { لتجري في البحر } بحر الطريقة { بأمره } أي: بأمر الحق لا بأمر الهوى والطبع؛ لأن استعمال فلك الشريعة إذا كان بأمر الهوى والطبع سريعا يهلك ويغرق، ولا يبلغ ساحل الحقيقة إلا بأمر أولي الأمر وبملاحيه وهو الشيخ الواصل الكامل المكمل كما قال تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
[النساء: 59] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أطاع أمري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله ".
وكم من سفن لأرباب الطلب لما شرعت في هذا البحر بالطبع انكسرت بنكباء الأهواء وتلاطم أمواج العزة وانقطعت دون ساحلها، { وسخر لكم الأنهار } أنهار العلوم اللدنية { وسخر لكم الشمس } [إبراهيم: 33] شمس الكشوف { والقمر } قمر المشاهدات { دآئبين } بالكشف والمشاهدة { وسخر لكم اليل } ليل البشرية { والنهار } نهار الروحانية وتسخير هذه الأشياء عبارة عن جعلها سببا لاستكمال استعداد الإنسان في قبول الفيض الإلهي المختص به من بين سائر المخلوقات.
[14.34-38]
وفي قوله: { وآتاكم من كل ما سألتموه } [إبراهيم: 34] إشارة إلى أنه تعالى أعطى الإنسان في الأزل حسن استعداد استدعى منه لقبول الفيض الإلهي وهو قوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4] ثم للابتلاء رده إلى أسفل سافلين ثم آتاه من كل ما سأله من الأسباب التي تخرجه من
أسفل سافلين
[التين: 5] وتصعده إلى أعلى عليين فإذا أمعنت النظر في هذه الآيات رأيت أن العالم بما فيه خلق تبعا لوجود الإنسان، وسببا لكماليته كما أن الشجرة خلقت تبعا لوجود الثمرة وسببا لكماليتها فالإنسان البالغ الكامل الواصل ثمرة شجرة المكونات، فافهم جدا.
{ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها } لأن نعمته على الإنسان قسمان: قسم يتعلق بالمخلوقات كلها وقد بينا أنها خلقت لاستكمال الإنسان وهذه النعمة لا يحصى عدها لأن فوائدها عائدة إلى الإنسان إلى الأبد وهي غير متناهية فلا يحصى عدها.
وقسم يتعلق بعواطف ألوهيته وعوارف ربوبيته فهي أيضا غير متناهية فلا يحصى عدها.
وقسم يتعلق بعواطف ألوهيته وعوارف ربوبيته فهي أيضا غير متناهية { إن الإنسان لظلوم } لنفسه بأن يفسد هذا الاستعداد الكامل بالإعراض عن الحق والإقبال على الباطل { كفار } لنعم الله إذا لم يعرف قدرها ولم يشكر لها وجعلها نقمة لنفسه بعدما كانت نعمة من ربه.
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءامنا } [إبراهيم: 35] إبراهيم هو الروح والبلد هو القلب اجعله آمنا من وساوس الشيطان وهواجس النفس وآفات الهوى { واجنبني وبني } وهم الفؤاد والسر والخفاء { أن نعبد الأصنام } فكما أن صنم النفس الدنيا وصنم القلب العقبى وصنم الروح الدرجات العلى وصنم الفؤاد العرفان وصنم الخفاء الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } [إبراهيم: 36] أي: من الناسين الذين نسوك عن استجلاء القلب والكرامات فانقطعوا بهن عنك { فمن تبعني } في محبتك وترك ما سواه لك { فإنه مني ومن عصاني } في مخالفتك { فإنك غفور رحيم } تغفر لهم فإن لم يجدوا مقام الخلة ترحم عليهم بالمقام في الخلد، وأيضا حفظ الأدب فيما قال: { ومن عصاني } وما قال: ومن عصاك؛ لأن بعصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة والإشارة فيه أن من عصاني لعلي لا أغفر له ولا أرحم عليه فإن المكافأة في الطبيعة واجبة ولكن من عصاني فتغفر له وترحم عليه يكون غاية كرمك وعواطف إحسانك { فإنك غفور رحيم }.
{ ربنآ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } [إبراهيم: 37] وهو وادي النفس { عند بيتك المحرم } أن يكون بيتا لغير الله كما قال:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
وأيضا قوله: { أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان من ذريته وكان من صلب إسماعيل يتوسل بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في رعاية هاجر وإسماعيل يعني: إن ضيعت إسماعيل ليهلك فقد ضيعت محمدا صلى الله عليه وسلم وأهلكته.
{ ربنا ليقيموا الصلوة } أي: أسكنهم عند بيتك فريدا وحيدا بلا طعام ولا شراب ولا صديق ولا أنيس؛ ليناجوك ويقيموا عبادتك ويتوكلوا عليك ويستأنسوا بك ولا يلتفتوا إلى غيرك وأيضا أسكنت من ذريتي الروحانيات بوادي النفس في مجاورة القلب { ليقيموا } بالآت النفس وأدوات الجسم طاعات وعبادات من { الصلاة } والزكاة والصيام والحج والجهاد وغيره من شرائع الإسلام ما لم يكونوا مستعدين للقيام به في عالم الأرواح { فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم } ليتوسلوا بهواهم إليك ويستحقوا بذلك منك أن تجعلهم منهم ومعهم؛ لأنه
" من أحب قوما فهو معهم "
، وأسكنت من ذريتي من الرحمة { فاجعل أفئدة من الناس } أي: فاجعل وتيرة الصفات الناسوتية { تهوى } إلى الصفات الروحانية { وارزقهم من الثمرات } أي: ثمرات الصفات اللاهوتية التي رزقها للصفات الروحانية { لعلهم يشكرون } شكر النعمة الجسمية التي بمعزل عنها الملائكة المقربون، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إفشاء سر الربوبية لقوله: { ربنآ إنك تعلم ما نخفي } [إبراهيم: 38] من حقائق الدعاء والإشارة المودعة فيها { وما نعلن } من ظاهر الصفة { وما يخفى على الله من شيء في الأرض } أرض الصورة من المعاملات والمقالات الظاهرة { ولا في السمآء } سماء القلوب من أحوال الغيوب والأسرار الباطنة.
[14.39-43]
{ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر } [إبراهيم: 39] وهذا دعاء وحمد وشكر لإبراهيم الروح أن وهب له الله تعالى يعني: من تعلقه إلى القالب { إسماعيل } السر { وإسحاق } الخفي أي: قبل تعلقه بالقالب وازدواجه بالجسم لم يكن له هذه التولدات { إن ربي لسميع الدعآء } يعني: في الأزل قد سمع دعاء الروح وهو في العدم وآثاره في الوجود عند تعلقه بالقالب ما سأله ومن حسنها الاستعداد لقبول الفيض الإلهي كما قال تعالى:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم: 34].
{ رب اجعلني مقيم الصلاة } [إبراهيم: 40] أي: دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن وبه يشير إلى دوام السير في الله بالله { ومن ذريتي ربنا وتقبل دعآء } فيهم دعائي الذي دعوت لهم في العدم وسمعتهم في الأزل إلى الأبد { ربنا اغفر لي } [إبراهيم: 41] أي: استر لي بصفة مغفرتك؛ لئلا أرى وجودي فإنه حجاب بيني وبينك { ولوالدي } ولمن كان سبب وجودي في آباء العلوي وأمهات السفلى لكيلا يحجبونه عن رؤيته { وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وهو يوم كان في جناب الله في الأزل بقوم كمالية كل نفس أو نقصانيتها.
{ ولا تحسبن الله غافلا } [إبراهيم: 42] أي: في الأزل { عما يعمل الظالمون } يعني: كل عمل يعمله الظالمون لم يكن الله غافلا عنه في الأزل، بل كل ذلك بقضائه وقدره وإرادته سببا على حكمته البالغة { إنما يؤخرهم } يعني: الظالمين { ليوم تشخص فيه الأبصار }.
{ مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء } [إبراهيم: 43] إشارة إلى أنه تعالى جعل سعادة أهل السعادة وشقاوة أهل الشقاوة مودعة في أعمالهم، والأعمال مودعة في أعمالهم ليبلغ كل واحد من الفريقين على قدر أعمالهم الشرعية والطبيعية إلى منزل من منازل السعداء، أو منزل من منازل الأشقياء يوم القيامة فلهذا أخر الظالمين ليزدادوا إثما يبلغهم منازل الأشقياء.
[14.44-48]
ثم أكد هذا المعنى بقوله تعالى: { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب } [إبراهيم: 44] يعني: أرجعنا إلى الدنيا { أخرنآ } لنطيعك { نجب دعوتك ونتبع الرسل } كما أخرتنا وألبستنا لازدياد الإثم بمعاصيك في الدنيا.
ثم أجابهم بقوله: { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } يشير به إلى المناسخة فإنهم يزعمون ألا زوال لهم في الدنيا ولا أحد منهم إذا مات ينقل روحه إلى قالب آخر فأرادوا بهذا الجواب أن لو رجعناكم إلى الدنيا لتحقق عندكم مذهب التناسخ وما أقسمتم من قبل على أن ما لكم من زوال.
{ وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم } [إبراهيم: 45] أي: أقمتم مقامات الظالمين على أنفسهم في السير على قدمي الظلم والمعاصي إلى منازل الأشقياء { وتبين لكم } أي: بعد أن تبين لكم { كيف فعلنا بهم } أي: بالأشقياء حين نزلهم منازلهم وشاهدتم أحوالهم { وضربنا لكم الأمثال } يشير إلى أن الحقائق والمعاني الغيبية لا تتبين إلا بالأمثال كقوله تعالى:
ضرب الله مثلا
[النحل: 75].
{ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } [إبراهيم: 46] أي: إن كان مكرهم هذا الأمر لا يقدر بشر إلا بإذن الله { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } [إبراهيم: 47] في جزاء أهل المكر { إن الله عزيز } في ذاته لا يهدي إليه كل ماكر { ذو انتقام } لأهل المكر حيث ينتقم منهم على قدر مكرهم.
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموت } [إبراهيم: 48] أي: نبدل أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلمتها بأنوار القلوب وتبدل السماوات بالأسرار بسماوات الأرواح، فإن شموس الأحوال إذا تجلت على كواكب الأسرار أفنت تحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها، بل تبدل أرض الوجود المجازي عند إشراق تجلي أنوار الربوبية بحقائق أنوار الوجود الحقيقي.
كما قال:
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر: 69] { وبرزوا } عن الوجود المجازي { لله الواحد } أي: لله ووحدانيته { القهار } لا يعجزه ما سواه فإن شموس الأرواح عند تجلي نور الألوهية تمحى بسطوته كما تمحى الكوكب عند تجلي شموس الأفلاك والأرواح.
[14.49-52]
{ وترى المجرمين } [إبراهيم: 49] هم أرواح أجرموا إذا اتبعوا النفوس ووافقوها في طلب الشهوات والإعراض عن الحق { يومئذ } يوم التجلي { مقرنين في الأصفاد } أي: مقيدين مع النفوس بقيود صفاتها الذميمة الحيوانية لا يستطيعون البروز والخروج لله، { سرابيلهم من قطران } [إبراهيم: 50] المعاصي وظلمات النفوس وهم يحجبون بها عن الله { وتغشى وجوههم النار } نار الحسرة والقطيعة والحرمان.
{ ليجزى الله كل نفس } [إبراهيم: 51] أي: كل أرواح { ما كسبت } من صحبة النفس وموافقتها { إن الله سريع الحساب } أي: يحاسب الأرواح بالسرعة في الدنيا ويجزيهم بما كسبوا في متابعة النفوس من العمى والصم والجهل والغفلة والبعد وغير ذلك من الآفات قبل يوم القيامة { هذا بلاغ للناس } [إبراهيم: 52] لأرواح نسوا عالم الوحدة وشهودهم مع الله بلا حجب الغفلة { ولينذروا به } أي: ليتنبهوا بهذا البلاغ قبل المفارقة عن الأبدان لينتفعوا به فإن الانتباه بالموت لا ينفع { وليعلموا أنما هو إله واحد } فيعبدوه ولا يعبدوا إلها غيره من الدنيا والهوى والشيطان وما يعبد من دون الله { وليذكر أولوا الألباب } وليذكر عالم الوحدة وشهودهم مع الله أولوا الألباب الذين خرجوا من قشر البشرية متوجهين إلى عالم الوجود بل المجذبون من قشر الوجود المجازي الواصلون بلب الوجود الحقيقي العالمون بأنه إله واحد كقوله:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19] والله أعلم.
الر كتاب أنزلناه إليك
[إبراهيم: 1] قال جعفر عهد خصصت به فيه بيان سالف الأمم وأحوالهم ونجاة أمتك عنهم
لتخرج الناس
[إبراهيم: 1] من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمة البدعة إلى نور السنة ومن ظلمات النفوس إلى أنوار القلوب، وقال أبو بكر بن طاهر: من ظلمة الظن إلى أنوار الحقيقة، قال أبو جعفر: من ظلمة رؤية العقل إلى نور رؤية العقل.
وفي قوله تعالى:
الله الذي له ما في السموت وما في الأرض
[إبراهيم: 2] قال الواسطي: الكون كله له، من طلب الكون فاته المكون ومن طلب الحق فوجده سخر له الكون بما فيه.
قوله:
الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة
[إبراهيم: 3] قال أبو علي الجوزجاني: من أحب الدنيا حرم عليه الآخرة، ومن طلب الآخرة حرم عليه طريق النجاة، ومن طلب طريق النجاة حرم عليه رؤية فضل الله، ومن طلب طريق رؤية الفضل حرم عليه الوصول إلى المتفضل.
قوله:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم: 7] سئل ابن عطاء عن هذه الآية قال: إذا وردت الأشياء إلى مصادرها من غير حضور منك لها تقديم الشكر، وقال الجوزجاني: لئن شكرتم الإسلام لأزيدنكم الإيمان، ولئن شكرتم الإيمان لأزيدنكم الإحسان، ولئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة، ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة، ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم الأنس، وقال الحريري: كمال الشكر في مشاهدة العجز عن الشكر.
وروي عن داود عليه السلام قال: " يا رب كيف أشكرك وشكري لك تجديد نعمة منك علي؟ قال: يا داود الآن شكرتني " ، قال ابن عطاء: لئن شكرتم هدايتي لأزيدنكم خدمتي، ولئن شكرتم خدمتي لأزيدنكم مشاهدتي، ولئن شكرتم مشاهدتي لأزيدنكم ولايتي، ولئن شكرتم ولايتي لأزيدنكم رؤيتي، وعن جعفر الصادق رضي الله عنه قال: إذا سمعت النعمة الشكر تأهبت للمزيد.
قوله:
ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
[إبراهيم: 7]
وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد
[إبراهيم: 8] قال الواسطي: ليس الإيمان يقرب إلى الحق ولا الكفر يبعد عنه، لكن جرى به الأمر في الأزل بالسعادة والشقاوة فظاهر الإيمان والكفر إعلام الحقائق والحقائق القضاء الذي سبق الدهور لا الأزمان.
قوله:
ألم تر أن الله خلق السموت والأرض
[إبراهيم: 19] قال سهل: خلق الأشياء كلها بقدرته وزينها بعلمه وأحكمها بحكمه، فالناظر من الخلق إلى الخالق يتبين له من الخالق عجائب الخلقة، والناظر من الخلق إلى الخلق يكشف له عن إشارة أنوار حكمته وبدائع متعته.
وقال ابن عطاء: الكلمة الطيبة قوله: لا إله إلا الله على التحقيق، والشجرة الطيبة هي التي تطهر أسرار الموحدين عن دنس الأطماع بالتعبد لله والانقطاع إليه عما سواه، وقال محمد بن علي الباقري: الشجرة الطيبة الإيمان أنبتها الله تعالى وجعل أرضها التوفيق، وسماؤها العناية، وماؤها الرعاية، وأغصانها الكفاية، وأوراقها الولاية، وثمارها الوصلة، وظلها الأنس فأصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها في السماء ثابت بالمريدين عند الجبار، فالأصل يرد الفروع بدوام الإشفاق والمراقبة والفرع يهدي إلى الأصل بالخشية من محل الشهادة والقرب هكذا أبدا قلب المؤمن وفؤاده.
قال أبو سعيد الخراز: وخزائن الله في السماء الغيوب وخزائنه في الأرض القلوب؛ لأن الله تعالى جعل قلب المؤمن بيت خزائنه، ثم أرسل ريحا فهبت فيه فكنه عن الكفر والشرك والنفاق؛ لأن الله تعالى جعل قلبا ثم أنبت شجرة فأثمرت الرضا والمحبة والصفوة والإخلاص والطاعة وهو قوله:
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم: 24] وذكر كل شيء من الدنيا إذا لم يكن لها حفظ من الآلاء جف والشجر الذي في قلب المؤمن يجف إذا لم يسقها بماء التوبة ثم بماء الرحمة من فوق فيكون طريا شهيا ثم يأتيه ثلاثة أشياء:
طريق العبودية في النفس، وطريق المحبة في القلب، وطريق الذكر في السر فخدمة النفس الطاعة، وخدمة القلب النية، وخدمة السر المراقبة على الدوام، ثم يمطر عليها أمطار على النفس مطر الهداية، وعلى اللسان مطر اللطافة، وعلى القلب مطر العظمة، وعلى السر مطر النعمة، وعلى الروح مطر الكرامة، فينبت مطر اللسان الشكر والثناء، ومن مطر النفس الطاعة، ومن مطر القلب الصدق والصفاء، ومن مطر السر الشوق والحياء، ومن مطر الروح الرؤية والبقاء.
قال محمد بن علي: الشجرة الخبيثة اللسان ما لم يقطعها المؤمن بسيوف الخوف فإنها تثمر أبدا الكلمة الخبيثة، وقال بعضهم: الشجرة الخبيثة النفاق وهي التي لا تقر قرارا حتى تهوي صاحبها في النار.
وقال ابن عطاء: الشجرة الخبيثة الغيبة والبهتان وهما يفتحان على الإنسان باب الكذب والهجاء، وقال جعفر: الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار.
وقال الواسطي في قوله:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا
[إبراهيم: 27] الإيمان أي: فإن حقيقة مضاد الروح الإيمان وإيمان محبة عن ظلمات الروح وذلك استثناء من استثناء في إيمانه كيف يأمنه العبد وهو لا يخلف الميعاد ويثبت الله الذين أمنوا على مقدار المواجيد يكون الخوف والأمن ولم ينزع عن أحد الخوف ولا انقلب منه أحد الخطيئة، وما من أحد يسعى إلا يخاف عقباها أي: عقبى سعيه فمن يثبت بالقول الثابت في الحياة الدنيا تسقط عنه تلك المخاوف وقوله:
وسخر لكم الأنهار
[إبراهيم: 32] قال الصادق: وسخر لكم السماوات بالأمطار، والأرض بالنبات، والبحر أن يتخذ تنورا وسحرا.
وسخر لكم الشمس والقمر
[إبراهيم: 33] تدوران عليك وتوصلان إليك منافع السماوات والنبات والزروع وسخر لكم قلب المؤمن لمحبته ومعرفته وخاصة الله من العباد القلوب لا غير؛ لأنها موضع نظره ومستودع أمانته ومعرفة إفاضة أسراره.
قال يحيى بن معاذ في قوله تعالى:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم: 34] إن الله أعطاك أكبر ما في خزانته وأجمله وأعظمه أعطاك من غير سؤالك وهو التوحيد فكيف يمنعك ما هو دونها من الثواب والعافية بسؤالك؟! فاجتهد أيها العبد ألا يكون سؤالك إلا منه ولا رغبتك ولا رجوعك إلا إليه فإن الأشياء كلها له فمن شغل بغيره فقد تقطع عليه طريق الحقيقة، ومن شغل منه جعل الأشياء كلها طوع يده فتنقلب الأعيان ويقرب له البعيد ويمشي حيث أحب ويجري كما أراد، وهذا من مقامات العارفين.
وقال بعضهم في قوله:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34] أي: عد نعمة من نعمه يعجز عن الإحصاء فكيف إذا تتابعت النعم؟! وقيل: أجل النعم استواء الخلقة وإلهام المعرفة والذكر من بين سائر الحيوان ولا يطيق القيام لشكرها أحد، وقيل: إن الإنسان لظلوم لنفسه شيطان، إن شكره يقابل نعمه كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه في البداية والتعاقب، وقال سهل: وإن تعدوا نعمة الله بمحمد صلى الله عليه وسلم لا تحصوها بأن جعل السفير فيما بينه وبينكم الأعلى والواسطة الأولى.
وقال ابن عطاء: أجل النعم رؤية معرفة النعم ورؤية التقصير في القيام لشكر النعم، وقال: النعمة أزلية كذلك يجب أن يكون الشكر أزليا، واعلم أن لك نفسا وقلبا وروحا فنعمة النفس الطاعة، ونعمة القلب اليقين، ونعمة الأرواح الحكمة، ونعمة المحبة الذكر، ونعمة المعرفة الألفة والنفس في أبحر الطاعات تتنعم والقلب في أبحر النعم، والمعرفة في بحر القربة والعيان يتنعم.
وروي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في قوله:
رب اجعل هذا البلد ءامنا
[إبراهيم: 35] يعني: أفئدة العارفين اجعلهم آمنين من الشرك آمنين من قطيعتك.
وقوله:
وارزقهم من الثمرات
[إبراهيم: 37] قال: ارزقهم شكر ما أوليتهم من معرفتك،
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام
[إبراهيم: 35] أي: نعبد الهوى.
قال الدنيوري: محاربة الأصنام مختلفة، فمنهم من صنمه نفسه، ومنهم من صنمه ماله، ومنهم من صنمه ولده، ومنهم من صنمه أقاربه، ومنهم من صنمه زوجته ومنهم من صنمه ضيعه، ومنهم من صنمه صلاته وزكاته وحجه وصيامه، ومنهم من صنمه حاله، والأصنام مختلفة وكل واحد من الخلق مربوط بصنم من هذه الأصنام والتبرؤ هو ألا يرى الإنسان لنفسه خلافا ولا مجالا لا يعبد من أفعاله شيئا ولا يسكن من حاله إلى شيء، رافعا على نفسه باللوم في جميع ما يبدو منها من الخير والشر غير راض به، وقال جعفر: لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة.
وقال ابن عطاء في قوله:
واجنبني وبني
[إبراهيم: 35] قال: إن الله أمر إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة فلما بناها قال:
ربنا تقبل منآ
[البقرة: 127] فأوحى الله إليه: " يا إبراهيم أمرتك ببناء البيت وخصصتك من الأنبياء بذلك ، ومننت عليك ووفقتك لما وفقتك له، ودفعت عنك النار، فقيل له: ألا تستحي أن تمن علي وتقول: ربنا تقبل منا، فثبتت منتي عليك وذكرت رؤية فعلك ومنتك " فمن أجل ذلك قال:
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام
[إبراهيم: 35] قال: إن نفسي أشد صنم وشرها إذا تابعت هواها واشتغلت بحظها فاشغلها بك واقطعها عما سواك.
قال الجنيد: وامنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك، غير الافتقار، وقال ابن عطاء: الأصنام الخلة والركون إليها وهي خطرات الغفلة وحجاب الخلة، وقال أيضا: هي النفس لأن لكل نفس صنمها من الهوى إلا من ظهر بأنواع التوفيق.
وقال في قوله تعالى:
فمن تبعني فإنه مني
[إبراهيم: 36] لما ذهب فمن استبشر رأفة للمؤمنين قيل له:
ومن كفر
[البقرة: 126] قال في قوله:
ومن عصاني
[إبراهيم: 36] لم يطع ولكن قال: فإن من صفتك الغفران والرحمة وليس على العباد.
وقال في قوله:
فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم
[إبراهيم: 37] من انقطع عن الخلق بالكلية صرف الله إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم وذلك من دعاء الخليل لما انقطع بأهله عن الخلق والأقارب والأسباب دعاهم فقال:
فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم
[إبراهيم: 37].
وقال الخواص في قوله:
ربنآ إنك تعلم ما نخفي وما نعلن
[إبراهيم: 38]: ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك، وقال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الأدب، قال أبو عثمان: طهر سرك وأعمر باطنك وأصلح خفيات أمورك، فإن الله لا يخفى عليه شيء وهو الذي يعلم ما نخفي وما نعلن.
وقال أحمد بن خضرويه: لو أذن الله لي في الشفاعة ما بدأت إلا بظالمي، قيل له: فيكف؟ قال: لأني قلت بظالمي لم أقله بوالدي، قيل: وما ذلك؟ قال: لعن الله تعالى في قوله:
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون
[إبراهيم: 42] وقال بعض المتقدمين: الظلم على ثلاثة أوجه: ظلم مغفور، وظلم محاسب، وظلم غير مغفور، فالظلم المغفور: ظلم الرجل نفسه، والظلم المحاسب: ظلم أخاه، والظلم الذي لا يغفر: هو الشرك .
قوله تعالى:
وأفئدتهم هوآء
[إبراهيم: 43] قال ابن عطاء: هذه صفة قلوب أهل الحق ألا ترى أن الهوى قائم بالمشيئة والإرادة غير قائمة بعلائق فوقهما كذلك قلوب أهل الحق متعلقة به لا يقر إلا معه ولا يسكن إلا إليه ليس في قلوبهم محل لغير الله لا يساكن هوى الله ومثل قلوبهم، كما قال الله تعالى:
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب
[النمل: 88] لا يلتفت إلى سواه ولا له قرار مع غير الله.
وفي قوله
وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم
[إبراهيم: 45] قال أبو عثمان: مجاورة الفساق وأهل المعاصي من غير فسق الكافر ومعصيته مستقرة في القلب؛ لأن الله تعالى ذم قوما من عباده، وقال:
وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم
[إبراهيم: 45] ولم يعذر من أقام فيها، وقال:
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
[النساء: 97] { هذا بلاغ للناس } [إبراهيم: 52] ذلك لما يظهر من كشف حقائقه من بني آدم من أحبائه وأوليائه؛ لأن الأرض والسماوات لا تصير لما يظهر عن الأبدان من أنوار الحق، وقال جعفر: موعظة الحق وإنذار لهم ليجتنبوا أقران السوء ومجالسة المخالفين، فإن القلوب إذا تعودت مجالسة الأضداد تدنس، وقال بعضهم: كشف للخلق ما يبدو لهم وأمروا به.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-10]
{ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } [الحجر: 1] إلى قوله: { وما كانوا إذا منظرين } [الحجر: 8].
قوله: { الر تلك } يشير بكلمة تلك إلى قوله: { الر } أي: كل حرف من هذه الحروف حرف آية من { آيات الكتاب } وهي { قرآن مبين }.
والألف إشارة إلى آية:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم
[البقرة: 255].
واللام إشارة إلى آية:
ولله ملك السموت والأرض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء
[الفتح: 14].
والراء إشارة إلى آية:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23] فالله تعالى أقسم بهذه الآيات الثلاث بإشارة هذه الحروف الثلاثة، ثم أقسم بجميع القرآن بقوله: { وقرآن مبين * ربما يود الذين كفروا } [الحجر: 1-2] يشير إلى النفس الكافرة وصفاتها المتمردة وتمنيها أن { لو كانوا مسلمين } [الحجر: 2] أي: مستسلمين لأحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه، كما استسلم من مؤمني القلب والروح وصفاتها، وذلك يكون عند استيلاء سلطان الذكر على الروح والقلب ونشور صفاتهما وتبدلت أحوالها من الأمارية بالمطمئنة، فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان أن كانت من بدء الخلقة مسلمة مؤمنة كالقلب والروح.
وأما قوله: { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم } [الحجر: 3] التهديد للنفس ذاقت حلاوة الإسلام، ثم عادت المشئومة إلى طبعها واستحلت مشاربها من نعيم الدنيا، واستحسنت زخارفها فيهددها بأكل شهوات الدنيا والتمتع بنعيمها، ثم قال: { فسوف يعلمون } ما خسروا من أنواع السعادات والكرامات والدرجات والقربات، وما فات منهم من الأحوال السنية والمقامات العلية، وما أورثتهم الدنيا الدنية من البعد من الله والمقت وعذاب نار القطيعة والحرمان.
ثم قال: { ومآ أهلكنا من قرية } [الحجر: 4] أي: وما أهلكنا بالخذلان من عاد من قوله: { قرية } المولى إلى قرية الدنيا { إلا ولها كتاب معلوم } أي: إلا ولها مكتوب في أم الكتاب ما كان معلوما الله في الأزل من سوء أعماله وأحواله { ما تسبق من أمة أجلها } [الحجر: 5] حتى يظهر منه ما هو سبب هلاكه واستوفت نفسه من الحظوظ ما يبطل الحقوق { وما يستأخرون } [الحجر: 5] بحظه بعد استيفاء أسباب هلاكه وعذابه { وقالوا } [الحجر: 6] يعني: النفوس المرتدة المتمردة { يأيها الذي نزل عليه الذكر } [الحجر: 6] هذا الخطاب مع القلب الذاكر { إنك لمجنون } [الحجر: 6] إذ توقعت من المتمردة الإسلام.
{ لو ما تأتينا بالملائكة } [الحجر: 7] أي: هلا تأتينا بصفات الملائكة المنقادين، وحتى إذا اتصفنا بصفاتهم نؤمن بما أنزل إليك من مواهب الحق تعالى، فيه إشارة إلى أن النفس الأمارة بالسوء لا تؤمن بما أنزل الله إلى القلوب من الأنوار الإلهية حتى تصير مطمئنة موصوفة بصفات الملائكة، وتنورت بإشراق أنوار تجلي صفات الله تعالى { إن كنت من الصادقين } [الحجر: 7] أنك تريد لنا الهداية فأجابهم القلب: { ما ننزل الملائكة } [الحجر: 8] أي: ما تنزل الصفات الملائكية { إلا بالحق } [الحجر: 8] أي: إلا بالنفس مطمئنة مستحقة مستعدة بهذه الصفات ولو أنزلت قبل أوانها وكمال استعدادها القبول { وما كانوا إذا منظرين } [الحجر: 8] أي مؤخرين من الهلاك والتلف لضيق نطاق طاقتهم.
ثم أخبر عن سطوة سلطان الذكر أي: أنها محفوظة بكلام الحق بقوله: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9] إلى قوله:
بل نحن قوم مسحورون
[الحجر: 15].
قوله: { إنا نحن نزلنا الذكر } [الحجر: 9] أي: في قلوب المؤمنين وهو قوله:
لا إله إلا الله
[الصافات: 35] نظيره
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22]، وقوله:
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين
[الفتح: 4] والمنافق يقول: لا إله إلا الله، ولكن لم ينزله الله في قلبه فلم يحصل فيه الإيمان { وإنا له لحافظون } [الحجر: 9] أي: في قلب المؤمن، ولو لم يحفظ الله الذكر والإيمان في قلب المؤمن لما يقدر المؤمن على حفظه؛ لأنه ناس وأسلكه الله في قلبه.
{ ولقد أرسلنا من قبلك } [الحجر: 10] أي: أسلكنا الإيمان والكفر في قلوب { شيع الأولين } [الحجر: 10] فمن أسلكنا في قلوبهم الكفر.
[15.11-20]
{ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } [الحجر: 11] { كذلك نسلكه } [الحجر: 12] أي: الكفر { في قلوب المجرمين } [الحجر: 12].
{ لا يؤمنون به } [الحجر: 13] بواسطة جرمهم فإنهم بالجرم يسلك الكفر في القلوب كما يسلك الإيمان بالعمل الصالح في القلوب فنظيره قوله تعالى:
بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
[النساء: 155]، { وقد خلت سنة الأولين } [الحجر: 13] أي: سنة الله مع الأولين فهكذا سنة الله مع الآخرين.
{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء } [الحجر: 14] أي: على الذين أسلكنا الكفر في قلوبهم { بابا } من سماء القلب { فظلوا فيه يعرجون } أي: يصعدون سماء القلب { لقالوا } من سفاهة الكفر: { إنما سكرت أبصارنا } [الحجر: 15] أي: سدت أبصار قلوبنا وسحرت بتوهم الصعود في السماء { بل نحن قوم مسحورون } [الحجر: 15] في رؤية فتح باب السماء وليس هناك فتح باب الهيبة.
ثم أخبر عن حفظ السماء بالنجوم عن الشيطان المرجوم بقوله تعالى: { ولقد جعلنا في السماء بروجا } [الحجر: 16] إلى قوله: { ومن لستم له برازقين } [الحجر: 20].
قوله: { ولقد جعلنا في السماء بروجا } [الحجر: 16] أي: في سماء القلب بروج الأطوار فإن للقلوب أطوارا كما للسماء بروجا، وكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات، وأقمار المكاشفات، وسيارات اللوائح والطوالع { وزيناها } [الحجر: 16] بهذه الأنوار { للناظرين } [الحجر: 16] السائرين إلى الله من أهل النظر.
{ وحفظناها من كل شيطان رجيم } [الحجر: 17] من وسواس الشيطان وهواجس النفس الأمارة المرجومة؛ لئلا تسترق النفس السمع من ملائكة صفات الروح والقلب من أوصاف المشاهدات وأصناف المكاشفات كلمات حق وتضم إليها من تسويلاتها وتلقيها إلى الإخوان وتتفاخر بها عليهم.
{ إلا من استرق السمع } [الحجر: 18] أي: ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان { فأتبعه شهاب مبين } [الحجر: 18] أي: أدركته شعلة من أنوار تلك الشواهد فتحرق الباطل وتبين الحق.
{ والأرض مددناها } [الحجر: 19] أي: أرض البشرية بسطت على وجه ماء الروحانية { وألقينا فيها رواسي } [الحجر: 19] أي: جبال صفات القلب والعقل فإن أرض البشرية تميد كنفس الحيوانات، أي: لهن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب { وأنبتنا فيها } [الحجر: 19] في أرض البشرية { من كل شيء موزون } [الحجر: 19] بميزان الحكمة، يشير إلى أن بنايات الحق فيها بنيت وهي من صفات كل شيء بقدر ما يحتاج إليه الإنسان في تكميل نفسه والسير إلى الله وهو قوله: { وجعلنا لكم فيها معايش } [الحجر: 20] وهي أسباب الوصول والوصال { ومن لستم له برازقين } [الحجر: 20] وهو جوهر المحبة فإنه ليس غذاؤه من أوصاف الإنسان ولا من كسبه وإنما غذاؤه من مواهب الحق وتجلي جماله.
[15.21-25]
ثم أخبر عن دقائق خزائنه كقوله تعالى: { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [الحجر: 21] إلى قوله: { إنه حكيم عليم } [الحجر: 25].
قوله: { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [الحجر: 21] يشير إلى أن لكل شيء خزائن مختلفة متناسبة له كما لو قدرنا شيئا من الأجسام، فله خزانة لصورته وخزانة لاسمه، وخزانة لمعناه، وخزانة للونه، وخزانة لرائحته، وخزانة لطعمه، وخزانة لطبعه، وخزانة لخواصه، وخزانة لأحواله المختلفة الدائرة عليه بمرور الأيام، وخزانة لنفعه وضره وخيره، وخزانة لظلمته ونوره، وخزانة لملكوته وغير ذلك وهو خزانة لطف الله وقهره، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون وقلوب العباد وخزائن صفات الله تعالى بأجمعها.
{ وما ننزله إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21] أي: وما ننزل أشياء مما في خزائنه إلا بقدر ما هو معلوم منا في الأزل لحكمتنا البالغة المقتضية لإيجاده وإنزاله { وأرسلنا الرياح } [الحجر: 22] أي: رياح العناية { لواقح } يلقح في أشجار القلوب ليحمل بأزهار الشواهد وأثمار الكشوف، كما قال بعضهم: رياح الكرم إذا هبت على أسرار العارفين أعتقتهم من هواجس أنفسهم ورعونات طباعهم وفساد هواهم ومراداتهم، وتظهر في القلوب نتائج الكرم وهو الاعتصام بالله والاعتماد عليه والانقطاع عما سواه إليه { فأنزلنا من السمآء } [الحجر: 22] أي: سماء الهداية { ماء } [الحجر: 22] بالحكمة والموعظة { فأسقيناكموه } [الحجر: 22] ليربي به الأخلاق الحميدة والأوصاف الكريمة ويثمر الأعمال الصالحة { ومآ أنتم له } [الحجر: 22] أي: لماء الحكمة { بخازنين } [الحجر: 22] في أصل الخلقة وأنه لفي خزانة الحق تعالى ينزل على من يشاء لقوله تعالى:
يؤتي الحكمة من يشآء
[البقرة: 269] والحكمة صفة من صفاته { إنه حكيم عليم } وليست الحكمة من صفات المخلوقين، وإنما سمى الفلاسفة الحكمة هي المعقولات وهي من نتائج العقل والعقل من صفات المخلوقين فكما لا يجوز أن يقال لله: " العاقل " ، لا يجوز أن يقال للمخلوق: " الحكيم " إلا بالمجازات أتاه الله الحكمة { وإنا لنحن نحيي } قلوب أوليائنا بأنواع رجالنا { ونميت } نفوسهم بسطوة نظرات جلالنا { ونحن الوارثون } بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا.
{ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } [الحجر: 24] أي: علمنا في الأزل من المستقدم إلينا بنا ومن المستأخر منا بالخذلان، وأيضا من المستقدم عند خروجه من العدم ومن المستأخر، وأيضا من المستقدم إلى الوجود ومن المستأخر في العدم، فإن في العدم من مقدورات الحق ما لا نهاية له { وإن ربك هو يحشرهم } [الحجر: 25] أي: يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه بفضله وكرمه ويحشر المستأخرين إلى أسفل السافلين بقهره وعزته { إنه حكيم } [الحجر: 25] بحكمته يحشر كل طائفة من الفريقين إلى ما هم مستحقين به { عليم } [الحجر: 25] باستحقاق كلا الفريقين.
[15.26-33]
ثم أخبر عن استحقاق كلا الفريقين أنه من تركيب الجنسين مختلفين لقوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال } [الحجر: 26] أي: قوله جزء مقسوم وقوله: { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون } [الحجر: 26] { والجآن خلقناه من قبل من نار السموم } [الحجر: 27] يشير إلى أن خاصية نفس الإنسان ما تتولد من الصلصال ومن الحمأ المسنون بما يتولد من نار السموم وهي صفات شيطانية وما تغرس فيه الملائكة داؤه بنظر الملكية في ملكوته و
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] لأنهم نظروا إلى شخصه وهيكله ولم يشاهدوا اختصاصه بإضافة روحه إلى حضرته، وخلقته بيده، واستقامة تساوي قالبه
في أحسن تقويم
[التين: 4] وتعليم الأسماء والإشراف على الغيوب بأنوار القلوب، فما زاد على ما تولد من إنسانية فهو من نتائج تعليم الأسماء واختصاصه بالإضافة والنفخة وغيرها من المواهب { وإذ قال ربك للملآئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون } [الحجر: 28] أي: من هذا الصلصال الذي شاهد نموه وطعنتم فيه: { فإذا سويته } [الحجر: 29] بجعله قابلا لنفختي وللروح المضاف إلي { ونفخت فيه من روحي } يشير بتشريف هذه الإضافة إلى اختصاص الروح بأعلى المراتب من الملكوت الأعلى وكمال قربه إلى الله، كما قال:
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
[ق: 16] وإلى اختصاصه بقبول النفخة فإنه شرف بهذا التشريف وخص به من سائر المخلوقات { فقعوا له ساجدين } [الحجر: 29] وذلك لأن الروح لما أرسلت من أعلى مراتب القرب بنفخة الحق تعالى إلى أسفل سافلين القالب كان عبورها على الروحانيات والملائكة المقربين، وهم خلقوا من النور فاندرجت أنوار صفاتهم في نور صفاتها كما تندرج أنوار الكواكب في نور الشمس، ثم عبر على الجن والشياطين فاتخذ زبدة خواص صفاتهم، ثم عبر على الحيوانات فاستفاد منهم الخواص والقوى، ثم تعلق القالب بالمخلوق بيد الله بالتخمير وقهره المستعد لقبول التجلي، فلما خلق الله آدم تجلى فيه، قال لأهل الخطاب وهم الملائكة والجن: { فقعوا له ساجدين } [الحجر: 29] لاستحقاقه كماله في الخلقة ولشرفه بالعلم وقابليته للتجلي.
{ فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [الحجر: 30] لما فيهم من خصوصية العبادة، عبادة النورية واختصاص العلم بقبول النصح { إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين } [الحجر: 31] لاختصاصه بالتمرد، تمرد التأدبة والجهل الذي هو مركون فيه ولحسبانه أنه عالم إذ قال له ربه: { يإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين } [الحجر : 32] أي: ما حجتك في الامتناع عن السجود؟ { قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } [الحجر: 33] أي: حجتي أنك خلقتني من نار وهي جوهر لطيف نوراني علوي وخلقته من طين وهو كشف ظلماني سفلي، فأنا خير منه بهذا الدليل.
فاستدل بهذا الاستدلال لرأي آدم ينبغي أن يسجد له لفضله عليه، ومن غاية جهالته وسخافة عقله فهم من بين كلامه إن الله أخطأ فيما أمره وأمر الملائكة بسجود كرم، وحسب أن الله تعالى جعل استحقاق آدم السجود للملائكة في بشرية آدم وخلقته من الطين وهو بمعزل عما جعل الله استحقاقه للسجود في سر الخلافة المودعة في روحه المشرف بشرف الإضافة إلى حضرته المختص باختصاص نفخة العلم بالأسماء كلها المستعد لتجلي جماله وجلاله فيه.
ومن هاهنا قيل لإبليس أنه أعور؛ لأنه كان بصيرا بإحدى عينيه التي يشاهد بها بشرية آدم، وما أودع فيه من الصفات الذميمة الحيوانية السبعية المؤذية المتولد منها الفساد وسفك الدماء، وإنه كان أعمى بإحدى عينيه التي يشاهد بها سر الخلافة المودعة في روحانيته، وما أكرم به من علم الأسماء والنفخة الخاصة وشرف الإضافة إلى نفسه وغير ذلك من الاصطفاء والاجتباء.
[15.34-48]
فلما أبى السجود متعللا بهذه العلامات { قال فاخرج منها } [الحجر: 34] أي: من صورة الملائكة وصفاتها { فإنك رجيم } [الحجر: 34] أي: غاية البعد { وإن عليك اللعنة } [الحجر: 35] مطرودا مردودا من قرب الجوار بالنار { إلى يوم الدين } [الحجر: 35] وهو يوم الجزاء وإنجاز الوعد بالوفاء، وفيه أيضا إشارة إلى أن إبليس النفس مأمور بسجود آدم الروح ومن دأبه وطبعه الإباء عن طاعة الله والاستكبار على خليفة الله والامتناع عن سجوده وذلك في بذر خلقتها على
فطرت الله التي فطر الناس عليها
[الروم: 30] فلما أمر إبليس للسجود وأبى { قال فاخرج منها } [الحجر: 34] أي: من فطرة الله المستعدة لقبول الكفر والإيمان { فإنك رجيم } [الحجر: 34] مطرود من جوارنا؛ لأنك قبلت الكفر دون الإيمان.
{ وإن عليك اللعنة } [الحجر: 35] وهي من نتائج صفات القهر، أي: مقهورا مبعدا عن صفات عبادنا المقبولين { إلى يوم الدين } [الحجر: 35] أي: إلى أن يولج الدنيا في نهار الدين، وتطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح، وتصير أرض النفس مشرقة بأنوار الشواهد، فتكون مطمئنة متبدلة صفاتها الذميمة الحيوانية المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة النورانية المستحقة لخطاب
ارجعي
[الفجر: 28].
{ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } [الحجر: 36] أي: الأرواح في قيامة العشق { قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } [الحجر: 37-38] وهو وقت يتجلى فيه لأرواح العشاق فينعكس نور التجلي من الأرواح المقدسة له
وادخلي جنتي
[الفجر: 30] أي: جواري وقربي { قال } [الحجر: 39] إبليس النفس { رب بمآ أغويتني } [الحجر: 39] أضللتني عن طريق الهداية { لأزينن لهم في الأرض } [الحجر: 39] أي: أزين للأرواح في أرض البشرية من الأعمال الصالحات التي تورث الأخلاق الحميدة وبها تربية الأرواح وترقيها إلى أعلى درجات القرب { ولأغوينهم أجمعين } [الحجر: 39] عما كانوا عليه من الأعمال الروحانية الملكية التي لا ترقى إلا بها { إلا عبادك منهم المخلصين } [الحجر: 40] الذين أخلصتهم عن حبس الوجود بجذبات الطاعة وأفنيتهم عنهم بهدايتك.
{ قال هذا صراط علي مستقيم } [الحجر: 41] معناه هذا مقام أهل الاستقامة في السير في الله المعتصمين بالله المنقطعين عن غيره { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [الحجر: 42] أي: حجة تتعلق بهم بتلك الحجة للهداية، أو العناية فإنهم بلا هم، وإن من خصوصية العبودية المضافة إلى الحضرة المحمدية عما سوى الحضرة { إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42] الذين بلا هم وإن من خصوصية العبودية أضلوا عن السير في الله بالله { وإن جهنم } [الحجر: 43] البعد والاحتراق من الفراق { لموعدهم أجمعين } [الحجر: 43] { لها سبعة أبواب } [الحجر: 44] من الحرص والشر والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر { لكل باب منهم } من الأزواج المتبعين بصفاتها { جزء مقسوم } بحسب الاتفاق بصفاتها.
ثم أخبر عن المتقين بأنهم آمنون بقوله تعالى: { إن المتقين في جنات وعيون } [الحجر: 45] إلى قوله:
فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون
[الحجر: 84].
قوله: { إن المتقين } [الحجر: 45] الاتقاء على ثلاثة أوجه: اتقاء عن محارم الله بأوامر الله، واتقاء عن الدنيا وشهواتها بالأخرة ودرجاتها، واتقاء عما سوى الله بالله وصفاته. والمتقون هم الفانون عن أنفسهم وصفاتهم الباقون بالله وصفاته { في جنات وعيون } [الحجر: 45] أي: جنات حظائر القدس وعيون الحكمة الإلهية والعلوم اللدنية { ادخلوها بسلام آمنين } [الحجر: 46] أي: بجذبات العناية والسلام من الله هو الجذبة الإلهية آمنين من موانع الدخول والخروج بعد الوصول وفيه إشارة إلى أن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج تأخر عنه جبريل في سدرة المنتهى وبقي عند الرفرف في مقام قاب قوسين ما وصل إلى مقام أو أدنى وهو كمال القرب إلا بجذبة أذن مني فبسلام الله سلم من موانع الدخول والخروج بعد الوصول.
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } [الحجر: 47] من موانع الدخول والوصول يشير إلى أن أهل الدخول والوصول هم المنزوعون عن صدورهم على أوصاف البشرية من أمارة النفس وصفاتها الذميمة، وأنها لا تنتزع من النفس إلا بنزع الله إياها ومن لم ينزع عنه الغل لم يأمن من الخروج بعد الدخول كما كان حال آدم عليه السلام لما دخل الجنة قبل تزكية النفس ونزع صفاتها أخرج منها بالغل الذي كان من نتائجه
وعصى ءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه
[طه: 121-122] ونزع عنه الغل بالتوبة وهداه إلى الجنة { إخونا على سرر متقبلين } [الحجر: 47] في المراتب بعضهم لبعض أي: لكل قوم من أهل التقوى إخوان على قدر تقربهم متقابلين في الدرجات { لا يمسهم فيها نصب } [الحجر: 48] من الحسد لبعضهم على درجات بعض { وما هم منها بمخرجين } [الحجر: 48] يشير إلى أن أهل كل درجة مقيمون في تلك الدرجة لا خروج لهم منها إلى درجة تحتها ولا فوقها وهم راضون بذلك؛ لأن غل الحسد منزوع منهم.
[15.49-56]
{ نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } [الحجر: 49] لأنه يشير إلى أن المختصين بعبوديته هم الأحرار عن رق عبودية ما سواه من الهوى والدنيا والعقبى وهم مظاهر صفات لطفه ورحمته { وأن عذابي هو العذاب الأليم } [الحجر: 50] ذلك لمن يكون عبد الهوى والدنيا وما سوى الله وأنه مظهر صفات قهره ووعيده، وفيه إشارة أخرى إلى أن سير السائرين وطيران الطائرين في هواء العبودية وقضاء الربوبية إنما يكون على قدمي الخوف والرجاء وبجناحي الأنس والهيبة معتدلا فيها من غير زيادة إحداهما على الأخرى.
{ ونبئهم عن ضيف إبراهيم } [الحجر: 51] قد مضى تحقيق هذه القصة وقصة لوط في سورة هود. فأما في قصة إبراهيم عليه السلام فإشارة أخرى إلى أن بشارته { بغلام عليم } [الحجر: 53] مع كبره وكبر امرأته بشارة للطالب الصادق أنه وإن كان مسنا وقد ضعف جسمه وقواه وعجز عن جهاد النفس ومكابدتها واستعمالها في مباشرة الطاعات والأعمال البدنية يوسوسه الشيطان من نيل درجات القربة، لأن أسباب تحصيل الكمال قد تناهت ومعظمها العمر والشباب؛ ولهذا قال المشايخ: الصوفي بعد الأربعين نادر { ومن يقنط من رحمة ربه } [الحجر: 56].
[15.57-74]
ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه وبه بأصناف ألطافه الربوبية وجذبات أعطافه، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاما عليما بالعلوم اللدنية والرسوم اللدنية، وهو واعظ الله الذي في قلب كل مؤمن، وفي القصص المذكورة في الآيات أيضا إهلاك الأمم الماضية، وإنجاء الأنبياء والمؤمنين منهم اتعاظ وانتباه ووعد ووعيد وتأديب لهذه الأمم المعتبرين منهم.
[15.75-84]
كما قال الله تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [الحجر: 75].
وهم أصحاب القلوب المتوسمة بشواهد أحكام الغيب المكفوفة في غيب الغيب ليعتبروا بأحوالهم ويجتنبوا عن أفعالهم؛ لئلا يكونوا من المنتقمين الذين قال الله فيهم: { فانتقمنا منهم } [الحجر: 79] ويتفرقوا بمعرفة بعض مرتبة من مراتب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
لعمرك
[الحجر: 72] وأنه لمرتبة ما نالها أحد من العالمين إلا سعيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الأزل إلى الأبد وهي أنه تعالى قسم بحياته وذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم كان حيا بحياته فانيا عن نفسه باقيا بربه، كما قال تعالى:
إنك ميت
[الزمر: 30] أي: ميت عنك حي بنا وهو مختص بهذا المقام المحمود.
[15.85-88]
ثم أخبر عن الإحسان مع المحسن والإساءة مع المسيء بقوله تعالى: { وما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق } [الحجر: 85] إلى قوله: { للمؤمنين } [الحجر: 88].
{ وما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق } أي: لإظهار الآيات الحق بالحق لأرباب الحق المكاشفين بصفات الحق فإنه لا شعور للسماوات والأرض وما بينهما غير الإنسان بأنها مظهر لآيات الحق، وإنما الشعور بذلك للإنسان الكامل، كما قال تعالى:
إن في خلق السموت والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب
[آل عمران: 190] وهم الذين خلص لب أخلاقهم الربانية عن قشر صفاتهم الإنسانية، وفيه معنى آخر { وما خلقنا السموت } أي: سماوات الأرواح { والأرض } أي: أرض الأشباح وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات إلا بالحق ومظهره، فإن الإنسان مخصوص به من بين سائر المخلوقات والمكونات؛ لأنه بجميع مبانيه الظاهرة ومعانيه الباطنة مرآة لذات الحق تعالى وصفاته فهو مطهره عند التزكية والتنقية، ومطهره عند التحلية والتجلية به لشعوره بذلك، كما كان حال من صقل مرآته عن صدأ أنانيته وتجلى بشهوة هويته عند تجلي ربوبيته بالحق، فقال أنا الحق، ومن قال بعد فناء أنانيته عن بقائه بسبحانيته سبحاني ما أعظم شأني.
وفي قوله: { وإن الساعة لآتية } [الحجر: 85] إشارة إلى أن قيامة العشق لآتية لنفوس الطالبين العارفين من أصحاب الرياضات في مكابدة النفس ومجاهدتها؛ لأن الطلب والصدق والاجتهاد من نتائج عشق القلب، وأنه سيهتدي إلى النفس لكثرة الاجتهاد في رياضتها، فتموت عن صفاتها في قيامة العشق، ومن مات فقد قامت قيامته { فاصفح الصفح الجميل } [الحجر: 85] يا أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تواسيها وتدارسها، ولا تحمل عليها إصرا، ولا تحملها ما لا طاقة لها به، فإن قيامة العشق تحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة؛ لأن العشق جذبه الحق، وقال صلى الله عليه وسلم:
" جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين "
{ إن ربك هو الخلاق العليم } [الحجر: 86] يشير بالخلاق وهو للمبالغة إلى أنه تعالى خالق لصور المخلوقات ومعانيها وحقائقها العليم بمن خلقه مستندا لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريته، فلما كانت السماوات والأرض وما بينهما مظهر الصفات الحق تعالى دون ذاته ولا شعور لها به، ولم تكن مظهرا لذاته وصفاته وكان الإنسان الكامل.
{ ولقد آتيناك سبعا } [الحجر: 87] وأي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى وهي السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة { من المثاني } [الحجر: 87] أي: من خصوصية المثاني وهي المظهرية والمظهرة لذاته وصفاته المختفية بالإنسان، فإن في غير الإنسان لم يوجد إلا وحدانا من المظهرية، كما شرحنا ولو كان ملكا، ومن ها هنا يكشف سر من أسرار
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] فمنها أسماء صفات الله وذاته؛ لأن آدم كان مظهرها، وكان الملك مظهر بعض صفاته تعالى ولم يكن مظهرها، ولهذا قال تعالى:
ثم عرضهم على الملئكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صدقين
[البقرة: 31] فلما لم يكونوا مظهرها وكانوا مظهر بعضها
قالوا سبحنك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة: 32] ولهذا السر أسجد الله تعالى الملائكة لآدم عليه السلام فاعلم جدا.
ثم قال: { والقرآن العظيم } [الحجر: 87] أي: حقائقه القائم بذاته تعالى وخلق من أخلاقه القديمة بأن جعل القرآن العظيم خلقه العظيم كما قال تعالى:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم: 4] ولما سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، وفي قوله: { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } [الحجر: 88] إشارة إلى أن الله تعالى إذا أنعم على عبده ونبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المقامات الكريمة والنعم العظيمة يكون من نتائجها ألا يمدن عينيه عين الجسماني ولا عين الروحاني إلى ما متع الله به أزواجا من الدنيا والآخرة { منهم } أي: من أهلها { ولا تحزن عليهم } [الحجر: 88] أي: على ما فاته من مشاركتهما فيهما كما كان حاله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم: 16] من نعيم الدارين
ما زاغ البصر
[النجم: 17] برؤيتها
وما طغى
[النجم: 17] بالميل إليها.
ثم قال: { واخفض جناحك للمؤمنين } [الحجر: 88] في هذا المقام قياما بأداء شكر نعم الله تعالى وتواضعا له ليزيدك بهما في النعمة والرفعة، وفيه إشارة إلى معنى آخر أي: واخفض بعد وصولك إلى مقام المحبوبية جناحك لمن اتبعك من المؤمنين المحبين لتبلغهم على جناح همتك العالية إلى مقام المحبوبية يدل على هذا التأويل قوله:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31].
[15.89-91]
ثم أخبر عن وعيد من أعرض وتولى وتهديد من كذب بهذه المرتبة العليا بقوله تعالى { وقل إني أنا النذير المبين } [الحجر: 89] كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بإظهار مقامه وهو النبوة وبتعريف نفسه أنه نذير للكافرين، كما أنه بشير للمؤمنين وأنه لما أمر بالرحمة والشفقة ولين الجانب للمؤمنين بقوله تعالى:
واخفض جناحك للمؤمنين
[الحجر: 88] إظهارا للطفه وأمر بالتهديد والوعيد والإنذار بالعذاب { كمآ أنزلنا على المقتسمين } [الحجر: 90] وهم الذين اقتسموا قهر الله المنزل على أنفسهم بأعمالهم الطبيعية غير الشرعية، فإنها مظهر قهر الله وخزائنه كما أن الأعمال الشرعية مظهر لطف الله وخزائنه، فمن قرع باب خزانة اللطف أكره وأنعم عليه ومن دق باب خزانة القهر أهين به وعذب. ثم أخبر عن أعمالهم التي اقتسموا قهر الله بها على أنفسهم بقوله { الذين جعلوا القرآن عضين } [الحجر: 91] أي: جزؤه أجزاء في الاستعمال، فقوم: قراؤه وداوموا على تلاوته ليقال لهم القراء وبه يأكلون وقوم: حفظوه بالقراءة ليقال لهم الحفاظ وبه يأكلون.
وقوم: حصلوا تفسيره وتأويلاته ابتغاء طلب الشهرة وإظهارا للفضل ليأكلوا.
وقوم: استخرجوا معانيه واستنبطوا فقهه وبه يأكلون وقوم: شرعوا في قصصه وأخباره ومواعظه وحكمه وبه يأكلون وقوم: أولوه على وفق مذاهبهم وفسروه برأيهم فكفروا بذلك.
[15.92-99]
ثم قال: { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } [الحجر: 92-93] إنما عملوا بالله وفي الله ولله أو بالطبع في متابعة النفس لمنافع دنيوية بقهره نظير قوله:
ليسأل الصادقين عن صدقهم
[الأحزاب: 8] ثم أمر صلى الله عليه وسلم العمل بالإخلاص في التبشير والإنذار وإظهار الدعوة، وقال: { فاصدع بما تؤمر } [الحجر: 94] نظيره
فاستقم كمآ أمرت
[هود: 112] { وأعرض عن المشركين } [الحجر: 94] الذين أشركوا في أعمالهم لله غير الله، فإن اليسير من الربا شرك { إنا كفيناك المستهزئين } [الحجر: 95] الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة للخلق ويراءون أنهم لله يعملون استهزاء للدين
الله يستهزئ بهم
[البقرة: 15] إلى قوله:
وما كانوا مهتدين
[البقرة: 16] لأنهم { الذين يجعلون مع الله إلها آخر } [الحجر: 96] وهو الخلق والهوى والدنيا في استعمال الشريعة بالطبيعة { فسوف يعلمون } [الحجر: 96] حين يجازيهم الله بما يعملون لمن علوا كما قيل:
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك أم حمار
{ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك } [الحجر: 97] من ضيق البشرية وغاية الشفقة وكمال الغيرة { بما يقولون } [الحجر: 97] من أقوال الأخيار ويعملون أعمال الأشرار { فسبح بحمد ربك } [الحجر: 98] إنك لست منهم { وكن من الساجدين } [الحجر: 98] لله سجدة الشكر { واعبد ربك } [الحجر: 99] بالإخلاص { حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] أي: إلى الأبد وذلك لأن حقيقة اليقين المعرفة، ولا نهاية لمقامات المعرفة فكما أن للواصل إلى مقام من مقامات المعرفة يأتيه يقين بذلك المقام في المعرفة كذلك يأتيه شك بمعرفة مقام آخر في المعرفة فيحتاج يقين آخر في إزالة هذا الشك إلى ما لا يتناهى، فثبت إلى اليقين هاهنا إشارة إلى الأبد.
[16 - سورة النحل]
[16.1-4]
{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [النحل: 1] إلى قوله: { فإذا هو خصيم مبين } [النحل: 4] الإشارة فيه أن قوله: { أتى أمر الله } كلام قديم كان الله في الأزل به متكلما، والمخاطبون به في الله محبوسين وهم طبقات ثلاث: منهم الغافلون والعاقلون والعاشقون.
فكان الخطاب مع الغافلين: بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا وزخارفها ولذاتها وشهواتها وهم أصحاب النفوس.
والخطاب مع العاقلين: بوعد الثواب إذا كانوا مشتاقين إلى الطاعات والعبادات والأعمال الصالحات التي تبلغهم إلى الجنة ونعيمها الباقية وهم أرباب العقول.
والخطاب مع العاشقين: بوصل رب الأرباب إذا كانوا مشتاقين إلى مشاهدة جمال ذي الجلال. فتستعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل العقود وطلب المقصود فكلم الله تعالى في الأزل بقوله: { أتى أمر الله } أي: سيأتي أمر الله للخروج من العدم لإصابة ما كتب لكل طبقة منكم في القسمة الأزلية { فلا تستعجلوه } فإنه لا يفوتكم يدل عليه قوله تعالى:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم: 34] أي: في العدم وهو يسمع خفيات أسراركم ويبصر خبايا سرائركم المعدومة { سبحانه وتعالى عما يشركون } أي: هو منزه في ذاته ومتعال في صفاته أن يكون له شريك يعمل عمله وسببه يكون بدل.
{ ينزل الملائكة بالروح من أمره } [النحل: 2] أي: بالوحي بما يحيي القلوب من مواهب الربانية { من أمره } أي: من أمر الله وأمره على وجوه:
منها: ما يرد على الجوارح بتكاليف الشريعة.
ومنها: ما يرد على النفوس لتزكيتها بالطريقة.
ومنها: ما يرد على القلوب لتصفيتها بالإشارات.
ومنها: ما يرد على الأسرار بالمراقبة للمشاهدات.
ومنها: ما يرد على الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات.
ومنها: ما يرد على المخفيات بتجلي الصفات لإقبال الذوات على من يشاء من عباده من الأنبياء والأولياء { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا } [النحل: 2] أي: اعلموا أن أوصاف وجودكم يبذلها من أنانيتي أنه لا إله إلا أنا { فاتقون } أي: فاتقوا عن أنانيتكم بأنانيتي.
{ خلق السموت } [النحل: 3] سماوات الأرواح { والأرض } أرض الأشباح { بالحق } وجعلها مظهرة أفاعيله فهو الفاعل فيما يظهر على الأرواح والأشباح، فالأرواح تحيل الأفاعيل إلى الأشباح إذ هي مظهرها، والأشباح تحيلها إلى الأرواح إذ هي مصدرها، وهي أفاعيله تعالى إذ هو منشأها وخالقها { تعالى } ذاته وصفاته { عما يشركون } الأرواح والأشباح في إحالة أفاعيله إلى غيره، بل عما يشركون في رؤية غيره.
ثم قال: { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } [النحل: 4] أي: جعل أصل الإنسان من نطفة ميتة لا فعل لها ولا علم لوجودها، فإذا أعطيت المقدرة والعلم صارت خصيما لخالقها مبينا وجودها مع وجود الحق وادعت الشركة معه في الوجود والأفاعيل.
[16.5-9]
ثم أخبر عن بالإنعام على الإنسان بخلق الأنعام بقوله تعالى: { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } [النحل: 5] ولو شاء لهداكم أجمعين، قوله: { والأنعام خلقها لكم } يشير أن المخلوقات كلها خلقت لصالحكم ومنافعكم؛ يدل عليه قوله:
خلق لكم ما في الأرض جميعا
[البقرة: 29] وقوله:
وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض
[الجاثية: 13] وخلقتم لي بيانه قوله:
واصطنعتك لنفسي
[طه: 41] { فيها دفء ومنافع } أي: لتنتفعوا بها حين اطلاعكم على صفاتها الحيوانية الذميمة التي هي مودعة في جبلتكم مما يخالف صفاتكم الروحانية الملكية، فتجتهدوا في تبديل الصفات الحيوانية الذميمة بالصفات الملكية الروحانية الحميدة احترازا عن الاحتباس في حيزها واجتنابا عن شبهتها بقوله:
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
[الفرقان: 44] { ومنها تأكلون } لتكون بدل ما يتحلل منكم.
{ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [النحل: 6] بأن تعتبروا منها، ولا تجعلوا همتكم مصروفة في استيفاء حظوظكم الحيوانية الشهوانية فترتعوا في رياض مستلذات الدنيا كالأنعام والبهائم، ويشير بقوله: { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } [النحل: 7] إلى أن الصفات الحيوانية إنما خلقت فيكم لتحمل أثقال أرواحكم إلى بلد عالم الجبروت الذي { لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } لحمل أعباء الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها وشق الأنفس نقضها بإفنائها في عالم الجبروت { إن ربكم لرؤوف رحيم } [النحل: 7] إذا أفنيتم أنفسكم في جبروته يبقيكم ببقاء عظمته.
{ والخيل والبغال والحمير } [النحل: 8] أي: صفاتها خلقت فيكم { لتركبوها } [النحل: 8] عند السير إلى عالم الجبروت فهي مركب الروح { وزينة } [النحل: 8] له عند رجوعه بالجذبة إلى مستقره الذي أهبط بالنفخة وهو المحل المضاف إليه الروح بقوله:
من روحي
[ص: 72] { ويخلق ما لا تعلمون } [النحل: 8] أي: ويخلق فيكم بعد رجوعكم بالجذبة إلى مستقركم { ما لا تعلمون } قبل الرجوع إليه وهو قبول فيض نور الله بلا واسطة.
{ وعلى الله قصد السبيل } [النحل: 9] بجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] ليس لغيره قدرة على الإفناء عنك والإبقاء به، { ومنها جآئر } يعني: نفوسكم تجير عن الفناء وبذل الوجود { ولو شآء لهداكم } بالجذبة إلى فناء وجودكم وبقاء وجوده { أجمعين } لأن جميعكم مستعدون لنيل هذه الدرجات والكمالات، وإنها لمشيئته وقعتم في الدركات ورضيتم بهذه النقصانات.
[16.10-17]
ثم أخبر عن النقم بعد النقم والكرم بعد الكرم بقوله تعالى: { هو الذي أنزل من السماء مآء لكم } [النحل: 10] إلى قوله: { أفلا تذكرون } [النحل: 17] للإشارة فيه { هو الذي أنزل من السماء } [النحل: 10] سماء الكرم { مآء } [النحل: 10] الفيض ليكون لكم أي: لمصالحكم ومنافعكم { منه شراب } [النحل: 10] المحبة لقلوبكم { ومنه شجر } [النحل: 10] قوى البشرية ودواعيها { فيه تسيمون } [النحل: 10] ترعون مواشي نفوسكم .
{ ينبت لكم } [النحل: 11] أي: لفداء أرواحكم { به الزرع } زرع الطاعات { والزيتون } [النحل: 11] زيتون الصدق { والنخيل } [النحل: 11] نخيل الأخلاق الحميدة { والأعناب } [النحل: 11] أعناب الواردات الربانية { ومن كل الثمرات } [النحل: 11] أي: ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات والمكالمات والأحوال كلها { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } [النحل: 11] بنظر العقل في هذه الصنائع الحكمية { وسخر لكم اليل } [النحل: 12] أي: ليل البشرية { والنهار } [النحل: 12] نهار الروحانية { والشمس } [النحل: 12] شمس الروح { والقمر } [النحل: 12] قمر القلب { والنجوم } [النحل: 12] نجوم القوى والحواس الخمس { مسخرات بأمره } [النحل: 12] وهو خطاب كن وتسخيرها واستعمالها عن وفق الشريعة وقانون الطريقة يعالجها الطبيب الحاذق صاحب البصيرة والولاية كامل التصرف في الهداية مخصوص بالعناية { إن في ذلك لآيات } [النحل: 12] شاهدات { لقوم يعقلون } [النحل: 12] بشواهد الحق من غير التفكر بل بالمعاينات.
{ وما ذرأ لكم } [النحل: 13] أي: خلق لمصالحكم { في الأرض } [النحل: 13] أرض جبلتكم من الاستعداد أي: { مختلفا ألوانه } [النحل: 13] منها ملكية ومنها شيطانية ومنها حيوانية { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } [النحل: 13] أي: يتذكرون عبود أرواحكم على هذه العوالم المختلفة وتتلون في كل عالم بلون ذلك العالم من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية إلى أن ردت إلى أسفل سافلين القالب { وهو الذي سخر البحر } [النحل: 14] بحر العلوم { لتأكلوا منه لحما طريا } [النحل: 14] أي: الفوائد الغيبية والمواهب السنية { وتستخرجوا منه } [النحل: 14] جواهر المعاني ودرر الحقائق { حلية } [النحل: 14] لقلوبكم { تلبسونها } [النحل: 14] أي: تلبسون بها أرواحكم النور والبهاء { وترى الفلك } [النحل: 14] سفائن الشرائع والمذاهب { مواخر فيه } [النحل: 14] أي: جاريات في بحر العلوم { ولتبتغوا من فضله } [النحل: 14] وهو الأسرار الخفيات عن الملائكة المقربين { ولعلكم تشكرون } [النحل: 14] هذه النعم الجسيمة والعطيات العظيمة التي اختصكم بها عن العالمين.
{ وألقى في الأرض } [النحل: 15]، أرض البشرية { رواسي } [النحل: 15] أي: جبال الوقار والسكينة { أن تميد بكم } [النحل: 15] أي: لئلا تميل صفات البشرية عن جادة الشريعة والطريقة { وأنهارا } [النحل: 15] من ماء الحكمة { وسبلا } [النحل: 15] أي: طرق الهداية { لعلكم تهتدون } [النحل: 15] إلى الله تعالى { وعلامات } [النحل: 16] من الشواهد والكشوف { وبالنجم } [النحل: 16] أي: بنجم الهداية من الله { هم يهتدون } [النحل: 16] إلى الله وهو جذبة العناية يخرجكم بها من ظلمات وجودكم المجازي إلى نور الوجود الحقيقي.
{ أفمن يخلق } [النحل: 17] يعني: الله فيكم هذه الكمالات منكم { كمن لا يخلق } [النحل: 17] فيه من الملائكة { أفلا تذكرون } [النحل: 17] لتعرفوا قدر هذه النعم المخصوصة بكم.
[16.18-29]
ثم أخبر عن غاية هذه النعم أنها بلا نهاية بقوله تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ } [النحل: 18] إلى قوله: { فلبئس مثوى المتكبرين } [النحل: 29].
{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ } [النحل: 18] إشارة إلى أن النعمة نعمتين: إعطاف إعطائه ونعمة ألطافه، فنعمة إعطاف إعطائه ما يتعلق بوجود النعمة وهو على ضربين: نعمة ظاهرة، ونعمة باطنة، ونعمة ألطافه ما يتعلق بوجود المنع وهو على ضربين: نعمة ذاته بالألوهية، ونعمة صفات بالربوبية، وهي بلا نهاية فلا تعد ولا تحصى، وقال ابن عطاء: إن لك نفسا وقلبا وروحا وعقلا ومحبة ودينا ودنيا وطاعة ومعصية وابتداء وانتهاء وحينا وأصلا وفصلا.
فنعمة النفس: الطاعات والإحسان والنفس فيهما تتقلب.
ونعمة الروح: الخوف والرجاء وهو فيهما يتقلب.
ونعمة القلب: اليقين والإيمان وهو فيهما يتقلب.
ونعمة العقل: الحكمة والبيان وهو فيهما يتقلب.
ونعمة المعرفة: الذكر والقرآن وهو فيهما يتقلب.
ونعمة المحبة: الألفة والمواصلة والأمن من الهجران وهو فيهما يتقلب، وهذا تفسير قوله: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور } [النحل: 18] لمن عجز عن شكر نعمه وجوده { رحيم } [النحل: 18] لمن عجز عن شكر نعمة وجوده.
{ والله يعلم ما تسرون } [النحل: 19] من أداء شكر نعمه بالقلوب { وما تعلنون } [النحل: 19] من القيام بشكر نعمه بالأجساد { والذين يدعون من دون الله } [النحل: 20] من الهوى والدنيا { لا يخلقون شيئا } [النحل: 20] من قضاء الحوائج { وهم يخلقون } [النحل: 20] يعني: الهوى والدنيا وما تعبدون من دون الله { أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون } [النحل: 21] أي: لا حياة للهوى والدنيا ليشعروا متى يبعثها دواعي البشرية { إلهكم } [النحل: 22] أي: الذي خلقكم وخلق ما يعبد من دون الله { إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة } [النحل: 22] وهي ما في الغيب وهم مستكبرون { قلوبهم منكرة } [النحل: 22] لا يعرفون الله؛ لأنهم أهل الحس الحيواني لا يؤمنون بها في الغيب فينكرون غيب الغيب { وهم مستكبرون } [النحل: 22] على أهل الحق عند إظهار الحق والله الحق { لا جرم أن الله يعلم ما يسرون } [النحل: 23] من الإنكار للحق { وما يعلنون } [النحل: 23] من الاستكبار عند قبول الحق: { إنه لا يحب المستكبرين } [النحل: 23] فيوقعهم بالخذلان في الطغيان.
{ وإذا قيل لهم } [النحل: 24] أي: للمستكبرين { ماذآ أنزل ربكم } [النحل: 24] على قلوب المتواضعين لله من حقائق الأنوار وكشف الأسرار { قالوا } [النحل: 24] يعني: المستكبرين الذين لهم قلوب منكرة { أساطير الأولين } [النحل: 24] يعني: يعدون درر أنفاس أهل الحقيقة من جملة الأباطيل والمناكير، ويضلون الضعفاء في الدين بهذه المنكرات وتقديره المحالات { ليحملوا أوزارهم } [النحل: 25] من حجب الإنكار والاستكبار { كاملة يوم القيامة } [النحل: 25] عند ابتلاء السرائر بإفشاء ما في الضمائر { ومن أوزار الذين يضلونهم } [النحل: 25] من حجب الإنكار والاستكبار، أي: من حجب إضلالهم إياهم وحجب ضلالتهم بإضلالهم { بغير علم } [النحل: 25] بل يمحص الجهل { ألا سآء ما يزرون } [النحل: 25] يحملون من أنواع الحجب { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم } [النحل: 26] أي: الذين بنوا بالمكر { من القواعد } [النحل: 26] أي: خرب بنيان مكرهم من أصوله { فخر عليهم السقف من فوقهم } [النحل: 26] وقع سقف مكرهم عليهم فأهلكهم { وأتاهم العذاب } [النحل: 26] أي: عذاب مكرهم { من حيث لا يشعرون } [النحل: 26] يعني: أهلك الله أرواحهم بعذاب مكرهم بجهلهم حيث لا شعور لأجسادهم به.
{ ثم يوم القيامة } [النحل: 27] وهو العرض الأكبر { يخزيهم } [النحل: 27] بإظهار عذاب الأرواح على الأجساد { ويقول أين شركآئي } [النحل: 27] من الهوى والدنيا وغيرها { الذين كنتم تشاقون فيهم } [النحل: 27] ليدفعوا عنكم العذاب الخزي { قال الذين أوتوا العلم } [النحل: 27] من الأنبياء والأولياء { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [النحل: 27-28] بالإنكار والاستكبار { فألقوا السلم } [النحل: 28] استسلموا في الآخرة وقالوا: { ما كنا نعمل من سوء } [النحل: 28] يريدون أن يبرءوا أنفسهم مما عملوا في الدنيا فتقول لهم الملائكة { بلى } [النحل: 28] في الدنيا ما ألذ مكر الخزي والعذاب { إن الله عليم بما كنتم تعملون } [النحل: 28] في الدنيا وبما يقولون اليوم دفعا للعذاب { فادخلوا أبواب جهنم } [النحل: 29] لا من باب واحد؛ لأن لأهل كل عمل من أنواع المعاصي والكفر والنفاق بابا يدخل بذلك العمل فيه وأنتم عملتم من أنواع المعاصي ما استحققتم دخول الأبواب كلها { خالدين فيها } [النحل: 29] لأنكم أهل التكبر وجزاء المتكبر الخلود { فلبئس مثوى المتكبرين } [النحل: 29] المستوجبين لنار القطيعة أبدا.
[16.30-34]
{ وقيل للذين اتقوا } [النحل: 30] أهل الصدق والإرادة الذين
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
[الفتح: 26] { ماذا أنزل ربكم } [النحل: 30] أي: على قرب أهل الحق من المواهب { قالوا خيرا } [النحل: 30] أي: أثنوا عليهم وصدقوا بما أنزل إليهم من ربهم.
ثم أخبر من جزاء أهل الحسنات في الدنيا أنه درجات الجنات في العقبى بقوله تعالى: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } [النحل: 30] أي: من أحسنوا أعمالهم بالصالحات وأخلاقهم بالحميدات، وأحوالهم بالانقلاب عن الخلق إلى الحق { حسنة } أي: من الله له أن ينزل منازل الواصلين الكاملين في الدنيا { ولدار الآخرة خير } [النحل: 30] أي: خير لهم حين كشف عنهم غطاء صورة البشرية عند مفارقة الأجسام وارتفاع بقايا حجب نفوسهم فأكرمهم الله وأمنهم وبقوله: { ولنعم دار المتقين } [النحل: 30] يشير إلى أن للأتقياء الواصلين دارا غير دار الدنيا ودار الآخرة وأنهم فيها، كما صرح بقوله تعالى:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55] فدارهم مقعد الصدق في مقام العندية ونعم الدار بقوله: { جنات عدن يدخلونها } [النحل: 31] أي: الأتقياء { تجري من تحتها الأنهار } [النحل: 31] يشير إلى أن من الأتقياء من مشيئته الجنة ونعيمها ومن مشيئته العبور على الجنة والخروج إلى مقعد الصدق في مقام العندية فقال لهم: { لهم فيها ما يشآؤون } [النحل: 31] أي: ما يختارون من الجنة ومقعد الصدق { كذلك يجزي الله المتقين } [النحل: 31] كل طائفة منهم على حسب همته ومشيئته.
ثم وصف الأتقياء فقال: { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } [النحل: 32] أي: طيبي الأعمال عن دنس الشهوات والمخالفات، وطيبي الأخلاق عن المذمومات الملوثة بالطبيعيات دون الشرعيات، وطيبي الأحوال عن وصمة ملاحظات الكونين لما يتخطى يد الثقلين { يقولون } [النحل: 32] الملائكة { سلام عليكم } [النحل: 32] أي: يبلغون إليهم سلام الله، ثم يشير بقوله: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } [النحل: 32] إلى أن دخول الجنة للأتقياء جزاء إصلاح أعمالهم، والعبور عليها جزاء إصلاح أخلاقهم، والخروج إلى المقعد الصدق جزاء إصلاح أحوالهم، فكل متق مقام بحسب معاملته مع الله.
وبقوله: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } [النحل: 33] يشير إلى خواص الأتقياء أن مقامهم في الجنة لا يكون لحظوظ النفوس ولا للإقامة فيها، وإنما وقوفهم فيها لانتظار إتيان الملائكة لجواز العبور عليها فإنهم دخلوا بجوارهم فينظرون أن تاتيهم الملائكة { أو يأتي أمر ربك } [النحل: 33] أي: جذبات الحق للوصول والخلوة التي لا يسعهم فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين بقي عند جبريل في سدرة المنتهى وعبر بالرفرف إلى قرب قاب قوسين، وبقى الرفرف ثمة فكان ينتظر أمر ربه بقوله تعالى: " ادن مني " فجذبة الأمر أنزله مقام أو أدنى، ثم قال: { كذلك فعل الذين من قبلهم } [النحل: 33] من الأنبياء والأولياء انفصلوا عما سوى الله ليتصلوا به اتصالا بلا انفصال.
ثم أخبر عن حال المسرفين الظالمين محرومي هذه المقامات والكرامات، فقال: { وما ظلمهم الله } [النحل: 33] بجريان الاستعداد الذي أكرم به أولياءه، ثم كلفهم بما كلف به أولياءه { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [النحل: 33] باستعمال استعدادهم في غير موضعه وهو صرفه في طلب الدنيا وشهواتها، واستيفاء لذاتها والاستهزاء بالأنبياء والأولياء ودعوتهم ونصحهم { فأصابهم سيئات ما عملوا } [النحل: 34] فازدادوا كفرا ونفاقا واستهزاء { وحاق بهم } [النحل: 34] أي: بإفساد استعدادهم { ما كانوا به يستهزئون } [النحل: 34].
[16.35-37]
{ وقال الذين أشركوا } [النحل: 35] لهذا المعنى بالاستهزاء { لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا } [النحل: 35] أي: ما عبدنا غير الله { ولا حرمنا من دونه من شيء } { نحن ولا آباؤنا } [النحل: 35] أي: ما عبدنا غير الله ولا حرمنا من دونه من شيء؛ أي: ما حرمنا على أنفسنا نعمة طلب الله بطلب غيره هذا كلام حق أريد به باطل { كذلك فعل الذين من قبلهم } [النحل: 35] أهل الأهواء عبدوا أهواءهم واتخذوا إلههم وأمالوا التقصير إلى الله، فهل على الله إلا أن يرسل الرسل، وينزل الكتب فيأمرهم بالتبليغ والإنذار والتبشير { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [النحل: 35] أي: بلاغ يبين لهم طريق السير إلى الله ويهديهم إلى صراط مستقيم.
ثم أخبر عن بعثه الرسل وهداهم إلى السبيل بقوله: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36] إشارة إلى أن شريعة الأنبياء - عليهم السلام - إلى الخلق بأن يأمروهم بعبادة الله واجتناب طاغوت الهوى، وما يعبدون من دون الله ويعلموهم كيفية العبادة الخالصة عن شوائب الرياء والسمعة وكيفية الاجتناب عما سوى الله ليصلوا بهذين القدمين إلى حضرة الجلال.
كما قال بعضهم: خطوتان وقد وصلت فالخطوة الأولى: عبادة الله بالتوحيد وهو التوجه إلى الله بالكلية طلبا وشوقا ومحبة، والثانية: الخروج عما سوى الله بالكلية صدقا واجتهادا بليغا؛ لينالوا ما نال من قال لربه: " كلي لكلك مشغول " ، فقال: " كلي لكلك مبذول ".
وفي قوله: { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [النحل: 36] إشارة إلى أن الهداية إلى الله مطلقا وليس لأحد فيها شركة، ومن لم يهد الله إلى حضرة جلاله بالوصول والوصال، فإنه يبقى ضالا في تيه الضلال قال: حتى قال لخير خلقه وحبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم:
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7] وتلك الضلالة هي التي من نتيجة ظلمة الخلقية قبل إصابتها رشاش النور الذي من نتيجة الهداية { فسيروا في الأرض } [النحل: 36] أي: فاعتبروا من حال منكري البعث، فإن إنكارهم البعث لحرمانهم عن إحيائهم برشاش النور إذ لم يصبهم، فإن من أصابه ذلك النور فقد صار حيا بنور الله، ومن أخطأه بقى ميتا كما قال:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا
[الأنعام: 122]، فاعلم أن الإيمان بالبعث من نتيجة ذلك الإحياء، والكفر بالبعث من نتيجة حرمان ذلك الإحياء.
ثم أكد هذا المعنى بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { إن تحرص على هداهم } [النحل: 37] أي: هدى من لم يصبه ذلك النور وأضله الله بخذلانه في ظلمة الخلقية { فإن الله لا يهدي من يضل } [النحل: 37] عن إصابة النور { وما لهم من ناصرين } [النحل: 37] أي: على الهداية، ولو اجتمعت الإنس والجن لنصرتهم.
[16.38-42]
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [النحل: 38] وهذا من نتيجة ظلمة الخلقية عند عدم إصابة النور { بلى وعدا عليه حقا } [النحل: 38] فيه إشارة إلى أن أكثر الخلق محرومون عن إصابة رشاش النور؛ لأنهم أنكروا البعث، وهو وعد صادق ووقوعه حق.
ثم أقام البينة على القدرة بالبعث وعلى كذب من اختلف فيه، كما قال: { ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } [النحل: 39] بقوله تعالى: { إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون } [النحل: 40] أي: من كمال قدرتنا أنا لا نحتاج في إحداث شيء وإيجاده إلى استعمال آلة يشق علينا استعمالها، وإنما هي مشيئته القديمة بمقتضى الحكمة القديمة لتعلق الإرادة القديمة بالقدرة القديمة التي هي عبارة عن قولنا: { كن فيكون } وهو إخراج الشيء المعدوم من العلم إلى الوجود بلا تعب ولا نصب، وفي الآية دلالة على أن المعدوم الذي هو في علم الله إيجاده أنه قبل إيجاده شيء بخلاف المعدوم الذي في علم الله عدمه أبدا.
ثم أخبر عن درجات المهاجرين الصابرين بقوله تعالى: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } [النحل: 41] إلى قوله:
لرؤوف رحيم
[النحل: 47] { والذين هاجروا في الله } أي: بالله إلى الله، فهاجروا في الله بالأبدان عما نهى الله عنه بالشريعة، وهاجروا بالله بالقلوب عن الحظوظ الأخروية برعاية الطريق، وهاجروا إلى الله بالأرواح عن مقامات القربة ورؤية الكرامات بجذبات الحقيقة، بل هاجروا عن الوجود المجازي مستهلكا في بحر الوجود الحقيقي حتى لم يبق لهم في الوجود سوى الله { من بعد ما ظلموا } [النحل: 41] أي: من بعد ما ردوا إلى أسفل السافلين { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } [النحل: 41] أي: ننزلهم أعلى مراتب القرب في حال حياتهم { ولأجر الآخرة } [النحل: 41] أي: بعد الخروج عن الدنيا والخلاص عن حبس أوصاف البشرية وتلوناتها { أكبر } [النحل: 41] أي : أعظم وأجل وأصفى وأهنأ وأحرى فما كان لهم من حسنات الدنيا { لو كانوا يعلمون } [النحل: 41] قدره ويؤدون شكره { الذين صبروا } [النحل: 42] على الائتمار بالأوامر وعن الانتهاء عن النواهي، بل صبروا على المجاهدات والمكابدات والمشاهدات والمواصلات { وعلى ربهم يتوكلون } [النحل: 42] فيما يتأملون صبروا بالله في طلبه، وتوكلوا على الله في وجدانه، فبالصبر ساروا وبالتوكل طاروا، ثم في الله حاروا حيرة لا نهاية لها إلى الأبد.
[16.43-50]
وفي قوله: { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } [النحل: 43] إشارة إلى أن الرسالة والنبوة والولاية لا تسكن إلا في قلوب الرجال الذين
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37] وهم أهل الذكر الذي قال الله فيهم: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل: 43] فإنهم الرجال في طلب الحق وترك ما سواه وإنهم يعرفون الرجال ليتبينوا { بالبينات } [النحل: 44] التي من خصائص نور الذكر { والزبر } [النحل: 44] يعني: فيما قرءوا في الكتب، ثم جعل الله نبيه وحبيبه أهل الذكر وشرفه بقوله: { وأنزلنا إليك الذكر } [النحل: 44] يعني: كان يصعد الذكر إلينا بمقتضى قولنا:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] أنزلنا إليك ذكرنا { لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44] بنور ذكرنا { لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44] ما نزل إليهم بنور ذكرنا { ولعلهم يتفكرون } [النحل: 44] فيما يستمعون من بيان القرآن والأحكام منك على أنك أمي ما قرأت الكتب المنزلة، ولا تعلمت العلوم. وإنما يتبين لهم من نور الذكر ما يجعلهم يلازمون الذكر ويواظبون عليه ليصلوا إلى مقام المذكورين في متابعتك ورعاية سنتك.
ثم أخبر عن المنكرين الماكرين الممكورين تهديدا لهم بقوله: { أفأمن الذين مكروا السيئات } [النحل: 45] أي: آمنوا بمكر الله أن يمكر بهم بشؤم سيئات مكرهم أن يخسف الله بهم الأرض؛ أي: أرض البشرية ودركات السفل { أو يأتيهم العذاب } [النحل: 45] بالمكر والاستدراج { من حيث لا يشعرون } [النحل: 45] أنه من أين آتاهم من قبل الأعمال الآخرة بالرياء أو من أعمال الآخرة إلى الدنيا بالهوى الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية { أو يأخذهم في تقلبهم } [النحل: 46] من أعمال الدنيا { فما هم بمعجزين } [النحل: 46] أي: بمعجز الله على تعذيبهم { أو يأخذهم على تخوف } [النحل: 47] أي: ينقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم عليه { فإن ربكم لرؤوف رحيم } [النحل: 47] بالعباد إذا أعطاهم حسن الاستعداد رحيم عليهم عند فساد استعداداهم بالمعاصي بألا يأخذهم في الحال ويتوب عليهم في المآل، وتقبل توبتهم بالفضل والنوال.
ثم أخبر عن الإجلال لسجود الظلال { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } [النحل: 48] يشير إلى أن المخلوقات على نوعين: منها ما خلق من شيء كعالم الخلق وهو عالم الأجسام، ومنها ما خلق من غير شيء كعالم الأمر وهو عالم الأرواح، كما قال تعالى:
ألا له الخلق والأمر
[الأعراف: 54] دائما سمي عالم الأرواح بالأمر؛ لأنه خلقه بأمر كن من غير شيء بلا زمان، كما قال الله تعالى:
خلقتك من قبل ولم تك شيئا
[مريم: 9] يعني: خلقت روحك من قبل خلق جسدك
ولم تك شيئا
[مريم: 9].
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام "
{ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون } [النحل: 48] يتفيأ الظلال إلى ما أودع الله في كل شيء من عالم الأجسام خاصية، وهي ظل ذلك الشيء يميل بها عن يمين السعادة أهل الشقاوة، وهم أصحاب اليمين أو عن شمال الشقاوة أهل الشقاوة وهم أصحاب الشمال، وهذه الخواص في الأشياء، ويسجدون لله انقيادا لما خصهم به مسخرين متذللين، وإنما وحد اليمين وجمع الشمال؛ لغلبة أصحاب الشمال على أصحاب اليمين، ثم خرج به.
وقال: { ولله يسجد ما في السموت وما في الأرض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون } [النحل: 49] بل يتذللون لكل شيء من بين يدي صانعه ساجد سجود يلائم حاله كما أن كل شيء يسبح بحمده تسبيحا يلائم حاله، فتسبيح بعضهم بلسان المقال، وتسبيح بعضهم بلسان الحال، والله يعلم لسان حالهم كما لسان مقالهم.
واعلم أن الله تعالى أعطى لكل شيء من أصناف المخلوقات من الحيوانات إلى الجمال سمعا وبصرا ولسانا وفهما به يسمع كلام الحق ويبصر شواهد الحق ويكلم الحق ويفهم إشارته، كما أخبر الله تعالى عن حال السماوات والأرض وهما في العدم أعطاهما سمعا به سمعا قوله:
ائتيا طوعا أو كرها
[فصلت: 11] وأعطاهما فهما به فهما كلامه وأعطاهما لسانا به قالتا:
أتينا طآئعين
[فصلت: 11] فكل شيء يسبح الله بذلك اللسان ويسجد له بذلك الطوع، فمن هذا اللسان الملكوت بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحصى تسبح له في يده، وكذلك الأحجار الثلاثة كلمت داود عليه السلام، وأوبت الجبال معه لما قال تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء: 44].
[16.51-60]
فلا يبعد أن يسجد لله { إلهين اثنين إنما هو إله واحد } [النحل: 51] إلى قوله { وهو العزيز الحكيم } [النحل: 60].
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } [النحل: 51] يشير إلى إله الهوى، فإن أكثر الخلق اتخذوا مع الله إلها آخر وهو الهوى لقوله تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43] فلهذا قال: { إلهين } وما قال: آلهة؛ لأنه ما عبد من عبد إلها آخر إلا بالهوى، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من عبد إله أبغض على الله من الهوى ".
وقال: { إنما هو إله واحد } [النحل: 51] أي: الذي خلق الهوى وسائر الآلهة { فإياي فارهبون } [النحل: 51] فإني أنا الذي يستحق أن يرغب إليه ويرهب منه لا الهوى والآلهة فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر، { وله ما في السموت والأرض } [النحل: 52] ملكا وملكا { وله الدين } أي: الطاعة من كل شيء من السماوات والأرض وما فيهما كما ذكر بقوله:
قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت: 11] طوعا وكرها دائما من الأزل إلى الأبد { أفغير الله تتقون } في السراء والضراء.
{ وما بكم من نعمة } [النحل: 53] من النعم الظاهرة والباطنة { فمن الله } [النحل: 53] هو الذي أنعم بها عليكم، { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } [النحل: 53] تتضرعون ببقاء بعض حسن الاستعداد الفطري.
{ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم } [النحل: 54] من المحجوبين عن الحق المردودين إلى الخلق { بربهم يشركون } [النحل: 54] بأن يروا كشف الضر عن الأسباب لا عن المسبب، { ليكفروا بمآ آتيناهم } [النحل: 55] من النعم وكشف الضر أي: كفران النعمة برؤية الأسباب دون المسبب { فتمتعوا } [النحل: 55] عن الدنيا ونعيمها ولذاتها الفانية { فسوف تعلمون } [النحل: 55] إذ ترون العذاب بالانقطاع عن الله إن في ذلك من كفران النعمة وحجب الغفلة الشاغلة من رؤية المنعم وكاشف الضر.
يشير بقوله: { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } [النحل: 56] إلى أصحاب النفوس والأهواء أنهم يجعلون مما رزقهم الله من الطاعات نصيبا بالرياء لمن لا علم لهم بأحوالهم شرها لنفوسهم بحسبان رفعة منزلتهم عندهم وهم غافلون فارغون عن توهمهم وافترائهم في نفوسهم عليهم.
ثم قال: { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } [النحل: 56] فاعلم أن العتاب بالسؤال عن العلامات إنما هو بتبديل الصفات وتغير الأحوال من سمة السعادة إلى الشقاوة، وهو الإخراج من نور الروحانية إلى ظلمات النفسانية لقوله تعالى:
يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257] وفي قوله: { ويجعلون لله البنات سبحانه } [النحل: 57] إلى { سآء ما يحكمون } [النحل: 59] إشارة إلى كمال جهلهم أنهم لا يرضون بالبنات لأنفسهم مع عجزهم عن تبديلهن بالأبناء
بالله ظن السوء
[الفتح: 6] أنه مختار لنفسه البنات مع نقصانهن عن البنين، وهو قادر على تبديلهن بالبنين.
ثم قال تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة } [النحل: 60] يعني لهؤلاء الجهال { مثل السوء } [النحل: 60] فيما يختارون لأنفسهم من كراهة البنات ومحبة البنين، ويظنون بالله الاحتياج بالأولاد اختيارا للبنات على البنين { ولله المثل الأعلى } [النحل: 60] بالعظمة والعزة والكبرياء والتنزيه عن الأولاد وما نسبوا إليه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { وهو العزيز } [النحل: 60] الذي لعزته لا يحتاج إلى الولد { الحكيم } [النحل: 60] الذي أفعاله غير معترضة لخلقه.
[16.61-65]
ثم أخبر عن حكمته بإبقاء بريته بقوله تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة } [النحل: 61] إلى قوله: { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [النحل: 65].
وفي قوله تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } [النحل: 61] إشارة إلى أن الله تعالى لو كان مؤاخذا للنفوس الناسية بما ظلمت على القلوب والأرواح ما ترك عليها أي: على أرض البشرية من دابة أي: من صفة من صفات الحيوانية { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } [النحل: 61] فتأخير أهل السعادة وأرباب السلوك إلى أجل سماه الله بحكمة وسعة في إفناء كل صفة من صفات النفس بتبديلها بصفات القلب والروح في حينه وأوانه، فإن صفات النفس سلم إلى القلب والروح وبه تصعد النفس إلى عالم الروحانية بقدم إفناء صفاتها في صفات الروحانية بتبديلها بها وتأخير أهل الشقاوة وأصحاب النار إلى أجل سماه الله بحكمته وسنته في إفناء كل صفة من صفات الروحانية بتبديلها بصفات النفسانية الحيوانية في حينه وأوانه، وأن الروح تسلم هذه الصفات وتنزل إلى سفل الحيوانية حتى تنخرط في سلك
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179].
{ فإذا جآء أجلهم } [النحل: 61] أجل كل طائفة من أهل السعادة وأهل الشقاوة، { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [النحل: 61] مما سمى الله بحكمته وقت صعودهم ونزولهم، { ويجعلون لله ما يكرهون } [النحل: 62] أي: يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم، { وتصف ألسنتهم الكذب } [النحل: 62] أي: تسول لهم أنفسهم بالكذب { أن لهم الحسنى } [النحل: 62] أن لهم تلك المعاملة متجنية فيفرطون بها بغرور النفس { لا جرم أن لهم النار } [النحل: 62] نار الحسرة والقطيعة، { وأنهم مفرطون } [النحل: 62] الذين أفرطوا في تبديل مشارب الروحانية بمشارب النفسانية بتسويل النفس الكاذبة.
{ تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم } [النحل: 63] يعني: في الدنيا فيه إشارة إلى أن من اتخذ الشيطان وليا فلا يكون الله له وليا في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: { ولهم عذاب أليم } [النحل: 63] وفي هذه الآية تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية قلبه بأن يعلم أن في الأمم الماضية سنة الله وحكمته جارية بهداية قوم وضلالة آخرين.
وقوله: { ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } [النحل: 64] إشارة إلى أن القرآن وهو الكتاب المبين الذي يحكم على جميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم السلام - ومبين للأمم الماضية فاختلفوا فيه من معارف الدين ومعالم الحق لتتحقق لهم الحقائق المودعة والأسرار التي في القرآن ما لم يتحقق لهم في الكتب الأخرى، وليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيانا ما سموا به من غيره من الأنبياء - عليهم السلام - فتنحل به مشكلاتهم، { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [النحل: 64] أي: ممن آمن بالأنبياء، وممن لم يؤمن بهم ورحمة من الله بهدايتهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم لهم، وليكون القرآن هدى لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم ضرب بإنزال القرآن مثلا بالإشارة في قوله: { والله أنزل من السمآء مآء } [النحل: 65] أي: قرآنا { فأحيا به الأرض } [النحل: 65] أي أرض قلوب الأمم { بعد موتهآ } [النحل: 65] باختلافهم على أنبيائهم { إن في ذلك لآية } [النحل: 65] يعرف بها الحق من الباطل { لقوم يسمعون } [النحل: 65] أي: يسمعون القرآن بسمع يسمعه به كلام الله، فإن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبدا ولا يسمع كلامه إلا من أكرمه الله بسمع يسمع كلامه كقوله:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم
[الأنفال: 23].
[16.66-70]
ثم أخبر عن الأنعام وبالعبرة من الأنعام بقوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [النحل: 66] الإيقان في قوله: { وإن لكم في الأنعام لعبرة } [النحل: 66] إشارة إلى اعتبار العاقل فيما سقاه الله مما في بطون أنعام النفوس فإنها { نسقيكم مما في بطونه } [النحل: 66] كالأنعام { من بين فرث } [النحل: 66] الخواطر الشيطانية { ودم } [النحل: 66] الخواطر النفسانية { لبنا خالصا } [النحل: 66] من الإلهام الرباني { سآئغا للشاربين } [النحل: 66] جائزا لأهل الشرب على الصراط المستقيم من غير تلعثم.
{ ومن ثمرات النخيل والأعناب } [النحل: 67] أي: نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات { تتخذون منه } [النحل: 67] من ثمراتها أي: من ثمرات الطاعات المجاهدات، وهي المكاشفات والمشاهدات ووقائع أرباب الطلب وأحوالهم العجيبة { سكرا ورزقا حسنا } [النحل: 67] السكر: ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأقوال رياء وسمعة وشهرة، والرزق الحق ما يكون:
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
وقالوا:
سقاني شربة أحيا فؤادي
بكأس الحب من بحر الوداد
{ إن في ذلك } [النحل: 67] أي: في ذلك الاعتبار { لآية } [النحل: 67] دلالة { لقوم يعقلون } [النحل: 67] يدركون بالعقل إشارات الحق من كلماته ويفهمونها.
ثم أخبر عن فهم النحل حين ألهمها مع عدم العقل بقوله: { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر } [النحل: 68] إلى قوله:
إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
[النحل: 74] وفي قوله: { وأوحى ربك إلى النحل } إشارة إلى أن تصرف كل حيوان في الأشياء مع كثرتها واختلاف أنواعها إنما هو تصرف الله تعالى وإلهامه على قانون حكمته وإرادته القديمة؛ لأمر طبعه وهواه. وإنما خص النحل بالوحي وهو الإلهام والرشد من بين سائر الحيوانات لأنها أشبه شيء بالإنسان لا بأهل السلوك، فإن من دأبهم وهجرانهم { أن اتخذي من الجبال بيوتا } اعتزالا عن الخلق وتبتلا إلى الله، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث إلى حراء أسبوعا وأسبوعين وشهرا، وأن من شأنهم النظافة في المواضع والملبوس والمأكول كذلك النحل من نظافتها تضع ما في بطنها على الحجر الصافي أو على خشب نظيف؛ لئلا يخالطه طين أو تراب ولا يقعد على جيفة ولا على نجاسة احترازا عن التلوث كما يتحترز الإنسان عنه، وفيه إشارة أخرى إلى أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتا { ومن الشجر } القلوب { ومما يعرشون } [النحل: 68].
وقال للسالكين:
يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا
[المؤمنون: 51] يعني: قال للأرواح { ثم كلي من كل الثمرات } [النحل: 69] فثمرات البدن: الأعمال الصالحة، وثمرات النفوس: الرياضات والمجاهدات ومخالفات الهوى، وثمرات القلوب: ترك الدنيا وطلب العقبى، والتوجه إلى حضرة المولى، وثمرات الأسرار: شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله، فهذه كلها أغذية الأرواح فإنها قوتها { فاسلكي سبل ربك ذللا } أي: مذللة ومستهلة لها لتسلك فيها إلى أن تصل مقعد صدق عند مليكها فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها فحينئذ { يخرج من بطونها شراب } [النحل: 69] من الحكم والمواعظ { مختلف ألوانه } [النحل: 69] من المعاني والأسرار والدقائق في الحقائق والمعارف { فيه شفآء للناس } [النحل: 69] أي: للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله، { إن في ذلك } [النحل: 69] أي: أحوال النحل { لآية } [النحل: 69] دلالة { لقوم يتفكرون } [النحل: 69] فيها فيخرجون منها أسرار السلوك والوصول.
ثم قال: { والله خلقكم } [النحل: 70] أي: أخرجكم من العدم إلى الوجود { ثم يتوفاكم } [النحل: 70] أي: يرجعكم من الوجود إلى العدم فيه إشارة إلى الفناء بإفنائه { من يرد إلى أرذل العمر } [النحل: 70] يشير به إلى البقاء بإبقائه بعد الإفناء { لكي لا يعلم بعد علم شيئا } [النحل: 70] أي: لتكون عاقبة أمره ألا يعلم بعد فناء علمه شيئا بعلمه؛ بل يعلم بربه الأشياء كما هي { إن الله عليم } [النحل: 70] بها { قدير } [النحل: 70] على أن يجعله عليما بها.
[16.71-74]
{ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } [النحل: 71] فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء، والرد إلى البقاء، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع، والتقوى والصدق، واليقين والإيمان والتوكل والتسليم، والرضا، وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية، ومقاساة شدائد المجاهدات والصبر على المصائب والبلايا وحمل أعباء الشريعة بإشارات الطريقة، وتبديل الأخلاق الذميمة بالحميدة، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين في رزق الأعمال الصالحة التي هي أركان الشريعة وقراءة القرآن والذكر باللسان شرفه بإخلاص الجنان، { فما الذين فضلوا } [النحل: 71] أي: في الرزق { برآدي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } [النحل: 71] أي: فما الأرواح ترد رزقها من الفناء والبقاء على القلوب، ولا القلوب ترد رزقها من الإيمان والإيقان على النفوس، ولا النفوس ترد رزقها من شدائد المجاهدات، والصبر على البلاء والمصيبات على الأبدان، وقد ملكت أيمان بعضها على بعض { فهم فيه سوآء أفبنعمة الله } [النحل: 71] التي أنعم بها على أوليائه { يجحدون } [النحل: 71] منكري هذا الحديث.
{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا } [النحل: 72] يعني: أزواج الأرواح والأشباح { وجعل لكم من أزواجكم بنين } [النحل: 72] وهم القلوب { وحفدة } [النحل: 72] وهي النفوس، فإن القلوب والنفوس متولدة من ازدواج الأرواح والأشباح { ورزقكم من الطيبات } [النحل: 72] بما رزق الأرواح والقلوب من الواردات الغيبية والمواهب الربانية { أفبالباطل } [النحل: 72] وهو وسواس الشيطان وتسويلات النفس { يؤمنون } [النحل: 72] أهل الدنيا المغرورين بزخارفها { وبنعمت الله } [النحل: 72] وهي مواهب الحق { هم يكفرون } [النحل: 72] ينكرون أرباب القلوب.
{ ويعبدون من دون الله } [النحل: 73] أي: الدنيا والهوى { ما لا يملك لهم رزقا من السموت } [النحل: 73] من سماوات القلوب { والأرض } [النحل: 73] أي: أرض النفوس، { شيئا } [النحل: 73] من الكمالات التي أودع الله فيهن ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله { ولا يستطيعون } [النحل: 73] استخراجها منها بعبادة غير الله.
{ فلا تضربوا لله الأمثال } [النحل: 74] بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق سنة الله التي قد خلت من قبل وتطلبوها من المخلوقين فتجعلوهم أمثالا لله، { إن الله يعلم } [النحل: 74] خطأكم وصوابكم { وأنتم لا تعلمون } [النحل: 74].
[16.75-79]
قد أخبر عن الفريقين من أرباب القلوب وأصحاب النفوس بضرب المثل بقوله تعالى: { ضرب الله مثلا عبدا } [النحل: 75] أي: عبدا للدنيا { مملوكا } [النحل: 75] للهوى { لا يقدر على شيء } [النحل: 75] من مواهب الله وتوفيقه للطاعات، { ومن رزقناه منا } [النحل: 75] أي: من مواهبنا { رزقا حسنا } [النحل: 75] أي: ولاية كاملة { فهو ينفق منه } [النحل: 75] أي: من قوة الولاية يتصرف في البواطن المستعدة لقبول فيض الولاية { سرا } [النحل: 75] أي: في السر والخفية سرا بسر، وإضمارا بإضمار، ويتصرف في ظواهر أهل الإرادة بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة { وجهرا } [النحل: 75] أي: ظاهرا في العلانية { هل يستوون } [النحل: 75] يعني: أهل الولاية وأهل الضلالة.
ثم قال: { الحمد لله } [النحل: 75] يعني: على ما أنعم به على أوليائه إنهم كانوا أحق به وأهله { بل أكثرهم لا يعلمون } [النحل: 75] أي: أكثر الناس ممن لا يعلم ما بين الله وبين الأولياء، فإن لهم مع الله أوقات لا يسعهم فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل من غاية صدقهم وإخلاصهم مع الله؛ فلهذا قال:
" أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ".
ثم ضرب مثلا آخر لكمال التفهيم فقال: { وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم } [النحل: 76] يشير به إلى النفس الحيوانية غير الناطقة { لا يقدر على شيء } [النحل: 76] من العقل والعلم والإيمان { وهو كل } [النحل: 76] ثقل ووبال وعيال { على مولاه } [النحل: 76] وهو الروح الذي يسمونه بعضهم النفس الناطقة { أينما يوجهه لا يأت بخير } [النحل: 76] لأنها أمارة بالسوء ومن شأنها متابعة هواها ومخالفة مولاها { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } [النحل: 76] يعني: الروح ، فإن من شأنه أن يأمر النفس بطاعة الله وحسن عبوديته كما أن النفس تأمر الروح بمعاصي الله وعبودية هواها { وهو على صراط مستقيم } [النحل: 76] يعني: الروح مع خصوصيته بمكارم الأخلاق والأمر بالعدل هداه الله إلى الصراط المستقيم إلى الله وهو عليه بتوفيق متوجه إليه.
ثم قال: { ولله غيب السموت والأرض } [النحل: 77] يشير بغيب السماوات إلى الأرواح، وبغيب الأرض إلى النفوس يعني: هو الواقف على خاصية الأرواح والنفوس، فلو وكل كل جنس منها إلى طبعها وخاصيتها لا ترجع إلى ربها، ولا تهتدي إلى ربها بهداية الله إياها يدل عليه قوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28] فرجوعها يكون بالإماتة والإحياء بأن يميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته، وهي من أمر الساعة فقال: { ومآ أمر الساعة } [النحل: 77] في الإماتة والإحياء عند قدرتنا { إلا كلمح البصر أو هو أقرب } [النحل: 77] أي: بل هو أقرب؛ لأن الإماتة بتجلي صفة الجلال والإحياء بتجلي صفة الجمال، فإذا تجلى الله لعبد لا يبقى له زمان ولا مكان إذ هو فان عن وجوده باق ببقاء الحق تعالى وتقدس { إن الله على كل شيء } [النحل: 77] من المواهب التي يقربها أولياءه { قدير } [النحل: 77]، وإن لم يفهم الأغنياء بقولهم كيفية تلك المعارف والكمالات؛ بل العقلاء بعقولهم السليمة بمعزل عن إدراك تلك الحقائق.
ثم أخبر عن كمال قدرته وجهل الإنسان بحكمته بقوله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } [النحل: 78] أي من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت ذراتكم تعلم من فهم خطاب ربكم إذ قال:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] ولا مما علمت إذ قالت بالجواب:
بلى
[الأعراف: 172] ولا مما تعلمت الحيوانات حين ولادتها من طلب غذائها ومعرفة أمها والرجوع إليها والاهتداء إلى ضروعها وطريق تحصيل اللبن منها ومشيها خلفها وغير ذلك مما تعلم الحيوانات وتهتدي إليه ولا يعلم الطفل منه شيئا ولا يهتدي إليه.
{ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [النحل: 78] لأجسادكم كما جعل للحيوانات لتسمعوا بها وتبصروا وتفهموا ما يسمع الحيوان ويبصر ويفهم وجعل لأرواحكم سمعا تسمعون به ما تسمع الملائكة وبصرا تبصرون به ما تبصر الملائكة، وفؤادا تفهمون به ما تفهم الملائكة، وجعل لأسراركم سمعا تسمعون به من الله، وبصرا تبصرون به الله، وفؤادا تعرفون به الله، وهذه الحواس مستفادة من قوله تعالى:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق ".
{ لعلكم تشكرون } [النحل: 78] بهذه الآيات نعم الله وإذا شكرتم نعم الله باستعمالها وصرفها في طلب الله وترك الالتفات إلى النعم للمنعم، وفيه إشارة أخرى قوله: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم } [النحل: 78] أي: من العدم وهو الأم الحقيقية { لا تعلمون شيئا } [النحل: 78] قبل أن يعلمكم الله أسماء كل شيء { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [النحل: 78] حين خاطبكم بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] فتجلى لكم بربوبيته، فبنور سمعه أعطاكم سمعا تسمعون به خطابه، وبنور بصره أعطاكم بصرا تبصرون به جماله، وبنور علمه أعطاكم فؤادا تعرفون به كماله، وبنور كلامه أعطاكم لسانا تجيبونه بقولكم:
بلى
[الأعراف: 172]، { لعلكم تشكرون } [النحل: 78] فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله، ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته، ولا تتكلمون بها اللسان إلا معه.
وفي قوله تعالى: { ألم يروا إلى الطير مسخرت في جو السمآء } [النحل: 79] فيه إشارة إلى طير الأرواح أنها مسخرة في جو سماء القلوب { ما يمسكهن إلا الله } [النحل: 79] لأن الأرواح علويات، وإنما سكونها في سفل الأجساد بتسخير الله إياها كقوله:
ونفخت فيه من روحي
[ص: 72].
وقوله:
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 5] وفيه إشارة إلى أن للإنسان مقاما يرى الله بنور الله قبل رؤية الأشياء، ويرى الأشياء قائمة بقدرة الله، كما قال بعضهم: ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله قبله.
{ إن في ذلك لأيت لقوم يؤمنون } [النحل: 79] بالله بنور الله فهذه التأويلات من جملة الآيات التي يهدي بها الله خواص عباده إليه.
[16.80-84]
{ والله جعل لكم } [النحل: 80] يشير به إلى الأرواح، { من بيوتكم } [النحل: 80] أي: من بيوت الأجساد { سكنا } [النحل: 80] أي: مسكنا وإلا كان مساكنها عالما الأرواح { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا } [النحل: 80] أي: جعل بيوتكم أجساد حيوانية { تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم } [النحل: 80] أي: تستخف أرواحكم النفوس الحيوانية وقواها وقت السير إلى الله ووقت الوقفة للاستراحة والتربية.
وفي قوله: { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا } [النحل: 80] إشارة إلى الصفات الحيوانية والحواس الخمسة والقوى أنها آلات للأرواح في السير { ومتاعا } ينتفع ويبلغ به { إلى حين } أي: إلى حين الوصول وإقران الوصال { والله جعل لكم مما خلق ظلالا } أي: جعل الخلق ظل عالم الأمر لتستظل الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، فافهم جدا.
{ وجعل لكم من الجبال أكنانا } [النحل: 81] أي: من جبال القلوب ما يكون الأرواح { وجعل لكم } لأرواحكم { سرابيل } من صفاته البشرية { تقيكم الحر } تحفظكم من حر نار المحبة { وسرابيل } من صفات الروحانية { تقيكم بأسكم } أي: تحفظكم من سهام وساوس الشيطان وهواجس النفس { كذلك يتم نعمته عليكم } أي: على هذه الحكمة البالغة يحفظكم من الآفات ويربيكم بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم { لعلكم تسلمون } أي: تصلون إليه بإسلامه لا يقطع عليكم الطريق قطاع الطريق من الدنيا وما فيها من الزخارف ومن الآخرة وما فيها من المعارف؛ فإنها تمام النعمة وكمال المنحة.
{ فإن تولوا } [النحل: 82] أي: فإن أعرض أهل الباطل عن الحق { فإنما عليك البلاغ المبين } لتكون يا محمد رسولا مبلغا مبينا طرق السير والوصول وأهل الباطل الذين هم مظاهر القهر { يعرفون نعمت الله } [النحل: 83] بتعريفك { ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } بك وبنعمة الله إظهارا للقهر.
ثم أخبر عن ندامة أهل الغرامة يوم القيامة بقوله تعالى: { ويوم نبعث من كل أمة شهيدا } إشارة إلى أن لأرواح الأنبياء - عليهم السلام - إشرافا على أممهم فيما يعملون في حال حياتهم وبعد وفاتهم ليشهدوا عليهم بأعمالهم يوم القيامة { ثم لا يؤذن للذين كفروا } أن يعتذروا عما عملوا بقضاء ما فاتهم من الأوامر وبالتوبة والاستغفار عما نوهوا عنه { ولا هم يستعتبون } يعني: ولا يتكلفون أن يعرفوا ربهم، وذلك لأن الدنيا مزرعة الآخرة، والأرواح بذور في أرض الأشباح ، فمربيها ومنبتها ومثمرها أعمال الشريعة بشرط الإيمان، ومفسدها ومبطلها ومغير أحوالها عن خصيتها الكفر وأعمال الطبيعة والموت حصادها والقيامة بيدرها، فكل نبات فسد في الأرض بطل استعداده لقبول التربية، ولم يتم أمر نباته فلما حصد وحصل في البيدر ولا تفيده أسباب التربية لتغير أحوالها، فافهم جدا.
[16.85-89]
{ وإذا رأى الذين ظلموا } [النحل: 85] أي: وضعوا الكفر وأعمال الطبيعة في موضع الإيمان وأعمال الشريعة { العذاب } جزاء ظلمهم { فلا يخفف عنهم } الأثقال التي على أرواحهم وهي الأخلاق الذميمة النفسانية الظلمانية السفلية المبدلة بالأخلاق الحميدة الروحانية النورانية العلوية، { ولا هم ينظرون } لتبديل مذمومها بمحمودها لما ذكرنا.
{ وإذا رأى الذين أشركوا } [النحل: 86] وهم عبدة الدنيا والهوى { شركآءهم } [النحل: 86] من الدنيا والهوى والخلق { قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك } [النحل: 86] أي: اتخذناهم آلهة وكانوا شركاؤنا في الأرض عنك، وفيما يدعونا إلى عبادتهم وبتربيتهم في نظرنا { فألقوا إليهم القول } [النحل: 86] أي: فأجابوهم { إنكم لكاذبون } [النحل: 86]، فيما تجعلوننا شركاءكم في الإعراض عن الله، وفيما تدعون إنا دعوناكم إلى عبادتنا فإنا كنا مشغولين بتسبيح الله وطاعته فارغين عنكم وعن أحوالكم { وألقوا } [النحل: 87] يعني: المشركين { إلى الله يومئذ السلم } [النحل: 87] أي: استسلموا لحكم الله لما عجزوا عن الجواب { وضل عنهم ما كانوا يفترون } [النحل: 87] على شركائهم { الذين كفروا } [النحل: 88] وأسروا الحق على أنفسهم { وصدوا عن سبيل الله } [النحل: 88] أي: ومنعوا الأرواح والقلوب عن طلب الله.
{ زدناهم عذابا فوق العذاب } [النحل: 88] أي: زدناهم عذاب الحرمان عن الكمال فوق عذاب الخسران من النقصان { بما كانوا يفسدون } [النحل: 88] حسن الاستعداد لقبول الكمال وحصول الوصال، وفيه أيضا إشارة إلى أن الجمادات والحيوانات والدنيا والهوى وكل شيء يكون حضوره في الآخرة ينطقهم الله الذي أنطق كل شيء.
كما قال: { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } [النحل: 89] وهو أعضاؤهم لقوله:
اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون
[يس: 65]
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
[النساء: 41] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته عادته عامة على أمة وأعضائهم ونفوسهم وقلوبهم وأرواحهم على جميع الأمم الماضية، بل على ذرات المكونات إذ كل شيء خلق في نظر روحه الشريف قوله أول ما خلق الله وحي: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } [النحل: 89] يعني: في الكتاب بيان كل شيء يحتاج إليه السالك في أثناء السلوك والسير إلى الله إلى أن يصل أقصى مقام الكمال المقدر للإنسان نظيره قوله:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين
[الأنعام: 59] والذي يدل على هذا التأويل قوله: { وهدى ورحمة } [النحل: 89] أي: هذا الكتاب هاد يهدي إلى الله عباده جمة { وبشرى للمسلمين } [النحل: 89] أي: هو بشارة لمن أسلم وجهه لله وهو تابع النبي صلى الله عليه وسلم بالوصول إلى مقام الكمال وحضرة الجلال.
[16.90-93]
ثم أخبر عن تفصيل البيان من جملة التبيان بقوله: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [النحل: 90] وهو صرف ما أعطاك الله من آلات الجسمانية والروحانية، ومن مال الدنيا وجاهها ومن شرائع الدين وأعماله في طلب الله والسير منك به إليه؛ لأن صرفه في طلب غيره ظلم، والإحسان أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله وإياك سبيل الرشاد وترشدهم وتسلك بهم طريق الحق للوصول والوصال يدل عليه قوله:
وأحسن كمآ أحسن الله إليك
[القصص: 77] وأيضا العدل صدق التوجه إلى الله بكليتك لكليته، والإحسان أن تستعين بالله في توفيقك للعدل وقطع النظر في المعاملان من نفسك ورديئها منه { وإيتآء ذي القربى } [النحل: 90] إليك نفسك فصلة رحمها أن تنجيها من المهالك، وترجع بها إلى مالك الممالك.
{ وينهى عن الفحشاء } [النحل: 90] وهي ما يحجبك عن الله ويقطعك عنه { والمنكر } ما ينكر به عليك من إضلال الخلق وإغوائهم وإحداث البدع وإثارة الفتن { والبغي } ما ثار من سورة صفات نفسك فيصيب الخلق منك ما يضرهم ويؤذيهم { يعظكم } بأمر هذه المستحسنات ونهي هذه المستقبحات { لعلكم تذكرون } [النحل: 90] وتتعظون فتأتمرون بالأمر، وتنهون بالنهي.
{ وأوفوا بعهد الله } [النحل: 91] بائتمار أوامر الله وانتهاء نواهيه { إذا عاهدتم } [النحل: 91] مع الله يوم الميثاق { ولا تنقضوا الأيمان } مع الله يوم الميثاق { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } [النحل: 91] وهو إشهادكم على أنفسكم وقولكم:
بلى شهدنآ
[الأعراف: 172] { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } [النحل: 91] أي: جعلتموه كفيلا بجزاء أوقاتكم وهو تكفل منكم بالوفاء بما عاهد معكم على الجزاء كما قال:
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة: 40].
وتفصيل الوفاء من الله والعبد، بما شرح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ فقال:
" هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس " قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " أي: يطلبوه بالعبادة ولا يطلبوا معه غيره ثم قال: " أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذ فعلوا ذلك؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن حق الناس على الله ألا يعذبهم " يعني: بعذاب الفراق والقطيعة، بل يشرفهم بالوجدان والوصال كما قال: " ألا من طلبني وجدني ".
{ إن الله يعلم ما تفعلون } [النحل: 91] من نقض العهد والوفاء به، وفي قوله: { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } [النحل: 92] إشارة إلى المريد الذي تعلق بذيل إرادة صاحب ولاية من المشايخ وعاهده على صدق الطلب والثبات عليه عند مقاساة شدائد المجاهدات، والصبر على مخالفات النفس والهوى، وملازمة الصحبة والانقياد للخدمة، ولتحمل عن الأحوال، وحفظ الأدب معهم ففي أثناء تحمل هذا المشاق تسأم نفسه وتضعف عن حمل الأثقال، فينقض عهده ويفسخ عزمه ويرجع قهقري، ثم يتخذ ما كان أسباب طلب الله من الإرادة والمجاهدة ولبس الخرقة وملازمة الصحبة والخدمة والفتوحات التي فتح الله له في أثناء الطلب، والسير آلات طلب الدنيا وآداب تحصيل شهوات نفسه بالتصنع والمرايات والسمعة ابتلاء من الله إظهارا للعزة أن عظمت الدنيا وشهواتها في نظر النفس، وأعرضت عن الله في طلبها، وهذا معنى قوله: { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة } [النحل: 92] أي: الدنيا أعلى عندكم من الآخرة، { إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } [النحل: 92] من أمر الدنيا والآخرة وأمر الطلب.
{ ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة } [النحل: 93] في طلب الله { ولكن يضل من يشآء } [النحل: 93] عن طريق الطلب في تيه الحرمان { ويهدي من يشآء } [النحل: 93] إلى حضرة الجلال بالوصول والوصال، وإحالة الضلالة والهداية إلى المشيئة لإظهار القدرة ونفي العجز حتى لا يتوهم أحد أن أحدا يقدر على شيء بغير مشيئته لعجزه عن المنع ولكن الإرادة القديمة اقتضت بالحكمة القديمة أن يصل بعضهم بأفعال نفسه الخبيثة، ويهدي بعضهم بأفعال روحه الشريف؛ فلهذا قال: { ولتسألن عما كنتم تعملون } [النحل: 93] يعني: إنما الجزاء على الأعمال لا على الأحوال فينبغي ألا يكون العبد جبريا لا ينظر إلى الأعمال ولا قدريا لا ينظر إلى إرادة الله ومشيئته.
[16.94-99]
ثم أكد تهديد الطالب الناكث بإعادة قوله: { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها } [النحل: 94] أي: لا تتخذوا معاهدتكم مع المشايخ شبكة تصادون بها الدنيا، وقبول الخلق فتزل أقدامكم عن صراط الطلب بعد ثبوتها مدة عليه { وتذوقوا السوء } [النحل: 94] تجارة الدنيا والآخرة { بما صددتم عن سبيل الله } [النحل: 94] وطلبه متعرضا إلى الدنيا ونعيمها { ولكم عذاب عظيم } [النحل: 94] بالانقطاع والإعراض عن الله، وما ذنب أعظم منه ولا عذاب أعظم من القطيعة عن الله والحرمان منه.
{ ولا تشتروا بعهد الله } [النحل: 95] أي: بالمعاهدة على طلب الله، { ثمنا قليلا } [النحل: 95] وهو متاع الدنيا الفانية لقوله:
متاع الدنيا قليل
[النساء: 77] { إنما عند الله } من القربات والكمالات { هو خير لكم إن كنتم تعلمون } [النحل: 95] قدرها بأداء حقها { ما عندكم } [النحل: 96] لله من الدنيا ونعيمها { ينفد } [النحل: 96] ويفنى { وما عند الله } [النحل: 96] لكم من الكمالات { باق } [النحل: 96] إلى الأبد { ولنجزين الذين صبروا } [النحل: 96] على مقاساة شدائد طلب الله { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 96] يعني: بأوفر أجر كانوا عليه يعملون بأنهم على أجر قد سمعوا به وفهموا منه على قدر عقولهم، وقد قال تعالى:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
ثم أخبر عما أعد للطالبين الراغبين بقوله تعالى: { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى } [النحل: 97] يشير بالذكر إلى القلب، وبالأنثى إلى النفس، فالعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة بتقوى القلب وصدقه على وفق الطريقة تزكية بصفات الله والتخلق بأخلاقه لطلب الله، والإعراض عما سواه، وبقوله: { فلنحيينه حياة طيبة } [النحل: 97] يشير إلى إحياء كل واحد منهما بالحياة الطبية على قدر صلاحية عمله وحسن استعداده في قبولها.
فإحياء النفس: بالحياة الطيبة أن تصير مزكاة عن صفاتها متحلية بأخلاق القلب الروحاني مطمئنة بذكر الله راجعة إلى ربها
راضية مرضية
[الفجر: 28].
وإحياء القلب: وحياته الطيبة أن يكون متخلقا بأخلاق الله، ويكون فانيا عن أنانيته باقيا بهويته حيا بحياته طيبا عن دنس الاثنينية ولوث الحدوث، فإن الله طيب عن هذا الاتصاف فلا يقبل إلا طيبا.
ثم اعلم أن صلاحية أعمال العباد إنما تكون على قدر صدقهم في المعاملات، وحسن استعدادهم في قبول الفيض الإلهي فيكون طيب حياتهم بإحياء الله إياهم بحسب ذلك؛ ولهذا اختلف تفسير المفسرين وتحقيق المحققين في قوله تعالى: { فلنحيينه حياة طيبة } [النحل: 97] على ما مر ذكره، ثم قال تعالى: { ولنجزينهم } [النحل: 97] في الآخرة { أجرهم } [النحل: 97] أي: أجر كل طائفة منهم { بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 97] أي: بأوفر ما كانوا يطمعون أن يجازيهم الله على أعمالهم بيانه قوله:
وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40].
ثم أخبر عن الاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن بقوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [النحل: 98] الخطاب مع الأمة وإن خص به النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لأن الشيطان كان يفر من ظل عمر وهو أحد تابعيه، فكيف يقدر أن يدور حواليه سيما أسلم شيطانه على يده صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } [النحل: 99] يعني: سلطان نور الإيمان، والتوكل غالب على سلطان وسوسة الشيطان، فإن كان هذا حال الأمة مع الشيطان، فكيف يكون كمال النبوة معه؟! فثبت أن المراد بالخطاب الأمة، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم به لتعتبر الأمة وتتنبه أن مثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم مهما يكون كمال النبوة معه فيثبت آلته مأمورا بالاستعاذة بالله من الشيطان، فتكون الأمة بها أولى وأحق. فأما تخصيص الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن من الشيطان الرجيم لمعان وفوائد:
فأولها: لكي يتذكر القارئ واقعة الشيطان ويتفكر في أمره إنما صار شيطانا رجيما بعد أن كان ملكا كريما، لأنه فسق عن أمر ربه وخالفه وأبى أن يسجد لآدم
واستكبر وكان من الكفرين
[البقرة: 34] أي: فصار من الكافرين فينتبه بذلك عند قراءة القرآن ويصفي نيته قبل القراءة على أن يأتمر بما أمر الله في القرآن وينتهي عما نهاه عنه احترازا عن المخالفة، فإن فيها الطرد واللعن والرجم والفسق والكفر وإنها مظنة للخلود في النار.
وثانيها: لأن العبد لا يخلو من حديث النفس وهواجسها ومن إلقاء الشيطان ووساوسه وقلبه لا بد يتشوش بذلك، فلا يجد حلاوة كلام الله فأمره بالاستعاذة تزكية للنفس عن هواجسها وتصفية للقلب عن وساوس الشيطان؛ ليتحلى بنور القرآن فإن التحلية تكون بعد التزكية والتصفية، فافهم جدا.
ثالثها: ولأن في كل كلمة من كلمات القرآن لله تعالى إشارات ومعان وحقائق لا يفهمها إلا قلب مطهر عن تلوثات الهواجس والوساوس معطر بطيب أنفاس الحق، وذلك مودع في الاستعاذة بالله فأمر بها لحصول الفهم.
وفي قوله تعالى: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } [النحل: 99] إشارة إلى أن تصرف الشيطان وقدرته المخلوقة بالإغواء والإضلال على الإنسان إنما تنقطع بقدرة قوة الإيمان وقوة التوكل معا ويكمل الإيمان والتوكل بأن يكون المؤمن زاهدا عن الدنيا راغبا في الآخرة متبتلا إلى الله، فلا يبقى للشيطان عليه سلطان في إضلاله وإغوائه؛ ولكي يئول أمره إلى الوسوسة وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه عن غش صفات نفسه لا يتخلص إلا بنار وسوسة الشيطان؛ لأنه يطلع على بقايا صفات نفسه بما تكون الوسوسة من جنسه، فيزيد في الرياضة ومجاهدة النفس مع ملازمة الذكر فتنقض وتنمحي بقية صفات النفس، ويزداد نور الإيمان، وقوة التوكل وقربة الحق بقوله: { إنما سلطانه على الذين يتولونه... }
[16.100-104]
{ إنما سلطانه على الذين يتولونه } [النحل : 100] أي: يتولون بوسواسه وإغوائه؛ لأنها على وفق طبعهم وهو لعنهم { والذين هم به مشركون } [النحل: 100] أي: بما يوافق طبعهم وهواهم يقبلون إضلاله ويشركون.
ثم أخبر أن من تأثير الإغواء ألا ينسبوه إلى الافتراء بقوله تعالى: { وإذا بدلنآ آية مكان آية } [النحل: 101] إشارة إلى أن الله هو الطيب والقرآن هو الدواء يعالج به مرض القلوب، كقوله تعالى:
وشفآء لما في الصدور
[يونس: 57] كما أن الطبيب يداوي المريض كل وقت بنوع من الأدوية على حسب المزاج والعلة لإزالتها ويبدل الأشربة والمعادن بنوع آخر وهو أعلم بالمعالجة من غيره، فكذلك الله عز وجل يعالج قلوب العباد بتبديل آية وإنزال آية مكانها { والله أعلم بما ينزل } [النحل: 101] ويعالج به العبد، فالذين لا يعلمون قوانين الأمراض والمعالجات { قالوا } [النحل: 101] لمحمد { إنمآ أنت مفتر } [النحل: 101] أنت تبدل الآيات من تلقاء نفسك وأنت مفتر { بل أكثرهم لا يعلمون } [النحل: 101] حكمة التبديل وما فيه من المصالح.
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم ويلزمهم بقوله: { قل نزله روح القدس من ربك } [النحل: 102] أي: معالجة منه { بالحق } [النحل: 102] أي: هو محق بهذه المعالجة { ليثبت الذين آمنوا } [النحل: 102] أي: يثبت الإيمان في قلوب المؤمنون بإزالة أمراض الشكوك عن قلوبهم من نور القرآن فإنه شفاء { وهدى } [النحل: 102] لصحة الدين وسلامة القلوب { وبشرى } [النحل: 102] بشارة { للمسلمين } [النحل: 102] الذين استسلموا للطبيب، والمعالجة بصحته له منهم.
ثم يشير بقوله: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } [النحل: 103] أي: أن طب القلوب ومعالجتها ليس من شأن البشر بنظر العقل؛ لأن الطب معنى على معرفة الأمراض والعلل وكيفيتها وكميتها، ومعرفة إزالتها بالأدوية ومعرفة الأدوية وخواصها، وكيفية استعمالها ومعرفة الأمزجة واختلاف أحوالها، وإن القلوب بيد لله هو يعلم داءها ودواءها، والتفاوت في أمزجتها، وكيفية معالجتها، ويضيق عن ذلك نطوق عقول البشر بحيث لا يطلع على قوانين معارفها ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ فلهذا كان يقول إبراهيم عليه السلام:
وإذا مرضت فهو
[الشعراء: 80] لا تطلع على قوته
يشفين
[الشعراء: 80] يعني: لا اطلاع لي على المعالجة إلا أن يعلمني الله كيفية المعالجة، فلما علم الله النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن هذه المعالجة وكيفيتها من علته بقوله:
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113] ومع هذا كان يقول:
" نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر "
ويقول:
" إن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ".
وفي قوله تعالى: { لسان الذي يلحدون إليه } [النحل: 103] إنه يعلمك القرآن { أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [النحل: 103] إشارة إلى أن الأعجمي هو الذي لا يفهم من كلام الله ما أودع الله فيه من الأسرار والإشارات والمعاني والحقائق، فإنه لا يحصل ذلك إلا لمن رزقه الله فهما يفهم به اللسان العربي المبين هو الذي يسره الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وبين له معانيه، كما قال تعالى:
فإنما يسرناه بلسانك
[مريم: 97] وقال:
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه
[القيامة: 18-19] فالعربي المبين هو الذي أعطاه الله قلبا فهيما ولسانا مبينا، فافهم جدا.
ثم قال: { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } [النحل: 104] وهي ما أودع الله في القرآن من المعاني والحقائق التي تتعلق بمواهب الله وبه صار القرآن معجزا فمن لم يؤمن { لا يهديهم الله } [النحل: 104] إلى فهم القرآن { ولهم عذاب أليم } [النحل: 104] إذ لم يهتدوا إلى الإيمان بدفعهم ما فيه.
[16.105-109]
فلما نفى الافتراء عن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بقوله: { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } [النحل: 105] ووجه الاستدلالات الافتراء، فإن نفس المؤمن مأمورة، لوامة، مستلهمة من الله، مطمئنة بذكر الله، ناظرة بنور الله، موفقة بآيات الله؛ لأن الآيات لا ترى إلا بنور الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن ينظر بنور الله "
فإذا كان من شأن المؤمن ألا يفتري الكذب إذ هو ينظر بنور الله، فكيف يكون من شأن رسول الله أن يفتري الكذب وهو نور من الله ينظر بالله.
ثم اختص الكذب لمن لا يؤمن بآيات الله، فقال: { وأولئك هم الكاذبون } [النحل: 105] أي: هم المنتسبون إلى الكذب الحقيقي الذي صار اسم العلم لهم بأنهم كذبوا على الله وكذبوا بآياته، وكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاء به، وكذبوا بالقرآن والمعجزات، وفيه إشارة إلى أن الكذبات التي تقع في أثناء كلام من يؤمن بالله ورسله وكتبه ولا يكذب عليهم ولا يكذب بهم، فإنها ليست من الكذب الذي يفتري من لا يؤمن بآيات الله وإنه مخصوص بمن يفتري على الله الكذب، وإن الكذبات التي تقع للمؤمن وهي من جملة المعاصي لا تخرجه من الإيمان، وإن ينقص بها الإيمان ثم بالتوبة يرجع الإيمان إلى أصله كسائر المعاصي والذنوب، يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا "
فثبت أن المؤمن يبغض الكذب في بعض الأوقات إذا لم يكن مصرا عليه ويتوب.
ثم أخبر عن صاحب الإيمان أنه لا يكفر بإظهار الكفر مكرها مع الاطمئنان بالإيمان بقوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه } [النحل: 106] إشارة إلى مريد يتنسم روائح نفحات الحق بمشام القلب عند هبوبها واحتكاك أهوية عالم الباطن وانخراق سحب حجب البشرية، فلمع كبرق أضأت به آفاق سماء القلب وإشراق أرض البشرية، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب والنصب، فاستوقد نار الشوق والمحبة، فلما أضأت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات، وبهذا صدأت المرآة، ذهب الله بنوره وانخمدت نار الشوق، فآل المشئوم إلى طبعه، فانطبقت السحب، وأسدلت الحجب فكفر بالنعمة بعد أن أسر بالمحبة.
ثم استند الطالب الصدى من جملتهم والمريد العاشق من زمرتهم، فقال: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [النحل: 106] أي: أكره على مباشرة فعل يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة، فيوافقهم فيها بالظاهر، ويخالفهم بالباطن حتى يتخلص من شؤم صحبتهم، ثم أكد بالوعيد حال من صار بعدما كان فقال: { ولكن من شرح بالكفر صدرا } [النحل: 106] أي: نكص على عقبيه راضيا وكفران النعمة على شكرها، وأعرض عن الله بالإقبال على الهوى { فعليهم غضب من الله } [النحل: 106] أي: قهر وخذلان منه { ولهم عذاب عظيم } [النحل : 106] بالانقطاع عن الله العلي العظيم.
ثم أخبر عن سبب الخذلان فقال: { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } [النحل: 107] أي: اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله والشوق إلى لقائه.
{ وأن الله لا يهدي } [النحل: 107] إلى حضرته { القوم الكافرين } [النحل: 107] بنعمته { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } [النحل: 108] بكفران النعمة؛ لئلا يفقهوا بها ألطاف الحق { وسمعهم } [النحل: 108] لئلا يسمعوا بها كلام الحق { وأبصارهم } [النحل: 108] لئلا يبصروا بها لقاء الحق { وأولئك هم الغافلون } [النحل: 108] عما أعد الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } [النحل: 109] يعني: أهل الغفلة في الدنيا هم أهل الخسارة في الآخرة، وفيه إشارة أخرى وهي التغافل بالأعضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية.
[16.110-114]
ثم أخبر عن أهل الامتحان بالافتتان، فقال تعالى: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [النحل: 110] إشارة إلى طالب صادق هاجر نفسه وأعرض عن متابعة هواها وترك شهواتها واستيفاء حظوظها، وأقبل على الله بصدق الطلب وبذل الجهد من بعد الافتتان بتحصيل شهوات النفس ويتبع هواها في مخالفة أوامر الحق ونواهيه { ثم جاهدوا وصبروا } [النحل: 110] أي: جاهدوا النفس على تزكيتها عن صفاتها الذميمة بموافقة الشريعة ومخالفة الطبيعة وموافقة الطريقة، وصبر على مقاساة شدائد الرياضات والمجاهدات تحت تصرفات المشايخ متمسكا بذيل إرادتهم ملازما بصحبتهم من إقبال إشارتهم مشمرا بنجدتهم { إن ربك من بعدها } [النحل: 110] أي: من بعد الخلاص عن الفتنة ومخالفة النفس وهواها والإقبال على الله { لغفور } يغفر لهم ما سلف منهم من السيئات ويبدلها بالحسنات في تزكية النفس وتبديل أخلاقها { رحيم } [النحل: 110] برحمة المشاهدة بعد المجاهدة.
وفي قوله: { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } [النحل: 111] إشارة إلى أحوال أرباب النفوس أن كل نفس على قدر بقاء وجودها تجادل عن نفسها إما دفعا لعنادها أو جذبا لمنافعها حتى الأنبياء - عليهم السلام - يقولون: نفسي نفسي إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ذاته، فان عن نفسه باق بربه يقول :
" أمتي أمتي "
لأنه المغفور له من ذنب وجوده المتقدم في الدنيا، والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج، إذ المواجهة بخطاب: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " تغني عن وجوده بالسلام، وبقى بجوده بالرحمة بوجوده، وكان رحمة مهداة أرسل بركاته إلى الناس كافة، ولكنه رفع الزلة من تلك الضيافة خاصة بخواص متابعة، كما قال: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " يعني: الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود ونيل الجود فما بقي لهم مجادلة عن نفوسهم مع الخلق والخالق، كما قال بعضهم: كل الناس يقولون غدا: نفسي نفسي وأنا أقول: ربي ربي.
وفي قوله: { وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } [النحل: 111] إشارة إلى أن كل نفس عملت سوء توفى بالعذاب بنار الجحيم ونار القطيعة، وكل نفس عملت خيرا توفى في الثواب من نعيم الجنان ولقاء الرحمن { وهم لا يظلمون } [النحل: 111] أي: لا يكذب أهل النعيم ولا يثاب أهل الجحيم.
ثم أخبر عن أهل كفران النعمة وما أصابهم من المحبة بقوله: { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة } [النحل: 112] إشارة إلى قرية شخص الإنسان كانت آمنة أي: أهل القرية وهو الروح الإنساني والقلب { مطمئنة } [النحل: 112] اطمئنان بذكر الله { يأتيها رزقها } [النحل: 112] من الطاعات والعبادات { رغدا من كل مكان } [النحل: 112] روحاني وجسماني { فكفرت } [النحل: 112] النفس الأمارة { بأنعم الله } [النحل: 112] بنعم الطاعات والتوفيق واتبعت هواها وتمتعت بشهواتها.
{ فأذاقها الله لباس الجوع } [النحل: 112] بسدل الحجب النفسانية، وسد الطرق الروحانية، وقطع مواد التوفيق، فانقطع عن الروح والقلب والنفس مبرة الحق، فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات، وقوله: { والخوف } [النحل: 112] هو خوف العذاب والانقطاع عن الله { بما كانوا يصنعون } [النحل: 112] من كفران النعمة وتتبع الشهوة والتمتع بالدنيا الدنية.
وفي قوله: { ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه } [النحل: 113] إشارة إلى رسول الخاطر الروحاني المؤيد بالإلهام الرباني فكذبوه وما قبلوا منه ما أمرهم من الأخلاق الحميدة التي بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم لإتمامها على وفق الشرع { فأخذهم العذاب } [النحل: 113] عذاب الخذلان والهجران { وهم ظالمون } [النحل: 113].
وفي قوله: { فكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا } [النحل: 114] إشارة إلى الطالبين الصادقين التائبين على قدم صدق في الطلب، الصابرين على مقاساة شدائد المجاهدات بتناول ما رزقهم الله من أنوار الشريعة، وأسرار الطريقة، وحقائق الحقيقة التي أعرض عنها وحرمها على أنفسهم أرباب النفوس من البطلة والجهلة.
{ واشكروا نعمت الله } [النحل: 114] وهي الإيمان وتوفيق الطاعات، وصدق الطلب، وظهور شواهد الحق، والترقي في الدرجات، وعبور المقامات ومزيد الأحوال، وأما شكر هذه النعم برؤيتها عن المنعم، واستعمالها في طلب المنعم للوصول إلى المنعم لا بحصول النعم { إن كنتم إياه تعبدون } [النحل: 114] تطلبون إياه لأمته.
[16.115-119]
{ إنما حرم عليكم } [النحل: 115] أن تطلبوا من غيره وهو { الميتة } [النحل: 115] أي: جيفة الدنيا { والدم } [النحل: 115] أي: شهواتها { ولحم الخنزير } [النحل: 115] أي: الغيبة والحسد والظلم والمظالم { ومآ أهل لغير الله به } [النحل: 115] وهو مباشرة عمل مباح لا لله ولا للتقرب إليه، بل لهوى النفس وطلب حظوظها { فمن اضطر } [النحل: 115] إلى نوع منها مثل طلب القوت بالكسب الحلال والتأهل للتوالد والتناسل أو الاختلاط مع الخلق للمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من أبواب البر { غير باغ } [النحل: 115] أي: غير معرض عن طلب الخلق { ولا عاد } [النحل: 115] أي: مجاوز عن حد الطريقة { فإن الله غفور رحيم } [النحل: 115] أي: مجاوز عن حد الطريقة { فإن الله غفور } [النحل: 115] لما اضطروا إليه { رحيم } [النحل: 115] على الطالبين بأن يبلغهم مقاصدهم.
وفي قوله: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [النحل: 116] إشارة إلى ما تقولت النفوس بالحسنات والغرور: إنا قد بلغنا إلى مقام يكون علينا بعض المحرمات الشرعية حلالا، وبعض المحللات حرما { لتفتروا على الله الكذب } [النحل: 116] إنه أعطانا هذا المقام كما هو من عادة أهل الإباحة { إن الذين يفترون على الله الكذب } [النحل: 116] إنه أعطانا هذا المقام كما بإعطاء مقام وحال لم يعطهم بعد { لا يفلحون } [النحل: 116] بأن يعطيهم أبدا والله أعلم.
{ متاع قليل } [النحل: 117] أي: التمتع بما يفترون على الله يكون زمانا قليلا في الدنيا { ولهم عذاب أليم } [النحل: 117] بالحرمان عن مقاصدهم وجزاء الافتراء.
وفي قوله: { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } [النحل: 118] إشارة إلى أهل الطلب يعني أنهم لما توجهوا إلى حضرتنا بصدق الطلب حرمنا عليهم موانع الوصول وهي { ما قصصنا عليك من قبل } أي: أشرنا إليك بتحريمها على نفسك في بدء نبوتك حتى كنت محترزا عن صحبة خديجة وتنحيت إلى حراء أسبوعا أو أسبوعين { وما ظلمناهم } [النحل: 118] بتحريم ذلك عليهم، بل أنعمنا به عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [النحل: 118] بالإعراض عنا بعد الإقبال علينا بتسويل النفس وسوسة الشيطان.
{ ثم إن ربك للذين عملوا السوء } [النحل: 119] وهو الإعراض { بجهالة } أي: بجهالة قدر الإقبال على الله، وإثم الإعراض عنه { ثم تابوا من بعد ذلك } [النحل: 119] أي: رجعوا عن الإعراض، وأقبلوا على الله بصدق الطلب وإخلاص العمل { وأصلحوا } [النحل: 119] بالإقبال ما أفسدوا بالإعراض { إن ربك من بعدها } [النحل: 119] أي: بعد المراجعة والإصلاح { لغفور } [النحل: 119] متدارك بصفة المغفرة ما فاتهم من كمالات المعرفة { رحيم } [النحل: 119] بهم أن يدخلهم في رحمته بجذبات عنايته.
[16.120-123]
ثم أخبر عن طالبه أن يكون بانفراده أمة بقوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله } [النحل: 120] إشارة إلى أن من جذبته العناية الأزلية عن منيته، وقلعته النفحات الربانية عن طينة بنيته، واستخلصه بنار الغيرة عن غش القربة الأزلية، وارتفعت الشركة وبقيت الوحدة، وتحققت خصوصية الخلة والمحبة، واختصه بمراتب جماله وجلاله، يكون بمثابة أمة مطيعة قابلة لمرائية صفاته، وهم زبدة المكونات وخلاصة الموجودات فإنها بجميعها خلقت مظهرة لصفاته ليعرف بها كما قال: " فخلقت الخلق لأعرف " ، وفيه إشارة إلى أنه لو لم يكن في زمانه مؤمن إلا هو بنفسه أمة مطيعة اجتمع فيها ما هو المراد أن يكون في أمة زمانه { حنيفا } [النحل: 120] أي: ملائما عن غير الحق بالحق للحق { ولم يك من المشركين } [النحل: 120] يعني: كان فانيا في الله باقيا به لم يمكن ممن له شركة مع الله في الوجود.
{ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم } [النحل: 121] والإنعام في نعمة النبوة والرسالة ، ونعمة الخلة، ونعمة الاجتباء، ونعمة الهداية إلى صراط مستقيم هو صراط إلى الله، ونعمة الخصائل التي جمعها الله فيه ليكون بها أمة بنفسه { وآتيناه في الدنيا حسنة } [النحل: 122] وهي أنه جعل أكثر الأنبياء من نسله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم وأمره باتباعه.
{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [النحل: 122] وفيه إشارة إلى استجابة دعائه، فإنه دعا ربه وقال:
وألحقني بالصالحين
[الشعراء: 83] فأجابه وقال: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [النحل: 122] إلحاقا بهم في قوله: { ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } [النحل: 123] إشارة إلى أن الله تعالى لما بين كمالات مقام إبراهيم عليه السلام وما أنعم الله عليه بأمره باتباعه؛ ليهتدي بهداه ويقتضي به في بذل الوجود لمولاه؛ إذ رمى في النار وقال: { وما كان من المشركين } [النحل: 123] لئلا يرضى بالشركة مع الله في الوجود، فلما سلك النبي صلى الله عليه وسلم طريق متابعته وسلم وجهه لله ليذهب إلى الله، كما ذهب إبراهيم عليه السلام وقال:
إني ذاهب إلى ربي
[الصافات: 99] نودي في سفره: إن إبراهيم كان خليلنا، وأنت حبيبنا فالفرق بينكما أن الخليل لو كان ذاهبا يمشي بنفسه فالحبيب يكون راكبا أسري به، فلما بلغ سدرة المنتهى وجد مقام الخليل عندها فقيل له: إنها السدرة لمقام الخليل لو رضيت بها لنرينها لك،
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم: 16] لعلو همته الحبيبية
ما زاغ البصر
[النجم: 17] بالنظر إليها
وما طغى
[النجم: 17] باتخاذ المنزل عندها
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 8-9] وهي مقام الحبيب فبقى مع الله بلا هو في خلوة لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب وهو جبريل ولا نبي مرسل وهو هويته، فلما جاوز حد المتابعة صار متبوعا، فإن كان هو صلى الله عليه وسلم في الدنيا محتاجا إلى متابعة الخليل، فالخليل يكون في الآخرة محتاجا إلى شفاعته، كما قال: " الناس يحتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم.
[16.124-128]
ثم أخبر عن اختلاف أهل الافتراق بقوله تعالى: { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } [النحل: 124] إشارة إلى أن الاختلاف فيما أرشد الله به الناس إلى الصراط المستقيم من الأوامر والنواهي لاستحلال بعضها وتحريم بعضها ابتداعا منهم على وفق الطبع والهوى، وإن كان التشديد فيه على أنفسهم يكون وبالا عليهم وضلالا عن الصراط المستقيم، فالواجب على العباد في العبادات والطاعات والمجاهدات وطلب الحق الاتباع وترك الابتداع كما قال صلى الله عليه وسلم:
" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ".
وفي قوله: { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } إشارة إلى أن الله تعالى يحكم بعدله بين أهل البدع وأهل السنة فيقول:
" هؤلاء في النار بعدلي ولا أبالي وهؤلاء في الجنة بفضلي ولا أبالي ".
ثم أخبر عن أهل الفضل وأهل العدل بقوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [النحل: 125] إشارة إلى أن دعاء العوام إلى سبيل ربك وهو الجنة بالحكمة وهو بالخوف والرجاء؛ لأنهم يدعون ربهم خوفا من النار وطمعا إلى الجنة { والموعظة الحسنة } هي الرفق والمداراة ولين الكلام والتعريض دون التصريح وفي الخلاء دون الملأ، فإن النصح على الملأ تفريع، ودعاء الخواص إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أن يحبب الله إليهم وتؤثر دواعيهم في الطلب، ويرشدهم ويهديهم إلى صراط الله ويسلكهم فيه، فيكون إليهم دليلا وسراجا منيرا، إلى أن يصلوا في متابعتك وحسن تربيتك وتزكيتك إياهم أعلى درجات المقربين وأهنأ مشارب الواصلين.
{ وجدلهم بالتي هي أحسن } [النحل: 125] لكل طائفة منهما فجادل أهل النفاق بالسيف وأغلظ عليهم القول، وجادل أهل الوفاق باللطف والرحمة
واخفض جناحك للمؤمنين
[الحجر: 88] واعف عنهم واستغفر لهم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله حين خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره فمن أخطأه ذلك النور، فقد ضل وهو أعلم بالمهتدين الذين أصابهم ذلك النور فقد اهتدوا بذلك النور إلى صاحب النور وهو وليهم الذي أخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور وجوده بجوده.
وفي قوله: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } [النحل: 126] إشارة إلى من دعا إلى الله فأجاب وجاهد النفس ونهاها عن الهوى، وسلك طريق الحق بالاتباع دون الابتداع، ثم هبت صرصر البلاء من غريب الابتلاء، واستولت النفس وحجبت في مراتع الدنيا وشهواتها، على وقف طبعها وهواها، حتى غلبت الروح وجنوده، وعاقبتم بأنواع عقوبات مختلفة من التباعد والتقاعد والتقاطع إلى أن نسمت رياح العواطف عن مهب العناية، وطلعت شمس الإقبال عن مشرق الأفضال، وانقلبت الأحوال فأقبل نهار الروح مشرق بأنوار الجمال وأدبر ليل النفس مظلم بقهر الجلال وأسرت النفس وجنودها وعزم الروح وجنوده على معاقبتهم بالفطام عن مألوفاتهم والإقدام على مخالفاتهم وتأديبهم بسياط الجوع والعطش، فنودوا من حظائر القدس ومجالس الأنس { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } [النحل: 126] أي: لا تقصروا المعاقبة وبالغوا فيها كما بالغوا في معاقبتكم { ولئن صبرتم } [النحل: 126] على معاقبتهم { لهو خير للصابرين } [النحل: 126] على معاقبة النفس ومخالفة الهوى.
{ واصبر وما صبرك إلا بالله } [النحل: 127] لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر واحد أن يتصف بصفاته إلا به بأن يتجلى بتلك الصفة له { ولا تحزن عليهم } [النحل: 127] أي: على النفس وجنودها عند المعاقبة، فإن فيها صلاح حالهم ومآلهم { ولا تك في ضيق مما يمكرون } [النحل: 127] فإن بمعونة الله عند الفرار إليه يندفع مكرهم ويحيق بأهله { إن الله مع الذين اتقوا } [النحل: 128] بالإعانة على التقوى { والذين هم محسنون } [النحل: 128] بالإعانة على الإحسان والتقوى والإحسان ليس من شأن نفس الإنسان.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1-5]
{ سبحان الذى أسرى بعبده ليلا } [الإسراء: 1] للتعجب فيها يشير إلى أعجب أمر من أموره جرى بينه وبين أفضل خلقه، وأخص عبيده، وأحبهم إليه، وأقربهم لديه، وأعظمهم قدرا، وأكملهم مقاما، وأرفعهم درجة، وأعلاهم رتبة، وأجلهم منصبا، وأكرمهم مثوى، وأعزهم منزلة، وأوفاهم قربة، وأفناهم عن أنانيته، وأبقاهم بهويته، وأخلصهم لعبوديته، وأوحدهم بوحدانيته، وأفردهم بفردانيته، وأوليهم بتجلي جماله، وأعظميهم من كشف جلاله، وهو العبد المطلق من بين سائر عباده، والحبيب المختص المخلص من أحبابه، والنبي المفضل على أنبيائه، وهو الحر المعتق عن عبودية الموجودات ورق وجوده، فلهذا سماه الله { بعبده } عند فناء اسمه ورسمه اسما ما سمي به أحد من خلقه إلا عند بقاء اسمه ورسمه، كما قال
عبده زكريآ
[مريم: 2] ومن هنا يقول كل نبي يوم القيامة: نفسي نفسي لبقاء وجودهم وهو صلى الله عليه وسلم يقول:
" أمتي أمتي "
لفناء وجوده في وجوده.
وفي قوله تعالى: { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ } [الإسراء: 1] إشارة إلى أن الحكمة في إسرائه إرائته آيات مخصوصة بذاته تعالى تقديرا له وشرفا ما راءها أحدا من الأولين والآخرين إلا سيد المرسلين وخاتم النبيين، فإنه تبارك وتعالى أرى خليله عليه السلام وهو أعز الخلق عليه بعد حبيبه الملكوت كما قال:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام: 75] وأرى حبيبه آيات ربه الكبرى، كما قال:
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 18] ليكون من المحبين المحبوبين.
وفي قوله { إنه هو السميع البصير } [الإسراء: 1] إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو السميع الذي
" كنت له سمعا فبي يسمع وبصرا فبي يبصر ".
{ لنريه من آياتنآ } [الإسراء: 2] المخصوصة بجمالنا وجلالنا { إنه هو السميع } [الإسراء: 2] الذي يسمعنا { البصير } [الإسراء: 2] يبصرنا فإنه لا يسمع كلامنا إلا بنا ولا يبصر جمالنا.
ثم أخبر عن مرتبة كليمه بعد مرتبة حبيبه بقوله: { وآتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل } [الإسراء: 2] إشارة إلى أن سبب إيتاء التوصية وإنزالها إنما كان هداية ببني إسرائيل { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } [الإسراء: 2] أي: ربا وإلها كما اتخذ قوم نوح؛ وذلك لأنهم { ذرية من حملنا مع نوح } [الإسراء: 3] فإنهم كانوا مؤمنين لا يشركون بالله شيئا، فكذلك أردنا أن ذريتهم لا يشركون بالله شيئا وذلك لأجل { إنه كان عبدا شكورا } [الإسراء: 3] أي: كان نوح عليه السلام { عبدا شكورا } [الإسراء: 3] فالله تعالى بالغ في ازدياد النعمة جزاء لمبالغته في الشكر حتى أنعم على ذرية من حملهم مع نوح { عبدا شكورا } [الإسراء: 3] وهم بنو إسرائيل بإيتاء التوراة الهادية إلى التوحيد وإخراجهم من الشرك.
وفي قوله تعالى: { وقضينآ إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا } [الإسراء: 4] إشارة إلى أنا أنعمنا على بني إسرائيل بالكتاب لنهدينهم إلى التوحيد، ولكنهم يفسدون في الأرض بقتل الأنبياء كفرانا بنعمتنا، ويبغون العلو في الدنيا { فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولي بأس شديد } [الإسراء: 5] ليعذبوكم عذابا شديدا جزاء كفران النعمة، كما قال:
ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
[إبراهيم: 7] { فجاسوا خلال الديار } [الإسراء: 5] للاستقصاء في القتل والتعذيب للعباد في الظاهر، وجاسوا قهرنا وعذابنا في الباطن خلال قلوبكم لقتل صفاتكم الحميدة واستيلاء نفوسكم الأمارات بالسوء، ليخربوا بيت قدس قلوبكم ويميتوا أبناء أنبياء إيمانكم وصدقكم ويقينكم { وكان وعدا مفعولا } [الإسراء: 5] في الحكمة الأزلية.
[17.6-10]
{ ثم رددنا لكم الكرة عليهم } [الإسراء: 6] باستيلاء داود قلوبكم وقتل جالوت نفوسكم { وأمددناكم بأموال } [الإسراء: 6] أموال الطاعات والعبادات { وبنين } [الإسراء: 6] هي الإيمان والإيقان { وجعلناكم أكثر نفيرا } [الإسراء: 6] في العدد والجماعات ممن كان قبلكم الذين أهلكناهم بكفران النعمة، وإنما رددنا الكرة عليهم وأنعمنا عليكم بهذه النعم جزاء الشكورية لنوح.
ثم أخبر عن جزاء أهل الإحسان بقوله تعالى: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [الإسراء: 7] إشارة إلى أن الإحسان ليس من صفات الإنسان إنما هو من صفات الله تعالى، فإنه المحسن على الحقيقة، فمن أحسن فقد اتصف بصفة من صفات الله ففائدة إحسانه راجعة إلى نفسه؛ لأنها صارت محسنته بعد أن كانت مسيئته { وإن أسأتم فلها } [الإسراء: 7] لأنها بقيت على صفة إساءتها، بل ازدادت في الإساءة في البعد وعذاب الفراق { فإذا جآء وعد الآخرة } [الإسراء: 7] وهي يوم الجزاء { ليسوءوا وجوهكم } [الإسراء: 7] وجود قلوبكم يحجب سوء أعمالكم { وليدخلوا المسجد } [الإسراء: 7] بخت نصر النفس لتخريب بيت المقدس وهو القلب المقدس من دنس الكفر { كما دخلوه أول مرة } [الإسراء: 7] عند استيلاء النفس وصفاتها في أوان البلاغة وعنفوان الشباب { وليتبروا } [الإسراء: 7] أي: وليهلكوا { ما علوا } [الإسراء: 7] ما غلبوا عليه من أطوار قلوبكم { تتبيرا } [الإسراء: 7] يليق بها.
{ عسى ربكم أن يرحمكم } [الإسراء: 8] بتعزيز نفوسكم وتقوية قلوبكم فضلا منه وكرما { وإن عدتم } [الإسراء: 8] إلى الجهل { عدنا } [الإسراء : 8] إلى العدل، بل إلى الفضل، وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم، وإن عدتم إلى النسيان عدنا إلى الغفران وإن عدتم إلى الإقدام على العبودية عدنا إلى الإنعام بالربوبية، وإن عدتم إلى طلب الهداية عدنا إلى اختصاصكم بالعناية، وإن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات { وجعلنا جهنم } [الإسراء: 8] البعد والطرد { للكافرين } [الإسراء: 8] كافري نعمة القربة والقبول { حصيرا } [الإسراء: 8] سحيقا مخلدا { إن هذا القرآن } [الإسراء: 9] أي: هذه الآيات من قوله: { إن أحسنتم } [الإسراء: 7] إلى قوله: { حصيرا } [الإسراء: 8] { يهدي للتي هي أقوم } [الإسراء: 9] للوصول؛ لأنها تهدي إلى الخوف والرجاء، وهما خطوتان اللتان بهما يصل السائرون إلى الله، فإن قدم الخوف تهدي إلى الخوف والرجاء وهي الفناء عن الأنانية، وقدم الرجاء تهدي إلى البقاء بالهوية، فافهم جدا.
ويؤكد هذا المعنى قوله: { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } [الإسراء: 9] وهي قطع مفاوز البعد للقائه في الخوف والرجاء { أن لهم أجرا كبيرا } [الإسراء: 9] وهو إفضاله الكبير المتعال { وأن الذين لا يؤمنون } [الإسراء: 10] بما وعدهم { بالآخرة } [الإسراء: 10] أي: بآخرة أعمالهم أيضا تبشرهم هذه الآيات بوعدها ووعيدها { أعتدنا لهم عذابا أليما } [الإسراء: 10] وهو عذاب البعد بعد القرب وعذاب الرد بعد القبول وعذاب السخط بعد الرضا.
[17.11-15]
وفي قوله: { ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير } [الإسراء: 11] إشارة إلى أن من خصوصية الإنسان طلب الدنيا والتلذذ بشهواتها والتفاخر بمالها وجاهها والتمتع بها، وأنه يحب العاجلة ويذر الآجلة، ولهذا قال الله تعالى في وصفه: { وكان الإنسان عجولا } [الإسراء: 11] وهذا كله شر له وهو عجب أنه خير له وهو ملتمس بالدعاء الشر كما يلتمس أهل الوفاء الخير.
ثم قال: { وجعلنا اليل والنهار آيتين } [الإسراء: 12] أي: ليل البشرية وآياتها قمر القلب، ونهار الروحانية وآياتها شمس شهود الحق وهما يدلان على الوصول { فمحونآ آية اليل } [الإسراء: 12] أي: ضوء الروح عن قمر القلب فبقى فيه نور العقل.
{ وجعلنآ آية النهار مبصرة } [الإسراء: 12] المعنى أن نور القلب وهو العقل يهدي إلى الشرع، وهو شمس شهود الحق، وإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح فإنها مظهرة للحق ومبصرة لها { لتبتغوا فضلا من ربكم } [الإسراء: 12] تجلي ذاته وصفاته تبارك وتعالى، وقد اختص الإنسان به دون سائر المخلوقات ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء { ولتعلموا عدد السنين } [الإسراء: 12] أي: أيام الطلب وامتدادها عند قطع المنازل { والحساب } [الإسراء: 12] أي: حساب الترقي من مقام إلى مقام { وكل شيء } [الإسراء: 12] يحتاج إليه السالك { فصلناه } [الإسراء: 12] بيناه بالإشارات { تفصيلا } [الإسراء: 12] تبينا يبلغ الطالب إلى المطلوب والمحب إلى المحبوب.
ثم أخبر عما قدر للإنسان من الإحسان والخذلان بقوله تعالى: { وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه } [الإسراء: 13] يشير إلى ما طار لكل إنسان في الأزل وتعد بالحكمة الأزلية والإرادة القديمة من السعادة والشقاوة ويجري عليه من الأحكام المقدرة، والأحوال التي جرى بها العلم من الخلق والرزق والأجل، ومن صغائر الأعمال وكبائرها المكتوبة له، وهو بعد في العدم وطائره ينتظر وجوده، فلما أخرج كل إنسان من العدم إلى الوجود وقع طائره في عنقه ملازما له في حياته ومماته حتى يخرج من قبره يوم القيامة وهو في عنقه، وذلك قوله: { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } [الإسراء: 13] أي: ينشر بعدما كان منطويا، ثم إن كان من أصحاب اليمين أوتي كتابه بيمينه، وإن كان من أصحاب الشمال أوتي كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، ويجوز أن يكون هذا الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها نسخة نسخها الكرام الكاتبون بقلم أعماله في صحيفة أنفاسه من الكتاب الطائر في عنقه، ولهذا يقال: { اقرأ كتبك } [الإسراء: 14] أي: كتابك الذي كتبته.
{ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } [الإسراء: 14] فإن نفسك مرقومة بقلم أعمالك إما برقوم السعادة أو برقوم الشقاوة { من اهتدى } [الإسراء: 15] إلى الأعمال الصالحات { فإنما يهتدي لنفسه } [الإسراء: 15] فيرقمها برقوم السعادة { ومن ضل } [الإسراء: 15] عنها بالأعمال الفاسدة { فإنما يضل عليها } [الإسراء: 15] فيرقمها برقوم الشقاوة { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الإسراء: 15] أي: لا يرقم راقم بقلم أوزاره نفس غيره برقوم الشقاوة.
وبقوله: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [الإسراء: 15] يشير إلى أن الأعمال الصالحة والفاسدة التي ترقم النفس برقوم السعادة والشقاوة لا يكون لها أثر إلا بقبول دعوة الأنبياء أو بردها، فإن السعادة والشقاوة مودعة في أوامر الشريعة ونواهيها.
[17.16-22]
{ وإذآ أردنآ أن نهلك قرية } [الإسراء: 16] أي: من قرى النفوس { أمرنا مترفيها } [الإسراء: 16] وهي النفوس الأمارة بالسوء { ففسقوا فيها } [الإسراء: 16] أي: فخرجوا عن قيد الشريعة، ومتابعة الأنبياء بمتابعة الهوى واستيفاء شهوات النفس { فحق عليها القول } [الإسراء: 16] أي: فوجب لها الشقاوة بمخالفة الشريعة { فدمرناها تدميرا } [الإسراء: 16] بإبطال استعداد قبول السعادة إذا صارت النفس مرقومة برقوم الشقاوة والأبدية.
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } [الإسراء: 17] أي: أبطلنا حسن استعدادهم لقبول السعادة برد دعوة الأنبياء { وكفى بربك بذنوب عباده } [الإسراء: 17] إذا لم يقبلوا دعوة الأنبياء { خبيرا بصيرا } [الإسراء: 17] فإنه المقدر في الأزل والمدبر إلى الأبد أسباب سعادة عباده وأسباب شقاوتهم.
ثم أخبر عن أمارة أهل السعادة والشقاوة بقوله تعالى: { من كان يريد العاجلة عجلنا له } [الإسراء: 18] إشارة إلى أن إرادته إنما كانت العاجلة؛ لأنا عجلنا له هذه الإرادة { فيها } [الإسراء: 18] أي: في الدنيا { ما نشآء } [الإسراء: 18] أي: بقدر ما نشاء على مقتضى حكمتنا { لمن نريد } [الإسراء: 18] أن يكون من أهل الدنيا ومظهر صفة قهرنا { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما } [الإسراء: 18] أي: عذبناه بعذاب صفاته الذميمة في جهنم والبعد والقطيعة { مدحورا } [الإسراء: 18] مطرودا مهينا ذليلا.
واعلم أن فيها إشارة إلى أن الله تعالى خلق الإنسان مركبا من الدنيا والآخرة، ولكل جزء منهما ميل وإرادة إلى كله ليتغذى منه ويتقوى ويتكمل به، وإن في جزئه الدنيوي وهو النفس طريق إلى دركات النيران، وفي جزئه الأخروي وهو الروح طريق إلى درجات الجنان، وخلق القلب في هذين الجزئين، وله طريق إلى بين إصبعي الرحمن إصبع اللطف وإصبع القهر، فمن يرد الله أن يكون مظهره قهره أزاغ الله قلبه، وحول وجهه إلى الدنيا فيريد العاجلة ويربي بها نفسه إلى أن يبلغه إلى دركات جهنم البعد وتصلى نار القطعية، ومن يرد الله أن يكون مظهر لطفه أقام قلبه وحول وجهه إلى عالم العلو فيريد الآخرة، { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [الإسراء: 19] وهو الطلب بالصدق { وهو مؤمن } [الإسراء: 19] بأن طلبه وجده { فأولئك كان سعيهم } [الإسراء: 19] في الوجود { مشكورا } [الإسراء: 19] من الموجود في الأزل.
ثم أكد هذا التأويل بقوله: { كلا نمد هؤلاء } [الإسراء: 20] يعني: أهل الدنيا بأن نحول وجه قلبه إلى الدنيا وزخارفها إظهارا للقهر، { وهؤلاء } [الإسراء: 20] يعني: أهل الآخرة بأن نحول وجه قلبه إلى الآخرة ودرجاتها، { من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا } [الإسراء: 20] ممنوعا من كلا الفريقين.
{ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } [الإسراء: 21] من أهل الدنيا في النعمة والدولة وموافاة المرادات ليتحقق لك أنها من إمدادنا إياهم { وللآخرة } [الإسراء: 21] يعني: أهل الآخرة { أكبر درجات وأكبر تفضيلا } [الإسراء: 21] من أهل الدنيا؛ لأن مراتب درجات الأخروية وفضائل أهلها باقية غير متناهية ونعمة الدنيا وفضائل أهلها فانية متناهية، ثم خاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم وقطع تعلقه عن الكونين من بين الثقلين، فقال: { لا تجعل مع الله إلها آخر } [الإسراء: 22] من الدنيا والآخرة لتعبد الدنيا أن تعبد الآخرة بطلبهما { فتقعد } [الإسراء: 22] عن طلبنا { مذموما } [الإسراء: 22] في طلب الدنيا { مخذولا } في طلب الآخرة.
[17.23-30]
ثم شرف أمته بتبعيته بتشريف هذه المرتبة السنية وصرح بخطابهم فقال: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء: 23] أي: لا تعبدوا الدنيا والآخرة إلا الله وإنما قال ربك أراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مخصوص بالتربية أصالة والأمة تبعا له في هذا الشأن، وقوله: { وقضى ربك } [الإسراء: 23] أي: وحكم ربك وقدر في الأزل ألا تعبدوا، المخصوصون بالخطاب، إلا الله، فما عبدوا، وحكم أيضا كما قال: { وبالوالدين إحسانا } [الإسراء: 23] يشير بالوالدين إلى والد الروح ووالد البدن، والإحسان بهما أن تراقبهما في العبودية ليعبدوا كأنهما يريان الله فإن لم يكونا يريان الله فإنه يراهما.
وبقوله: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف } [الإسراء: 23] يخاطب القلب ويوصيه بأن يواسي والد الروح عند كبره وهو بلاغه أعلى مراتب القرب، وعجزه عند سطوات تجلي صفات الألوهية، ويداوي والد البدن عند كبره وهو كبر السن، فلا تنفعهما في الاستعمال عند العجز { ولا تنهرهما } [الإسراء: 23] عند الاستراحة { وقل لهما قولا كريما } [الإسراء: 23] أي: رفيقا عند استعمالهما في العبودية.
{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } [الإسراء: 24] أي: تتواضع لهما، ولا تتكبر عليهما فإنك أخذت التربية عنهما { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } [الإسراء: 24] وذلك لأن القلب طفل يولد بازدواج الروح والبدن، وقد وجدت التربية عنهما صورة ومعنى إلى أن صار قابلا لتجلي جمال الربوبية وجلالها وصار خليفة الله في أرضه.
ثم قال: { ربكم أعلم بما في نفوسكم } [الإسراء: 25] من استعداد لأنه دبره فيها { إن تكونوا صالحين } [الإسراء: 25] مستعدين للخلافة { فإنه كان للأوابين غفورا } [الإسراء: 25] والأواب الراجع من أنانيته إلى هويته بغفوريته يشير إلى أن كل نفس صالحة للخلافة إنما تبلغ محلها بالأنانية، فإن من كان مقيدا بنفسه لا يصلح لخلافة الله.
ثم أخبر عن آداب الخلافة بقوله تعالى: { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } [الإسراء: 26] إشارة إلى أن النفس فإنها من ذوي قربى القلب ولها حق كما قال صلى الله عليه وسلم
" إن لنفسك عليك حقا "
والمعنى لا يبالغ في رياضة النفس وجهادها؛ لئلا تسأم وتمل أو تضعف عن حمل أعباء الشريعة وحق رعايتها عن الشرف في المأكل والملبوس والأثاث والمسكن وحفظها عن طرفي الإفراط والتفريط صيانة عن التبذير.
كما قال: { ولا تبذر تبذيرا } [الإسراء: 26] أي: لا تنفق لهوى النفس وشهواتها والتذاذها بحظوظها { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [الإسراء: 27] أي: أعوانهم في إهلاك أنفسهم ونظراؤهم في كفران النعمة والعصيان.
كما قال: { وكان الشيطان لربه كفورا } [الإسراء: 27] أي: لا يشكر نعمه بامتثال أوامره ونواهيه.
{ وإما تعرضن عنهم } [الإسراء: 28] أي: تعرض عن نفق النفس وصفاتها بالكسر والتبديل { ابتغآء رحمة من ربك ترجوها } [الإسراء: 28] فإن دواء النفس داؤها وإن داءها دواؤها ورجاء الرحمة في حقها بألا يرحمها عند طلب مرادها { فقل لهم قولا ميسورا } [الإسراء: 28] أي: فعد النفس وصفاتها بوعد لها فيه يسر وراحة لتحمل بالمشقة في تزكيتها { ولا تجعل يدك } [الإسراء: 29] في إعطاء بعض حظوظها { مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها } [الإسراء: 29] في إعطاء مراداتها واستيفاء لذاتها { كل البسط فتقعد } [الإسراء: 29] عن طريق الطلب والمسير إلى الله { ملوما } [الإسراء: 29] تلوم نفسك حين لا تنفع الملامة إذ تلام يوم القيامة { محسورا } [الإسراء: 29] منقطعا عن سبيل الله حسيرا عن المسير إليه.
{ إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } [الإسراء: 30] يشير به إلى الخروج عن أوطان البشرية والطبيعة الإنسانية إلى فضاء العبودية بقدمي التوكل على الله وتفويض الأمور إليه، فإن كان يبسط النفس في بعض الأوقات ببعض المرادات ليفرش الحصى ببساط البسط أو يقدر عليها في بعض الأوقات ممتنا بها ليغبط أحوالها بمجامع الفيض فالأمور موكولة إلى بساط حكمته البالغة وأحكامه الأزلية { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } [الإسراء: 30] في الأزل فيما حكم وقدر.
[17.31-38]
ثم أخبر عن آداب العبودية على وفق أوامر الربوبية بقوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [الإسراء: 31] إلى هذا الموضع وهو عشر آيات إشارة إلى تبديل عشر خصال مذمومة بعشر خصال محمودة.
أما المذمومات:
فأولها: البخل، وثانيها: الأمل، وهما في قوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [الإسراء: 31] فإن البخل وطول الأمل حملهما على قتل أولادهم فدلهم على تبديلهما بالسخاء والتوكل بقوله تعالى: { نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا } [الإسراء: 31].
وثالثهما: الشهوة، وهي في قوله: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا } [الإسراء: 32] فإن غلبة الشهوة يورث الزنا فبدلهما بالعفة حين نهاهم عن الزنا.
ورابعها: الغضب، وهو في قوله: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } [الإسراء: 33] فإن استيلاء الغضب يورث القتل بغير الحق فبدله بالحلم في قوله: { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } [الإسراء: 33].
وخامسها: الإسراف، وهو في قوله: { فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } [الإسراء: 33] فإن الإفراط في كل شيء يورث الإسراف فبدله بالقوام.
وسادسها: الحرص، وهو في قوله: { ولا تقربوا مال اليتيم } [الإسراء: 34] فإن التصرف في مال اليتيم من الحرص فبدله بالقناعة بقوله: { إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } [الإسراء: 34].
وسابعها: نقض العهد فبدله بالوفاء بقوله: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } [الإسراء: 34].
وثامنها: الخيانة، فبدلها بالأمانة { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا } [الإسراء: 35].
وتاسعها: الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه باستعمال الجوارح والأعضاء على خلاف ما أمره وذلك في قوله: { ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء: 36] فبدله بالعدل بقوله: { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } [الإسراء: 36] فظلم السمع، باستعماله في استماع الغيبة واللغو، والرفث والبهتان والقذف والملاهي والفواحش، وعدله استعماله في استماع القرآن والأخبار والعلوم والحكم والمواعظ والنصيحة والمعروف وقول الحق، وظلم البصر، النظر إلى المحرمات والشهوات وإلى من فوقه في دنياه وإلى متاع الدنيا وزينتها وزخارفها، وعدله النظر في القرآن والعلوم وإلى وجه العلماء والصلحاء،
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتهآ
[الروم: 50] وإلى الأشياء بنظر الاعتبار، وإلى من دونه في دنياه، وإلى من فوقه في دينه، وظلم الفؤاد قبول الحقد والحسد والعداوة وحب الدنيا والتعلق بما سوى الله، وعدله تصفيته عن هذه الأوصاف الذميمة وتحليته بالأوصاف الحميدة وتبديل هذه الصفات والتخلق بأخلاق الله.
وعاشرها: الكبر وهو في قوله: { ولا تمش في الأرض مرحا } [الإسراء: 37] فإن المشية بالخيلاء من الكبر فبدله بالتواضع بقوله: { إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا } [الإسراء: 37] أي: من الكبر فألزمه التواضع.
ثم قال: { كل ذلك } [الإسراء: 38] أي: الخطاب الخصال العشر التي ذكرنا في هذه الآيات العشر { كان سيئه عند ربك مكروها } [الإسراء: 38] أي: مانعا من العباد أن يصلوا إلى مقام العندية
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
[17.39-44]
وقال: { ذلك } [الإسراء: 39] أي: الذي ذكرنا من الآيات { ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة } [الإسراء: 39] المودعة فيها كما قدرنا بعضها، { ولا تجعل مع الله إلها آخر } [الإسراء: 39] أي: لا تنظر إلى هذه المانعات بنظر الهوى فيتعلق بشيء فيها يقطعك عن الله { فتلقى في جهنم } [الإسراء: 39] البعد { ملوما } [الإسراء: 39] بكل لسان { مدحورا } [الإسراء: 39] ومبعدا عن سعادة الأبد.
ثم أخبر عن خسارة الإنسان وخسارته بقوله تعالى: { أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا } [الإسراء: 40] يشير إلى كمال ظلومية الإنسان وكمال جهوليته، أما كمال ظلوميته فبأنهم ظنوا بالله سبحانه أنه من جنس الحيوانات التي من خاصيتها التوالد، ومن كمال جهولية الإنسان بأنهم لم يعلموا أن الحاجة إلى التوالد لبقاء الجنس، فإن الله تعالى باق أبدي لا يحتاج إلى التوالد لبقاء الجنس، ولم يعلموا أن الله منزه عن الجنس وليس الملائكة من جنسه، فإنه خالق أزلي أبدي وأن الملائكة هم المخلوقون، ومن كمال الظلومية والجهولية أنهم حسبوا أن الله تعالى إنما أصفاهم بالبنين واختار لنفسه البنات لجهله بشرف البنين على البنات فلهذا قال: { إنكم لتقولون قولا عظيما } [الإسراء: 40] أي: قولا ينبئ عن عظم أمر ظلوميتكم وجهوليتكم.
ثم قال: { ولقد صرفنا في هذا القرآن } [الإسراء: 41] أي: بالحكم والمواعظ والرموز والإشارات والدقائق والحقائق والترغيب والتشويق والتحبيب { ليذكروا } [الإسراء: 41] أي: ليذكروا يوم الميثاق والإنفاق على الوفاق { وما يزيدهم } [الإسراء: 41] الظلومية والجهولية { إلا نفورا } [الإسراء: 41] عن حظائر قدسنا ومجالس أنسنا.
وبقوله: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } [الإسراء: 42] يشير إلى أن الآلهة لا يخلو أمرهم إما كانوا أكبر منه أو كانوا أمثاله أو كانوا أدون منه فإن كانوا أكبر منه { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [الإسراء: 42] أي: طلبوا طريقا إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهرا أو غلبة ليكون لهم الملك لا له كما هو المعتاد من الملوك، وإن كانوا أمثاله لم يرضوا بأن يكون الملك لواحد مثلهم وهم جماعة معزولون عن الملك فأيضا نازعوه في الملك، وإن كانوا أدون منه فالناقص لا يصلح للإلهية إذا لابتغوا إلى ذي العرش الكامل في الألوهية سبيلا للخدمة والعبودية والقربة.
ثم قال: { سبحانه } [الإسراء: 43] أي: تنزيها أن يكون له غالب يمنعه أو مثل ينازعه { وتعالى عما يقولون علوا كبيرا } [الإسراء: 43] أي: هو أكبر وأعظم مما يظنون به ويتوقعون منه ومن عظمته.
{ تسبح له السموت السبع والأرض ومن فيهن } [الإسراء: 44] أي: تنزهه عما يقولون وعن كل نقيصة ذرات المكونات، وإجراء المخلوقات لمن له روح فبلسانه ولغته وهذا مما لا يفقهه العقلاء، وأما الجمادات فبلسان الملكوتي كما قال: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [الإسراء: 44] أي: بحمده على نعمة الإيجاد والتربية { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [الإسراء: 44].
واعلم أن الله تعالى أثبت لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوتا بقوله:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء
[يس: 83] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة والآخرة حيوان لا جماد كقوله:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت: 64] فأثبت بهذا الدليل لكل ذرة من ذرات الموجودات لسانا ملكوتيا ناطقا بالتسبيح والحمد تنزيها لصانعه وقادره وحمدا له على ما أولاه من نعمة، وبهذا اللسان نطق الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تنطق الأرض يوم القيامة.
وكما قال تعالى:
يومئذ تحدث أخبارها
[الزلزلة: 4] وبهذا اللسان نطق الحصى وتشهد أجزاء الإنسان وأبعاضه عليه يوم القيامة وبقوله:
أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء
[فصلت: 21] وبهذا اللسان نطقت السماوات والأرض حين
قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت: 11] فافهم جدا واغتنم.
ثم قال: { إنه كان حليما } [الإسراء: 44] أي: في الأزل إذ أخرج من العدم من يتولد منه أن يتخذ مع الله آلهة أخرى { غفورا } [الإسراء: 44] لمن تاب عن مثل هذه المقالات.
[17.45-48]
ثم أخبر عن إعجاز القرآن بالبرهان بقوله تعالى: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } [الإسراء: 45] يشير إلى أن من قرأ القرآن حق قراءته ارتقى إلى أعلى المراتب كما قال صلى الله عليه وسلم:
" يقال - يعني: لصاحب القرآن - اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها ".
قال أبو سليمان الخطابي: " جاء في الأثر أن عدد أي القرآن على عدد درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درج الجنة ".
قلت: واستيفاء جميع آي القرآن في الحقيقة هو التخلق بأخلاق القرآن، فالقرآن من أخلاق الله وصفاته والمتخلق بأخلاقه يكون متخلقا بأخلاق الله، وهذا يكون بعد العبور عن حجب الظلماني والنوراني متمكنا
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] فهو الذي جعل بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا.
وإنما قال: { حجابا مستورا } [الإسراء: 45] ولم يقل ساترا؛ لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل بالحجاب مستورا عن المنقطع، والله أعلم.
وفي قوله: { وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده ولوا على أدبرهم نفورا } [الإسراء: 46] إشارة إلى انحراف مزاج قلوب أهل الشرك وحصول المرض فيها وإزالة الصحة والسلامة عنها إذ يتفرقون عند استماع ذكر الواحد الأحد بالوحدانية والوحدة ولا يجدون حلاوة التوحيد؛ بل يجدون فيه المرارة لسوء المزاج.
{ نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } [الإسراء: 47] لأنا خلقناهم مستعدين لذلك كقوله:
ألا يعلم من خلق
[الملك: 14] وأنهم يستمعون بالهوى فيسمعون الأساطير والسحر والشعر، ولو استمعوا بالله لاستمعوا كلام الله وصفاته { إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } [الإسراء: 47].
[17.49-58]
فمن ظلمهم وصفوا اسم المسحور موضع المبعوث { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } [الإسراء: 48] بالسحر والشعر { فضلوا } عن طريق العقبى.
فلما كان حال البلوغ إلى بيته بقوله:
لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس
[النحل: 7] فكيف يكون حال أهل الوصول إليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" ما أوذي نبي مثل ما أوذيت "
فلما لم يصل أحد مقامه الذي وصل ما أوذي أحد في السير إلى الله والسير في الله والسير بالله مثل ما أوذي النبي صلى الله عليه وسلم، وإيذاء السائرين بإذابة وجودهم في السير ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال، وفي السير في الله ذوبان الصفات، وفي السير بالله ذوبان الذات، فافهم جدا.
[17.59-61]
ثم أخبر عن آيات إرساله الآيات بقوله تعالى: { وما منعنآ أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } [الإسراء: 59] يشير إلى اختصاص هذه الأمة بالرحمة والعناية كرامة لوجه حبيبه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأمم السالفة مثل ثمود وغيرها لما التمست الآيات من أنبيائهم فأرسل الله بها، ثم لم يؤمنوا وجحدوا أنها من عند الله كما قال: { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } [الإسراء: 59] ليؤمنوا فلم يؤمنوا بها وعقروها وكذبوا، جرت سنة الله على ألا يهلكهم ويعذبهم ويأخذهم نكال الآخرة والأولى، فلما التمست قريش من النبي الآيات مثل أن يجعل الله لهم الضفادع وغيرها.
كما قال تعالى: { وما منعنآ أن نرسل بالآيات } [الإسراء: 59] أي: وما منعنا الرحمة السابقة غضبا في الأزل أن نسعف ملتمسهم إلا أنا علمنا أنهم لا يؤمنون بها ولا يكذبون بها كما { كذب بها الأولون } [الإسراء: 59] فيقضي السنة التي لا تبديل لها أن تهلك أمتك كما أهلكنا الأولين، وقد سبقت لأمتك منا كرامة لك ألا نعذبهم وأنت فيهم.
{ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } [الإسراء: 60] أي: أحاط بما في نفوس الناس من الخير والشر علما فيعلم ما هو مقتضى كل نفس ولهذا قال: { وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } [الإسراء: 60] ولا يزيدهم التخويف إلا الطغيان؛ لأنه تعالى كان عالما بحال نفوس أهل الشقاوة، منهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا قص رؤياه عليهم أنهم يكذبونه، فجوز هذا التكذيب في حقهم؛ لأنه لم يكن بعد إرساله آية ملتمسة موجبة لهلاكهم ولم يجوزهم التكذيب بعد إرسال الآية الملتمسة الموجبة لهلاكهم فضلا منه ورحمة.
ثم أخبر عن فضل آدم على الملائكة بوجوب السجود بقوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا } [الإسراء: 61] إشارة إلى أن آدم عليه السلام كان مستحقا لسجود الملائكة؛ وذلك لأنه تعالى خلق آدم فتجلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت السجدة في الحقيقة للحق تعالى، وكان آدم عليه السلام بمثابة الكعبة قبلة السجود فتسجد الملائكة لاستعداد ائتمارهم بأوامر الحق وانتهائهم عن نواهي الحق، كقوله تعالى:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6] فدل الائتمار بأوامر الحق والانتهاء عن نواهيه عن السعادة الأزلية { إلا إبليس } [الإسراء: 61] فإنه
أبى واستكبر
[البقرة: 34] فدلت المخالفة والإباء على الشقاوة الأزلية، ومن شقاوة إبليس { قال أأسجد لمن خلقت طينا } [الإسراء: 61] اعتراضا وعجبا ونكرا وإنكارا فاستحق اللعن والطرد والبعد.
[17.62-66]
قال إبليس بعدها لعن وطرد وبعد إظهار العداوة وانتقاما للحقد وإقداما على الحسد { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } [الإسراء: 62] وفضلته بالخلافة والسجود { لئن أخرتن إلى يوم القيامة } [الإسراء: 62] يعني: على صفة الإغواء والإضلال { لأحتنكن ذريته } [الإسراء: 62] لأستولين على الأولاد بالإغواء، كما قال:
فبعزتك لأغوينهم أجمعين
[ص: 82] { إلا قليلا } [الإسراء: 62] يعني: من عبادك المخلصين.
{ قال اذهب } [الإسراء: 63] يعني: على طريقك السوء في الإغواء والإضلال { فمن تبعك منهم } [الإسراء: 63] على الضلالة { فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا } [الإسراء: 63] مكملا.
{ واستفزز من استطعت منهم بصوتك } [الإسراء: 64] أي: بتمويهات الفلاسفة وشبهات أهل الأهواء والبدع، وطامات الإباحية، وما يناسبها من مقالات أهل الطبيعة مخالفا للشريعة { وأجلب عليهم بخيلك } [الإسراء: 64] وهو كل راكب يركب الهوى، ويقال الدنيا { ورجلك } [الإسراء: 64] وهو كل ماش حريص على الدنيا وشهواتها طالب للذاتها { وشاركهم في الأموال } بتحصيلها من غير وجه بإسراف النفس وإنفاقها أو ممسكا لها بالبخل لإتلاف الأولاد { والأولاد } بتضييع زمانهم وإفساد استعدادهم في طلب الدنيا ورئاستها متغافلا عن تهذيب نفوسهم وتزكيتهم أو تأديبها وتوفيها عن الصفات المذمومة وتحليتها بالصفات المحمودة، وتعلمهم الفرائض والسنن والعلوم الدينية، وتحرضهم على طلب الآخرة والدرجات العلى، والنجاة من النار والدركات السفلى، { وعدهم } نيل المقصد الأعلى في الآخرة والأولى على البطالة وإتيان الهوى، { وما يعدهم الشيطان } بكرم الله وعفوه وغفرانه للذنوب والمعاصي من غير توبة وإنابة { إلا غرورا } [الإسراء: 64] كما قال تعالى:
ولا يغرنكم بالله الغرور
[لقمان: 33] أي الشيطان.
وفي قوله: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [الإسراء: 65] إشارة إلى أن عباد الله هم الأحرار عن رق الكونين وتعلقات الدارين فلا يستعبدهم الشيطان، فلا يقدر أن يتعلق بهم فيضلهم عن طريق الحق ويغويهم بما سواه { وكفى بربك وكيلا } [الإسراء: 65] لهم في ترتيب أسباب سعادتهم وتفويت أسباب شقاوتهم والحراسة عن الشيطان والهداية إلى الرحمن.
ثم أخبر عن أصناف ألطافه وأوصاف أعطافه بقوله تعالى: { ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر } [الإسراء: 66] يشير إلى فلك الشريعة يجريه في بحر الحقيقة، المعنى إن لم يكن فلك الشريعة ما تيسر لأحد العبور على بحر الحقيقة.
{ لتبتغوا من فضله } [الإسراء: 66] وهو جذبة العناية
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 21] يشير إلى أن جذبة العناية ليست بمكتسبة للخلق؛ بل هي من قبيل الفضل لقوله تعالى: { إنه كان بكم } [الإسراء: 66] في الأزل { رحيما } [الإسراء: 66] فضلا منه وكرما.
[17.67-69]
{ وإذا مسكم الضر في البحر } [الإسراء: 67] يعني: خلل في فلك الشريعة وخوفا من الغرق { ضل من تدعون } [الإسراء: 67] أي: بطل كل تدبير مدبر لنجاتكم { إلا إياه } [الإسراء: 67] أي: إلا الله.
{ فلما نجاكم إلى البر } [الإسراء: 67] وحسبتم الوصول إلى ساحل الوصال، حجبتم بحجاب الحسنات وحجب الوجدان { أعرضتم } [الإسراء: 67] عن الحق بالكفر، وأدبرتم بالخذلان ورجعتم بالخسران كما قال الجنيد: لو أقبل صديق على الله ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله، وخسران الإنسان في الخذلان والخذلان من نتائج الكفران كما قال تعالى: { وكان الإنسان كفورا } [الإسراء: 67].
وبقوله: { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } [الإسراء: 68] يشير إلى أهل السكون من ساكني بر البشرية أي: يا من سكنتم بر البشرية ولم تركبوا فلك الشريعة لتعبروا بحر الروحانية أفأمنتم أن يخسف بكم مذمومات صفات البشرية ولم تركبوا فلك الشريعة لتعبروا { أو يرسل عليكم حاصبا } [الإسراء: 68] أي: يمطر عليكم حصباء القهر { ثم لا تجدوا لكم وكيلا } [الإسراء: 68] يمنعكم من إصابة حصب قهرنا.
ثم قال: { أم أمنتم أن يعيدكم } بالماء { فيه } في البحر { تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح } [الإسراء: 69] أي: كاسرا من ريح البلاء لفلك الشريعة { فيغرقكم بما كفرتم } [الإسراء: 69] من كفران النعمة { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } [الإسراء: 69] يمنع عنكم سطوات قهرنا.
[17.70-75]
ثم أخبر عن بني آدم وحاله من الكرامة وما عليه من الغرامة بقوله تعالى: { ولقد كرمنا بني ءادم } [الإسراء: 70] أي خصصناهم بكرامة تخرجهم عن حيز الإشراك وهي على ضربين: جسدانية، وروحانية.
* فالكرامة الجسدانية: عامة يستوي فيها المؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده أربعين صباحا، وتصويره في الرحم بنفسه، وأنه تعالى صوره فأحسن صورته وسواه فعدله في أي: صورة ما شاء ركبه، ومشاه سويا على صراط مستقيم القامة آخذا بيديه آكلا بأصابعه مزينا باللحى والذوائب صانعا بأنواع الحرف.
* والكرامة الروحانية: على ضربين: عامة، وخاصة.
فالعامة: أيضا يستوي فيها المؤمن والكافر وهي أن كرمه بنفخه فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، وكلمه قبل أن خلقه بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172] فأسمعه خطابه وأنطقه بجوابه بقوله:
قالوا بلى
[الأعراف: 172] وعاهده على العبودية، وأولده على الفطرة، وأرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب ودعاه إلى الحضرة، ووعده الجنة وخوفه النار، وأظهر له الآيات والدلالات والمعجزات.
والكرامة الروحانية الخاصة: ما كرم به أنبياءه وأولياءه وعباده المؤمنين من النبوة والرسالة والولاية والإيمان للإسلام والهداية إلى الصراط المستقيم، وهو صراط الله والسير إلى الله وفي الله وبالله عند العبور على المقامات والترقي من الناسوتية بجذبات اللاهوتية، والتخلق بأخلاق الإلهية عند فناء الأنانية وبقاء الهوية.
كما قال تعالى: { وحملناهم في البر والبحر } [الإسراء: 70] أي: عبرنا بهم عن بر الجسمانية وبحر الروحانية إلى ساحل الربانية { ورزقناهم من الطيبات } [الإسراء: 70] وهي المواهب التي طيبها من الحدوث فيطعم بها من يبيت عنده ويسقيه بها، وهي طعام المشاهدات وشراب المكاشفات التي لم يذق منها الملائكة المقربون، أطعم بها أخص عباده في أواني المعرفة، وسقاهم بها في كاسات المحبة أفردهم بها عن العالمين؛ ولهذا أسجد لهم الملائكة المقربين.
وقال تعالى: { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } [الإسراء: 70] يعني: على الملائكة؛ لأنهم الخلق الكثير من خلق الله تعالى، وفضل الإنسان الكامل على الملك بأنه خلقه في أحسن تقويم وهو حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة، وقد تفرد به الإنسان عن سائر المخلوقات.
كما قال تعالى:
إنا عرضنا الأمانة على السموت والأرض والجبال
[الأحزاب: 72] أي: على أهلها
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72] الأمانة هي نور الله كما صرح به في قوله:
الله نور السموت والأرض
[النور: 35] إلى أن قال:
نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35] فافهم جدا واغتنم فإن هذا البيان أعز من الكبريت الأحمر وأغرب من عنقاء مغرب.
ثم أخبر عن المقبولين منهم والمردودين بقوله تعالى: { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } [الإسراء: 71] يشير إلى ما يتبعه كل قوم وهو إمامهم، فقوم: يتبعون الدنيا وزينتها وشهواتها فيدعون يا أهل الدنيا، وقوم: يتبعون الآخرة ونعيمها ودرجاتها فيدعون: " يا أهل الآخرة " ، وقوم: يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم محبة لله وطلبا لقربته ومعرفته فيدعون: " يا أهل الله " { فمن أوتي كتابه بيمينه } [الإسراء: 71] فهو أهل السعادة من أصحاب اليمين فيه إشارة إلى أن السابقين الذين هم أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم.
ثم قال: { فأولئك يقرؤون كتابهم } [الإسراء: 71] لأنهم أصحاب البصيرة والقرآن والدراية { ولا يظلمون فتيلا } [الإسراء: 71] في جزاء أعمالهم الصالحة فيه إشارة إلى أن أهل الشقاوة الذين هم أصحاب الشمال لا يقرءون كتابهم؛ لأنهم أصحاب العمى والجهالة { ومن كان في هذه } [الإسراء: 72] أي: في هذه القراءة والدراية بالبصيرة { أعمى } [الإسراء: 72] في الدنيا لقوله:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب
[الحج: 46] { فهو في الآخرة أعمى } [الإسراء: 72] لأنها
يوم تبلى السرآئر
[الطارق: 9] فيجعل الوجوه من السرائر فمن كان في سريرته أعمى هاهنا يكون في صورته أعمى للمبالغة؛ لأن عمل السريرة هاهنا كان قابلا للتدارك.
وقد خرج ثمة الأمر من التدارك فيكون الأعمى عن رؤية الحق { وأضل سبيلا } [الإسراء: 72] في الوصول إليه لفساد الاستعداد وإعواز التدارك.
ثم قال: { وإن كادوا ليفتنونك } [الإسراء: 73] أي: من عمى قلوبهم كادوا ليسترونك { عن الذي أوحينآ إليك } [الإسراء: 73] بالتغيير والتبديل { لتفتري علينا غيره } [الإسراء: 73] أي: وفق طباعهم في الضلالة وميلان نفوسهم إلى الدنيا وهي الضلالة عن الهدى { وإذا لاتخذوك خليلا } [الإسراء: 73] إذ وافقتهم في الضلالة { ولولا أن ثبتناك } [الإسراء: 74] بالقول الثابت وهو قول: لا إله إلا الله إلى أن بلغناك مقام معرفة حقيقة لا إله إلا الله بقولنا:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19] وطهرنا قلبك من لوث صفات البشرية { لقد كدت تركن إليهم } بها إن لم يطهرك عنها بقولنا:
واستغفر لذنبك
[محمد: 19] { شيئا قليلا } وإنما سماه قليلا؛ لأن روحانية النبي صلى الله عليه وسلم كانت في أصل الخلقة غالبة على بشريته مؤيدة بتأييد:
" أول ما خلق الله روحي "
إذ لم يكن مع روحه { شيئا قليلا } ما يحجبه عن الله فشرفه بتشريف
" كنت نبيا وآدم بين الماء والطين "
فمعنى الكلام: لولا التثبيت وقوة النبوة ونور الهداية وأثر نظر العناية، لكنت تركن إلى أهل الأهواء بهوى النفسانية بمنافع الإنسانية قدرا يسيرا لغلبة الروحانية وخمود نار البشرية.
ثم قال: { إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } [الإسراء: 75] يعني: بشؤم ميل نفسك إلى الباطل ورغبتها عن الخلق نحي نفسك، وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها وغلبتها على روحك ونميت قلبك، وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وعجزه وبعده عن الحق { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } [الإسراء: 75] يمنع عذابنا منك.
[17.76-80]
وفي قوله تعالى: { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } [الإسراء: 76-77] إشارة إلى أن من سنة الله تعالى على قانون الحكمة القديمة البالغة في تربية الأنبياء والمرسلين، أن يجعل لهم أعداء ليبتليهم بهم في إخلاص إبريز جواهرهم الروحانية الربانية عن غش أوصافهم النفسانية الحيوانية.
كما قال تعالى:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شآء ربك ما فعلوه
[الأنعام: 112] ثم قال: { ولا تجد لسنتنا تحويلا } [الإسراء: 77] أي: تبديلا؛ لأنها مبنية على الحكمة والمصلحة والإرادة القديمة.
ثم أخبر عن طريق خلاص الأنبياء والأولياء ورطة الابتلاء بقوله تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [الإسراء: 78] يشير إلى إدامة الصلاة بالقرب الحاضر من دلوك الشمس وهو طول النهار { إلى غسق اليل } [الإسراء: 78] وهو طول الليل { وقرآن الفجر } [الإسراء: 78] أي: إلى صلاة الفجر يريد استدامة الليل والنهار بالحضور والتناجي مع الله، وهذه صلاة أخص الخواص الذين هم في صلاتهم دائمون.
ثم قال: { إن قرآن الفجر كان مشهودا } [الإسراء: 78] يعني: من مراقب ليله ونهاره حاضرا بقلبه مع الله يكون له عند الصباح شهود الشواهد الحق، بل الحق مشهود له.
ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم من أمته وسائر الأنبياء والرسل بزيادة فضيلة ينالها في إدامة الصلاة وصرح له صلاة الليل، فقال: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } [الإسراء: 79] أي: زيادة لك من دون سائر الخلق هذه الفضيلة، وهي قوله: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [الإسراء: 79] والمحمود هو الله تعالى فيشير المقام المحمود إلى قيامة بالله لا بنفسه، ولهذا عبر عن المقام المحمود بالشفاعة؛ لأن الله تعالى قال:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة: 255] أي: قائما به ولما لم يكن دخول هذا المقام بكسب العبد كسائر المقامان وهو يتعلق بجذبة الحق فعلم النبي صلى الله عليه وسلم طريق تحصيل الجذبة على مقتضى قوله:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60].
بقوله: { وقل رب أدخلني مدخل صدق } [الإسراء: 80] يشير إلى السير في الله بالله { وأخرجني } [الإسراء: 80] من حولي وقوتي وأنانيتي { مخرج صدق } [الإسراء: 80] بأن يخرجني منك بك { واجعل لي من لدنك } [الإسراء: 80] أي: منك لا من غيرك { سلطانا نصيرا } [الإسراء: 80] بتجلي صفات جمالك، وفي الآية دليل على أن لكل ذي مقام لا يصل إلى مقام إلا بسعي ملائم لذلك، كما قال تعالى:
ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها
[الإسراء: 19] أي: سعيا يلائم وصول درجات الجنان.
وروي أن
" رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض حاجة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تريد " فقال: " مرافقتك في الجنة " ، فقال صلى الله عليه وسلم: " أو غير ذلك " قال الرجل: " بل مرافقتك في الجنة " ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: " فأعني بكثرة السجود " ".
[17.81-87]
ثم أخبر عن زهوق صفات البشرية عند تجلي صفات الربوبية بقوله تعالى: { وقل جآء الحق } [الإسراء: 81] يشير إلى كل ما يجيء من الحق تعالى من الواردات والطوالع والشواهد والأنوار وتجلي صفات الجمال وتجلي صفات الجلال.
وبقوله: { وزهق الباطل } [الإسراء: 81] يشير إلى كل ما يكون من الخواطر والتفكر والتعقل، والأوصاف والأخلاق والذوات، فإن في مجيء كل واحد مما من الحق زهوق واحد مما من الخلق { إن الباطل } [الإسراء: 81] وكل ما خلا الله { كان زهوقا } [الإسراء: 81] زائلا، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أصدق ما قالته العرب قول لبيد:
ألا كل ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" بل نعيم الجنة فإنه لا يزول ".
وبقوله: { وننزل من القرآن ما هو شفآء } [الإسراء: 82] يشير إلى أن كلام الحبيب شفاء القلوب كما قيل: إن الأحاديث من سلمى تسليني، وإن من القرآن ما هو إيعاد بالوصلة والوصال، فهو شفاء لمعلول الهجر والفراق، وأين المدامة من ريقها؛ ولكن أعلل قلبا عليلا، قال موسى عليه السلام وهو معلوم القرآن، وكان يرى بشفائه في الوصال، فقال:
أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143] فكان الله تعالى يشفيه بكلامه فقال له:
إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ مآ آتيتك
[الأعراف: 144] فإن فيه تسكين ثائرة شوقك في الحال
وكن من الشاكرين
[الأعراف: 144] لا يزيد في نعمة اللقاء في المآل
فلا تكن في مرية من لقآئه
[السجدة: 23].
وأما حال الحبيب نبينا صلى الله عليه وسلم فهو المحبوب المجذوب غريق ببحر الوصال، وقد شفي قيل أن يستشفى، فقيل له:
ألم تر إلى ربك
[الفرقان: 45] { ورحمة } [الإسراء: 82] له و { للمؤمنين } [الإسراء: 82] إذا أرسله الله رحمة للعالمين { ولا يزيد الظالمين } [الإسراء: 82] منكري أرباب حقائق القرآن وأسراه { إلا خسارا } [الإسراء: 82] بأن يخسروا الإيمان التقليدي بالإنكار على أهل الإيمان الحقيقي، بل على أهل العناية { وإذآ أنعمنا على الإنسان } [الإسراء: 83] بالإيمان التقليدي { أعرض } [الإسراء: 83] عن أهل الحق وأرباب الحقائق { ونأى بجانبه } [الإسراء: 83] تعظيما لنفسه وتباعدا من أهل الحق مستأنفا للاقتداء بهم.
{ وإذا مسه الشر } [الإسراء: 83] بشبهة في الدين من كلمات أهل الأهواء والبدع { كان يئوسا } [الإسراء: 83] يقنط عن إيمانه بأدنى شك داخله في دينه.
{ قل كل يعمل على شاكلته } [الإسراء: 84] وهي ما خلق عليه من درجات السعادة كالمؤمنين الموحدين قابلي كمالات الدين من حقائق القرآن والتخلق بأخلاقه، ومن دركات الشقاوة كالمنافقين المشركين منكري حقائق القرآن وأربابها { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } [الإسراء: 84] إلى الحق الحقيقة.
ثم أخبر عن الروح الذي به كل فتوح بقوله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85] يشير إلى أن الروح من عالم الأمر، فإن الله تعالى خلق العوالم كثيرة كما جاء في الخبر بروايات مختلفة، فقال في بعض الروايات: " خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم " ، وقد مر تفصيلها ولكنه جعله محصورة في عالمين اثنين وهما الخلق والأمر، كما قال تعالى:
ألا له الخلق
[الأعراف: 54]، تبارك الله رب العالمين.
عبر عن عالم الدنيا: وهو ما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس بالخلق.
وعبر عن عالم الآخرة: وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة وهي: العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر.
فعالم الأمر هو: الأوليات العظائم التي خلقها الله تعالى للبقاء من الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار، وسمي عالم الأمر أمرا؛ لأنه أوجده بأمر كل من لا شيء بلا واسطة شيء كقوله:
خلقتك من قبل ولم تك شيئا
[مريم: 9] ولما كان أمره قديما، فما يكون بالأمر القديم كان باقيا، وإن كان حادثا، وتسمى عالم الخلق خلقا؛ لأنه أوجده بالوسائط من شيء كقوله:
وما خلق الله من شيء
[الأعراف: 185] فكما أن الوسائط كانت مخلوقة من شيء مخلوق سماه خلقا خلقه الله للفناء فتبين أن قول: { الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85] إنما هو لتعريف الروح معناه إنها منه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء، وإن قوله: { قل الروح من أمر ربي } [الإسراء: 85] ليس للاستبهام، كما ظن جماعة أن الله تعالى أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه حتى قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالما به جل منصوب حبيب الله ونبيه صلى الله عليه وسلم من أن يكون جاهلا بالروح مع أنه عالم بالله وقد من الله عليه بقوله:
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113] أحسب أن علم الروح ما لم يكن يعلمه، ألم يخبر الله أنه علمه ما لم يكن يعلم، فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظارا الموحي حين سألته اليهود فقد كان لغموضه يرى في معنى الجواب دقة لا يفهمها اليهود لبلادة طباعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم، وقال:
وما يعقلهآ إلا العالمون
[العنكبوت: 43] وهم أرباب السلوك والسائرون إلى الله.
فإنهم لما عبروا: عن النفس وصفاتها ووصلوا إلى حريم القلب عرفوا النفس بنور القلب.
ولما عبروا: بالسير عن القلب وصفاته ووصلوا إلى مقام السر عرفوا علم السير للقلب، وإذا عبروا: عن السر ووصلوا إلى عالم الروح عرفوا بنور الروح السر.
وإذا عبروا: عالم الروح ووصلوا إلى منزل الخفي عرفوا بشواهد الحق الروح، وإذا عبروا: عن منزل الخفي ووصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة عرفوا بأنوار مشاهدات صفات الجمال الخفي.
وإذا فنوا بسطوات تجلي صفات الجلال عن آنية الوجود ووصلوا إلى جنة بحر الحقيقة كوشفوا بهوية الحق تعالى، وإذا استغرقوا في بحر الهوية وأبقوا ببقاء الألوهية عرفوا الله بالله ووحدوه وحين وجدوه هذا أوان إراءة ماهية كل شيء، كما هي هذا وقت
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53] فحينئذ إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح، وقد تحقق للعبد مقام
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش "
ففي هذه الحالة كيف يبقى بمعرفة الروح خطر عند من هذه أحواله، وهو مع هذه الرتبة العلية والمواهب السنية من لواقط سواقط جنات سنبلات يبادر بوارد النبوة ونوادر الرسالة؟! فكيف بحال سيد المرسلين وخاتم النبيين وحبيب رب العالمين وأفضل الأولين والآخرين صلوات الله عليه وآله أجمعين في معرفة الروح، وهو الذي يقول:
" علمت ما كان وما سيكون "
وما أنا إذا أسرع في شرح معرفة الروح بما فتح الله علي ومنحني من الفتوح، كما يشهد به الكتاب والسنة والأخبار المروية والآثار المرضية، إن شاء الله عصمني الله من الخطأ والخلل، وعفا عني الشهود الذلل بفضله وكرمه.
فاعلم أن الروح الإنساني وهو أول شيء تعلقت به القدرة جوهرة نورانية ولطيفة ربانية من عالم الأمر، وعالم الأمر وهو الملكوت الذي خلق من لا شيء وعالم الخلق وهو الملك الذي خلق من شيء، كقوله تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السموت والأرض وما خلق الله من شيء
[الأعراف: 185]، فالعالم عالمان يعبر عنهما بالدنيا والآخرة، والملك والملكوت والشهادة والغيب والصورة والمعنى والخلق والأمر الظاهر والباطن والأجسام والأرواح ويراد بهما ظاهر الكون وباطنه، فثبت بالآية أن الملكوت الذي هو باطن الكون خلق من لا شيء إذ ما عداه من الملك خلق من شيء.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله جوهرة وأول ما خلق الله روحي "
، وفي رواية:
" نوري "
وقوله:
" أول ما خلق الله العقل وأول ما خلق الله القلم ".
وقول بعض الكبراء من الأئمة: إن أول المخلوقات على الإطلاق ملك كروبي يسمى العقل وهو صاحب القلم القلب بدليل توجه الخطاب عليه في قوله:
" أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر "
كما جاء في الحديث، ولما سواه فلما قال له:
" اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة "
وتسميته قلما، كتسمية صاحب السيف سيفا.
وقد جاء في الخبر أن الروح ملك، قيل لخالد بن الوليد: سيف الله وهو أول لقب في الإسلام.
وقول الله تعالى:
يوم يقوم الروح والملائكة صفا
[النبأ: 38] وقد جاء في الخبر أن الروح ملك يقوم صفا والملائكة صفا، فلا تبعد أن يكون هو الملك العظيم الذي هو أول المخلوقات، وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم لقوله:
" أول ما خلق الله روحي "
ولا يحتمل أن يكون المخلوق الأول المطلق إلا واحدا؛ لأن الشيئين المغايرين لا يكون كل واحد منهما أولا في التكوين والإيجاد على الإطلاق؛ إذ لا يخلو إما أحدثا مصاحبين أو أحدثا متعاقبين، فإن أحدثا مصاحبين معا فلا يختص أحدهما من الآخر بالأولية فلا يكون واحد منهما أولا على الانفراد، وإن أحدثا متعاقبين يكون المبتدأ أولا والمتعاقب ثانيا؛ فيكون الأول واحدا منهما لا محالة ولا يجوز الخلاف في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي جاء بالصدق
وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى
[النجم: 3-4] وأنه صلى الله عليه وسلم قد أثبت الأوليات فتعين لنا أن نحمل كلامه على المخلوق الأول وهو مسمى واحد له أسماء مختلفة، فبحسب كل صفة فيه سمي باسم آخر.
وقد كثرت الأسماء والمسمى واحد وهو الأصل وما سواه تبعا له فلا ريب في أن أصل الكون كان النبي صلى الله عليه وسلم لقوله:
" لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك "
فهو أولى أن يكون أصلا، وما سواه أولى أن يكون تبعا له؛ لأنه كان بالروح بذر شجرة الموجودات، فلما بلغ أشده أربعين سنة كان بالجسم والروح ثمرة شجرة الموجودات وهي سدرة المنتهى، فكما أن الثمرة تخرج من نوع الشجرة كان خروجه إلى
قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9] ولهذا قال:
" نحن الآخرون السابقون "
يعني: الآخرون بالخروج كالثمرة، والسابقون بالخلق كالبذر، فيلزم من ذلك أن يكون روحه صلى الله عليه وسلم أول شيء تعلقت به القدرة، وأن يكون هو المسمى بالأسماء المختلفة، فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة، كما جاء في الخبر:
" أول ما خلق الله جوهرة "
، وفي رواية:
" درة فنظر إليها فذابت "
فخلق منها كذا وكذا، وباعتبار نورانيته سمي نورا، وباعتبار وفور عقله سمي عقلا، وباعتبار غلبات الصفات الملكية عليه سمي ملكا، وباعتبار أنه صاحب القلم سمي قلما كما ذكرناه، وإذا أمعنت النظر وجدت كل وصف بالعقل.
وحكي عنه خاصية من خواص روحه صلى الله عليه وسلم وهو قوله:
" أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر "
وهذا حال روحه صلى الله عليه وسلم إذ قال له:
" أقبل " إلى الدنيا { رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] " فأقبل، ثم قال أدبر "
أي:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] " فأدبر " عن الدنيا وراجع ربه ليلة المعراج، ثم قال للعقل:
" وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إلي منك "
وهذا حاله صلى الله عليه وسلم أنه كان حبيب الله، وأحب الخلق إليه، وقوله تعالى للعقل:
" بك أعرف، وبك آخذ، وبك أعطي، وبك أعاقب، وبك أثيب "
فهذا كله حاله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من لم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة لم يعرف الله ولو كان له ألف دليل على معرفة الله فمعناه:
بمعرفتك أعرف أي: من عرفك بالنبوة عرفني بالربوبية.
" وبك آخذ " أي: آخذ طاعة من أخذ منك ما أتيته من الدين والشريعة.
" وبك أعطي " أي: بشفاعتك أعطي درجات أهل الدرجات، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم ".
" وبك أعاقب وبك أثيب " وذلك لقوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
[آل عمران: 81].
وذلك أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بعثه بأن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويوصي أمته بالإيمان به ونصرة دينه، فمن آمن به من الأمم الماضية قبل بعثه أو بعد بعثه فهو من أهل الثواب، ومن لم يؤمن به من الأولين والآخرين فهو من أهل العقاب، ووضح فيه قوله:
" بك أعاقب وبك أثيب ".
فكل ما ذكرناه في معرفة الروح فهو حال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاله؛ فكيف يظن به أنه لم يكن عارفا بالروح، والروح هو نفسه؟! وقد قال:
" من عرف نفسه فقد عرف ربه "
وذلك أن الله تعالى خلق آدم وبنيه، وجعلهم خلفاء في الأرض، كما قال:
ويجعلكم خلفآء الأرض
[النمل: 62] وهذا أحد كرامة بني آدم، ومن شرط الخلافة أن يكون المستخلف يستجمع أوصاف المستخلف بالنيابة إلا ما اختص به المنوب بالأصالة مثل القدم والأحدية والصمدية والسلامة عن كل عيب ونقصان، فالروح خليفة الله وهو مجمع صفاته الذاتية له كالحياة والقدرة، والسمع والبصر والكلام، والعلم والإرادة والبقاء، والجسد خليفة الروح وهو مجمع صفاته باجتماعها في الروح علمنا أنه خليفة الله، وبذلك علمنا أن الجسد خليفة الروح لأنا وجدنا الجسد قبل اتصال الروح به وبعد انفصاله عنه خاليا عن هذه الصفات علمنا أنه بخلافة الروح اتصف بهذه الصفات، ولو لم يكن الروح متصفا بهذه الصفات لخلافة الحق تعالى لم يكن الجسد بها متصفا فبقي أن الروح باق أبدا، والجسد فان.
قلنا: وذلك لأن البقاء الأبدي من خاصية الروح فهو مختص به بالأصالة دون خليفته، كما أن الله تعالى اختص بالبقاء الأزلي والأبدي بالأصالة دون خليفته وهو الروح؛ فإنه حادث أبدي دون أزلي.
ثم اعلم أن الأرواح كلها خلقت من روح النبي صلى الله عليه وسلم وأن روحه أصل الأرواح، وإنها كما كان آدم ولهذا سمي أميا؛ أي: إنه أم الأرواح، فكما كان آدم عليه السلام أبا البشر فكان النبي صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح، وإنها كما كان آدم أبا حواء وأمها وذلك أن الله تعالى لما كان روح النبي صلى الله عليه وسلم:
" كان الله ولم يكن معه شيء "
إلا روحه، وما كان شيء آخر ينسب روحه إليه أو يضاف إليه غير الله، فلما كان روحه أول باكورة أثمرها الله تعالى بإيجاده من شجرة الوجود، وأول شيء تعلقت به القدرة وشرفه بتشريف إضافته إلى نفسه فسماه
روحي
[الحجر: 29] كما سمي أول بيت من بيوت الله وضع للناس، وشرفه بالإضافة إلى نفسه، فقال: { بيتي } ، ثم حين أراد أن يخلق آدم سواه ونفخ فيه من روحه أي: من الروح المضاف إلى نفسه وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم كما قال:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29] فكان روح آدم من روح النبي - عليهما السلام - بهذا الدليل، وكذلك أرواح أولاده لقوله تعالى:
ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه
[السجدة: 8-9] وقال تعالى في مريم عليها السلام:
فنفخنا فيها من روحنا
[الأنبياء: 91] فكانت النفخة لجبريل وروحها من روح النبي صلى الله عليه وسلم المضاف إلى الحضرة، وهذا أحد أسرار قوله صلى الله عليه وسلم:
" آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ".
ثم قوله تعالى: { ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا } [الإسراء: 85] هذا راجع إلى اليهود الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح يعني: أنكم سألتموني وقد أجبتكم أنه { من أمر ربي } [الإسراء: 85] ولكنكم ما تفهمون كلامي؛ لأني أخبركم عن عالم الآخرة وعن الغيب وأنتم أهل الدنيا والحس، والدنيا وعلمها قليل بالنسبة إلى الآخرة وعلمها، فإنكم عن علمها غافلون كقوله:
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
[الروم: 7].
ثم أخبر عن عزة الفراق وعزة الرحمن بقوله تعالى: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } [الإسراء: 86] إشارة إلى أنه ليس في استعداد الإنسان ولا في مخلوق غيره أن يأتي بكلام جامع مثل كلام الله تعالى لعباده في غاية الجزالة والفصاحة، وإشارة في غاية الدقة والحذاقة، ولطائف في غاية اللطف واللطافة، وحقائق في غاية الحقية والنزاهة، وكما قال علي رضي الله عنه: " ما من آية إلا ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع " ، فالظاهر للتلاوة، والباطن للفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العندية.
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: عبارة القرآن للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء.
وقال: العبارة للسمع، والإشارة للعقل، واللطائف للمشاهدة، والحقائق للاستسلام.
أي: لا سبيل للجوهر الإنساني إذا استغرق في بحر حقائقه بالخروج إلى ساحله أبد الآباد إلا أن يستسلم لحقائقه؛ لأنه لا نهاية لها، فإذا تحقق أنه ليس لمخلوق أن يأتي بكلام جامع مثل كلام الخالق وهو غير مخلوق، ولو ذهب به الله عن قلوب أنبيائه لا يجدون ناصرا ينصرهم على رده كقوله تعالى: { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك } [الإسراء: 86-87] أي: ولكن الله قادر على أن يرد إليك برحمته { إن فضله كان } [الإسراء: 87] في الأزل { عليك كبيرا } [الإسراء: 87] يسعك فضله من الأزل إلى الأبد.
[17.88-89]
ثم قال تعالى شاهدا أو دليلا على ما قررناه لكلامه: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } [الإسراء: 88] أي: جامعا لما ذكرناه { لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم } [الإسراء: 88] من الإنس والجن { لبعض ظهيرا } [الإسراء: 88] أمينا وناصرا.
ولفظ الجن يتناوله الملائكة وكل من لم يدركه حس البصر لأنهم مستورون عن البصر يقال : جن بترسه إذا استتر به؛ ولهذا قيل للترس المجن، وإنما قلنا للباقون بمثله؛ لأنه ليس لكلام الله مثل؛ إذ كلامه صفته، وكما أنه ليس لذاته تعالى مثل وكذلك ليس لصفاته مثل؛ لأنها قديمة قائمة بذاته تبارك وتعالى وصفات المخلوق مخلوقة قابلة للتغيير والفناء.
ثم قال: { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [الإسراء: 89] أي: وجهنا ودبرنا لمن نسي الطريق إلينا في معاني هذا القرآن وأسراره وإشاراته من كل طريقة وسبب وإرشاد يتعلق بالروح إلينا { فأبى أكثر الناس } [الإسراء: 89] الرجوع إلينا وما اختاروا { إلا كفورا } [الإسراء: 89] جحودا أو إنكارا أو إصرارا على كفران نعمة الدين والقرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
[17.90-94]
وبقوله تعالى: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب } [الإسراء: 90-91] الآية إلى قوله: { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [الإسراء: 93] يشير إلى أنهم أرباب الحس الحيواني يطلبون الإعجاز من ظاهر المحسوسات ما لهم بصيرة يبصرون بها شواهد الحق ودلائل النبوة، وإعجاز عالم المعاني بالولاية الروحانية والقوة الربانية؛ فيطلبون منه تزكية النفوس، وتصفية القلوب وتحلية الأرواح، وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب؛ لينبت منها نخيل المشاهدات أو أعناب المكاشفات في جنات المواصلات { قل سبحان ربي } [الإسراء: 93] أي: هو القادر على ملتمسكم، والحكيم بصلاحية الأحوال والأمور إن يشاء يبذل مسئولكم ويعطي مأمولكم { هل كنت إلا بشرا } [الإسراء: 93] مثلكم { رسولا } [الإسراء: 93] من الله مبلغا رسالته مؤدبا بآداب العبودية، مستسلما لأحكام الربوبية.
ثم أخبر عن أصل ضلالتهم أنه من غاية جهالتهم، بقوله تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } [الإسراء: 94] إشارة إلى أن أهل النسيان والغفلة الذين لم يبلغوا بعد مبلغ الإنسان الكامل ولا مبلغ الرجال البالغين، ومن { كتب } الله
في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22] لا يعرفون الأنبياء والرسل، وما لهم عند الله من المقامات العلية والأحوال المرضية السنية، وما أنعم الله عليهم من القربات والكمالات مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يعدونهم من أبناء جنسهم ويحسبون أن الملائكة أعلى درجة منهم وأجل منهم منزلة عند الله، وأنهم عن معرفة رتبة الإنسان الكامل بمعزل والله جعله مسجودا للملائكة المقربين لما أودع فيه من سر الخلافة، فيختارون الملائكة على الأنبياء كما { قالوا } [الإسراء: 94] متعجبين: { أبعث الله بشرا رسولا } [الإسراء: 94].
[17.95-98]
وأرادوا بذلك أن الرسالة بالملائكة أولى وأحق حتى أجابهم الله بقوله: { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا } [الإسراء: 95] يشير به إلى أنه لو كان الملك مستأهلا للخلافة في الأرض لكنا نزلنا عليهم من السماء رسولا من الملائكة.
{ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } [الإسراء: 96] بأنه مستعد للرسالة والملك { إنه كان } [الإسراء: 96] في الأزل { بعباده } [الإسراء: 96] الذين يخلقهم { خبيرا } [الإسراء: 96] بما جبلهم الله عليه { بصيرا } [الإسراء: 96] بما يتولد منهم { ومن يهد الله } [الإسراء: 97] روحه عند رشاش نوره على الأرواح بإصابة النور { فهو المهتد } [الإسراء: 97] إلى صراط مستقيم الدين القويم، بقبول دعوة الأنبياء وغيرهم من بيديه متابعتهم { ومن يضلل } [الإسراء: 97] بإخطاء ذلك النور { فلن تجد لهم أوليآء } [الإسراء: 97] في الهداية من الأنبياء وغيرهم { من دونه } [الإسراء: 97] أي: من دون الله يشير به إلى أن الهداية في البداية مبنية على إصابة النور عند رشاشه؛ فمن لم يصب ذلك النور وأخطأه بقى في ظلمة الضلالة، وليس لأحد أن يخرجه منها إلى نور الهداية إلا الله تعالى؛ فإنه الهادي في البداية والنهاية، وهو الولي الذي يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور من الأزل إلى الأبد، واستوى عنده الأزل والأبد، وكل وقت له أزل وأبد.
{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما } [الإسراء: 97] لأنهم كانوا يعيشون في الدنيا مكبين على وجوههم في طلب السفليات من الدنيا وزخارفها وشهواتها، عميا عن رؤية الحق، بكما من قول الحق، صما عن استماع الحق؛ وذلك لعدم إصابة النور
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء: 72] وقال صلى الله عليه وسلم :
" يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه ".
ثم قال: { مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا } [الإسراء: 97] لأنهم كانوا في جهنم الحرص والشهوات، كلما سكنت فار بشهوة باستيفاء حظها زادوا سعيرها باشتغال طلب شهوة أخرى.
{ ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا } [الإسراء: 98] يشير إلى أنهم لو كانوا مؤمنين بالحشر والنشر ما أكبوا على جهنم الحرص على الدنيا وشهواتها، وما أعرضوا عن الآيات البينات التي جاء بها الأنبياء - عليهم السلام-.
[17.100-104]
{ أولم يروا أن الله الذي خلق السموت والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا } [الإسراء: 99] يشير بقوله: { أولم يروا } [الإسراء: 99] إلى عمى بصيرتهم أي: لم يروا، لأنهم لو يرون الله خالق السماوات والأرض؛ ليرونه قادرا على إعادة الأموات وإحيائهم { فأبى الظالمون } [الإسراء: 99] من عماهم إلا الجحود والإنكار.
{ قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق } [الإسراء: 100] يعني لو أنتم تقدرون على ما أنا قادر عليه من إيجاد الخلق ورزقهم، وإيصال الخير إليهم - وأنت على خشية طبيعة الإنسانية - لبخلتم به وخشيتم نفاذ ما عندي من خوف البشرية { وكان الإنسان قتورا } [الإسراء: 100] أي: خلق بخيلا ممسكا غير منفق إلا يسيرا عند الضرورة.
ثم أخبر عن إنكار الإنسان الآيات والمعجزات بقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [الإسراء: 101] يشير إلى الآيات التي تدل على نبوته فيما يتعلق بنفسه خاصة منها إلقاؤه في اليم، وإخراجه منه، وتربيته في حجر عدوه فرعون، وتحريم المراضع عليه ورده إلى أمه، وإلقاء المحبة عليه، واصطناعه لنفسه، وإيناسه النار من جانب الطور، والنداء من الشجرة
أن يموسى إني أنا الله
[القصص: 30]، واستماع كلام الله، وقوة حمل الخطاب والجواب، وأعظم الآيات جرأته على طلب الرؤية، وإجابته بالتجلي، وصعقه منه، وإفاقته من الصعقة، وإحلال العقدة من لسانه، وإلقاء النور على وجهه، واشتعال النار قلنسوته عند الغضب، واليد البيضاء وغيرها من الآيات.
{ فسئل بني إسرائيل إذ جآءهم } [الإسراء: 101] يعني : موسى بهذه الآيات هل راؤها واستدلوا بها وآمنوا عليها؟ إلا أهل الحق بمن جعلهم الله أئمة يهتدون بأمره لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون { فقال له فرعون إني لأظنك يموسى مسحورا } [الإسراء: 101] يعني: لما كان فرعون من أهل الظن لا من أهل اليقين، رآه بنظر الظن الكاذب ساحرا، ورأى الآيات سحرا، قال موسى: { لقد علمت } [الإسراء: 102] أي: لو نظرت بنظر العقل لعلمت أنه { مآ أنزل هؤلاء } [الإسراء: 102] يعني: الآيات { إلا رب السموت والأرض } [الإسراء: 102] أي: بلا بصيرة وعقل.
والظن ظنان: ظن كاذب، وظن صادق، وكان ظن فرعون كاذبا، وظن موسى عليه السلام صادقا { فأراد } [الإسراء: 103] فرعون من نتائج ظنه الكاذب { أن يستفزهم } [الإسراء: 103] أي: يخرج موسى وقومه { من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا } [الإسراء: 103] ونجينا موسى وقومه من نتائج ظنه الصادق { وقلنا } [الإسراء: 104] لهم { من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض } [الإسراء: 104] يعني: ديارهم ومساكنهم { فإذا جآء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا } [الإسراء: 104] أي: يلف الكافرون بالمؤمنين لعلهم ينجوهم من العذاب، فيخاطبون بقوله تعالى:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس: 59] ولا ينفعهم التلفف، بل يقال لهم:
فريق في الجنة وفريق في السعير
[الشورى: 7].
[17.105-111]
ثم أخبر عن القرآن وما فيه من الحق والفرقان بقوله تعالى: { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } [الإسراء: 105] إشارة إلى أن إنزال القرآن كان بالحق لا بالباطل؛ وذلك لأنه تعالى لما خلق الأرواح المقدسة
في أحسن تقويم
[التين: 4]، ثم بالنفخة ردها إلى
أسفل سافلين
[التين: 5] وهو قالب الإنسان احتاجت الأرواح في الرجوع إلى أعلى عليين قرب الحق وجواره إلى حبل يعتصم به بالرجوع؛ فأنزل الله القرآن وهو الحبل المتين وقال:
واعتصموا بحبل الله
[آل عمران: 103].
{ وبالحق نزل } [الإسراء: 105] ليضل به أهل الشقاوة بالرد والجحود والامتناع عن الاعتصام به، ويبقي به في الأسفل حكمة بالغة منهم، ويهدي به أهل السعادة بالقبول والإيمان والاعتصام به، والتخلق بخلقه إلى أن يصل إلى كمال قربه، فيعتصم به كما قال:
واعتصموا بالله هو مولاكم
[الحج: 78].
ومآ أرسلناك
[الفرقان: 56] يا محمد
إلا مبشرا
[الفرقان: 56] لأهل السعادة بسعادة الوصول والعرفان عند التمسك بالقرآن
ونذيرا
[الفرقان: 56] لأهل الشقاوة بشقاوة البعد والحرمان والخلود في النيران عند الانفصام عن حبل القرآن وترك الاعتصام به { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس } [الإسراء: 106] أي: على أهل الغفلة والنسيان { على مكث } [الإسراء: 106] وهذا كمال العناية بأن فرقه آية آية وسورة سورة في الإنزال بالتدريج ليعلموا بها ويتخلقوا بالتأني والتدبر.
{ ونزلناه تنزيلا } [الإسراء: 106] على قانون الحكمة ليبلغ به أهل السعادة والشقاوة إلى أعلى درجات القرب وأسفل دركات البعد، وإظهار اللطف والقهر.
ثم قال: { قل } [الإسراء: 107] لأهل السعادة { آمنوا به } [الإسراء: 107] إظهارا للطفنا أو { قل } [الإسراء: 107] لأهل الشقاوة { أو لا تؤمنوا } [الإسراء: 107] إظهارا لقهرنا، فإن الحكمة في تكوين الفريقين إظهار اللطف والقهر { إن الذين أوتوا العلم } [الإسراء: 107] يعني: العلماء بالله إذا آتاهم الله العلم بإصابة رشاش نوره في عالم الأرواح { من قبله } [الإسراء: 107] من قبل نزول القرآن { إذا يتلى عليهم } [الإسراء: 107] يعني: خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172] { يخرون للأذقان سجدا } [الإسراء: 107] للتواضع والتذلل عند الإجابة إذ قالوا:
بلى
[الأعراف: 172].
{ ويقولون سبحان ربنآ } [الإسراء: 108] على ما وعدنا ربنا في الأزل بقوله:
ومن يرتدد منكم
[البقرة: 217] يا أهل الشقاوة
عن دينه
[البقرة: 217] أي: الإيمان وقبول القرآن
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] { إن كان } [الإسراء: 108] أي: قد كان { وعد ربنا } [الإسراء: 108] في الأزل { لمفعولا } [الإسراء: 108] إلى الأبد.
ثم كرر قوله: { ويخرون للأذقان } [الإسراء: 109] أي: إذا تتلى عليهم مرة أخرى في عام العودة يخرون بالأبدان على وجوههم و { يبكون ويزيدهم خشوعا } [الإسراء: 109] يشير به إلى أنه في عالم الأرواح كان التواضع والسجود؛ لأنه من شأن الأرواح، ولكن لم يكن البكاء والخشوع؛ لأنه من شأن الأبدان، وإنما أرسلت الأرواح إلى الأبدان لتحصيل هذه المنافع في العبودية وبقوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [الإسراء: 110] يشير إلى أن الله اسم الذات والرحمن اسم الصفة { أيا ما تدعوا } [الإسراء: 110] أي: بأي اسم من أسماء الذات والصفات تدعونه { فله الأسمآء الحسنى } [الإسراء: 110] أي: كل اسم من أسمائه حسن فادعوه حسنا، وهو أن تدعوه بالإخلاص .
{ ولا تجهر بصلاتك } [الإسراء: 110] أي: بدعائك وعبادتك رياء وسمعة { ولا تخافت بها } [الإسراء: 110] أي: ولا تخفضها بالكلية عن نظرهم لئلا يحرموا عن المتابعة والأسوة الحسنة { وابتغ بين ذلك سبيلا } [الإسراء: 110] وهو إظهار الفرائض بالجماعات في المساجد، وإخفاء النوافل وحدانا في البيوت { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } [الإسراء: 111] فيكون كمال عنايته وعواطف إحسانه مخصوصا بولده ويحرم عباده منه { ولم يكن له شريك في الملك } [الإسراء: 111] فيكون مانعا من إصابة الخير إلى عباده وأوليائه { ولم يكن له ولي من الذل } [الإسراء: 111] فيكون محتاجا إليه فينعم عليه دون من استغنى عنه، بل أولياؤه الذين آمنوا وجاهدوا في الله حق جهاده وكبروا الله وعظموه بالمحبة والطلب والعبودية وهو معنى قوله: { وكبره تكبيرا } [الإسراء: 111].
[18 - سورة الكهف]
[18.1-5]
{ الحمد لله } [الكهف: 1] إشارة إلى أن الحمد والمدح والثناء والشكر كله لله أي: هو المستحق به ولا يصلح ذلك لغيره؛ لأن وجوده كل شيء نعمة فلا منعم إلا هو { الذي أنزل على عبده الكتاب } [الكهف: 1] أي: على من يحسن عليه اسم العبد مطلقا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وهذه كرامة لم يكرم بها الله قبل نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا، فإنه تعالى ذكره في مواضع من القرآن بعبده مطلقا من غير أن يسميه بكليم آخر مع عبده، كما قال:
سبحان الذى أسرى بعبده ليلا
[الإسراء: 1] وما ذكر أحدا من الأنبياء بالعبد إلا وقد سماه باسمه كما قال:
عبده زكريآ
[مريم: 2].
والعبد الحقيقي من يكون حرا من الكونين وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
" أمتي أمتي "
يوم يقول كل نبي: نفسي نفسي، فكان هو العبد الحقيقي الذي لم يكن لنفسه، بل كان بكليته لمولاه.
وفيه معنى آخر أن الحمد واجب على النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل القرآن على قلبه وهو مخصوص بذلك من الأنبياء، فإن الكتب أنزلت عليهم في الصحف والألواح وإذا اختص بالعبد مطلقا { ولم يجعل له عوجا } [الكهف: 1] أي: ولم يجعل قلب محمد متعرجا لا يستقيم فيه القرآن يدل على هذا التأويل قوله:
" لا يستقيم إيمان أحدكم حتى يستقيم قلبه "
فتقدير الكلام: قل يا محمد { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل } [الكهف: 1] لقلبه { عوجا } [الكهف: 1] لا يستقيم فيه القرآن بل { قيما } [الكهف: 2] أي: القرآن قائم فيه حتى صار خلقه القرآن.
ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10] بلا واسطة جبريل، ونال قلبه الاستقامة بالقرآن بأمر الله علما، وهو أمر التكوين بقوله:
فاستقم كمآ أمرت
[هود: 112] { لينذر بأسا شديدا } [الكهف: 2] أي: لينذركم عذابا وهو عذاب البعد { شديدا } من لدنه من قربه، فإن أشد العذاب عذاب البعد والانقطاع والحرمان { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } [الكهف: 2] أي: الخالصات لله { أن لهم أجرا حسنا } [الكهف: 2] وهو التمتع من حسن الله وجماله { ماكثين فيه أبدا } [الكهف: 3] بلا انقطاع وتغير حال { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم } [الكهف: 4-5] يعني: لا يقتضي العلم أن يتخذ الله ولدا؛ لأنه منزه عن الولد وإنما قالوا بالجهل: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } [الكهف: 5] أي: كبرت كلمة كفر وكذب قالوها عند الله وهي أكبر الكبائر إذ نسبوها إلى الله، وكذبوا عليه وكذبوه.
[18.6-10]
{ فلعلك باخع نفسك } [الكهف: 6] معناه نهي أي: لا تبخع نفسك كما يقال لعلك تريد أن تفعل كذا أي: لا تفعل كذا.
وفيه معنى آخر { فلعلك } أي: فكأنك كما قال تعالى في شأن عاد:
وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون
[الشعراء: 129] أي: كأنك فالمعنى كأنك { باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } [الكهف: 6] على فوات الإيمان عنهم، وهذا غاية الرحمة والشفقة على الأمة، وكمال القيام بأداء حقوق الرسالة، والإقدام على العبودية فوق الطاقة، وكان من دأبه صلى الله عليه وسلم أن يبالغ في القيام بأمر ربه إلى حد أن ينهى عنه كما أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر بالإنفاق بالغ فيه إلى أن أعطى من دأبه صلى الله عليه وسلم أن يبالغ قميصه وقعد في البيت عريانا، فنهي عن ذلك بقوله:
ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا
[الإسراء: 29].
وبقوله: { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } [الكهف: 7] يشير إلى أن الناسك السالك، والطالب الصادق، والمحب المحق من يحرم على نفسه الدنيا وزينتها حرامها وحلالها وهي ما
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا
[آل عمران: 14] لأنه مع حب الله لا يسوغ حب الدنيا وشهواتها، بل حب الآخرة ودرجاتها، كما قال تعالى: { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [الكهف: 7] أي: زينا الدنيا وشهواتها للخلف ملائما لطباعهم وجعلناها محل ابتلاء المحب والسالي { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [الكهف: 7] في تركها ومخالفة هوى نفسه طلبا رضائه، وأيهم أقبح عملا في الإعراض عن الله وما عنده من الباقيات الصالحات، والإقبال على الدنيا وما فيها من الفانيات الفاسدات وهو معنى قوله: { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } [الكهف: 8] لا حاصل له إلا الندامة والغرامة.
ثم أخبر عن سعادة السيادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } [الكهف: 9] إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أي: أنك حسبت أن أحوال { أصحاب الكهف والرقيم } [الكهف: 9] كانت من آيات إحساننا مع العبيد { عجبا } [الكهف: 9] فإن في أمتك من هو أعجب حالا منهم، وذلك أن فيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم الذين يأوون إليه بين الخلوة، ومقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة، فهي محبتي ومحبوبي، وألواح قلوبهم مرقومة بالعلوم الدينية، وإن كان أصحاب الكهف أووا إلى الكهف خوفا من لقاء دقيانوس وفرار منه أووا إلى كهف الخلوة شوقا إلى لقائي وفرارا إلي، وإن كان المراد من قولنا: { إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنآ آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا } [الكهف: 10] النجاة من شر دقيانوس والخروج من الغار بالسلامة. فرار هؤلاء القوم النجاة من شر نفوسهم، والخروج من ظلمات غار الوجود للوصول إلى أنوار جمالي وجلالي.
[18.11-15]
وبقوله: { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا } [الكهف: 11] يشير إلى سد آذان ظاهر أصحاب الخلوة وآذان باطنهم؛ لئلا يقرع مسامعهم كلام الخلق فتنتقش ألواح قلوبهم به، وكذلك تنعزل جميع حواسهم عن نفس قلوبهم، ثم أنهم يمحون النقوش السابقة عن القلوب بملازمة استعمال الكلمة الطبيعية وهي كلمة لا إله إلا الله حتى يصفو قلوبهم بنفي لا إله عما سوى الله بإثبات إلا الله تتنور قلوبهم بنور الله، وينتقش بنقوش العلوم الدينية إلى أن يتجلى الله تبارك وتعالى لقلوبهم بذاته وجميع صفاته؛ ليفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله: { ثم بعثناهم } [الكهف: 12] أي: أحييناهم بنا { لنعلم أي الحزبين } [الكهف: 12] أي: حزب أصحاب الكهف وحزب أصحاب الخلوة { أحصى } [الكهف: 12] أي: أحصى وأصوب { لما لبثوا } [الكهف: 12] في كهفهم وتعيينهم وبيت خلوتهم { أمدا } [الكهف: 12] غاية لبثهم.
ثم أخبر عن حقيقة أحوالهم وما لهم في حالهم ومآلهم بقوله تعالى: { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } [الكهف: 13] يشير إلى أن القصاص كثير يقصون بالباطل ويزيدون وينقصون ويغيرونها، ويقص كل أحد برأيه وموافقا لطبعه وهواه وما يقص بالحق إلا الله تعالى.
ثم أخبر عنهم فقال: { إنهم فتية آمنوا بربهم } [الكهف: 13] سماهم باسم الفتوة؛ لأنهم آمنوا بالتحقيق لا بالتقليد، وطلبوا الهداية من الله إلى الله بالله، ولكنهم طلبوا الهداية في البداية بحسب نظرهم وقدر همتهم، فالله تعالى على قضية
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
في هداهم فضلا منه وكرما، كما قال: { وزدناهم هدى } [الكهف: 13] أي: زدنا على متمناهم في الهداية، فإنهم يكادون يتمنون أن يهديهم الله إلى الإيمان بالله، وبما جاء به الأنبياء - عليهم السلام - بالبعث والنشور إيمانا بالغيب فزادهم الله تعالى على متمناهم في الهداية حين بعثهم من رقدتهم بعد ثلاثمائة وتسع سنين، وما تغيرت أحوالهم وما بليت ثيابهم، فصار الإيمان إيقانا، والغيب عينا وعيانا.
ثم قال: { وربطنا على قلوبهم } [الكهف: 14] يعني: لكيلا يلتفتوا إلى الدنيا وزخارفها وينقطعوا إلى الله بالكلية، وكذلك ما اختاروا بعد البعث الحياة في الدنيا ورجعوا في أن ترجعوا إلى جوار الحق، وأيضا وبعد على قلوبهم المحبة والشوق إلى لقاء الله، وأيضا ربط على قلوبهم نور المعرفة حتى أخبروا عن ذلك.
{ إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموت والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } [الكهف: 14] أي: بعد أن ربط الله تعالى على قلوبنا نور المعرفة بفضله وكرمه حتى تقينا وحدانيته لو دعونا معه غيره فقد قلنا إذا كذبا وزورا باطلا بعد الصدق والحق واليقين، ثم قالوا: { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة } [الكهف: 15] من الهوى والدنيا وشهواتها وغير ذلك من الأصنام بجهالتهم وضلالتهم وعدم هدايتهم ومعرفتهم، وإنما قالوا: { قومنا } أي: كنا من جملتهم وبالضلالة في زمرتهم فأنعم الله علينا بالهداية والمعرفة وفرق بيننا وبينهم بالرعاية والعناية.
{ لولا يأتون } [الكهف: 15] من اتخذ من دونه آلهة { عليهم بسلطان بين } [الكهف: 15] يعني: بحجة ظاهرة عن آلهة هذه الآلهة ولا يأتون { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [الكهف: 15] بأنه تعالى محتاج إلى شريك في الملك، وبه يشير إلى أنه من أعظم عذابا منهم؛ لأن الظلم موجب للعذاب، فيكون أعظم العذاب للأظلم.
[18.16-20]
ثم بقوله تعالى: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } [الكهف: 16] يشير إلى أن التائب الصادق، والطالب المحق من اعتزل عن قومه وترك أهل صحبته، وقطع عن إخوانه شؤونه واعتقد إلا يعبد إلا الله، ولا يطلب إلا الله، ولا يحب إلا الله، يعرض عما سوى الله، مستعينا بالله، متوكلا على الله، منفرا إلى الله من غير الله، ثم يأوي إلى كهف الخلوة متمسكا بذيل إرادة شيخ كامل مكمل واصل موصل؛ ليربيه ويزيد في هدايته ويربط على قلبه بقول الولاية وقوة الرعاية، كما كان حال أصحاب الكهف، ولكنهم كانوا مجذوبين من الله مربوبين بربهم وذلك من النوادر، ولا حكم للنادر هذا من قدرة الله أن يهدي جماعة إلى الإيمان بلا واسطة رسول أو نبي ويجذبهم بجذبات العناية إلى مقامات القرب ومحل الأولياء بلا شيخ مرشد وهاد مربي، ومن سنته تعالى أن يهدي عباده بالأنبياء والرسل وبخلافتهم ونيابتهم بالعلماء الراسخين والمشايخ المقتدين.
ففي قوله: { فأووا إلى الكهف } [الكهف: 16] إشارة إلى الالتجاء بالحق والتمسك بالمشايخ المكملين يعني بهذه الطريقة { ينشر لكم ربكم من رحمته } [الكهف: 16] أي: يخصصكم برحمته الخاصة المضافة إلى نفسه وهو أن يجذبهم بجذبات العناية ويدخلهم في عالم الصفات ليتخلقوا بأخلاقه ويتصفوا بصفاته كقوله تعالى:
يدخل من يشآء في رحمته
[الشورى: 8] وله تعالى رحمة عامة مشتركة بين المؤمن والكافر والجن والإنس والحيوان.
{ ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } [الكهف: 16] أي: ييسر لكم طريق الوصول والوصال.
ثم أخبر عن أصناف ألطافه بأضيافه بقوله تعالى: { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم } [الكهف: 17] يشير إلى أن نور ولايتهم، وهو نور زاده الله على أنوار هدايتهم وإيمانهم، كما قال:
وزدناهم هدى
[الكهف: 13] يغلب على نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن على نار جهنم فيطفئها لقوله صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار، وتقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي "
، { ذات اليمين } [الكهف: 17] أي: يمين الكهف { وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } [الكهف: 17] أي: تدعهم جانب شمال الكهف { وهم في فجوة منه } [الكهف: 17] أي: متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضرر وآفة، ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم { ذلك من آيات الله } [الكهف: 17] أي: من دلالاته وكراماته التي يظهرها على أوليائه ويخصصهم بخصائص { من يهد الله فهو المهتد } [الكهف: 17] أي: فهو الذي اهتدى بهداية الله إياه فلن يقدر على إضلاله أحد { ومن يضلل } [الكهف: 17] أي: يضلل { فلن تجد له وليا مرشدا } [الكهف: 17] غير الله أي: فلن يقدر على هدايته أحد.
{ وتحسبهم أيقاظا } [الكهف: 18] لما رأيت على سيماء وجوههم منه فلك النور { وهم رقود } [الكهف: 18] وفيه إشارة إلى إفنائهم عن وجودهم وإبقائهم بوجودهم الحق لا هم كالنيام ولا هم كالرقود { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } [الكهف: 18] أي: بين الإفناء والإبقاء، والترقي من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال أي: بلغناهم مبلغ الرجال البالغين ووصلوا إلى درجات المقربين فيه إشارة لطيفة وهي: أن المريد الذي يربيه الله تعالى بلا واسطة المشايخ يحتاج إلى أن يكون كالميت بين يدي الغسال مستسلما نفسه بالكلية إليه مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين حتى تبلغ مبلغ الرجال، والمريد الذي يربيه الله بواسطة المشايخ لعله يبلغ مبلغ الرجال البالغين بخلوة أربعين يوما أو خلوتين أو خلوات معدودة، وذلك أن هؤلاء خلفاء الله وصورة لطفه كما أن الأشجار في الجبال ترقى بلا واسطة فلا تثمر كما تثمر الأشجار في البساتين بواسطة الدهاقين وتربيتهم.
{ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } [الكهف: 18] يشير إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال التي بها تربية القلوب والأرواح، كما جرت بها السنة الإلهية - يعني هذه التربية - على هذا النوع من قبيل القدرة الإلهية التي هي أمارة أهل الولاية والكرامة في حقهم.
{ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا } [الكهف: 18] بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم، وألقينا عليهم جلابيب العظمة بتجلي صفات جلالنا، وألبسناهم بلباس الهيئة الإلهية { وكذلك بعثناهم } [الكهف: 19] أحييناهم بنور وصالنا وأغرقناهم في لجج بحر الوحدانية فدهشوا بسطوات ما ربطنا على قلوبهم { ليتسآءلوا بينهم } [الكهف: 19] عند الرجوع من استغراق بحر الوصال إلى سواحل نفوسهم { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } [الكهف: 19] لأن أيام الوصال قصيرة، وأيام الفراق طويلة، فلما رأوا أنهم بعد في خبرة الأحوال ودهشة الوصال { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } [الكهف: 19] لأنه كان حاضرا معكم وأنتم غيب عنكم، فالعجب كل العجب لما كانوا ثلاثمائة وتسع سنين في مقام عندية الحق خارجين من عنديتهم ما احتاجوا إلى طعام الدنيا لتغنوا عن غذاء الجسمانية بألوان غذاء الروحانية، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل الأيام، ويقول:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقين "
فلما رجعوا من عندية الحق إلى عندية نفوسهم احتاجوا في الحال إلى غذاء نفوسهم قالوا: { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } [الكهف: 19] ففي طلبهم { أزكى طعاما } [الكهف: 19] وأطيب إشارة إلى أن أرباب الوصول وأصحاب المشاهدة لما شهدوا ذلك الجمال والبهاء، وذاقوا طعم الوصال، ووجدوا حلاوة الأنس وملاطفات الحبيب، فإذا رجعوا إلى عالم النفوس تطالبهم الأرواح والقلوب بأغذيتهم الروحانية فيتعللون بمشاهدة كل جميل؛ لأن كل جميل من جمال الله وكل بهاء من بهاء الله، ويتوسلون بلطافة الأطعمة إلى تلك الملاطفات كما قالوا: { فليأتكم برزق منه وليتلطف } [الكهف: 19] أي: في الطعام { ولا يشعرن بكم أحدا } [الكهف: 19] فيه إشارة إلى الاحتراز عن شعور أهل الغفلة بأحوال أرباب المحبة، فإن لهم في النهاية أحوال كفر عند أهل البداية، كما قال أبو عثمان المغربي: إرفاق العارفين باللطف وإرفاق المريدين بالعنف.
{ إنهم إن يظهروا عليكم } [الكهف: 20] يعني: أهل الغفلة { يرجموكم } [الكهف: 20] بالملامة فيما يشاهدون منكم يا أهل المعرفة من وسعة الولاية وقوتها، واستحقاق التصرف في الكونين وانعدام تصرفها فيكم، فإنهم بمعزل عن بصيرة يشاهدون بها أحوالكم، فمن قصر نظرهم يطعنون فيكم أو يريدون أن { يعيدوكم في ملتهم } [الكهف: 20] وهي عبادة أصنام الهوى وطواغيت شهوات الدنيا وزينتها، فإن رجعتم إليها { ولن تفلحوا إذا أبدا } [الكهف: 20].
[18.21-22]
ثم أخبر عن الحكمة في اختصاصهم بالعزلة بقوله تعالى: { وكذلك أعثرنا عليهم } [الكهف: 21] إشارة إلى أنه كما أطلعنا بعض منكري البعث والنشور بالأجساد على أحوال أصحاب الكهف { ليعلموا } [الكهف: 21] ويتحقق لهم { أن وعد الله } [الكهف: 21] بالبعث وإحياء الموتى { حق وأن الساعة } [الكهف: 21] أي: قيام الساعة { لا ريب فيها } [الكهف: 21] أنا قادرون على إحياء بعض القلوب الميتة، وإن وعد الله به بقوله:
فلنحيينه حياة طيبة
[النحل: 97] وبقوله:
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122] حق وإن قيامه قلوب الصديقين المحبين لا ريب فيها.
ثم في قوله تعالى: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } [الكهف: 21] إلى قوله: { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } [الكهف: 22] إشارة إلى أن الله تعالى بحكمته البالغة وإرادته القديمة يبدي بعض الأشياء على رسوله صلى الله عليه وسلم مما يسأل عنه، ومما لم يسأل، ويخفي بعضها حكمة منه، ومصلحة للخلق، وله في الإبداء والإخفاء أسرار.
فمنها: عسى أن يكون في إبداء ما يسألون فتنة أو بلية أو مضرة لسائله لقوله تعالى:
لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم
[المائدة: 101].
ومنها: إن في إخفائها للحق مجال الاجتهاد، و " للمجتهد إذا أصاب أجران، وإن لم يصب فله أجر واحد " فلله الأمر فيما أظهر وأبدى أو أسر وأخفى.
[18.23-28]
وبقوله تعالى: { ولا تقولن لشاىء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء الله } [الكهف: 23-24] يشير إلى عدم الاختيار والمشيئة لحبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم في شيء من الأمور، وإن الاختيار والمشيئة لله تبارك وتعالى، وأفعال العباد كلها مبنية على مشيئته كقوله تعالى:
وما تشآءون إلا أن يشآء الله
[الإنسان: 30] ومن لم يعلق وقوع فعله بمشيئة الله، فإن من سنته أن يجري الأمر على خلاف مشيئتهم، كما كان حال سليمان عليه السلام في طلب الأولاد إذ دار على نسائه في ليلة واحدة وهن ثلاثمائة نسوة - والله أعلم - لتأتي كل واحدة منهن ولدا بأن يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله؛ فما أتت بولد إلا واحدة منهن لا شق له، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته اليهود عن أحوال أصحاب الكهف وعددهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سأخبركم " ولم يقل: إن شاء الله، فأبهم الله أحوالهم عليه فقال:
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم
[الكهف: 22] وهذا تأديب النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يكل علمها إلى الله تعالى ووعدهم بأن يعلمهم بها.
ومن تأديبه قوله:
ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا
[الكهف: 22] يعني: نحن نعلم قليلا من أمتك أحوالهم كرامة لك، وإن لم نعلمكم بالتمام تأديبا لك، فلا تخبر أنت بما أخبرناك عن أحوالهم { ولا تستفت فيهم منهم أحدا * ولا تقولن لشاىء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء الله } [الكهف: 22-24] غيرنا لنخبرك تصرفا بالاستقلال عن أحوالهم { واذكر ربك إذا نسيت } [الكهف: 24] أي: واذكر بقولك إن شاء الله إذا نسيت وجودك، وإن لك تصرفا بالاستقلال { وقل عسى أن يهدين ربي } [الكهف: 24] إذ لم يهدني إلى أحوالهم بالشرح يهديني بهذا التأديب { لأقرب من هذا رشدا } [الكهف: 24] أي: إلى طريق أقرب إليه وأرشد من هذا.
ثم أخبر عن لبثهم في الكهف فقال: { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا } [الكهف: 25-26] يعني: لو لم يخبر الله عن لبثهم ومدة إقامتهم في الكهف ما كان أحد أن يعلم بمدة لبثهم ولا هم بها علم كما
قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم
[الكهف: 19] لجهلهم بحال أنفسهم { له غيب السموت } [الكهف: 26] أي: ما غاب عن أهل السماوات { والأرض } [الكهف: 26] أي ما غاب عن أهل الأرض { أبصر به وأسمع } [الكهف: 26] أي: هو البصير بكل موجود وهو السميع بكل مسموع، فيه أبصر من أبصر، وبه سمع من سمع { ما لهم من دونه } [الكهف: 26] أحدا أي: من دون الله { من ولي } [الكهف: 26] يخبرهم عن غيب السماوات والأرض { ولا يشرك في حكمه } [الكهف: 26] من الأزل إلى الأبد { أحدا } [الكهف: 26] لعزته.
ثم أخبر عن إيجابه تلاوة كتابه بقوله تعالى { واتل } [الكهف: 27] على نفسك { مآ أوحي إليك من كتاب ربك } [الكهف: 27] أي: عن من كتاب كتبه ربك في الأزل { لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا } [الكهف: 27] إلى الأبد وهو قوله: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } [الكهف: 28] وهم القلب والسر والروح والخفي يعني: هم المجبولون على طاعة الله وطلبه وشوقه ومحبته، كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى، وطلب الدنيا ومحبتها { واصبر نفسك } [الكهف: 28] معهم في طاعة الله وطلبه وترك هواها والركون إلى الدنيا وما فيها؛ لتتصف بصفاتهم وهي العبودية على المحبة { بالغداة } [الكهف: 28] أي: غداة الأزل { والعشي } [الكهف: 28] أي: عشي الأبد { يريدون وجهه } [الكهف: 28] أي: يطلبون الوصول إلى ذاته تبارك وتعالى ويقصدون الاتصاف بصفاته.
{ ولا تعد عيناك } [الكهف: 28] أي: عينا همتك { عنهم } [الكهف: 28] أي: عن القلب والسر والروح والخفي؛ ليكونوا متوجهين إلى الله تعالى متوحدين في طلبه، فإنك لم تراقب أحوالهم تتصرف فيهم النفس الأمارة بالسوء وتغيرهم عن صفاتهم، فإن الرضاع يغير الطباع، وإن طبع النفس أن { تريد زينة الحياة الدنيا } [الكهف: 28] فيريدونها وبها ينزلون عن أعلى عليين إلى أسفل سافلين { ولا تطع من أغفلنا قلبه } في الفطرة الأولى { عن ذكرنا واتبع هواه } [الكهف: 28] يعني: النفس { وكان أمره } [الكهف: 28] في متابعة الهوى { فرطا } [الكهف: 28] أي: هلاكا وخسرانا.
[18.29-31]
{ وقل الحق من ربكم } [الكهف: 29] في التبشير والإنذار وبيان السلوك لمسالك أرباب السعادة والاحتراز عن مهالك أصحاب الشقاوة.
{ فمن شآء فليؤمن } [الكهف: 29] من قلوب أهل السعادة { ومن شآء فليكفر } [الكهف: 29] من نفوس أهل الشقاوة. وأيضا، ومن شاء فليؤمن من نفوس أهل السعادة، ومن شاء فليكفر من قلوب أهل الشقاوة { إنا أعتدنا } [الكهف: 29] في الأزل { للظالمين } [الكهف: 29] وهم الكافرون بما وجب الإيمان به المؤمنون بما وجب الكفر به { نارا } [الكهف: 29] وهي نار القهر والغضب { أحاط بهم سرادقها } [الكهف: 29] وهي سرادق العزة { وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوي الوجوه } [الكهف: 29] أي: وجوه الأرواح الناضرة المستعدة للنظر إلى ربها؛ أي: يفسد استعدادها للنظر { بئس الشراب } [الكهف: 29] شراب اليأس والقطيعة { وسآءت مرتفقا } [الكهف: 29] مرتفق البعد والطرد.
ثم أخبر عن إحسان أهل الإيمان بقوله: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } [الكهف: 30] يشير إلى أن لأهل الإيمان والأعمال الصالحات جزاء يناسب صلاحية أعمالهم وحسنها، فمنها أعمال تصلح للسير إلى الجنان وغرفها وهي الطاعات القلبية من الصدق في طلب الحق والإخلاص في التوجه له بترك الدنيا، والإعراض عما سوى الله، والإقبال على الله بالكلية، والتمسك بذيل إرادة شيخ كامل فاضل مكمل، ليسلكه على طريق المبالغة ظاهرا وباطنا، فلا نضيع أجر عمله إن أحسنه وهو إذ يعبد الله على مشاهدته أو لشهوده { أولئك لهم } [الكهف: 31] أي: جزاءهم وأجرهم { جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرآئك نعم الثواب } [الكهف: 31] للنفوس درجات الجنان ونعيمها { وحسنت مرتفقا } [الكهف: 31] للقلوب أعلى مقامات القرب.
[18.32-36]
{ واضرب لهم مثلا رجلين } [الكهف: 32] وهما النفس الكافرة والقلب المؤمن { جعلنا لأحدهما } [الكهف: 32] وهو النفس { جنتين } [الكهف: 32] وهما الهوى والدنيا، { من أعناب } [الكهف: 32] الشهوات { وحففناهما بنخل } [الكهف: 32] حب الرئاسة { وجعلنا بينهما زرعا } [الكهف: 32] من تمتعات البهيمية ومستلذات الحيوانية.
{ كلتا الجنتين } [الكهف: 33] من الهوى والدنيا { آتت أكلها } [الكهف: 33] ثمراتها ونتائجها وهي الميلان إلى زينتها وزخارفها { ولم تظلم منه شيئا } [الكهف: 33] أي: بلا نقصان فيها { وفجرنا خلالهما نهرا } [الكهف: 33] من قوة البشرية والحواس الخمسة الظاهرة والباطنة.
{ وكان له } [الكهف: 34] أي: النفس { ثمر } [الكهف: 34] من أنواع الشهوات { فقال لصاحبه } [الكهف: 34] وهو القلب { وهو يحاوره } [الكهف: 34] أي: يحاور النفس القلب { أنا أكثر منك مالا } [الكهف: 34] أي: أكثر ميلا { وأعز نفرا } [الكهف: 34] من الأوصاف المذمومات.
{ ودخل جنته } [الكهف: 35] أي: سرح في جنة الدنيا { وهو ظالم لنفسه } [الكهف: 35] في الاستمتاع بها على وفق هواها بخلاف الشرع مغرورا بها حتى { قال مآ أظن أن تبيد } [الكهف: 35] أي: تهلك وتفنى { هذه } [الكهف: 35] الدنيا { أبدا } [الكهف: 35] إلى أن نسي القيامة بقوله: { ومآ أظن الساعة قائمة } [الكهف: 36] فغرته الحياة الدنيا وغره بالله الغرور حتى قال: { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا } [الكهف: 36] يعني: لأنه رحيم كريم يعطيني في الآخرة خيرا مما أعطاني في الدنيا وهذا غاية الغرور بالله وكرمه وهو مخالفة لأوامره ونواهيه، كقوله تعالى:
يأيها الإنسن ما غرك بربك الكريم
[الانفطار: 6] على قوله:
إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم
[الانفطار: 13-14].
[18.37-41]
{ قال له صاحبه } [الكهف: 37] وهو القلب { وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا } [الكهف: 37] لتنكر نعمه وأنت تكفرها { لكنا هو الله ربي } [الكهف: 38] فأشكره ولا أكفره { ولا أشرك بربي أحدا } [الكهف: 38] كما أشركت يا نفس واتخذت إلهك الهوى { ولولا إذ دخلت جنتك } [الكهف: 39] أي: هلا إذا شرعت في الدنيا كنت في التصرف فيها بأمر الشرع و { قلت ما شآء الله } [الكهف: 39] أي: أتصرف فيها كما شاء الله وأمرني بها { لا قوة } [الكهف: 39] للتصرف فيها { إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا } [الكهف: 39] أي: أقل ميلا إلى الدنيا منك يا نفس وأقل ولدا لأوصاف نفسي { فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك } [الكهف: 40] أي: من جنات الروحانية الباقيات الأخرويات { ويرسل عليها } [الكهف: 40] أي: على جنتك الدنيوية الشهوانية { حسبانا } [الكهف: 40] آفة { من السمآء } [الكهف: 40] من الآفات { فتصبح صعيدا زلقا } [الكهف: 40] لا حاصل لها إلا الحسرة والندامة { أو يصبح مآؤها غورا } [الكهف: 41] أي ماء قواها يغور بالموت { فلن تستطيع له طلبا } [الكهف: 41] للحياة أي: فلا تقدر على إحيائها.
[18.42-48]
{ وأحيط بثمره } [الكهف: 42] أي: أحاط بأنواع شهواتها الهلاك والفساد { فأصبح } [الكهف: 42] أي: النفس يوم القيامة { يقلب كفيه } [الكهف: 42] حسرة وندامة { على مآ أنفق فيها } [الكهف: 42] من العمر والاستعداد لقبول الكمال، { وهي خاوية على عروشها } [الكهف: 42] أي: جنة الدنيا ساقطة خالية عما فيها { ويقول } [الكهف: 42] النفس { يليتني لم أشرك بربي أحدا } [الكهف: 42] أي: لم أشرك بعبادة ربي عبادة الهوى والدنيا { ولم تكن له فئة } [الكهف: 43] صفات وأخلاق حميدة { ينصرونه من دون الله } [الكهف: 43] أي: يدفعون عنه عذاب الله { وما كان منتصرا } [الكهف: 43] ممتنعا من العذاب { هنالك الولاية لله الحق } [الكهف: 44] أي: الحق مع أهل ولاية الله يومئذ إذ لم يشركوا بعبادة الله الهوى، ولم يتخذوا من دون الله وليا وما أنفقوا عمرهم في طلب غير الله وما صرفوا حسن استعدادهم إلا لقبول فيض الله بلا واسطة { هو خير ثوابا } [الكهف: 44] لأهل ولايته من ثواب أهل الدنيا وثواب أهل الآخرة { وخير عقبا } [الكهف: 44] لهم إذ صاروا إلى الله إذ صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار فافهم جدا.
ثم أخبر عن حال الفانيات والباقيات بقوله تعالى: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء } [الكهف: 45] يشير إلى أن الماء هو الروح العلوي الذي أنزله إلى أرض الجسد، { فاختلط به } بالروح { نبات الأرض } [الكهف: 45] وهي الأخلاق الذميمة النفسانية، فإن اتصف الروح العلوي بالخذلان أي: أرض النفس ونبات صفاتها حتى يختلط بها فإنه يتطبع بطبع النفس السفلية ويتصف بصفاتها ويتخلق بأخلاقها، { فأصبح هشيما } [الكهف: 45] قد تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية الحميدة بجذب هواء الطبيعة { تذروه الرياح } [الكهف: 45] أي: تفرقه رياح الأهوية المختلفة حتى أهلكته في واد من الأودية السفلية وهذا تحقيق قوله:
لقد خلقنا الإنسان
[التين: 4] أي: الروح الإنساني
في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 4-5] وقوله تعالى:
إن الإنسان لفى خسر
[العصر: 2] إذا أخلي إلى طبيعته الإنسانية فأما الذي أدركته العناية الأزلية بعد تعلق الروح بالحب كتعلق الماء بالأرض فيبعث الله إليه لنفسه دهقان من دهاقين الأنبياء والأولياء معه بذر الإيمان والتوحيد؛ ليلقيه بيد الدعوة وتبليغ الرسالة في أرض نفسه فيقع منها في تربة طيبة وهي القلب كما ضرب الله تعالى:
مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء
[إبراهيم: 24].
وكقوله:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه
[الأعراف: 58] فينبت عن بذر التوحيد وهي كلمة لا إله إلا الله شجرة الإيمان بماء الشريعة فتعلو به الروح من أسفل الإنسانية إلى أعلى الدرجات الروحانية وأقرب منازل قربات الربانية كقوله تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
[فاطر: 10] وهذا تحقيق قوله:
ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت
[التين: 5-6] وقوله:
إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[والعصر: 2-3].
{ وكان الله على كل شيء مقتدرا } [الكهف: 45] قادر على أن يخلده ويبقيه في أسفل سافلين الجسمانية الحيوانية ليصير الروح العلوي
كالأنعام بل هم أضل
[الفرقان: 44] وعلى أن يجذبه بجذبات العناية إلى أعلى عليين مراتب القرب ليكون مسجودا للملائكة المقربين في قوله: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } [الكهف: 46] إشارة إلى أن حياة الدنيا كما تحققت أنها فانية فكذلك زينتها التي هي المال والبنون فانية.
{ والباقيات الصالحات } [الكهف: 46] وهي ترك الدنيا وزينتها طلبا لخالقها وبارئها بالإيمان والإخلاص والمتابعة { خير عند ربك ثوابا وخير أملا } [الكهف: 46] لأن ثواب الدنيا وأملها فان وثواب الله وأمله باق كقوله:
ما عندكم ينفد وما عند الله باق
[النحل: 96] وأيضا الباقيات الصالحات أي: ما فني منك وبقي بربك بإفنائه وإبقائه خير لك عند ربك ثوابا وخير أملا؛ لأن ثوابك عند ربك بفنائك فيه وبقائك به.
ثم أخبر عن أحوال القيامة وأهوالها بقوله تعالى: { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } [الكهف: 47] يشير إلى عزته وعظمته، وإظهار سلطته من جلاله وقهره وآثار عدله؛ لينتبه النائمون من نوم غفلتهم ويتأهب الغافلون أسباب النجاة لذلك اليوم ويصلحوا أمر سريرتهم وعلانيتهم لخطاب الحق تعالى وجوابه؛ إذ إليه المرجع والمآب.
{ وعرضوا على ربك صفا } أي: صفا صفا من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين والمنافقين ويقال لهم: { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } في أربعة صفوف: صف من الأنبياء، وصف من الأولياء، وصف من المؤمنين وصف من الكافرين والمنافقين، وفيه معنى آخر { لقد جئتمونا كما خلقناكم } أي: كما قدرناكم أن تكونوا طبقات شتى، وفيه معنى آخر على ما خلقناكم من
أصحاب الميمنة
[الواقعة: 8]
وأصحاب المشأمة
[الواقعة: 9]،
والسابقون السابقون * أولئك المقربون
[الواقعة: 10-11].
{ بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا } [الكهف: 48] هذا خطاب أصحاب المشأمة.
[18.49-52]
{ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين } [الكهف: 49] خائفين { مما فيه ويقولون يويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة } [الكهف: 49] وهي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كانت من المباحات { ولا كبيرة } [الكهف: 49] وهي التصرف في الدنيا على حبها وإن كان من حلالها؛ لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة { إلا أحصاها } [الكهف: 49] علمها.
{ ووجدوا ما عملوا حاضرا } [الكهف: 49] لأنهم كتبوا صالح أعمالهم بقلم أفعالهم على صحائف قلوبهم وسوء أعمالهم على صحائف نفوسهم، وقد يوجد عكس ما في هذه الصحائف على صفحات الأرواح، وإن كان نورانيا أو ظلمانيا { ولا يظلم ربك أحدا } [الكهف: 49] فإن كان النور غالبا على صفحة روحه فهو من أهل الجنان، وإن كانت الظلمة غالبة عليها فهو هالك ومن لا يشوب نوره بالظلمة فهو من أهل الدرجات والقربات ومن أدركته الجذبات وبدلت سيئاته بالحسنات وأخرج إلى النور الحقيقي من الظلمات فهو
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
ثم أخبر عن فضيلة آدم المكرم بقوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } [الكهف: 50] إشارة إلى معان وحكم وأودعها الله فيه:
فمنها: ما يتعلق بالله عز وجل وهو أنه تعالى أراد أن يظهر به صفة لطفه وصفة قهره وكمال قدرته وحكمته، فاظهر لطفه بآدم أن خلقه من صلصال من حمأ مسنون، وأمر ملائكته الذين خلقوا من النور بسجوده، ومن كمال لطفه وجوده وأظهر صفة قهره بإبليس إذ أمره بالسجود آدم بعد أن كان رئيس الملائكة ومقدمهم ومعلمهم وأشدهم اجتهادا في العبادة حتى لم يبق في سبع سماوات ولا في سبع أرضين شبر إلا وقد سجد لله تعالى عليه سجدة حتى امتلأ العجب بنفسه حين لم ير أحدا بمقامه فأبى أن يسجد لآدم استكبارا وقال:
أنا خير منه
[ص: 76] فلعنه الله وطرده إظهارا للقهر وإظهار كمال قدرته وحكمته بأن بلغ من غاية القوة والحكمة ما خلقه من قبضة خراب ظلماني كثيف سفلي إلى مرتبة يسجد له جميع ملائكته المقربين الذين خلقوا من نور علوي لطيف روحاني.
ومنها: ما يتعلق بآدم عليه السلام وهو أنه تعالى لما أراد أن يجعله خليفة في الأرض أودع في طينته عند تخميرها بيده أربعين صباحا سر الخلافة وهو استعداد قبول الفيض الإلهي بلا واسطة، وقد اختصه الله تعالى وذريته بهذه الكرامة لقوله:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70] من بين سائر المخلوقات كما أخبر النبي عن كشف قناع هذا السر بقوله: " إن الله خلق آدم فتجلى فيه " ولهذه الكرامة صار مسجودا للملائكة المقربين.
ومنها: ما يتعلق بالملائكة وهو أنهم لما خلقوا من النور الرحماني العلوي كان من طبعهم الانقياد لأوامر الله والطاعة والعبودية له فلما أمر بسجود آدم امتحنوا به وذلك غاية الامتحان؛ لأن السجود أعلى مراتب العبودية له فلما أمروا بسجود آدم والتواضع لله فإذا امتحن به أحد أن يسجد لغير الله فذلك غاية الامتحان للامتثال، فلم يتلعثموا في ذلك وسجدوا لآدم بالطوع والرغبة من غير كره وإباء امتثالا وانقيادا لأوامر الله تعالى كما قال تعالى:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6].
ومنها: ما يتعلق بإبليس وهو أنه لما خلق للضلالة والغواية والإضلال والإغواء خلق من النار وطبعها الإشعال والاستكبار وإن نظمه الله في سلك الملائكة منذ خلقه وكساه كسوة الملائكة وهو قد تشبه بأفعالهم تقليدا لا تحقيقا حتى عد من جملتهم، وذكر في زمرتهم، وزاد عليهم في الاجتهاد بالاعتبار لا بالاعتقاد فاتخذوه رئيسا ومعلما؛ لما رأوا منه اشتداده في الاجتهاد بالإراءة دون الإرادة فلما امتحن بسجود آدم في جملة الملائكة هبت نكباء النكبة وانخلعت عنه كسوة أهل الرغبة والرهبة ليميز الله الخبيث من الطيب، فطاشت عنه تلك المخادعات وتلاشت منه تلك المبادرات وعاد المشئوم إلى طبعه قد تبين الرشد من غيه، فسجد الملائكة وأبى إبليس واستكبر من غيه وظهر أنه كان من الجن وأنه طبع كافرا.
{ ففسق عن أمر ربه } [الكهف: 50] وخلع قلادة التقليد عنه ليعلم أن الأصل لا يتخطى، ويتحقق أن في هذا الامتحان يكرم الرجل أو يهان، كما أن البعرة تشابه المسك وتعارضه في الصورة. فلما امتحن بالنار تبين المقبول من المردود والمبغوض من المودود.
ثم بقوله تعالى: { أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو } [الكهف: 50] يشير إلى أن في أولاد آدم من هو في صورة آدم لكنه في صفة إبليس، وأنهم شياطين الإنس وأمارتهم أنهم يتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله فيطيعون الشيطان ولا يطيعون الرحمن ويتبعون ذرية الشيطان ولا يتبعون ذرية آدم من الأنبياء والأولياء ولا يفرقون بين الأولياء والأعداء فبجهلهم يظلمون على أنفسهم ويبدلون الله وهو وليهم بالشياطين { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } [الكهف: 50] وفيه إشارة إلى أن أولياء الله هم الذين لا يبدلون الله بما سواه، ويتخذون ما سواه عدوا.
وفي قوله تعالى: { مآ أشهدتهم خلق السموت والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا } [الكهف: 51] إشارة إلى أن الله تعالى لما أخبر أنه ما أشهد الشياطين خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم؛ لأنهم الأعداء دليل على أن يشهد بعض أوليائه على شيء ما أشهد عليه أعداءه، وإن استبعد العقل إمكانه؛ لأن العقل لا يحكم بإشهاد شيء معدوم على إيجاده، ولكن الله تعالى إذا أراد إجراء هذا الأمر يتجلى بصفة عالميته لمن يشاء من عباده فيبصره بنور علمه المحيط بالأزل والأبد ابتداء تعلق قدرته بالأشياء المعدومة، وكيفية إخراجها من العدم إلى الوجود فيشهده خلق كل شيء حتى خلق نفسه ويخبره عن خاصية كل شيء وحكمة إيجادها ويعلمه أسماء الموجودات كقوله تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] وعلى شهوده ونظره يخرج من العدم ما هو المقدر خروجه إلى الأبد وهذا مما لا يدرك نظره العلماء بالعقل؛ لأن الله تعالى أنعم على هذا الضعيف بكشف هذه الواقعة الشريفة في أثناء السلوك والسير إلى الله تعالى فيما رزقه من كشف حقائق الأشياء عليه وأراه ماهيتها له.
ثم أخبر عن نداء الشركاء يوم اللقاء بقوله تعالى: { ويوم يقول نادوا شركآئي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } [الكهف: 52] يشير إلى امتثال أوامر الله ونواهيه ينفع العبد إذا كان في الدنيا قبل موته وبثمره في الآخرة فأما إذا كان في الآخرة فلا ينفعه الإيمان ولا الأعمال فإن قوله تعالى: { نادوا شركآئي } [الكهف: 52] أمر من الله تعالى وقد امتثلوا أمره بقوله: { فدعوهم } [الكهف: 52] فلم ينفعهم الامتثال؛ لأن الشركاء لم يستجيبوا لهم، ونظيره قوله تعالى:
انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد: 13].
{ وجعلنا بينهم } [الكهف: 52] أي: بين المصرين على الشرك والذنوب وبين الإيمان { موبقا } [الكهف: 52] يمنعهم عن الإيمان في الدنيا وهو الخذلان باستيلاء الهوى واستحلاء الدنيا وفي الآخرة عن الجنان، وهو القهر والعزة.
[18.53-57]
في قوله: { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } [الكهف: 53] إشارة إلى أن المجرمين لما رأوا في الدنيا ما يدخلهم النار من المحرمات والشهوات وأكل الربا وأكل مال اليتيم فلم يمتنعوا عنها وواقعوها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي بالجنة والنار والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب، فإذا رأوا في الآخرة النار أيقنوا أنهم مواقعوها بما لم يحترزوا عنها في الدنيا، { ولم يجدوا عنها مصرفا } [الكهف: 53] كما لم يجدوا في الدنيا ما يصرفهم عن الأعمال الموجبة للنار.
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } [الكهف: 54] يحتاج إليه السائرون إلى الله الصادقون في محبة الله، المخلصون في طلب الله المشتاقون إلى جمال الله ويستدل به الموحدون في وحدانية الله، ويتمسك به الواصلون إلى الله في بذل الوجود والفناء في الله ليبقوا بالله، ولكن من طبيعة الإنسان المجادلة والمخاصمة وبها يقطعون الطريق على أنفسهم فتارة مع الأنبياء يجادلون ولا يقبلونهم بالنبوة والرسالة حتى يقاتلوهم.
وتارة يجادلون في الكتب المنزلة ويقولون:
مآ أنزل الله على بشر من شيء
[الأنعام: 91] وتارة يجادلون في محكماتها، وتارة يجادلون في متشابهاتها، وتارة يجادلون في قراءتها، وتارة يجادلون في قدمها وحدوثها، وعلى هذا حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة، ومن المخاصمة إلى المعاملة، ومن المنازعة إلى المطاوعة، ومن المناظرة إلى المواصلة فلهذا قال: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } [الكهف: 54] ومن هنا عالجهم بقوله:
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
[الأنعام: 91].
وفي قوله تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى } [الكهف: 55] أي: أسباب الهداية { ويستغفروا ربهم } [الكهف: 55] أن كانوا مذنبين { إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا } [الكهف: 55] إشارة إلى أن أسباب الهداية إن اجتمعت بالكلية لا يهتدي بها الناس ولا يؤمنون إلا أن تأتيهم سنة الأولين من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهي جذبات العناية لأهل الهداية فإنها سنة الله التي قد خلت من قبل كما قال صلى الله عليه وسلم:
" والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ".
وكما قال تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
[السجدة: 13] فالاهتداء بهداية الله وبالسيف وهو قوله: { أو يأتيهم العذاب قبلا } [الكهف: 55] كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "
وكما قال:
" أنا نبي السيف ونبي الملحمة ".
ثم أخبر عن شريعة الأنبياء والمرسلين إلى الكفر وأهل الدين بقوله تعالى:
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين
[الأنعام: 48] أي: أهل المحبة والولاء المبتلين بالمحبة والبلاء الصابرين في البأساء والضراء، والصادقين في دعوى الوفاء بالاجتباء والاصطفاء والوصلة واللقاء
ومنذرين
[الأنعام : 48] لأهل الجفاء وكفرة النعماء في البؤس والرخاء بالقطيعة والفناء وسوء العاقبة والإيواء.
وفي قوله: { ويجدل الذين كفروا بالبطل ليدحضوا به الحق } [الكهف: 56] إشارة إلى عناد أهل ألكفر من أهل الحق من الأنبياء والأولياء جهلا منهم وضلالة بشأنهم يرون الحق باطلا، والباطل حقا وذلك من عمى قلوبهم وسخافة عقولهم أنهم يسعون في إبطال الحق وتحقيق الباطل، فإن أهل الحق هم المنقادون للأنبياء والأولياء المستسلمون لهم من غير عناد وجدال؛ وذلك لأنهم ينظرون بنور الله فيرون الحق حقا ويتبعونه، ويرون الباطل باطلا ويجتنبونه لا جرم أنهم يتخذون آيات الله من القرآن وغيره { ومآ أنذروا } [الكهف: 56] به من نار القطيعة وغيرها جزاء فيأتمرون بما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه ولا يتخذونها { هزوا } [الكهف: 56].
كما أخبر الله تعالى عن أهل الباطل { واتخذوا ءايتي ومآ أنذروا هزوا } [الكهف: 56]، وبقوله: { ومن أظلم ممن ذكر بآيت ربه فأعرض عنها } [الكهف: 57] يشير إلى أن من كانت هذه صفته فهو أظلم الناس على نفسه؛ لأن الإعراض أعظم من الشرك فإن المشركين يقولون:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله
[يونس: 18].
وقال تعالى:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13] فالمعرض أعظم ظلما من المشرك { ونسي ما قدمت يداه } [الكهف: 57] من الشرك فتولد الإعراض من شركه، كما أخبر بقوله: { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } [الكهف: 57] أي: غطاء من الشرك { أن يفقهوه } [الكهف: 57] أي: يفهموا أن غطاء قلوبهم من الشرك، { وفي ءاذانهم وقرا } [الكهف: 57] من الإعراض { وإن تدعهم إلى الهدى } [الكهف: 57] لم يسمعوا لصمم آذان قلوبهم من الإعراض { فلن يهتدوا إذا أبدا } [الكهف: 57] لأن الاهتداء موقوف على استماع دعوة الحق وهو ممنوع بصمم الإعراض.
[18.58-62]
وبقوله: { وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } [الكهف: 58] يشير إلى أن رحمة الله في الدنيا تعم المؤمن والكافر؛ لأنه لا يؤاخذهم بما كسبوا { بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا } [الكهف: 58] أي: ملجأ من العذاب وفيه إشارة إلى أن الرحمة تختص يوم القيامة بالمؤمن دون الكافر والعذاب يختص بالكافر دون المؤمن، وإن كان في الدنيا يعم المؤمن والكافر.
{ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } [الكهف: 59] أي: إنما أهلكنا أهل تلك القرى بعد أن كان من سنتنا أن تعم رحمتنا المؤمن والكافر في الدنيا؛ لأنهم ضموا مع كفرهم الظلم ومن سنتنا أن يمهل الظالم ولا يهمله كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم ".
وقال تعالى:
وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا
[الأنعام: 129] وذلك لأن دعوة المظلومين المضطرين مؤثرة ودعاءهم مستجاب، قال صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس لها عند الله حجاب "
قوله: { وجعلنا لمهلكهم موعدا } [الكهف: 59] أي: جعلنا موعد هلاك الكافر غلوه في الظلم، والظلم مرتعه وخيم.
ثم أخبر عن أهل الصحبة وآدابهم بالخدمة والحرمة بقوله تعالى: { وإذ قال موسى لفته لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا } [الكهف: 60] اعلم أن في قوله: { وإذ قال موسى } [الكهف: 60] إشارات:
منها: أن شرط المسافر أن يطلب الرفيق، ثم يأخذ الطريق.
ومنها: أن من شرط الرفيقين أن يكون أحدهما أميرا، والثاني مأمورا له ومتابعا.
ومنها: أن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده ويخبره عن مدة مكثه في سفره ليكون الرفيق واقفا على أحواله، فإن كان موافقا يرافقه في ذلك.
ومنها: أن من شرط الطالب الصادق أن تكون نيته في طلب شيخ يقتدي به وألا يبرح حتى يبلغ مقصوده ويظفر به، وإلا سيكون بقية عمره طالبا له فإن طلب الشيخ طلب الحق تعالى على الحقيقة.
وبقوله: { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا } [الكهف: 61] يشير إلى أن الطالب الصادق إذا قصد خدمة شيخ كامل يسلكه طريق الحق يلزمه مرافقة رفيق التوفيق ومعه حوت قلبه الميت بالشهوات النفسانية المملح بملح حب الدنيا وزينتها.
{ فلما بلغا مجمع بينهما } [الكهف: 61] المجمع هو ولاية الشيخ وبينهما أي: بين الطالب وبين الشيخ ولا يظفر المريد بصحبة الشيخ ما لم يصل إلى مجمع ولايته فافهم جدا، وعند مجمع الولاية عين الحياة الحقيقية فبأول قطرة من تلك العين تقع على حوت قلب المريد يحيا ويتخذ سبيله في البحر عن الولاية { سربا } [الكهف: 61].
ومنها: أن الله يحول بين المرء وقلبه فنسي المريد قلبه حين فقده وينسى القلب المريد إذا وجد الشيخ.
وفي قوله: { فلما جاوزا } [الكهف: 62] إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة وأصابت قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن خدمة الشيخ وترك صحبته حتى يظن أنه لو سافر عن خدمته واشتغل بطاعة ربه وجاهد نفسه في طلب الحق تعالى لعله يصل مقصده ويحصل مقصوده بلا واسطة الشيخ والاقتداء به هيهات، فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد، وأنه يضيع عمره ويتعب نفسه ويقع عن سبل الرشاد، ويبعد عن طريق السداد إلى أن أدركته العناية الأزلية التي هي الكفاية الأبدية ورد إليه صدق الإرادة.
{ قال لفته } [الكهف: 62] فيقول لرفيق التوفيق: { آتنا غدآءنا } [الكهف: 62] أي: صحبة الشيخ { لقد لقينا من سفرنا هذا } [الكهف: 62] الذي جاوزنا عن صحبة الشيخ { نصبا } [الكهف: 62] أي: تعبا ولقينا نصبا كثيرا بلا فائدة الوصول ونيل المقصود.
[18.63-65]
فقال رفيقه: { أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة } [الكهف: 63] صخرة النفس وتسويلها جاوزنا صحبة الشيخ { فإني نسيت الحوت } [الكهف: 63] حوت القلب { ومآ أنسانيه إلا الشيطن } [الكهف: 63] شيطان الخذلان { أن أذكره } [الكهف: 63] أي: أذكر لك أنا نسينا حوت القلب.
{ واتخذ سبيله في البحر عجبا } [الكهف: 63] منا أن نمشي بلا قلب، قال - يعني: المريد-: { ذلك ما كنا نبغ } [الكهف: 64] من قلبي أن نتخذ سبيله في بحر ولاية الشيخ الكامل وتحسر على فوات صحبة الشيخ { فارتدا على آثارهما قصصا } [الكهف: 64] أي: رجع عما كان عليه من تلك الصحبة وعاد إلى ملازمة الخدمة في مرافقة رفيق التوفيق.
{ فوجدا عبدا من عبادنآ } [الكهف: 65] أي: حرا من رق عبودية غيرنا من أحرارنا أي: ممن أحررناهم من رق عبودية الأغيار واصطفيناهم من الأخيار، { آتيناه رحمة من عندنا } [الكهف: 65] يعني: جعلناه قابلا لفيض نور من أنوار صفائنا بلا واسطة، { وعلمناه من لدنا علما } [الكهف: 65] وهو علم معرفة ذاته وصفاته الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليمه إياه.
واعلم أن كل علم يعلمه الله تعالى عباده ويمكن للعباد أن يتعلموا ذلك العلم من غير الله فإنه علم صنعة اللبوس ليس من جملة العلم اللدني؛ لأنه يمكن أن يتعلم من لدن غيره يدل عليه قوله:
وعلمناه صنعة لبوس
[الأنبياء: 80] فإن علم صنعة اللبوس مما علمه الله داود عليه السلام فلا يقال: إنه العلم اللدني؛ لأنه يحتمل أن يتعلم من غير الله تعالى فيكون من لدن ذلك الغير، وأيضا أن العلم اللدني ما يتعلق بلدن الله - جل وعلا - وهو علم المعرفة ذاته وصفاته تعالى.
[18.66-78]
ثم أخبر عن شرائط الصحبة وفوائد الخدمة بقوله تعالى: { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } [الكهف: 66] القصة.
اعلم أن في قوله: { قال له موسى هل أتبعك } [الكهف: 66] إلى أن قال: { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } [الكهف: 78] إشارة إلى أدب أهل الصحبة من المريدين المسترشدين والمشايخ السالكين الهادين ومن شرائطهم في الاقتداء والاستهداء والتربية والهداية، فمن آداب المريد الصادق بعد طلب الشيخ ووجدانه أن يستجيز منه في اتباعه وملازمة صحبته تواضعا لنفسه وتعظيما لشيخه، بعد مفارقة أهاليه وأوطانه وترك مناصبه وأتباعه وإخوانه وأصدقائه كما كان حال موسى عليه السلام إذ قال للخضر: { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } [الكهف: 66] بإرشاد الله لك أي: تعلمني طريق الاسترشاد من الله تعالى بلا واسطة جبريل والكتاب المنزل ومكالمة الحق تعالى، فإن جميع ذلك كان حاصلا له، فإن قيل: فهل مرتبة فوق هذه المراتب الثلاثة؟
قلنا: إن هذه المراتب وإن كانت جليلة، ولكن مجيء جبريل يقتضي الواسطة، وإنزال الكتاب يدل على البعد والمكالمة تنبئ عن الاثنينية والرشد الحقيقي من الله للعبد هو أن يجعله قابضا لفيض نور الله بلا واسطة وذلك بتجلي صفات جماله وجلاله الذي كان مطلوب موسى بقوله:
أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143] فإن فيه رفع الاثنينية، وإثبات الوجود الذي لا يسع العبد فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ومنها: أن المريد إذا استسعد بخدمة شيخ واصل ينبغي أن يخرج عما معه من الحسب والنسب والجاه والمنصب والفضائل والعلوم ويرى نفسه كأنه أعجمي لا يعرف البحر من البر وينقاد لأوامره ونواهيه كما كان حال كليم الله لم تمنعه النبوة والرسالة ومجيء جبريل وإنزال التوراة، ومكالمة الله واقتداء بني إسرائيل به أن يتبع الخضر ويتواضع معه ويترك أهاليه وأتباعه وأشياعه وكل ما كان له من المناصب والمناقب، وتمسك بذيل إرادته منقادا لأوامره ونواهيه.
ومنها: أن يكون المريد ثابتا في الإرادة بحيث لو يرده الشيخ كرات بعد مرات ولا يقبله امتحانا له في صدق الإرادة ويلازم عتبة بابه، ويكون أقل من ذباب فإنه كلما ذب آب كما كان حال كليم الله، فإنه كان الخضر يرده ويقول له: { قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } [الكهف: 67-68] أي: كيف تصبر على فعل يخالفه مذهبك ظاهرا ولم يطلعك الله على الحكمة في إتيانه باطنا ومذهبك أنك تحكم بالظاهر على ما أنزل الله عليك من علم الكتاب ومذهبي أن أحكم بالباطن على ما أمرني الله من العالم اللدني.
وقد كوشفت حقائق الأشياء ودقائق الأمور في حكمة إجرائها، وذلك أنه تعالى أفناني عني بهويته وأبقاني به بألوهيته، فبه أبصر، وبه أسمع، وبه أنطق، وبه آخذ، وبه أعطي، وبه أفعل، وبه أعلم، فإني أعلم ما لم تعلم.
وأنه يقول: { قال ستجدني إن شآء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } [الكهف: 69-72]
ومنها: أن يكون صابرا على مقاساة شدائد الصحبة والخدمة، منقادا لأوامر الشيخ ونواهيه، مستسلما لأحكامه، متأدبا بتأديبه، قابلا لتربيته، ملتجئا إلى ولايته، مستظهرا بعنايته، مهتديا بهدايته.
ومنها: ألا يكون معترضا على أفعاله وأقواله وأحواله وجميع حركاته وسكناته، معتقدا له في جميع حالاته، وإن شاهد منه معاملة غير مرضية بنظر عقله وشرعه فلا ينكره بها ولا يسيء الظن فيه، بل يحسن فيه الظن ويعتقد أنه مصيب في معاملاته، مجتهد في آرائه، وإنما الخطأ من تصور نظره وسخافة عقله وقلة علمه.
ومنها: أن يسد على نفسه باب السؤال فلا يسأله عن شي حتى يحدث له منه ذكرا إما بالقال وإما بالحال.
ومن آداب الشيخ وشرائطه في الشيخوخة: ألا يحرص على قبول المريد، بل يمتحنه بأن يخبره عن دقة صراط القلب وحدته، وعزة المطلوب وغيرته، وفي ذلك يكون له مبشرا ولا يكون منفرا، فإن وجده صادقا في دعواه راغبا فيما يهواه عما سواه يقبله بقبول حسن ويكرم مثواه، ويقبل عليه إقبال مولاه، ويربيه تربية الأولاد، ويؤدبه بآداب العباد.
ومنها: أنه يتغافل عن كثير من زلات المريد رحمة الله عليه، ولا يؤاخذه بكل سهو أو خطأ أو نسيان أو عمد بضعف حاله إلا بما يؤدي إلى مخالفة أمر من أوامره أو مزاولة نهي من نواهيه، أو يؤدي إلى إنكار واعتراض على بعض أفعال له وأقوال، فإنه يؤاخذه به وينهاه عن ذلك، فإن رجع عن ذلك فاستغفر منه واعترف بذنبه وندم عليه وشرط معه ألا يعود إلى مثاله ويعتذر مما جرى عليه كما كان الكليم حين قال: { قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصحبني } [الكهف: 73-76] أي: لا تضيق علي أمري فإني لا أطيق ذلك.
ومنها: أنه لو ابتلي المريد بنوع من الاعتراض أو مما يوجب الفرقة يعفو عنه مرة أو مرتين، ويصفح ولا يفارقه، فإن عاد إلى الثالثة فلا يصاحبه { قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا } [الكهف: 76-77] فقل كما قال الخضر: { هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل } [الكهف: 78].
ومنها: أنه لو آل أمر الصحبة إلى المفارقة بالاختيار وبالاضطرار فلا يفارقه إلا على النصيحة؛ فينبئه عن سر ما كان عليه الاعتراض، ويخبره عن حكمته التي لم يحط بها خبرا، ويبين له تأويل ما لم يستطع عليه صبرا، لئلا يبقى معه إنكار فلا يفلح إذا أبدا.
[18.79-82]
ثم أخبر عن تأويل أفاعيله بقوله تعالى: { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها } [الكهف: 79] إلى قوله: { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } [الكهف: 82] إشارة إلى حقائق ومعان:
منها أن إخراق السفينة وإعابتها لئلا تؤخذ غصبا ليس من أحكام الشرع ظاهرة ولكنه لما كان فيه مصلحة لصاحبها في باطن الأمر جوز ذلك ليعلم أنه يجوز للمجتهد أن يحكم فيما يرى أنه صلاحه أكثر من فساده في باطن الأمر بما لا يجوز في ظاهر الشرع إذا كان موافقا الحقيقة كما قال: { وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } [الكهف: 79].
ومنها: لكي يعلم عنايته بنبي من أنبيائه وعناية الله في حق عباده المساكين بأنهم يعملون في البحر غافلين عما وراءهم من الآفات، فكيف إن أدركتهم العناية ونبي من أنبيائه دفع عنهم البلاء ودرأ عنهم الآفة.
ومنها: ليعلم أن الله تعالى في بعض الأوقات يرجح مصلحة بعض المساكين على مصلحة نبي من أنبيائه في الظاهر، وإن كان لا يخلو في باطن الأمر من مصلحة النبي في إهماله جانبه في الظاهر، كما أنه تعالى رجح رعاية مصلحة المساكين في خرق السفينة على رعاية مصلحة موسى عليه السلام، لأنه كان من أسباب مفارقته عن صحبة الخضر ومصلحته ظاهرا كانت في ملازمة صحبة الخضر، وقد كان فراقه عن صحبته متضمنا عطاء النبوة والرسالة ودعوة بني إسرائيل وتربيتهم في حق موسى عليه السلام باطنا.
ومنها: أن قتل النفس الزكية بلا جرم منها محظور في ظاهر الشرع، وإن كان فيه مصلحة لغيره، ولكنه في باطن الشرع جائز عند من يكاشف بخواتيم الأمور ويتحقق له أن حياته سبب فساد دين غيره، وسبب كمال شقاوة نفسه كما كان حال الخضر مع قتل الغلام بقوله تعالى: { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا } [الكهف: 80] فلو عاش الغلام لكانت حياته سبب فساد دين أبويه وسبب كمال شقاوته، فإنه وإن طبع كافرا شقيا لم يكن ليبلغ كمال شقاوته إلا بطول الحياة ومباشرة أعمال الكفر.
ومنها: تحقيق قوله تعالى:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
[البقرة: 216] فإن أبوي الغلام كانا يكرهان قتل ابنهما بغير قتل نفس ولا جرم، وكان قتله خيرا لهما وإن كانا يحبان حياة ابنهما وهو أجهل الناس وكانت حياته شرا لهما، وكان الغلام أيضا يكره قتل نفسه وهو خير له ويحب حياة نفسه وهو شر له؛ لأنه أراد طول الحياة أن يبلغ إلى كمال شقاوته.
ومنها: أن من عواطف إحسان الله تعالى أنه إذا أخذ من العبد المؤمن شيئا من محبوباته، وهو مضر له والعبد غافل عن مضرته، فإن حب وشكر فالله يبدله خيرا منه مما ينفعه ولا يضره كما قال تعالى: { فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما } [الكهف: 81].
ومنها: أنه من كمال حكمته وغاية رأفته ورحمته في حق عباده أن يستعمل نبيين مثل موسى وخضر - عليهما السلام - في مصلحة الطفلين، كما قال تعالى: { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما } [الكهف: 82].
ومنها: أن مثل الأنبياء يجوز أن يسعى في أمر دنياوي إذا كان فيه صلاح أمر أخروي، لا سيما فائدته راجعة إلى غيره في الله.
ومنها: ليعلم أن الله تعالى يحفظ مصالح قوم وقبيلة ويوصل بركاته إلى البطن السامع فيه كما قال: { وكان أبوهما صالحا } [الكهف: 82].
ومنها: ليتأدب المريد فيما استعمله الشيخ وينقاد له، ولا يعمل إلا لوجه الله، ولا يشوب عمله بطبع دنياوي وغرض نفساني ليحبط عمله ويقطع حبل الصحبة ويوجب الفرقة.
ومنها : أن الله تعالى يحفظ المال الصالح للعبد إذا كان له فيه صلاح كما قال: { فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } [الكهف: 82].
ومنها: ليتحقق أن كل ما يجري على أرباب النبوة وأصحاب الولاية إنما يكون بأمر من أوامر الله ظاهرا أو باطنا.
أما الظاهر: فكحال الخضر قال: { وما فعلته عن أمري } [الكهف: 82] أي: فعلته بأمر ربي.
وأما الباطن: فكحال موسى واعتراضه على الخضر في معاملاته ما كان خاليا عن أمر باطن من الله تعالى في ذلك؛ لأنه كان اعتراضه على فق شريعته.
ومنها: أن الصبر على أفاعيل المشايخ أمر شديد، فإن زل قدم مريد صادق في أمر من أوامر الشيخ أو يتطرق إليه إنكار على بعض أفعال الشيخ أو يعتريه اعتراض على بعض معاملاته أو يعوزه الصبر على ذلك، فليعذره الشيخ ويعفو عنه ويتجاوز إلى ثلاث مرات فإن قال بعد الثالثة:
هذا فراق بيني وبينك
[الكهف: 78] يكون معذورا ومشكورا، ثم ينبئه عن أسرار أفاعليه ويقول له تأويل:
ما لم تستطع عليه صبرا
[الكهف: 78].
[18.83-88]
ثم أخبر عن السؤال وجوابه بالفضل والنوال بقوله تعالى: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا } [الكهف: 83] إن السائل لا يرد وأن في القصص للقلوب عبرة وتقوية وتبينا.
وبقوله: { إنا مكنا له في الأرض } [الكهف: 84] يشير إلى تمكين الخلافة أي: مكناه بخلافتنا في الأرض { وآتيناه من كل شيء سببا } [الكهف: 84] أي: أعطيناه بالخلافة ما كان سبب وجود كل مقدور من مقدوراتنا بالأصالة حتى صار قادرا على قلب الأعيان، وكانت الدنيا مسخرة له فلو أراد طويت له الأرض، وإذا شاء مشى على الماء وإذا أحب طار في الهواء أو يدخل النار.
{ فأتبع سببا } [الكهف: 85] أي: سبب كل مقدور فصار مقدورا له بالخلافة في الأرض ما كان مقدورا لنا بالأصالة في السماء والأرض.
{ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } [الكهف: 86] فإن قال قائل: إنا قد علمنا أن الشمس في السماء الرابعة ولها فلك خاص يدور بها في السماء، فكيف يكون غروبها في عين حمئة؟
قلنا: إن الله تعالى لم يخبر عن حقيقة غروبها في عين حمئة، وإنما أخبر عن وجودان ذي القرنين غروبها فيها، فقال: وجدها تغرب في عين حمئة، وذلك أن ذا القرنين ركب بحر المغرب وأجرى مركبه إلى أن يبلغ في البحر موضعا لم يتمكن جريان المراكب فيه فنظر إلى الشمس عند غروبها وجدها تغرب بنظره في عين حمئة.
وقوله تعالى: { ووجد عندها قوما قلنا يذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا } [الكهف: 86] يدل على أن ذا القرنين كان نبيا؛ لأنه أمر بالقتال معهم بقوله: { إمآ أن تعذب } [الكهف: 86] وأمر باتخاذ الإيمان منهم بقوله: { وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا } [الكهف: 86] والنبوة مبنية على هذين الأمرين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "
ويدل على نبوته أيضا قوله تعالى: { قال أما من ظلم } [الكهف: 87] أو كفر ولا يقبل الإيمان منه { فسوف نعذبه } [الكهف: 87] أي: نقلته { ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا } [الكهف: 87] أي: عذابا مخلدا لا يعرف آخره إلى الأبد.
{ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى } [الكهف: 88] أي: الجنة والقربة في الآخرة { وسنقول له من أمرنا يسرا } [الكهف: 88] أي: قولا لا يهتدي به إلى الله باليسر والسهولة.
[18.89-98]
ثم أخبر عن جده في الطلب واتباعه للسبب بقوله: { ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } [الكهف: 89-90] إشارة إلى أن هذا العالم عالم الأسباب لم يبلغ أحد إلى شيء من الأشياء، ولا إلى مقصد من المقاصد إلا أن مكنه الله تعالى، وأتاه سبب بلاغ ذلك الشيء والمقصد، ووفقه لاتباع ذلك السبب، فباتباع السبب بلغ ذة القرنين مغرب الشمس ومطلعها.
وبقوله: { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا } [الكهف: 91] يشير إلى أنه كما أتيناه من كل شيء سببا؛ ليبلغ به إلى ذلك الشيء، كذلك أتيناه علم سبب الذي يبلغ بين السدين، { ثم أتبع سببا } [الكهف: 89] أي: ذلك السبب. { حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } [الكهف: 93].
فإن قيل: فكيف أخبر عنهم؟ إنهم { لا يكادون يفقهون قولا }.
ثم قال: { قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } [الكهف: 94] قلنا: كلمة كاد: ليست لوقوع الفعل كقوله تعالى:
تكاد السموت يتفطرن منه
[مريم: 90] أي: قربت لانفطار فلم تنفطر، وإذا دخل فيها لا الجحود دوما النفي يكون لوقوع الفعل كقوله تعالى:
فذبحوها وما كادوا يفعلون
[البقرة: 71] أي: قرب ألا يذبحوها فذبحوها، وكذلك قوله: { لا يكادون يفقهون قولا } [الكهف: 93] أي: قرب ألا يفقهون قولا يلين به قلب ذي القرنين؛ ليجعل لهم السد ففقهوا بإلهام الحق تعالى: { قالوا يذا القرنين } [الكهف: 94] والذي يدل على هذا قوله تعالى: { قال ما مكني فيه ربي خير } [الكهف: 95] أي: أعطاني الله من التمكين في قبول الخير والعمل به خير من تجرد قولكم.
{ فأعينوني بقوة } [الكهف: 95] من ترتيب الآلات لا بالقول، { أجعل بينكم وبينهم ردما } [الكهف: 95] ففسر القوة بقوله: { آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } [الكهف: 96-97].
وفي قوله: { قال هذا رحمة من ربي فإذا جآء وعد ربي جعله دكآء وكان وعد ربي حقا } [الكهف: 98] دلالة على نبوته، فإنه أخبر عن وعد الحق تعالى، وتحقق وعده وهذا من شأن الأنبياء وإعجازهم، والله أعلم.
ثم اعلم أن الله تعالى من كمال حكمته وقدرته جعل لوجود كل شيء سببا من أسباب السماوات والأرض، ولبلوغ كل أحد إلى مقام من مقامات الدنيا والآخرة، وإلى قربة من قربات الحضرة سببا مناسبا له، فإذا أراد بلوغ أحد إلى مقام أو قربة يؤتيه سبب ذلك، ويوفقه لإتباع ذلك السبب، فكما أتى لذي القرنين
من كل شيء سببا
[الكهف: 84] ووفقه لاتباع الأسباب فاتبع سببا حتى بلغ به مشرق الأرض ومغربها وجوانبها كلها، وسخر الخلق ويسر الملك، حصلت المقاصد بإتباع أسبابها.
كذلك أتى لكل رسول ونبي وولي ومؤمن ومسلم وفاسق ومنافق وكافر أسباب بلوغه إلى الرسالة والنبوة والولاية والإيمان والإسلام والفسق والنفاق والكفر، ووفقه لإتباع الأسباب حتى يبلغ مقام من القربة والجنة والنار، فكل الخلق قد بلغوا بإتباع الأسباب التي أتاهم الله تعالى إلى مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم، وأقام كل واحد منهم في مقامه ومنزله إلا نبينا حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أعطي أسباب العبور من المقامات كلها من البراق وجبريل والرفرف وغيره حتى بلغ إلى مقام قاب قوسين، ثم انقطعت عنه أسباب السماوات والأرض فبقي بلا سبب من المخلوقات، وهو من مقام نهاية المخلوقات فمسبب الأسباب، فسبحانه وتعالى من عظم فضله عليه كان سببا به حتى بعثه إلى مقام لا مقامية بفضله وكرمه بلا واسطة، وهو المقام المحمود الذي قال تعالى:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
[الإسراء: 79] وهو المخصوص به من بين سائر الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فافهم جيدا.
[18.99-102]
ثم أخبر عن أحوال القيامة وأهوالها وأهل القرب منها بقوله تعالى: { وتركنا بعضهم يومئذ } [الكهف: 99] أي: خذلنا بعض من بقي بعد هبوب الريح الطيبة، وقبض أرواح المؤمنين والمسلمين. { يموج } [الكهف: 99] بالهرج والمرج والقتل والقتال، { في بعض } [الكهف: 99] فيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق الخلق على جبلة الإنسانية التي رأت الملائكة بنظر الملكوتي في ملكوت آدم عليه السلام حيث قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] فالله سبحانه وتعالى على قانون حكمته، ووفق مشيئته الأزلية عصم من عصم منهم من إظهار هذه الصفات الذميمة، وبدلها باستعمال أكسير الشريعة بالصفات الملكية والأخلاق الربانية، وترك من ترك منهم بالخذلان، فظهر منهم هذه الصفات الذميمة المجبولة عليها كما قال تعالى:
إن الإنسان لظلوم كفار
[إبراهيم: 34]، وقال:
قتل الإنسان مآ أكفره
[عبس: 17].
ولهذا ما كذب الله تعالى الملائكة حين قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] فأجابهم بقوله تعالى:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة: 30] يعني: أني أعلم من هم المنظورون بنظر العناية فاعصمهم عن إظهار هذه الصفات، وأوفقهم لتبديلها، وأزكيهم عنها كما قال تعالى:
بل الله يزكي من يشآء
[النساء: 49] وقال:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا
[النور: 21].
وبقوله: { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا } [الكهف: 99] يشير إلى أن الله تعالى من كمال قدرته يحيي الخلق بسبب ويميتهم به وهو النفخة، فبالنفخة الأولى كما أفناهم بقوله تعالى:
ونفخ في الصور فصعق من في السموت ومن في الأرض
[الزمر: 68] كذلك بالنفخة الأخيرة أحياهم كقوله: { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا } [الكهف: 99] وفيه إشارة إلى أن الخلق محتاجون إلى اتباع سبب كل شيء؛ ليبلغوا إليه وهم لا يقدرون على أن يجعلوا سببا لشيء آخر على ضده، والخالق سبحانه هو المسبب فهو قادر على أن يجعل الشيء الواحد سببا لوجود الشيئين المتضادين، كما جعل النفخة في الصور سببا للممات والحياة.
وبقوله تعالى: { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا } [الكهف: 100] يشير إلى أن جهنم لو كانت معروضة على أرواح الكافرين قبل يوم القيامة، كما كانت معروضة على أرواح المؤمنين لآمنوا بها كما آمن المؤمنون بها إن لم يكن { أعينهم في غطآء } [الكهف: 101] من ذكر الله، { وكانوا لا } [الكهف: 101] { يستطيعون سمعا } [الكهف: 101] لكلام الله؛ لأن آذان قلوبهم مفتوحة والكافرون هم: { الذين كانت أعينهم في غطآء } [الكهف: 101] أعين نفوسهم في غطاء الغفلة عن نظر العبرة، وأعين قلوبهم في غطاء حب الدنيا وشهواتها عن رؤية درجات الآخرة ودركاتها، وأعين أسرارهم في غطاء الالتفات إلى الكونين عن شواهد هذا الكون، وأعين أرواحهم في غطاء تذكار ما سوى الله عن ذكر الله تعالى كما قال تعالى: { الذين كانت أعينهم في غطآء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا } [الكهف: 101] يسمع به كلام الحق وكلام أرباب الصدق.
{ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أوليآء } [الكهف: 102] يشير به: إن قلوب عباده بيده يقلبها كيف يشاء، فكيف يتخذ الكافرون أولياء من غير معونة من الله، أو بغير إرادته وخلاف مشيئته؟ وفيه أيضا وعيد لمن ادعى محبة الله وولائه وهو بحسب أن يكفر بنعمة الولاء ويتخذ من دون الله أولياء، { إنآ أعتدنا جهنم } [الكهف: 102] البعد والقطيعة { للكافرين } [الكهف: 102] الكافري النعمة، { نزلا } [الكهف: 102].
[18.103-106]
ثم أخبر عن الأخسرين الأولين بقوله تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } [الكهف: 103-104] يشير إلى: أهل الأهواء والبدع وأهل الرياء والسمعة، فإن اليسير من الرياء شرك، وإن الشرك محبط الأعمال كقوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65] إن هؤلاء القوم يبتدعون في العقائد ويراءون بالأعمال ينتفعون بها، ويعود وبال البدعة والرياء إليهم، { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } [الكهف: 104] وإن حجاب الحساب من أعظم الحجب وهم الأخسرون.
{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } [الكهف: 105] أي: كفروا كفران رؤية نعمة ربه آيات ربهم وشواهد الحق، { فحبطت أعمالهم } [الكهف: 105] بالكفران، { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } [الكهف: 105]؛ لأن وزن الأشجار والأعمال في ميزان القيمة إنما يكون بحسب الصدق والإخلاص، فمن زاد إخلاصه زاد ثقل وزنه، ومن لم يكن فيه، وفيه أعماله إخلاص لم يكن له ولا لعمله وزن ومقدار كما قال تعالى:
وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل
[الفرقان: 23] أي: بلا إخلاص،
فجعلناه هبآء منثورا
[الفرقان: 23] فلا يكون للهباء المنثور وزن ولا قيمة، { ذلك } [الكهف: 106] أي: الذين لا إخلاص فيهم ولا في أعمالهم، { جزآؤهم جهنم } [الكهف: 106] أي: جهنم البعد والطرد، { بما كفروا } [الكهف: 106] بنعمة إظهار الآيات والمعجزات وإرسال رسل الواردات، { واتخذوا آياتي ورسلي هزوا } [الكهف: 106] بأن جعلوها مصطادا للخلق والدنيا.
[18.107-110]
ثم أخبر عن خلاص أهل الإخلاص بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الكهف: 107] يشير إلى: { إن الذين آمنوا } في الدنيا، { وعملوا الصالحات } أي: على وفق الشريعة وقانون الطريقة إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم خلقوا في صفة ومقام واستعداد، { كانت لهم } [الكهف: 107] عند النزول من أعلى مراتب القرب والعبور على عالم الأرواح للتعلق بالقالب، { جنات الفردوس } [الكهف: 107] وهي أحظى شيء من الجنان وأنعم وأعز وألطف { نزلا } [الكهف: 107] ما يتهيأ للنازلين ولعابري السبيل { خالدين فيها } [الكهف: 108] أي: خالدين في تلك الصفة والمقام إلى الأبد لا تغير لهم، { لا يبغون عنها حولا } [الكهف: 108] أي: لا يبغون التحويل من تلك الصفة التي خلقوا عليها؛ لدناءة الهمة وخسة النفس، بل هم على تلك الصفة ثابتون؛ لعلو الهمة ونفاسة النفس.
{ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } [الكهف: 109] يشير به إلى أن كلمات قديمة غير متناهية مع أنها ألفاظ للعدد فيها محال، وألا يحصى فيها العدد فكيف بإشاراتها وأسرارها ومعانيها ولطائفها وحقائقها؟! فإنها غير محصورة ولا متناهية لكلمة واحدة من كلماته.
وبقوله: { قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد } [الكهف: 110] يشير إلى أن بني آدم في البشرية واستعداد الإنسانية سواء النبي والولي والمؤمن والكافر، والفرق بينهم بفضيلة الإيمان والولاية والنبوة والوحي والمعرفة بأن إله العالمين إله واحد،
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] فالمعرفة الحقيقية ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج عند حصول الوصول في التقاء اللقاء في معنى:
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10] { فمن كان يرجوا لقآء ربه } [الكهف: 110] بالوصول والوصال، { فليعمل عملا صالحا } [الكهف: 110] والعمل الصالح متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، والتسنن بسنته ظاهرا وباطنا:
* فأما سنته ظاهرا: بترك الدنيا واختيار الفقر ودوام العبودية.
* وأما سنته باطنا: فالتبتل إلى الله تبتيلا وقطع النظر عما سواه كما فعل،
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 16-17] وهذا تحقيق قوله: { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف: 110] أي: ما أشرك في طلب اللقاء شيئا من الدنيا والآخرة، ولهذا
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 18] وبلغ المقصد الأعلى، وكان
فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9].
[19 - سورة مريم]
[19.1-7]
{ كهيعص } [مريم: 1] إلى قوله: { يزكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } [مريم: 7] إشارة إلى البشارات:
* منها: إنه تعالى يناديه باسمه زكريا وهذه كرامة منه في حقه.
* ومنها: إنه كان مبشرا له بلا واسطة ملك مقرب أو نبي مرسل.
* ومنها: إنه بشره بإجابة دعائه حين قال: { فهب لي من لدنك وليا } [مريم: 5].
* ومنها: إنه استدعى ولدا وليا فأعطاه ولدا نبيا.
* ومنها: إنه أعطاه غلاما ولم يعطه بنتا، فإنه
يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور
[الشورى: 49].
* ومنها: إنه سماه يحيى { لم نجعل له من قبل سميا } [مريم: 7] بالصورة والمعنى؛ أما بالصورة: فظاهر، وأما بالمعنى: فإنه ما كان محتاجا إلى شهوة من غير علة، ولم يهم إلى معصية قط، وما خطر بباله همها كما أخبر عن حال النبي.
وفي قوله: { لم نجعل له من قبل سميا } [مريم: 7] إشارة إلى: إنه تعالى يتولى بتسمية كل إنسان قبل خلقه وما سمي أحد إلا بإلهام الله، كما أن الله ألهم عيسى عليه السلام باسم نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال:
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
[الصف: 6].
[19.8-15]
وبقوله قال: { قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } [مريم: 8] يشير إلى أن أسباب حصول الولد منفية من الوالدين بالعقر والكبر وهي من السنة الإلهية، فإن من السنة أن يجعله يخلق الله الشيء من الشيء كقوله تعالى:
وما خلق الله من شيء
[الأعراف: 185] ومن القدرة أنه تعالى يخلق الشيء من لا شيء، فقوله: { أنى يكون لي غلام } [مريم: 8] أمن السنة أو من القدرة. فأجابه الله تعالى بقوله: { قال كذلك } [مريم: 9] أي: الأمر لا يخلو من السنة أو القدرة؟
وفي قوله: { قال ربك هو علي هين } [مريم: 9] إشارة إلى أن كلا الأمرين علي هين إن شئت أدت إليكما أسباب حقول الولد من القوة على الجماع وفتق الرحم بالولد كما جرت به السنة، وإن شئت أخلق لك ولدا من لا شيء بالقدرة، كما { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } [مريم: 9] أي: خلقت روحك من قبل جسدك من لا شيء بأمر كن، ولهذا قال تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء: 85] وهو أول مقدور تعلقت القدرة به.
واعلم أن من قوله تعالى:
إذ نادى ربه
[مريم: 3] إلى تمام الآيات إشارة أخرى وهي: إن زكريا الروح نادى ربه
ندآء خفيا
[مريم: 3] سر الس.
قال رب إني وهن العظم مني
[مريم: 4] أعظم عظم الروحانية
واشتعل الرأس شيبا
[مريم: 4] أي: شيب صفات البشرية
ولم أكن بدعآئك
[مريم: 4] بموهبة الولد
رب شقيا * وإني خفت الموالي
[مريم: 4-5] أي: صفات النفس أن تغلب
وكانت امرأتي
[مريم: 5] أي: الجثة الجسدانية التي هي زوجة الروح
عاقرا
[مريم: 5] أي: لا يلد إلا بموهبة من الله،
فهب لي من لدنك وليا
[مريم: 5] وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني، فإنه ولي الروح والنفس التي هي أعدى عدوة.
يرثني ويرث من آل يعقوب
[مريم: 6] أي: يتصف بصفة الروح وجميع الروحانيات.
واجعله رب رضيا
[مريم: 6] أن تعطيه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره، قوله:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى: 5] فأجابه الله تعالى بقوله:
يزكريآ
[مريم: 7] الروح
إنا نبشرك بغلام
[مريم: 7] وهو القلب
اسمه يحيى
[مريم: 7] بإحياء الله إياه بنوره كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا
[الأنعام: 122] فيه إشارة إلى أن من لم يحييه الله ولم يجعل له نورا فهو ميت، قوله:
لم نجعل له من قبل سميا
[مريم: 7] أي: موصوفا بصفة لا من الحيوانات ولا من الملائكة قبله وهي قبول فيض الألوهية بلا واسطة كما قال تعالى:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
ألا وهي سر حمل الأمانة التي ضاق أهل السماوات والأرض عند حملها.
{ قال رب أنى يكون لي غلام } [مريم: 8] أي: قلب بهذه الصفة.
{ وقد بلغت من الكبر } [مريم: 8] أي: بطول زمان التعلق بالقالب. { عتيا } [مريم: 8] أي: يبسا وجفافا من غليان صفات النفس. { قال كذلك } [مريم: 9] أي: هكذا الأمر { قال ربك هو علي هين } [مريم: 9] لأني قادر على أن أحي الموتى، وأن أجعل من ازدواج الروح والقالب قلبا حيا يحيى بحياتي { وقد خلقتك من قبل } [مريم: 9] من لا شيء { ولم تك شيئا } [مريم: 9] لا روحانيا ولا جسمانيا { قال رب اجعل لي آية } [مريم: 10] أهتدي بها إلى كيفية عمل القالب العاقر بالقلب الحي الذي يحيى في ذلك { قال آيتك ألا تكلم الناس } [مريم: 10] أي: لا تخاطب غير الله ولا تلتفت إلى ما سواه { ثلاث ليال } [مريم: 10] وبها يشير إلى: مراتب ما سوى الله وهي ثلاث مراتب: الجمادات والحيوانات والروحانيات، فإذا تقرب إلى الله بعدم الالتفات إلى ما سواه يتقرب إليه بموهبة الغلام الذي هو القلب الحي بنوره، فافهم جدا.
قوله: { سويا } [مريم: 10] أي: متمكنا في هذا الحال من غير تلون { فخرج على قومه من المحراب } [مريم: 11] فخرج زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته. { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } [مريم: 11] أي: كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه
آنآء الليل
[طه: 130]
وأطراف النهار
[طه: 130]؛ بل بكرة الأزل وعشي الأبد.
ثم أخبر عن الخطاب ليحيى يأخذ الكتاب بقوله: { ييحيى خذ الكتاب بقوة } [مريم: 12] يشير إلى يحيى القلب؛ أي: خذ كتاب الفيض الإلهي بقوة ربانية لا بقوة إنسانية؛ لأنه خلق الإنسان ضعيفا وهو عن القوة بمعزل و
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
[الذاريات: 58]. { وآتيناه الحكم صبيا } [مريم: 12] أي: آتيناه العلم والحكمة وهو في صبايته، وخلقه إذ خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فالقلب موضع قبول الرشاش من الروح، والعلم والحكمة من نتائج ذلك الرشاش إلا أن الله تعالى خلق للقلب صورة وهي الصفة الصنوبرية، وقد خلقها من الذرة التي أخذها من ظهر آدم يوم الميثاق، وأنه تعالى جعل له روحا من انصباب رشاش النور من الروح الإنساني وهذا يختص بقلوب الذين أنعم عليهم بإضفائه رشاش النور
من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
[النساء: 69] ولهذا الاختصاص صار يحيي القلب مخصوصا بالحكمة.
وبقوله: { وحنانا من لدنا } [مريم: 13] أي: آتيناه رحمة من عندنا نظيره قوله في خضر
آتيناه رحمة من عندنا
[الكهف: 65]، وبقوله: { وزكاة } [مريم: 13] أي: تزكية وتطهيرا منا عن الالتفات بغيرنا { وكان تقيا } [مريم: 13] أي: يتقي بنا عما سوانا { وبرا بوالديه } [مريم: 14] أي: بوالد الروح وبوالدة القالب:
* فأما بره بوالد الروح: تنويره بنور الفيض الإلهي إذ هو محل قبول الفيض كما قررنا؛ لأن الفيض الإلهي وإن كان نصيب الروح أولا ولكن لا يمسكه للطافة الروح، بل يعبر عنه بالفيض ويقبله القلب ويمسكه؛ لأن فيه صفاء وكثافة؛ فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه، كما أن الشمس فيضها يقلبه الهوى لصفائها، ولكن لا يمسكه للطافة الهواء، فأما المرآة فتقبل الشيء بصفائها ويمكن لكثافتها، وهذا من أسرار حمل الأمانة التي حملها الإنسان، ولم يحملها الملائكة المقربون، فافهم جيدا.
* وأما بره بوالدة القالب: فباستعمالها على وفق أوامر الشرع ونواهيه؛ لينجيها من عذاب النار ويدخلها الجنة { ولم يكن جبارا عصيا } [مريم: 14] كالنفس الأمارة بالسوء { وسلام عليه يوم ولد } [مريم: 15] يشير إلى أن القلب السليم المقبل المقبول في حراسة سلام الله وحفظه في كل حال من حالاته حالة ولادته؛ أي: ابتداء خلقه { ويوم يموت } [مريم: 15] أي: حين يموت باستعمال المعاصي { ويوم يبعث حيا } [مريم: 15] أي: حين يتوب إلى الله فيحييه الله حياة طيبة.
فأما فائدة سلام الله حين يموت بالمعاصي في حق القلب، فبأن يكون في موته وإحيائه نوع ابتلاء يكون سبب تربية وترقية عن مقامه، وتنقية عن بعض الآفات والعيوب مثل: العجب والكبر والرياء والسمعة وغيرها.
[19.16-21]
ثم أخبر عن مريم وحالتها مع من في الأرض دل حاله بقوله: { واذكر في الكتاب } [مريم: 16] الخطاب مع قلم القدس؛ أي: الكتب في أم الكتاب الذي عنده مكتوب في الأول حالة { مريم إذ انتبذت من أهلها } [مريم: 16] أي: انفردت من أهل الدنيا وتنحت { مكانا شرقيا } [مريم: 16] وهو القلب المشرق بنور ربه { فاتخذت من دونهم حجابا } [مريم: 17] من ذلك النور { فأرسلنآ إليهآ روحنا } [مريم: 17] وهو نور كلمة الله التي يعبر عنها بقوله: كن، وإنما سمي نور كلمته روحا؛ لأنه به يحيي القلوب الميتة كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122] فتارة: يعبر الروح بالنور، وتارة: يعبر عن النور بالروح كقوله:
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا
[الشورى: 52] فأرسل الله إلى مريم نور كلمة كن { فتمثل لها بشرا سويا } [مريم: 17] كما تمثل نور التوحيد بحروف: لا إله إلا الله؛ لانتفاع الخلق به.
والذي يدل على أن عيسى عليه السلام من نور الكلمة قوله تعالى:
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
[النساء: 171] أي: نور من نور إلقائه، فلما تمثلت الكلمة بالبشر أنكرتها مريم ولم تعرفها فاستعاذت بالله منه { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } [مريم: 18] يعني: إنك إن كنت تقيا من أهل الدين فتعرف الرحمن ولا تقربني بإعاذتي إليه، وإن كنت شقيا فلا تعرف الرحمن فما تعوذت منك بالخلق، فأجابها وقال: { إنمآ أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } [مريم: 19] طاهرا من لوث ظلمة النفسانية الإنسانية { قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } [مريم: 20] أي: إذا لم يمسسني بشر قبل هذا { ولم أك بغيا } [مريم: 20] ليمسسني بشر بعد هذا بالزواج وبالنكاح؛ لأني محررة محرم علي الزوج { قال كذلك } [مريم: 21] الذي تقولين، ولكن { قال ربك هو علي هين } [مريم: 21] أن أخلق ولدا من غير ماء مني والد فإني أخلقه من نور كلمة كن كما قال تعالى:
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
[آل عمران: 59] { ولنجعله آية للناس } [مريم: 21] دلالة على قدرتي بأني قادر على أن أخلق ولدا من غير أب، كما أني خلقت آدم من غير أب وأم، وخلقت حواء من غير أم { ورحمة منا } [مريم: 21] أي: نرحم به من نشاء من عبادنا.
واعلم أن بين قوله: { ورحمة منا } [مريم: 21] وبين قوله:
يدخل من يشآء في رحمته
[الشورى: 8] فرق عظيم وهو: أنه تعالى إذا أدخل عبدا في رحمته يرحمه ويدخله الجنة، ومن جعله رحمة منه يجعله متصفا بصفته.
ثم اعلم أن بين قوله: { ورحمة منا } [مريم: 21] وبين قوله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107] فرق عظيم وهو: أن في حق عيسى عليه السلام ذكر الرحمة مقيدة بحرف من، ومن: للتبعيض، فلهذا كان رحمة لمن آمن به، واتبع ما جاء به إلى أن بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ثم انقطعت الرحمة من أمته بنسخ دينه، وفي حق نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر الرحمة للعالمين مطلقا؛ فلهذا لا تنقطع رحمته عن العالمين أبدا.
أما في الدنيا فبأن لا ينسخ دينه، وأما في الآخرة فبأن يكون الخلق يحتاجون إلى شفاعته حتى إبراهيم عليه السلام، فافهم جيدا.
وفي قوله تعالى: { وكان أمرا مقضيا } [مريم: 21] إشارة إلى أن خلق عيسى عليه السلام على هذه الصفة كان في الأزل بمقتضى الحكمة القديمة مقدرا لإظهار القدرة على مثل هذا الخلق، فإنه يخلق ما يشاء بقدرته.
[19.22-25]
{ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا } [مريم: 22] أي: تنحت به؛ لحمله بلا أب وولادته من غير وقتها، وكلامه في المهد ومعجزاته من إحياء الموتى، وغير ذلك مرتبة علية { فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة } [مريم: 23] لإظهار المعجزة في الجذع { قالت يليتني مت قبل هذا } [مريم: 23] أي: قبل هذا الحمل، فإن بسبب حملي وولدي يدخل الله النار خلقا عظيما؛ لأن بعضهم يتهمونني بالزنا، وبعضهم يتهمون ولدي بأنه ابن الله { وكنت نسيا منسيا } [مريم: 23] في العدم لا يذكرني الله تعالى بالإيجاد.
ثم أخبر: { فناداها من تحتهآ ألا تحزني } [مريم: 24] إلى قوله:
ويوم أبعث حيا
[مريم: 33] الإشارة عن: عظم شأنها وتبديل أحزانها بقوله تعالى أن مريم القلب لما اعتزلت عن اختلاء الكونين فاستحقت لإرساله روح الله إليها، وقد شرفت بنفخ الروح الإلهي، ووهبت بعيسى روح الله فحيت بحياة الله، ومحت نفس وجودها عن صحيفة الموجودات بقطع النظر عن تعلق الكونين بقولها: { يليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } [مريم: 23] يعني: في العدم { فناداها من تحتهآ } [مريم: 24] أي: من لم يبلغ من مرتبتها في قطع النظر إلى الوجود من المكونات { ألا تحزني قد جعل ربك تحتك } [مريم: 24] أي: تحت أمرك { سريا } [مريم: 24] أي: سرية يشير إلى أن ما دون الله يبشر القلب المنقطع إلى الله بأن الله جعل المكونات تحت أمره؛ لتكون له سرية منقادة في دفع الآفات عنه، وتبليغه إلى اعلى المقامات والقربات.
وقوله: { وهزى إليك بجذع النخلة } [مريم: 25] إشارة إلى: نخلة الشجرة الطيبة، وهي كلمة: لا إله إلا الله، فإن مريم القلب في هذا المقام إذا هزت نخلة الذكر { تساقط عليك رطبا جنيا } [مريم: 25] من المشاهدات الربانية والمكاشفات التي هي مشارب الرجال البالغين كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ".
[19.26-33]
{ وقري عينا } [مريم: 26] بأنوار الجمال { فإما ترين من البشر أحدا } [مريم: 26] ما سنح لك من الخواطر البشرية { فقولي إني نذرت للرحمن صوما } [مريم: 26] كما قال بعضهم: الدنيا يوم ولنا فيه صوم { فلن أكلم اليوم إنسيا } [مريم: 26] يعني الوصول والوصال لم يبق لي كلام مع أوصاف الإنسية بخير ولا شر، فإني نذرت للرحمن صوما عن الالتفات بغير الله، ولا يكون إفطاري إلا [وكلمته] على مشاهدة جماله.
وبقوله: { فأتت به قومها } [مريم: 27] يشير إلى أن مريم القلب لما ولدت بعيسى روح الله وكلمته فأتت به قومها من الخلائق { تحمله } [مريم: 27] أي: تظهر مع الخلق من آثاره شيئا من نتائج أحواله أنكروا عليها { قالوا يمريم لقد جئت شيئا فريا } [مريم: 27] منكرا كما قال موسى عليه السلام لما أنكر على خضر؛ إذ جاءه بأفعال من نتائج العلم اللدني: { لقد جئت شيئا فريا * يأخت هارون } [مريم: 27-28] النفس الأمارة بالسوء { ما كان أبوك امرأ سوء } [مريم: 28] أي: أبو الروح { وما كانت أمك } [مريم: 28] أي: القالب { بغيا } [مريم: 28] يعني: أو وليا يتولد منه مثل ما جئت به.
واعلم أن المعتاد من أهل الزمان إذا ظهر الله في كل زمان وأوان نبيا أو وليا، وتخصصه بمعجزته أو كرامته أن ينكر عليه أكثرهم، وينسبونه إلى الجنون والضلال والافتراء والكذب والسحر وأمثاله { فأشارت إليه } [مريم: 29] يشير إلى أن هؤلاء القوم هم أهل الإشارات؛ أي: إشارة مريم القلب إلى عيسى روح الله المتولد من نفخ الروح المضاف إلى الحضرة المقدسة ومريم القلب { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } [مريم: 29] ما بلغ مبلغ الرجال البالغين الواصلين { قال إني عبد الله } [مريم: 30] أي : أقر بالعبودية والحدوث متبرئا عن الاثنينية والقدم { آتاني الكتاب } [مريم: 30] من العلوم اللدنية وكشف الحقائق والأسرار.
{ وجعلني مباركا أين ما كنت } [مريم: 31] نبيا؛ أي: بلغني مقام الأنبياء، فأخذ الأسرار من الله عند تجلي صفاته وإنباء الخلق بها { وجعلني مباركا أين ما كنت } [مريم: 31] أي: متصفا بصفاته، فأحيي الموتى بصفته، وأبرئ الأكمه والأبرص وغير ذلك من الكرامات { وأوصاني بالصلاة } [مريم: 31] أي: بإقامة العبودية ومراقبة أحكام الربوبية { والزكاة } [مريم: 31] أي: تزكية النفس عن الأوصاف الذميمة { ما دمت حيا } [مريم: 31] فيه إشارة إلى أن ما دام العبد حيا لا بد له من مراقبة السر وإقامة العبودية وتزكية النفس { وبرا بولدتي } [مريم: 32] أي: أبر والدة القلب بإفاضة الفيض الإلهي.
{ ولم يجعلني جبارا } [مريم: 32] لم أكن قابلا للفيض { شقيا } [مريم: 32] محروما عن سعادة العبودية { والسلام علي يوم ولدت } [مريم: 33] أي: بسلامة من الله كانت ولادتي يوم ولدت بلا والد طبيعي { ويوم أموت } [مريم: 33] فيه إشارات:
* أولها: يشير إلى أن عيسى المعنى المتولد من نفخ الحق في القلب قابل للموت بسم غلبات صفات النفس والمعاملات المنتجة منها لئلا يحسب الواصل بأنه إذ حيي بحياة الله لا يموت المعنى الذي في قلبه.
* وثانيها: لئلا يقنط الطالب الصادق الذي زل قدمه، ووقع عن الطريق بنوع من المعاملات المؤدية إلى موت القلوب، ويعلم أن له إلها يميت الأحياء ويحيي الأموات، فيرجع إليه بصدق النية وصفاء الطوية على الصراط المستقيم وأنه واسع كريم.
[19.34-40]
ثم أخبر عن مذمة الخلق في قوله الحق بقوله تعالى: { ذلك عيسى ابن مريم } [مريم: 34] يشير إلى أن ذلك المتولد من نفخ الروح المضاف ومريم القلب وهو ابن مريم القلب لا ابن الله ولا جزء منه { قول الحق } [مريم: 34] أي: هو المجعول من كلمة الله وهي قول كن، { الذي فيه يمترون } [مريم: 34] يشكون، فقائل يقول: هو ابن الله، وقائل يقول بالحلول أنه قد حل في مريم القلب، وقائل يقول بقدمه وقدم الروح، ثم نفى عن ذاته جل جلاله هذه الأوصاف بقوله: { ما كان لله أن يتخذ من ولد } [مريم: 35] أي: جزء، فإن الولد جزء الوالد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" فاطمة بضعة مني "
وبقوله: { سبحانه } [مريم: 35] نزه نفسه عن أوصاف المخلوقات كلها.
ثم أخبر عن كمال قدرته بقوله: { إذا قضى أمرا } [مريم: 35] في الأزل { فإنما يقول له كن فيكون } [مريم: 35] في الحال ذلك الأمر المقدور في الأزل، وبقوله: { وإن الله ربي وربكم } [مريم: 36] يشير إلى أن عيسى المتولد من مريم القلب يشهد أن الله الذي خلقه وخلقكم { فاعبدوه } [مريم: 36] بهذا الاعتقاد الخالص، فإن { هذا صراط مستقيم } [مريم: 36] يصل به العبد إلى الله عز وجل { فاختلف الأحزاب من بينهم } [مريم: 37] أي: تفرقوا ثلاث فرق:
* فرقة: يعبدون الله بالسير على قدمي الشريعة والطريقة بالعبور على المقامات والوصول إلى القربات، وهم: الأولياء الصديقون، وهم: أهل الله وخاصته.
* وفرقة يعبدون الله على صورة الشريعة وأعمالها، وهم: المؤمنون المسلمون، وهم: أهل الجنة.
* وفرقة: يعبدون الهوى على وفق الطبيعة، ويزعمون أنهم يعبدون الله كما أن الكفار يعبدون الأصنام ويقولون:
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر: 3] فهؤلاء ينكرون على أهل الحق وهم: البدع والهوى والزيغ والرياء والسمعة والشقاق وهم: أهل النار { فويل للذين كفروا } [مريم: 37] من هؤلاء { من مشهد يوم عظيم } [مريم: 37] أي: من شهود يوم يظهر فيه عظائم الأمور فيتبع كل عابد معبوده.
وبقوله: { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا } [مريم: 38] يشير إلى أن من يأتي الله بقدم اليسر ما أسمعهم وأبصرهم؛ لأنهم به يسمعون وبه يبصرون { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } [مريم: 38] يعني: الذين ظلموا أنفسهم بإفساد استعدادهم اليوم في ضلال مبين باستعماله في غير موضعه { وأنذرهم } [مريم: 39] أي: أعلمهم؛ يعني: الظالمين { يوم الحسرة إذ قضي الأمر } [مريم: 39] في الأزل بإيمان بعضهم، وكفر بعضهم { وهم في غفلة } [مريم: 39] في العدم عن هذا القضاء { وهم لا يؤمنون } [مريم: 39] أي: قضى للظالمين ما لم يؤمنوا.
{ إنا نحن نرث الأرض } [مريم: 40] أي: الوارث لأرض الوجود { ومن عليها } [مريم: 40] أي: ومن في الوجود { وإلينا يرجعون } [مريم: 40] باللطف والقهر؛ أما باللطف: فبأن يغنيهم الله عنهم ويبقيهم به، وأما بالقهر بقوله:
وبرزوا لله الواحد القهار
[إبراهيم: 48] فيناديهم
لمن الملك اليوم
[غافر: 16] أي: ملك الوجود فلا يجيب نفسه
لله الواحد القهار
[غافر: 16].
[19.41-46]
ثم أخبر عن مقامات الأولياء وكراماتهم بقوله تعالى: { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا } [مريم: 41] يشير إلى أن إبراهيم كان في كتاب الحق تعالى الذي كتبه قبل خلق المكونات مكتوبا بالصديقية والنبوة، وإن الصديقية تلو النبوة، ومن منها باق لا يكون نبيا إلا وهو صديق، وليس من شرط الصديق أن يكون نبيا، ولأرباب الصدق مراتب: صادق وصديق؛ فالصادق: من صدق في أقواله وأفعاله، والصدوق: صدق في أخلاقه وأحواله، والصديق: من صدق في قيامه مع الله بالله وفي الله، وفي الفاني عن نفسه والباقي بربه.
{ إذ قال لأبيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [مريم: 42] يشير إلى: أب الروح وعبادته صنم الدنيا بتبعية النفس { يأبت إني قد جآءني من العلم } [مريم: 43] أي: العلم اللدني { ما لم يأتك } [مريم: 43] وذلك؛ لأن الفيض الإلهي إذا أفيض يقبله الروح لصفائه، ولكن لا يمسكه للطافته ويقبله القلب الصافي ويمسكه لكثافته، كما أن نور النفس الشمس إذا أفاض يقبله الهواء لصفائها ولكن لا يمسكه للطافتها، وتقبله المرآة الصافية لصفائها وتمسكه لكثافتها، فقد أوتي المرآة الصافية والأرض من نور الشمس ما لم يؤت الهواء، فافهم جيدا.
{ فاتبعني } [مريم: 43] يا أبا الروح بالتوجه إلى الله { أهدك صراطا سويا } [مريم: 43] مستقيما إلى الله { يأبت لا تعبد الشيطان } [مريم: 44] أي: شيطان النفس { إن الشيطان كان للرحمن عصيا } [مريم: 44] بالطرد والإبعاد من الحضرة { فتكون للشيطان وليا } [مريم: 45] يعني: تكون يا أبا الروح قرين النفس ووليها بعد أن كنت في جوار الحق ووليه، فأجاب آزر الروح: { قال أراغب أنت عن آلهتي } [مريم: 46] من الدنيا وشهواتها وزخارفها { يإبراهيم } [مريم: 46] القلب { لئن لم تنته } [مريم: 46] عن وعظك ونصيحتك ومخالفتي فيما آمرك { لأرجمنك } [مريم: 46] لأطردنك { واهجرني } [مريم: 46] فارقني { مليا } [مريم: 46] حينا من الدهر.
[19.47-51]
{ قال } [مريم: 47] إبراهيم القلب { سلام عليك } [مريم : 47] أي: كن في سلامة من الله { سأستغفر لك ربي } أي: سأطلب لك من الله مغفرة ورحمة يزيل بها عنك هذا الإعراض عن الحق والتمادي في الباطل { إنه كان بي حفيا } [مريم: 47] منعما مكرما { وأعتزلكم وما تدعون } [مريم: 48] أي: وما تعبدون { من دون الله } [مريم: 48] من الدنيا والآخرة { وأدعو ربي } [مريم: 48] ليرحمكم ويهديكم إلى حضرة جلاله { عسى ألا أكون بدعآء ربي } [مريم: 48] في نجاتك ورفع درجاتك { شقيا } [مريم: 48] لا يسمع دعائي فأشقى.
{ فلما اعتزلهم } [مريم: 49] إبراهيم القلب آزر الروح وقومه من النفس والهوى { وما يعبدون من دون الله } [مريم: 49] وأصنامهم من الدنيا وملاذها أنعم الله عليه بقوله: { وهبنا له إسحاق } [مريم: 49] أي: إسحاق السر { ويعقوب } [مريم: 49] أي: يعقوب الخفى وهو سر السر { وكلا جعلنا نبيا } [مريم: 49] أي: بلغناهم مقام الأنبياء ينبئهم الحق تعالى بالشواهد والكشوف عن علوم الحقائق والمعارف وهم ينبئون الخلق عن الحق وأسراره { وجعلنا لهم لسان صدق } [مريم: 50] لا يتكلمون إلا عن صدق النيات وخلوص الطويات كلاما { عليا } [مريم: 50] عن الرعونات غير مشوب بالآفات.
ثم أخبر عن خلاص أهل الإخلاص بقوله تعالى: { واذكر في الكتاب موسى } [مريم: 51] إلى قوله:
هارون نبيا
[مريم: 53] وأن في الكتاب موسى { إنه كان مخلصا } [مريم: 51] أي: إنه كان مخلصا في إرادة شعيب عليه السلام وخدمته وموفيا بعهده متبعا بدينه، وصار ببركة صحبته ومتابعته { رسولا نبيا } [مريم: 51].
ثم اعلم أن الإخلاص في العبودية مقام الأولياء، فلا يكون ولي إلا وهو ولي مخلص، ولا يكون كل مخلص نبيا، ولا يكون رسول إلا وهو نبي، ولا يكون كل نبي رسولا.
* والمخلص بكسر اللام: من أخلص نفسه في العبودية بالتزكية عن أوصاف الإنسانية الحيوانية.
* والمخلص بفتح اللام: من أخلصه الله بعد التزكية بالتحلية بصفات الروحانية الربانية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه "
أي: من أخلص نفسه بالتزكية في الله، ولله ظهرت؛ أي: أظهر الله بالتحلية ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وقال تعالى: " الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يبعد فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "؛ أي: أنا الذي أتولى تحلية قلوب المخلصين بتجلي صفات جمالي وجلالي، وفي الحقيقة لا تكون العبودية مقبولة إلا من المخلصين كقوله:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5] ولإخلاص المخلصين مراتب:
* أدناها: أن تكون العبودية لله خالصا؛ ولا تكون لغير الله فيها شركة *
وأوسطها: أن يكون العبد مخلصا في بذل الوجود لله وفي الله.
* وأعلى درجة المخلصين: أن يخلصهم الله من حبس وجودهم بأن يفنيهم عنهم ويبقيهم بجواره.
[19.52-58]
وبقوله تعالى: { وناديناه من جانب الطور الأيمن } [مريم: 52] يشير إلى أنا سمعنا موسى القلب من جانب طور الروح، فإن طور الروح على جانب أيمن موسى القلب، ووادي النفس على أيسره { وقربناه نجيا } [مريم: 52] بجذبات العناية إلى أعلى درجات طور الروح، ويشير بقوله: { ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا } [مريم: 53] إلى أن النبوة ليست كسبية، بل هي من مواهب الحق تعالى يهب لمن يشاء النبوة، ويهب لمن يشاء الرسالة من رحمته وفضله لا من كسبهم واجتهادهم على أن يكون توفيق الكسب والاجتهاد أيضا من مواهب الحق تعالى، وفيه إشارة إلى أن لموسى عليه السلام اختصاصا بالقربة والقبول عند الله عز وجل حتى يهب أخاه هارون النبوة والرسالة بشفاعته، والعجب أن الله تعالى يهب النبوة والرسالة بشفاعة موسى عليه السلام وأنه يهب الأنبياء والرسل بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:
" الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه السلام ".
ثم أخبر عن الصادق في وعده والصديق من بعده بقوله: { واذكر في الكتاب إسماعيل } [مريم: 54] إلى قوله: { مكانا عليا } [مريم: 57] الإشارة: إن بالألوهية يشير إلى الربوبية. { واذكر } ذكرا أزليا { في الكتاب } أي: في كتاب العلم الأزلي { إسماعيل } إنه كان في علم الله بتقديره { صادق الوعد } [مريم: 54] فيما وعد الله بأداء العبودية { وكان رسولا نبيا } [مريم: 54] أي: وكان مستعدا للنبوة والرسالة.
وبقوله: { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة } [مريم: 55] يشير إلى أن استعداده المقدر الأزلي اقتضى أن يأمر أهله الخاص والعام؛ أما الخاص : فالجسم والنفس والقلب والروح بالصلاة؛ أي: يتوجه كل واحد منهم توجها يليق بحاله { والزكاة } [مريم: 55] أي: بتزكية كل واحد منهم عن أخلاق ذميمة وأوصاف ردية، وأما العام: فأهله وأمته وقومه يأمرهم بالصلاة الجسمانية والمعنوية وكذا الزكاة { وكان عند ربه } [مريم: 55] في الأزل { مرضيا } [مريم: 55] في الأعمال والأحوال.
ثم قال: { واذكر في الكتاب إدريس } [مريم: 56] أي: كما ذكرت إسماعيل { إنه كان } [مريم: 56] في العلم القديم { صديقا نبيا } [مريم: 56] أي: مستعدا لكمال الصدق والنبوة { ورفعناه مكانا عليا } [مريم: 57] في التقدير الأزلي والمكان العلي ما يكون فوق المكونات عند المكون
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
ثم أخبر عن أهل الإنعام من الخواص بقوله تعالى: { أولئك الذين أنعم الله عليهم } [مريم: 58] إلى قوله:
ولا يظلمون شيئا
[مريم: 60]، قوله: { أولئك الذين أنعم الله عليهم } [مريم: 58] من النبيين؛ يعني: الذين ذكرناهم والذين ما ذكرناهم من الأنبياء { من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح } [مريم: 58] من الأولياء والمؤمنين { ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } [مريم: 58] يعني: من الأولياء والمؤمنين { وممن هدينا واجتبينآ } [مريم: 58] للهداية إلى حضرتنا من الأولياء خواص المؤمنين { إذا تتلى عليهم } [مريم: 58] آياتنا؛ أي: من نتائج الهداية إلى الحضرة والاجتباء إياهم؛ أي: إذا تتلى عليهم آياتنا { خروا } [مريم: 58] بقلوبهم على عتبة العبودية { سجدا } [مريم: 58] بالتسليم للأحكام الأزلية { وبكيا } [مريم: 58] بكاء السمع بذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة.
[19.59-64]
{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة } [مريم: 59] به يشير إلى: التخلف من هؤلاء السادة الذين لم يهتدوا بهداهم، ولم يقتدوا على آثارهم، ووكلوا إلى أنفسهم، فأعرضوا عن الحق تعالى، وتركوا ظاهر أمره وباطنه { واتبعوا الشهوت } [مريم: 59] أي: شهوات الدنيا ولذاتها على وفق هواهم وطبيعتهم النفسانية الحيوانية السبعية { فسوف يلقون غيا } [مريم: 59] وهو الدرك الأسفل من جهنم البشرية.
{ إلا من تاب } [مريم: 60] أي: من تداركته العناية الأزلية فيتوب بالصدق إلى الحضرة { وآمن } [مريم: 60] إيمانا حقيقيا نور الله به قلبه { وعمل صالحا } [مريم: 60] أي: أعمالا تصلح قلبه للجذبات التي بها يدخل الجنة كقوله: { فأولئك يدخلون الجنة } [مريم: 60] الجنة جنة القرب { ولا يظلمون شيئا } [مريم: 60] أي: على قدر صلاحية العمل وخلوصه يصلح القلب، وعلى قدر صلاحية القلب فيكون قابلا للجذبات، وعلى قدر الجذبات تكون مقامات القربة بحيث لا ينقص منها شيء.
ثم أخبر عن جنات القربات بقوله تعالى:
مخلصا له
[الزمر: 11] في العبودية ولا يعبد الدنيا والنفس والهوى وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا
[الفرقان: 63] وعدهم بالغيب؛ أي: يغيبهم عن الوجود قبل التكوين، كما أخبر بقوله:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة: 111] أنه كان؛ أي: كان التقدير أن وعده ثانيا؛ أي: أتيا من العدم إلى الوجود، ثم وصف الجنة وأهلها بقوله: { لا يسمعون فيها لغوا } [مريم: 62] يعني: لا تكون الجنة محلا للغو ولا أهل الجنة هم اللغو { إلا سلاما } [مريم: 62] أي: تكون الجنة مقر السلامة ولهذا سمي دار السلام وأهلها أهل السلامة ولا يسمعون إلا السلام من أنفسهم، ومن الملائكة ومن الله، لأن
وتحيتهم فيها سلام
[يونس: 10] { ولهم رزقهم فيها } [مريم: 62] من رؤية الله تعالى { بكرة وعشيا } [مريم: 62] كما جاء في الخبر، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية.
ثم أخبر عن أهل الجنة بقوله: { تلك الجنة التي نورث من عبادنا } [مريم: 63] أي: الذين لا يعبدون من دوننا { من كان تقيا } [مريم: 63] يعني: جعلنا الجنة مسكنا ومأوى ومنزلا لمن كان سيرته التقى عن المعاصي؛ لأنها أعدت للمتقين؛ يعني: من كان يتقي عن الدنيا وزخارفها وعن النفس وهواها وشهواتها، فالجنة له دار القرار وهو من أهل الجنة لا يجاوزها لقوله تعالى:
ونهى النفس عن الهوى
[النازعات: 40] فإن الجنة هي المأوى، فأما من كان يتقي عما سوى الله فتكون الجنة ممره ولا مفره كقوله:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55] وهم أهل الله وخاصته الذين
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران: 102] فافهم جيدا.
ثم أخبر عن تنزل أهل التمثل بقوله تعالى: { وما نتنزل إلا بأمر ربك } [مريم: 64] يشير إلى أن المقدورات كلها في علم الله وقدرته ينادون من سرادقات العزة إلى أهل العزة المتمنيين ما تهوى نفوسهم على وفق الطبيعة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا، فما نتنزل من مكان الغيب إلى عالم الشهود إلا بأمر ربك الذي { له ما بين أيدينا } [مريم: 64] من التقدير الأزلي { وما خلفنا } [مريم: 64] من التدبير الأبدي { وما بين ذلك } [مريم: 64] من الأزل إلى الأبد { وما كان ربك نسيا } [مريم: 64] أي: ناسيا لما قدر في الأزل تنزيله من المقدورات؛ ليتذكر بالناس ممن تنزيله فينزله، بل هو القادر العليم الحكيم الأزلي الأبدي ينزل ما يشاء متى يشاء لا معقب لحكمه ولا مقدم.
[19.65-70]
ثم أخبر عن صفات كماله وكمال جلاله بقوله تعالى: { رب السموت } [مريم: 65] إلى قوله:
ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم: 72] بقوله: { رب السموت والأرض وما بينهما فاعبده } [مريم: 65] يشير إلى أنه تعالى خالق ورب سماوات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار، فاعبده بجسدك ونفسك وقلبك وسرك وروحك، فعبادة جسدك إياه بأركان الشريعة وهي: الائتمار بما أمرك الله به، والانتهاء عما نهاك الله عنه، وعبادة نفسك بآداب الطريقة وهي: ترك موافقات هواها، ولزوم مخالفة هواها، وعبادة القلب بالإعراض عن الدنيا وما فيها، والإقبال على الآخرة ومكارمها، وعبادة السر خلوة عن تعلقات الكونين اتصالا بالله ومحبة له، وعبادة الروح ببذل الوجود ليل الشهود { واصطبر لعبادته } [مريم: 65] بالمداومة على المجاهدات، فإنها تورث المشاهدات، { هل تعلم له سميا } [مريم: 65] أي: مثلا في الخالقية والربوبية أو جنسا في المحبة والمحبوبية.
{ ويقول الإنسان } [مريم: 66] أي: النفس الإنسانية لجهلها بالحقائق { أءذا ما مت } [مريم: 66] عن صفات الحيوانية { لسوف أخرج حيا } [مريم: 66] بصفات الروحانية بطريق الاستهزاء { أولا يذكر الإنسن } [مريم: 67] أي: لا يتذكر نفسه { أنا خلقناه من قبل } [مريم: 67] بازدواج الروح والحسد { ولم يك شيئا } [مريم: 67] موجودا أفلا نقدر على أنها إذا ماتت عن صفاتها الحيوانية يحييها بصفات الروحانية، بل بصفات الربانية.
ثم ذكر القسم للتوكيد بقوله: { فوربك لنحشرنهم والشياطين } [مريم: 68] أي: لنجعلهم مع الشياطين شياطين الجن والإنس { ثم لنحضرنهم حول جهنم } [مريم: 68] القهر والغضب { جثيا * ثم لننزعن من كل شيعة } [مريم: 68-69] من النفوس المتمردة العاتية { أيهم أشد على الرحمن عتيا * ثم لنحن أعلم بالذين } [مريم: 69-70] نزعناهم من { هم أولى بها صليا } [مريم: 70] أي: أولى وأحق لجهنم القهر أن يصليه فيها، ومن منهم أولى وأحق أن ينعم عليه ويميزه عنهم بتخليصه عن ظلمات وجوده بنور وجودنا، ونهديه إلى عالم الوصول والوصال بجذبات العناية الأزلية التي هي كفاية الأبدية.
[19.71-76]
ثم عم الخطاب: { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } [مريم: 71] وإن منكم من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين إلا وهو وارد هاوية الهوى بقدم الطبيعة { ثم ننجي الذين اتقوا } [مريم: 72] عن الهوى بقدم الشريعة على طريق الطريقة للوصول إلى الحقيقة، وفيه نكتة لطيفة، وإشارة شريفة وهي: إنه تعالى أحال الورود إلى الوارد، وأحال النجاة إلى نفسه تعالى؛ يعني: إن كل وارد يرد بقدم الطبيعة في هاوية الهوى إن شاء وإن أبى ولو التجى إلى طبيعة لا ينجو منها أبدا، ولكن ما نجا من نجا إلا بإنجاء الله تعالى إياه، ثم قال: { ونذر الظالمين فيها جثيا } [مريم: 72] أي: ومن خلد في جهنم طبيعة بقي فيها مكبا على وجهه متوجها إلى أسفل السافلين.
ثم أخبر عن الطريقة للفريقين بقوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت } [مريم: 73] إلى قوله: { مردا } [مريم: 76]، بقوله: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت } [مريم: 73] يشير إلى أن أهل الإنكار وأهل العزة بالله إذا تتلى عليهم آياتنا بينات من الحقائق والأسرار { قال الذين كفروا } [مريم: 73] أي: ستروا الحق بالإنكار والاستهزاء. { للذين آمنوا } [مريم: 73] من أهل التحقيق إذا رأوهم مرتاضين مجاهدين مع أنفسهم، متحملين متواضعين متذللين متخاشعين، وهم متنعمون متمولون متكبرون مبتغون شهوات نفوسهم ضاحكون مستبشرون { أي الفريقين } [مريم: 73] منا ومنكم { خير مقاما } [مريم: 73] منزلة ومرتبة في الدنيا، ووجاهة عند الناس، وتوسعا في المعيشة { وأحسن نديا } [مريم: 73] مجلسا ومنصبا وحكما، كما قال تعالى جوابا لهم: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } [مريم: 74] أي: أهلكناهم بحب الدنيا ونعيمها إذا أغرقناهم في بحر شهواتها، واستيفاء لذاتها، والتعزز بمناصبها { هم أحسن أثاثا ورءيا } [مريم: 74] أي: هم أحسن استعداد واستحقاق للكمالات الدينية منكم كما قال صلى الله عليه وسلم:
" خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا "
{ قل من كان في الضللة } [مريم: 75] ضلالة الإنكار واتباع الهوى { فليمدد له الرحمن مدا } [مريم: 75] أي: فليهمله في غروره وحسبانه، ويدعه في غفلة عن أحوال أرباب القلوب وملوك الدين { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } [مريم: 75] وهو أن يميتهم الله على ما عاشوا فيه من الإنكار والغرور والغفلة { وإما الساعة } [مريم: 75] وهي أن يميتهم عن صفات نفوسهم بصواعق جذبات العناية، ويقيم عليهم قيامة الشوق والمحبة، ويحييهم حياة طيبة بنور الإيمان { فسيعلمون } [مريم: 75] في كلتي الحالتين. { من هو شر مكانا } من الفريقين { وأضعف جندا } [مريم: 75] حين تحقق لهم أن فريقا منهم هم حزب الله في الآخرة وحزب الشيطان { ويزيد الله الذين اهتدوا } [مريم: 76] والذين جاهدوا في طلب الهداية وسعوا، يزيد الله في هدايتهم بالإيمان { هدى } [مريم: 76] بالإيقان بل بالعيان لا بالبرهان { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا } [مريم: 76] وهي الأعمال الصالحات التي هي من نتائج الواردات الإلهية التي ترد من عند الله إلى قلوب أهل العيوب؛ أعني: كل عمل يصدر من عند نفس العبد من نتائج طبعه وعقله ما يكون من الباقيات، وإن كان من الصالحات؛ أي: على وفق الشرع، وما يكون من عند الله؛ أي: من نتائج مواهب الحق تعالى فهو من الباقيات الصالحات يدل عليه قوله تعالى:
ما عندكم ينفد وما عند الله باق
[النحل: 96].
[19.77-84]
ثم أخبر عن أهل الريب أنهم بمعزل من إطلاع الغيب بقوله تعالى: { أفرأيت الذي كفر } [مريم: 77] إلى قوله: { عند الرحمن عهدا } [مريم: 78] { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } [مريم: 77] يشير إلى: من كفر ستر الحق، وأنكر على أهل الصدق من أرباب الطلب وأصحاب الحقائق الذين أنعم الله عليهم بالكشوف والعلوم اللدنية، وهم يتكلمون بها، فالمنكر يعترض عليهم وعلى أقوالهم وأحوالهم، ويقول: إنكم أعرضتم عن الكسب، واعتمدتم على أموال الناس وصدقاتهم، واعتزلتم النساء، وحرمتم عن الأولاد والأموال وأنا أعبد الله، كما تعبدونه { وقال لأوتين مالا وولدا } [مريم: 77] ونجاة في الآخرة فقال الله في جوابه: { أطلع الغيب } [مريم: 78] أي: أعلم الغيب بأن يكون له في الدنيا المال والولد، وفي الآخرة النجاة { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } [مريم: 78] في الميثاق أن يكون له المال والولد والنجاة { كلا } [مريم: 79] أي: لم يكن له ذلك { سنكتب ما يقول } [مريم: 79] أي: سنكتب عليه ما يدل عليه ونؤاخذه به { ونمد له من العذاب مدا } [مريم: 79] وهو عذاب البعد والهجران { ونرثه } [مريم: 80] يعني: هو على قراءة من يقرأ بالياء { ما يقول } [مريم: 80] أي: وبال ما يقول بالاستهزاء والإنكار { ويأتينا فردا } [مريم: 80] ما يكون معه ما ينجيه من العذاب، وذلك بأنهم { واتخذوا من دون الله آلهة } [مريم: 81] من الهوى والدنيا والأهل والمال والولد { ليكونوا لهم عزا } [مريم: 81] أي: ليكون لهم منهم عزة { كلا سيكفرون بعبادتهم } [مريم: 82] حين لا ينفعهم الإيمان { ويكونون عليهم ضدا } [مريم: 82] أي يكون الذين يعبدونهم من دون الله { عليهم ضدا } أي: ضد ما يتمنون من العزة وهو الهوان والذلة، وبقوله: { تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } [مريم: 83] يشير إلى: شياطين الإنس منهم فيأخذهم لأنهم يهيجون الفتنة على كافري النقمة ومنكري الكرامة، ويعاونونهم على إنكار أهل الأقدار، ويوافقونهم في إيذائهم والطعن فيهم، نظيره قوله:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا
[الأنعام: 112].
ثم قال: تهديدا لهم وتسلية لأرباب القلوب. { فلا تعجل عليهم } [مريم: 84] بالجزاء والمكافآت { إنما نعد لهم } [مريم: 84] أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم وأنفاسهم وخواطرهم { عدا } [مريم: 84] لا سهو فيه ولا غلط فيجازيهم بها.
[19.85-95]
{ يوم نحشر المتقين } [مريم: 85] وهم الذين يتقون بالله عما سواه { إلى الرحمن وفدا } [مريم: 85] على متون جذبات العناية الحضرة الرحمانية، وإنما خص حشر وفد المتقين إلى حضرة الرحمانية؛ لأنها من صفات اللطف، ومن شأنها: الاتحاد والإنعام والفضل والكرم والتقريب والمواهب.
{ ونسوق المجرمين } [مريم: 86] أهل الإنكار والإعراض { إلى جهنم } [مريم: 86] البعد والنكرة { وردا } [مريم: 86] بالقهر والخذلان { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } [مريم: 87] يعني: يوم الميثاق كما قال تعالى:
ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
[يس: 60-61] ثم أوفى بعهده من الله بألا تعبد ما سوى الحق تعالى من الدنيا والآخرة فإن من يكون مقيدا بشيء من الدنيا والآخرة يحتاج إلى شفيع يخلصه من ذلك القيد، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه السلام ".
ثم أخبر عن ناقضي العهود من أهل الجحود بقوله تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } [مريم: 88] إلى قوله: { فردا } [مريم: 95]، { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } [مريم: 88] يشير إلى: إن تجاسرهم وتعديهم في مثل هذا القول إنما كان من نتائج صفة الرحمانية إذ هم بها أقدموا على هذا القول؛ لأنه تعالى كان عالما سرهم بأحوالهم أنهم خلقوا على هذه السجية ولا بد بأن يصدر منهم هذه المقالة، فلولا صفة الرحمانية لما سامحت الألوهية بإيجادهم، فبالرحمانية خلقوا، وبالرحمانية قد نطقوا بالرحمانية.
قال: { لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السموت يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } [مريم: 89-91] فإن الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا إلا أن الألوهية كانت مقتضية للوحدانية في الوجود، كما أنه تعالى وحداني الذات { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } [مريم: 92] لأن الولد بضعة من الوالد، وما له بضعة فهو مركب، ولا بد للمركب من مؤلف، والمحتاج إلى المؤلف لا يصح أن يكون إلها.
ولقوله: { إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } [مريم: 93] يشير إلى أن الرحمانية اقتضت إيجاد السماوات والأرض ومن فيهن، والصفاتية والألوهية كانت في الأزل مقتضية بألا يكون لذاته تعالى شريك في الوجود حتى سبقت رحمته بالرحمانية غضبه وهو القهارية، فبالرحمانية خلق ما خلق، وبالرحمانية عبده من عبده وعرفه من عرفه، وبالرحمانية { لقد أحصاهم } [مريم: 94] في الأزل من العباد وهم معدودون. { وعدهم عدا } [مريم: 94] في الموجودين على وفق مشيئته من السعداء والأشقياء { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } [مريم: 95] عن مشيئتهم، بل هو آت بهم على وفق مشيئته وإرادته القديمة الأزلية الأبدية على قانون حكمته البالغة.
[19.96-98]
ثم أخبر عن حال السعداء وحال الأشقياء قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } [مريم: 96] فقوله: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } [مريم: 96] يشير إلى أن بذر الإيمان إذا وقع على أرض القلب، وتربى بماء الأعمال الصالحات ينمو إلى أن يثمر، فتكون ثمرتها محبة الله ومحبة الأنبياء والملائكة والمؤمنين جميعا كما قال تعالى:
كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السمآء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها
[إبراهيم: 24-25].
وبقوله تعالى: { فإنما يسرناه بلسانك } [مريم: 97] يشير إلى أن حقيقة القرآن التي هي صفة الله تعالى القائمة بذاته لا تسع ظروف الحروف المحدثة المعدودة المتناهية؛ لأنهلا قديمة غير معدودة ولا متناهية، وإنما يسر الله تعالى ورأيته بقلب النبي صلى الله عليه وسلم وقرأته بلسان العربي المبين { لتبشر به المتقين } [مريم: 97] لأنهم أهل البشارة، وهم أصناف ثلاثة: فصنف منهم: يتقون الشرك بالتوحيد، وصنف: يتقون المعاصي بالطاعات، وصنف: يتقون عما سوى الله بالله { وتنذر به قوما لدا } [مريم: 97] لأنهم أهل الإنذار وهم ثلاث فرق: فرقة منهم: الكفار الذين يقاتلون على الباطل، وفرقة منهم: أهل الكتاب الذين يخاصمون على أديانهم المنسوخة، وفرقة منهم: أهل الأهواء والبدع والفلاسفة الذين يجادلون أهل الحق بالباطل { وكم أهلكنا قبلهم } [مريم: 98] بالخذلان في تيه الضلالة { من قرن هل تحس منهم من أحد } [مريم: 98] وقد خلص ونجا { أو تسمع لهم ركزا } [مريم: 98] بالثناء الحسن عليهم.
[20 - سورة طه]
[20.1-8]
{ طه * مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [طه: 1-2] إلى قوله: { له الأسمآء الحسنى } [طه: 8] { طه } يشير إلى: النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا من طوي به بساط النبوة، وأيضا: يا من طويت له المكونات إلى ما يشاء { مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [طه: 2] في الدنيا والعقبى، بل أنزلناه على قلبك؛ لتسعد بتخلقك بخلقه لتكون على خلق عظيم، وليسعد بك أهل الأولين والآخرين من أهل السماوات وأهل الأرض، ولتكون رحمة للعالمين، كما قال: { إلا تذكرة لمن يخشى } [طه: 3] يعني: عظة لمن يخشى الله بالغيب، ويؤمن بنبوتك، ويقبل رسالتك { تنزيلا } [طه: 4] على قلبك { ممن خلق الأرض } [طه: 4] أرض بشريتك { والسموت العلى } [طه: 4] سماوات روحانيتك التي هي أعلى الموجودات وأول المخلوقات كما قلت: أول ما خلق الله روحي { الرحمن على العرش } [طه: 5] أي: بصفته الرحمانية { استوى } [طه: 5] على عرش قلبك؛ ليكون لك معه وقت لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل { له ما في السموت } [طه: 6] الروحانية من الصفات الحميدة { وما في الأرض } [طه: 6] البشرية من الصفات الذميمة { وما بينهما } [طه: 6] من القلب ما فيه من الإيمان والإيقان والصدق والإخلاص { وما تحت الثرى } [طه: 6] أي: ما هو مركوز في جبلة الإنسانية.
{ وإن تجهر بالقول } [طه: 7] أي: تظهر من صفاتك بالقول { فإنه يعلم السر } [طه: 7] وهو ما تظهر من سريرتك { وأخفى } [طه: 7] بالقول وهو ما أخفى الله من خفيتك، فالسر باصطلاح أهل التحقيق لطيفة بين القلب والروح وهو معدن أسرار الروحانية، والخفى لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية، وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها، فافهم جيدا واغتنم.
ولهذا قال عقب قوله: { يعلم السر وأخفى } [طه: 7] قوله: { الله لا إله إلا هو له الأسمآء الحسنى } [طه: 8] إشارة إلى أن مظهر ألوهيته وصفاته العليا وأسمائه الحسنى إنما هو الخفى الذي هو أخفى من السر؛ أي: ألطف وأعز وأعلى وأشرف وأقرب إلى الحضرة منه ألا وهو سر
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] وهو حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق آدم فتجلى فيه ".
ثم اعلم أن لطيفة السر التي تكون بين القلب والروح موجودة في كل إنسان مؤمن أو كافر عند نشأته الأولى، والخفى قد نشأ عند نشأته الأخرى، فلهذا يمكن أن يكون كل إنسان مؤمن أو كافر بعدد أسرار الروحانية وجملتها المعقولات، ولا يمكن إلا لمؤمن موحدا أن يكون مهبط أنوار الربانية وأسرارها وجملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية.
[20.9-13]
ثم أخبر عن بدايات أهل النهايات بقوله تعالى: { وهل أتاك حديث موسى } [طه: 9] إلى قوله
فتردى
[طه: 16] فقوله: { وهل أتاك حديث موسى } [طه: 9] يشير إلى أن موسى القلب { إذ رأى نارا } [طه: 10] أي: نارا من جانب طير الروح { فقال لأهله } [طه: 10] وهم النفس وصفاتها { امكثوا } [طه: 10] أسكنوا هاهنا في ظلمة الطبيعية الحيوانية { إني آنست نارا } [طه: 10] وهي نار المحبة التي لا تبقى ولا تذر من حطب وجود الإنسانية أثرا ولا رسما ولا ظلال
نارا وقودها الناس والحجارة
[التحريم: 6].
{ لعلي آتيكم منها بقبس } [طه: 10] يخرجكم من ظلمات الطبيعة إلى أنوار الشريعة { أو أجد على النار } [طه: 10] بالطريقة { هدى } [طه: 10] إلى الحقيقة ببذل الوجود ولنيل المقصود:
أقول لجارتي والدمع جار
ولي عزم الرحيل إلى الديار
ذريني أن أسير ولا تنوحي
فإن الشهب أشرفها السواري
أأرضي بالإقامة في فلاة
وفوق الفرقدين عرفت داري
قوله: { فلمآ أتاها نودي } [طه: 11] من شجرة ذات القدس بخطاب الأنس { يموسى * إني أنا ربك } [طه: 11-12] لأريك { فاخلع نعليك } [طه: 12] أي: انزع عن تعلقات الكونين عن شرك لأقدس عن لوث التعلقات وأرى شرك المطهر، فتارة: بقطع تعلق الدنيا الدنية الخسيسة الفانية، ومرة: بنزع تعلق الآخرة الشريفة العلية الباقية؛ فالمعنى: إنك يا موسى القلب إذا خلعت نعلي الكونين على قدمي همتك وبهمتك المتعلقة أحديهما: بالدنيا، والأخرى: بالآخرة، فقد طهرت وادي شركك عن لوث الالتفات بهما فإنك قد حصلت.
{ بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك } [طه: 12-13] وأنا اخترتك يا موسى القلب من بين سائر خلق وجودك من البدن والنفس والسر والروح، وكرمتك بهذه الكرامة؛ لتكون كليمي وصاحب سري يا موسى القلب { فاستمع لما يوحى } [طه: 13] بسمع الطاعة والقبول ببذل أنانيتك لأنانيتي.
[20.14-16]
{ إنني أنا الله لا إله إلا أنا } [طه: 14] المعنى أنني لما تجليت ألوهيتي لأنانية وجودك المجازي لا يبقى في عالم وجودك المجازي إله من الهوى وغيره، { إلا أنا فاعبدني } [طه: 14] بمساعي إفناء وجودك المتولد من منشأ قالبك على الدوام ما دام باقيا { وأقم الصلاة } [طه: 14] أي: أدم المناجاة في المحاضرة مع تبدل الوجود { لذكري } [طه: 14] أي: لنيل ذكري إياك بالتجلي على الدوام؛ لإفناء وجود المتحد.
وبقوله: { إن الساعة آتية } [طه: 15] يشير إلى أن كل قلب يكون هذا حاله، فإن فيما منه بكشف غطاء الحجب الإنسانية عنه بتجلي صفة الجلال لآتية التي من شأنها البروز لله الواحد القهار { أكاد أخفيها } [طه: 15] عزة شأنها وعظمة سلطانها فيسقى من الكرم على بعض خواص { لتجزى كل نفس بما تسعى } [طه: 15] في العبودية من الروح والسر والقلب والنفس والقالب جزاءا مناسبا لسعيهم، فلما كان سعي الروح بحسب الوطن الأصلي للرجوع إلى سكنى إضافة من روحي فجزاءه من تجلي صفة الجلالة بالانعدام من الوجود المجازي انعدام الناسوتي في اللاهوتي، وكان سعي السر بالخلو عن الأكوان لقبول فيض المكون فجزاؤه بإضافة الفيض الإلهي عليه، وكان سعي القلب بقطع تعلقات الكونين لتصفية وقابلية لتجلي الصفات الجمال والجلال فجزاءه بدوام تجلي صفة الجمال، واتصافه بصفة الجلال؛ ليبيت عند ربه يطعمه ويسقيه من الشراب الإلهي الذي يزيل لوث الحدوث عن لوح القلوب لكشف حقائق الغيوب، وكان بسعي النفس بتبديل الأخلاق واتقاء الأوصاف الظلمانية الحيوانية؛ لاتصافها بالصفات الروحانية الربانية فجزاؤها بإشراقها بنور ربها لإزالة ظلمة صفاتها، واطمئنانها إلى ذكر ربها المكون قابلة لله بجذبة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] وكان سعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآداب الطريقة فجزاؤه رفعة الدرجات ونيل الكرامات في الدارين.
{ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه } [طه: 16] لا يصرفنكم عن هذه السعادات والكرامات يا موسى القلب النفس الأمارة التي لا يؤمن بها، واتبعت هواها في طلب الشهوات واللذات الدنيوية { فتردى } [طه: 16] فتهلك بانقطاعك عن الحق تعالى فيه إشارة إلى أن هلاك القلب وقساوته في هلاك النفس وقساوتها.
ثم أقول في قوله تعالى: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } [طه: 15] يعني: أكاد أخفي الساعة وإتيانها، وأخفي أحوال الجنة ونعيمها، وأهوال النار وعذاب جحيمها لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار، بل تكون خالصة لوجهي كما قال تعالى:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5] وفي ذلك تهديد عظيم للعباد، وإظهار عزة وعظمة لنفسه إلا أنه سبقت رحمتي غضبي بما أخفيت الساعة وإتيانها، والله أعلم.
[20.17-35]
ثم أخبر عن أصناف ألطافه مع خواصه بقوله تعالى: { وما تلك بيمينك يموسى } [طه: 17] إلى قوله: { كنت بنا بصيرا } [طه: 35] يشير إلى أنه تعالى كان عالما بأن في يمينه العصا إذ قال: { وما تلك بيمينك } [طه: 17] وتلك تقال للمؤنث والعصا مؤنث، وإنما امتحن موسى بهذا السؤال تنبيها له؛ ليعلم أن للعصا عند الله اسما آخر وحقيقة أخرى غير ما علم منها، فيحيل علمها إلى الله تعالى ويقول: أنت أعلم بها يا رب، فلما أنكل على علم نفسه وقال: هي عصاك، قيل له: أخطأت، هذا الجواب خطأين:
أحدهما: في قولك إذ سميتها العصا.
والثاني: في إضافتها إلى نفسك لقولك: { عصاي } [طه: 18] وهي ثعبان لا عصاك.
فلما قال: { أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } [طه: 18] قال تعالى اتكأت على غيري، فقال الله القهار: { يموسى } [طه: 19] ليعلم أنها ليست تصلح للاتكاء ولا يصلح لك الاتكاء على غير الله إلا على لطفه وكرمه؛ لأنه يكون ثعبان وتحسب أنه متوكأ لك وواسطة رزق أغنامك إذ قلت: { وأهش بها على غنمي } [طه: 18] وسعيت ونسيت أن الرزاق هو الله تعالى، وأحلت مآربك إليها إذ قلت: { ولي فيها مآرب أخرى } [طه: 18] ولم تحل مآربك إلى الله هو قاضي الحاجات مجيب الدعوات { فألقاها فإذا هي حية تسعى } [طه: 20] لا عصى من خشب يابس فهرب منها موسى خائفا مستحييا خجلا مما جرى عليه قولا وفعلا، فرجع إلى الله بقلبه مستغفرا له.
ثم أدركته العناية الأزلية وقال: { خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } [طه: 21] يعني: كنت تحسب أن لك فيها المآرب والمنافع في البداية، ثم رأيتها وأنت خائف من مغايرها فخذها ولا تخف؛ لتعلم أن الله هو الضار والنافع، فيكون خوفك ورجاؤك منه وإليه لا من غيره { واضمم يدك إلى جناحك } [طه: 22] أي: انزع يدك؛ أي: يد همتك من غير الله وعنهم { تخرج } [طه: 22] من ظلمة الدارين نقية { بيضآء } [طه: 22] اللون نورانية { من غير سوء } [طه: 22] مضرة خسارتك تعود إليك من ترك الدارين مع التصرف فيهما بالله في الله ولله وهو { آية أخرى } [طه: 22].
{ لنريك من آياتنا الكبرى } [طه: 23] وفيه إشارة إلى: إبعاده بالرؤية؛ لأنها من آياته الكبرى؛ يعني: إنك إذا ضممت يد همتك إلى جناحك بقطع تعلق الدارين ولا تلتفت إلى غير الله فتستحق رؤيته، فإنك ما دمت تنظر إلى غيره لا تكون مستحقا للنظر إليه ألا ترى أنك لما امتحناك بالنظر إلى الجبل حرمت عن النظر إلينا؟ وأما محمد فلما امتحن بكشف حقائق الدارين
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم: 16] ما التفت إلى ما سوى الله
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 17] لا جرم
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 18].
وبقوله:
اذهب إلى فرعون إنه طغى
[النازعات: 17] يشير إلى معنيين:
* أحدهما: إن السالك الصادق إذا بلغ مرتبة كمال يقضيه الله لدلالة عباده لهدايتهم وتربيتهم ودعوتهم إلى الله.
* والثاني: إن كمال الكمال للبالغين في أن يرجعوا إلى الخلق لمخالطتهم والصبر على أذاهم ليخبروا بذلك حلمهم وعفوهم، وفي قوله: { قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي } [طه: 25-28] إشارة إلى أن الواصل الكامل لا يغتر بكماله ولا يعتمد على أحواله، بل يكون مراجعا إلى الله في جميع حالاته، مراقبا مستعينا به ساعيا في طلب الزيادة.
وفي قوله: { واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري } [طه: 29-32] إشارة إلى أن صحبة الأخيار ومؤازرتهم مرغوب الأنبياء فضلا عن غيرهم، ولا ينبغي أن يكون المرء مستبدا برأيه مغرورا بقوته وشوكته، وينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويجوز لنفسه الشريك في أمور المناصب، وبقوله: { كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا } [طه: 33-34] يشير إلى أن للجليس الصالح والصديق الصديق أثرا عظيما في المعاونة على كثرة الطاعات، والموافقة اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه { إنك كنت بنا بصيرا } [طه: 35] في الأزل، وإنك شرفتنا باستعداد الرسالة.
[20.36-44]
ثم أخبر عن إيتاء سؤاله وإعطاء مأموله بقوله تعالى: { قال قد أوتيت سؤلك } [طه: 36] إلى قوله: { أو يخشى } [طه: 44] { قال قد أوتيت سؤلك يموسى } [طه: 36] يشير إلى أن سؤالك أعطيت قبل سؤالك بالتقدير الأزلي وسابقة العناية لا بالتدبير العملي ولاحقة الكفاية { ولقد مننا عليك مرة أخرى } [طه: 37] في الأزل { إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى } [طه: 38] أي: إذ جعلناها قابلة مستعدة للوحي بتبعيتك إذ كان التقدير على أنها تكن صدق در وجودك ووصالك.
{ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم } [طه: 36] به يشير إلى أن من خصوصية انشراح الصدر بنور الوحي: أن يقذف في قلبه قذف الولد في تابوت التوكل، وقذفه في بحر التسليم ويفوض أمره إلى الله { فليلقه اليم بالساحل } [طه: 39] ساحل إرادة الله ومشيئته على وفق قضائه وقدره { يأخذه عدو لي وعدو له } [طه: 39] أي: دعه حتى يأخذه العدو فإني قادر على تربية الولي في بحر القدر، وتقيه من شره بإلقاء محبة منه عليه كما قال: { وألقيت عليك محبة مني } [طه: 39] أي: محبته ومحبتي ليحبك لمحبتي من أحبني بالتحقيق، ويحبك عدوي وعدوك بالتقليد، كما أن آسية أحبته بحب الله على التحقيق وفرعون أحبه لما ألقى الله عليه محبته بالتقليد، ولما كانت محبة فرعون فسدت وبطلت بادئ حركة رآها من موسى عليه السلام، ولما كانت محبة آسية بالتحقيق بقيت عليها، ولم تتغير، وهكذا يكون إرادة أهل التقليد تفسد بأدنى حركة، ولا تكون على وفق طبع المريد المقلد، ولا تفسد إرادة المريد المحقق بأكبر حركة يخالف طبعه وهواه وهو مستسلم في جميع الأحوال.
وبقوله: { ولتصنع على عيني } [طه: 39] يشير إلى أن من أدركته العناية الأزلية يكون في جميع حالاته منظور بنظر العناية لا يجري عليه أمر من أمور الدنيا والآخرة ألا يكون فيه صلاح وتربية إلى أن يبلغ درجة ومقاما قد قدر له قوله: { إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله } [طه: 40] ورده إلى أمه من تأثير العناية { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } [طه: 40] بتوكلها على الله في شأن الولد وتسليمه إلى الله { ولا تحزن } [طه: 40] على ترك رعاية مصلحته إذا ألقته في اليم وهو معرض للهلاك والتلف، وبالتوكل { وقتلت نفسا } [طه: 40] وإذ قتلت القبطي بغير أمرنا، وكنت في غم وجوب القصاص عليك وغم مؤاخذتنا إياك بما فعلت.
{ فنجيناك من الغم } [طه: 40] بأن خلصناك من القصاص وعفونا عنك { وفتناك فتونا } [طه: 40]:
* منها: فتنة صحبتك مع فرعون وتربيتك مع قومه فحفظناك عن التدين بدينهم.
* ومنها: فتنة قتل نفس بغير الحق وتدارك من فرعون بسبب قتل القبطي فنجوت منها.
* ومنها: ابتليناك بابنتي شعيب واحتياجهما إليك في سقي غنمهما، فلولا حفظنا لملت إليهما ميل البشر بالنساء.
* ومنها: ابتليناك بخدمة شعيب وصحبته واستئجاره فوفقناك بالخروج عن عهدة حقوقه { فلبثت سنين في أهل مدين } [طه: 40] لتستحق بتربية شعيب النبوة والرسالة { ثم جئت على قدر يموسى } [طه: 40] أي: على قدر قدرنا لك لاستحقاق النبوة والرسالة بحسن التربية حتى بلغت مرتبة قولنا: { واصطنعتك لنفسي } [طه: 41] أي: جعلتك مرآة قابلا لظهور صفات جمالي وجلالي { اذهب أنت وأخوك بآياتي } [طه: 42] بتقوية ظهور تجلي صفاتي. { ولا تنيا } [طه: 42] أي: ولا تهنا في مداومة { في ذكري } [طه: 42] وملازمته قائما بسلطان الذكر تغلبان على فرعون الظاهر والباطن.
{ اذهبآ إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا } [طه: 43-44] أي: ارفقا به ولا تعنفا ويسرا ولا تعسرا، فإنه ما دخل الرفق في شيء إلا وقد زانه (لا يتذكر ولا يخشى)، فأقول: إن فائدة هذا الكلام والقول اللين عائدة إلى موسى عليه السلام لوجهين:
* أحدهما: أنه كان في موسى حدة وصلابة وخشونة بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا فعالج حدته وخشونته؛ ليكون حليما.
* والوجه الثاني: أن فرعون كان تجبر وتكبر وتبور وهو ذو شوكة وسلطة عظيمة، فلو كان في قول موسى خشونة لم يحتمل طبع فرعون وهاج غضبه فعله يقصد موسى بضرب أو قتل { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } [طه: 44]، ولم يصيبكما أذى، والله أعلم.
[20.45-52]
والدليل على هذا التأويل قوله تعالى: { قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ } [طه: 45] إلى قوله: { ولا ينسى } [طه: 52] قوله: { قالا ربنآ إننا نخاف } [طه: 45] يشير: أن الخوف مركوز في جبلة الإنسان حتى لو بلغ مرتبة النبوة والرسالة، فإنه لا يخرج من جبلته كما قال: { إننا نخاف أن يفرط علينآ } [طه: 45] يعني: بأن يقتلنا، ولكن الخوف ليس بجهة القتل، وإنما نخاف فوات عبوديتك بالقيام لأداء الرسالة والتبليغ، كما أمرتنا إذ بتمرده وبجهله ولا ينقاد لأوامرك أو يسبك، ويقول:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24].
وبقوله تعالى: { قال لا تخافآ } [طه: 46] يشير إلى أن الخوف إنما يزيل عن جبلة الإنسانية بخطابي إليه بأمر التكوين كما قال:
ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69] فكانت بتكوين الله إياها بردا وسلاما { إنني معكمآ } [طه: 46] بالنظرة والحفظ في الأزل؛ إذ كنت أقدر نصركما، وهلاكه على أيديكما { أسمع } [طه: 46] هذه مقالتكما قبل وجودكما { وأرى } [طه: 46] أحوالكما وأحواله قبل أن أخلقكما بهذه الصفات.
{ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم } [طه: 47] أعلم أن فائدة إتيانهما رسالتهما إلى فرعون وتبليغه كانت عائدة إلى موسى وهارون نفسهما لا إلى فرعون في علم الله عز وجل، فالحكمة في إرسالهما: أن يكونا رسولين من ربهما مبلغين منذرين؛ ليتحقق رسالتهما، وينكر فرعون ويكفر بهما؛ ليتحقق كفره،
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
[الأنفال: 42] { قد جئناك بآية من ربك } [طه: 47] وهي اليد البيضاء بها يشير إلى يد صافية فارغة من الدنيا والآخرة { والسلام على من اتبع الهدى } [طه: 47] أي: سلم من استسلم، واتبع هدى الله وهي ما جاء به الأنبياء عليهم السلام.
{ إنا قد أوحي إلينآ أن العذاب } [طه: 48] ضد السلامة { على من كذب } [طه: 48] أي: كذب وكفر بما جاء به الأنبياء { وتولى } [طه: 48] أي: أعرض عن الله بمتابعة الهوى { قال } [طه: 49] فرعون { فمن ربكما يموسى } [طه: 49] واختص موسى بالذكر دون هارون مع أن الخطاب كان معهما؛ لأن صاحب الآيات كان موسى وكانت الرسالة له بالأصالة ولهارون بالوزارة بالتبعية.
{ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } [طه: 50] أعطى كل شيء استعداد لما خلق له { ثم هدى } [طه: 50] أي: يسره لما خلق له والذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" اعملوا كل ميسر لما خلق له "
معناه: أن الله تعالى خلق المؤمن مستعدا لقبول فيض الإيمان، ثم هداه إلى قبول دعوة الأنبياء ومتابعتهم، وخلق الكافر لقبول فيض القهر والخذلان والتمرد على الأنبياء مخالفتهم.
{ قال } [طه: 51] يعني: فرعون { فما بال القرون الأولى } [طه: 51] يعني: المتقدمين الذين لم يقبلوا دعوة الأنبياء فألفوهم { قال } [طه: 52] أي: موسى. { علمها عند ربي في كتاب } [طه: 52] يعني: علم كل واحد من القرون أنه تعالى لماذا خلقه مستعدا لقبول الإيمان، ولقبول الكفر ثابت في أم الكتاب عنده { لا يضل ربي } [طه: 52] عن الكتاب وعلمه { ولا ينسى } [طه: 52].
[20.53-64]
ثم أعرض عن أحوال أفعاله بقوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض مهدا } [طه: 53] إلى قوله: { من استعلى } [طه: 64] فبقوله: { الذي جعل لكم الأرض مهدا } [طه: 53] يشير إلى أن الحكمة في خلق الأرض هي أن تكون الأرض مهدا لكم { وسلك لكم فيها سبلا } [طه: 53] أي: لأجلكم لا لغيركم { وأنزل من السمآء مآء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم } [طه: 53-54] به يشير إلى أن السماء والماء والنبات والأنعام كلها مخلوقة لكم ولسد احتياجكم للتعيش بهذه الأشياء، بل بجميع المخلوقات ما خلقتها.
{ إن في ذلك لآيات لأولي النهى } [طه: 54] أي: إن في ذلك التقدير رسالات ودلالات لذوي البصائر أنها خلقت لأجلهم؛ لأنهم كانوا أهل المعرفة، وخلقت المخلوقات فجاء صلى الله عليه وسلم لخلق المعارف كما قال في الحديث الرباني: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف " ، وفيه معنى آخر وهو: إن في ذلك الذي مر ذكره ومن السماوات والأرض وما بينهما لآيات بأنه مظهر صفات لطف الحق ومظهر صفات قهره، فإنهم يشاهدون فيه جمال لطفه وجلال قهره ستر الله سترا بستر وإضمارا بإضمار.
قوله: { منها خلقناكم } [طه: 55] أي: من ذرة التراب التي أمر الله تعالى عزرائيل أن يأخذ من جميع الأرض { وفيها نعيدكم } [طه: 55] أي: إلى الموضع الذي أخذ منه { ومنها نخرجكم تارة أخرى } [طه: 55] بعد أن يجعل لكم جسدا مستعدا للبقاء الأبدي، ثم قال: { ولقد أريناه } [طه: 56] يعني: فرعون { آياتنا كلها } [طه: 56] أي: كل آية نهدي بها أهل البصيرة { فكذب } [طه: 56] بها إذ لم يكن أهل البصيرة { وأبى } [طه: 56] ألا يؤمن بها.
{ قال } [طه: 57] أي: فرعون. { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يموسى } [طه: 57] وإنما قال هذا؛ لأنه كان من أهل البصر لا أهل البصيرة، فكان مطرح نظر بصره الدنيا وما فيها، فرأى مجيء موسى لإخراجه من مملكة الدنيا ولو كان ذا بصيرة لرأى مجيئه لإخراجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البشرية إلى نور الروحانية، ومن نور ظلمات الإنسانية إلى نور الربانية، فلما رأى ببصر الحس المعجزة سحرا قال: { فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى } [طه: 58] وإنما طلب الوعد؛ لأن صاحب السحر محتاج في تدبير السحر إلى طول الزمان وصاحب المعجزة لا يحتاج في إظهار المعجزة إلى الوعد { قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى } [طه: 59] يعني: يوم عيدهم الذي يجتمع فيه الناس من كل مكان؛ ليكون بمشهد خلق عظيم لعلهم يستجيبون عنهم، فلا ينكرون المعجزة بعد إبطال السحر.
{ فتولى فرعون فجمع كيده } [طه: 60] من السحرة سحرهم { ثم أتى * قال لهم موسى } [طه: 60-61] يعني: السحرة { ويلكم لا تفتروا على الله كذبا } [طه: 61] أي: بإتيان السحر في معرض المعجزة إدعاء بأن الله قد أعطاه مثل ما أعطى الأنبياء من المعجزة { فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى } [طه: 61] فيهلككم بوضع السحر موضع المعجزة، فإنه ظلم عظيم لقوله تعالى:
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب
[الصف: 7] { فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى } [طه: 62] إلى قوله: { بسحرهما } [طه: 63] أي: يفتنون بأن فرعون وسحرته يقولون: { إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } [طه: 63] من مناصب شيخوختكم ومراتب قبولكم عند العوام { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } [طه: 63] أي: بصرف وجود الناس عنكم، ويذهبا بأشراف قومكم من الملوك والأمراء والمعارف وأهل الدثور والأموال { فأجمعوا كيدكم } [طه: 64] مكركم وحيلكم في دفع هذه المزاعم { ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى } [طه: 64] أي: فإن من غلب ونال علو المرتبة بين الناس.
[20.65-76]
ثم أخبر عن إعزاز أهل الإعجاز وإذلال أهل الضلالة بقوله تعالى: { قالوا يموسى } [طه: 65] إلى قوله: { وذلك جزآء من تزكى } [طه: 76] يشير إلى أن السحرة لما أمروا موسى بالتقديم والتأخير في الإلقاء إذ { قالوا يموسى إمآ أن تلقي وإمآ أن نكون أول من ألقى } [طه: 65] أعزهم الله بالإيمان الحقيقي حتى رأوا بنور الإيمان معجزة موسى فآمنوا به تحقيقا لا تقليدا، وهذا حقيقة قوله تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ".
فلما تقربوا إلى الله بإعزاز من أعزه الله أعزهم الله بالإيمان تقربا إليهم ذراعا، فكذلك أعزهم موسى بالتقديم في الإلقاء وقال: { بل ألقوا } [طه: 66] وتقرب به إلى الله { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } [طه: 66] أي: ما كان لها تسعى على الحقيقة بل بالتخيل، وكانت تسعى عصى موسى بالحقيقة كقوله تعالى:
فإذا هي حية تسعى
[طه: 20].
وبقوله: { فأوجس في نفسه خيفة } [طه: 67] يشير إلى أن خوف البشرية مركوز في جبلة الإنسان ولو كان نبيا إلى أن ينزع الله الخوف منه انتزاعا ربانيا بقول صمداني كما قال تعالى: { قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى } [طه: 68] أي: أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق، وفيه معنى آخر: أن خوف موسى عليه السلام ما كان من المكونات، بل كان من المكون إذ رأى عصاه ثعبانا تلقف سحر السحرة قد علم أنها صارت مظهر صفة قهاريته فخاف من الحق تعالى وقهره، لا من العصا وثعبانها، فلهذا قال تعالى: { لا تخف إنك أنت الأعلى } [طه: 68] أي: لأنك أعلى درجة عندنا منها؛ لأنها عصاك مصنوعة لنفسك وأنت رسولي وكليمي
واصطنعتك لنفسي
[طه: 41] وإن كانت في مظهر صفة قهري فأنت مظهر صفات لطفي وقهري كلها.
{ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر } [طه: 69] به يشير إلى أن ما في يمينك هو مصنوعي وكيدي وما صنع السحرة إنما هو مصنوعهم وكيدهم. { ولا يفلح الساحر } [طه: 69] ومصنوعهم وكيدهم { حيث أتى } [طه: 69] مصنوعي وكيدي
إن كيدي متين
[القلم: 45] فلما أظهر الله عز وجل كيده في صورة الثعبان وابتلع مصنوعهم وأظهر برهانه { فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى } [طه: 70] فكان الإيمان على البصيرة ببرهان الربوبية؛ آمنوا بالبرهان بالتقليد، وإن فرعون ما رأى برهان الربوبية فلم يؤمن بالتقليد فقد تحققوا أن المعجزة لم تكن سحرا ولا الرسول ساحرا { قال } [طه: 71] للسحرة { آمنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى } [طه: 71] وإنما قال: { أشد عذابا } [طه: 71] لأنه كان بصيرا بعذاب الدنيا وشدته، وكان أعمى بعذاب الآخرة وشدته.
{ قالوا } [طه: 72] يعني: السحرة { لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات } [طه: 72] أي: لن نختارك على ما جاءنا من نور الإيمان ورؤية البرهان والاطلاع على الجنان وجوار الرحمن { والذي فطرنا } [طه: 72] وهم قسم؛ أي: بالذي فطرنا على فطرة الاسلام والتعرض للفاطرية لإيجابها عدم إيثارهم فرعون عليه تعالى { فاقض مآ أنت قاض } [طه: 72] أي: فاحكم وأجر علينا ما قضى الله لنا في الأزل من الشبهات { مآ أنت قاض } أي: ما أنت الذي قضى لنا هذه الدرجة { تقضي هذه الحياة الدنيآ } [طه: 72] علينا كما قضى الله وقدره.
{ إنآ آمنا بربنا } [طه: 73] الذي قضى وحكم لنا { ليغفر لنا خطايانا } [طه: 73] التي كنا نرى منكم الخير والشر { ومآ أكرهتنا عليه من السحر } [طه: 73] رغبة في خيرك ورهبة من شرك { والله خير } [طه: 73] في إبطال الخير والشر ونفع البشر منك { وأبقى } [طه: 73] خيره من خيرك وعذابه من عذابك { إنه من يأت ربه مجرما } [طه: 74] بائعا دينه بدنياه مشتريا صحبتك بمولاه { فإن له جهنم } [طه: 74] البعد والقطيعة { لا يموت فيها } [طه: 74] موتا يستريح { ولا يحيى } [طه: 74] حياة ينتفع بها { ومن يأته مؤمنا } [طه: 75] بما وعد وأوعد على لسان أنبيائه { قد عمل الصالحات } [طه: 75] التي جاءوا بها { فأولئك لهم الدرجات العلى } [طه: 75] والمنازل القربى { جنات عدن } [طه: 76] في حظائر القدس.
{ تجري من تحتها الأنهار } [طه: 76] أي: من تحت أشجار الأنس أنها الحكم والمعارف { خالدين فيها } [طه: 76] بالسير إلى الله وبالله وفي الله ، وتلك المقامات والدرجات { جزآء من تزكى } [طه: 76] عن أخلاقه الذميمة النفسانية وأوصافه السبعية الشيطانية، وتحلى بالأخلاق الروحانية الربانية، واعلم أن التحلية بهذه الأخلاق إنما يكون بعد تزكية النفس عن هذه الأوصاف.
[20.77-82]
ثم أخبر عن خلاص أهل الإخلاص بقوله تعالى: { ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي } [طه: 77] يشير إلى أن موسى القلب والأخلاق الحميدة إذ أيدناه بالتأييد الإلهي بالأدب الرباني أن أسر بعبادي السر وهو روح القلب والأخلاق الحميدة وهي صفات القلب؛ أي: سرت بهم من بر البشرية إلى بحر الروحانية { فاضرب لهم } [طه: 77] بعصا الذكر لا إله إلا الله { طريقا في البحر } [طه: 77] بحر الروحانية { يبسا } [طه: 77] من ماء الهوى وطين صفات الحيوانية { لا تخاف دركا ولا تخشى } [طه: 77].
وبقوله تعالى: { فأتبعهم فرعون بجنوده } [طه: 78] يشير إلى أن موسى القلب كلما توجه إلى بحر الروحانية يتبعه فرعون النفس مع جنود صفاته الذميمة النفسانية، كما أن النفس كلما توجهت بالخذلان إلى مراتع الحيوانية السفلية يتبعها القلب مع جنوده، وهي الصفات الحميدة الروحانية، فلما دخل موسى القلب وجنوده في بحر الروحانية، وبلغوا ساحل البحر وهو سرادقات العزة وحظائر القدس، ودخل فرعون النفس وجنوده في بحر الروحانية { فغشيهم من اليم ما غشيهم } [طه: 78] من سطوات الروحانية وتموج بحرها بهبوب رياح العناية. { وأضل فرعون } [طه: 79] النفس { قومه } [طه: 79] أي: صفاته في بحر الروحانية { وما هدى } [طه: 79] وما وفق غريق للخروج عن هذا البحر، وهذا تحقيق قوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 27-30] وهي مراتب الروحانية، والإشارة بأن النفس هي مركب سلطان، فإذا بلغ السلطان بجذبات العناية إلى سرادقات العزة وأنزل حضرة الدين
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] يربط مركب وهو النفس في مراتب الجنان، فإن فيها ما تشتهيه الأنفس فلا عبور لها عنها والمسخرة للوصول والوصال إنما هو سلطان القلب لا مركب النفس، فافهم جيدا.
ثم أخبر عن صفات أهل النجاة بقوله تعالى: { يبني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم } [طه: 80] يشبه إلى بني إسرائيل صفات القلب والروح { قد أنجيناكم من عدوكم } [طه: 80] وهو فرعون النفس { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } [طه: 80] وواعدناكم جوار طور قرب الحضرة { ونزلنا عليكم المن } [طه: 80] من صفاتنا، { والسلوى } [طه: 80] أخلاقنا.
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } [طه: 81] أي: اتصفوا بطيبات صفاتنا، وتخلقوا بكرائم أخلاقنا التي شرفناكم بها؛ أي: لو لم تكن العناية الربانية لما نجا الروح والقلب وصفاتهما من شر فرعون النفس وصفاتها، ولولا تأييد الإلهية لما اتصفوا بصفات الله تعالى ولا تخلقوا بأخلاقه.
ثم قال الله تعالى: { ولا تطغوا فيه } [طه: 81] أي: إذا استغنيتم بصفاتي وأخلاقي عن صفاتكم وأخلاقكم فلا تطغوا بأن تدعوا العبودية، وتدعوا الربانية، وتسموا باسمي إن اتصفتم بصفتي كما قال بعضهم: أنا الحق، وقال بعضهم: سبحاني ما أعظم شأني، وما أشبه هذه الأحوال مما يتولد من طبيعة الإنسانية
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7]، وإن طغيان هذه الطائفة بمشاهدة المقامات، وإن كانت من أحوالهما إلا أن الحالات لا تصلح للمقامات وهي موجبة للغضب كما قال تعالى: { فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } [طه: 81] أي: بجعل كل معاملاته في العبودية هباء منثورا، ولهذا الوعيد أمر الله تعالى عباده في الاستهداء بقوله تعالى:
اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم
[الفاتحة: 6-7] أي: اهدنا هداية من أنعمت عليه بتعريفه الطاعة والعبودية، ثم ابتليه بطغيان يحل عليه غضبك، ثم وعد بعد الطغيان بالمغفرة بقوله تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن } [طه: 82] ورجع من الطغيان بعبادة الرحمن { وعمل صالحا } [طه: 82] بالعبودية لربوبيته { ثم اهتدى } [طه: 82] أي: تحقق له أن تلك الحضرة منزهة من وسن الحس والخيال، وأن الربوبية قائمة والعبودية دائمة.
[20.83-91]
ثم أخبر عن عجلة موسى في طلب الرضا بقوله تعالى: { ومآ أعجلك عن قومك يموسى } [طه: 83] إلى قوله: { حتى يرجع إلينا موسى } [طه: 91] { ومآ أعجلك } إشارة إلى معان مختلفة:
* منها: ليعلم أن السائر لا ينبغي أن يتوانى في السير إلى الله، ويرى أن أرض الله في استعجاله في السير.
* ومنها: أن السائر لا يتعرف بعوائق في السير، وإن كان في الله ولله كما كان حال موسى عليه السلام في السير إلى الله، فما تعوق بقومه واستعجل مع أنه كان مأمورا برعاية حقوق القوم ومصالحهم، فلما طلب الله قطع العلائق وحذف العوائق.
* ومنها: أن قصد السائر إلى الله تعالى ونيته ينبغي أن يكون خالصا لله وطلبه لا لغيره كما قال: { وعجلت إليك رب لترضى } [طه: 84] كان قصد السائر إلى الله تعالى.
* ومنها: أن يكون مطلوب السائر من الله رضاه لا رضاء نفسه كما قال: { لترضى } وفي قوله تعالى: { قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } [طه: 85] إشارة دقيقة منها: أنه تعالى جعل فتنة قوم موسى وما لقى موسى [مضاف لنفسه]، وذلك أنه تعالى أضاف فتنة القوم إلى نفسه، وأضاف إضلالهم إلى السامري فافتتن موسى عليه السلام برؤية الفعل عن الفاعل، فإنه قد رأى الفتنة من الله وقال: ألا هي إلا نفسك، ورأى الإضلال من السامري
قال فما خطبك يسامري
[طه: 95] ومن أنت بهذا السبب
وأخذ برأس أخيه يجره إليه
[الأعراف: 150] بلا جرم منه، وهذه الفتنة من جملة ما قال تعالى:
وفتناك فتونا
[طه: 40].
* ومنها: ليعلم أن طريق الأنبياء ومتبعيهم محفوف بالفتنة والبلاء كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن البلاء موكل بالأنبياء "
الأمثل فالأمثل، وقد قيل: إن البلاء للولاء كاللهب للذهب.
* ومنها: أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بمفارقة الصحبة من النبي والشيخ؛ لقوله تعالى: { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } [طه: 85] أي: من بعد مفارقتك إياهم، وأن المسافر إذا انقطع عن صحبة الرفقة والحقير والذليل افتتن بفتنة قطاع الطريق والفيلات هذا في قوله: { فرجع موسى إلى قومه غضبن أسفا } [طه: 86] إلى قوله: افتتان موسى وقومه، أما افتتان موسى: فبأنه برجع من تلك الحضرة مع ما نال من القربة، وكرامة المكالمة، والاصطفاء على الناس، وإيتاء التوراة رجع غضبان آسفا، وكان حقه أن يرجع راضيا مرضيا مسرورا شاكرا لأنعمه، والدليل على ذلك:
فخذ مآ آتيتك وكن من الشاكرين
[الأعراف: 144] وأما افتتان قومه: فبأن أمرهم الله بقتل أنفسهم بقوله تعالى:
فاقتلوا أنفسكم
[البقرة: 54].
وفي قوله تعالى: { يقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } [طه: 86] إشارة إلى أن الله تعالى إذا وعد قوما فلا بد له من الوفاء بالوعد، فيحتمل أن يكون ذلك الوفاء فتنة للقوم وبلاء لهم كما قال لقوله موسى عليه السلام: إذ وعدهم الله تعالى بإتيان التوراة ومكالمة موسى وقومه السبعين المختارين فلما وفى به تولد به لهم الفتنة والبلاء من صفاته وهي الضلالة وعبادة العجل، ولكن الوعد لما كان موصوفا بالحسن وكان البلاء الحاصل من الحسن بلاءا حسنا، وكان عاقبة أمرهم التوبة والنجاة ورفعة الدرجات.
وفي قوله تعالى: { قالوا مآ أخلفنا موعدك } [طه: 87] أي عهدنا: { بملكنا } أي بقوتنا وقدرتنا وإرادتنا، وإنما كانت القدرة والإرادة في ذلك لله تعالى، وإرادتنا كانت فرغ إرادته كما قال تعالى:
وما تشآءون إلا أن يشآء الله
[الإنسان: 30] جواب عن قوله: { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } [طه: 86] وهو أنه ما أردنا ذلك ولكنه أراد ألا يحل علينا غضب منه، فحملنا على خلاف الوعد هو موجب لحلول الغضب يدل عليه قوله تعالى: { ولكنا حملنآ } [طه: 87] بضم الحاء { أوزارا من زينة القوم } [طه: 87] أي: حملنا على ما فعلناه بالإرادة القديمة والقضاء لا بحقيقة إرادتنا { فقذفناها فكذلك ألقى السامري } [طه: 87] بلا اختيار حقيقي منه بل عمل على ذلك.
{ فأخرج } [طه: 88] التقدير بقدرة المقدر لهم. { لهم عجلا جسدا له خوار } [طه: 88] بإذن الله تعالى وقدرته. { فقالوا هذآ إلهكم وإله موسى فنسي } [طه: 88] قوله تعالى: إذا أراد أن يقضي قضاءه أذهب لذوي العقول عقولهم، وأعمى أبصارهم بعد أن رأوا الجذبات وشاهدوا المعجزات كأنهم لم يروا شيئا منها فلهذا قال: { أفلا يرون } [طه: 89] يعني: العجل وعجزه { ألا يرجع إليهم قولا } [طه: 89] شيئا من العقول.
{ ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * ولقد قال لهم هارون من قبل يقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري } [طه: 89-90] على ترك عبادة العجل والإقبال على الله بالتوبة والعبودية، فلم يسمعوا قولا؛ لأنهم كانوا عن السمع الحقيقي لمعزولون كما صاروا عن البصر الحقيقي معزولين، فلهذا { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } [طه: 91] فيه إشارة إلى أن المريد إذا استسعد بخدمة شيخ كامل واصل وصحبه بصدق الإرادة ممتثلا لأوامره ونواهيه قابلا لتصرفات الشيخ في إرشاده بصيرا بنور ولايته سميعا بصيرا يسمع ويرى من الأسرار والمعاني بنور ولاية لو يحتجب بحجاب ما يبقى أصم وأعمى كما كان حتى يرجع إلى صحبة الشيخ قبل رضوانه إذ يزول عنه نور الولاية، أو أنه يزول وينور بنور ولايته.
[20.92-99]
ثم أخبر عن إمارات الفتنة، وأما تأتها بقوله تعالى: { قال يهرون ما منعك } [طه: 92] إلى قوله: { من لدنا ذكرا } [طه: 99] { قال يهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري } [طه: 92-93] إشارة إلى أن موسى عليه السلام لما كان بالميقات مستغرقا في شواهد الحق ما كان يرى غير الحق تعالى، ويكن محتجبا بحجب الوسائل حتى أن الله تعالى ابتلاه بالوسائط بقوله تعالى:
قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك
[طه: 85] يا موسى.
وأضلهم السامري
[طه: 85] أضاف الفتنة إلى نفسه، وأحال الإضلال إلى السامري اختيارا؛ ليعلم منه أنه: هل يرى غير الله في أفعاله الخير والشر؟ فما التفت إلى الوسائط وما رأى العقل في مقام الحقيقة على بساط القربة الآمنة وقال في جوابه:
إن هي إلا فتنتك
[الأعراف: 155] أضاف الفتنة والإضلال إليه تعالى مراعيا حق الحقيقة، ولما رجع إلى قومه نبينا مرسلا رأى الوسائط، وأحال فعل الشر إليهم مراعيا حق الشريعة، فإنه قد بعث إلى الخلق للهداية بأن يخرجهم من ظلمات الطبيعة على قدم الشريعة إلى نور الحقيقة.
{ قال يهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } [طه: 92] عن صراط عبودية الله تعالى بضلالة عبودية العجل { ألا تتبعن } [طه: 93] فتجزني لأرجع عليهم لئلا يقعوا في هلاك هذه الفتنة { أفعصيت أمري } [طه: 93] كما عصى هؤلاء القوم أمري وأمر الله، فلما رأى هارون أن موسى رجع من تلك الحضرة سكران الشوق ملآن الذوق وفيه نخوة القربة والاصطفاء فما وسعه إلا التواضع والخشوع فقال: { قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } [طه: 94] لمعنيين: أحدهما: لتأخذه رأفة صلة الرحم فيسكن غضبه، والثاني: ليذكره بذكر أم الحالة التي وقعت له في الميقات حين سأل ربه الرؤية
فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا
[الأعراف: 143] وجاءه الملائكة في حال تلك الصعقة يجرونه برأسه: يا ابن النساء الحائض بالتراب ورب الأرباب أتطمع رؤية رب العزة.
وقوله تعالى: { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرآءيل } [طه: 94] بخروجك من بينهم. { ولم ترقب قولي } [طه: 94] يعني: منعني ترقب قولك وطاعة أمرك عن أتباعك لا عصيان أمرك، ثم { قال فما خطبك يسامري } [طه: 95] ما حملك على الذي فعلت { قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول } [طه: 96] يعني: خصصت بكرامة فيما رأيت أثر فرس جبرائيل، وألهمت بأن أنشأنا ما خص بها أحد منكم فقبضت قبضة { فنبذتها } [طه: 96] يشير بهذا المعنى إلى أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة، ولأهل الغرامة استدراج، والفرق بين الفريقين: أن أهل الكرامة يصرفونها في الحق والحقيقة، وأهل الغرامة يصرفونها في الباطن والطبيعة، كما أن الله تعالى أنطق السامري بنيته الفاسدة الباطلة بقوله: { وكذلك سولت لي نفسي } [طه: 96] أي: لشقاوتي ومحنتي.
{ قال } [طه: 97] موسى عليه السلام مكافئا له: { فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } [طه: 97] يشير به إلى أن قصدك ونيتك فيما سولت لك نفسك أن تكون مطاعا متبوعا آلفا مألوفا، فجزاؤك في الدنيا أن تكون طريدا وحيدا مقتا ممقوتا متشردا منتفرا، تقول لمن رآك لا تمسني، ولا أمسك فنهلك { وإن لك } [طه: 97] يا سامري { موعدا } [طه: 97] للهلاك والعذاب لمن تخلف في الدنيا والآخرة { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا } [طه: 97] وفيه إشارة إلى عبادة عجل النفس والهوى، فإنهم
وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء: 98] منسوفون في بحر القهر نسفا لا خلاص لهم منه إلى الأبد.
وفي قوله تعالى : { إنمآ إلهكم الله الذي لا إله } [طه: 98] معبودا ولا خالقا { إلا هو } [طه: 98] إشارة إلى من يعبد إلها دونه يحرقه بالنار نار القطيعة، وينسفه في بحر القهر إلى أبد الآباد { وسع كل شيء علما } [طه: 98] فعلم استحقاق كل عبد للطف أو للقهر { كذلك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا } [طه: 99] إذ أنزل القرآن على قلبك.
[20.100-110]
قوله تعالى: { من أعرض عنه } [طه: 100] يشير إلى أن من أعرض عن الذكر الحقيقي الذي قام به حقيقة الإيمان والإيقان والعرفان { فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وسآء لهم يوم القيامة حملا } [طه: 100-101] أي: حملا ثقيلا من الكفر والشرك والجهل والعمى وقساوة القلب والرين والختم والأخلاق الذميمة والبعد والحسرة والندامة والحرق، وكذا هنا حقيقة العبودية ودوام الذكر ومراقبة القلب وصدق التوجه لقبول الفيض الإلهي الذي هو حقيقة الذكر الذي أوله: إيمان، وأوسطه: إيقان، وآخره: عرفان؛ فالذكر الإيماني: يورث الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة بترك المعاصي والاشتغال بالطاعات، والذكر الإيقاني: يورث ترك الدنيا وزخارفها بحلالها وحرامها، وطلب الآخرة ودرجاتها بالطاعات منقطعا إليها، والذكر العرفاني: يوجب قطع تعلقات الكونين، والتكبير على سعادة الدارين، وبذل الوجود على شواهد المشهود بقوله تعالى: { يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا } [طه: 102-103] يشير: أنه إذا نفخ في الصور وحشر على أهل البلاء وأصحاب الجفاء يوم الفزع الأكبر
يوما يجعل الولدان شيبا
[المزمل: 17]
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموت وبرزوا لله الواحد القهار
[إبراهيم: 48].
وإن ربنا قد غضب ذلك اليوم غضبا لم يغضب قبله ومثله، ولن يغضب بعده ليرون من شدة أهوال ذلك اليوم ما يقلل في أعينهم شدة ما أصابهم من العذاب طول مكثهم في القبور، فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلا عشرة أيام، وثم قال تعالى: { نحن أعلم بما يقولون } [طه: 104] من عظيم البلاء وما يقولون { إذ يقول أمثلهم طريقة } [طه: 104] أي: أصوبهم رأيا في نيل شدة البلاء { إن لبثتم إلا يوما } [طه : 104] وذلك لأنه وجد بلاء ذلك اليوم عشرة أمثال ما وجدوه، ومن شدة أهوال ذلك اليوم فقال تعالى: { ويسألونك عن الجبال } [طه: 105] أي: ويسألونك عن أحوال الجبال في ذلك اليوم { فقل ينسفها ربي نسفا } [طه: 105] بتجلي صفة القهارية كما جعل الطور دكا.
{ فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا } [طه: 106-107] من بقاياها { ولا أمتا } [طه: 107] من زواياها { يومئذ يتبعون الداعي } [طه: 108] أي: الذي دعاهم في الدنيا فأجابوا داعيهم لا يموج له في دعائهم؛ يعني: كل داع من الدعاة لا يدعو غير أهله، وكل تابع لا يتبع إلا داعيه نظير قوله تعالى:
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم
[الإسراء: 71] أي: بداعيهم الذي هم يتبعونه.
ثم اعلم أن لكل داع من الدعاة مجيبا في جبلة الإنسانية؛ لأنه تعالى هو الداعي والمجيب كقوله:
والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم
[يونس: 25] فالله هو الداعي والمجيب بالهداية بحسب لسان المشيئة، فافهم جيدا.
ولهذا السر يوجد في كل زمان من متبعي كل داع خلق عظيم، ولا يوجد من متبعي داعي الله إلا الشواذ من أهل الله، ومن أهل داعي الهوى والدنيا والشيطان والملك والنبي والجنة والقربة يوجد في كل زمان خلق على تفاوت طبقاتهم وبقدر مراتبهم، وبقوله تعالى: { وخشعت الأصوات للرحمن } [طه: 108] يشير إلى أن داعي الله إذا عبد بالرحمانية خشعت وانقادت وذلت أصوات جميع الدعاة وانقطعت { فلا تسمع إلا همسا } [طه: 108] أي: إلا وطئ الأقدام الوعي المدعو ونقلها إلى داعية { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن } [طه: 109] إلا من تجلى له الرحمن بصفة الرحمانية من الأنبياء والأولياء؛ ليكون من أهل الشفاعة، فبرحمته يشفع لمن يكون من الرحمة { ورضي له قولا } [طه: 109] أي: وهو مرضي القول لا يقول إلا ما كان لله فيه؛ يعني: لا يشفع إلا برضاه.
{ يعلم ما بين أيديهم } [طه: 110] أي: يعلم اختلاف أحوالهم من يد وخلفهم { وما خلفهم } [طه: 110] اختلاف إلى الأبد { ولا يحيطون به علما } [طه: 110] لأنه تعالى قديم، وعلم المخلوقين لا يحيط بالقديم فيه إشارة إلى العجز عن كنه معرفته.
[20.111-115]
{ وعنت الوجوه للحي القيوم } [طه: 111] أي: خشعت وتذللت وجوه المكونات؛ لكونها الحي: الذي بحياته كل شيء، القيوم: الذي فيه قيام كل شيء احتفاظا واضطرارا واستسلاما { وقد خاب من حمل ظلما } [طه: 111] أي: خسر من تذلل وخشع وسجد لغير الله { ومن يعمل من الصالحات } [طه: 112] أي: الأعمال التي تصلح للتقرب بها إلى الله تعالى { وهو مؤمن } [طه: 112] بالإيمان الحقيقي دون التقليدي { فلا يخاف ظلما } [طه: 112] أي: فلا خوف عليه بأن يظلم فيسجد لغير الله { ولا هضما } [طه: 112] بأن يظلم ويؤاخذ بما لم يعمل من الشر، أو ينقص مما عمل من الخير شيء؛ إذ أعماله مؤيدة بنور الإيمان الحقيقي.
ثم أخبر عن القرآن العظيم والذكر الحكيم بقوله تعالى: { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا } [طه: 113] إلى قوله تعالى: { عزما } [طه: 115] { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا } [طه: 113] أي: كما أنزلنا الصحائف والكتب إلى آدم وغيره من الأنبياء بألسنتهم ولغاتهم المختلفات، كذلك { أنزلناه قرآنا عربيا } أي: بلغة العرب وحقيقة كلامه هي الصفة القائمة بذاته المنزهة عن الحروف والأصوات المختلفة المخلوقة، وإنما الأصوات والحروف تتعلق بلغات الألسنة المختلفة.
{ وصرفنا فيه من الوعيد } [طه: 113] أي: أوعدنا فيه قومك بأصناف العقوبات التي عاقبنا بها الأمم الماضية وكررنا ذلك عليهم { لعلهم يتقون } [طه: 113] عن التعلق بما سوانا نظيره قوله تعالى:
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون
[السجدة: 21] أو يحدث لهم أنوار القرآن وأسراره وحقائقه ذكرا؛ أي: يذكروا انتباها وذوقا وشوقا وهداية يهتدون بها إلينا لئلا ينقطعوا عنا { فتعلى الله الملك الحق } [طه: 114] أي: هو أعلى من أن يعبد ما سواه بالباطل.
وفي قوله تعالى: { ولا تعجل بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } [طه: 114] إشارة إلى سكوته عند قراءة القرآن واستماعه والتدبر في معانيه وأسراره؛ لتنور بأنواره وكشف حقائقه، ولهذا قال الله تعالى: { وقل رب زدني علما } [طه: 114] أي: فهما لإدراك حقائقه، فإنها غير متناهية وتنورا بأنواره وكخلق لخلقه. { ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل } [طه: 115] أي: من قبل أن يكون له أولاد؛ أي: لا يتعلق بغيرنا، ولا ينقاد لسوانا، فلما دخل الجنة ونظر إلى نعيمها { فنسي } [طه: 115] عهدنا وتعلق بالشجرة وانقاد للشيطان { ولم نجد له عزما } [طه: 115] يحتمل معنيين:
* أحدهما: إن الله تعالى لما خلق آدم تجلى أدم فيه بجميع صفاته، فصارت ظلمات صفات خلقيته مقلوبة مستورة بسطوات تجلي أنوار صفات الربوبية، ولم يبق له عزم التعلق بما سواه والانقياد لغيره، فلما تحركت فيه دواعي البشرية الحيوانية، وتداعت شهوات النفسانية، واشتغل باستيفاء الحظوظ نسى أداء الحقوق، ولهذا سمي الناس ناس؛ لأنه ناس، فنشأت له من تلك المعاملات ظلمات بعضها فوق بعض، وتراكمت حتى صارت غيوم شموس المعارف وأستار أقمار المعارف، فنسى عهود الله ومواثيقه وتعلق بالشجرة المنهي عنها، والثاني: أن آدم عليه السلام ظن أن المنهي في قوله: (لا تقربا) تناولهما معا، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله!!
[20.116-130]
ثم أخبر عن كرم الكريم ولؤم اللئيم بقوله: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } [طه: 116] إلى قوله: { لعلك ترضى } [طه: 130] ولهذا قال:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، ولهذا السر اصطفاه على العالمين فاستحق السجود لهم اصطفاء واجتباء؛ ومنها لأنه خلق خلقا تاما كاملا في خلقه؛ وذلك لأن الله تعالى جعله مجمع بحري عالمي الخلق والأمر والملك والملكوت والدنيا والآخرة فما خلق شيئا في عالم الخلق والدنيا إلا، وقد جعل في قالبه أنموذجا منه، وما خلق شيئا في عالم الأمر والآخرة إلا التي جاءت من الله تعالى { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [طه: 127] أي: عذاب القلوب أشد من العذاب في الأبدان وأبقى وأدوم؛ لأن عذاب الأبدان يفنى وعذاب القلوب يبقى.
{ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون } [طه: 128] أي: فلم يسيروا بمدة خذلانهم وتركناهم إلى طبيعتهم الخبيثة من القرون الماضية. { يمشون في مساكنهم } [طه: 128] أي: يقصدون عالم السفل بالطبع. { إن في ذلك لآيات } [طه: 128] دلالات واعتبارات { لأولي النهى } [طه: 128] لمن نهي بجذبة كلمة كن في الأزل إلى الأبد على وفق الحكمة الإلهية والإرادة الأزلية بما هو كائن في كل وقت وأوان بلا مانع ولا مقدم لما أخره ولا مؤخر لما قدمه، فكان ما كان بحيث لم يكن بعده للنقص إليه سبيل { فاصبر على ما يقولون } [طه: 130] أهل الاعتراض والإنكار؛ لأنك محتاج في التربية إلى ذلك لتبلغ به إلى مقام الصبر بقوله تعالى: { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } [طه: 130] يشير إلى أنك كما ذكرت ربك بالحمد والثناء قبل أن تطلع شمس تجلي صفات ربوبيته إلى أن طلعت اذكره بالعبودية على شهود الحق قبل أن تغرب، ولئن غرب غروب الرحمة والشفقة لئلا ينلها شيء لوجودك بسطوات التجلي إذا دامت { ومن آنآء الليل } [طه: 130] أي: ليل الستر.
{ فسبح } [طه: 130] فاذكر، { وأطراف النهار } [طه: 130] أي: نهار التجلي؛ أي: اذكره في كل حالاتك في حالة الستر وحالة التجلي؛ لتكون مذكورا له ومشكورا
ولا تمدن عينيك
[طه: 131].
[20.131-135]
بقوله تعالى: { ولا تمدن عينيك } [طه: 131] يشير إلى: عيني البصر والبصيرة وهما عين الرائين وعين القلب، واختص النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب واعتز بهذا العتاب لمعنيين أحدهما؛ لأنه مخصوص من جميع الأنبياء بالرؤية، ورؤية الحق تعالى لا تقبل الشرك، كما أن اللسان بالتوحيد لا يقبل الشرك والقلب بالذكر لا يقبل الشرك وهو مد العين { إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } [طه: 131] وهو الدنيا والآخرة، ولكن اكتفى بذكر الواحد عن الثاني والأزواج أهل الدنيا والآخرة، والثاني: للغيرة، فإن غيرة الحبيب عظيمة والله أغير منها، ولهذا حرم
الفواحش ما ظهر منها وما بطن
[الأعراف: 33] أن اغسل عيني ظاهرك وباطنك بماء الغيرة عن صفة رؤية الدنيا والآخرة؛ لاستحقاق اكتحالهما بنور جلالته لرؤية جمالنا، وإنما متعنا أهل الدين بها عزة حضرة جلالنا؛ لنفتنهم فيه باشتغالي بتمتعات الدارين عن الوصول إلى كمال رؤية جمالنا، قيل: قرئ عند الشبلي:
إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم
[يس: 55-56] فشهق شهقة، وقال: يا مساكين لا يدرون عما شغلوا حين شغلوا.
{ ورزق ربك } [طه: 131] أي: ما رزقك الله من رؤيته { خير وأبقى } [طه: 131] مما متعناهم به من الدنيا والآخرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
فلهذا التأديب حفظ الأدب
إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 16-17] فأكرم بكرامة
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 18] فنودي في سره أنك لما غمضت عينيك عما سوانا أسعدناك بسعادة
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11] وشرفناك بتشريف
ألم تر إلى ربك
[الفرقان: 45].
وبقوله تعالى: { وأمر أهلك بالصلاة } [طه: 132] يشير إلى: أهل الخاصة وهو: الجسد والنفس والقلب والسر والروح، فصلاة الجسد: الفرائض والنوافل، وصلاة النفس: خروجها عن حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية، وخروجها عن أوصافها لدخول الجنة المشرفة بالإضافة إلى الحضرة بقوله تعالى:
فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 29-30] وصلاة القلب: دوام المراقبة ولزوم المحاضرة لقوله تعالى:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج: 23]، وصلاة السر: عدم الالتفات إلى ما سوى الله تعالى مستغرقا في بحر المشاهدة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من يطع الرسول فقد أطاع الله "
لأنه الفاني عن نفسه الباقي بربه.
قوله تعالى: { واصطبر عليها } [طه: 132] أي: واصبر على استقامة هذه الأحوال كقوله تعالى:
فاستقم كمآ أمرت
[هود: 112] ولا تهتم لرزقك ورزق غيرك. { لا نسألك رزقا } [طه: 132] لأحدهما عندك { نحن نرزقك } [طه: 132] مما عندنا ونغنيك عما عندك كما قال الله تعالى:
ووجدك عآئلا فأغنى
[الضحى: 8] من هنا كان يقول صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
{ والعاقبة للتقوى } [طه: 132] أي: لمن اتقى بالله عما سواه.
{ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } [طه: 133] أي: وقد أتاهم بآية من ربه وهو القرآن الذي فيه بيان ما في الكتب المنزلة، وقد آمن به ورأى إعجازه من كان ذا بصيرة، واستدل بما أنزل في الكتب من محمد صلى الله عليه وسلم وقصته، فإنه أعظم الآيات أوضح الدلالات، ولكنهم صم بكم عن رؤية الآيات، فإنها لم تر بالأبصار وإنما ترى بالبصائر كقوله تعالى:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46] ثم قال الله تعالى: { ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله } [طه: 134] أي: قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم { لقالوا } [طه: 134] يوم القيامة احتجاجا { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } [طه: 134] أي: التي أنزلت معه { من قبل أن نذل } [طه: 134] بذل الضلالة في الدنيا { ونخزى } [طه: 134] بعذاب الآخرة.
{ قل كل متربص } [طه: 135] من أهل السعادة والشقاوة؛ لاستعمالهم فيما خلقوا له { فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي } [طه: 135] وهو صراط الله تعالى للذاهبين إليه { ومن اهتدى } [طه: 135] بالوصول إليه، ومن انقطع عنه باتصال غيره كما قال بعضهم: سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-7]
{ اقترب للناس حسابهم } [الأنبياء: 1] إلى قوله: { إن كنتم لا تعلمون } [الأنبياء: 7] بقوله: { اقترب للناس حسابهم } [الأنبياء: 1] يشير إلى اقتراب الساعة التي فيها يحاسب الناس من أنفسهم في الدنيا قبل أن يحاسبوا في الآخرة { وهم في غفلة } [الأنبياء: 1] من أحوال القيمة وأحوال أنفسهم أنهم يحاسبون بالنقير والقطمير، وإذا نصحهم ناصح واقف على الأحوال فهم { معرضون } [الأنبياء: 1] عن استماع قوله ونصحه كما قال تعالى:
ولكن لا تحبون النصحين
[الأعراف: 79] وإن نزلت في منكري البعث من الكفار وهو حال أكثر مدعي الإسلام في زماننا هذا، فإنهم { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه } [الأنبياء: 2] أهل العزة بالله تعالى { وهم يلعبون } [الأنبياء: 2] يستهزئون به وينكرون عليه.
{ لاهية قلوبهم } [الأنبياء: 3] بمتابعة الهوى متعلقة بشهوات الدنيا ساهية عن ذكر الله غافلة عن طلبه { وأسروا النجوى } [الأنبياء: 3] وتناجوا في السر { الذين ظلموا } [الأنبياء: 3] أنفسهم بالإنكار على أهل الأسرار { هل هذآ إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر } [الأنبياء: 3] تقبلون منه ما يأتيكم من الكلام المموه { وأنتم تبصرون } [الأنبياء: 3] أنه مموه كالسحر { قال ربي يعلم القول في السمآء والأرض } [الأنبياء: 4] يعني: كل أمرهم إلى الله، فإنه يعلم قول أهل السماء سماء القلوب، وقول أهل الأرض أرض النفوس { وهو السميع } [الأنبياء: 4] لأقوال لأهل القلوب وصدقهم، وأقوال أهل النفوس وإنكارهم { العليم } [الأنبياء: 4] بما في ضمائرهم وبأفعالهم وبأوصاف سرائرهم.
{ قالوا أضغاث أحلام } [الأنبياء: 5] يعني : كلام المحققين خيالات فاسدة يقول بعض المنكرين: { بل افتراه } [الأنبياء: 5] أي: اختلقه من نفسه، ويدعي أنه من مواهب الحق، وقال بعضهم: { بل هو شاعر } [الأنبياء: 5] أي: يقول ما يقول بحذاقة النفس وقوة الطبع والذكاء، ثم يقول بعضهم إلى بعض: { فليأتنا } هذا المحقق { بآية كمآ أرسل الأولون } [الأنبياء: 5] بكرامة ظاهرة كما أتى بها المشايخ المتقدمون.
ثم قال الله تعالى: { مآ آمنت قبلهم من قرية } [الأنبياء: 6] أي: من أهل قرية من المنكرين لما رأوا كرامات أولياء الله { أهلكناهآ } [الأنبياء: 6] فأهلكناهم بالخذلان والإبعاد { أفهم يؤمنون } [الأنبياء: 6] يصدقون أرباب الحقائق أن يروا كرامة منهم طبعوا على الإنكار مثل المنكرين الهالكين.
{ ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } [الأنبياء: 7] يشير إلى أنه تعالى يظهر في كل قرن رجالا بالغين من متابعي الأنبياء، ويخصهم بوحي الإلهام كما أظهر في زمان عيسى عليه السلام الحواريين من متابعيه، وأوحى إليهم كما قال الله تعالى:
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي
[المائدة: 111] ثم قال للمنكرين:
فاسألوا أهل الذكر
[النحل: 43] وهم الذين اهتزوا بذكر الله، ووضع عنهم الذكر أوزار البشرية وأثقال الإنسانية، وتنورت قلوبهم بأنوار الربانية، وتجوهرت أرواحهم بجوهر الذكر فصاروا المذكورين بذكر الله إياهم كما قال الله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] فهم يرون حقائق الأشياء بنور الله تعالى، فقال أهل الذكر وأرباب الحقائق: فإنهم يعلمون أحوالهم
إن كنتم لا تعلمون
[النحل: 43] ولا تفهمون رموزهم وإشاراتهم.
[21.8-17]
ثم أخبر عن أحوالهم بقوله تعالى: { وما جعلناهم جسدا } [الأنبياء: 8] إلى قوله: { إن كنا فاعلين } [الأنبياء: 17] { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } [الأنبياء: 8] يشير إلى الأنبياء والأولياء خلقوا محتاجين إلى الطعام بخلاف الملائكة، وذلك لا يقدح في النبوة والولاية، بل هو من لوازم أحوالهم وتوابع كمالهم، فإن لهم فيه فوائد جمة:
* منها: أن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج، وهو منبع جميع الصفات النفسانية الشهوانية، وهي مركب الشوق والمحبة التي بها يقطع السالك الصادق المسالك البعاد، ويعبر المحب العاشق مهالك الفراق للوصول إلى كعبة الوصال.
* ومنها: أن أكل الطعام من نتائج الهوى، وهي ميل النفس إلى مشتهياتها والسير إلى الله تعالى بحسب نهي النفس عن الهوى لقوله تعالى:
ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى
[النازعات: 40-41] ولهذا قال المشايخ: لولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله تعالى.
* ومنها: أن من علم الأسماء التي علم الله آدم منوط بأكل الطعام مثل: علم ذوق المذوقات، وعلم التلذذ بالمشتهيات، وعلم لذة الشهوة، وعلم لذة الجوع والعطش، وعلم الشبع والري، وعلم هضم الطعام، وعلم الصحة والمرض، وعلم الداء والدواء وأمثاله، والعلوم التي تتعلق به كعلوم الطب بأجمعها، والعلوم التي هي من توابعها كمعرفة الأدوية والحشائش وخواصها وطبائعها وغيرها، اقتصرنا على هذا القدر من الفوائد الجمة، فافهم جيدا.
قوله تعالى: { وما كانوا خالدين } [الأنبياء: 8] إشارة إلى كثير من الفوائد فيقتصر على سمة منها وهي: كما أن المميت، وعلم اسم المحيي مودع في الإماتة والإحياء { وما كانوا خالدين } [الأنبياء: 8] ليموتوا أو يتعلموا من المميت اسم المموتة وصفتها على التحقيق لا على التقليد، وليحيوا ويتعلموا من المحيي اسم المحيوية، وصفاتها إن شاء الله تعالى.
{ ثم صدقناهم الوعد } [الأنبياء: 9] يشير إلى الوعد الذي وعدهم حين أهبطهم إلى الأرض بقوله تعالى:
فإما يأتينكم مني هدى
[البقرة: 38] { فأنجيناهم } [الأنبياء: 9] أي: الذين اتبعوا وعدهم حين هداي من الدرك الأسفل الحيوانية إلى أعلى عليين مقامات القرب، وأكرمناهم بالوصول والوصال وهم الأنبياء والأولياء { ومن نشآء } [الأنبياء: 9] أي: من المؤمنين الذين لم يبلغوا درجة الأنبياء والأولياء { وأهلكنا المسرفين } [الأنبياء: 9] الذين أسرفوا على أنفسهم بالسير إلى أسفل سافلين على قدمي متابعة الهوى ومخالفة الشرع وقنطوا من رحمة الله، ولم يتوبوا من الشرك والعصيان، ولم يرجعوا إلى الحضرة على الطاعة في المتابعة ومخالفة الهوى، ثم من على أهل الهداية والنجاة بما فيه هداهم فقال الله تعالى: { لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم } [الأنبياء: 10] أي: فيه ذكركم بالهداية والنجاة ونيل الفضل والدرجات كما قال الله تعالى:
محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا
[الفتح: 29] أفلا تعقلون وتعلمون فضل الله عليكم، ورحمته بإنزال الكتاب إليكم لتهتدوا به
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
[البقرة: 64] المسرفين الهالكين.
{ وكم قصمنا من قرية } [الأنبياء: 11] أي: أهلكنا أهل قرية { كانت ظالمة } [الأنبياء: 11] بالإسراف على أنفسهم { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } [الأنبياء: 11] المعتبرين بهم { فلمآ أحسوا بأسنآ } [الأنبياء: 12] يعني: الظالمين الغافلين { إذا هم منها } [الأنبياء: 12] أي: من شدة بأسنا { يركضون } [الأنبياء: 12] يفرون، ثم قال الله تعالى مع أرواحهم: { لا تركضوا } [الأنبياء: 13] أي: لا تفروا منها، بل فروا إلينا { وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه } [الأنبياء: 13] نعمتم فيه من التنعمات الروحانية الروحانية التي كنتم فيها { ومساكنكم } [الأنبياء: 13] الروحانية في جوار الحق قبل هبوطكم إلى أرض البشرية، وأسفل سافلين القالب. { لعلكم تسألون } [الأنبياء: 13] عزة وكرامة لكم.
{ قالوا يويلنآ إنا كنا ظالمين } [الأنبياء: 14] بأن سرنا في إبطال استعداد صفاء الروحانية، وتحصيل ظلمة صفات النفسانية بتتبع شهوات الحيوانية واستيفاء اللذات الحسية { فما زالت تلك دعواهم } [الأنبياء: 15] بالويل والثبور { حتى جعلناهم } [الأنبياء: 15] أي: جعلنا أرواحهم { حصيدا خامدين } [الأنبياء: 15] أي الجمادات الميتين المعذبين بنار القطيعة والحرمان.
{ وما خلقنا السمآء والأرض } [الأنبياء: 16] أي: سماوات الأرواح وأرض الأجساد { وما بينهما } [الأنبياء: 16] من النفوس والقلوب والأسرار { لعبين } [الأنبياء: 16] وإنما خلقناهما مظهر صفات لطفنا وقهرنا { لو أردنآ } [الأنبياء: 17] في الأزل { أن نتخذ لهوا } [الأنبياء: 17] أي: أهلا وولدا مما خلقنا { لاتخذناه من لدنآ } أي: مما يصلح أن يكون عندنا لا مما يكون عندكم؛ لأن
ما عندكم ينفد وما عند الله باق
[النحل: 96] { إن كنا فاعلين } [الأنبياء: 17] أي: إن كنا ممن يتخذ أهلا وولدا عز وجل قدس حضرتنا عن أمثال هذه التدنسات، وعز جناب كبريائنا عن أنواع هذه التوهمات، وقد تنزه عن أمثالها الملائكة المقربون وهم عبادنا المكرمون، فالحضرة الخالقية أولى بالتنزه.
[21.18-29]
ثم أخبر عن حاصل الباطل بقوله تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه } [الأنبياء: 18] يشير إلى أن للحق ثلاث مراتب، وكذا للباطل مرتبة أفعال الحق، ومرتبة صفات الحق، ومرتبة ذات الحق تبارك وتعالى؛ فأما أفعال الحق فهي: أمر الله به العباد فيه يدفع باطل ما نهى الله عنه، وأما صفات الحق فبتجليها يدمغ باطل صفات العبد، وأنا ذات الحق تعالى فإذا تجلى بذاته يدمغ باطل جميع الذوات كما قال الله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88] ويدل عليه قوله تعالى:
وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء: 81].
وقوله تعالى: { فإذا هو زاهق } [الأنبياء: 18] ولعل من قال: أنا الحق إنما قال عند تجلي ذات الحق أو صفته الحقيقية تعالى لذاته الباطل فإذا زهق باطل ذاته عند مجيئه فأخبر الحق عن ذاته بلسان الصفة بصفة الحق فقال: " أنا الحق " { ولكم } [الأنبياء: 18] يا أهل الوجود المجازي الباطل { الويل مما تصفون } [الأنبياء: 18] به وجود حقيقي الحق تعالى مما يليق بأهل الوجود المجازي الباطل { وله من في السموت والأرض } [الأنبياء: 19] خلقا وإيجادا واستيعادا { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } [الأنبياء: 19] بل يتفاخرون بعبوديته { ولا يستحسرون } [الأنبياء: 19] لا يملون ولا يسأمون.
{ يسبحون اليل والنهار } [الأنبياء: 20] أي: ينزهون عن وصمة الحدوث { لا يفترون } [الأنبياء: 20] عن العبادة والتنزيه والتقديس طرفة عين؛ لأنهم يعيشون بها كما يعيش الإنسان بالنفس، وبقوله تعالى: { أم اتخذوا آلهة من الأرض } [الأنبياء: 21] أي: الدواعي المنشأة من أرض البشرية وهوى النفس { هم ينشرون } [الأنبياء: 21] يحيون القلب الميت، بل الله المحي والمميت يحيي القلوب الميتة بنور ذكره وطاعته.
وبقوله تعالى: { لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] يشير إلى: سماء الروحانية وأرض البشرية؛ أي: { لو كان فيهمآ آلهة إلا الله } أي مدبرات مثل: العقل في سماء الروحانية، والهوى في أرض البشرية غير هداية الله بواسطة الأنبياء والشرائع. { لفسدتا } كما فسدت بتدبير العقل والهوى سماء روحانية الفلاسفة والطبائعية والدهرية والإباحية والملاحدة وأرض بشريتهم؛ فأما فساد سماء أرواحهم: فبأن زلت أقدامهم عن جادة التوحيد وصراط الوحدانية حتى أثبتوا لله الواحد القهار شريكا قديما وهو العالم، فلم يقبلوا دعوة الأنبياء، ولم يهتدوا بهداية الحق، وأما ارض بشريتهم: فبأن زلت قدمهم عن جادة العبودية وصراط الشريعة، والمتابعة حتى عبدوا طاغوت الهوى والشيطان وآل أمر فساد حالهم إلى أن قال الله فيهم:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون
[البقرة: 18].
وأما تفسير قوله تعالى: { لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] في الظاهر فهو أن وجود الإلهية لا يخلوا إما أن يكون حالهم كلهم متساوين في الألوهية وكمال القدرة، أو بعضهم كاملا، أو بعضهم ناقصا.
* وإما أن يكون كلهم ناقصا: يحتاج بعضهم إلى بعض في الألوهية، فأما التساوي في الكمالية فموجب أن يكون وجود كل واحد منهم عبثا لاستغناء الكامل من الناقص الآخرين عنه والمستغنى عنه لا يصلح للإلهية.
* وإما كمالية بعضهم وناقصية بعضهم: تقتضي استغناء الكامل عن الناقص، فالناقص لا يصلح للإلهية، وأما الناقصون الذين محتاجون إلى إعانة بعضهم لبعض فلا يصلحون للإلهية؛ لأنهم محتاجون إلى مكمل واحد مستغن عما سواه، أو هو الواحد الصمد الغني عما سواه وما سواه محتاج إليه، ولو كان فيهما آلهة لفسدتا؛ لعدم مدبر كامل في إلهية أخرى في المدبرية.
{ فسبحان الله رب العرش } [الأنبياء: 22] فنزه الله نفسه عن العجز والاحتياج لغيره في الإلهية، وأثبت أنه خالق العرش الذي يفيض الرحمانية إلى المكونات؛ لنفي الإلهية عن غيره منزها { عما يصفون } [الأنبياء: 22] باحتياجه إلى العرش أو لآلهة أخرى في الإلهية { لا يسأل عما يفعل } [الأنبياء: 23] لأن أفعاله مبنية على القدرة الكاملة والحكمة البالغة فلا مساغ لسؤال سائل فيهما لم فعلت { وهم يسألون } [الأنبياء: 23] فيما يفعلون؛ لأن للسؤال في أفعالهم مساغا؛ لأن مصدرها الظلومية والجهولية.
{ أم اتخذوا من دونه آلهة } [الأنبياء: 24] بالدليل والبرهان { قل هاتوا برهانكم } [الأنبياء: 24] أي: لا يمكن إثبات آلهة أخرى بالبرهان كما قال تعالى:
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به
[المؤمنون: 117] وبقوله تعالى: { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } [الأنبياء: 24] يشير إلى أن إثبات الربانية بالتحقيق، وكشف العيان من خصوصية العلماء المحققين من أمتي الذين هم معي في سير المقامات وقطع المنازل، فإن الله تعالى قد ندبهم بكلام أزلي إلى الدعاء، ووعد عليهم الاستجابة بقوله تعالى:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60] فلهم الشركة مع الملائكة في قوله تعالى: { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [الأنبياء: 27] لأنهم بأمره دعوة عند رفع الحاجات إليه.
ثم أخبر عن الاعتراض على أهل الإعراض بقوله تعالى، [والمحققين] معي إلى الحضرة كما هو من خصائص الأنبياء من قبلي، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم:
" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "
أي: في صدق الحق بالإعراض عن الكونين والتوجه إلى الله تعالى { بل أكثرهم } [الأنبياء: 24] أكثر الخلق من مدعي الإسلام { لا يعلمون الحق } [الأنبياء: 24] من الباطل { فهم معرضون } [الأنبياء: 24] عن الحق ومتبعون الباطل من أهل الأهواء والبدع وعبدة الهوى والدنيا.
ثم أخبر عن أهل الحق وقول الصدق بقوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25] يشير إلى أن الحكمة في بعث جميع الأنبياء والرسل مقصورة على هاتين المصلحتين وهما: إثبات وحدانية الله تعالى، وتعبده بالإخلاص؛ لتكون فائدة تلك المصلحتين راجعة إلى العباد لا إلى الله تعالى، كما قال الله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] أي: ليعرفوني وهي مختصة بالإنسان دون سائر المخلوقات؛ لأنها حقيقة الأمانة التي قال الله تعالى:
إنا عرضنا الأمانة
[الأحزاب: 72]، فافهم جيدا.
ثم أخبر عمن لم يقبل الدعوة من الأنبياء، ولم يعبد الله ليعرفه فبقي في تيه الضلالة فنسب قوم بجهالتهم وضلالتهم الولد إلى الله تعالى { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه } [الأنبياء: 26] يعني: قالوا: الملائكة بنات الله، فالله تعالى نزه ذاته عن هذا الوضع فقال: { بل عباد مكرمون } [الأنبياء: 26] يعني: الملائكة.
ثم أخبر عن حقيقة إكرامهم بقوله تعالى: { لا يسبقونه بالقول } [الأنبياء: 27] يشير إلى أنهم منزهون عن الاحتياج بمأكول أو مشروب أو ملبوس ومنكوح، وبنا يدفع عنهم الحر والبرد، وأما [من] ابتلاهم الله تعالى بالأمراض والعلل والآفات، فيسبقون الله بالقول يستدعون منه دفعها وإزالتها والخلاص منها بالتضرع والابتهال، وكذلك ما ابتلاهم الله تعالى بطبيعة تخالف أوامر الله تعالى، فيمكن منهم خلاف ما يؤمرون فقال الله تعالى: { وهم بأمره يعملون } نظيره قوله عز وجل:
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6] ولعمري إنهم وإن كانوا مكرمين بهذه الخصال، فإن بني آدم في سر:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70] المكرمون منهم بكرامات أكبر منها درجة وأرفع منها منزلة؛ وذلك لأنهم ما خلقوا محتاجين إلى ما لا يحتاج إليه الملائكة بالكرامتين اللتين لم يكرم بهما الملائكة: فأحدهما: الرجوع إلى الله مضطرين فيما يحتاجون إليه، فأكرموا بكرامة الدعاء، والإجابة بقوله تعالى:
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
[النمل: 62] على أنهم في ذلك { لا يسبقونه بالقول } [الأنبياء: 27] كالملائكة.
وكذلك أثنى عليهم بقوله تعالى:
تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون
[السجدة: 16] الملائكة بكرامة الدنيا والاستجابة، وهذه مرتبة الخواص من بني آدم في الدعاء، وأمر مرتبة أخص خواصهم أنهم يدعون ربهم لا خوفا ولا طمعا، بل محبة منهم وشوقا إلى وجهه الكريم، كما قال الله تعالى:
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
[الأنعام: 52] وهذه هي الكرامة الثانية من نتائج الاحتياج حتى لم يبق شيء من المخلوقات وخلقها إلا كانوا محتاجين بخلاف مخلوق آخر، فإن لكل مخلوق استعدادا في الاحتياج يناسب حال جبلته التي جبل عليها، وكل مخلوق يفتقر إلى خالقه بنوع ما ويفتقر إليه بنو آدم من جميع الوجوه، وهذا سر يقوله قوله تعالى:
والله الغني وأنتم الفقرآء
[محمد: 38] أي: كما ذاته وصفاته استوعبت الغنى، كذلك ذواتهم وصفاتهم استوعبت الفقر، فأكرمهم الله تعالى بعلم أسماء ما كانوا محتاجين إليه كلها، ووفقهم للسؤال عنه، وأنعم عليهم بالإجابة فقال:
وآتاكم من كل ما سألتموه
[إبراهيم: 34] وعد ذلك من النعمة التي لا نهاية لها، وكرامة لا كرامة فوقها بقوله تعالى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34].
وبقوله تعالى:
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم
[طه: 110] يشير إلى أنه تعالى يعلم ما بين أيديهم الملائكة من خجالة قولهم:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] فإن فيه نوع من الاعتراض، ونوع من الغيبة، ونوع من العجب حتى عيرهم الله تعالى فيما قالوا، وقال:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة: 30] يعني: يعلم منه استحقاق المسجودية لكم ، والله أعلم منكم الساجدين له وما خلقهم؛ أي: ما يأمرهم بالسجود والاستغفار لمن في الأرض؛ يعني: المعتابين من أولاده؛ ليكون كفارة لما صدر منهم في حقهم.
{ ولا يشفعون } [الأنبياء: 28] في الاستغفار { إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28] يعني: الله تعالى من أهل المغفرة { وهم من خشيته مشفقون } [الأنبياء: 28] أي: من خشية الله وسطوة جلاله خائفون ألا يعفو عنهم ما قالوا ويأخذهم به ويقولوا لنا { ومن يقل منهم إني إله } [الأنبياء: 29] يعني: من الملائكة.
{ من دونه فذلك نجزيه جهنم } [الأنبياء: 29] يشير إلى أنه ليس للملك استعداد الاتصاف بصفات الألوهية، ولو أن هذه المرتبة جزاؤهم جهنم البعد والطرد والتعذيب كما كان إبليس، وبه يشير إلى أن الاتصاف بصفات الألوهية مرتبة بني آدم كما قال صلى الله عليه وسلم:
" تخلقوا بأخلاق الله "
، وقال عنوان كتاب الله إلى أوليائه يوم القيامة: من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت، فافهم جيدا.
{ كذلك نجزي الظالمين } [الأنبياء: 29] يعني: الذين يضعون الأشياء في غير موضعها كأهل الرياء والسمعة والشرك الخفي والجلي.
[21.30-35]
ثم أخبر عن الآيات مما في الأرض والسماوات بقوله تعالى: { أولم ير الذين كفروا أن السموت والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } [الأنبياء: 30] يشير إلى أن أرواح المؤمنين والكافرين خلقت قبل السماوات والأرض كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أنه تعالى خلق الأرواح وكانت شيئا قبل الأجساد بألفي عام "
، وفي رواية:
" بأربعة آلاف سنة "
وكان خلق السماوات والأرض بمشهد من الأرواح وكانتا شيئا واحدا كما جاء في الحديث المشهور:
" أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بنظر الرحمة، فبحمد نصفها فخلق منه العرش فارتعد العرش، فكتب الله تعالى: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن العرش وترك الماء على حالته يرتعد إلى يوم القيامة، وذلك قوله تعالى: { وكان عرشه على المآء } [هود: 7] "
وفي رواية ابن عمران بن حصين:
" وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض "
أي: ثم من تلاطم أمواجه صعدت أدخنة، وارتفع بعضها متراكما على بعض، وكان لها زبد فخلق منها السماوات والأرض طباقا، وكانتا رتقا فخلق الريح منها فتق بين أطباق السماء وأطباق الأرض.
كما أخبر بقوله تعالى:
ثم استوى إلى السمآء وهي دخان
[فصلت: 11] وإنما خلقها من دخان ولم يخلقها من بخار؛ لأن الدخان خلق متماسك الأجزاء يستقر في منتهاه، والبخار من كمال عمله وحكمته، ثم بعد ذلك مد الزبد على وجه الماء ودحاه فصار أرضا بقدرته، وذلك قوله تعالى:
والأرض بعد ذلك دحاها
[النازعات: 30] ثم نظر إليها بعين الرحمة فجمدت كما جاء في الحديث قوله: " فبحمد بعضها " وهو التذلل في قوله تعالى:
جعل لكم الأرض ذلولا
[الملك: 15] وأشار إلى هذه الجملة بقوله تعالى: { أولم ير الذين كفروا أن السموت والأرض } [الأنبياء: 30] في قوله تعالى:
جعل لكم الأرض
[الملك: 15] { كانتا رتقا ففتقناهما } [الأنبياء: 30].
وبقوله تعالى: { وجعلنا من المآء كل شيء حي } [الأنبياء: 30] يشير إلى أنه خلق حياة كل ذي حياة من الحيوانات من الماء الذي عرشه، وذلك أن الجوهرة التي هي مبدأ الموجودات هو الروح الأعظم خلقت أرواح الإنسان والملك من أعلاها، وخلقت أرواح الحيوان والدواب من أسفلها، وهو الماء كما قال تعالى:
والله خلق كل دآبة من مآء
[النور: 45] وكان ذلك كله بمشهد من الأرواح ولذلك قال تعالى: { أفلا يؤمنون } [الأنبياء: 30] أي: أفلا يؤمنون بما خلقنا بمشهد من أرواحهم.
وبقوله تعالى: { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } [الأنبياء: 31] يشير إلى: الأبدال الذين هم أوتاد الأرض وأطوارها، فأهل الأرض بهم يرزقون وبهم يمطرون { وجعلنا فيها فجاجا سبلا } [الأنبياء: 31] أي: وجعلنا في إرشادهم الفجاج والسبل إلى الله تعالى { لعلهم يهتدون } [الأنبياء: 31] بهم إلى الله تعالى.
{ وجعلنا السمآء } [الأنبياء: 32] سماء القلب { سقفا محفوظا } [الأنبياء: 32] من وساوس شياطين الجن والإنس { وهم } [الأنبياء: 32] أي كافر النعمة { عن آياتها } [الأنبياء: 32] عن رؤية آياتها التي أودعنا فيها من الدلائل والبرهان والأسرار والحكم البالغة التي بها يهتدي وعن التفكر فيها { معرضون } [الأنبياء: 32]؛ لأنهم أقبلوا بكليتهم إلى الدنيا، وطلب زخارفها والتلذذ بشهواتها، وأعرضوا عن الله وشكر نعمه، والقيام بعبوديته.
{ وهو الذي خلق الليل } [الأنبياء: 33] ليل النفس الظلمانية { والنهار } [الأنبياء: 32] نهار القلب المضيء { والشمس } [الأنبياء: 32] وهي شمس نور الله الذي نور الله به قلوب أوليائه { والقمر } [الأنبياء: 33] وهو نور الإسلام الذي شرح الله به صدور المؤمنين، وجعل بضوئه نفوسهم قرأ { كل } [الأنبياء: 33] من أهل الإسلام، وأهل الإيمان، وأهل الولاية { في فلك } [الأنبياء: 33] أفلاك أطوار القلب { يسبحون } [الأنبياء: 33] يبحرون ويسلكون.
ثم أخبر عن الرحلة من دار الفناء إلى دار البقاء بقوله تعالى: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } [الأنبياء: 34] يشير إلى أنه ليس من شأنه أن يخلد آدميا في الدنيا، وإن كانا قادرين على تخليده { أفإن مت } [الأنبياء: 34] يا محمد كما هو من سنتنا { فهم الخالدون } [الأنبياء: 34] في الدنيا بقدرتنا، بل أنت ميت وهم ميتون كما هو من سنتنا دليله قوله تعالى:
إنك ميت وإنهم ميتون
[الزمر: 30].
وبقوله تعالى: { كل نفس ذآئقة الموت } [الأنبياء: 35] يشير إلى أن من الحكمة البالغة والنعمة السابغة أنه جمع في طينة الإنسان ما أفرد به الملائكة بروح نوراني علوي باق أبدي، وأفرد الحيوانات بروح حيواني سفلي فان، فأفرد الإنسان بتركيب الروحين فيه فان حيواني وباق ملكي، فالحكمة في ذلك: أن الروح الملكي غير متغذ، وإنما بقاؤه بالتسبيح والتقديس وهو بمثابة النفس للحيوان، ولهذا ليس للملك الترقي من مقامه والروح الحيواني قابل للترقي؛ لأنه متغذ، فجعل الله الإنسان مركبا من الروحين؛ لينقطع روحه الملكي بطبع روحه الحيواني المتغذي، وقبول الفناء الذي يعبر عنه بالموت؛ ليصير مترقيا كالحيوان، وينطبع روحه الحيواني بطبع روحي الملكي؛ ليصير مسبحا ومقدسا كالملك باقيا بعد المفارقة بخلاف الحيوانات؛ ولكن من اختصاص الروح الحيواني في التغذي: أن يجعل الغذاء جنس المتغذي، ويلونه بلونه، وصفته الروح الإنساني أن يكون متلونا بلون الغذاء ومتصفا بصفته؛ وذلك لأن غذاء الروح الحيواني الطعام والشراب، وهي من الجماد والنبات والحيوان المذبوح المطبوخ فيهما الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة مركوزة بالطبع، والروح الحيواني غالب عليها ومتصرف فيها بالطبع فيجعلها من جنس المتغذي، وغذاء الروح الإنساني ذكر الله وطاعته، والشوق والمحبة إلى لقائه الكريم، وفيه النور والجذبة الإلهية وهي غالبا على الروح؛ فالروح يتجوهر بجوهرها، وفي الجوهرة بجوهر النور الرباني نوع من الفناء عن وجوده والبقاء بنور ربه، فهو بمثابة ميت ذاق الموت، ثم أحيي بنور ربه، كما قال الله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122] فهذا الموت الذي استحق به الروح الإحياء بنور الله إنما استقاه من النفس الحيوانية التي هي ذائقة الموت، فافهم جيدا.
وبقوله تعالى: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء: 35] يشير إلى أنا نبلوكم بالمكروهات التي تسمونها شرا وهي: الخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وأنه فيها موت النفس وحياة القلب، ونبلوكم بالمحبوبات التي يسمونها الخير وهي:
الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث
[آل عمران: 14] وفيها حياة النفس وموت القلب، وكلتا الحالتين ابتلاه، فمن صبر على موت النفس على صفاتها بالمكروهات وعن الشهوات فله البشارة بحياة القلب واطمئنان النفس، وله استحقاق الرجوع إلى ربه بجذبة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] للطف، كما قال الله تعالى: { وإلينا ترجعون } [الأنبياء: 35] فيصير ما يحسبه الشر خيرا، كما قال تعالى:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
[البقرة: 216] ومن لم يصبر على المكروهات وعن الشهوات المحبوبات، ولم يشكر عليها بأداء حقوق الله تعالى فله العذاب الشديد من كفران النعمة، ويصير ما يحسبه الخير شرا كما قال تعالى:
وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
[البقرة: 216] فيرجع إلى الله بالقهر في السلاسل والأغلال.
[21.36-39]
وفي قوله تعالى: { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا } [الأنبياء: 36] إشارة إلى أن من كان محجوبا من الله تعالى بالكفر لا ينظر إلى خواص الخلق إلا بعين الإنكار والاستهزاء؛ لأن خواص الخلق من الأنبياء والأولياء يقبحون في أعينهم إذ ما اتخذوا لهم آلهة من شهوات الدنيا من جاهها ومالها وغير ذلك كما قال الله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية: 23] وكل محب يغار على محبوبه ويقولون: { أهذا الذي يذكر آلهتكم } [الأنبياء: 36] أي: يذكرهم بعيب ونقصان.
ثم قوله تعالى عقب هذا: { خلق الإنسان من عجل } [الأنبياء: 37] يشير إلى معان:
* منها: أي: أنتم تستعجلون من جهلكم وضلالتكم؛ وذلك لأنهم يؤذون حبيبي ونبيي بطريق الاستهزاء والعداوة،
" ومن عاد لي وليا فقد بارزني بالمحاربة "
فقد استعجل العذاب؛ لأني أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه، فكيف بمن يعادي حبيبي ونبيي! ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في سياق الآية: { سأوريكم آياتي } [الأنبياء: 37] أي: عذابي { فلا تستعجلون } [الأنبياء: 37] في طلبه بطريق إيذاء نبيي والاستهزاء بها.
* ومنها: أن الروح الإنساني خلق من عجل؛ لأنه أول شيء تعلقت به القدرة.
* ومنها: أن الله تعالى
خلق السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام
[الفرقان: 59] وخمر طينة آدم بيده أربعين صباحا، وقد روي أن كل يوم من أيام التخمير
كان مقداره ألف سنة مما تعدون
[السجدة: 5] فيكون أربعين ألف سنة؛ فالمعنى: أن الإنسان مع هذا خلق من عجل بالنسبة إلى خلق السماوات والأرض في ستة أيام لما خلق فيه بتخمير طينته أنموذجات ما في السماوات والأرض وما بينهما، واستعداد سر الخلافة المختصة، وقابليته تجلي ذاته وصفاته، والمرتبة التي تكون مظهرة للكنز المخفي الذي خلق الخلق لإظهاره ومعرفته، ولاستعداد حمل الأمانة التي عرضنا على السماوات والأرض والجبال وأهاليها
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72].
وتمام الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله تعالى: { سأوريكم آياتي فلا تستعجلون } [الأنبياء: 37] أي: سأريكم صفات كمالي في مظاهر الأفاق ومرآة أنفسكم بالتربية في كل قرن بواسطة نبي أو ولي، فلا تستعجلون في هذا المقام من أنفسكم، فإنه قبل من المهد إلى اللحد، أقول: من الأزل إلى الأبد، وهذا منطق الطير لا يعلمه إلا سليمان الوقت، قال الله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53].
ويقولون متى هذا الوعد
[الملك: 25] أي: وعد إرادة الآيات
إن كنتم صادقين
[الملك: 25] في النبوة والرسالة.
{ لو يعلم الذين كفروا } [الأنبياء: 39] أي: ستروا الحق بالباطل { حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون } [الأنبياء: 39] في وقع العذاب؛ أي: لو علم أهل الإنكار والجحود قبل أن يكافئهم الله على إنكارهم نار القطيعة والحسرة والبعد والطرد لما أقاموا على كفرهم وإنكارهم، ولتابوا ورجعوا إلى طلب الحق.
[21.40-44]
{ بل تأتيهم } [الأنبياء: 40] جزاء إنكارهم من قساوة القلوب وعماها { بغتة } [الأنبياء: 40] فجأة عقيب الإنكار { فتبهتهم فلا يستطيعون ردها } [الأنبياء: 40] بقوتهم واستطاعتهم { ولا هم ينظرون } [الأنبياء: 40] لطلب الاستطاعة والإنابة بشؤم الإنكار والاستهزاء { ولقد استهزىء برسل من قبلك } [الأنبياء: 41] هذا تطييب لقلوب الأنبياء والأولياء { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } [الأنبياء: 41] أي: أحاط بهم شؤم استهزائهم فأهلكهم.
ثم أخبر عن كلاءته لأهل ولايته بقوله تعالى: { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } [الأنبياء: 42] يشير إلى أن لملوك الأرض والجبال من لو كان حراسا وأعوانا يحفظونهم بالليل والنهار من الخصوم والأعداء والمنازعين، فمن لهم يحفظهم { بالليل } ليل بشرية نفوسهم { والنهار } أي: نهار نور روحانيتهم من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته، كما أن الرحيمة من صفات الجمال بأن يبعث عليهم عذابا في ظاهرهم أو باطنهم بأن يكلهم إلى ظلمة ليل بشريتهم وهي الجهل؛ ليبقوا بالجهل في أسفل سافلين النفس النفسانية إلى الأبد، أو يكلهم بالخذلان إلى نهار نور الروحانية، وهو العقل ليبقوا في حجب المعقولات كالفلاسفة، فإن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة وهي حجب البشرية والرحمانية، فالمحجوبون بحجب البشرية أرجى خلاصا من المحجوبين بحجب الروحانية؛ لأنهم مقرون بجهالتهم وهؤلاء معذورون بمقالتهم وهم من الأخسرين.
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف: 104] { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } [الأنبياء: 42] أي: أهل حجب البشرية معرضون عن ذكر ربهم، ومعرفته لحسبانهم بعوارف المعقولات { أم لهم آلهة } [الأنبياء: 43] من الأهواء أو البدع { تمنعهم } [الأنبياء: 43] مما هم فيه من الخذلان وسطوات قهرنا { من دوننا } [الأنبياء: 43] أي: من غيرنا، ثم نفاهم عن نصرهم بالعجز عن نصر أنفسهم فقال الله تعالى: { لا يستطيعون نصر أنفسهم } [الأنبياء: 43] في طلب الحق { ولا هم منا يصحبون } [الأنبياء: 43] يمنعون عن إصابة سطوات قهرنا.
{ بل متعنا هؤلاء } [الأنبياء: 44] من أهل حجب البشرية؛ ليتمتعوا من متاع الدنيا وشهواتها { وآبآءهم } [الأنبياء: 44] أي: عقلائهم من أهل الحجب الروحانية؛ ليتمتعوا بالمعقولات وينتفعوا بها { حتى طال عليهم العمر } [الأنبياء: 44] وأشربوا في قلوبهم بالزمان الطويل حب المعقولات { أفلا يرون } الطائفتان { أنا نأتي الأرض } [الأنبياء: 44] أي: أنا إذا نظرنا إلى أرض البشرية { ننقصها من أطرافهآ } خاصية البشرية من طرف البشرية، وخاصية الروحانية من طرف الروحانية؛ يعني: مهما تداركت العناية كلتا الطائفتين لا تطلب مشاربهما من حظوظ البشرية والروحانية بحقوق الواردات الربانية { أفهم الغالبون } [الأنبياء: 44] أم نحن، بل الله غالب على أمره.
[21.45-50]
وبقوله تعالى: { قل إنمآ أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون } [الأنبياء: 45] يشير إلى أنه ليس للأنبياء والأولياء إلا الإنذار والنصح وليس لهم إسماع الصم، وهم الذين لعنهم الله في الأزل بالطرد عن جوار الحضرة إلى أسفل الدنيا، وأصمهم وأعمى أبصارهم بحبها، وطلب شهواتها، فلا يسمعون ما ينذرون به، وإنما الاستماع لله تعالى لا للخلق كما قال الله تعالى:
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم
[الأنفال: 23].
وفي قوله تعالى: { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يويلنآ إنا كنا ظالمين } [الأنبياء: 46] إشارة إلى أن أهل الغفلة والشقاق لا ينتبهون بتنبيه الأنبياء، ونصح الأولياء في الدنيا حتى يمسهم أمر من آثار عذاب الله بعد الموت، فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
فاعترفوا بذنبهم
[الملك: 11] ونادوا بالويل والثبور على أنفسهم بما كانوا ظالمين.
وفي قوله تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } [الأنبياء: 47] إشارة إلى أن الموازين على قسمين: موازين الفضل، وموازين العدل:
* فأما موازين الفضل: فقد وضعت في المبدأ الأول حين قسمت الأشياء كما قال:
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا
[الزخرف: 32] قورن بها أولا أعظم وزن لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113] ثم وزن بها للرسل ورجع لبعضهم كما قال الله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة: 253] ثم وزن بها للأولياء المحبوبين كما قال الله تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم
[المائدة: 54] ثم وزن بها للمؤمنين فقال الله تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا
[النور: 21] ثم وزن بها لبني آدم عموما بقوله تعالى:
ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء: 70].
* وأما موازين العدل: فقد وضعت للمداد وهو يوم القيامة
تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم
[غافر: 17] وذلك؛ لأن العالم بما فيه خلق كشجرة لثمرتها ولها بذر، فقسم بذرها في المبدأ بميزان الفضل رعاية لمصلحة الشجرة ولو وزن بميزان العدل ما تم أمر الشجرة للتسوية في القسمة؛ لأنه لو لم يكن الفضل مخصوصا ببعضها دون بعض ما كان للشجرة ثمرة ولا للثمرة شجرة، فإذا تم أمر الشجرة وأثمرت فاقتضت الحكمة بأن وزن لها في الآخرة بميزان العدل؛ لإيصال الماء بالسوية إلى أجزاء الشجرة رعاية لصلاح الشجرة والثمرة { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } [الأنبياء: 47] إلى موضع صالح { وكفى بنا حاسبين } [الأنبياء: 47] في رعاية صالح الشجرة والثمرة من المبدأ إلى المعاد.
ثم أخبر عن إيتاء الفرقان لموسى بن عمران بقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } [الأنبياء: 48] يشير إلى أن النور الذي هو يفرق بين الحق والباطل، بل بين الخلق والخالق والحدوث والقدم نور يقذفه الله تعالى في قلوب عباده المخلصين من الأنبياء والمرسلين والأولياء الكاملين، ولا يحصل بتكرار العلوم الشرعية، ولا بالأفكار العقلية، وله { وضيآء } [الأنبياء: 48] يتعظ به { وذكرا للمتقين } [الأنبياء: 48] { الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون } [الأنبياء: 49] الذين يتقون عن الشرك بالتوحيد، وعن الطبع بالشرع، وعن الرياء بالإخلاص، وعن الخلق بالخالق، وعن الأنانية بالهوية.
{ وهذا ذكر مبارك } [الأنبياء: 50] لمن يتعظ له، ويعلم أن اتعاظه به إنما هو من نور { أنزلناه } [الأنبياء: 50] في قلبه لا من نتائج عقله وتفكيره فيه { أفأنتم له منكرون } [الأنبياء : 50] أي: تنكرون على أنه نور من هدايتنا.
[21.51-59]
{ ولقد آتينآ إبراهيم رشده من قبل } [الأنبياء: 51] أي: شرفناه بنور الخلة ومن قبل خلقه؛ لأن اتخاذ الله إياه خليلا كان في الأزل، فإن الكلام الأزلي ناطق { وكنا به عالمين } [الأنبياء: 51] أي: بأهليته للخلة واستحقاقه للرشد والهداية؛ لأنا خلقناه مستعدا للهداية والكرامة ألا يعلم من خلق.
{ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } [الأنبياء: 52] يعني: لو لم يكن آثار رشدنا لما رأى بنور الرشد ظلمة شركهم وعكوفهم للأصنام لما قال: { إذ قال } فيه إشارة إلى: أحوال الذين فاتهم يرون أهل الدنيا بنور الرشد، عاكفين لأصنام الهوى والشهوات، يقولون لهم: { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ولو لم يكن نور الرشد والهداية من الله لكانوا معهم عاكفين لها، وما رأوها بنظر التماثيل.
{ قالوا وجدنآ آبآءنا لها عابدين } [الأنبياء: 53] فيه إشارة إلى أن التقليد غالب على الخلق كافة في عبادة الهوى والدنيا إلا من أتاه الله رشده، فيقول لأهل الأهواء والبدع بنور التحقيق والرشد: { قال لقد كنتم أنتم وآبآؤكم في ضلال مبين * قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } [الأنبياء: 54-55] بهذه يشير إلى عابدي الهوى من غير الإسلام؛ إذ سمعوا كلام أهل التحقيق في بيان سبيل الرشاد، وقالوا بالاستهزاء: أجئت بما يرشدنا بالحق وندعو إليه أم تلاعب معنا، فيه إشارة لطيفة، وهي: كما أن أهل الصدق والطلب يرون أهل الدنيا لاعبين واتخذوا الدنيا لعبا ولهوا كقوله تعالى:
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
[الأنعام: 91] كذلك أهل الدنيا يرون أهل الدين لاعبين، وأمر الدين لعبا ولهوا.
وبقوله تعالى: { قال بل ربكم رب السموت والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين } [الأنبياء: 56] يشير إلى أن إيمان الخليل عليه السلام كان إيمانا إيقانيا، بل عيانيا بقوله: { وأنا على ذلكم من الشاهدين } [الأنبياء: 56] أي: الحاضرين الناظرين في ملكوتهما بيد قدرته كما قال الله تعالى:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء
[يس: 83] وكما قال تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض وليكون من الموقنين
[الأنعام: 75].
وبقوله تعالى: { وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين * فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون } [الأنبياء: 57-58] يشير إلى أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه ينحت من هوى نفسه أصناما كما كان أبو إبراهيم آزر ينحت الأصنام، وإذا أدركته العناية الأزلية أيد بالتأييد الإلهي كسر أصنام الهوى، ويجعلها جدارا فضلا عن نحتها كما كان حال إبراهيم عليه السلام كان يكسر من الأصنام ما ينحت أبوه، وإذا كان المرء على أهل الخذلان يرى الحق باطلا والباطل حقا كما كان قوم نمرود { قالوا من فعل هذا بآلهتنآ إنه لمن الظالمين } [الأنبياء: 59].
[21.60-64]
وبقوله تعالى: { قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } [الأنبياء: 60] يشير إلى أن في كسر الأصنام حصول اسم الفتوة ومعناها إلى الأبد، وبقوله تعالى: { قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون } يشير إلى أن في بعض الكفار من لا يحكم على أهل الجناية إلا بمشهد من العدول، فكل حاكم يحكم على أمتهم بالجناية من غير نية فهو أسوأ حالا منهم، ومن قوم نمرود بقوله تعالى: { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يإبراهيم } [الأنبياء: 62].
{ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } [الأنبياء: 63] يشير إلى أن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسان، بل من طبيعته أن ينحتها، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما هو من تأييد الله وتوفيقه إياه، فلهذا { قال } عليه السلام في جوابهم { بل فعله كبيرهم هذا } فإن الكبير هو الله { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } لهم عقل ونظر يشهدوا أن هذه الأفعال لا يكن مصدرها إلا الله.
وفي قوله تعالى: { فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون } [الأنبياء: 64] إشارة إلى أن لكل إنسان عقلا لو رجع إلى عقله وتفكره في حال لعلم صلاح حاله وفساد حاله، وفيه إشارة أخرى وهي: أن العقل وإن كان يعرف الصلاح من الفساد، ويميز بين الحق والباطل ما لم يكن له تأييد من الله وتوفيق منه لا يقدر على اختيار الصلاح واحتراز الفساد، فيبقى مبهوتا كما كان حال نمرود.
[21.65-72]
وبقوله تعالى : { ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } [الأنبياء: 65] إذ لم يكونوا موافقين ما نفعهم ما عرفوا من الحق، ثم غيرهم إبراهيم عليه السلام على ذلك { قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم } أي: أف لعقولكم { ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } [الأنبياء: 67] أفلا تستعملون العقل الذي ميزتم به بين الحق والباطل.
وفي قوله تعالى: { قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } [الأنبياء: 68] إشارة إلى أن الله تعالى إذا أراد أن يكمل العبد من عباده المخلصين يفديه خلقا عظيما، كما أنه تعالى إذا أراد استكمال حوت في البحر يفديه كثيرا من الحيتان الصغار، فلما أراد تخليص إبريزة الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه مذلة لإبراهيم عليه السلام حتى أجمعوا بعد أن علموا أنهم ظالمون، فوضعوه في المنجنيق ورموه إلى النار، فانقطع رجاءه عن الخليقة بالكلية متوجها إلى الله مسلما نفسه إليه حتى أن جبريل عليه السلام أدركه في الهوى فامتحنه بقوله: هل لك من حاجة؟ ما كان فيه بقية من الوجود ما تعلق به الحاجة فقال: أما إليك فلا، فقال له جبريل: ربك امتحانا له خفي سره عن جبريل غيره، فقال: حسبي من سؤال علمه بحال، وما أظهر عليه حاله، فأدركته العناية الأزلية بقوله تعالى على كافة الخلق، بل على جميع الأشياء.
وبقوله تعالى: { وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين } [الأنبياء: 70] يشير إلى أن إرادة كيدهم به كانت سببا لتخليصه عن غش البشرية كما قال تعالى: { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } [الأنبياء: 71] وهي أرض الروحانية وفيه إشارة أخرى؛ أي: ونجينا إبراهيم الروح، ولوط القلب من أرض البشرية وصفاتها إلى الأرض الروحانية التي باركنا فيها للعالمين، وبركة الله أن يتجلى لها، فتشرق لأهل الروحانية، كما قال تعالى:
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر: 69] أي: أشرقت أرض الروحانية بنور تجلي صفة الربوبية الربانية.
ثم يشير عن مواهب الربوبية لأرباب العبودية بقوله تعالى: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } [الأنبياء: 72] يشير إلى أن الصلاحية من المواهب أيضا وحصيلة الصلاحية حسن الاستعداد النظري لقبول الفيض الإلهي.
[21.73-77]
{ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [الأنبياء: 73] يشير إلى أن الأمانة أيضا من المواهب، فينبغي أن يكون الإمام هاديا بأمر الله لا بالطبع والهوى، وإن كان له أهلية الهداية.
وبقوله تعالى: { وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [الأنبياء 73] يشير إلى أن هذه المعاملات لا يصدر من الإنسان إلا بالوحي للأنبياء وبالإلهام للأولياء، وإلا طبيعة نفس الإنسان أن تكون أمارة بالسوء، وبقوله تعالى: { ولوطا آتيناه حكما وعلما } [الأنبياء: 74] يشير إلى أن الحكمة الحقيقية والعلم النافع أيضا من مواهب الله وفضله يؤتيهما من يشاء.
وبقوله تعالى: { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } [الأنبياء: 74] يشير إلى أن النجاة من الجليس السوء من المواهب والاقتران معهم من الخذلان، وقوله تعالى: { وأدخلناه في رحمتنآ إنه من الصالحين } [الأنبياء: 75] إشارة إلى أن الرحمة على نوعين: خاص وعام؛ فالعام: منها يصل إلى كل بر وفاجر كقوله تعالى:
ورحمتي وسعت كل شيء
[الأعراف: 156] والخاص: لا يكون إلا للخواص وهو الدخول في الرحمة، وذلك متعلق بالمشيئة وحسن الاستعداد، قال: { إنه من الصالحين } [الأنبياء: 75] أي: من المستعدين؛ لقبول فيض رحمتنا والدخول فيها، وهو إشارة إلى مقام الوصول، فافهم جيدا كقوله تعالى:
يدخل من يشآء في رحمته
[الإنسان: 31].
{ ونوحا إذ نادى من قبل } [الأنبياء: 76] أي: من قبل أن يخرج من كتم العدم. { فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } [الأنبياء: 76] وهو كتم العدم، وهذا أيضا من المواهب { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } [الأنبياء: 77] أي: ميزناه وهديناه من بين قوم خذلناهم { إنهم كانوا قوم سوء } [الأنبياء: 77] في تقدير الأزل { فأغرقناهم } [الأنبياء: 77] في لجي بحر البشرية في ماء هوى النفسانية { أجمعين } [الأنبياء: 77] ليتحقق أن الهداية والخذلان منه سبحانه وتعالى.
[21.78-82]
ثم أخبر عن الحكمين المختلفين بقوله تعالى: { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } [الأنبياء: 78] يشير إلى أنا كنا حاضرين في حكمهما معها بالتأييد إنما حكما بإرشادنا لهما، ولم يحط أحد منهما في حكمه إلا إنا أردنا تشييد بناء الاجتهاد بحكمهما عزة وكرامة للمجتهدين؛ ليتقدوا بهما مستظهرين بمساعيهم المشكورة في الاجتهاد.
وبقوله تعالى: { ففهمناها سليمان } [الأنبياء: 79] يشير إلى: رفعة درجة بعض المجتهدين على بعض، وإن الاعتبار في الكبر والفضيلة بالعلم، وفهم الأحكام والمعاني، والأسرار لا بالسن، فإنه فهم بالأحق والأصوب وهو ابن صغير وداود نبي مرسل كبير، ثم قال تعالى: { وكلا آتينا حكما وعلما } [الأنبياء: 79] أي: حكمة وعلما؛ ليحكم كل واحد منهما موافقا للعلم والحكمة بتأييدنا، وإن كان مخالفا في الحكم لحكمنا؛ ليتحقق صحة أمر الاجتهاد، وأن لكل مجتهد مصيب.
وبقوله تعالى: { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين } [الأنبياء: 79] يشير إلى أن الذاكر لله إذا استولى عليه سلطان الذكر تتنور أجزاء وجوده بنور الذكر فيتجوهر قلبه وروحه بجوهر الذكر، فربما ينعكس نور الذكر من مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات، فتنطق بالذكر معه أجزاء وجوده، وتارة تذكر معه بعض الجمادات والحيوانات كما كان الحصا يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والضب يتكلم معه، وروي عن بعض الصحابة أنه قال:
" كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه ".
وبقوله تعالى: { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم } [الأنبياء: 80] يشير إلى أن الأنبياء كثيرا ما يجدوه من مواهب الله تعالى ببركة الأمة كل ما يجدون من مواهب الله تعالى إنما يجدونه بتبعية الأنبياء وبركاتهم، فلهذا قال: { لتحصنكم من بأسكم } [الأنبياء: 80] فيه إشارة أخرى وهي: أن المعجزة التي أظهر الله تعالى على يد رسوله داود عليه السلام من الآية الحديد وصنعة اللبوس كان كرامة لأمة النبي صلى الله عليه وسلم إذا لخطاب معهم، ولهذا قال تعالى: { فهل أنتم شاكرون } [الأنبياء: 80] أي: تشكرون نعمة الكرامة التي كرمهم بها في سورة المعجزة على داود عليه السلام.
وبقوله تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين } [الأنبياء: 81] يشير إلى أن كمالية الإنسان إذا بلغ مبلغ الرجال البالغين من الأنبياء والأولياء، سخر الله بحسب مقامه السفليات والعلويات من الملك والملكوت ، فسخر لسليمان عليه السلام الريح والجن والشياطين والطير والحيوانات والمعادن والنبات ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته، كما سخر لداود الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت وهزم عسكرهم، فسخر لكل نبي شيئا آخر من أجناس العلويات والسفليات، وسخر لنبينا صلى الله عليه وسلم من جميع أجناسها.
* فمن السفليات ما قال صلى الله عليه وسلم:
" زويت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا "
، وقال:
" أوتيت مفاتيح خزائن الأرض "
، وكان الماء ينبع من بين أصابعه.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالزبور "
وكانت الأشجار تسجد له، وتسلم عليه، وتسجد له، وتنقلع بإشارته عن مكانها وترجع، والحيوانات كانت تتكلم معه، وتشهد بنبوته، وقال صلى الله عليه وسلم:
" أسلم شيطاني على يدي "
وغيره من السفليات.
* وأما العلويات: فقد انشق القمر بإشارة وسخر له البراق وجبريل والرفوف، وعبر عن السماوات السبع والعرش والكرسي والجنة والنار إلى أن بلغ مقام قاب قوسين، أو أدنى، فما بقي شيء من الموجودات إلا وقد سخر له.
وبقوله تعالى: { ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين } [الأنبياء: 82] يشير إلى أنا كنا سخرنا الشياطين له؛ ليعملون له أعمالا والغوص والصنائع التي يصنعون بحفظ الله ما لا يقدرون عليه الآن.
[21.83-87]
ثم أخبر عن أجر من مسه الضر بقوله تعالى: { وأيوب إذ نادى ربه } [الأنبياء: 83] يشير إلى أن كل ما كان لأيوب عليه السلام من الشكر والشكاية في تلك الحالة كان مع الله لا مع غيره إذ نادى ربه، وإلى أن بشرية أيوب عليه السلام كانت تتألم بالضر وهو يخبر عنها ولكن روحانيته المؤيدة بالتأييد الإلهي تنظر بنور الله، وترى في البلاء كمال عناية المبلى وعين رحمته في تلك الصورة وتربية لنفسه؛ ليبلغها مقام الصبر ورتبة نعم العبد وهو يخبر عنها ويقول: { أني مسني الضر } [الأنبياء: 83] من حيث البشرية، ولكن أرى بنور فضلك أنك { أرحم الراحمين } [الأنبياء: 83] علي بأنك ترحم علي بهذا البلاء ومس الضر وقوة الصبر عليه؛ لتفني نفسه عن صفاتها وهي العاجلة وتبقى بصفاتك، ومنها الصبر والصبر من صفات الله تعالى لا من صفات العبد لقوله تعالى:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127] والصبور هو الله تعالى:
وبقوله تعالى: { وأنت أرحم الراحمين } [الأنبياء: 83] كان مستدعيا رحمته منه في إفناء النفس وصفاتها التي يجذبها ألم الضر والضر الحقيقي هو وجوده وألمنا ألم به؛ ليبقى بجود رحمته لا برحمة وجوده، فقال الله تعالى: { فاستجبنا له } [الأنبياء: 84] مأموله وأعطينا سؤاله { فكشفنا ما به من ضر } [الأنبياء: 84] ضر به الوجود { وآتيناه أهله } [الأنبياء: 84] أي ما هو أهله { ومثلهم معهم } [الأنبياء: 84] أي: ضعف ما كان مأمولة أعطينا له { رحمة من عندنا } [الأنبياء: 84] أي: بتجلي صفة رحمتنا له. { وذكرى للعابدين } [الأنبياء: 84] أي: تذكارا للطالبين.
ثم أخبر عن الطلاب وسماهم في الكتاب بقوله تعالى: { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } [الأنبياء: 85] يشير إلى أن إسماعيل عليه السلام قد صبر عند ذبحه وقال:
يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شآء الله من الصابرين
[الصافات: 102] وإدريس عليه السلام قد صبر على دراسته الكتب، وإنما سمي إدريس؛ لكثرة دراسته، وذا الكفل لأنه قد صبر على صيام النهار وقيام الليل وأذى الناس في الحكومة بينهم بألا يعقب، وفيه إشارة إلى أن كل من صبر على طاعة الله، أو عن معصية، أو على ما أصابه من مصيبة في المال والأهل ونفسه، فإنه بقدر وصبر يستوجب رتبته نعمة العبدية، ويصلح لإدخاله في رحمته المخصوصة كما قال الله تعالى:
وأدخلناه في رحمتنآ إنه من الصالحين
[الأنبياء: 75].
ثم يشير عمن لم يصبر ويعترف بالعجز عن الصبر وعليه يستغفر بقوله تعالى: { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } [الأنبياء: 87] يشير إلى أن الإنسان إذا غضب يلتبس عليه عقله، ويحتجب عنه نور إيمانه حتى يظن بالله ما لا يليق بجلاله وعظمته ولو كان نبيا وسعى في قطع تعلقاتهما وهو متابع للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا كفران لسعيه وأمثاله كما يبتون في الأزل من المحبين والمحبوبين.
[21.95-101]
ثم أخبر عن الهالكين بقوله تعالى: { وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون } [الأنبياء: 95] يشير إلى أن قلوب أهل الأهواء والبدع المهلكة باعتقاد السوء ومخالفات الشرع أنهم لا يتوبون إلى الله تعالى. { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون } [الأنبياء: 96] يشير إلى: سد يأجوج النفس ومأجوج الهوى، وسد أحكام الشريعة، وفتح السد مخالفات الشرع وموافقات الطبع، وهو إشارة إلى دواعي النفس (من كل حدب)؛ أي: من كل معدن شهوة من المبصرات والمسموعات والمذوقات والملموسات والمنكوحات والملبوسات والمركوبات والتخيلات وطمع المناصب وحرص الأموال والصفات وأمثالها يخرجون ويفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح بامتناعهم، واقترب الوعد الحق أن يصمهم ويعمي أبصارهم ويقلب أفئدتهم.
{ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } [الأنبياء: 97] أي: أبصار القلوب المهلكة بالأهواء ويقولون: { يويلنا قد كنا في غفلة من هذا } [الأنبياء: 97] الذي أصابنا { بل كنا ظالمين } [الأنبياء: 97] بعبادتنا الدنيا وشهواتها، والنفس ودواعيها، وامتناعنا عبادة الحق تعالى فتخاطبهم عزة الجبروت { إنكم وما تعبدون من دون الله } [الأنبياء: 98] من الهوى والنفس والشيطان والدنيا { حصب جهنم } [الأنبياء: 98] قهرنا تحترقون بنار القطيعة { أنتم لها واردون } [الأنبياء: 98] مخلدا { لو كان هؤلاء } [الأنبياء: 99] الذين تعبدون.
{ آلهة ما وردوها } [الأنبياء: 99] أي: جهنم القهر { وكل فيها خالدون } [الأنبياء: 99] ولا يتخلصون عنها { لهم فيها زفير } [الأنبياء: 100] من عذاب نار القطيعة { وهم فيها لا يسمعون } [الأنبياء: 100] الحق عن الحق، ثم نزه المسبوقين بالعناية عن هذه الأحوال بقوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [الأنبياء: 101] أي العناية الأزلية { أولئك عنها } [الأنبياء: 101] عن جهنم قهر الحق من آثار سبق العناية الأزلية { مبعدون * لا يسمعون حسيسها } [الأنبياء: 101-102] أي: حسيس جهنم القهر، وحسيسها مقالات أهل الأهواء والبدع، وأدلة الفلاسفة وبراهينهم بالعقول المشوبة بالوهم والخيال وظلمة الطبيعة.
[21.102-106]
قوله تعالى: { وهم في ما اشتهت أنفسهم } [الأنبياء: 102] المطمئنة المركونة المجذوبة إلى الحضرة من المشاهدات والمكاشفات والمعاينات، ودخول الجنة المضافة إلى الحق، وهي السير في الله بقوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28] { خالدون * لا يحزنهم الفزع الأكبر } [الأنبياء: 102-103] وهو قوله تعالى في الأزل: هؤلاء في الجنة ولا أبالي { وتتلقاهم الملائكة } [الأنبياء: 103] المبشرون بالوصول والوصال { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [الأنبياء: 103] بالرؤية والعقل والنوال بقوله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-23].
ثم أخبر عن أحوال هذا اليوم وأهواله بقوله تعالى: { يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب } [الأنبياء: 104] يشير إلى طي سماء الوجود الإنساني بتجلي صفة الجلال في إفناء الوجود من الانتهاء إلى الابتداء { كما بدأنآ أول خلق نعيده } [الأنبياء: 104] من ابتداء النطفة بالتدريج من خلق النطفة علقة، ومن خلق العلقة مضغة، ومن خلق المضغة عظاما إلى انتهاء خلق الإنسانية كما قال تعالى:
ثم أنشأناه خلقا آخر
[المؤمنون: 14] يعيد من انتهاء الوصف الإنساني إلى الوصف الحيواني، وصف الحيوانية إلى وصف النباتية، ومن وصف النباتية إلى وصف المركبية، ومن وصف المركبية إلى وصف مفردات العنصرية، ومن المفردية إلى وصف الكونية، ومن وصف الملكوتية إلى وصف الروحانية، ومن وصف الروحانية إلى وصف الربوبية بجذبة:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28].
{ وعدا علينآ } [الأنبياء: 104] في الأزل { إنا كنا فاعلين } [الأنبياء: 104] للأبد { ولقد كتبنا في الزبور } [الأنبياء: 105] يشير إلى أم الكتاب في الأزل { من بعد الذكر } [الأنبياء: 105] من بعد أحوال أهل الذكر المطوي له سماء الوجود { أن الأرض } [الأنبياء: 105] أي: أرض الجنة الوجود { يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105] من غير المحبين والمحبوبين { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } [الأنبياء: 106] وهم الذين كان مشربهم من الأعمال متابعين للنبي صلى الله عليه وسلم.
[21.107-112]
{ ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] من أهل الذكر وأرباب المحبة من أهل العبادة وأصحاب الأعمال.
{ قل إنمآ يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد } [الأنبياء: 108] يا أهل الجنة ويا أهل العناية { فهل أنتم مسلمون } [الأنبياء: 108] أي: مستسلمون له؛ ليبلغكم من مقام العبادة إلى مقام المحبة، ومن مقام المحبة إلى مقام الوصلة { فإن تولوا } [الأنبياء: 109] أهل الأهواء والطبيعة عن قبول الدعوة والرجوع إلى الحق. { فقل ءاذنتكم على سوآء } [الأنبياء: 109] أعمالكم يا أهل الحق والباطل { على سوآء } أي: على سوائه في الاستهزاء إلى طريق الحق ما فرقت بينكم في النصح وتبليغ الرسالة { وإن أدري أقريب أم بعيد } [الأنبياء: 109] في الوصول إليكم { ما توعدون } [الأنبياء: 109] من ثمرات سعادة قبول الدعوة ونتائج شقاوة الدعوة.
{ إنه يعلم الجهر من القول } [الأنبياء: 110] أي: يعلم ما تجهرون من دعاء الإسلام والإيمان والزهد والصلاح والمعارف { ويعلم ما تكتمون } [الأنبياء: 110] من الصدق والإخلاص والرياء والسمعة والنفاق { وإن أدري لعله } [الأنبياء: 111] ما تظهرون وما تكتمون من الحق والباطل { فتنة لكم } [الأنبياء: 111] أي: اختبار لكم وابتلاء { ومتاع إلى حين } [الأنبياء: 111] أي: إلى حين مجازاتكم بالثواب والعقاب.
وبقوله تعالى: { قال رب احكم بالحق } [الأنبياء: 112] يشير إلى: ألا تطلب من الله ولا تطمع في حق المطيع والعاصي إلا ما هو مستحقه، وقد جرى حكم الله فيهما في الأزل { وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } [الأنبياء: 112] يشير إلى رحمته غير متناهية وهو ممن يستعان به في طلب الرحمة على أهل الحق والباطل الموصوفين بهما.
[22 - سورة الحج]
[22.1-5]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم } [الحج: 1] يشير إلى أن من نسي الله تعالى واشتغل بما دونه عنه بقوله تعالى: { اتقوا ربكم } [الحج: 1] عما سواه كما يقال: اتقى فلان بنفسه { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [الحج: 1] وهي: أن الساعة من عظم شأنها أن يكون فيها كل شيء هالك إلا وجهه بقوله تعالى: { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت } [الحج: 2] يشير إلى: مواد الأشياء، فإن لكل شيء مادة وهي ملكوتة ترضع رضيعها من الملك، وذهولها عنه بهلاك استعدادها للإرضاع { وتضع كل ذات حمل حملها } [الحج: 2]، وهي ما يسمى هيولي، فإنها حاصل بالصورة؛ أي: يسقط حمل الصورة الشهادية بهلاك الهيولى.
وبقوله تعالى: { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } [الحج: 2] يشير إلى أن ما يكون في القيامة مصورا بصورة تناسب ذلك العلم إنما يكون متشابها بمصورات ما في الدنيا، وهو من عالم المعنى لا من عالم الصورة يدل عليه قراءة من قرأ: { وترى الناس سكارى } [الحج: 2] بضم التاء من الإراءة؛ أي: يرونهم سكارى بالصور { وما هم بسكارى } [الحج: 2] في الحقيقة نظيره قوله تعالى:
وأتوا به متشبها
[البقرة: 25].
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا يشبه شيء في الجنة شيئا مما في الدنيا إلا بالاسم، فترى فيها في صورة ما في الدنيا، ولا تكون حقيقته مثل حقيقته: * فمن الناس: من يكون سكره من الغفلة والعصيان.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب حب الدنيا وشهواتها.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب التنعم.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب الحكم والسلطنة.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب ذوق الطاعة.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب لذة العلم.
* ومنهم: من يكون سكره الشوق.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب المحبة.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب الوصال.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب المعرفة.
* ومنهم: من يكون سكره من شراب المحبية والمحبوبية كما قال بعضهم: لي سكرتان وللندمان واحدة شيء خصصت به من دونهم وحدي، ولكن عذاب الله شديد:
* فمن الناس من يعذب بنار الفراق.
* ومنهم: من يعذب بناء الاشتياق.
* ومنهم: من يعذب بنار شواهد بعظام مألوفاته الدنياوية من نار جهنم.
* ومنهم: من بعذب بنار القطيعة.
* ومنهم: من يعذب بنار شواهد
إني آنست نارا
[طه: 10].
* ومنهم: من يعذب بنار نور تجلي صفة الجمال.
* ومنهم: من يعذب باستيلاء نار تجلي صفة الجلال إذا مسته النار بدلا عمن لم تمسسه نار.
* ومنهم: من يعذب بنار الفناء في النار والبقاء بالنار كقوله تعالى:
أن بورك من في النار ومن حولها
[النمل: 8] وكانت استعاضة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" كلميني يا حميراء "
من فوران ثائرة هذه النار وهيجانها، والله أعلم.
ثم أخبر عن معاملة أرباب المجادلة بقوله تعالى:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم
[لقمان: 20] يشير إلى أن من يجادل في الله ما له علم بالله ولا معرفة به، وإلا لم يجادل فيه ويستسلم له، وإنما يجادل في الله؛ لأنه { ويتبع كل شيطان مريد } [الحج: 3] من شياطين الجن والإنس.
وبقوله تعالى: { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } [الحج: 4] يشير إلى أنه قد قضى الله سبحانه على كل شيطان من الجن والإنس أن من يتبعه ويتولاه فإنه يضله على الصراط المستقيم والدين القويم؛ فأما الشيطان الجني، فبالوسواس والتسويلات وإلقاء الشبهة، وأما الشيطان الإنسي، فبإيقاعه في مذاهب أهل الأهواء والبدع، والفلاسفة والزنادقة المنكرين البعث، والمستدلين بالبراهين المعقولة المشوبة بشوائب الوهم والخيال وظلمة الطبيعة، فيستدل بشبهتهم ويستدل بعقائدهم حتى يصير من جملتهم، ويعد في زمرتهم كما قال الله تعالى:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم
[المائدة: 51] ويهديه بها الاستدلالات والشبهات إلى عذاب السعير والقطيعة والحرمان.
وبقوله تعالى: { يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة } [الحج: 5] يشير إلى ناس قد نسي خلقه وأنكر البعث كما قال تعالى:
وضرب لنا مثلا ونسي
[يس: 78].
ثم استدل على البعث بقوله تعالى: { فإنا خلقناكم } [الحج: 5] منها { من تراب } [الحج: 5] أي: كنتم ترابا ميتا، فبعثنا بأن خلقنا منه آدم حيا، ثم بعثنا منه النطفة، ثم بعثناها بأنا خلقنا منها العلقة، ثم بعثناها بأن خلقناها مضغة، ثم بعثناها بأن خلقناها مخلقة؛ أي منفوخة فيها الروح، وغير مخلقة؛ أي: صورة لا روح فيها { لنبين لكم } [الحج: 5] أمر البعث والنشور.
{ ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى } [الحج: 5] فيه إشارة إلى أن أطفال المكونات كانوا في أرحام أمهات العدم مقرين بتقرير الحق إياهم فيه، ولكل خارج منها أجل مسمى بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية، فلا يخرج طفل مكون من رحم العدم إلا بمشيئة الله أوان أجله، وهذا رد على الفلاسفة فإنهم يقولون بقدم العالم ويستدلون في ذلك هل كان لله في الأزل أسباب الإلهية في إيجاد العالم بالكمال أم لا؟
وإن قلنا: لم تكن، فقد أثبتنا له نقاصا، فالناقص لا يصلح للإلهية، وإن قلنا: قد كان له أسباب الإلهية بالكمال فلا مانع فقد لزم إيجاد العالم في الأزل بلا تقدم زماني للصانع على المصنوع، بل بتقدم رتبتي فنقول في جوابهم: إن الآية تدل على أن الله تعالى كان في الأزل بلا تقدم ولم يكن معه شيء، وكان قادرا على إيجاد ما يشاء كيف يشاء، ولكن الإرادة الأزلية اقتضت بالحكمة الأزلية أجلا مسمى بإخراج طفل العالم من رحم العدم أوان أجله، وإن لم يكن قبل وجود العالم أوان، وإنما كان مقدرا لأوان في أيام الله تعالى التي لم يكن لها صباح ولا مساء كما قال الله تعالى:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم: 5].
وبقوله تعالى: { ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم } [الحج: 5] يشير إلى أن كل طفل من أطفال المكونات يخرج من رحم العدم مستعدا للتربية وله كمال يبلغه بالتدريج { ومنكم من يتوفى } [الحج: 5] أي: من المكونات ما ينعدم قبل بلوغ كماله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [الحج: 5] أي: ومنها ما يبلغ حد كمالهم يتجاوز عن حد الكمال فيؤول إلى ضد الكمال لئلا يبقى فيه من أوصاف الكمال شيء، وذلك معنى قوله تعالى: { وترى الأرض هامدة } [الحج: 5].
{ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } [الحج: 5] ثم شرح حال تربية طفل من المكونات إلى أن يبلغ حد كماله فبقوله تعالى: { وترى الأرض هامدة } [الحج: 5] أي: طفل الأرض قطفة ميتة، فإذا أنزلنا عليها الماء ماء القدرة والحياة { فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت } [الحج: 5] بالتربية { وأنبتت من كل زوج بهيج } [الحج: 5] وهو حد كماله.
[22.6-10]
وفيه أنموذج من البعث، وذلك لعلموا { بأن الله هو الحق } [الحج: 6] في الإلهية { وأنه يحيي الموتى } [الحج: 6] كما أحيى ميتة الأرض الهامدة، وأنه على كل شيء قدير { وأن الساعة آتية لا ريب فيها } [الحج: 7] وهي أوان البعث { وأن الله يبعث من في القبور } [الحج: 7] فيه إشارة إلى: إنه تعالى باعث كل [مقبور] مقدر له بالخروج من قبور العدم.
ثم أخبر عن حرج ضلال أهل الجدال بقوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى } [الحج: 8] يشير إلى أن من الذاكرين من يجادل في معرفة الله، ودفع الشبهة، وبيان الطريق إلى الله تعالى بالعلم بالله عز وجل، وهدى بنبيه صلى الله عليه وسلم ويشاهد نص { ولا كتاب منير } [الحج: 8] يظهر بنوره الحق من الباطل، فهو محمود كما أن جدال المنافق والمرائي، وأهل الأهواء والبدع المتكبر { ثاني عطفه } [الحج: 9] عن الحق فيضل { ليضل عن سبيل الله } [الحج: 9] في عاقبة أمره، ويضل الخلق بالشبهات والتمويهات مذموم { له في الدنيا خزي } [الحج: 9] عند أهل البصيرة.
وبقوله تعالى: { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } [الحج: 9] يشير إلى أن الأهواء والبدع
من اتخذ إلهه هواه
[الفرقان: 43] من أهل المعاصي عذاب الحريق في الدنيا بنار الشهوات وعقائد السوء، ولكنه نائم بنوم القطيعة لا يذوق ألم الحرقة، فإذا مات انتبه ويذيقه الله ألم عذاب الحريق، ويقول الله تعالى: الغافل الساهي ذلك بما قدمت يداك تتبع الشهوات، أو استيفاء اللذات وأكل الحرام كقوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
[النساء: 10]، وقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم:
" حفت النار بالشهوات "
وأن الله ليس بظلام للعبيد
[آل عمران: 182] بل العبيد ظلامون لأنفسهم كما قال الله تعالى:
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
[العنكبوت: 40] بأن يضعوا العبادة والطلب في غير موضعه.
[22.11-16]
وبقوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف } [الحج: 11] يشير إلى بعض الطالبين من لا صدق له ولا ثبات في الطلب، فيكون من أهل التمني بطلب الله على شك، فإن أصابه خير مما يلائم نفسه وهواه أو فتوحا من الغيب أطمأن به، وأقام على الطالب في الصحبة، وإن أصابته فتنة بلاء وشدة وضيق في المجاهدات أو الرياضات، وترك الشهوات، ومخالفة الناس، وملازمة الخدمة، ورعاية حق الصحبة، والتأدب بآداب الصحبة، والتأمل عن الإخوان انقلب على وجهه بتبديل الأقوال والإنكار، والاعتراض، والتسليم بالإباء، والاستكبار، والإرادة بالارتداد، والصحبة بالهجران { خسر الدنيا والأخرة } [الحج: 11] أي: خسر ما كان عليه من الدنيا بتركها، وخسر الآخرة بالارتداد عن الطلب والصحبة.
ومن هنا قال المشايخ مرتد الطريقة أخسر من مرتد الشريعة: { ذلك هو الخسران المبين } [الحج: 11] فإن من رده قلب صاحب قلب يكون مردود القلوب كلها؛ وذلك لأنه { يدعوا من دون الله } [الحج: 12] أي: يعبد ويطلب ما سوى الله تعالى { ما لا يضره } [الحج: 12] في الآخرة إن تركه { وما لا ينفعه } [الحج: 12] إن طلبه { ذلك هو الضلال البعيد } [الحج: 12] أي: جعله بعيدا من الله تعالى { يدعو لمن ضره } [الحج: 13] أي: يطلب من ضرره في الآخرة { أقرب من نفعه } [الحج: 13] أي: أكثر من الانتفاع به في الدنيا { لبئس المولى } [الحج: 13] ما عبدوه وما طلبوه غير الحق { ولبئس العشير } [الحج: 13] ما عاشروه في الدنيا وشهواتها.
ثم أخبر عن أهل الجنات والدرجات بقوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } [الحج: 14] يشير إلى أنه من يدخل الجنة بمجرد الإيمان التقليدي والأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى { إن الله يفعل ما يريد } [الحج: 14] أي: يوفق للإيمان الحقيقي والعمل الصالح من يريد ويشاء، كقوله تعالى:
يدخل من يشآء
[الإنسان: 31].
وبقوله تعالى: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } [الحج: 15] يشير إلى أن من كان ظنه بالله ظن السوء بألا ينصره في الدنيا على الكفار، وفي الآخرة بألا يدخل الجنة، فإنه من الظانين بالله ظن السوء، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له جهنم، وساءت مصيرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رباني عن الله تعالى:
" أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء "
يعني: من ظن بي خيرا أصابه خيرا، ومن ظن بي شرا أصابه شر، وفي رواية أخرى قال الله تعالى:
" فليطلب طريقا إلى السماء، ثم ليقطع صادقا تقديري في الأزل ونزول أحكامي من السماء، فلينظر هل يذهبن كيده؟ "
أي: هل نقطع كيده في إبطال أحكامي النازلة من السماء مما يغيظ؟ أي: سبب غيظه وكذلك؛ أي: كذا ما قررنا من بطلان سعي في إبطال أحكامنا { أنزلناه آيات بينات } [الحج: 16] أي: دلالات واضحات إليك يا محمد { وأن الله يهدي من يريد } [الحج: 16] إلى الجنة من يشاء، وفيه إشارة أخرى: { وأن الله يهدي من يريد } [الحج: 16] من الهداية.
[22.17-18]
ثم أخبر عن اختلاف أصناف الخلق بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [الحج: 17] يشير إلى أنه تعالى يسأل كل صنف منهم يوم القيامة على حسب استحقاقه بما وعدهم إما بالنعيم، وإما بالجحيم وبالوصال، أو بالفراق، كما أعد لهم وعلى ما خلقهم، وهذا معنى قوله: { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } [الحج: 17].
ثم قال عز وجل: { إن الله على كل شيء شهيد } [الحج: 17] أو عالم بحال كل صنف منهم: كيف خلقهم، وفيما استمهلهم وأي مقام ومنزل أعد لهم من منازل الجنة والنار ومن مقام الرب.
وبقوله تعالى: { ألم تر أن الله يسجد له من في السموت ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس } [الحج: 18] يشير إلى أن أهل العرفان يسجدون سجود عبادة بالإرادة والجماد ومن لا يعقل، ومن لا يدين يسجدون سجود خضوع للحاجة.
وبقوله تعالى: { وكثير حق عليه العذاب } [الحج: 18] يشير إلى: أهل النفاق وأهل الرياء والسمعة، فإن الله يفصل بين كل صنف منهم في الثواب والعقاب على قدر استحقاقهم { ومن يهن الله } [الحج: 18] في الأزل بتقدير الشقاوة { فما له من مكرم } [الحج: 18] إلى الأبد بطريق الشفاعة له { إن الله يفعل ما يشآء } [الحج: 18] من الأزل إلى الأبد.
[22.19-24]
ثم أخبر عن الخصمين المتنازعين بقوله تعالى: { هذان خصمان اختصموا في ربهم } [الحج: 19] فأما اختصام النفس: ففي انقطاعها عن الله تعالى وحرمانها عنه، وأما اختصام الروح مع النفس: ففي انقطاعهما إلى الله ورجوعهما إليه.
{ فالذين كفروا } [الحج: 19] من أرباب النفس بانقطاعهم عن الله ودينه بإتباعهم الهوى وطلب الشهوات الدنياوية، ومن أصحاب الروح بإعراضهم عن الله ورد دعوة الأنبياء { قطعت لهم ثياب من نار } [الحج: 19] بتقطيع خياط الفناء على قدهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع.
{ يصب من فوق رءوسهم الحميم } [الحج: 19] أي: حميم الشهوات النفسانية { يصهر به ما في بطونهم } [الحج: 20] أي: يذاب ويخرج ما في قلوبهم من الأخلاق الحميدة الروحانية { ولهم مقامع من حديد } [الحج: 21] أي: الأخلاق الذميمة النفسانية { كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها } [الحج: 22] أي: من نار القطيعة وسعير الشهوات من غم أصابهم من خوف سوء عاقبة أمرهم { أعيدوا فيها } [الحج : 22] بمقامع الأخلاق الذميمة، واستيلاء الحرص والأمر، وقيل لهم: { وذوقوا عذاب الحريق } [الحج: 22] أي: عذاب ما أحرقت منكم نار الشهوات من الاستعدادات الحسنة.
ثم أخبر عن حال الروح ومتابعيه من النفوس بالإيمان والأعمال الصالحة، وقال تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } [الحج: 23] أي: يحليهم بحلية الأسرار والحقائق والحكم البالغة { ولباسهم فيها حرير } [الحج: 23] أي: شعارهم ودثارهم الأخلاق الحميدة والصدق في العبودية { وهدوا إلى الطيب من القول } [الحج: 24] وهو الإخلاص في قوله: لا إله إلا الله والعمل به { وهدوا إلى صراط الحميد } [الحج: 24] وهو الطريق إلى الله تعالى، فإن الحميد هو الله تعالى.
[22.25-29]
ثم أخبر عن أحوال النفوس المتمردة والأرواح المرتدة بقوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } [الحج: 25] يشير إلى منكري هذا الشأن، فإنهم مع إنكارهم وإعراضهم عن الحق يصدون الطالبين عن طريق الله بالإنكار والاعتراضات الفاسدة على المشايخ، ويقطعون الطريق على أهل الطلب؛ ليردوهم على طلب الحق تعالى، وعن دخول مسجد حرام القلب، فإنه حرم الله تعالى.
{ الذي جعلناه للناس } [الحج: 25] أي: جعلناه لهم بالاهتداء وطلب الحق لا عليهم، كالنفس الأمارة بالإضلال، والإعراض عن الحق سواء { العاكف فيه والباد } [الحج: 25] أي: يستوي في الوصول إلى مقام الطلب الذي سبق إليه بمدة طويلة، والذي يصل إليه في الحال ليس لأحد فضل على الآخرة إلا بالسبق إلى مقام القلب ومنازله.
وبقوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } [الحج: 25] يشير إلى أن من يريد في القلب ميلا عن الحق بظلم بوضع الشيء في غيره موضعه؛ لأن القلب معدن محبة الله تعالى يذيقه الله تعالى عذاب البعد، والقطيعة عن الحضرة { وإذ بوأنا لإبراهيم } [الحج: 26]، الروح { مكان البيت } [الحج: 26] القلب، فإن تهيؤ القلوب بتدبير الأرواح وتقدير الحق تعالى { أن لا تشرك بي شيئا } [الحج: 26] في سكنى القلب أي: كن حارسا للقلب لئلا يسكن فيه غيري { وطهر بيتي } [الحج: 26] أي: أفرغ القلب عن الأشياء سواي، وهذا كمال قال تعالى بالوحي إلى بعض أنبيائه: أفرغ لي بيتا أسكنه، فقال: إلهي أي بيت يسعك؟ فأوحى الله إليه: ذلك قلب عبدي المؤمن، ويقال: طهر بيتي بإخراج كل نصيب لك في الدنيا والآخرة من تطلع إكرام، وتطلب إنعام أو إرادة مقام، ويقال: طهر قلبك { للطآئفين } [الحج: 26] فيها من واردات الحق وموارد الأحوال على ما يختاره الحق { والقآئمين } [الحج: 26] وهي الأشياء المقيمة من مستوطنات العرفان، والأمور المغيبة عن البرهان، والمطلقة بما هي حقائق البيان { والركع السجود } [الحج: 26] هي أركان الأحوال المتوالية من: الرهبة والرغبة والرجاء والمخافة والفيض والبسطة والإنس والهيبة، وفي معناه أنشد:
لست من جملة المحبين إن لم
أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافي أخاله السير فيه
وهو ركني إذا أردت استلاما
{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } [الحج: 27] أي: وناد في الناسين من النفس وصفاتها والقالب وجوارحه؛ يعني: يقصدون القلب بالأعمال الشريعة البدنية، فإنهم كالكوكبات، لأن الأعمال البدنية مركبة من الحركات ونيات الضمير، كما أن أعمال النفس مفردة أنها من نيات الضمير فحسب { يأتين من كل فج عميق } [الحج: 27] وهو سفل الدنيا؛ لأن القالب من الدنيا وأكثر استعماله في مصالح الدنيا بالجوارح والأعضاء، فردها إلى استعمالها في مصالح القلب إتيانها من فج عميق.
{ ليشهدوا منافع لهم } [الحج: 28] أي: ليحضروا وينتفعوا بالمنافع التي هي مستكنة في القلب؛ فأما النفس وصفاتها: فمنافعها تبديل الأخلاق، وأما القالب وجوارحه: فمنافعهم قبول طاعتهم وأثارها على سيماهم { ويذكروا اسم الله } [الحج: 28] أي: القلب والنفس والقالب شكر { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } [الحج: 28] بأن جعل الصفات البهيمية الحيوانية مبدلة بالصفات القلبية الروحانية الربانية.
وبقوله تعالى: { فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير } [الحج: 28] يشير إلى أن انتفعوا من هذه المقامات والكرامات، واطيبوا بمنافعها الطالب المحتاج، والقاصد إلى الله تعالى بالخدمة والهداية والإرشاد { ثم ليقضوا } الطلاب { تفثهم } [الحج: 29] وهو ما يجب عليهم من شرائط الإرادة وقصد الطالب { وليوفوا نذورهم } [الحج: 29] فيما عاهدوا الله على التوجه إليه، وصدق الطلب والإرادة { وليطوفوا بالبيت العتيق } [الحج: 29] أي: يطوفوا حول قرب الله تعالى بقلبه وسره، ولا يطوفوا حول ما سواه، وأراد بالعتيق القديم وهو من صفات الله عز وجل.
[22.30-34]
ثم أخبر عن تعظيم حرمات الله في ذات الله بقوله تعالى: { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } [الحج: 30] يشير إلى أن تعظيم حرمات الله تعالى هو تعظيم الله في ترك ما حرمه الله عليه، وتعظيم ما أمره الله تعالى بالطاعة يصل العبد إلى الجنة، وبالحرمة يصل إلى الله تعالى، ولهذا قال: { فهو خير له عند ربه } [الحج: 30] يعني: تعظيم الحرمة خير للعبد في التقرب إلى الله تعالى من تقربه بالطاعة، ويقال: ترك الطاعة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجب الفرقة، ويقال: كل شيء من المخالفات؛ فللعفو فيه مساغ، وللعمل فيه طريق، وترك الحرمة على خطر ألا يغفر ذلك، وذلك بأن يؤدي شؤمه بصاحبه أن يختل دينه وتوحيده.
وبقوله: { وأحلت لكم الأنعام } [الحج: 30] يشير إلى أن استعمال البهيمة فيما مست إليه الحاجة الإنسانية حلال ولا يقطع الطريق على السالك { إلا ما يتلى عليكم } [الحج: 30] في القرآن وهو قوله تعالى:
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
[الأعراف: 31] وفي حديث فيه في وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فاجتنبوا الرجس من الأوثان "
؛ أي: واجتنبوا رجس كل ما اتخذه هواكم معبوده من شهوات الدنيا والآخرة والوثن الحقيقي لكل أحد نفسه { واجتنبوا قول الزور } [الحج: 30] وهو قوله باللسان مما لا يساعده قول القلب، ومن عاهد الله بقلبه في صدق الطلب ثم لا يفي ذلك فهو من جملة الزور { حنفآء } [الحج: 31] لله ما يلين إلى الحق من الباطل في القلب، وفي النفس، وفي الجهر، وفي السر، وفي الأفعال، وفي الأحوال، وفي الأقوال مستقيمين عليه؟
{ غير مشركين به } [الحج: 31] في طلب بما سوى الله { ومن يشرك بالله } [الحج: 31] أي: يطلب غير الله { فكأنما خر من السمآء } [الحج: 31] أي: سقط من سماء القلب { فتخطفه الطير } [الحج: 31] الشيطان والهوى ويهويان به في أسفل سافلين أبعد { أو تهوي به الريح } [الحج: 31] ريح القهر والخذلان { في مكان سحيق } [الحج: 31] بعيد من الحق سبحانه ذلك؛ أي: الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور { ومن يعظم شعائر الله } [الحج: 32] وهي أعلام وشواهد مما يرد في إرشاده إلى الصراط المستقيم { فإنها من تقوى القلوب } [الحج: 32] أي: فكلها دلالات على ارتقاء القلوب بالله عما سواه.
{ لكم فيها منافع } [الحج: 33] لكل من تلك الجملة بقدرة وحدة الأقوام بركات في العبور على المقامات، ولآخرين في حلاوة طاعتهم، ولآخرين في الذات يبسطهم، ولآخرين في انسهم بالله { إلى أجل مسمى } [الحج: 33] وهو بلوغ حد كمالهم، ثم محلها إلى البيت العتيق ذلك محل كل سالك إلى حضرة القديم ومنزلة { ولكل أمة جعلنا منسكا } [الحج: 34] أي: ولكل سالك جعلنا طريقة ومقاما وقربة على اختلاف طبقاتهم:
* فمنهم: من يطلب الله من طريق المعاملات.
* ومنهم: من يطلب من باب المجاهدات.
* ومنهم: من يطلبه بطريق المعارف.
* ومنهم: من يطلبه به؛ { ليذكروا اسم الله } [الحج: 34] أي: لتتمسك كل طائفة منهم في الطلب بذكر الله تعالى { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } [الحج: 34] أي: على رزقهم من قهر النفس من العبور على المقامات، والوصول إلى الكمال { فإلهكم إله واحد } [الحج: 34] الذي وفقكم لهذه الكرامات ونيل الدرجات، فله أسلموا لما قدر لكم في الأزل، وحكم به استسلاما من داخل القلب لا من الفرط والإسلام يكون بمعنى الإخلاص والإخلاص من تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال من الالتفات، ثم تصفية الانفكاك من الأغيار { وبشر المخبتين } [الحج: 34] أي: المستقيمين على هذه الطريقة بقدر الاستطاعة.
[22.35-38]
ثم وصفهم فقال: { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [الحج: 35] والوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب { والصبرين على مآ أصابهم } [الحج: 35] أي: الجامدين تحت جريان الحكم من غير استكراه، ولا تمني خرجة، ولا زوم فرجة، بل يستسلمون طوعا، وأيضا الحافظين مع الله تعالى أسرارهم لا يطلبون الشكور باطلاع الخلق على أحوالهم.
وقوله تعالى: { والمقيمي الصلوة } [الحج: 35] أي: المديمي النجوى مع الله؛ لقوله تعالى:
هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج: 23] قال شاعرهم :
إذا ما تمنى الناس راحة وراحة
تمنيت أن أشكو إليك ولا تسمع
{ ومما رزقنهم ينفقون } [الحج: 35] أي: ما رزقوا من الوجود بذلوا ما رزقوا بالجود، وأنفقوا على طلاب المقصود.
ثم أخبر عن نظائر الشعائر بقوله تعالى: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } [الحج: 36] يشير إلى: قربان بهيمة النفس عند كعبة القلب، وأنه من أعلام دين الله، وشعار أهل الصدق في الطلب، وأن الخير في قربانها وذبحها بسكين الصدق.
وقوله تعالى: { فاذكروا اسم الله عليها صوآف } [الحج: 36] أي: تقربوا بذبحها إلى الله تعالى صافية خالصة لا للدنيا وتمتعاتها، ولا للآخرة ونعيمها على قراءة من قرأ صوافي قرأ أبي والحسن والمجاهد صوافي بالياء؛ أي: صافية خالصة لله تعالى، وفيه إشارة أخرى: وفي أن وفد الله وزواره لا يصلون إلى كعبة الوصال إلا بعد ذبح النفس في منى المنى { فإذا وجبت جنوبها } [الحج: 36] أي: ماتت النفس على طبيعتها { فكلوا منها } [الحج: 36] أي: فانتفعوا بها { وأطعموا القانع } [الحج: 36] أي: الذي يقنع بما أعطيته { والمعتر } [الحج: 36] أي: الذي هو طالب صادق متعطش لا يروى مما نسقيه ويستزيد منك مما قيل:
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفذ الشراب وما رويت
وبقوله تعالى: { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } [الحج: 36] يشير إلى أن ذبح النفس بسكين الصدق وتوفيق الله تعالى، وذلك نعمة منه موجبة للشكر له وبقوله تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها } [الحج: 37] يشير إلى أن المقصود من ذبح الذبح ليس مطلق ذبحها بكثرة المجاهدة، فإنه لا يقبل مطلق الذبح { ولكن يناله التقوى منكم } [الحج: 37] أي: يقبل خلوص نيتكم في ذبحها تقربا إليه { كذلك سخرها لكم } [الحج: 37] أي كذلك سخرها لذبحكم إياها { لتكبروا الله على ما هداكم } [الحج: 37] أي: لتعظموا الله في الطلب على غيره من النفس وهواها والدنيا وشهواتها؛ إذ ذلكم على ذبح النفس.
ثم قال تعالى: { وبشر المحسنين } [الحج: 37] أي: الذين يعبدون الله كأنهم يرونه واختاروا طلب الله ورضاه على النفس والدنيا وما سواه { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [الحج: 38] أي: يدافع خباثة النفس وهواها، وبقوله تعالى: { إن الله لا يحب كل خوان كفور } [الحج: 38] يشير إلى أن مدافعة خباثة النفس عن أهل الإيمان إنما كان لإزالة الخباثة وكفران النعمة؛ لأنه لا يحب المتصفين بها، وأنها تحب المؤمنين المخلصين عنها.
[22.39-41]
ثم أخبر عن نيل الوصال بالقتال تعالى: { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [الحج: 39] إشارة إلى أن قتال الكفار بغير إذن الله لا يجوز، ولهذا لما ذكر موسى عليه السلام القبطي الكافر، وقتله قال: هذا من عمل الشيطان؛ لأنه ما كان مأذونا من الله تعالى في ذلك، وبهذا المعنى يشير إلى أن الصلاح في قتل كافر النفس وجهادها أن يكون بإذن الله تعالى على وفق الشرع، وأوانه وهو بعد البلوغ، فإن قبل البلوغ يحمل المجاهدة باستكمال الشخص الإنساني الذي هو حامل أعباء الشريعة، ولهذا لم يكن مكلفا قبل البلوغ، وينبغي أن يكون المجاهدة محفوظة عن طرفي التفريط والإفراط، بل يكون على حسب ظلم النفس على القلب باستيلائها عليه فيما يضره من اشتغالها بمخالفة الشريعة وموافقة الطبيعة في استيفاء حظوظها وشهواتها من ملاذ الدنيا، فإن منها يتولد دين مرآة القلب وقسوته واسوداده، وإن ارتضت النفس، وتزكت عن زعيم صفاتها، وانقادت للشريعة، وتركت طبيعتها، واطمأنت إلى ذكر الله واستعدت لقبول جذبة:
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 28] نصان من فرج المجاهدة، ولكن لا يؤمن من مكر الله المودع في مكر النفس بقوله تعالى: { وإن الله على نصرهم لقدير } [الحج: 39] يشير إلى أن الإنسان لا يقدر على قهر النفس وتزكيتها بالجهاد المعدل إلا بنصر الله.
ثم أخبر عن معنى الظلم ووصف المظلوم الذي مأذون بالجهاد فقال: { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } [الحج: 40] يشير به إلى القلوب التي أخرجها النفوس بالاستيلاء عن مقاماتها بتبديل أخلاقها، وهي اطمئنانها بذكر الله تعالى، فباستتباعها جعلها متصفة بصفاتها، وهي ما أخبر عنها بقوله تعالى:
ورضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها
[يونس: 7] فللقلوب المظلومة أن يجاهدوا النفس الظالمة المتمردة { إلا أن يقولوا ربنا الله } [الحج: 40] أي: ترجع النفوس عن الظلم الذي من شيم النفوس، واستسلمت لأحكام الله تعالى.
وبقوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } [الحج: 40] يشير به تعالى: لو لم ينصر القلوب على النفوس، ويدافع عن القلوب باستيلاء النفوس { لهدمت صوامع } [الحج: 40] أركان الشريعة { وبيع } [الحج: 40] آداب الطريقة، وصلوات مقامات الحقيقة، ومساجد القلوب المنورة بنور الله { ولينصرن الله } [الحج: 40] القلوب على النفوس، فإنها من ينصره بقبول الفيض منه، واتفاقه على ما عداه من الأعضاء الرئيسية والحسيسة { إن الله لقوي } [الحج: 40] في النصرة والانتصار { عزيز } [الحج: 40] في الانتصار منه.
ثم وصفت القلوب المنصورة بقوله تعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض } [الحج: 41] أرض البشرية { أقاموا الصلاة } [الحج: 41] استداموا المواصلات { وآتوا الزكاة } [الحج: 41] زكاة الأحوال وهي: أن يكون من يأتي النفس من أنفاسهم مائة وتسعة وتسعون ونصف جزاؤهم، والباقي إيثار على خلق الله في الله مهما كان زكاة الأغنياء من مائتي درهم خمسة للفقراء والباقي لهم { وأمروا بالمعروف } [الحج: 41] حفظ الحواس عن مخالفة أحوال أمره، ومراعاة الأنفاس معه إجلالا لقدره { ونهوا عن المنكر } [الحج: 41] ومن وجوه المنكرات الرياء والإعجاب والمساكنة والملاحظة { ولله عاقبة الأمور } [الحج: 41] أمور المعاملات كلها منهم راجعة إلى الله تعالى في طلبه والوصول به.
[22.42-46]
ثم أخبر عن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته بقوله تعالى: { وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد } [الحج: 42] يشير إلى: أمر حتم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم على مقاساة ما يلقاه من قومه من فنون البلاء وصنوف الأسواء.
وبقوله تعالى: { فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة } [الحج: 45] يشير إلى: خراب قلوب أهل الظلم، فإن الظلم يوجب خراب أوطان الظالم، فيخرب أولا أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشة هي غالبة على الظلمة من ضيق صدورهم، وسوء أخلاقهم، وفرط غيظهم على من يظلمون عليهم، كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم وهي في الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم، ويقال: خراب منازل الظلمة ربما يستأخر وربما يتعجل، وخراب نفوسهم في تعطلها عن العبادات بشؤم ظلمها كما قال تعالى: { فهي خاوية على عروشها } [الحج: 45] وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصا في أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم فهو غير مستأخر.
وبقوله تعالى: { وبئر معطلة } [الحج: 45] يشير إلى: العيون المتفجرة التي كانت في بواطنهم وكانوا يستقون لإحياء أوقاتهم من غلبات الإرادة وتوجيه المواجيد، فإذا انفقوا بظلمهم غلب غشاؤها بقطع وانقطع ماؤها؛ لانسداد عيونها، ويشير بقوله تعالى: { وقصر مشيد } [الحج: 45] إلى: تعطيل أسرارهم عن مساكنها من الهيبة والإنس، وخلوا أرواحهم عن نوازل المحابة وسلطان الاشتياق وصنوف المواجيد.
وبقوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض } [الحج: 46] يشير إلى: السير في أرض البشرية، والعبور عنها، والوصول إلى مقامات القلب { فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ } [الحج: 46] فيه إشارة إلى أن العقل الحقيقي إنما يكون من نتائج القلب بعد تصفية حواسه عن العمى والصمم، كما قال الله تعالى: { أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج: 46] فإن صح وصف القلوب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر صفات الحق من وجوه الإدراكات، فكما تبصر القلوب بنور اليقين تدرك نسيم الإقبال بمشام السر، وفي الخبر:
" إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن "
، وقال الله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام أنه قال:
إني لأجد ريح يوسف
[يوسف: 94] وما كان ذلك إلا لإدراك السرائر دون اشتمام الريح في الظاهر.
[22.47-51]
وبقوله تعالى: { ويستعجلونك بالعذاب } [الحج: 47] يشير إلى: عدم تصديقهم كما قال تعالى:
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها
[الشورى: 18] ولو آمنوا لصدقوا، ولو صدقوا لسكنوا عن الاستعجال، وفي قوله تعالى: { ولن يخلف الله وعده } [الحج: 47] إشارة إلى أن الخلف في وعيد الكافرين لا يجوز، كما أن الخلف بالوعد للمؤمنين لا يجوز. ويجوز الخلف في وعيد المؤمنين؛ لأنه سبقت رحمة الله غضبه في حق المؤمنين وعدهم بالمغفرة في قوله تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48] وبقوله تعالى:
إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم
[الزمر: 53] { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } [الحج: 47] يشير إلى أن الأيام عنده تتساوى؛ إذ الاستعجال في الأمور، فسواء عنده يوم واحد وألف سنة، ومن لا يجري عليه الزمان وهو يجري الزمان؛ فسواء عليه وجود الزمان وقلة الزمان وكثرة الزمان إذ ليس عنده صباح ولا مساء، وبقوله تعالى: { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة } [الحج: 48] يشير إلى الإمهال يكون من الله والإهمال لا يكون، فإنه يمهل ولا يهمل، ويدع الظالم في ظلمه حينا، ويوسع له الحيل ويطيل له المهل، فيتوهم أنه يفلت من قبضة التقدير وذلك ظنه الذي أراد ويأخذه من حيث لا يرتقب فيعلوه ندامة؛ ولات حينه وكيف يستبقى بالحيلة ما في التقدير عدمه وإلى الله مرجعه؟ كما قال الله تعالى: { ثم أخذتها } [الحج: 48] نذير مبين { وإلي المصير } [الحج: 48].
ثم أخبر أهل الوفاق وأهل النفاق بقوله تعالى: { قل يأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين } [الحج: 49] يشير إلى أن إنذار النسيان؛ أي: قل لهم يا محمد إني أشابهكم من حيث الصورة لكني أباينكم من حيث السيرة، فأنا لمحسنكم بشير، ولمسيئكم نذير، فقد أثبت بإقامة البراهين على ما جئتكم به من وجوه الأمر بالطاعة والإحسان والنهي عن الفجور والعصيان.
{ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم } [الحج: 50] فالناس في المغفرة أقسام:
* فمنهم: من يستر زلته.
* ومنهم: من يستر عليه الأعمال الصالحة صيانة لهم من الملاحظة.
* ومنهم: من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة، وفي معناه قالوا: لا تنكرن جحدي هواك، فإنما ذلك الجحود عليك ستر مسبل.
* ومنهم من يستره بين أوليائه في قباب الغيرة كما قال:
" أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ".
* ومنهم: من يستر أنانيته بهويته والرزق الكريم ما يكون غير مشوب بالحدوث، بل يكون من الكريم القديم.
وبقوله تعالى: { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } [الحج: 51] يشير إلى أن من عاند أهله آياته من خواص أوليائه { أولئك أصحاب الجحيم } [الحج: 51] جحيم الحقد والعداوة، ورد الولاية، والسقوط عن نظر الله في الدنيا، وجحيم نار جهنم في الآخرة.
[22.52-55]
وبقوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [الحج: 52] يشير إلى أن الرسل والأنبياء تربيتهم وترقيتهم في الابتلاء والامتحان، وذلك لأنه إذا بقي في أحدهم أدنى ملاحظة يحرص بها على إيمان القوم فوق ما أمر به ابتلاه الله تعالى ببلاء مجال الشيطان في الإلقاء في أمنيته بقول أو عمل شيطاني؛ ليحترق بنار إلقاء الشيطان بقية من الملاحظة بالحرص الإنساني، فلا يؤثر تأييد سلطنة الشيطان في أحوالهم، فعلى هذا قال الله تعالى تنبيها للنبي صلى الله عليه وسلم عن حال حرصه تربيته له وتأديبا:
ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين
[يوسف: 103]، ولهذا السر لما كان مأمورا بقوله تعالى:
فاستقم كمآ أمرت
[هود: 112].
{ فينسخ الله ما يلقي الشيطان } [الحج: 52] يبطل تصرفاته بحيث لا يضره شيء، بل يكون سببا لتنقية النفس وتزكيتها من بقاء صفاتها { ثم يحكم الله آياته } [الحج: 52] المقيدة في السير إلى الله تعالى { والله عليم } [الحج: 52] بمصالح عباده المخلصين { حكيم } [الحج: 52] فيما يجري عليم بالأعمال والأحوال، ومن حكمته فيما يلقي الشيطان { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } [الحج: 53] من الشك والإنكار؛ ليصدهم عن سبيل الله ويقطع الطريق.
{ والقاسية قلوبهم } [الحج: 53] فإن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا مده بنور التحقيق، وأيده بحسن العصمة من تصرفات الشيطان، وإذا أراد بعبد شرا وكله إلى نفسه بالخذلان حتى يرى الباطل حقا، فيظلم على نفسه بإثبات الباطل ونفي الحق، فأبعد بهذا الامتحان عن حضرته هذا معنى قوله تعالى: { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } [الحج: 53] وإن الله ليبتلي المؤمن المخلص بفتنة وبلاء حسن، ويرزقه حسن بصيرة يميز بها بين الحق والباطل، فلا يظلمه غمام الذنب، ويتجلى عنه غطاء الغفلة، فلا يؤثر فيه دخان الفتنة والبلاء، كما لا تأخير لضباب الغداة في شعاع الشمس عند منزع النهار.
وهذا معنى قوله تعالى: { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } [الحج: 54] فيه إشارة إلى أن الهداية للإيمان إلى صراط مستقيم من الله تعالى ومن تأييده، لا من الإنسان وطبعه، وإن من وكل فيه لنفسه، وخذله بطبعه لا يزول عنه الشك والكفر والضلالة إلى الأبد، وهذا معنى قوله تعالى: { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } [الحج: 55] واليوم العقيم: هو الأبد، فإنه لا دليل له المعنى، أو يأتيهم عذاب قطيعة لا وصلة بعده.
[22.56-59]
ثم أخبر عن حكم الفريقين وحالهم في الطريقين بقوله تعالى: { الملك يومئذ لله } [الحج: 56] يشير إلى أن الحكم يومئذ لله لا لغيره، وأنه { يحكم بينهم } [الحج: 56] وإلا لم يتخصص ملكه تعالى بيوم دون يوم، ولم يتحدد له وقت إذا أمر، ولأجله أنه قدر ولكن الدعاوى في ذلك اليوم بالملكية والمالكية يتقطع والظنون ترتفع، ولا يكون حاكم ولا مالك إلا هو فيحكم { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم } [الحج: 56] نعيم جوار الحق سبحانه { والذين كفروا وكذبوا بآيتنا فأولئك لهم عذاب مهين } [الحج: 57] إهانة عذاب البعد والطرد والقطيعة { والذين هاجروا } [الحج: 58] عن أوطان الطبيعة { في سبيل الله } [الحج: 58] في طلب الحقيقة { ثم قتلوا } [الحج: 58] مكنوا بسيف الصدق نفوسهم { أو ماتوا } [الحج: 58] عن الأوصاف البشرية { ليرزقنهم الله رزقا حسنا } [الحج: 58] رزق القلوب حلاوة العرفان؛ فإن رزق الأسرار ومشاهدة الجمال، ورزق الأرواح مكاشفة الجلال { وإن الله لهو خير الرازقين } [الحج: 58] لأنه يرزق من أوصاف ربوبيته، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
{ ليدخلنهم مدخلا يرضونه } إدخالا فوق ما يتمنونه، ومدخلا فوق الذي يهوونه. { وإن الله لعليم } كل قاصد { حليم } [الحج: 59] لانبساط كل صادق.
[22.60-64]
وبقوله تعالى: { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه } [الحج: 60] أي: غلبت النفس على القلب باستيلائها وغلبات صفاتها، ويرجع القلب منظرا إلى الله تعالى في قهر النفس وصفاتها { لينصرنه الله إن الله لعفو } [الحج: 60] يعفو عن زلات بعض الطالبين؛ ليصف حالهم { غفور } [الحج: 60] ستر على عيوب بعض الصادقين؛ لبقايا صفات نفوسهم.
{ ذلك بأن الله } [الحج: 61] أي: هذا بأن الله { يولج الليل في النهار } [الحج: 61] أي: ليل الستر على نهار التجلي. { النهار في الليل } [الحج: 61] أي: نهار التجلي في ليل الستر لبعضهم يولج ليل القبض في نهار البسط، ولبعضهم يولج نهار الأنس في ليل الهيبة، ومنهم من يدوم نهاره ولا يدخلها عليهم ليلة وذلك لأهل الأنس { وأن الله سميع } [الحج: 61] يسمع تضرع المشتاقين { بصير } [الحج: 61] يرى حرقة الواصلين { ذلك بأن الله هو الحق } [الحج: 62] يحقق أماني الصادقين، ويبطل دعاوى الكاذبين { وأن ما يدعون } [الحج: 62] من دون الله؛ أي: يطلبون ما سواه { هو الباطل وأن الله هو العلي } [الحج: 62] أي: أعلى من أن وجده الطالبون { الكبير } [الحج: 62] العظيم الذي لا يدرك الواصلون نهايته { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء } [الحج: 63] من سماء القلب ماء الحكمة { فتصبح الأرض مخضرة } [الحج: 63] أي: أرض البشرية بخضرة الشريعة، وأرض القلوب بخضرة الأسرار، وأرض الأرواح بخضرة الكشوف، وأرض الأسرار بخضرة الأنوار.
{ إن الله لطيف خبير * له ما في السموت } [الحج: 63-64] أي: ما في سماوات القلب مواهبه وما في الأرض؛ أي: أرض البشرية مراحمه { وإن الله لهو الغني } [الحج: 64] لا ينقص غناه من مواهبه { الحميد } [الحج: 64] في ذاته مستغن عن حمد الحامدين.
[22.65-69]
{ ألم تر أن الله سخر لكم } [الحج: 65] أيها الطالبون الصادقون { ما في الأرض } أي: أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية { والفلك } أي: فلك الواردات الغيبية { تجري في البحر } بحر القلب { بأمره } يعني: لو لم يكن أمره ما ورد وارد في القلب { ويمسك السمآء } سماء القلب { أن تقع على الأرض } [الحج: 65] أرض النفس؛ يعني: أن يتصف بصفاتها { إلا بإذنه } [الحج: 65] أي: إلا بما أباحه الشرع مما مست إليه الحاجة الإنسانية مثل المأكول والمنكوح { إن الله بالناس لرءوف رحيم } [الحج: 65] فيما أباح لهم من الأوصاف الحيوانية للحاجة الضرورية { وهو الذي أحياكم } [الحج: 66] بازدواج الروح إلى القالب { ثم يميتكم } [الحج: 66] عن صفات البشرية { ثم يحييكم } [الحج: 66] بنور الصفات الربانية. { إن الإنسان لكفور } [الحج: 66] بكفران هذه النعمة بألا يعرف قدرها، ولا يؤدي حقوق شكرها.
ثم أخبر عن هم الأمم في مسالك المناسك بقوله تعالى: { لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه } [الحج: 67] يشير إلى أن لكل فريق من الطلاب شرعة هم واردوها ولكل قوم طريقة هم سالكوها، ومقاماهم سكانه، ومحلاهم قطانه، وربط كل جماعة بما أهلهم، وأوصل كل ذوي رتبة إلى ما جعله محلهم، فبساط التعبد موطوء بأقدام العابدين ومشاهد الاجتهاد معمورة بأصحاب الكفل من المجتهدين، ومجالس أصحاب المعارف مأنوسة بلوازم العارفين، ومنازل المحبين مأهولة بحضور الواجدين.
{ فلا ينازعنك في الأمر } [الحج: 67] أي: إشهد تعارف الأقدار، واعمل بمواجب التكليف، وانته دون ما أذنت له من المناهي { وادع إلى ربك } [الحج: 67] الجميع من المقبولين والمردودين { إنك لعلى هدى مستقيم } [الحج: 67] في دعوتهم { وإن جادلوك } [الحج: 68] بالتأني والإنكار والاعتراض { فقل الله أعلم بما تعملون } [الحج: 68] معي فيجازيكم وكلهم إلينا عندما راعوا من الجلال { الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } [الحج: 69] أما الأجانب فيقال لهم:
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء: 14] وأما الأولياء فقوم منهم يحاسبهم حسابا يسيرا، وصنف منهم يؤتون أجورهم بغير حساب، وأما الأجانب فيقعدون
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
[22.70-76]
{ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السمآء } [الحج: 70] أي: ما في سماء القلب من اليقين والصدق والإخلاص والمحبة { والأرض } [الحج: 70] أرض البشرية، والنفس الأمارة من الشك والكذب والشرك وحرص الدنيا؛ فيزيل عن أرباب القلوب البلوى، ويكمل لهم النعماء، وينزل بأرباب النفوس البلوى، ولا يسمع منهم الشكوى { إن ذلك في كتاب } [الحج: 70] مكتوب بقلم التقدير في القدم { إن ذلك على الله يسير } [الحج: 70] أي: مجازاتهم على وفق التقدير سهل على الله.
{ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم } [الحج: 71] يشير إلى أن من كان من جملة خواصه أفرده ببرهان، وأيده ببيان، وأعزه بسلطان، ولأهل الخذلان لا بسلطان فيما عبدوه من أصناف الأوثان، ولا برهان على ما طلبوه { وما للظالمين من نصير } [الحج: 71] أي: نصرة من الله تعالى بل خذلان { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } [الحج: 72] من المعارف والحقائق { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } [الحج: 72] أي: في وجوه المنكرين آثار إنكارهم، فإن وحشة ما يخامر في السرائر يلوح على الأسرة في الظاهر { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } [الحج: 72] أي: بشر مما في قلوبكم من الإنكار { النار } [الحج: 72] وهي نار القطيعة والطرد الإبعاد { وعدها الله الذين كفروا } [الحج: 72] أي: أنكروا { وبئس المصير } [الحج: 72] أي: المرجع والمآب.
ثم أخبر عن مثل الذباب لأولي الألباب بقوله تعالى: { يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا } [الحج: 73] يشير إلى أن أهل النسيان في غفلة عن حقيقة الأمر بالعيان، فلا بد من ضرب مثل؛ لعلهم ينتهون عن نومة الغفلة، فالخطاب للناس عهد الميثاق عام، وللمستمعين المستعدين؛ لإدراك فهم الخطاب ويتعظوا به.
ثم بين المعنى فقال: { إن الذين تدعون من دون الله } [الحج: 73] آلهة، ويعبدون من أنواع الأصنام الظاهرة والباطنة { لن يخلقوا ذبابا } [الحج: 73] بل لا يطلعوا على كيفية خلق الذباب { ولو اجتمعوا له } [الحج: 73] أي: لذلك { وإن يسلبهم الذباب } [الحج: 73] من الخواطر النفسانية والشيطانية { شيئا } [الحج: 73] من صفات الوقت وجمعية القلب { لا يستنقذوه } [الحج: 73] ليس في وسعهم استنقاؤه واستخلاصه منه من ذباب هواجس النفس ووساوس الشيطان { ضعف الطالب } [الحج: 73] وهو القلب إذ لم يكن مؤيدا بنور الإيمان { والمطلوب } [الحج: 73] وهو النفس والشيطان، ومن كان بهذه الصفة فساء المثل مثلهم، فإنهم { ما قدروا الله حق قدره } [الحج: 74] أي: ما عرفوه حق معرفته؛ إذ عبدوا غيره ولم يتخلقوا بأخلاقه إذ هم مستعدون لذلك، مختصون لهذه الكرامة من الهدية كلها؛ ليكونوا خير البرية فصاروا شر البرية.
{ إن الله لقوي } [الحج: 74] على أن ينعم عليهم بنعمة هذه الكرامة لو رجعوا إليه وتركوا غيره { عزيز } [الحج: 74] يعز من يشاء بنيل هذه الكرامة فيصطفي؛ أي: هو { الله } [الحج: 74] الذي { يصطفي من الملائكة رسلا } [الحج: 75] بينه وبين العباد، لتربيتهم لأداء الرسالة إذ لم يكونوا بعد مستأهلين لسماع الخطب بلا واسطة فيربيهم بواسطة رسالة الملائكة { ومن الناس } [الحج: 75] يعني: برسالة الأنبياء { إن الله سميع } [الحج: 75] يسمع ضراعتهم في احتياج الوجود وهم في العدم { بصير } [الحج: 75] بمن يستحق وهو معدوم.
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [الحج: 76] من قبول الدعوة وردها وما خلف الأنبياء يوم يسألهم ما أراد أجبتم { وإلى الله ترجع الأمور } [الحج: 76] من ابتداء إنشائها وانتهاء انقضائها.
[22.77-78]
ثم أخبر عن نجاح أهل الفلاح بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [الحج: 77] يشير إلى: الرجوع من تكبير قيام الإنسانية إلى تواضع خضوع الحيوانية، فإنها على أربع في الركوع، والرجوع من الركوع إلى الانكسار، والذلة النباتية في السجود، فإن النبات ذليل في السجود؛ لقوله تعالى:
والنجم والشجر يسجدان
[الرحمن: 6] لأن الروح كان مجيئه بهذه المنازل من عالم الأرواح عبر على كل المنزل النباتي، ثم على المنزل الحيواني إلى أن بلغ المنزل الإنساني، فعند رجوعه إلى الحضرة يكون عبوره على كل هذه المنازل، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم
" الصلاة معراج المؤمن ".
ثم قال الله تعالى: { واعبدوا ربكم } يعني: بهذا الرجوع إليه؛ يعني: خالصا لوجهه تعالى. { وافعلوا الخير } بالتوجه إلى الله تعالى في جميع أحوالكم وأعمال الخير كلها. { لعلكم تفلحون } [الحج: 77] بالعبور على هذه المنازل من حجب الظلمات النفسانية والأنوار الروحانية { وجاهدوا في الله حق جهاده } [الحج: 78] بأن تجاهدوا النفوس في تزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وتجاهدوا القلوب في تصفيتها بقطع تعلقات الكونين، ولزوم المراقبات عن الملاحظات، وتجاهدوا بالأرواح في تحليتها بإفناء الوجود في وجوده؛ لتبقى بوجود وجوده.
{ هو اجتباكم } [الحج: 78] لهذه الكرامات من بين سائر البريات، ولولا أنه اجتباكم واستعداد هذا الجهاد أعطاكم وأيد هداكم لما جاهدكم في الله، كما قيل: فلولاكم ما عرفنا الهوى، ولولا الهوى ما عرفناكم، ومن مبادئ حق الجهاد: ألا يفتر عن المجاهدة لحظة، كما قال قائلهم: يا رب إن جهادي غير منقطع، وكل أرضك لي ثغر وطرسوس { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78] أي: ضيق في السير إلى الله تعالى والوصول إليه؛ لأنك تسير إلى الله تعالى بتيسيره لا بسيرك، وتصل إليه بتقربه إليك لا بتقربك إليه، وإن كنت ترى أن تقربك إليه منك، ولا ترى بأن تقربك إليه من نتائج تقربه إليك لا بتقربك إليه، كما قال الله تعالى:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
، فالذراع إشارة إلى الشبرين، شبر سابق على تقربك إليه وشبر لاحق بتقربك إليه حتى لو مشيت إليه، فإنه يسارعك من قبل مهرولا.
وبقوله تعالى: { ملة أبيكم إبراهيم } [الحج: 78] يشير إلى أن السير والذهاب إلى الله تعالى من سنة إبراهيم عليه السلام بقوله:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99]، وإنما سماه بأبيكم، لأنه كأب آباءكم في طريقة السير إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا لكم كالوالد لولده "
{ هو سماكم المسلمين } [الحج: 78] أي: الله في الأزل لاستسلامكم لقبول هذه الطريقة بأن جعلكم مستعدين { من قبل } [الحج: 78] إن خلقكم { وفي هذا } [الحج: 78] أي: وبعد أن خلقكم { ليكون الرسول شهيدا عليكم } [الحج: 78] فيما تعملون؛ لأنه كان أول المخلوقات بالروح مشرفا عليها.
{ وتكونوا شهدآء على الناس } [الحج: 78] فيما يعملون وهم الأمم الماضية، وفي هذا إشارة إلى أن روح محمد صلى الله عليه وسلم كما كان مخلوقا قبل أرواح الأنبياء، ومشرفا على أحوالهم كانت أمته مخلوقة قبل أرواح جميع الأمم مشرفين على أحوالهم، ولا إشراف لروح نبي على روح نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا لأرواح روح الأمم إشراف لأرواح هذه الأمة { فأقيموا الصلاة } [الحج: 78] بدوام السير والعروج إلى الله تعالى والتعظيم لأمره { وآتوا الزكاة } [الحج: 78] بدعوة الخلق إلى الله تعالى، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم إلى الله تعالى بالشفقة على خلقه، وهذا حقيقة الاعتصام بحبل الله للوصول إليه. { واعتصموا بالله } [الحج: 78] إذا وصلتم إليه بإفناء الوجود فيه { هو مولاكم } [الحج: 78] أي: متولي إفنائكم { فنعم المولى } [الحج: 78] في إفناء وجودكم { ونعم النصير } [الحج: 78] بإبقائكم به.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-12]
{ قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون: 1-2] يشير إلى أن الفلاح الحقيقي لا يحصل بمطلق الإيمان بل بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط التي هي مذكورة في الآية، ومعنى الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي: ظفروا بنفوسهم ببذلها في الله، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوا به بعد أن فنوا فيه ، ثم وصفهم فقال: { الذين هم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون: 2] بالظاهر والباطن:
أما الظاهر: فخشوع الرأس بانتكاسه، وخشوع العين بانغماضها عن الالتفات، وخشوع الأذن بالتذلل للاستماع، وخشوع اللسان للقراءة بالحضور، وخشوع اليدين وضع اليمين على الشمال بالتعظيم كالعبيد، وخشوع الظهر انحناؤه في الركوع مستويا، وخشوع الفرج بنفي الخواطر الشهوانية، وخشوع القدمين بثباتهما على الموضع وسكونهما عن الحركة.
وأما الباطن: فخشوع النفس سكونها عن الخواطر والهواجس، وخشوع القلب بملازمة الذكر ودوام الحضور، وخشوع السر بالمراقبة في ترك اللحظات إلى المكونات، وخشوع الروح استغراقه في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفة الجلال والجمال.
{ والذين هم عن اللغو معرضون } [المؤمنون: 3] واللغو كل فعل لا لله تعالى وكل قول لا من الله تعالى ورؤية غير الله، وكل ما يشغلك عن الله تعالى.
وبقوله تعالى: { والذين هم للزكاة فاعلون } [المؤمنون: 4] يشير إلى أن الزكاة إنما وجبت لتزكية النفس عن الصفات الذميمة النجسة من حب الدنيا وغيره، كقوله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
[التوبة: 103]، فإن الفلاح في تزكية النفس لقوله تعالى:
قد أفلح من تزكى
[الأعلى: 14]، وقوله تعالى:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 9-10]، ولم يكن المراد من الزكاة مجرد إعطاء المال وحبه في القلب باق، وإنما كان لمصلحة إزالة حب الدنيا عن القلب؛ لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، فلا تحصل هذه المصلحة إلا بفعل الزكاة، وهو أن يفعل الزكاة وهو أن يفعل كل ما يزكي نفسه وقلبه عن حب الدنيا وجميع الصفات الذميمة إلى أن يتم إزالتها.
{ والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [المؤمنون: 5-6] يعني يحفظون عن الدنيا التلذذ بالشهوات أي: ألا يكون أزواجهم وإماؤهم عدوا لهم بأن يشغلهم عن الله وطلبه، فحينئذ يلزمهم الحذر لقوله تعالى:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم
[التغابن: 14]، وإنما ذكر بلفظ على لاستيلائهم على أزواجهم لاستيلائهن عليهم وكانوا مالكين عليهن لا مملوكين لهن، { فإنهم غير ملومين } [المؤمنون: 6] إذا كانت المناكحة لابتغاء النسل ورعاية السنة في أدائها.
{ فمن ابتغى ورآء ذلك } [المؤمنون: 7] لاستيفاء الحظوظ، وإهمال الحقوق { فأولئك هم العادون } [المؤمنون: 7] لأنهم تجاوزوا حد الكرام الكارمين، وتعدوا على الأكابر الصادقين، وخالفوا طريق الواصلين.
{ والذين هم لأماناتهم } [المؤمنون: 8] أي: الأمانة التي حملها الإنسان وهي الفيض الإلهي بلا واسطة في القبول، وذلك الذي يختص الإنسان بكرامة حمله وعهدهم وهو الذي عاهدهم الله يوم الميثاق على ألا يعبدوا إلا إياه لقوله تعالى:
وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
[يس: 61] راعون ألا يخونوا في الأمانة الظاهرة والباطنة، وألا يعبدوا غير الله، فإن أبغض ما عبد غير الله الهوى؛ لأن بالهوى عبد ما عبد من دون الله.
{ والذين هم على صلواتهم يحافظون } [المؤمنون: 9]؛ لئلا يقع خلل في صورتها ومعناها ولا يضيع عنهم الحضور في الصف الأول صورة ومعنى: { أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس } [المؤمنون: 10-11] وهو أعلى مراتب القرب قد بقي ميراثا عن الأموات قلوبهم، فورثه الذين كانوا أحياء القلوب { هم فيها خالدون } إلى الأبد.
ثم أخبر عن الإحسان في خلق الإنسان بقوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [المؤمنون: 12] يشير إلى أن سلالة سلة من جميع الأرض طينها وسبخها وسهلها وجبلها باختلاف ألوانها وطبائعها المتفاوتة، ولهذا اختلف ألوانها وأخلاقهم لأنه موضوع في طبيعتهم ما هو من خواص الطين الذي يختص بخاصية منها نوع من الحيوان أي: من جنس البهائم والسباع والجوارح والحشرات والمؤذيات الغالبة على كل واحد منها صفة من الصفات الذميمة والحميدة.
أما الذميمة: فكالحرص في الفأرة والنملة، وكالشهوة في الحمار والعصفور، وكالغضب في الفهد والأسد، وكالكبر في النمر، وكالبخل في الكلب، وكالشره في الخنزير، والحقد في الحية وغير ذلك من الصفات الذميمة.
وأما المحمودة: كالشجاعة في الأسد، والسخاوة في الديك، والقناعة في البوم، وكالحلم في الجمل، وكالتواضع في الهرة، وكالوفاء في الكلب، وكالبكور في الغراب، وكالهمة في البازي والسلحفاة وغيرها من الصفات الحميدة، ثم أودعها في طينة الإنسان وهو آدم عليه السلام.
[23.13-22]
ثم قال الله تعالى: { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } [المؤمنون: 13] أي: قطرة أجزاءها متماثلة ونطفة أبعاضها متشاكلة، ثم بإظهار القدرة تصرف في النطفة فجعلها علقة فقال: { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } [المؤمنون: 14] يشير إلى أن لكل خلقة رتبة في النطفة خاصية وطبيعة أخرى، وجعل بعضها لحما وعظما، وبعضها شعرا، وبعضها ظفرا، وبعضها عصبا، وبعضها جلدا، وبعضها مخا، وبعضها أمعاء، ثم خص كل عضو بهيئة مخصوصة، وكل جزء بكيفية معلومة، ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة من السمع والبصر والنطق والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحسد والحرص والجود، والأوصاف الكثيرة التي يتقاصر عنها الحصر والعد، فتدل هذه الأحوال المختلفة صورة ومعنى في الأطوار المختلفة صورة ومعنى.
{ ثم أنشأناه خلقا آخر } [المؤمنون: 14] بنفخ الروح فيه يعني خلقا غير المخلوقات التي خلقها قبله، وهو أحسنهم تقويما وأكملهم استعدادا وأجلهم كرامة وأعلاهم رتبة وأدناهم قربة وأخصهم فضيلة؛ فلهذا أثنى على نفسه عند خلقه بقوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14] يعني: لأنه خلق أحسن المخلوقين فيما جعلهم معدن العرفان وموضوع المحبة ومتعلق العناية، فإنه لما خلق السماوات والأرضين والعرش والكرسي مع المخلوقات من الجنة ومتعلق العناية، فإنه من الجنة والنار لم يعقبهما بهذا التمدح الذي ذكر بعد نعت خلقه بني آدم تخصيصا لهم من بين المخلوقات { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } [المؤمنون: 15] يشير إلى أن الإنسان بعد بلوغه إلى الرتبة الإنسانية قابل للموت مثل موت القلب وموت النفس، وقابل لحشرهما وفي موت القلب حياة النفس وحشرها مودعة، وفي موت النفس حياة القلب وحشره مودع، وحياة النفس بالهوى وظلمته، وحياة القلب بالله ونوره، كما قال الله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122] وهذا معنى حقيقة قوله تعالى: { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } [المؤمنون: 16].
وبقوله تعالى: { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق } [المؤمنون: 17] يشير إلى أن أطباق السماوات كما هي حجب تحول بين أبصارنا وبين المنازل العالية من العرش الكريم، كذلك أطوار القلب سبعة هي أغشيتها وحجبها، كالغضب والشهوة والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.
أما المريدون: فإذا أظلم سحاب الفطرة سكن هيجان إرادتهم، فذلك من الطريق التي عليهم.
وأما الزاهدون: فإذا تحركت عروق الرغبة اهتزت قوة زهدهم وضعف دعائم صبرهم، فيترخصون بالجنوح إلى بعض التأويلات فتعود فتراتهم قليلا قليلا وتختل رتبة عرفهم وتتهدم دعائم قصدهم، فبداية ذلك من الطريق التي خلق فوقهم.
وأما العارفون: فريثما يظلهم في بعض أي: بينهم وقفة في تصاعد سرهم إلى ساحات الحقائق فيصيرون موقونين وربما يتفضل الحق سبحانه عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذا أو يرفع عنهم ما عاقهم في الطريق، وفي جميع هذا فالحق سبحانه غير تارك للعبد ولا عن الخلق.
كما قال الله تعالى: { وما كنا عن الخلق غافلين } [المؤمنون: 17] فلمصالح المقبولين وجبر خللهم { وأنزلنا من السمآء } [المؤمنون: 18] سماء العناية { مآء } الرحمة { بقدر } [المؤمنون: 18] أي: بحسب حاله كل واحد منهم { فأسكنه في الأرض } [المؤمنون: 18] أي: في أرض وجودهم، ثم أخرجنا منها ينابيع الحكمة بتأثير نظر العناية { وإنا على ذهاب به لقدرون } [المؤمنون: 18] بالإعراض عنهم، كما أنزلنا من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين كذلك من سماء العناية وماء الرحمة فيحيي به القلوب، ويزيل به درن العصاة وآثار ذلتهم، وينبت في أرض قلوبهم فنون أزهار البسط وصنوف الروح.
وبقوله تعالى: { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون } [المؤمنون: 19] يشير إلى أن كما ينشئ الفياض بماء السماء ويثمر الأشجار ويجري الأنهار، فكذلك بماء سماء العناية ينشئ شجرة العرفان ويؤتي أكلها من الكشف والعيان ما تتقاصر العبارات عن شرحه ولا تطمع الإشارات في حصره.
{ وشجرة تخرج من طور سينآء } [المؤمنون: 20] وهي شجرة الحق الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات { تنبت بالدهن } [المؤمنون: 20] وهو حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة، ومقر هذا الدهن هو الخفي الذي فوق الروح وهو سر بين الله وبين الروح لا تطلع عليه الملائكة المقربون { وصبغ للآكلين } [المؤمنون: 20] أي: وهو إدام لآكلي الكونين بقوة الهمة.
ثم أخبر عن عبرة الخواص والعوام في خلق الأنعام بقوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها } [المؤمنون: 21] يشير إلى أنه كما يخرج من بطون الأنعام من بين فرث ودم لبنا خالصا، وفيه عبرة لأولي الأبصار فكذلك من بين فرث الصفات النفسانية وبين دم الصفات الشيطانية لبنا خالصا من التوحيد والمحبة؛ ليسقي به أرواح الصديقين كما قال بعضهم:
سقاني شربة أحيا فؤادي
بكأس الحب من بحر الوداد
وفيها عبرة لأولي الأبصار { ولكم فيها منافع كثيرة } [المؤمنون: 21] من الأخلاق الكريمة الربانية والمعارف العظيمة الرحمانية والشواهد الحقانية العيانية { ومنها تأكلون } حين تبيتون عند ربكم { وعليها } [المؤمنون: 22] أي: على النفوس الحيوانية { وعلى الفلك } أي: فلك القلوب لروحانية { تحملون } في بحر الصفات الربانية.
[23.23-25]
{ ولقد أرسلنا نوحا } [المؤمنون: 23] أي: نوح الروح { إلى قومه } [المؤمنون: 23] من القلب والسر والنفس والقالب والجوارح { فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [المؤمنون: 23] من الهوى والشيطان، فعبادة القلب بقطع التعلقات والمحبة، وعبادة السر بالتفرد بالتوحيد، وعبادة النفس بتبديل الأخلاق، وعبادة القلب بالتجريد، وعبادة الجوارح بإقامة أركان الشريعة { أفلا تتقون } [المؤمنون: 23] بهذه العبادات غير الحرمان والخذلان وعذاب النيران.
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } [المؤمنون: 24] يعني: النفس وصفاتها { ما هذا إلا بشر } [المؤمنون: 24] أي: مخلوق { مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } ويحكم بالسلطنة فيكم { ولو شآء الله } أن نعبده { لأنزل ملائكة } بالرسالة إلينا، ويشير بهذه المقالات إلى بعض البطلة من الطلبة، فإن بعضهم يتكاسلون في الطلب ويقولون لو شاء الله سعينا في الطلب لأيدنا بالصفات الملكية والتوفيق الرباني { ما سمعنا بهذا } يعني: الذي يدعونا إليه نوح الروح { في آبآئنا الأولين } أي: ليس هذا من تولدات آباء العناصر.
{ إن هو إلا رجل به جنة } [المؤمنون: 25] يشير به إلى أن أحوال الحقيقة عند أرباب الطبيعة جنون كما قال: أن أحوال أرباب الطبيعة عند أهل الحقيقة جنون { فتربصوا به حتى حين } يعني إلى وقت هبوب رياح العناية.
[23.26-30]
{ قال رب انصرني } [المؤمنون: 26] على تسخيرهم وتأديبهم { بما كذبون * فأوحينآ إليه } [المؤمنون: 27] أي: ألهمنا إلى نوح الروح { أن اصنع الفلك } [المؤمنون: 27] أي: فلك الشريعة { بأعيننا ووحينا } أي: باستصواب نظرنا وأمرنا لا بنظر عقولكم، وأمر هواكم، كما يعمل الفلاسفة والبراهمة { فإذا جآء أمرنا } [المؤمنون: 27] بجذبات العناية { وفار التنور } [المؤمنون: 27] تنور قلوبكم بماء الحكمة { فاسلك فيها } [المؤمنون: 27] أي: في فلك الشريعة للعبور على بحر الحقيقة { من كل زوجين اثنين } [المؤمنون: 27] من الصفات النفسانية والشيطانية؛ لأن السالك يحتاج إليها في سلوك الطريق إلى الله تعالى قوله تعالى: { زوجين اثنين } يشير إلى قدر يسير منها إذا كانت مغلوبة لا تمرد فيها، وفي شرح الاحتياج بها طول { وأهلك } أي الصفات الإنسانية الروحانية { إلا من سبق عليه القول منهم } وهي النفس الأمارة بالسوء { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } [المؤمنون: 27] أي: من الصفات الذميمة { إنهم مغرقون } [المؤمنون: 27] أي: النفس الأمارة وصفاتها الذميمة، دعهم مغرقون في بحر الرياضة والمجاهدة فلا سبيل لهم إلى الخلاص منها إلا بقدر ما ذكرنا من زوجين اثنين { فإذا استويت } يا نوح الروح في سفينة الشريعة { أنت ومن معك } من القلب والسر.
{ على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } [المؤمنون: 28] أي: من النفس وصفاتها الذميمة بالالتجاء إلى سفينة الشريعة، { وقل رب أنزلني منزلا مباركا } [المؤمنون: 29] وهو مقعد الصدق [المؤمنون: 29]، { وأنت خير المنزلين } بأنك لا تنزل وفدك إلا بأعلى مراتب قربك { إن في ذلك } [المؤمنون: 30] أي: الذي ذكرناه من الحقائق والدقائق { لآيات } دلالات إلى الحضرة { وإن كنا لمبتلين } أرباب الصورة بالمعاني الظاهرة لئلا يطلع على هذه الحقائق إلا أهلها.
[23.31-39]
ثم أخبر عن فنون القرون بقوله تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله } [المؤمنون: 31-32] إلى قوله: { بلقآء الآخرة } [المؤمنون: 33] بحقيقة قوله تعالى: { وأترفناهم في الحياة الدنيا } [المؤمنون: 33] يشير إلى أن أهل الدنيا لما وسع الله عليهم الرزق وتنعموا به واتبعوا الشهوات، واشتغلوا بملاذ الدنيا وتحصيل جاهها ومناصبها أسكرتهم محبة الدنيا بغوا في الأرض وطغوا على الرسل وقالوا لرسلهم: { ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون } [المؤمنون: 33-34] ولا يعلمون أن الرسل وأهل الله ، وإن يأكلوا مما يأكل أهل الدنيا ولكن لما يأكلون كما يأكلون هؤلاء، فإنهم يأكلون كما قال الله تعالى:
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم
[محمد: 12] لأنهم يأكلون بالإسراف، وأهل الله يأكلون ولا يسرفون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء "
بل أهل الله يأكلون ولا يسرفون بأفواه القلوب مما يطعمهم ربهم ويسقيهم حيث يبيتون عند ربهم.
وبقوله تعالى: { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون } [المؤمنون: 35-36] يشير إلى كمال قدرته على الهداية والضلالة ألا ترى أنه كيف أصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه حتى ردكم إلى أعظم التيه بالاستبعاد في أمر الحشر والنشر، ومن أعمى قلوبهم لم يروا أن الإعادة أهون من الابتداء، وأن الذي هو قادر ببديع فطرته على إيجاد شيء من العدم وإعدامه من الوجود يكون قادرا على إعادته ثانيا قالوا: { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون } [المؤمنون: 37-39] قد مر من تحقيقها في الآيات المتقدمة.
[23.40-44]
{ قال عما قليل ليصبحن نادمين } [المؤمنون: 40] حين لا ينفعهم الندم { فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثآء فبعدا للقوم الظالمين } [المؤمنون: 41] فالإشارة في تحقيقها أن الظلم من شيم أهل الشقاوة والبعد وأنهم كالغثاء في عدم المبالاة بهم، كما قال الله تعالى:
" هؤلاء في النار ولا أبالي ".
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } [المؤمنون: 42] إظهارا للقدرة ولتعلم كل أمة استغنائنا عنهم، وإنهم إن قبلوا دعوة الأنبياء وتابعوا الرسل تعود فوائد استسلامهم وانقيادهم وقيامهم بالطاعات إليهم { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } [المؤمنون: 43] في الخير والشر والسعادة والشقاوة { ثم أرسلنا رسلنا تترا } [المؤمنون: 44] مترادفين متعلقين لإتمام سعادة بعضهم ولإتمام شقاوة بعضهم بتصديقهم وتكذيبهم { كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا } بالخسارة والشقاوة بعضهم بتصديقهم وإن صدقوه فأتبعنا بعضهم بعضا بالكرامة والسعادة { وجعلناهم } يعني: أهل السعادة والشقاوة { أحاديث } ليعتبر منهم أهل السعادة فيقتدوا بهم ويتفائل منهم أهل الشقاوة فلا يعتبرون منهم { فبعدا لقوم لا يؤمنون } أي: أبعدهم تعالى إذ لم يؤمنوا ولم يعتبروا وفيه إضمار أي قرب الله المؤمنين المعتبرين.
[23.45-50]
ثم أخبر عن حال السعداء والأشقياء بقوله تعالى: { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } [المؤمنون: 45] { إلى فرعون وملئه } [المؤمنون: 46] يشير إلى أن إرسال موسى الروح وأخيه هارون القلب { إلى فرعون } النفس { وملئه } صفاتها بما يستدل بها على وحدانيته وهو العقل والإيمان { فاستكبروا } أي: تمردوا على استعمال العقل في قبول الإيمان ولم يعتبروا بهما ولم يستدلوا { وكانوا قوما عالين } أي: طالبين العلو والغلبة والاستيلاء على الروح والقلب، فنظروا إليهما بنظر معلوم بالوهم والخيال وحقروهما.
{ فقالوا أنؤمن } [المؤمنون: 47] أي نستسلم { لبشرين } مخلوقين { مثلنا } في الخلقية { وقومهما لنا عابدون } أي: في أوان الولادة وحالة الطفولة كانت صفات الروح وصفات القلب مسخرة لفرعون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب وقواه إلى حد البلوغ وليستعدوا حمل أعباء التكاليف الشرعية { فكذبوهما } ولم يقبلوا دعوتهما إلى الحق { فكانوا من المهلكين } بعبادة الهوى وطلب الدنيا وشهواتها.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } [المؤمنون: 49] أي: ألهمنا موسى الروح إلهامات ربانية { لعلهم } النفس وصفاتها بها { يهتدون } إلى الحق تعالى وطلبه.
وبقوله تعالى: { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } [المؤمنون: 50] يشير إلى عيسى الروح الذي تولد من أمر كن بلا أب من عالم الأسباب، وهو أعظم آيات الله المخلوقة التي تدل على ذات الله معرفة؛ لأنه خليفة الله وروح منه { وآويناهمآ إلى ربوة } القالب، فإنه مأوى الروح الآمر بالأوامر والنواهي { ذات قرار } أي: هو منزلهما ودار قرارهما يعني ما دام القالب يكون مأوى الروح فالروح تكون مأوى الأمر ومقره بألا يسقط عنه التكاليف { ومعين } وأما المعين فهو عين الحال الجارية في القلب على اللسان.
[23.51-62]
وقوله تعالى: { يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } [المؤمنون: 51] يشير إلى أن المأكول إذا كان مما أحل لهم ومما هو محكوم بأنه طيب من لوث الإسراف والشهوات بأمر الشرع لا بأمر الطبع يكون من نتائجه الأعمال الصالحات { إني بما تعملون عليم } [المؤمنون: 51] بنياتكم وأحوال معاملاتكم { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } [المؤمنون: 52] أي: في الإنسانية على طبيعة واحدة وأمر أمتكم وعللكم في الظلومية والجهولية علة واحدة { وأنا ربكم } أي: مربيكم ومعالجكم بعلاج الشرائع { فاتقون } أي خافون وأطيعوا أمري في المعالجات بعلاج الشرائع { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا } [المؤمنون: 53] أي: فتفرقوا في قبول المعالجة والتداوي، فمنهم مستقيم على حق المعالجة مقيم على التداوي على وفق علاج طبيبهم، ومنهم تائه في غيه مصر على ترك المعالجة وعصيان الطبيب، { كل حزب بما لديهم فرحون } أي: كل مربوط بحده موقوف على ما قسم له في البداية من نشأته كل ينتحل طريقة ويدعي بحسن طريقه حقيقة وهو فرحان بها، وعند صحو سماء قلوب أرباب التوحيد لا غبار في الطريق وهم على يقين معارفهم فلا ريب ولا شبهة تتعالج، وأهل البدع والأهواء في عمى جهلهم وغبار جحدهم وظلمة تقليدهم وغمرة شكهم.
{ فذرهم في غمرتهم } [المؤمنون: 54] من الشك وخذلانهم في الغفلة { حتى حين } إلى أن تداركهم العناية الأزلية أو إرادتهم القهارية في الهلاك { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات } [المؤمنون: 55-56] المنجيات { بل لا يشعرون } أنهم مطرودون عن الحضرة بسياط القهر في صورة اللطف، فرأوه سرابا ظنوه شرابا، وفعلا في شهودهم صوابا، فتوهموا عذابا، وحين لقوا عذابا علموا أنهم لم يفعلوا صوابا.
ثم أخبر عن المؤمنين المشفقين، بقوله تعالى: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } [المؤمنون: 57] يشير إلى إطراق السريرة في حال الوقوف بين يدي الله بشواهد الأدب واستيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } [المؤمنون: 58] أي: بما تكاشف لهم من شواهد الحق والسر والعلانية { والذين هم بربهم لا يشركون } [المؤمنون: 59] أي: في التوجه إلى حضرته بصدق الطلب لا يلتفتون إلى ما سواه من الدنيا والآخرة ومن أعظم الشرك ملاحظة الخلق في الرد والقبول والفرح بمدحهم والانكسار بذمهم، وأيضا قصور النظر في المسار والمضار على الأسباب عند انقطاع النظر عن الله في أنه المسبب.
قال الله تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف: 106] يعني: إنهم يتوهمون أن حصول الشفاء من شرب الدواء والشبع من الطعام، فإذا كان الشرب مستكنا يرد اليقين عن توهم شيء من الخذلان إلا من التقدير فحينئذ يتقي من الشرك { والذين يؤتون مآ آتوا وقلوبهم وجلة } بهذه الأقدام ومنقطعون عن { أولئك يسارعون في الخيرات } [المؤمنون: 60] أي: هم المتوجهون إلى الله تعالى المعرضون عمن سواه المسارعون بقدم الصدق والسعي الجميل على حسب ما سبقت لهم من الله الحسنة { وهم لها سابقون } على قدر سبق العناية.
بقوله تعالى: { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } [المؤمنون: 62] يشير إلى أنه تعلى جعل نفس الإنسان مستعدة لحمل ما كفلها بحمله كما كلف الناس أن يقولوا: لا إله إلا الله، وهم قادرون على قولها وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء ما بعثهم وما هم بعاجزين عنها وليس هذا من قبيل تكليف ما لا يطاق لأنه أطاقه كثير من الناس { ولدينا كتاب } يعني: أم الكتاب { ينطق بالحق } أي: بأنهم قادرون على ذلك { وهم لا يظلمون } لما أخذوا بترك ما أمروا وهم قادرون على إتيانه.
[23.63-71]
{ بل قلوبهم في غمرة } [المؤمنون: 63] أي: في غفلة وعمى { من هذا } من قبول الدعوة والمتابعة وتدارك الغفلة بالفكر السليم عن عواقب الأمور وعلاج عمى القلوب بترك الدنيا وشهواتها وتزكية النفس عن صفاتها الذميمة، وتصفية القلب عن شوب تعلقه بما سوى الله تعالى { ولهم أعمال من دون ذلك } [المؤمنون: 63] في متابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن الهوى { هم لها عاملون } [المؤمنون: 63] أي: مداومون عليها.
{ حتى إذآ أخذنا مترفيهم } [المؤمنون: 64] وهم أكابر المجرمين وقدوة الأصاغر المسرفين { بالعذاب } أي: بالعذاب الأدنى في الدنيا والعذاب الأكبر في العقبى { إذا هم يجأرون } [المؤمنون: 64] أي: يتضرعون في طلب النجاة والقبول بعد فساد استعداداتهم للنجاة والقبول، فيقال لهم: { لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } [المؤمنون: 65] لعدم الاستعداد في قبول النصرة فلا ينفعكم التضرع والجزع في غير وقته، وقد ضيعتم أوانه حين { قد كانت آياتي تتلى عليكم } [المؤمنون : 66] لتنتفعوا بها { فكنتم على أعقابكم تنكصون } بالإعراض عن الانتفاع بها والإقبال على متابعة الهوى وطلب الدنيا { مستكبرين به } [المؤمنون: 67] على الأنبياء والأولياء والنصحاء بنعيم الدنيا وزينتها { سامرا تهجرون } أي: سامرين في هجراننا والإعراض عنا.
ثم أخبر عن سوء تدبيرهم وفرط تقصيرهم بقوله تعالى: { أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت آبآءهم الأولين } [المؤمنون: 68] يشير إلى أنهم لو تفكروا بالفكر الصائب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن إليه لعلموا أنه ما جاءهم بدعا من الرسل بما لم يأت آباءهم الأولين أنبياؤهم، وأن كل نبي أوحي إليه بالإيمان ونصرة دينه وأخذوا على هذا مواثيقهم، وقد ذكر الله بعثته في الكتب المنزلة أم عملوا أنهم { أم لم يعرفوا رسولهم } [المؤمنون: 69] الذي بعثه الله في الكتب المنزلة، كما قال تعالى:
جآءهم ما عرفوا كفروا به
[البقرة: 89].
{ فهم له منكرون * أم يقولون به جنة } [المؤمنون: 69-70] فمرة قابلوه بالتكذيب، ومرة رموه بالسحر، ومرة وصفوه بالجنون، ومرى قد عابوه بالفقر وقلة اليسار، فأخبر الله عن تشتتهم، ومرة رموه بالسحر، ومرة وصفوه بمثل أحوالهم في الضلالة وتقسيم إنكارهم في الجهالة فقال: { ولو اتبع الحق أهوآءهم } [المؤمنون: 71] في تعاطي مراداتهم الخسيسة على حسب دواعيهم الفاسدة { لفسدت السموت والأرض } [المؤمنون: 71] أي: سماوات أرواحهن وأرض نفوسهم { ومن فيهن } من القلب والسر، فإن الهوى يهوي بمتابعيه إلى الهاوية { بل أتيناهم بذكرهم } [المؤمنون: 71] أي: بما لهم فيه صلاح في الحال وذكر لهم في المثال { فهم عن ذكرهم } أي: عن صلاح حالهم وشرف مآلهم { معرضون }.
[23.72-77]
{ أم تسألهم خرجا } [المؤمنون: 72] أي: يحسبون أنك تسألهم على الرسالة أجرا وقبولا ووجاهة عندهم فكان ما يفهم عن الإيمان بلا ويقول دعوتك لهم وما يعملون إذن { فخراج ربك خير } أي ما يجازيك الله به في الدنيا وما فيها { وهو خير الرازقين } في المجازاة والمكافأة، وفيه إشارة إلى العلماء الله الراسخين في العلم أنهم لا يدنسون وجوه قلوبهم الزاخرة بدنس الأطماع الفاسدة والصالحة الدنيوية والأخروية، فيما يعملون الله في دعوة الخلق إلى أنه بالله لله.
كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } [المؤمنون: 73] وهو حسن التوجه بصدق الطلب إلى الله تعالى من غير اعوجاج في الطريق بميل الدنيا والآخرة، فكيف يميل إلى شيء مما عندهم فينكب عن الصراط المستقيم { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة } [المؤمنون: 74] أي: بالحشر والنشر أنه لهم من الله مطالبات بحسب ميلان طبعهم إلى ما سوى الله { عن الصراط لناكبون } فيقعون عن صراط الفرية في جهنم الفرقة، { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } [المؤمنون: 75] به يشير إلى حقيقة علمه مجالهم وبما شهد علمه بيان وجودهم، وجاء فيهم ما قال تعالى:
فلما كشفنا عنهم العذاب
[الزخرف: 50] في الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان في المآل.
ثم يستدل على ما أخبر من أحوالهم بقوله تعالى: { ولقد أخذناهم بالعذاب } [المؤمنون: 76] أي: أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائدها تنبيها لهم { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } أي: فانتبهوا وما انزجروا، ولو أنهم إذا ما رأوا العذاب فزعوا إلى التضرع والابتهال وأظهروا الاستكانة والافتقار والعجز لله تعالى بالصدق والإخلاص طالبين الله زوالها عنهم، ولكنهم أصروا على باطلهم
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
[الأنفال: 42] { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } [المؤمنون: 77] وهو عن الخذلان وسدل حجب الهجران { إذا هم فيه مبلسون } متحيرون كمن ضل عن الطريق آيسون من رحمة الله تعالى لكن ختم على قلبه لئلا يدخل فيه رجاء النعمة.
[23.78-87]
ثم أخبر عن إنعامه العظيم وإفضاله العميم بقوله: { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } [المؤمنون: 78] يشير إلى ثلاثة معان:
أحدها: إظهار أنعامه العظيمة بهذه النعمة الجسيمة من السمع والأبصار والأفئدة.
ثانيها: مطالبة العباد بالشكر على هذه النعمة.
وثالثها: الشكاية عن العباد أن الشاكر منهم قليل، كما قال تعالى:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، وشكر هذه النعم في استعمالها في طلحة المنعم وعبودية، فشكر السمع: حفظا عن استماع المنهيات وأن لا يسمع إلا لله وبالله وعن الله، وشكر البصر: حفظ عن النظر إلى المحرمات وإنه ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله، وشكر القلب: تصفيته عن درن الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين ولا يشهد غير لله ولا يحب إلا الله.
وبقوله تعالى: { وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } [المؤمنون: 79] يشير إلى أن الحادثات من الله بدت وإليه تعود وليس لشيء إمكان الرجوع إلى الحضرة إلا الإنسان ودليله قوله تعالى:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] { وهو الذي يحيي } [المؤمنون: 80] قلوب عباده بنور من الله وتأييد روح منه ليصلح للرجوع إلى الحضرة وعبث النفوس من صفاتها الذميمة لئلا يزاحم القلب بتكدير صفاته وتدنيسه برين مكاسبها فإنه يمرضه ويمنعه عن الرجوع إلى الحضرة، وأيضا يحيي بعض النفوس باستيفاء شهواتها واتباع هواها { ويميت } بعض القلوب باستيلاء ظلمات صفات النفوس عليها فإنها سم قاتل للقلوب { وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون } [المؤمنون: 80] اختلاف ليالي المحبين قصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار لا إلى ونهارهم في قصر ليالي الفراق وطول نهار الوصال، وعلى مثل هذا في معاني الستر والتجلي { بل قالوا مثل ما قال الأولون } [المؤمنون: 81] من غاية الغفلة ونهاية الضلالة.
{ قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } [المؤمنون: 82] وإنهم لفي غفلة عما يميت القلوب ويحييها، ويميت النفوس ويحييها كما يميت الأرض كل حسنة ثم يحييها، فيقيسوا البعث والنشور على ذلك بل قالوا بجهلهم وعمى قلوبهم { لقد وعدنا نحن وآبآؤنا هذا من قبل إن هذآ إلا أساطير الأولين } [المؤمنون: 83] فيه إشارة إلى أن الناس كلهم أهل التقليد من المتقدمين والمتأخرين إلا من هداه الله نور الإيمان إلى التصديق بالتحقيق فإنه المتأخرين هاهنا يقلدون آباءهم المتقدمين في تكذيب الأنبياء والجحود وإنكار البعث.
ثم استدل بقوله تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون } [المؤمنون: 84-85] بأن الذي هو قادر على الإبراء والإماتة يكون قادرا على الإحياء والإعادة فلا تقلدوا جهالة آبائكم { قل من رب السموت السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون } [المؤمنون: 86-87] فيجتنبون التقليد وبهذا استدل على جهلهم وضلالتهم ليكن حجة عليهم.
[23.88-92]
ثم أخبر عن استدلال آخر على استقلال عقولهم بقوله تعالى: { قل من بيده ملكوت كل شيء } [المؤمنون: 88] إلى أن لكل شيء ملكوت وهو روحه في عالم الملكوت الذي هو قائم له يسبح الله تعالى به لقوله عز وجل:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء: 44] وروح ذلك التي بيد الله { وهو يجير } الأشياء عن الهلاك بالقيومية { ولا يجار عليه } أي: لا مانع ممن أراد هلاكه { إن كنتم تعلمون } أحدا بهذه الصفة غيره، فأجيبوني به!
{ سيقولون لله } [المؤمنون: 89] اعترافا بالعجز { قل فأنى تسحرون } فقال: أولا فقل أفلا تذكرونهم، قال بعده أفلا تتقون؛ قدم التذكر على التقوى، فإن بتذكيرهم يصلون إلى المعرفة، وبعد أن عرفوه علموا الله تعالى عليهم اتقاء مخالفته، ثم قال بعد ذلك: { فأنى تسحرون } أي: كيف تخيل لكم الحق باطلا والباطل حقا وضوح الحجة، فأي شك بقي حتى تنسبونه إلى السحر { بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون } [المؤمنون: 90] بين أنهم له على جحودهم وأقاموا على عتوهم فيتوهم بعد أن أزيحت العلل فلات حين عذر، وليست [المساهلة موجب بقاء].
وبقوله تعالى: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } [المؤمنون: 91] يشير إلى أن اتخاذ الولد والشريك يوجب المساواة في القدر والصمدية فتقدس عن جواز أن يكون له مثل أو جنس، ولو تصورنا جوازه { إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } فكل أمر نيط عن اثنين فقد انتفى عن النظام وصحة الترتيب { سبحان الله } تقديسا وتنزيها { عما يصفون } أي: وصفوه به { عالم الغيب والشهادة } [المؤمنون: 92] أي: عالم الملك والملكوت والأرواح والأجساد { فتعالى } الله وتنوه { عما يشركون } بأن يكون له في العالمين شبيه أو شريك أو ولد.
[23.93-100]
{ قل رب إما تريني ما يوعدون } [المؤمنون: 93] أي: عجلت لهم ما تعدهم { رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } [المؤمنون: 94] بأن توصل إلى سوء مثل ما توصل إليهم في العقوبة، وهذا يدل على أن للحق يفعل ما يريد ولو عذب البشرية لم يكن ذلك منه ظلما ولا قبيحا { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } [المؤمنون: 95] وهذا يدل على صحة قدرته لا على خلاف ما علم، فإنه أجزى به، وإن تعجيل عقوبتهم وإن لم يفعل ذلك صحة، فصحة القدرة على خلاف المعلوم { ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون } [المؤمنون: 96] يعني: مكافأة السيئة جائزة لكن العفو عنها أحسن، ويقال: ادفع بالوفاء الجفاء، ويقال: الأحسن ما أشار القلب بالمعافاة والسيئة ما قدموا إليه النفس للمكافأة.
{ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } [المؤمنون: 98] وهي من سيئاته وتحجب الاستعاذة بالله من الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أعوذ بك منك (وأعوذ بك رب أن يحضرون) "
{ حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون } [المؤمنون: 99] إذا أخذ البلاء بحياتهم واستمكن الضر من أحوالهم وعلموا ألا محيص ولا مجير، أخذوا في التضرع والاستكانة في طلب الرجوع { لعلي أعمل صالحا فيما تركت } يعني: من الخيرات { كلا إنها كلمة هو قآئلها } [المؤمنون: 100] عند الضرورة والاضطرار أي: لا يرجع عن أخلاقه الذميمة التي طبع عليها { ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون } [المؤمنون: 100] وهو ما بين الموت إلى البعث لعل بعض الحجب من أخلاق السوء يندفع عند أيام البرزخ، والله أعلم.
[23.101-106]
ثم أخبر عن ابتغاء الأنساب يوم الحساب بقوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون } [المؤمنون: 101] يشير إلى نفخة العناية الربانية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأنساب فلا يلتفت إلى أحد من أنسابه ولا إلى أهل ولا إلى ولد؛ لاشتغاله بطلب الحق واستغراقه في بحر المحبة، فلا يسأل بعضهم بعضا عما تركوا من أسباب الدنيا ولا إلى ولد لاشتغاله ولا عن أحوال أهاليهم وإخوانهم وأوطانهم إذا فارقوها؛ لأن
لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس: 37] عن مطالبة الغير { فمن ثقلت موازينه } [المؤمنون: 102] في طلب الحق سبحانه { فأولئك هم المفلحون } في الطلب بفوز المطلوب ونيل المقصود.
{ ومن خفت موازينه } [المؤمنون: 103] عن الطلب وقع عليه طريق الحق بنوع من التعلقات ورجوعه قهقرى { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } [المؤمنون: 103] بإبطال استعداد الطلب وإفساده، فإن الإنسان كالبيضة مستعدة لقبول تصرف ولاية الدجاجة وخروج الفروج منها، فما لم تتصرف فيه الدجاجة يكون استعداده باقيا، فإذا تصرفت الدجاجة فيه فتغير حاله إلى حال الفروجية، ثم إذا انقطع تصرف الدجاجة تفسد البيضة فلا ينفعها الصرف بعد ذلك لفساد والاستعداد؛ ولهذا قال المشايخ: مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة، وبهذا يكون معنى قوله تعالى: { في جهنم خالدون } [المؤمنون: 103] أي: في جهنم أنفسهم فلا يخرجون حيث { تلفح وجوههم النار } [المؤمنون: 104] أي: نار القطيعة.
{ وهم فيها كالحون } [المؤمنون: 104] عابسين عبوس المنقطعين عن مطالبهم المبعدين عن مقاصدهم يقال لهم: { ألم تكن آياتي تتلى عليكم } [المؤمنون: 105] أي: ألم يكن النصحاء يثبتون لكم بالدلائل الواضحة والنصائح الصادقة كيفية الطريق وسلوكه وكمالية الوصول إلى الحضرة { فكنتم بها تكذبون } [المؤمنون: 105] وفي عالم الطبيعة الحيوانية ما يكون قالوا: { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } التي كتبت علينا وقدرتها، { وكنا قوما ضآلين } [المؤمنون: 106] بإضلالك عن طريق الطلب حيث أخطأنا النور المرشرش في عالم الأرواح وإصابة غيرنا.
[23.107-111]
{ ربنآ أخرجنا منها } [المؤمنون: 107] أي: من جهنم أنفسنا { فإن عدنا } أي ميلان لعالم الطبيعة لمخالفة الشريعة وترك الطريقة { فإنا ظالمون } [المؤمنون: 107] لأنفسنا، { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون } [المؤمنون: 108] لأنكم أفسدتم الاستعداد فإنه ليس من شيئا أصلا بعدنا.
ثم بين فساده فقال: { إنه كان فريق من عبادي } [المؤمنون: 109] أي: خواص عبادي وهم العلماء بالله التجأ لله بالله { يقولون ربنآ آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } [المؤمنون: 109] يعني: الذين كانوا أهل الطلب وأرباب القلوب السائرين إلى الله يدعون الخلق إلى الله بطريق المعاملة مع الله يفصحون بمدحه وثنائه، الهادين للخلق إليه بإظهار آلائه ونعمائه { فاتخذتموهم سخريا } [المؤمنون: 110] فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العالية { حتى أنسوكم ذكري } [المؤمنون: 110] بهممهم ورد الولاية { وكنتم منهم تضحكون } [المؤمنون: 110] بالاستهزاء لما ماتت قلوبكم فإن كثرة الضحك تميت القلب، فمن لم يمت قلبه لم يضحك على أولياء الله تعالى.
{ إني جزيتهم اليوم } [المؤمنون: 111] أي: الأولياء { بما صبروا } على أذاكم واستهزائكم بهم { أنهم هم الفآئزون } [المؤمنون: 111] بالوصول والوصال، وفيه من الطرائف أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة من الخلة ينتفعون بإنكار منكريهم واستهزاء مستهزئيهم، وأهل الشقاوة كما يخسرون بمعاملاتهم الفاسدة مع أنفسهم يخسرون باستهزائهم وإنكارهم على الناصحين المرشدين.
[23.112-118]
ثم أخبر عن أحوال أهل الأهوال بقوله تعالى: { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } [المؤمنون: 112] يشير إلى أن ما ترى الخلق من أهوال القيامة وأفزاعها فينسون ما رأوا من الراحات والشدائد، مرة مقامهم تحت الأرض من أهوال يوم الفزع الأكبر حتى يخفى عليهم كما لبثوا { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العآدين } [المؤمنون: 113] الذين يعدون أنفاسنا وأيامنا وليالينا من الملائكة الموكلين علينا (العادين) يعني الملائكة قالوا: { إن لبثتم إلا قليلا } [المؤمنون: 114] بالنسبة إلى لبثكم في الجنة أو في النار أبد الآبدين { لو أنكم كنتم تعلمون } [المؤمنون: 114] أنه لا نهاية للبثكم فيها لأصلحتم أعمالكم التي تقربتم بها إلى الله تعالى.
{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } [المؤمنون: 115] أي: خلقناكم بلا معنى يضركم أو ينفعكم حتى عشتم كما تعيش البهائم فما تقربنا إلينا بالأعمال الصالحة، { وأنكم إلينا لا ترجعون } [المؤمنون: 115] باللطف أو القهر، فالرجوع باللطف أن تموتوا بالموت الاختياري من قبل الموت الاضطراري فيرجعوا من أسفل الطبيعة على قدمي الشريعة والطريقة إلى أعلى عليين عالم الحقيقة والرجوع بالقهر هو أن يرجعوا بعد الموت الاضطراري فتقادون إلى النار بسلاسل تعلقاتكم بشهوات الدنيا وزينتها وأغلال صفاتكم الذميمة.
{ فتعالى الله الملك الحق } [المؤمنون: 116] بنعوت الجلال، متوحد في إعزازه وعلو أوصافه وعظمة ذاته متفرد، فذاته حق وصفاته حق وقوله صدق ولا يتوجب لمخلوق عليه حق وما يفعل من أشياء بعباده فليس شيء منها بمستحق { لا إله إلا هو رب العرش الكريم } ما يحمد بالعرش ولكن يعزز العرش إلى أنه أضافه إلى رحمانيته إضافة خصوصية وإنما وصف العرش بالكريم لأنه تقسيم فيض كرم الحق ومنه تنقسم آثار الكرم والرحمة إلى ذرات المخلوقات.
{ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } [المؤمنون: 117] يشير إلى أن من يعبد الله حق عبادته يتقرب إليه حق تقربه بتقرب الله إليه بشواهد فضله وبراهين معرفته فإذا عبد غير الله تقرب إليه بأنواع التقربات لا بتقرب معبوده إليه بشاهد حق ولا برهان صدق على إلهيته { فإنما حسابه عند ربه } بأن يظهر عليه عند المؤاخذة بالعقاب { إنه لا يفلح الكافرون } من عذابه.
{ وقل رب اغفر وارحم } [المؤمنون: 118] الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم يشير إلى أنه مع كمال محبوبيته وغاية خصوصيته ورتبة نبوته رسالته محتاج إلى مغفرته ورحمته فكيف من دونه { ومن يدع مع الله إلها آخر } [المؤمنون: 118] وبقوله تعالى: { وأنت خير الراحمين } [المؤمنون: 118] يشير إلى أنه يحتمل تغير كل راحم بأن يسخط على مرحومه فيعذبه بعد أن يرحمه وأن الله جل ثناؤه إذا رحم على عبد لم يسخط عليه أبدا لأن رحمته أزلية لا تحتمل التغيير.
[24 - سورة النور]
[24.1-5]
{ سورة أنزلناها وفرضناها } [النور: 1] يشير إلى أن سور القرآن كلها منزلة سورة سورة كل سورة مشتملة على معان وأحكام أخرى، وهذه السورة أنزلناها وفرضناها أي: جعلناها فرضا واجبا قبول ما بينا فيها { وأنزلنا فيهآ آيات بينات } من براءة الصديقة ابنة الصديق حبيب رب العالمين، { لعلكم تذكرون } [النور: 1] تتعظون وتحترزون عن مثل هذا الإفك والبهتان العظيم.
وبقوله تعالى: { الزانية والزاني } [النور: 2] يشير إلى أن النفس إذا زنت وزناها بالتسليم لغير الله تسلمت لتصرفات الشيطان والدنيا فنهاها الله تعالى عنه، وإلى الروح إذا زنى وزناه تصرفه في الدنيا وشهواتها فنهاه الله عنها، { فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة } [النور: 2] من الجوع وترك الشهوات والمرادات تزكية لهما وتأديبا { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [النور: 2] يعني: إذا دعيتم محبة الله فابغضوا مخالفي أمره، ولا ترحموا أنفسكم ولا أرواحكم على مخالفة الله فإنهم يظلمون على أنفسهم لجهلهم بحالهم، وإن رحمتك عليهم في ترك تزكيتهم وتأديبهم كترك الوالد علاج ولده المريض شفقة عليه ليهلك، فيلزم من هذه الرحمة أمران مذمومان: أحدهما: الإعراض عن الله بالإقبال على شفقة مخالفيه، والثاني: السعي: في هلاك قاتل نفسه بألا يأخذ على يده ليهلك نفسه فأدبوهما.
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي: يجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا { وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين } [النور: 2] به يشير إلى شهود أهل الصحبة يذكر النفس، ويؤدب الروح بمشهد شيخ واصل كامل؛ ليحفظ من طرفي الإفراط ويهديه إلى صراطه المستقيم وهو صراط الله ويسلكه فيه.
وبقوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك } [النور: 3] يشير إلى ان الحذر من إخوان السوء والحث على مخالطة أهل الصحبة والإخوان في الله، فإن الطبع من التطبع يسرق وإن للناس أشكالا؛ فكل نظير مع شكله، وكل يساكن شكله، كما قال بعضهم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن مقتد
أهل الفساد الفساد يجمعهم وإن تباعد مزارهم، وأهل السداد السداد يجمعهم وإن تناءت ديارهم { وحرم ذلك على المؤمنين } أي: مخالطة إخوان الشر لئلا يؤثر فيهم فساد حالهم وسوء أخلاقهم.
ثم أخبر عن أرباب الغفلات في رمي المحصنات بقوله تعالى: { والذين يرمون المحصنات } [النور: 4] يشير إلى غاية كرم الله ورحمته على عباده بأن يستر عليهم ما أراد بعضهم إظهاره على بعض، ولم يظهر صدق أحدهما أو كذبهما، فلذا أوجب عليهم الحدود وقبول شهادتهم أبدا وسماهم الفاسقين، وليتصف بصفاته الستارية والكريمية والرحيمية فيما يسترون عيوب إخوانهم المؤمنين ولا يتبعون عوراتهم، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على من يتبع عورات المسلمين فإنه من يتبع عوراتهم يفضحه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وقال صلى الله عليه وسلم:
" من ستر عورته ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ".
وفي قوله تعالى: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } [النور: 5] إشارة إلى كمال عتابه في حق عباده بانه يقبل توبتهم من ارتكاب الذنوب العظام، وفيه إشارة إلى أن بمجرد التوبة لا يكون مقبولا إلا بشرط إزالة حاله وإصلاح أعماله وأحواله { فإن الله غفور رحيم } [النور: 5] لمن تاب وأصلح حاله.
[24.6-9]
وبقوله تعالى: { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } [النور: 6] ويشير إلى ما ذكر في تحقيق الآية المتقدمة وبقوله تعالى: { والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين } [النور: 7] يشير إلى غاية التهديد والوعيد لمن ستر الله عليه؛ لئلا يفضحه وهو إن كان من الكاذبين اختار عذاب الآخرة الباقية على عذاب الدنيا الفانية، فأوجبه اللعن وهو الطرد عن الباب وعالية الإبعاد.
وبقوله تعالى: { ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } [النور: 8] يشير إلى أن من عواطف إحسانه أنه دفع العذاب عن العبد عاجلا بطريق الشهادة بالله لمن الكاذبين وفتح عليه باب الرجاء بأن يدفع عنه العذاب آجلا كما دفع عنه عاجلا، وبقوله تعالى: { والخامسة أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين } [النور: 9] يشير إلى تخويف العبد باستحقاق غضب الله إن اختار عذاب الآخرة على عذاب الدنيا ليكون العبد بين الخوف والرجاء.
[24.10-13]
وبقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم } [النور: 10] يشير إلى كمال فضله على عباده بأن أجلهم بالعقوبة إلى الآخرة لعلهم يتوبون في الدنيا فغفر لهم وستر عليهم عاجلا، ودفع عنهم الحد باللعان حكمة منه، والحكمة في ذلك أنه كما ستر في الدنيا ولم يفضحهم بإظهار صدقهم وكذبهم أجلهم بالعقوبة لدرك التوبة كذلك جعل سنة اللعان باقية بين المسلمين ليكون حكمة باقية بينهم.
ثم أخبر عن عصبة قصة الإفك بقوله تعالى: { إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم } [النور: 11] يشير إلى أنه تعالى لا يجري على عباده إلا ما يكون حقيقة اللطف، وإن كان في صورة القهر تأديبا وتهذيبا لهم وموجبا لرفعة درجاتهم وزيادة في رتبتهم، وأن قصة الإفك وإن كانت في صورة القهر كانت في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق عائشة وأبويها وجميع الصحابة رضي الله عنهم ابتلاء وامتحانا لهم وتربية وتهذيبا، فإن البلاء للولاء وكاللهب بالذهب، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" يبتلى الرجل على قدر دينه "
فإن الله غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض يجري الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه ويرده إلى حضرته،
" وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فساكنها وقال: " يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة " ".
وفي بعض الأخبار أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك، فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك حتى رد رسول الله قلبه عنها إلى الله تعالى بالخلال عقد حبها عن قلبه، وردت عائشة - رضي الله عنها - قلبها عنه إلى الله حيث قالت لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك فكشف صبابة تلك المحبة وأزال الشك وأظهر براءة ساحتها حين أدبهم وهذبهم وقربهم وزاد في رفع درجاتهم وقرباتهم { لكل امرىء منهم } من أصحاب الإفك { ما اكتسب من الإثم } على حسب سعايتهم وفساد ظنهم وهتك حرمة حرمانيتهم { والذي تولى كبره } في الخوض ابتداء.
{ منهم له عذاب عظيم } يؤاخذ بجرمه وهو خسارة الدنيا والآخرة لأنه
" من سن سنة سيئة فله وزرها وزر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
وفيه إشارة إلى أخرى وهي أن الطريق إلى الله تعالى طريقان أهل السلامة وطريق أهل الملامة، فطريق أهل السلامة: ينتهي إلى الجنة ودرجاتها؛ لأنهم محبوسون في حبس وجودهم، طريق أهل الملامة: بطريق أهل السلامة ينتهي إلى الله تعالى؛ لأن الملامة مفتاح باب حبس الوجود وبها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس، فعلى قدر ذوبان الوجود يكون الوصول إلى الله تعالى فأكرم الله تعالى عائشة - رضي الله تعالى عنها - يخرجه من ظلمات وجوده المخلوقة إلى نور القدم.
بقوله تعالى: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذآ إفك مبين } [النور: 12] يشير إلى أن شرط الإيمان شرك الاعتراض على حرم النبي صلى الله عليه وسلم وترك بسط اللسان بالسوء إليها وظن الخير في حقها، وأن المؤمنين معاتبون على المبادرة إلى ظن السوء بها، وجعل من أمارات الإيمان أن ينظر إلى هذه القصة بنور الإيمان فيعرفوا بإفك وبهتان وعلموا أنه إفك { لولا جآءوا عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولئك عند الله هم الكاذبون } [النور: 13] وبأن يأتوا بالشهادة.
[24.14-21]
بقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في مآ أفضتم فيه عذاب عظيم } [النور: 14] يشير إلى أن أهل العناية في الأزل المنظورين من الفضل والرحمة لا يتغير في أحوالهم، وإن يجري الله عليهم الجرائم العظام الموجبة للعذاب العظيم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا: فيحرقهم بنار الغيرة ويهلكهم للغيرة ويهلكهم للعبرة.
وأما في الآخرة: فيهلكهم بنار القطيعة ويهلكهم بالإبعاد عن الحضرة، ولولا أن الله ينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه لعله لم يذكر هذه المبالغة في أمرهم فإن الذي يقول الأجانب والكفار في وصف الحق حرمه فذلك عظيم عند الله، { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [النور: 15] من عزة الرسول وحرمة حرمه { وتحسبونه هينا } هتك ستر حرمه { وهو عند الله عظيم } [النور: 15].
{ ولولا إذ سمعتموه } [النور: 16] من حيث الإفك هلا { قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهذا } [النور: 16] ولا يجوز لنا أن نظن بمثل هذا { سبحانك } تنزيها لحرم النبي صلى الله عليه وسلم { هذا بهتان عظيم } عند الله التقاول به { يعظكم الله } [النور: 17] فضلا منه ورحمة إذا اقتصر في مجازاتكم على الموعظة { أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } [النور: 17] فيه إشارة إلى أن العود إلى مثل هذا يخرجهم عن الإيمان { ويبين الله لكم الآيات } [النور: 18] أي: العلامات على خروج الإيمان ببسط اللسان في عائشة رضي الله عنها بعد هذا { والله عليم } بمن يدعي الإيمان ظاهرا وهو الظاهر في السر { حكيم } فيما قضى وقدر لعباده المؤمنين والكافرين.
ثم أخبر عن تهديد المعاندين الغافلين بقوله تعالى: { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } [النور: 19] يشير إلى غاية كرم الله ورحمته وفضله على عباده بأن هذا الصنيع ذكره من هؤلاء ليس من صنيع أهل الإيمان، فإن صنيع أهل الإيمان ما قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضا "
وقال: صلى الله عليه وسلم:
" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كنفس واحدة إذا اشتكى عضو منها تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
ومن أحب إشاعة الفاحشة { في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } ليس من الإيمان في شيء وإن لهؤلاء في استحقاق الذم أقبح منزلة، وأشد وزرا حيث أحبوا افتضاح المسلمين، ومن أركان الدين مظاهرة المسلمين، وإعانة أولي الدين، وإرادة الخير لكافة المؤمنين، والذي يود فتنة للمسلمين فهو شر الخلق، ثم مع هذه الأوصاف التي هي في غاية الذمامة واستحقاقهم العذاب { أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } فالله يفصل بينهم ويرحمهم ويزكيهم عن أوصافهم الذميمة.
كما قال الله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم * يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشآء } [النور: 20-21] بفضله ورحمته رعاية لحق الإيمان وحق الصحبة وحق الهجرة { والله سميع } بما قالوا من حديث الإفك { عليم } بالذي قال مسطح البدري، فإن الله اطلع على بدر وقال:
اعملوا ما شئتم
[فصلت: 40]، فإني غفرت لكم أفأغفر لمسطح بعد أن كذبه الله تعالى.
[24.22-25]
ثم قال تعالى في حقه مع الصديق الأكبر: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } [النور: 22] يعني: أن لم تعفوا عن مقالته ولم تصفحوا عن صنيعه لا يغفر الله لكم { والله غفور } لذنب مسطح { رحيم } [النور: 22] على أهل بدر.
ثم { إن الذين } لم يكنوا من أهل بدر ومن أصحاب الإفك { يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } يعني: عائشة رضي الله عنها { لعنوا } أي: طردوا عن الحضرة { في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } بنار القطيعة إلى الأبد { يوم تشهد عليهم } على ما قالوا { ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [النور: 24] تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا في حديث الإفك، وفيه إشارة أخرى وهي أنها تشهد على المذنبين بذنوبهم وتشهد للمطيعين بطاعتهم.
فاللسان: يشهد على الإقرار وقراءة القرآن.
واليد: تشهد بأخذ المصحف.
والرجل: تشهد بالمشي إلى المسجد.
والعين: تشهد بالبكاء.
والأذن: تشهد باستماع كلام الله تعالى، ويقال: شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وشهادتها في الجنة اليوم معجلة من صفرة الوجه إذا بدا المحبوب وشحوب اللون ونحافة الجسم وانسكاب الدموع وخفقان القلب وغير ذلك.
{ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } [النور: 25] يجازيهم على قدر استحقاقهم للعابدين بالجنان والمثوبة على توفية أعمالهم وللعارفين بالوصلة والقربة على تصفية أحوالهم، وهؤلاء لهم علوا الدرجات وهؤلاء لهم الأنس بعزيز المشاهدات ودوام المناجاة وتصير المعارف ضرورية، فيجدون المعافاة من النظر وتذكره ويستريح القلب من وصفي تردده وتعززه باستغنائه عن تبصره، ويقال: لا يشهدون غدا إلا الحق فهم قائمون للحق بالحق يبين لهم أسرار التوحيد وحقائقه ويكون القائم عنهم وإلا خذلهم عنهم من غير الذين يردهم إليهم.
[24.26-27]
ثم أخبر عن خبيثات المخبثات بقوله تعالى: { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات } [النور: 26] يشير إلى خباثة الدنيا وشهواتها أنها للخبيثين من أرباب النفوس المتمردة والخبيثون من أهل الدنيا المطمئنون بها للخبيثات من مستلذات النفس ومشتهيات هواها معناه أنها لا تصلح إلا لهم وأنهم لا يصلحون إلا لها، وأيضا الخبيثات من الحطام الفانية لذوي الهمم الدنية، وأيضا الخبيثات من الخبث وهي الحظوظ والمنى لأصحابها والساعين لها والساعون لها غير ممنوعي أحدهما من صاحبه، فالصفة للموصوف ملازمة وأيضا الخبيثات من النعمات الدنيوية للخبيثين من المنتمين من أهل الدنيا أيضا الخبيثات من الأهواء والبدع للخبيثين من المبتدعين من أهل الأهواء وأيضا الخبيثات من الأخلاق الذميمة والأوصاف الردية للخبيثين والموصوفين بها وأيضا الخبيثات من الملوثات بلوث الحدوث للخبيثين الملوثين بلوث الحدوث.
{ والطيبات للطيبين } [النور: 26] الطيبات من الأعمال الصالحات للطيبين { والطيبون للطيبات } [النور: 26] كقوله تعالى:
ولذلك خلقهم
[هود: 119].
وقال صلى الله عليه وسلم:
" اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".
وقال:
" خلقت الجنة وخلقت لها أهل وخلقت النار وخلقت لها أهل "
أيضا الطيبات من الأحوال وهي تحقيق المواجيد بما هي حق والحق مجردا عن الحظوظات النفسانية للطيبين من الرجال وهم الذين سمت همتهم عن كل مبتذل خسيس، ولهم نفوس تسموا إلى المعالي، وهي التجمل بالتذلل لمن له العزة، ويهيء الطيبات من الأخلاق الكريمة للطيبين من أرباب القلوب السليم وأيضا الطيبات المطهرات من لوث الحدوث بتجلي صفات القدم للطيبين الفانين عن لوث الوجود الباقين بطيب الجود.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب "
{ أولئك مبرءون } من لوث الحدوث { مما يقولون } أهل الوجود في إثبات وجودهم بحسب سرهم { لهم مغفرة } يعني: وجودهم المجازي مستور بستر الوجود الحقيقي { ورزق كريم } ولهم هذا المقام ولهم رزق من كرم الكريم.
وبقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } [النور: 27] يشير إلى ترك الدخول والسكون في البيوت المجازية الفانية من الأجساد غير البيوت الحقيقة التي هي لها دار القرار { حتى تستأنسوا } [النور: 27] إليها وتطمئنوا بها بل { وتسلموا على أهلها } سلام الوداع للسلم والخلاص منهم { ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون } [النور: 27] أي: تتعظون ولا تركنون إلى الدنيا الفانية وشهواتها، وترجعون إلى الوطن الحقيقي الذي حبه من الإيمان.
[24.28-30]
{ فإن لم تجدوا فيهآ أحدا } [النور: 28] يشير إلى فناء أصحاب البيت وهو وجود الإنسانية { فلا تدخلوها } بتصرف الطبيعة الموجبة للوجود { حتى يؤذن لكم } [النور: 28] بأمر من الله بالتصرف فيها للاستقامة كما أمر { وإن قيل لكم ارجعوا } [النور: 28] إلى ربكم { فارجعوا } [النور: 28] ولا تتصرفوا فيها تصرف المقيمين بها { هو أزكى لكم } لئلا تقعوا في فتنة من الفتن الإنسانية وتكونوا مع الله { والله بما تعملون } من الرجوع إلى الله، وترك تعلق البيوت الجسمانية { عليم } أنه خير لكم.
وبقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } [النور: 29] يشير إلى جواز تصرف السالك الواصل في بيت الجسد الذي غير مسكون فيه صاحبه وهو الإنسانية لفنائها عن وجودها بإفناء الحق تعالى: { فيها متاع لكم } [النور: 29] من الآلات والأدوات التي تحتاجون إليها عند السير في عالم الله ولتحصيلها بعث الأرواح أو أسفل سافلين والأجساد: { والله يعلم ما تبدون } [النور: 29] من تصرفاتكم بالآلات الإنسانية { وما تكتمون } [النور: 29] نياتكم أنها الطلب مرضاة الله أو لهوى نفوسكم.
ثم أخبر عن أسرار غض الأبصار قال تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } [النور: 30] يشير إلى غض أبصار الظواهر عن المحرمات، وأبصار النفوس عن شهوات الدنيا ومألوفات الطبع ومستحسنات الهوى، وأبصار القلوب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة، وأبصار الأسرار عن الدرجات والقربات، وأبصار الأرواح عن الالتفات بما سوى الله، وأبصار الهمم عن العلل بألا يروا نفوسهم أهلا للشهود من الحق سبحانه غيره عليه تعظيما وإجلالا { ويحفظوا فروجهم } [النور: 30] فروح الظاهر عن المحرمات وفروج البواطن عن التصرفات في الكونين لعلة دنيوية أو أخروية { ذلك أزكى لهم } [النور: 30] صيانة عن تلوث الحدوث ورعاية للحقوق عن شوب الحظوظ { إن الله خبير بما يصنعون } يعملون للحقوق والحظوظ.
[24.31]
{ وقل للمؤمنات } [النور: 31] من النفس والقلب والروح { يغضضن من أبصارهن } عما مر ذكره ولأن المطالبة على النساء كالمطالبة على الرجال؛ لشمول تكليف الجنسين، فالواجب عليهن ترك المحظورات والندب والنفس لهن صون القلب عن الشواغل والخواطر الدنية، ثم إن ارتقينا بالهمم العالية، وهذه الحالة فالتعامي بقلوبهن عن غير المعبود، فإن للنساء نصيب، ويقال: قرن الله النهي عن النظر في المحارم بذكر حفظ الفرج فقال: { ويحفظن فروجهن } [النور: 31] تنبيها على عظم خطر النظر فإنه يدعو إلى الإقدام على الفعل وقال صلى الله عليه وسلم:
" النظر سهم من سهام إبليس "
سهمي الذي لا يخطئ النظر وأنشدوا:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
وقالوا: من أرسل طرفه اقتضى حتفه.
{ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } [النور: 31] يشير إلى كتمان ما زين الله به سرائرهم من صفاء الأحوال وزكاة الأعمال، فإن بالإظهار بتقلب الزينة شيئا إلا ما ظهر منها بتصرف ولرد حق أو يظهر عن واحد منهم نوع كرامة تكلف فلذلك مستثنى؛ لأنه غير مؤاخذ عالم يكمن بتصرفه وتكلفه { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } [النور: 31] جيوب قلوبهن { ولا يبدين زينتهن } [النور: 31] أي: يخفون الأحوال { إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسآئهن } [النور: 31] يشير به إلى الشيوخ المتصرفين فيهم والأحوال المعاونين لهم والمريدين من المتمسكين بهم { أو ما ملكت أيمانهن } [النور: 31] يعني: من تملكوا على نفوسهم بحسن الإرادة.
{ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } [النور: 31] أي: لأتباعهم الذين ليسوا من أهل الدنيا أرباب المناصب، فيكون للنفس في إظهار الأحوال والأسرار ثم إلى طلب الجاه عندهم والرئاسة على غيرهم.
{ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء } [النور: 31] وهم أطفال الطريقة من أهل الإرادة غير مطلع على أسرار الشيوخ لهدايتهم إلى سبيل الرشاد وتشويقا لهم إلى كمالات العباد على نية النصيحة والمعاونة على البر والتقوى { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } [النور: 31]، ولا يعتمدوا إلى قول وفعل وإظهار حال ليعلم ما هو المخفي من أحوالهم على الأغيار.
وبقوله تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون } [النور: 31] يشير إلى أن التوبة كما هو واجبة على المبتدئ عن ذنوب مثله فهي لازمة للمنتهي عن ذنوب مثله، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في كل يوم مائة مرة "
فتوبة المبتدئ من المحرمات وتوبة المتوسط من ذوائب المحالات وتوبة المنتهي بإعراض عما سوى الله بكليته والإقبال على الله بكليته { لعلكم تفلحون } [النور: 31] ففلاح المبتدئ من النار إلى الجنة والمتوسط من أرض الجنة إلى أعلى عليين مقامات القرب ودرجاتها، والمنتهى من جنس الوجود المجازي إلى الوجود الحقيقي ومن ظلمة الخليقة إلى نور الربوبية.
[24.32-34]
ثم أخبر عن صلاح النكاح بقوله تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } [النور: 32] يشير إلى المريدين الطالبين وهم مجرومون عن خدمة شيخ يتصرف فيهم ليودع في أرحام قلوبهم النطفة من طلب الولاية، فندبهم إلى طلب شيخ من الرجال البالغين الواصلين الذين يصل بهم الولادة الثانية في عالم الغيب بالمعنى، وهو طفل الولادة، كما أن ولادتهم الأولى حصلت في عالم الشهادة بالصورة ليكون ولوجهم في الملكوت كما أن عيسى عليه السلام لمن اتبعك؛ لأن كل متابع مؤمن ولم يكن كل مؤمن متابع لئلا يعتبر المؤمن بدعوى الإيمان بمعزل عن حقيقته التي لا تحصل إلا بالمتابعة.
[26 - سورة الشعراء]
[26.216-223]
ثم قال: { فإن عصوك } [الشعراء: 216] يعني: عشيرتك { فقل إني بريء مما تعملون } [الشعراء: 216] أي: على خلاف الشريعة شريعة ولا تبرأ منهم، وقل لهم قولا معروفا بالنصح لعلهم يرجعون إلى طاعتك وقبول الدعوة منك { وتوكل } [الشعراء: 217] في جميع حالاتك { على العزيز } الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه { الرحيم } الذي يرحم من توكل عليه فالفطرة والنظرة ولا تتوكل على العشيرة والأتباع { الذي يراك حين تقوم } [الشعراء: 218] أي: يرى قصدك ونيتك وعزيمتك عند قيامك بالأمور كلها، وقد اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخلق، فإن من علم أنه يشهد الحق راعى دقائق حالاته وخفايا أحواله مع الحق.
وبقوله: { وتقلبك في الساجدين } [الشعراء: 219] هون عليه معاناة مشاق العبادات لإخباره برؤية له، ولا مشقة لمن يعلم أنه لمرأى مولاه ومحبوبه، وإن حمل الجبال الرواسي يهون لمن يحملها على شفرة من جفن عينه على مشاهدة ربه بمرأى منا حين نقلبك في عالم الأرواح في الساجدين بأن خلقنا روح كل ساجد من روحك { إنه هو السميع } [الشعراء: 220] في الأزل مقالتك:
" أنا سيد ولد آدم "
ولا في لأن أرواحهم خلقت من روحك العليم باستحقاقك بهذه الكرامة.
ثم قال: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } [الشعراء: 221-222] لأنهم من جنسهم وبينهم مناسبة بالكذب والافتراء وقطع الطريق على الطلبة وإضلال الخلق بالوسواس، كما قال تعالى:
يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس
[الناس: 5-6] ولأنهم خلقوا للنار لقوله:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف: 179] { يلقون السمع } [الشعراء: 223] بعضهم إلى كلام بعض { وأكثرهم كاذبون } [الشعراء: 223] من السامعين.
[26.224-227]
ثم أخبر عن أهل الكذب والافتراء أكثرهم من الشعراء بقوله تعالى: { والشعرآء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } [الشعراء: 224-225] يشير إلى أن الشعراء بحسب مقامتهم ومطرح نظرهم ومنشأ قصدهم ونياتهم إذا اسلكوا على أقدام التفكر مفاوز التذكر في طلب المعاني ونظمها وترتيب عروضها وقوافيها، وتدبير تجنيسها وأساليبها يتبعهم الشياطين الغاوون ويوقعونهم في الأباطيل والأكاذيب فيهيمون في كل واد من المدح والذم والهجاء والكذب والفحش والشتم واللعن والافتراء والدعاء والتكبر والتفاخر والتجاسر والعجب والإرادة وإظهار الفضل والدناءة والخسة والطمع والتكدي والذلة والمهانة وأصنافه والأخلاق الرذائل والطعن في الأنساب والأغراض وغيرك من الآفات التي من توابع الشعر ليوصلوا بها إلى أسفل دركات الجحيم وبأنهم يقولون عند التصلف والدعاوي ما يفعلون.
وبقوله: { إلا الذين آمنوا } [الشعراء: 227] إلى قوله: { من بعد ما ظلموا } [الشعراء: 227] يشير إلى أنه كمال أرباب النفوس في الشر سلوك على أقدام التفكر؛ ليصلوا إلى أسفل دركات الجحيم كذلك لأرباب القلوب في الشعر سلوك على أقدام التفكر بنور الإيمان وقوة العمل الصالح وتأييد الذكر الكثير ليصلوا إلى أعلى درجات القرب، وتؤيدهم الملائكة بدقائق المعاني بل يوفقهم الله لاستخلاف الحقائق ويلهمهم بالألفاظ [الدقائق التي] فيه الإلهام في كل واد من المواعظ الحسنة والحكم البالغة وذم الدنيا وتركها وتزيين الآخرة وطلبها وتشق العباد من المواعظ وتحبيبهم إلى الله وتحبيب الله إليهم وشرح المعارف، وبيان الوصول والحشر على السير والتحذير عن الآفات القاطعة للسير، وذكر الله وثنائه ومدح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وهجاء الكفار استنفارا كما قال صلى الله عليه وسلم لحسان:
" اهجي المشركين قال جبريل معك "
{ وسيعلم الذين ظلموا } [الشعراء: 227] بالشعر المنهي عنه { أي منقلب ينقلبون } [الشعراء: 227] يرجعون.
[27 - سورة النمل]
[27.1-6]
{ طس } [النمل: 1] يشير بطائه إلى طيب قلوب محبيه وبالسين إلى سر بينه وبين قلوب محبيه لا يسعهم فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأيضا يقسم بطاء طلب قلوب طالبيه وسين سلامة قلوبهم عن طلب ما سواه { تلك آيات القرآن } [النمل: 1] أي: بدلالات القرآن وشواهد أنواره { وكتاب مبين } وكتاب فيه بيان كيفية السلوك وطريق الوصول بجذبة طالبيه كما قال:
" إلا من طلبني وجدني "
من طلبني بدلالات القرآن وجدني بالعيان، فإن القرآن { هدى } [النمل: 2] أي: هاديا إلى الله { وبشرى للمؤمنين } بالوصول إلى الله بهدايته { الذين يقيمون الصلاة } [النمل: 3] يديمون بالمواصلات ويستقيمون في المعارج بحقائق الصلاة لنيل القربات { ويؤتون الزكاة } [النمل: 3] ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وسكناتهم وحركاتهم الزكاة بما يقومون في حقوق المسلمين أحسن مقام، وينوبون عن ضعفائهم أحسن مناب.
{ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم } [النمل: 4] يشير به إلى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لا يؤمنون لأنا { زينا لهم أعمالهم } الدنيوية وحركاتهم النفسانية الحيوانية في أعين نفوسهم فعميت عيون قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها؛ لأن عمى القلوب مودعة في بصارة النفوس وعمى النفوس مودعة في بصيرة القلوب، فصمت أذان قلوبهم حين عميت عيون قلوبهم فلم يسمعوا دعوة الأنبياء بسمع القبول، فلم يؤمنوا وذلك لأن لصورة الإنسان آلة للبصر دون آلة السمع فيحتمل أن تختل آلة البصير فلا يرى بها شيئا، وتكون آلة السمع بحالها فيسمع بها ولكن معنى الإنسان ملكوتي لا يحتاج إلى آلة البصر والسمع؛ لأنه بالصفة التي يبصر أيضا يسمع وبها يتكلم وبها يعقل وبها يفقه، وإن أثبت الله له آلات السمع والبصر والفقه والعقل كما أثبت للصورة، ولكن أثبت لفهم الكلام.
ثم بالإشارة بين أنها واحدة بقوله تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ
[الأعراف: 179] ثم أشار بقوله تعالى:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171] ليعلم أنه لا يكون في عالم المعنى أعمى وإلا يكون أصم وأبكم تفهم إن شاء الله تعالى، وبهذا المعنى أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:
" حبك الشيء يعمي ويصم فبحب الدنيا عميت عين القلب وصمت أذنه ".
كما قال تعالى:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46] ثم اعلم أن من لم يعالج عمى قلبه بأدوية الشريعة وصفة الطريقة؛ ليرى علم الحقيقة هاهنا لا يقبل على العلاج والتداوي في الآخرة.
كما قال تعالى:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء: 72] يعني عن رؤية عالم الحقيقة والوصول إليه، فهم يعمهون في الدنيا يتحيرون في عالم الحواس لا يهتدون إلى عالم الملكوت وفي الآخرة يترددون في نار جهنم
كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون
[السجدة: 20] وذلك معنى قوله: { أولئك الذين لهم سوء العذاب } [النمل: 5] يعني: عمى القلوب وصممه وبكمه { وهم في الآخرة هم الأخسرون } [النمل: 5] لأنهم خسروا الدنيا والآخرة ولم يربحوا المولى وذلك لأن قوما من المختصين بتوفيق يحبهم ويحبونه قد خسروا الدنيا والآخرة بتركها وعدم الالتفات إليها في طلب المولى؛ فربحوا المولى فلهذا لما وجد أبو يزيد في البادية قحف رأس مكتوب عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبل عليه، وقال: هذا رأس صوفي.
فلما أخبر الله تعالى عن مقامات المؤمنين والكافرين وشرح أحوالهم أخبر عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم وحاله بقوله: { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } [النمل: 6] يعني: لا من لدن جبريل به يشير إلى أنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يتلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل والرسالات من لفظه وحيا، وإنك وإن كنت تلقي القرآن بتنزيل جبريل على قلبك تلقى حقائق القرآن من لدن حكيم لقلبك بحكمه بها القرآن وهي صفة القائمة بذاته، فعلمك حقائق القرآن وبيانه وهو العلم اللدني عليم حكيم جعله بحكمته مستعدا لقبول الفيض القرآن بلا واسطة عليم هو أعلم حيث يجعل رسالته.
[27.7-14]
ثم أخبر عن هدى موسى عليه السلام بقوله تعالى: { إذ قال موسى لأهله } [النمل: 7] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا } [النمل: 7] يشير إلى موسى القلب أنه لما كوشف بأنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة، قال لأهله أي: النفس وصفاتها { إني آنست نارا } بوادي أيمن السر، كما قال بعضهم: يبدو لي من الصغار برق يخبرني بها قرب المزار { سآتيكم منها بخبر } عن كيفية الطريق { أو آتيكم بشهاب قبس } من نار النور الإلهية { لعلكم تصطلون } [النمل: 7] بتلك النار فتخلصون من جمود الطبيعة وظلمة الهوى.
{ فلما جآءها } [النمل: 8] على قدمي الشوق وصدق الطلب { نودي } من الشجرة الروحانية { أن بورك من في النار } نار المحبة أو في طلب نار الموقدة التي تطلع على الأفئدة { ومن حولها } أي: ومن يدور حول هذه النار كالفراش فإنه يقع فيها { وسبحان الله رب العالمين }.
{ يموسى إنه } [النمل: 9] أي: المنادي { أنا الله العزيز الحكيم } [النمل: 9] الذي السبيل إليه سدوا لطلب ود الحكيم الذي بالحكمة الأزلية يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
وبقوله: { وألق عصاك } [النمل: 10] يشير إلى أن من سمع نداء الحق وشاهد أنوار جماله يلقى من يد همته كل ما كان متوكأ له غير الله فلا يتوكأ إلا على فضل الله وكرمه { فلما رآها تهتز كأنها جآن } [النمل: 10] يشير إلى أنه لما ألقى متوكأه وكوشف بمعناه رآه جانا وثعبانا ليعلم أن كل متوكل غير الله في الصورة ثعبان له في المعنى فلما عاينه { ولى مدبرا ولم يعقب } [النمل: 10] ولم يرجع إليه بعد عرفانه أي: ففروا إلى الله فرار خائف من الاسترجاع فيقول الله: { يموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون } [النمل: 10] يعني: من فر إلى الله عما سواه يؤمنه الله مما سواه ويقول له لا تخف فإنك لدي ولا يخاف من القلوب المنورة الملهمة المرسلة إليها الهدايا والتحف من ألطافي { إلا من ظلم } [النمل: 11] نفسه بالرجوع إلى غيري { ثم بدل حسنا بعد سوء } [النمل: 11] بأن يفر إلي بعد سوء رجوعه إلى غيري { فإني غفور } [النمل: 11] غفر ذنب رجوعه { رحيم } [النمل: 11] إذا فر أتى أجله ولا إرادة.
{ وأدخل يدك } [النمل: 12] أي: يد همتك { في جيبك } [النمل: 12] حيث قناعتك { تخرج بيضآء } [النمل: 12] نقية من لوث الدارين { من غير سوء } [النمل: 12] يصيبك من قناعتك وخلو يدك عما سوى الحق { في تسع آيات } [النمل: 12] من أسباب هلاك { إلى فرعون } النفس { وقومه } أي صفاتها { إنهم كانوا قوما فاسقين } [النمل: 12] خارجين عن ربقة العبودية والانقياد.
{ فلما جآءتهم آياتنا مبصرة } من الواردات والشواهد واللوامع والطوالع { قالوا هذا سحر مبين } [النمل: 13] فلم يؤمنوا { وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم } [النمل: 14] بتلك الشواهد أنها حق، ولكن النفس وصفاتها المتمردة من خاصية طبعها يجحد بها { ظلما وعلوا } إباء واستكبارا شيطانيا جبلت النفوس عليها { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } الذين أفسدوا استعداد الإنسانية لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة الذي خلق في أحسن تقويم، فكان عاقبتهم أنهم نزلوا منازل الحيوانات من الأنعام والسباع وقرنوا مع الشيطان في الدرك الأسفل من النار.
[27.15-18]
ثم أخبر عن إعداد من لم يفسد الاستعداد بقوله تعالى: { ولقد آتينا داوود وسليمان علما } [النمل: 15] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله { ولقد آتينا داوود وسليمان علما } [النمل: 15] يشير إلى داود الروح وسليمان القلب وعلمهم إلهام الرباني وعلم الأسماء الذي علمه الله آدم عليه السلام والعلم اللدني لمن هو أهله { وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } [النمل: 15] أي: على الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية، وفيه إشارة إلى تفضيل خواص الإنسان على خواص الملك حيث قال:
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا
[الإسراء: 70] أراد بالكثير الجميع كما أراد بقوله: { فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } [النمل: 15] أي: على جميع من عباده المؤمنين لأنه لا ريب في أن فضيلة الأنبياء على جميع المؤمنين لا على بعضهم، وإذا كان الكثير بمعنى الجميع يتناول الملائكة وغيرهم.
وبقوله: { وورث سليمان داوود } [النمل: 16] يشير إلى أن سليمان القلب يرث من داود الروح، فإن كل وارد وإلهام وإشارة ووحي وفيض رباني يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح ومن كان لطافته يعبر عنه فيصل إلى سليمان القلب؛ لأن القلب بصفائه يقبله وبكثافته وصلابته يحفظه، فلهذا شرف القلب على الروح ولذلك كان سليمان أقضى من داود وقال صلى الله عليه وسلم:
" يا واصبة استفت قلبك "
ولم يقل استفت روحك.
{ وقال يأيها الناس } [النمل: 16] يخاطب النفوس الناسية { علمنا منطق الطير } أي: الخواطر الملائكية والروحانية { وأوتينا من كل شيء } من الاستعداد الفطري، وأسباب السلوك وما يحتاج إليه في الوصول إلى الحضرة { إن هذا لهو الفضل المبين } الذي قال تعالى:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 21] { وحشر لسليمان جنوده من الجن } [النمل: 17] أي: صفة الشيطانية { والإنس } أي صفة النفسانية، { والطير } أي: صفة الملكية { فهم يوزعون } عن طبيعتهم بالشريعة ليسخروا لسليمان القلب وينقادوا له { حتى إذآ أتوا على واد النمل } [النمل: 18] وهو هدى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها { قالت نملة } [النمل: 18] وهي النفس اللوامة.
{ يأيها النمل } [النمل: 18] أي: الصفات النفسانية { ادخلوا مساكنكم } [النمل: 18] محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس { لا يحطمنكم } [النمل: 18] لا تهلكنكم { سليمان } [النمل: 18] القلب { وجنوده } [النمل: 18] المسخرة له { وهم لا يشعرون } [النمل: 18] لأنهم الحق وأنتم الباطل، فإذا جاء الحق وزهق الباطل كما أن الشمس إذا طلعت تبطل الظلمة وتنفيها وهي لا تشعر بحال الظلمة وما أصابها، وقد أكرم الله سليمان القلب بكرامة على المنطق وفهم كل ناطق من عالم الروحانية والنفسانية.
[27.19-22]
فلما سمع كلام نملة النفس تعجب منها { فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي } [النمل: 19] بتسخير جنودي لي { وعلى والدي } [النمل: 19] وهما الروح والجسد فأنعمت على والدي الروح بإفاضة الفيض الرباني، وعلى والتي الجسد باستعماله في أركان الشريعة { وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني } [النمل: 19] بجذبات ألطافك { في عبادك الصالحين } [النمل: 19] في مقام العبودية المختصة بالأنبياء والمرسلين والأولياء المتقين، كما أدخلت نفوسهم عنايتك في مقام العبودية المضافة إلى حضرتك بقولك
فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 29-30].
ثم أخبر عن تفقد أهل التعبد بقوله تعالى: { وتفقد الطير } [النمل: 20] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله { وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد } [النمل: 20] يشير إلى أن الواجب على الملوك التيقظ في مملكتهم وحسن قيامهم وتكلفهم بأمور رعاياهم تفقد أصغر رعيتهم، كما يتفقدون عن أكبرها بحيث لم يخف عليهم غيبة الأصاغر والأكابر منهم، كما أن سليمان عليه السلام تفقد حال أصغر طير من الطيور، ولم يخف عليه غيبته ساعة، ثم من غاية شفقة على الرغبة أحال النقص والتقصير إلى نفسه فقال: { مالي لا أرى الهدهد } [النمل: 20] وما قال ما للهدهد لم أره ولرعاية مصالح الرعاية وتأديبهم قال: { أم كان من الغآئبين } [النمل: 20] يعني: من الذين غابوا عني بلا إذني.
ثم هدده إن لم يكن له عذر لغيبته فقال: { لأعذبنه عذابا شديدا } [النمل: 21] بالطرد عن الحضرة والإسقاط عن عين الرضا والقبول { أو لأاذبحنه } [النمل: 21] في شدة العذاب، { أو ليأتيني بسلطان مبين } [النمل: 21] به يشير إلى أن حفظ المملكة يكون بكمال السياسة وكمال العمل، فلا يتجاوز عنه جرم المجرمين ويقبل عنهم العذر الواضح بعد البحث عنه، ويشير إلى أن الطير في زمانه كانت من جملة التكليف ولها وللمسخرين لسليمان عليه السلام من الحيوان والجن والشياطين تكاليف تناسب أحوالهم، ولهم فهم وإدراك كأحوال الإنسان في قبول الأوامر والنواهي معجزة لسليمان.
وبقوله: { فمكث غير بعيد } [النمل: 22] يشير إلى أن الغيبة، وإن كانت موجبة للعذاب الشديد وهو الحرمان عن سعادة الحضور ومنافعه، ولكن من أمارات السعادة سرعة الرجوع وتدارك الفائت وبقوله { فقال أحطت بما لم تحط به } [النمل: 22] خبر إلى سعة لي وسعة كريم الله ورحمة بأن يختص طائرا بعلم نبي مرسل، وهذا لا يقدح في حال النبي صلى الله عليه وسلم والرسل بأن لا يعلم علما غير نافع في النبوة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله منه فيقول:
" أعوذ بك من علم لا ينفع ".
وبقوله: { وجئتك من سبإ بنبإ يقين } [النمل: 22] يشير إلى أن من شرط الخبر ألا يخبر عن شيء إلا أن يكون مستيقنا فيه لا سيما عند الملوك.
[27.23-27]
وبقوله: { إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } [النمل: 23] إلى قوله: { رب العرش العظيم } [النمل: 26] يشير إلى أن سليمان عليه السلام لما ذكر الهدهد حديث بلقيس ومملكتها وما لها من المال والحال والملك والسرير العظيم لم يتغير لذلك ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها كعادة الملوك في الطمع في مثل غيرهم فلما قال: { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } [النمل : 24] فعند ذلك غاظه هذا وجرد الله وأخذته حمية الدين وجعل يبحث عن تحقيق وقال: { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } [النمل: 27] وفي هذا دلالة على أن خبر الواجد لا يوجب العلم، فيجب التوثيق فيه على حد التجويز، وفيه دليل على أنه لا يطرح بل يجب أن يتعرف هل هو صدق أو كذب، ولما عرف سليمان هذا العذر عذر الهدهد فترك عقوبته، فكذلك سبيل الوالي يجب أن يمنعه عدله من الحيف على رعيته، ويقبل عذر من وجده في صورة المجرمين إذا صدق في اعتقاده.
[27.28-35]
وبقوله: { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } [النمل: 28] يشير إلى أنه الكتاب لما كان سببا لهدايتها وحصول إيمانها سمته كريما لأنها بكرامته لما كان صدق فيما أخبر وبذل النصح لملكه ورعى جانب الحق عوض عليه حتى أهل الرسالة رسول الحق على ضعيف صورته ومعناه وبقوله: { قالت يأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [النمل: 29-31] يشير إلى أن الكتاب لما كان سببا لهدايتها وحصول إيمانها سمته كريما لأنها بكرامته اهتدت إلى حضرة الكريم.
وبقوله: { قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون } [النمل: 32] يشير إلى أن المرء لا ينبغي أن يكون مستبدا برأيه ويكون مشاورا في جميع ما سنح من الأمور لا سيما الملوك يجب أن يكون له طغمة قوم من أهل الرأي والبصيرة فلا يقطعون أمرا إلا بمشاورتهم.
وبقوله: { قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } [النمل: 33] يشير إلى أن شرط أهل المشاورة أنهم لما رأوا رأيا صائبا في أمر المشاورة وأخبروه بذلك لا يحملون عليه بقوله بل يخيرونه في ذلك، فلعله أعلم بصلاح حاله منهم كما كان حال بلقيس إذ قالت: { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } [النمل: 34] فيه إشارة إلى أن العاقل مهما تيسر له دفع الخصوم بطريق صالح لا يوقع نفسه في خطر الهلاك بالمحاربة والمقاتلة بالاختيار إلا أن يكون مضطرا، وفيه إشارة أخرى إلى أن ملوك الصفات الربانية إذ دخلوا قرية الشخص الإنساني بالتجلي أفسدوها بإفساد الطبيعة الإنسانية الحيوانية وجعلوا أعزة أهلها وهي النفس الأمارة وصفاتها أذلة لذلوليتهم بسطوات التجلي، وكذلك يفعلون مع الأنبياء والأولياء؛ لأنهم خلقوا لمرآتيه هذه الصفات إظهارا للكنز المخفي تفهم إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر عن الهداية الموجبة للهدية بقوله تعالى: { وإني مرسلة إليهم بهدية } [النمل: 35] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } [النمل: 35] إلى أن الهدية موجبة استمالت القلوب، ولكن أهل الدين لما عارضهم أمر ديني في مقابلة منافع كثيرة دنيوية يرجحون طرف أمر الدين على طرف منافع كثيرة دنيوية واستقلوا كثرتها فانية واستكثروا قليلا من أمور الدين؛ لأنها باقية كما فعل سليمان عليه السلام فلما جاءه الرسول بالهدية استقل كثرتها.
[27.36-41]
وقال: { أتمدونن بمال فمآ آتاني الله } [النمل: 36] من كمالات الدين والقربات والدرجات الأخروية { خير ممآ آتاكم } من الدنيا وزخارفها { بل أنتم بهديتكم تفرحون } أي: أمثالكم من أهل الدنيا بمثل هديتكم الدنيوية الفانية يفرحون بخسة نفوسكم وجهلكم عن الشهادات الأخروية الباقية.
ثم قال للرسول: { ارجع إليهم } [النمل: 37] بهديتهم ليعلموا أن أهل الدين لا ينخدعون بحطام الدنيا وإنما نريد منكم الإسلام وإن لم يأتوني مسلمين { فلنأتينهم بجنود } [النمل: 37] من الجن والإنس والتأييد الإلهي { لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منهآ } [النمل: 37] من ديارهم ومن أديانهم أذلة وهم صاغرون للإسلام طوعا وكرها.
وبقوله: { قال يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } [النمل: 38] يشير إلى أن سليمان عليه السلام كان واقفا على أن في أمته من هو من أهل الكرامة، فأراد أن يظهر كرامتهم ليعلم أن في أمم الأنبياء عليهم السلام يكون أهل الكرامات فلا تنكروا من كرامات الأولياء كما أنكرت المعتزلة، فإن أدنى مصيدة الإنكار حرمان المنكر عن درجة الكرامات كحرمان أهل البدع والأهواء عنها، ولا يظن جاهل أن سليمان عليه السلام لم يكن قادرا على الإتيان بعرضها ولم يكن له هذه الكرامات، فإنه أمرهم بذلك لإظهار أهل الكرامات من أمته، ولأن كرامات الأولياء من جملة معجزات الأنبياء، فإنها دالة على صدق نبوته وحقيقة دينهم أيضا.
وبقوله: { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين } [النمل: 39] وقوله: { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } [النمل: 40] يشير إلى أن الجن إن كان له من لطافة جسمه قوة ملكوتية يقدر على ذلك بمقدار زمان مجلس سليمان، فإن الإنس ممن عنده علم من الكتاب مع كثافة جسمه وثقله وضعف الإنسانية قوة ربانية قد حصلها من علم الكتاب بالعمل به هو أقدر بها على ما يقدر عليه الجن من الجن، ولما كان كرامة هذا الولي الإتيان بالعرش من معجزة سليمان { فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } [النمل: 40] هذه النعمة التي يفضل بها علي برؤية العجز عن الشكر { أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } [النمل: 40] لأن الشكر يوجب ازدياد النعمة للشاكر { ومن كفر } [النمل: 40] بأن لم يعرف قدر النعمة ولم يؤد حقها { فإن ربي غني } [النمل: 40] عن شكر الشاكرين وكفرانهم { كريم } بإظهار الكرم عليهم.
وبقوله: { قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } [النمل: 41] من الجاهلين يشير أنها هل تكون من أهل العقل فتهتدي بالفراسة إلى أنه عرشها وإن نكرته وهل تكون من أهل الإيمان فتهتدي بنور الإيمان إلى أن إتيانه بهذه السرعة من إعجاز النبوة أم تكون من جملة [الناس] العرية من العقل والإيمان.
[27.42-46]
{ فلما جآءت } [النمل: 42] رأته { قيل أهكذا عرشك } [النمل: 42] فلم تقل لا ولا قالت بلى فقالت: { كأنه هو } [النمل: 42] فاستدل بذلك على كمال عقلها، ولما رأت أنه أمرنا قصر للعادة استدلت بها على صحة نبوته وقالت: { وأوتينا العلم } [النمل: 42] من الله بنبوة سليمان من قبلها أي: قبل رؤية عن المعجزة وأسلمت، كما قال: { وكنا مسلمين } [النمل: 42].
{ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين } [النمل: 43] فصارت من قوم مؤمنين وفي قوله: { قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير } [النمل: 44] دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها، وإنما صنع الصرح لتكشف عن ساقيها فيراها ليعلم أن ما قالت الشياطين في حقها صدق أو كذب، ولو لم يستنكحها لما جوز عن نفسه النظر إلى ساقيها وقوله: { قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } [النمل: 44] يدل على أنها أسلمت نفسها للنكاح مع سليمان لله، وفي الله الذي هو إله العالمين وخالقهم ومربيهم.
ثم أخبر عن الفريقين اللذين على الطريقين بقوله تعالى: { ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا } [النمل: 45] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا } [النمل: 45] يشير إلى إرسال صالح القلب بالإلهام الرباني إلى ثمود بقية متولدات الروح والقالب وهي صفات القلب والنفس وصفاتها { أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان } [النمل: 45] مؤمن وكافر، فالمؤمن: صفات القلب فإنها تنورت بنور الإلهام، والكافر: هو النفس وصفاتها { يختصمون } واختصامهم في أن القلب وصفاته يدعو النفس إلى عبودية الله ومخالفة الهوى وترك الشهوات، والنفس وصفاتها تدعو القلب وصفاته إلى عبادة الهوى والرغبة في الدنيا وشهواتها ومخالفة الحق تعالى.
ويناديهم صالح القلب { قال يقوم لم تستعجلون بالسيئة } [النمل: 46] وهي طلب الشهوات واللذات الحيوانية الفانية { قبل الحسنة } [النمل: 46] وهي طلب درجات الجنان والنجاة عن دركات البرية والوصول إلى قربات الرحمن وحقائق العرفان { لولا تستغفرون الله } [النمل: 46] فلا تتوبون على طلب الشهوات وترجعون إلى الله { لعلكم ترحمون } [النمل: 46] بخطاب
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 27-28].
[27.47-53]
{ قالوا } [النمل: 47] معنى النفس وصفاتها للقلب وصفاته { اطيرنا بك وبمن معك } [النمل: 47] وذلك أن نور الإلهام الرباني ينعكس عن القلب إلى النفس فيمنعها عن استيفاء حظها من الشهوات الدنيوية بالحرص والشدة على وفق طبعها { قال } يعني: القلب: { طائركم عند الله } أي: هذا الذي أصابكم من نور الإلهام إنما جاء من عند الله وهذا كرامة منه لكم { بل أنتم قوم تفتنون } بشهوات الدنيا وزينتها فلا تعرفون قدر نعم الله في حقكم.
وبقوله: { وكان في المدينة تسعة رهط } [النمل: 48] يشير إلى مدينة القالب الإنساني وخواص العناصر الأربعة من الخواص الخمسة، فإنهم { يفسدون في الأرض } أرض القلب بإفساد الاستعداد الفطري الذي فطر الناس عليها لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة وهي مخصوص بالقلب بين سائر المخلوقات، كما قال في حديث رباني:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
{ ولا يصلحون } أي: ليس في النفس ومفاتنها المتولدة من العناصر والماديات بما داخلها من آفات الحواس وصلاحية قبول الفيض الإلهي إلا بانعكاس أنواره من مرآة القلب عليها فتطمئن بها فيتلون بلون القلب المنور بنور الفيض، وإلى هذا المعنى أشار بقوله:
فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 29-30] تفهم إن شاء الله تعالى.
وبقوله: { قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله } [النمل: 49] يشير إلى موافقة خواص العناصر الأربعة مع الآفات الداخلة من الحواس الخمسة واتفاقهم على تبنيهم القلب وصفاته ساعين في هلاكهم وهو إبطال استعدادهم { ثم لنقولن لوليه } [النمل: 49] وهو الحق تعالى: { ما شهدنا مهلك أهله } [النمل: 49] أي: ما هلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمارة حين قصدت، فإن غلبت النفس على القلب واستيلائهما عليه إنما يكون بمعاونة هؤلاء التسعة { وإنا لصادقون } [النمل: 49] في هذا القول وهم كاذبون.
{ ومكروا مكرا } [النمل: 50] في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية وتزيين الشهوات الدنيوية { ومكرنا مكرا } [النمل: 50] بتواتر الواردات الربانية وتداوم سطوات تجلي صفات الجمال والجلال الإلهية { وهم لا يشعرون } [النمل: 50] أن صلاحهم في هلاكهم بتجلي صفاتنا فإنا من قتلناه بصفاتنا وجبت ديته على ذمة كرمنا فديته أن نحييه بنور صفاتنا.
{ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم } [النمل: 51] أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا { وقومهم أجمعين } وهم النفس وصفاتها { فتلك بيوتهم } وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس { خاوية } خالية عن الخواص المهلكة والآفات الغالبة { بما ظلموا } أي: ما وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب، وكان موضعها النفس بأمر الشرع لما بالطبع لصلاح القالب وبقائه { إن في ذلك } الإشارات والحقائق { لآية } لعبرة { لقوم يعلمون } لسان القوم ويفهمون إشارات القرآن وحقائقه، { وأنجينا الذين آمنوا } [النمل: 53] وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها وما مكروا به { وكانوا يتقون } يعني: إذا كانوا يتقون بالله عن غير الله وما سواه.
[27.54-59]
ثم أخبر عن المقهورين غير المغفورين بقوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه } [النمل: 54] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { ولوطا إذ قال لقومه } [النمل: 54] يشير إلى أن لوط الروح إذ قال لقومه وهم القلب والسر والعقل عند تغيير أحوالهم وتبدل أوصافهم مجاورة النفس واستيلائها عليهم { أتأتون الفاحشة } [النمل: 54] وهو كل ما زلت به أقدامهم عن الصراط المستقيم وأمارتها في الظاهر إتيان منهيات الشرع على وفق الطبع وهو النفس وعلامتها حب الدنيا وشهواتها والاحتفاظ بها { وأنتم تبصرون } [النمل: 54] أي: ولكم بصيرة تميزون بها الخير والشر والصلاح من الفساد.
وفي قوله: { أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء } [النمل: 55] إشارة إلى صرف الاستعداد فيما يبعدهم عن الحق تعالى دون صرفه فيما يقربهم إلى الحق تعالى { بل أنتم قوم تجهلون } [النمل: 55] وإن تدعوا أن لكم بصيرة تعرفون بها الحق من الباطل { فما كان جواب قومه } وهم القلب المريض بعلة حب الدنيا وانحراف مزاجه عن حب الآخرة، والسر المكدر بكدورة الرياء والنفاق، والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال { إلا أن قالوا } من اتصافهم بصفات النفس { أخرجوا آل لوط } وهم الصفات الروحانية { من قريتكم } وهي الشخص الإنساني { إنهم أناس يتطهرون } [النمل: 56] من لوث الدنيا وشهواتها.
وبقوله: { فأنجيناه وأهله } [النمل: 57] يشير إلى روح نظر الله إليه بنظر العناية { فأنجيناه وأهله } وهم قوم القلب والسر والعقل عذاب النفاق بالدنيا ومتابعة الهوى { إلا امرأته } [النمل: 57] وهي النفس الأمارة بالسوء { قدرناها } في الأزل أنها { من الغابرين } [النمل: 57] أي: الباقين في عذاب التعلق بالدنيا ومتابعة الهوى { وأمطرنا عليهم } [النمل: 58] أي على النفس وصفاتها { مطرا } [النمل: 58] وهو حجارة الشهوات الدنيوية.
{ فسآء مطر المنذرين } [النمل: 58] بترك الشهوات أي صعب عليهم تركها، فإن الفطام عن المألوف شديد وبقوله: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } [النمل : 59] يشير إلى أن أمطار مطر الشهوات الدنيوية على النفس وصفاتها هو نعمة من الله مستدعية للحمد والشكر؛ لأن النفس بها قائمة، وبقاء الروح في القالب باستمداده من النفس كاستمداد نور السراج من الزيت وبقوله: { وسلام على عباده الذين اصطفى } يشير إلى قوم أخصهم لعبوديته دون قوم يعبدون الهوى والدنيا وما سوى الله، ومعنى السلام عليهم توجه بالكلية إلى الحضرة مستسلمين للأحكام الأزلية، ثم قال: { ءآلله خير أما يشركون } [النمل: 59] به من الدنيا وشهواتها والآخرة ودرجاتها، يا أهل الدنيا ويا أهل الآخرة.
[27.60-63]
ثم أخبر عن حقائق الخلائق بقوله تعالى: { أمن خلق السموت والأرض } [النمل: 60] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { أمن خلق السموت والأرض } [النمل: 60] يشير إلى خلق سماوات القلوب والأرض النفوس { وأنزل لكم من السمآء } [النمل: 60] سماء القلب { مآء } [النمل: 60] ماء نظر الرحمة { فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة } [النمل: 60] من العلوم والمعاني والأسرار والحكم البالغة { ما كان لكم } [النمل: 60] أي: ما كان من الاستعداد الإنساني { أن تنبتوا شجرها } لو لم يكن ماء نظر رحمتنا وخصوصية آياتنا به { شجرها أإله مع الله } [النمل: 60] من الهوى { بل هم قوم يعدلون } [النمل: 60] أرباب النفوس يميلون عن الحق.
{ أمن جعل الأرض } [النمل: 61] أرض النفس { قرارا } في الجسد { وجعل خلالهآ أنهارا } من دواعي البشرية { وجعل لها رواسي } من قوى البشرية والحواس { وجعل بين البحرين } [النمل: 61] وهما بحر الروح وبحر النفس { حاجزا } وهو القلب لئلا يختلطا، فإن في اختلاطهما فساد حالهما { أإله مع الله } [النمل: 61] من الطبيعة كما زعم الطبائعية ليدبر أمر القالب والروح على وفق الحكمة { بل أكثرهم لا يعلمون } كمال قدرة الله وحكمته واستغنائه عن الشريك { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } [النمل: 62] والمضطر هو المقدورات لها من قدر الله خلقها ولا يقدر على إيجادها غيره، فهي تضطر إلى أن تدعو الله بلسان الحاجة في إيجاده فيجيبه بإخراجه عن العدم إلى الوجود { ويكشف السوء } من العدم.
{ ويجعلكم خلفآء الأرض } [النمل: 62] أي: مستعدين لخلافته في الأرض فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف واستخراج الجواهر من المعارف وغرس الأشجار واتخاذ الأطعمة المتلونة والأشربة المتنوعة والأدوية والمعاجين المختلفة لإزالة الهلاك وللأرض بالعلاج الصالح { أإله مع الله } ليكون له خلق أمثالكم { قليلا ما تذكرون } [النمل: 62] أي: قليلا منكم من يتذكر ويفهم معنى الخلافة ويقوم بشرائطها { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } [النمل: 63] يشير إلى بر البشرية وبحر الروحانية ولهما ظلمات الخلقية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية ومعنى الآية { أمن يهديكم } [النمل: 63] بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية وظلمات الخليقة الروحانية إلى نور الربوبية غير الله يدل على هذا المعنى قوله:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] { ومن يرسل الرياح } رياح العناية { بشرا بين يدي رحمته } أي: سحاب الهداية التي فيها مطر الرحمة، { أإله مع الله } [النمل: 62] ليرسل الرياح كما أرسلها الله أو يكون شريكا له في إرسالها { تعالى الله عما يشركون } جماعة يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا يثبتون لله شريكا من الأنواء.
[27.64-69]
{ أمن يبدؤا الخلق } [النمل: 64] بإخراجهم من العدم إلى الوجود { ثم يعيده } بإفنائهم إلى عالم الوحدة { ومن يرزقكم } أي: يرزق أرواحكم { من السمآء } سماء الربوبية { والأرض } أرض البشرية يشير إلى تربية الأرواح لاستكمال مقام الخلافة إنما يكون من الواردات الربانية واستمدادها من خواص الصفات الحيوانية { أإله مع الله } [النمل: 64] لتربية الأرواح { قل هاتوا برهانكم } حجتكم على أن للأرواح مربيا غير الله { إن كنتم صادقين } حينما ادعيتم أن مع الله إلها آخر.
ثم أخبر عن الغيب أنه لا يعلمه إلا الله بغير الريب بقوله تعالى: { قل لا يعلم من في السموت } [النمل: 65]، والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله } [النمل: 65] يشير إلى أن للغيب مراتب: غيب هو غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء، وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين:
أحدهما: ما غاب عنك في أرض الصورة وسمائها؛ ففي الأرض مثل غيبة شخص عنك أو غيبة أمر من الأمور وذلك إمكان إحضار الشخص والاطلاع على الأمر الغائب.
وثانيهما: ما غاب عنك في أرض المعنى وهي أرض النفس، فإن فيها مخبئات من الأوصاف والأخلاق ما هو غائب عنك على الأمر الغائب، وفي السماء مثل علم النجوم والهيئة ومالك إمكان تحصيله بالتعلم، وإن كان غائبا عنك كيفية وكمية ولك وإمكان الوقوف عليها بطريقة المجاهدة والرياضة والذكر والفكر وسماء المعنى وهي سماء القلب، فإن فيها مخبئات من العلوم والحكم والمعاني ما هو غائب عنك ولك إمكان الوصول إليه بالسير على مقامات النفس والسلوك في مقامات القلب غيب هو غيب أهل الأرض في الأرض والسماء أيضا، وليس للإنسان إمكان الوصول إليه إلا بأداة الحق تعالى، كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53]، وغيب هو غيب أهل السماء في السماء والأرض ليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعليم الحق تعالى مثل الأسماء، كما قال تعالى:
أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صدقين * قالوا سبحنك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة: 31-32] ومن هنا يتبين لك أن الله تعالى قد كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة وهي اطلاعه على مغيبات لم تطلع عليها الملائكة، وذلك بتعليمه علم الأسماء كلها، وغيب هو مخصوص بالحضرة ولا سبيل لأهل السماوات والأرض إلى علمه إلا من قضى الله، كما قال تعالى:
فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول
[الجن: 26-27]، وبهذا يستدل على فضيلة الرسل على الملائكة؛ لأن الله استخصهم بإظهارهم على غيبة دون الملائكة؛ ولهذا أسجدهم لآدم لأنه كان مخصوصا بإظهار الله إياه على غيبه، وذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق آدم فتجلى فيه "
وغيب استأثر الله بعلمه وهو علم قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله كما قال الله تعالى:
وما يشعرون أيان يبعثون
[النحل: 21] بقوله: { وما يشعرون } يشير إلى أنهم كما لا يعلمون إلا عاجلا لا يكون شعورهم به آجلا { بل ادارك علمهم في الآخرة } أي: علمهم في الآخرة عند قيام الساعة.
وبقوله: { بل هم في شك منها بل هم منها عمون } يشير إلى أنهم لا يتقون بقول الأنبياء وإخبارهم عن الساعة ولا بالقطع يجحدون، وهذه أمارة كل مريض القلب لا حياة لهم في الحقيقة ولا راحة ثم هم من البعث في شك، ومن الإحياء ثانيا في استبعاد ويقولون:
لقد وعدنا نحن وآبآؤنا هذا
[المؤمنون: 83] ثم لم يكن تحقيق فما نحن إلا مثلهم وذلك معنى قوله تعالى: { وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآبآؤنآ أإنا لمخرجون * لقد وعدنا هذا نحن وآبآؤنا من قبل إن هذآ إلا أساطير الأولين } [النمل: 67-68] وبقوله: { قل سيروا في الأرض } [النمل: 69] يشير إلى سير السائرين في أرض البشرية.
{ فانظروا كيف كان عقبة المجرمين } [النمل: 69] أي: انظروا أرباب السير بدرك الحقائق المودعة في معنى الإنسان أنموذجات من الآخرة وما فيها، فمنها النفس المتمردة لأنها أنموذج من جهنم.
[27.70-76]
ومنها القلوب السليمة لأنها أنموذج من الجنان، فمن تحقق له أن النفس أنموذج من جهنم فيتحقق له أن يكون لهذا الأنموذج أصل هذا نموذجه قوله: { ولا تحزن عليهم } [النمل: 70] أي: على من أنكر أمر البعث أنهم لا يؤمنون؛ لأنهم خلقوا لهذا { ولا تكن في ضيق مما يمكرون } [النمل: 70] لأنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله وبقوله: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون } [النمل: 71-72] يشير إلى استعجال منكري البعث في طلب العذاب الموعود لهم من عناية جهلهم بحقائق الأمر وإلا قد ورد لهم أنموذجات العذاب الأكبر وهو العذاب الأدنى من البليات والمحن.
{ وإن ربك لذو فضل على الناس } [النمل: 73] فيما يذيقهم العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون إلى الحضرة بالخوف والخشية تاركين الدنيا وزينتها راغبين في الآخرة ودرجاتها { ولكن أكثرهم } أي: أكثر الناس { لا يشكرون } لأنهم لا يميزون بين محنهم وصحتهم وعزيز من يعرف الفرق بين ما هو نعمة من الله وفضل له أو محنة ونقمة، وإذا تقاصر على العبد عما فيه صلاحه وعسى أن يحب شيئا ويظنه خيرا وبلاؤه فيه، وعسى أن يكون شيء آخر بالضد ورب شيء يظنه العبد نعمة يشكره عليها ويستديمه وهي محنة له يجب صبره عنها ويجب شكر الله على صرفها عنه وبعكس هذا كم من شيء يظنه الإنسان بخلاف ما هو فيه.
ثم أخبر عن علمه بالخفيات والمخبئات والمغيبات بقوله تعالى: { وإن ربك ليعلم ما تكن } [النمل: 74] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } [النمل: 74] يشير إلى الله تعالى أن الله تعالى عند تخمير طينة آدم بيده أربعين صباحا أودع فيها زبدة خواص عالم الشهادة، وكانت روحه زبدة عالم الغيب فبازدواج روحه وقالبه بتصرف نفخة الخاص ولد منها خواص أخرى بها اصطفى آدم على العالمين وذلك حين تقويمه في قبول الفيض الإلهي بلا واسطة، وكان متمكنا فيه هذه الخواص وورثها أولاده منه فصارت هذه الخواص متمكنا في جبلة كل ولد من أولاده فيظهر الله تعالى على كل واحد منهم ما قد قدر له ويكن فيه ما شاء أن يكون مكنونا فيعلم مكنون صدور جميعهم وعلمهم لا يلبس عليه أحوالهم.
{ وما من غآئبة } [النمل: 75] من الخواص { في السمآء } سماء القلب { والأرض } أرض القالب أي باقية متمكنة فيهما { إلا في كتاب } أي: كتاب علم الله { مبين } بين ظاهر وهذا يدل على أنه ما غاب عن علمه شيء من المغيبات الموجود منها والمعدوم واستوى في علمه وجودها وعدمها على ما هي به بعد إيجادها فلا تغير في علمه عند تغيرها بالإيجاد فتتغير العلوم ولا يتغير العلم بجميع حالاته على ما هو به وبقوله { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } [النمل: 76] يشير إلى أنه تعالى أودع في القرآن حقائق ومعاني كثيرة لا توجد في غيره من الكتب المنزلة ما يحتاج إليه السالك في سلوكه للوصول إلى الحضرة، وبيان ما اختلفت فيه الأمم الماضية من كيفية السلوك وشرح المقامات وكشف المعارف، وذلك لأن كل كتاب كان مشتملا على شرح مقامات ذلك النبي وبيان كمال مرتبته ونهاية قربه، فلما لم يكن لنبي من الأنبياء عليهم السلام مقام في القرب مثل مقام نبينا صلى الله عليه وسلم ما أودع الله تعالى في كتبهم ما أودع في كتابه من الحقائق والمعاني.
[27.77-81]
كما قال تعالى: { وإنه } [النمل: 77] يعني القرآن { لهدى } إلى الله ما لا يهدي إليه كتاب آخر { ورحمة للمؤمنين } أي: هذه الهداية رحمة خاصة لهذه الأمة أعني المؤمنين منها { إن ربك يقضي بينهم } [النمل: 78] أي: بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي { بحكمه } أي: بحكمه بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم تبعا لهم ويبلغ متابع نبينا بتبعية إلى مقام مخصوص به من الأنبياء وهو مقام الحبيبية يدل عليه قوله تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31]، { وهو العزيز } الذي لعزته لا يهدي كل متمن إلى مقام حبيبيته { العليم } الذي هو العالم بمستحق هذا المقام.
{ فتوكل على الله } [النمل: 79] وثق به { إنك على الحق } في دعوة الخلق إلى الله { المبين } أي: إنك المبين فيما تهدي إلى طريق الوصول والوصال ولكن { إنك لا تسمع الموتى } [النمل: 80] الذين أمات الله قلوبهم بحب الدنيا، { ولا تسمع الصم الدعآء } الذي أصمهم بحب الشهوات، فإن حبك الشيء يعمي ويصم { إذا ولوا } أي: أعرضوا عن الحق { مدبرين } إلى الباطل غلب بقدر أن نهديهم للرشد وفقدهم عن سر النفس { ومآ أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكن لا تهدي واحدا من حيث إحياء القلب بنور العرفان وإزالة الصمم والعمى بنور الإيمان { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } أي: لا تسمع إلا من أسمعناه من حيث إحياء قلوبهم وأرشدناهم إلى طريق الطلب ووفقناهم لاحتمال التعب { فهم مسلمون } أي: مسلمو الأحكام الأزلية.
[27.82-88]
ثم أخبر عن أمارة الساعة بإخراج الدابة بقوله تعالى: { وإذا وقع القول عليهم } [النمل: 82] الإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الأرض تكلمهم } [النمل: 82] يشير إلى أن قوما اختصوا بقول { يحبهم } ، وإن جعلوا خليعي العذار في المراتع البهيمية قبل البلوغ لاستكمال القالب، فلما بلغوا الأوان بقابلية قول { يحبهم } { وإذا وقع القول عليهم } واستعدوا للكمالية { ويحبونه } { أخرجنا لهم } من تحت أرض البشرية دابة تكلمهم وهي النفس الناطقة والروح الإنساني مختلفة لا سيما وكانت موصوفة بصفة الصمم والبكم والعمى بتبعية النفس الأمارة فلما تداركتها العناية الأزلية أخرجتها من تحت أرض صفات البشرية الذميمة فتكلم القلب والقرآن أن شريعتي الصفات النفسانية كما مر { كانوا بآياتنا } بالدلائل.
{ لا يوقنون * ويوم نحشر من كل أمة } [النمل: 82-83] يشير إلى حشر بعض صفات الروح والقلب بعد موتها غلبات النفس وصفاتها عليها وربما يموت الروح والقلب بجميع صفاتها يدل عليه قوله تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80] وقوله:
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122] فإذا وقع قول { يحبهم } بملازمة الذكر على تلك الصفات يحييها بنور المحبة ونور الذكر فوجا بعد فوج فمتى يكذب بآياتنا لاتصافها بصفات النفس الحيوانية { فهم يوزعون } يجمعون حتى يحييهم الله جميعا { حتى إذا جآءو } [النمل: 84] أي: إذا رجعوا إلى الحضرة { قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون } [النمل: 84] أي: بأي عمل صرتم مكذبين آياتي بعد إذ كنتم مصدقيها عند خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172] في جواب { بلى } { ووقع القول عليهم } أي: وجب عليهم الصم والبكم والعمى { بما ظلموا } حين كانوا خلائف العذاب في المراتع الحيوانية لاستكمال القالب ظلموا على القلب والروح باتباعهما للنفس واستعمالهما في مصالحهما، وذلك كان سبب فساد حالهما { فهم لا ينطقون } لفساد استعداد النطق.
وبقوله: { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا } [النمل: 86] يشير إلى أنه تعالى كما جعل الليل في عالم الصورة سبب السكون والاستراحة والنهار سبب تحصيل المعاش والمنافع، أو لم يروا ببصر البصيرة أنه جعل ليل البشرية سبب استجمام القلب والروح واستراحتهما لحمل أعباء الأمانة وتحمل ثقل القول الثقيل كما قال تعالى لنبيه:
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا
[المزمل: 5] وهو يقول:
" كلميني يا حميراء "
طلبا للستر بعد التجلي وجعل نهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مشرقا يبصر به الحق والباطل ويكاشف به أنواع المعارف { إن في ذلك لآيات } دلالات إلى المعارف { لقوم يؤمنون } إيمانا عيانا.
وبقوله: { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموت ومن في الأرض إلا من شآء الله } [النمل: 87] يشير إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب { ففزع من في السموت } الروح وهم الصفات الروحانية { ومن في الأرض } البشرية وهم الصفات النفسانية الحيوانية وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحبة، وفزعت الصفات هيجانها للطلب بتهيج أنوار المحبة { إلا من شآء الله } فالمستثنى هو الخفي وهو لطيفة مودعة في الروح قابلة لتجلي صفات الربوبية، وإنما سميت خفيا لخفائها في الروح بالقوة، وإنما يحصل بالغفل عنه عند طلوع سموش الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى، ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية { وكل أتوه } أي: كل الصفات تهيج عند سطوة آثار المحبة متوجهين لطلب الحق تعالى { داخرين } صاغرين ذليلين مطيعين.
{ وترى الجبال } [النمل: 88] جبال الأشخاص { تحسبها جامدة } قائمة على حالها { وهي تمر } بالصفات وتبديل الأخلاق وقطع المنازل { مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء } وأحسنه تقديرا وتدبيرا { إنه خبير بما تفعلون } طوائف الخليقة من أهل السعادة والشقاوة، فقدر أحوالهم ودبر أسباب أفعالهم.
[27.89-93]
{ من جآء بالحسنة } [النمل: 89] من أهل السعادة { فله خير منها } [النمل: 89] من حسنات يجازيهم بها في الدنيا والآخرة كما هدى الخلق إلى طلبها بقول { ربنآ آتنا في الدنيا حسنة } [البقرة: 201] وهي استعمالهم في أحكام الشريعة على وفق آداب الطريقة بتربية أرباب الحقيقة وفي الكثرة حسنة وهي الانتفاع من عالم الحقيقة انتفاعا أبديا سرمديا.
{ وهم من فزع يومئذ آمنون } [النمل: 89] لأنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر وذلك لأنهم أصيبوا بفزع المحبة فحوسبوا عن فزع يومئذ { ومن جآء بالسيئة } [النمل: 90] وهي حب الدنيا الذي يعمي ويصم أهلها من طلب الحق فيقطع طريق الطلب على طالبي الحق تعالى { فكبت وجوههم في النار } [النمل: 90] نار القطيعة وقيل لهم: { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } [النمل: 90] يعني طلب الدنيا فإنها مبنية على وجه جهنم ودركاتها.
وبقوله: { إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها } [النمل: 91] يشير إلى أن العبد مأمور بعبادة رب بلدة القلب فإنه هو الله رب العالمين إلا بعبادة رب بلدة القالب فإنه هي النفس الأمارة التي حرمها أي حرم بلدة القلب على الشيطان أن يدخلها ولهذا قال:
يوسوس في صدور الناس
[الناس: 5] لأنه لا مدخل له في القلب { وله كل شيء } من أسباب الألوهية والربوبية.
وبقوله: { وأمرت أن أكون من المسلمين } [النمل: 91] يشير إلى أن المسلم الحقيقي من يكون إسلامه في استعمال الشريعة مثل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم نظيره قوله تعالى:
وأنا أول المسلمين
[الأنعام: 163]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" صلوا كما رأيتموني أصلي "
يعني في الظاهر ولو قال: صلوا كما أنا أصلي لا أحد يقدر على ذلك لأنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وكان في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه { وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } [النمل: 92] أي بتلاوة القرآن وباستماعه { ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين } [النمل: 92] فيه إشارة إلى نور القرآن يربي جوهر الهداية والضلالة في معدن قلب الإنسان السعيد أو الشقي، كما يربي ضوء الشمس الذهب والحديد في المعادن يدل عليه قوله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
[البقرة: 26] وقال صلى الله عليه وسلم:
" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة "
{ وقل الحمد لله } على ما هداني بالقرآن { سيريكم آياته فتعرفونها } أي لو لم يكن الله أن يريكم آياته فتعرفون أنتم بنظركم { وما ربك بغافل عما تعملون } [النمل: 93] كل طائفة من أهل السعادة والشقاوة بل هو الذي خلقهم وخلق منهم أعمالهم كما قال تعالى:
خلقكم وما تعملون
[الصافات: 96] كأنه قال تعالى خلق الشجرة وخلق فيها ثمرتها كما قدر لها لقوله تعالى:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه
[الأعراف: 58].
[28 - سورة القصص]
[28.1-5]
{ طسم * تلك آيات الكتاب المبين } [القصص: 1-2] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { طسم } يشير إلى القسم بطاء طوله تعالى، وطاء طهارة قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم عن محبة غيره، وطاء طهارة أسرار موحديه عن شهود سواه، وسين سره مع محبه، وبميم منه على كافة مخلوقاته بالقيام بكفاياتهم على قدر حاجاتهم { تلك آيات الكتاب المبين } أي: يبين المستقيم إلى الله تعالى: { نتلوا عليك من نبإ موسى } [القصص: 3] القلب { وفرعون } [القصص: 3] النفس { بالحق } [القصص: 3] { لقوم يؤمنون } [القصص: 3] يعني بالحاجة الضرورية في معرفتهما لمن يؤمن بطلب الحق تعالى ووجدانه: { إن فرعون } [القصص: 4] النفس الأمارة { علا في الأرض } أي: استولى من في الأرض الإنسانية { وجعل أهلها } وهم الروح والسر والعقل { شيعا } أصنافا تبعا به في استعمالهم في هواه واستيفاء شهواته { يستضعف طآئفة منهم } يعني بني إسرائيل صفات القلب.
{ يذبح أبنآءهم } [القصص: 4] أي: يفني الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب { ويستحيي نساءهم } [القصص: 4] أي: يبقي الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن { إنه كان } يعني: فرعون النفس { من المفسدين } بإفساد الاستعداد الأصلي الروحاني { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا } [القصص: 5] أي: ننعم عليهم وهم بنو إسرائيل صفات القلب ونخلصهم من استيلاء فرعون النفس وأسره { ونجعلهم أئمة } [القصص: 5] قدوة يقتدي بهم جميع الصفات الإنسانية في السير إلى الله { ونجعلهم الوارثين } بعد هلاك فرعون النفس وقومه أي: صفاتها يرثونهم خواص صفاتهم وقوى البشرية وخواص الحواس.
[28.6-11]
{ ونمكن لهم في الأرض } [القصص: 6] أرض الإنسانية { ونري فرعون } النفس { وهامان } الهوى { وجنودهما } من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية { منهم } يعني: من موسى القلب وبني إسرائيل صفاته { ما كانوا يحذرون } [القصص: 6] من الهلاك { وأوحينآ إلى أم موسى } [القصص: 7] أي: إلى السر فإنه أم موسى القلب لأنه تولد من أزواج الروح والسر { أن أرضعيه } [القصص: 7] من لبن الروحانية فإنه إذا أذاق طعم الروحانية حرم الله عليه المراضع الحيوانية الدنياوية { فإذا خفت عليه } [القصص: 7] من أعدائه: { فألقيه في اليم } [القصص: 7] الدنيا مع تابوت القالب { ولا تخافي } عن هلاكه من عدو فإنا نربيه في حجر عدوه فرعون النفس { ولا تحزني } [القصص: 7] على مفارقته { إنا رآدوه إليك } [القصص: 7] أي: مقام السر ونخلصه عن فرعون نفسه، { وجاعلوه من المرسلين } [القصص: 7] يعني: من القلوب المحدثين حتى يكون كليم الله يحدثه ربه وهو محدث ربه، كما قال بعضهم: حدثني قلبي عن ربي.
{ فالتقطه آل فرعون } [القصص: 8] وهم صفات النفس وقوة البشرية من المتغذية والماسكة والهاضمة والذائقة وأمثالها، فإنها أسباب تربية طفل صورة معدن القلب { ليكون لهم عدوا وحزنا } أي: عاقبة أمره أن يصير لهم عدو فيجازيهم ومعادنهم بطريق الرياضات والمجاهدات ومخالفات الهوى، ويجزيهم بترك الشهوات واستيفاء اللذات، وإن يدعوهم إلى طاعة الله وعبوديته وإلى ما لم يلائم طباعهم { إن فرعون } النفس { وهامان } الهوى { وجنودهما } من الصفات الذميمة الحيوانية { كانوا خاطئين } عاصين لله طبعا.
{ وقالت امرأة فرعون } [القصص: 9] النفس وهي الجثة { قرت عين لي ولك } [القصص: 9] يعني موسى القلب { لا تقتلوه } بسيف الشهوات الحيوانية { عسى أن ينفعنا } [القصص: 9] بأن ينجينا من النار { أو نتخذه ولدا } فكما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب كان قرة عينها وقد نفعها بالنجاة ورفع الدرجات ولما لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان متوقع الهلاك منه كان هلاكه بيده بسيف الصدق وسم الذكر { وهم لا يشعرون } [القصص: 9] أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم ولما كان القرآن هاديا يهدي إلى الرشد والرشد في تصفية القلب وتوجهه إلى الله تعالى وتزكية النفي ونهيها عن هواها وكانت قصة موسى عليه السلام تلائم وفرعون أحوال القلب والنفس فإن موسى القلب بعصا الذكر غلب على فرعون النفس وجنوده مع كثرتهم وانفراده قد كرر الحق سبحانه في القرآن ذكر قصتهما تفخيما لعظم الشأن ثم زيادة في البيان لبلاغه القرآن ثم إفادة لزوائد من المذكور قبله في موضع يكرره ثم أخبر عن أم موسى وفراغ فؤادها بقوله { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } [القصص: 10] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } [القصص: 10] يشير إلى أن لوحي الحق تعالى وإلهامه تأثيرا في قلب كل من أوحى إليه بالسكينة والفراغ والاطمئنان بنور الوحي لما يوحى به إليه وتصديقا به وبقوله: { إن كادت لتبدي به } [القصص: 10] يشير إلى أنها لو لم يوح إليها تسكينا لقلبها لكادت أن تجزع لابنها ولتبدي من ضعف البشرية بموسى أنه ابنها دليله قوله: { لولا أن ربطنا على قلبها } [القصص: 10] يعني بتأثير الإيحاء إليها { لتكون من المؤمنين } [القصص: 10] بما وعدها الله بقوله: { إنا رآدوه إليك } [القصص: 7] وفيه إشارة إلى أن الإيمان من مواهب الحق بأن يربط على القلوب ليؤمنوا كما قال تعالى:
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22] وفي الآية إشارة أخرى بقوله: { وأصبح فؤاد أم موسى } [القصص: 10] وهو سر السر { فارغا } [القصص: 10] من هم موسى القلب لما وقع بيد فرعون النفس وآله أي: صفاته وآسية القالب أنه لم يقع في بحر الدنيا، فإن آسية القالب تنجيه لأنه قرة عين لها، وباستوائه يقوم القالب بإصلاح حاله، وإن كان فرعون النفس على استرداد موسى القلب إلى أمه يعني: السر فإنه أرضع بلبان السر وهو النوادر الروحانية يوحي الحق حين قال لأمه { أن أرضعيه } [القصص: 7] فلا يقبل ثدي الأجانب، كما قال
قد علم كل أناس مشربهم
[البقرة: 60] في عدوا لي { ولا تخافي } أن يقتله فرعون النفس، بل يربيه في حجر.
وبقوله { وقالت لأخته قصيه } [القصص: 11] يشير إلى أن أم موسى القلب وهي السر قالت لأخت موسى القلب وهو السر أي العقل اتبع أثره حتى آل فرعون النفس { فبصرت } أخته العقل { به عن جنب } أي: عن بعد { وهم لا يشعرون } إن العقل أخت القلب أرضعا بلبان واحد.
[28.12-16]
وبقوله: { وحرمنا عليه المراضع } [القصص: 12] يشير إلى أنه لو لم يحرم على موسى القلب المراضع من النفس والهوى بأن أرضعناه { من قبل } أن يقذف في تابوت القالب مار به في بحر الدنيا بلبان الروحانية لقبل ثدي موضعه الحيوانية فلم يرد إلى أم السر، فلما لم يقبل موسى القلب ثدي المرضعات الحيوانية { فقالت } أخته العقل { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } [القصص: 12] { فرددناه } [القصص: 13] بدلالة أخته العقل { إلى أمه } [القصص: 13] وهي السر { كي تقر عينها } [القصص: 13] بوجوده وحسن استعداده لقبول الفيض الإلهي { ولا تحزن } [القصص: 13] على فوات ولد مثله { ولتعلم أن وعد الله حق } لا يجوز فيه الخلف وأن الله لا يخلف الميعاد { ولكن أكثرهم } [القصص: 13] من النفس والصفات { لا يعلمون } [القصص: 13] ولو علموا ما تركوا الموعود الشريف الباقي للنفس الخسيس الفاني { ولما بلغ } موسى القلب { أشده } بآلة بينته وهو استعداد لقبول الفيض { واستوى } للتوجه إلى الحضرة { آتيناه حكما } [القصص: 14] أي: حكمة وعلما وفهما لكلامنا { وكذلك نجزي المحسنين } [القصص: 14] الذين أحسنوا لأنفسهم وأحسنوا في الطلب يجزيهم بالإحسان في العطاء بالأجر العظيم كقوله:
هل جزآء الإحسان إلا الإحسان
[الرحمن: 60]، وقوله:
وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40] وقوله:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26] يعني: هذه قضية عامة لا خاصة.
ثم أخبر عما قضى { فوكزه موسى } [القصص: 15] بقوله تعالى: { ودخل المدينة } [القصص: 15] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها } يشير إلى أن موسى القلب دخل مدينة الإنسانية: { ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها } [القصص: 15] وهم الصفات النفسانية ولو لم يكن على حين غفلة من الصفات لما أمكن له الدخول فيها لعداوتها إياه { فوجد فيها رجلين يقتتلان } أي: صفتين { هذا من شيعته } أي: من صفات القلب { وهذا من عدوه } أي: من صفات النفس { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى } [القصص: 15] القلب بقوة الروحانية { فقضى عليه } أي: عليها وفزع منها وبقوله: { قال هذا من عمل الشيطان } [القصص: 15] يشير أن قبل صفات النفس والجهاد معها إن لم يكن بأمر الله تعالى وسبيل المتابعة يكون من عمل الشيطان و { إنه عدو مضل مبين } ويجب الاستغفار عليه كما قال موسى: { قال رب إني ظلمت نفسي } [القصص: 16] إذ جاهدتها بأمر الشيطان لا بأمرك { فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } [القصص: 16] لمن يستغفره وتاب إليه.
[28.17-21]
{ قال } موسى القلب { رب بمآ أنعمت علي } بالمغفرة { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } [القصص: 17] وهم الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع والمتابعة كالفلاسفة والبراهمة والوهابيين وغيرهم وبقوله: { فأصبح في المدينة خآئفا يترقب } [القصص: 18] يشير إلى أن موسى القلب في ابتداء أمره إذا لم يكن محلا لوارد الغيب مستظهرا بالإلهامات الربانية واثقا بظهور الآيات عليه مطمئنا بإمداد شواهد الحق لديه فيتعدى على بعض صفات النفس مكرها بقوة مساعد الصدق، فيذكر سطوة سلطنة فرعون النفس واستيلائه عليه يصبح خائفا يترقب سطوة قهره أو يترقب نصرة الله إياه { فإذا الذي استنصره بالأمس } من صفات القلب { يستصرخه } لإغاثته وإعانته على قهر صفة أخرى من صفات النفس { قال له موسى } القلب على خيفة من فرعون النفس لئلا يعاقبه على ما صدر منه { إنك لغوي مبين } [القصص: 18] بأنك تنازع ذا سلطان قوي قبل أوانه، ثم هز موسى القلب حمية الدين ورجولية الطبع الروحانية، فهم بتقوية صفته على قهر صفة النفس، وذلك قوله تعالى: { فلمآ أن أراد } [القصص: 19] يعني: موسى القلب { أن يبطش بالذي هو عدو لهما } يعني: صفة القلب من خوف سطوات فرعون النفس: { قال يموسى } يعني: موسى القلب مداهنا { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } [القصص: 19] أحال القتل إلى صديقه ومعاونه خوفا من عدوه ومعاداته دفعا للضرر عن نفسه والمعنى أتريد أن تقهر هذه الصفة النفسانية، كما قهرت صفة أخرى بالأمس تهييجا للفتنة وتحريكا لفرعون النفس لتقوم بالانتقام، فيبدأ بقهر صفات القلب ثم يقهر القلب { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض } [القصص: 19] عاليا على الأعداء { الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } [القصص: 19] مع الأعداء مداهنين رعاية لصلاح الوقت.
وبقوله: { وجآء رجل من أقصا المدينة يسعى } [القصص: 20] يشير إلى العقل وهو جاءه من أقصى مدينة الإنسانية، وهو من أعلى رتبة الروحانية ساعيا في طلب نجاته { قال يموسى } [القصص: 20]، يعني يا موسى القلب { إن الملأ } [القصص: 20] يعني: فرعون النفس وقومه أي صفاتها { يأتمرون بك } [القصص: 20] يتشاورون ويحتالون في أمرك { ليقتلوك } [القصص: 20] ليهلكوك ويغلبوك فاخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية { إني لك من الناصحين } [القصص: 20] المرشدين إلى صلاح مالك { فخرج } [القصص: 21] موسى القلب { منها } أي: من مدينة البشرية ينصح العقل وإرشاده وترك مألوفات الطبع { خآئفا } من سطوات فرعون النفس ومكائد جنوده من الهوى والأوصاف الذميمة الحيوانية والشيطانية { يترقب } مكائدهم بل ينتظر هداية الحق ونصرته { قال رب نجني من القوم الظالمين } [القصص: 21] بدفع شرهم عني واستيلائهم علي بل بنصرتي عليهم وتصرفي فيهم.
[28.22-26]
ثم أخبر عن توجه موسى القلب من مدينة البشرية الحيوانية تلقاء مدين الروحانية بقوله تعالى: { ولما توجه تلقآء مدين } والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { ولما توجه تلقآء مدين } [القصص: 22] يشير إلى توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية مجتنبا شر فرعون النفس { قال عسى ربي أن يهديني سوآء السبيل } [القصص: 22] { ولما ورد مآء مدين وجد عليه أمة من الناس } [القصص: 23] من أوصاف الروح { يسقون } موسى أخلاقهم من ماء الفيض الإلهي { ووجد من دونهم امرأتين } [القصص: 23]، وهما السر والخفي وهما ابنتا شعيب الروح في البداية بالتدريج فتنشأ منه الخفي وهو لطيفة ربانية مودعة في الروح بالقوة، فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبات الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجلي صفة الربوبية، وإفاضة الفيض الإلهي على الروح فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستيفاء، وكذلك السر وهو لطيفة روحانية متوسطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح مؤدية إلى القلب، وهو أيضا بمعزل عن استيقاء ماء فيض الروح عند شغل القلب بمعالجات النفس وصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية فقال لهما { ما خطبكما } فارغتين من الاستقاء { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعآء } [القصص: 23] وهم صفات الروح ويصرفوا ومواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء فيض الإلهي، فإذا صدرت سقينا مواشينا من أوصافه والأخلاق ما أفاضت في حوض القوى { وأبونا شيخ كبير } [القصص: 23] وهو شعيب الروح لا يقدر على سقي مواشيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر أو الوسائط، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا { فسقى لهما } [القصص: 24] أي: سقى موسى القلب لمواشيهما بقوة استنادها من الجسد وقوة استنادها من الروح؛ لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلبا؛ لأنه في طلب العالمين جسماني وروحاني: { ثم تولى إلى الظل } [القصص: 24] إلى ظل العناية فقال: { رب إني لمآ أنزلت إلي من خير } [القصص: 24] وهو الفيض الإلهي { فقير } [القصص: 24] فيه إشارة إلى أن السالك إذا بلغ عالم الروحانية لا ينبغي أن يقنع بما وجد من معارف ذلك العالم بل يكون طالبا للفيض الإلهي بلا واسطة { فجآءته إحداهما تمشي على استحيآء } [القصص: 25] يشير إلى صفوة الخفي وهي بنت شعيب الروح الكبرى منهما { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } [القصص: 25] به يشير إلى أن موسى القلب وإن يسلك طريق الوصول إلى صفوة شعيب الروح فإنه لا يصل إليه إلا باستحضاره لديه وهو أيضا مشتمل من محضري الحق الذي هو مورد الفيض الإلهي وحركاته أيضا من نتائج الفيض وجذبات الحق تعالى وبقوله: { فلما جآءه وقص عليه القصص } [القصص: 25] يشير إلى أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح، كما يستفيد من صفات الروح وخواصه كذلك يفيد الروح من خواص صفاته ومما استفاد من النفس وصفاتها، وبقوله تعالى: { قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } [القصص: 25] يشير إلى أن القلب مهما يكون في مقام يخاف عليه أن يصيبه آفات النفس وظلم صفاتها.
وبقوله: { قالت إحداهما يأبت استئجره إن خير من استئجرت القوي الأمين } [القصص: 26] يشير إلى أن الخفي بإشارة الحق تعالى فإنه مهبط أنواره وأسراره وإلهامه يشير إلى الروح بأن تتصرف في القلب ويستعمله في رعاية مصالحه ومصالح نفسه بقوله { استئجره إن خير من استئجرت } [القصص: 26] استعملت من النفس في الجسد القوي الأمين؛ لأنه يستمد القوى من الجسدانية والأمانة من الروحانية، وأنه ذو النسبين بينما له صورة جسدانية ومعنى روحانيا.
[28.27-29]
وبقوله: { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } [القصص: 27] يشير إلى الروح في تبليغ القلب على مقام الخفي يحتاج إلى سيره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق تعالى وهي: الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء، فإن القلب باتصافه بهذه الصفات وقوة فوائدها يرتقي إلى مقام الخفي { فإن أتممت عشرا فمن عندك } [القصص: 27] لأن هذه الاثنين تمام العشرة راجعة إلى خصوصية القلب، وهما المحبة والأنس مع الله وفي تلك الثمانية كما أن القلب في الاتصاف بها كمالية، كذلك للروح في ازدواج صفاء القلب من صفاته كمالية، ولهذا ذكر بلفظ الإنكاح وبقوله { ومآ أريد أن أشق عليك } [القصص: 27] يشير إلى أن تلك الصفتين ليستا مما اختص به فلا يشق عليه بها { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } [القصص: 27] الوافين بالوعد والعهد { قال } [القصص: 28] موسى القلب مع شعيب الروح { ذلك بيني وبينك } بالتسليم والتسلم { أيما الأجلين قضيت } [القصص: 28] في التخلق بأخلاقك الثمانية وفي المحبة والأنس مع الله { فلا عدوان علي } [القصص: 28] أي: ليس لك علي أن تمنعني به عن مقامك؛ لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على هذه الأوصاف الثمانية، وأما المحبة والأنس مع الله صفتان مخصوصتان بالحضرة
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 21] ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر مجبول على تلك الصفات الثمانية، وليس إلا مؤمن موحد من قوم
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] له هاتان الصفتان { والله على ما نقول } في عقد المؤاجرة { وكيل } لنا وعليه توكلنا ليوصلنا إلى أقصى مقاصدنا.
ثم أخبر عن قضاء الأجل بصدق في العمل بقوله تعالى: { فلما قضى موسى الأجل } [القصص: 29].
والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { فلما قضى موسى الأجل } [القصص: 29] يشير إلى موسى القلب أنه لما اتصف بالصفات الثمانية للروح كما مر ذكرها وغلبت عليه محبة الله واستأنس به { وسار بأهله } أي: سار بجميع صفاته متوجها إلى مصر حضرة الربوبية { آنس من جانب الطور } طور الحضرة { نارا } وهي نار نور الإلهية: { قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار } [القصص: 29] يشير به إلى أن التجريد في الظاهر والتفريد في الباطن، فإن السالك لابد له في السلوك من تجريد الظاهر عن الأهل والمال، وخروجه عن الدنيا بالكلية فقد قيل أن الكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ثم من تفريد الباطن عن تعلقات الكونين فبعدما تفرد عن التعلقات يشاهد شواهد التوحيد، فإذا ما تبدو له في صورة شعلة النار كما كان لموسى والكوكب ما كان لإبراهيم عليهما السلام، أكوكب ما أرى يا سعد أم نار تشبها سهلة الخدين معطار، ومن جملتها اللوامع والبروق والطوالع والسواطع والشموس والأقمار إلى أن ينجلي نور الربوبية مع مطلع الألوهية نور ببدور إذا بدا استمكن وشمس طلعت ومن رآها آمن.
وبقوله { لعلكم تصطلون } [القصص: 29] يشير إلى أن أوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية.
[28.30-34]
{ فلمآ أتاها } [القصص: 30] أي: أتى موسى القلب بعد التفريد متوجها إلى رتبة التوحيد { نودي من شاطىء الوادي الأيمن } [القصص: 30]، وهو السر { في البقعة المباركة من الشجرة } شجرة الإنسانية { أن يموسى إني أنا الله رب العالمين } [القصص: 30]، وبقوله: { وأن ألق عصاك } [القصص: 31] يشير إلى إلقاء كل متوكأ غير الله للسالك { فلما رآها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا } [القصص: 31] لأنه شاهد أنه ما اتخذ للاتكاء من دون الله هو حية فيها هلاكه فلما ولى عنه: { ولم يعقب } لم يرجع إلى اتخاذه متكأ راجعا إلى الله بالكلية نودي موسى القلب، { يموسى أقبل ولا تخف } [القصص: 31] بعد التولي عنه والرجوع إلى { إنك من الآمنين } [القصص: 31] عن مكائد الخائنين ملتجأ بحضرة رب العالمين.
وبقوله: { اسلك يدك في جيبك } [القصص: 32] يشير إلى مسك اليد عن التصرفات في الكونين وقطع التعلق عنها { تخرج بيضآء } [القصص: 32] نقية من لوث الطمع { من غير سوء } [القصص: 32] أي: من غير مضرة يعيبها في ذلك الترك وقطع التعلق عنها { واضمم إليك جناحك } [القصص: 32] جناح همتك عن طيران شر النفس في طلب صفة الدنيا وعن طيران بازي القلب في طلب طاووس نعيم الآخرة { من الرهب } أي: رهبة من فوات وصلات الحضرة وصلاتها { فذانك برهانان من ربك } في الإعراض عن الدنيا والآخرة { إلى فرعون } النفس { وملئه } من الصفات بأن تظفر بهم { إنهم كانوا قوما فاسقين } [القصص: 32]، خارجين عن طاعة الله وعبوديته { قال } موسى القلب { رب إني قتلت منهم نفسا } [القصص: 33] أي: صفة من صفات النفس { فأخاف } إن رجعت إليهم للدعوة إلى الحضرة أو لإهلاكهم { أن يقتلون } [القصص: 33] بالاستيلاء والغلبة فإن لهم أعوان من الشيطان والدنيا وإخوان السوء { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } [القصص: 34] به يشير إلى هارون العقل فإنه معدن الأسرار ومنبع الأنوار { فأرسله معي ردءا يصدقني } فيما أقول مع من يكذبني تقوية لي على المكذبين وذلك قوله: { إني أخاف أن يكذبون } [القصص: 34]، فإن من خاصية تمرد فرعون النفس تكذيب الناطق بالحق، ومن خصوصية هارون العقل تصديق الناطق بالحق.
[28.35-39]
{ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا } [القصص: 35] به يشير إلى أن القلب وإن كان مترقيا إلى الحضرة الربانية يحتاج إلى العقل المشدد عضده به ليكون كامل الاستعداد في قبول الفيض الإلهي، ويكونا مؤيدين بالتأييد الإلهي، ولهما سلطان على غيرهما، ولا يصل إليهما سلطان الأغيار وتكون الغلبة لهما ولمتابعيهما وذلك قوله { فلا يصلون إليكما بآياتنآ أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [القصص: 35].
ثم أخبر عن إنكار الأسرار على الأخيار بقوله تعالى: { فلما جآءهم موسى } [القصص: 36] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { فلما جآءهم موسى بآياتنا بينات } [القصص: 36] يشير إلى أن موسى القلب وإن بلغ مقامات القرب الرباني وصار كالمرآة المصقولة المتجاذبة للشمس قابلة لانعكاس أنوار الشمس، فتظهر آياتها البينات فإن فرعون النفس وملأ صفاته يرونها سحرا مفتر كما { قالوا ما هذآ إلا سحر مفترى } [القصص: 36] لأن النفس خلقت من أسفل عالم الملكوت متنكسة، والقلب خلق من وسط عالم الملكوت متوجها إلى الحضرة فما كذب الفؤاد ما رأى، وما صدقت النفس ما رأت، فيرى القلب إذا كان سليما أن من الأمراض والعلل الحق حقا والباطل باطلا والنفس يرى الحق باطلا والباطل حقا ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ".
وكان صلى الله عليه وسلم في ذلك سلامة القلب عن الأمراض والعلل وهلاك النفس وقمع هواها وكسر سلطانها وبقوله { وما سمعنا بهذا } [القصص: 36] الذي تدعونا إليه يعني من التوحيد { في آبآئنا الأولين } [القصص: 36] يشير إلى طبائع الكواكب السبعة فإنها آباء النفس وأساسها العناصر الأربعة، والطبائع منكوسة إلى عالم السفل متوجهة إلى التفرقة متباعدة عن التوحيد فلا تسمع متولداتها عن التوحيد بل تسمعها عن شرك الشركاء بحسب نظرها في رؤية الوسائط وتقيدها بها.
{ وقال موسى } [القصص: 37] القلب بعد إنكار فرعون النفس وتكذيبها إياه { ربي أعلم بمن جآء بالهدى من عنده } [القصص: 37] أنه صادق فيما جاء به متوكلا على الله فيما يجري على فرعون النفس من الإنكار حكمة منه تلسيما لأحكامه طالبا لرضا لحق تعالى لا هاربا من سخط الخلق قال قائلهم:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
وبقوله: { ومن تكون له عاقبة الدار } يشير إلى أن الواجب على كل نفس السعي في نجاتها ولو هلك غيرها لا يضرها فإنها متحققة في { إنه لا يفلح الظالمون } وقد قال تعالى:
فلا تأس على القوم الفاسقين
[المائدة: 26]، وبقوله: { وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } [القصص: 38]، يشير إلى أن استعداد فطرة الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم إذا فسد تصير معرفته نكرة وإقراره بالعبودية يستدل به بالألوهية، ويسعى بعد إثبات الإله في نفسه حتى يقول لوزيره وهو هامان الشيطان، كما قال تعالى:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف: 36] { فأوقد لي يهامان } بنفخ الوساوس والغرور { على الطين } طينة البشرية { فاجعل لي صرحا } [القصص: 38] من الشبهات المخيلة الموهومة { لعلي أطلع إلى إله موسى } هل له وجود أم لا { وإني لأظنه } [القصص: 38] أي: مع أني أتيقن أنه { من الكاذبين } [القصص: 38] في ادعاء إله غيري.
{ واستكبر هو وجنوده } [القصص: 39] أي: فرعون النفس وصفاتها { في الأرض } أرض الإنسانية { بغير الحق } أي: بغير أمر الحق، { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } [القصص: 39] طائعين أو كارهين كسائر الموجودات، ولم يعلموا أن الرجوع إلى الحضرة من خصوصية الإنسان طوعا أو كرها، كما قال تعالى:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق: 8]، وقال:
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
[الفجر: 28].
[28.40-45]
{ فأخذناه وجنوده } [القصص: 40] أي: النفس وصفاتها { فنبذناهم في اليم } وهو بحر الدنيا وماؤها الغفلة والشهوة، { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } [القصص: 40]، إذا غرقوا في ماء الغفلات والشهوات كيف ادخلوا نار الحسرات والقيعان { وجعلناهم } [القصص: 41] أي: النفوس المتمردة الفرعونية { أئمة } [القصص: 41] أي: رؤساء وقادة يدعون بالمعاملات الطبيعة أهل الطبيعة إلى النار نار القطيعة، ويوم القيامة قيمة العشق والطلب لأربابها لا ينصرون أهل الطبيعة المتمكنة فيها المستهلكة في بحر الشهوات أي: لا ينفعهم نصره أرباب الصدق والمطلب لإفساد الاستعداد الفطري للطلب باستعماله في طلب الدنيا وزينتها وشهواتها { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } [القصص: 42] أي: طردا وإبعادا بسوط مخالفات الشرع وموافقات الطبع { ويوم القيامة هم من المقبوحين }؛ لأنهم قبحتهم معاملاتهم القبيحة كما أحسن وجوه المحسنين معاملاتهم الحسنة:
هل جزآء الإحسان إلا الإحسان
[الرحمن: 60] جزاء السيئة إلا السيئة.
ثم أخبر عن الرسالة أنهما موجبة للهدى من الضلالة بقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب } [القصص: 43]، والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى } [القصص: 43].
يشير إلى أن استحقاق موسى القلب مقام القرب ونزول الوحي والإلهام والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها بصائر للناس ليبصروا أن المجاهدات تورث المشاهدات وأن القلوب محجوبة عن الله بحجب النفس وصفاتها فإذا فنيت دفعت الحجب وظهرت المواصلات والمشاهدات والمكاشفات: { وهدى ورحمة } [القصص: 43] أن هذا المعنى يكون سبب خروج الناس عن الضلالة في تيه الدنيا وطلبها ويرحم الله تعالى عليهم بهذه الهداية { لعلهم يتذكرون } أنهم كانوا في عالم الأرواح إذ لم يكونوا محتجبين بالنفس وصفاتها مستمعين بخطاب الحق تعالى مجيبين له حين قال تعالى:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، فكذلك الآن لو تخلصوا عن حجب النفس لعادوا مكالمين الحق والمخاطبين له.
وبقوله { وما كنت بجانب الغربي } [القصص: 44] يشير إلى أنك ما كنت في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود بعد في عالم الأرواح: { إذ قضينآ إلى موسى الأمر } في اتخاذ عهده أن يؤمن بك ويأمر أمته بالإيمان بك والنصرة لك كما قال تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
[آل عمران: 81]، وما كنت من الشاهدين الذين شهدوا على الميثاق في عالم الغيب من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء { ولكنآ أنشأنا قرونا } [القصص: 45] في عالم الشهادة { فتطاول عليهم العمر } محجوبين بحجب النفس وصفاتها متعينين للهوى في ارتكاب المعاصي واستيفاء الشهوات، فنسوا تلك العهود والمواثيق بقساوة القلوب جحدوا ما أقروا به.
{ كنت ثاويا في أهل مدين } أي مقيما بينهم كشعيب وموسى { تتلوا عليهم آياتنا } [القصص: 45] كما كان شعيب وموسى يتلوان عليهم كتبنا المنزلة إذا أخذت من شعيب وقومه ميثاقهم أن يؤمنوا بك وما كتب بعد الرسول المرسل { ولكنا كنا مرسلين } الذي أخذنا منهم ميثاقهم للإيمان بك، وما كتب بعد الرسول المرسل بك وهذا كله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار العناية في حقه بما لم يكن مع نبي آخر، ومما كان الرسل يتلون على أممهم من آيات ربهم نعت نبينا صلى الله عليه وسلم بالثناء الجميل، وذكر الله بحسن السيرة كرامة لهم في غيبتهم.
[28.46-50]
كما قال: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } [القصص: 46] يعني حين سأل موسى ربه: إني أرى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا من هم؟ فقال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى سأل عن أوصاف كثيرة وعن الجميع كان يجيب أنه أمة أحمد فاشتاق موسى إلى لقائهم فقال: إنه ليس اليوم وقت ظهورهم فإن شئت أسمعتك كلامهم كما مر ذكره ثم نادى فقال: يا أمة محمد فيه إشارة لطيفة وهي أن الله عز وجل لكرامة محمد صلى الله عليه وسلم وشرفه أخذ الميثاق من موسى للإيمان به في غيبته وفي حضور موسى ما نادى محمدا لأجله بل نادى أمته له ومن عليه باستماع كلامهم إياه وكما نادى موسى في الوجود حاضرا نادى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم في العدم غائبين فهو كائن لهم حين لم يكونوا لأنفسهم كما قيل:
كن لي كما كنت
في حال لم أكن
وبقوله { ولكن رحمة من ربك } يشير إلى أن ما أنعمنا به عليك وعلى أمتك في النداء بجانب الطور مباهاة بك وبأمتك على موسى وأمته لم يكن لكسبكم وسعيكم فيه مساعا، ولكن كان رحمة خاصة من ربك أي: من كرم ربك ونعمه عليك وعلى أمتك ومن نتائج تلك الرحمة أنه لو لم أسمعهم ندائي وأمتك في العدم بلا هم لم استعدوا لقبول إنذار أمر دعوتك لهم إلى التوحيد في الوجود إذ لم يكونوا متعودين بدعوة الأنبياء ولا بقبول دعوتهم وذلك قوله: { لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } [القصص: 46] يعني: يتذكرون من خاصة استماع ندائنا واستعداد أجابتنا فيما ناديناهم وإنما أفردهم بالنداء دون محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا محتاجين إلى تصرف خصوصية النداء فيهم لا محمد صلى الله عليه وسلم لكمال استعداده الفطري بخصوصية حبيب الإلهية.
ثم قال: { ولولا أن تصيبهم مصيبة } [القصص: 47] أي: مصيبة الجحود في قبول الدعوة إلى التوحيد { فيقولوا } بلسان الحال { ربنا لولا } أي: هلا { أرسلت } نداءك { إلينا } أي: إلى أسماعنا ونحن في العدم نستعد لقبول الدعوة في الوجود { فنتبع آياتك } في قبول دعوة نبيك { ونكون من المؤمنين } الذين جعلتهم مستعدين للإيمان وقبول الدعوة وهم في العدم وجواب { لولا } محذوف تقديره لولا أن تقتضي العناية الأزلية في حق هذه الأمة دفع حجتهم علينا ما ناديناهم وهم في العدم وما أسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم وهم بلا هم لإجابة ندانا ثم أخبر عمن لم تدركهم العناية في البداية بقوله تعالى: { فلما جآءهم الحق } [القصص: 48].
والإشارة في تحقيق الآيات بقوله { فلما جآءهم الحق من عندنا } [القصص: 48] يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم إنما بعث بعد وصوله إلى مقام العندية واستحقاقه أن يسميه الله الحق وهو اسمه تعالى وتقدس ففيه إشارة إلى كمال فنائه عن أنانيته وبقائه بهوية الحق تعالى وله صلى الله عليه وسلم أن يقول: أنا الحق وإن صدرت هذه الكلمة عن بعض متابعيه فلا عدوان أن يكون من كان صفاته مرآة قلبه في قبول عكس ولاية النبوة إذ كانت محاذية لمرآة قلبه صلى الله عليه وسلم فكان منبع ماء هذه الحقيقة قلب محمد صلى الله عليه وسلم ومظهره لسان هذا القائل بتبعيته
لكم في رسول الله أسوة حسنة
[الأحزاب: 21].
وبقوله: { قالوا لولا أوتي مثل مآ أوتي موسى } [القصص: 48] يشير على أنهم لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم احتجبوا بكفرهم عن رؤية كماليته وإلا لقالوا: أوتي موسى مثل ما أوتي محمد من الكمالات في القربة والمعرفة والمحبة والفضائل السنية التي فضله الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين والمقام المحمود الذي خصه به ثم قال: { موسى أولم يكفروا بمآ أوتي موسى من قبل } [القصص: 48] أي: من قبل أن يكفروا بمحمد، فكان كفرهم بمحمد ثمرة بذر كفرهم بموسى عليهما السلام فقالوا: { سحران تظاهرا } [القصص: 48] أي: يعاون بعضهم بعضا في تمشية السحر { وقالوا إنا بكل كافرون } [القصص: 48] أي: بكلية وجودنا بالكلية فإن ظلمة الكفر على الكفر أعني الكفر بموسى والكفر بمحمد اتخذت أجزاء وجودنا بالكلية، فلم يبق منها موضع إلا وقد وصلت ظلمة الكفر إليه، وهذا معنى الختم الذي ذكره الله بقوله:
ختم الله على قلوبهم
[البقرة: 7] وكذلك هو الدين الذي قال تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
[المطففين: 14].
وبقوله: { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين } [القصص: 49] يشير إلى أن من كان مرجوعه إلى الله متقربا إليه فإن الله على تعينه: " من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا " يفتح عليه أبواب فضله وكرمه، ويلهمه حقائق العلوم وأسرارها ودقائقها ويكشف له معان ولطائف، وإن كان من الغيب ما لا يحصل بالدراسة من كتب الله وهو أهدى إلى الحضرة مما يحصل بالقراءة والسماع والمطالعة؛ لأنه يحتمل أن يسمع خطاب الحق تعالى بلا واسطة أو يكلمه صريحا، فمن لم يكن له هذه الرتبة عند الله ولم يكاشف بنوع من هذه المقامات فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه تدل عليه { فإن لم يستجيبوا لك } [القصص: 50] أي بإتيان نوع مما ذكرنا { فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم } [القصص: 50] وفي قوله: { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ أتبعه } [القصص: 49]، إشارة أخرى وهي أن لو كان لطالب صادق ومريد حاذق شيخ يقتدي به وله شأن مع الله ثم استعد بشيخ كمثله كامل هو أهدى إلى الله منه وجب عليه اتباعه والتمسك بذيل إرادته حتى يتم أمره ولو تجدد له في أثناء السلوك هذا الاستعداد بشيخ آخر كما من الأول والثاني هلم جرا يجب اتباعه إلى أن يظفر بالمقصود الحقيقي وهو الوصول إلى الحضرة بلا اتصال وانفصال.
وبقوله: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } [القصص: 50] يشير إلى أن أهل الحسبان لو لم يعدوهم الذين يحسبون أنهم لو جاهدوا أنفسهم على ما دلهم به العقل بغير هدى من الله أي بغير متابعة الأنبياء - عليهم السلام - أنهم يهتدون إلى الله ولا يعلمون أن من يجاهد نفسه في عبودية الله بدلالة بالعقل دون متابعة الأنبياء هو بتابعيه هواه ولا يتخلص أحد عن أسر الهوى بمجرد العقل فلا تكون عبادته مقبولة إذ هي مشوبة بالهوى ولا يهتدي أحد إلى الله بغير هدى من الله كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم مع كمال قدرته في النبوة والرسالة احتاج في الاهتداء إلى متابعة الأنبياء كما قال تعالى:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام: 90] ولهذا السر بعث الأنبياء واحتاج المريد للشيخ المهتدي وإلى الله يهدي من الله وهو المتابعة { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [القصص: 50] وهم الذين وصفوا متابعة الهوى في موضع متابعة الأنبياء وطلبوا لهداية عن غير موضعها.
[28.51-55]
ثم أخبر عن البيان والتفصيل أنه في التوصيل بقوله تعالى: { ولقد وصلنا لهم القول } [القصص: 51] والإشارة عن البيان في تحقيق الآيات بقوله: { ولقد وصلنا لهم القول } [القصص: 51] يشير إلى توصيل القول في الظاهر بتفهيم المعنى في الباطن أي فهمناهم معنى القرآن { لعلهم يتذكرون } [القصص: 51] عهد الميثاق إذا آمنوا بجواب قولهم { بلى } وأقروا بالتوحيد فيجدون الإيمان عند سماع القرآن.
وبقوله: { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } [القصص: 52] يشير إلى قلوب من آتاهم حقيقة الكتاب في عالم الأرواح قبل أن يؤتي النفوس في عالم الصورة والأشباح كما كان حال عيسى عليه السلام إذ قال في المهد
إني عبد الله آتاني الكتاب
[مريم: 30] يعني حقيقة الكتاب قبل أن يؤتيه في عالم الصورة صورة الكتاب فبهذا الاعتبار ومن أوتي حقيقة القرآن في عالم الأرواح { هم به يؤمنون } أي: يؤمن به النفوس في عالم الصورة كما قال تعالى: { وإذا يتلى عليهم } [القصص: 53] أي القرآن { قالوا آمنا به إنه الحق من ربنآ } [القصص: 53] أي: تؤمن قلوبهم لعرفانهم بحقيقة كلام الله، فهو من نفوسهم بتبعية القلوب إذ سمعوا منهم قوله: { إنا كنا من قبله } [القصص: 53] أي: قبل نزوله { مسلمين } [القصص: 53] مؤمنين به { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } [القصص: 54] مرة في عالم الأرواح إذا أوتوا حقيقة الكتاب، فذلك أجر القلوب ومرة في عالم الأشباح إذا أوتوا صورة الكتاب وذلك أجر النفوس { بما صبروا } [القصص: 54] على مخالفة هواهم وموافقة أوامر الشرع ونواهيه { ويدرؤن بالحسنة } [القصص: 54] أي بأدائهم الحسنات من الأعمال الصالحة يدفعون { السيئة } أي ظلمتها وهي مخالفة الشريعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اتبع السيئة الحسنة تمحوها ".
وقال تعالى:
إن الحسنات يذهبن السيئات
[هود: 114] وهذا لعوام المؤمنين ولخواصهم أن يدفعوا بحسنة ذكر لا إله إلا الله عن مرآة القلوب سيئة صدأ حب الدنيا وشهواتها وأخص خواصهم أن يدفعوا بحسنة ففي لا إله سيئة شرك وجود الموجودات بقطع تعلق القلب عنها وغض بصر البصيرة عن رؤية ما سوى الله لإثبات وجود إلا الله كما كان الله ولم يكن شيء { ومما رزقناهم } [القصص: 54] من الوجود المجازي { ينفقون } [القصص: 54] في طلب الوجود الحقيقي { وإذا سمعوا اللغو } [القصص: 54] وهو طلب ما سوى الله { أعرضوا عنه وقالوا لنآ أعمالنا } [القصص: 55] في بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي { ولكم أعمالكم } [القصص: 55] في اكتساب مرادات الوجود المجازي به واستجلاب مضرات الشهوات وترك الوجود الحقيقي والحرمان عن سعادة الانتفاع بمنافعه { سلام عليكم } [القصص: 55] سلام مودع مفارقة لا تحية مواصل موافق لأنا لا ينتفي الجاهلين الغافلين عن الله، وطلب المحجوبين عن الله بما سواه.
[28.56-60]
ثم أخبر عن أهل الهداية في الهداية بقوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص: 56] يشير إلى أن الهداية في الحقيقة فتح باب العبودية إلى عالم الربوبية وذلك من خصائص قدرة الله تعالى لأن لقلب العبد بابين: باب إلى النفس والجسد وهو مفتوح أبدا وباب الروح في الحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده المفتاح.
كما قال تعالى لحبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك
[الفتح: 1-2] أي بأن يهديك
صراطا مستقيما
[الفتح: 2] إلى الحضرة كما هداه ليلة المعراج إلى أقرب أو أدنى وقال في حق المغلوق أبواب قلوبهم
أم على قلوب أقفالهآ
[محمد: 24] وقال صلى الله عليه وسلم:
" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقبله كيف يشاء فإن يشاء أقامه وإن شاء أزاغه "
فالنبي صلى الله عليه وسلم مع جلال قدره لم يكن آمنا على قلبه وكان يقول:
" يا مقلب القلوب ثبت قلب عبدك على دينك وطاعتك "
والهداية عبارة عن تقليب القلب من الباطل وهو ما سوى الله إلى الحق وهو الحضرة فليس هذا من شأن غير الله كما قال تعالى: { ولكن الله يهدي من يشآء وهو أعلم بالمهتدين } [القصص: 56] وهم الذين أصابهم رشاش النور المرشش على الأرواح كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليه من نوره فمن أصابه ذلك النور قد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل ".
وبقوله: { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ } [القصص: 57] يشير إلى مقالة النفس وصفاتها تحت القلب لقالوا اتبعنا هدى الله معك نتخطف بجذبات الألوهية من أرضنا أرض الأنانية قال الله تعالى: { أولم نمكن لهم حرما آمنا } [القصص: 57] في الهوية { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [القصص: 57] أي حقائق كل ثمرة روحانية وجسمانية ولذائذ كل شهوة راجعة إليه إذ هي صارت منه وفي حقيقة لذائذه وإليه يعود { رزقا من لدنا } [القصص: 57] لا من لون المخلوقات { ولكن أكثرهم } [القصص: 57] أن أكثر الخلق { لا يعلمون } [القصص: 57] كمالية ذوق الرزق اللدني كما لا يعلمون أكثر العلماء دون العلم اللدني؛ لأنهم لم يذوقوه ومن يذق لا يدري.
ثم أخبر عن هلاك البشر في دعوى البطر بقوله: { وكم أهلكنا من قرية بطرت } [القصص: 58]، فيه الإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } [القصص: 58] يشير إلى قلوب أفسد شعورها عيش النفوس البطرة المتنعمة { فتلك مساكنهم } [القصص: 58]، وهي الصدور { لم تسكن من بعدهم } [القصص: 58] أي: من فساد حالهم ما يسكن فيها نور الإسلام { إلا قليلا } [القصص: 58] من نور الإسلام، ذلك أن مسكن نور الإسلام الصدر قال تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22] { وكنا نحن الوارثين } [القصص: 58] بأن يرجع نور الإسلام إلى الحضرة لعدم استعداده لقبول الأنوار { وما كان ربك مهلك القرى } [القصص: 59] أي قرى القلوب { حتى يبعث في أمها } [القصص: 59] أي روحها فإن القلب من سر تلك الروح { رسولا } [القصص: 59] أي: ورده من نفحات الحق صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى:
" ألا إن في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها "
{ يتلو عليهم آياتنا } أي: تصل روائح النفحات إلى سويداء القلوب هواء حب الدنيا وضيم شهواتها فأعرضت عن نفحة الحق وتعرضت لنفحات الشيطان وهو حبس النفس، فأدركتها الغيرة الإلهية وأهلكتها نفحة الحق تعالى المتعرض لنفحة الشيطان الرجيم وذلك معنى قوله: { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } [القصص: 59]، وبقوله: { ومآ أوتيتم } [القصص: 60] يا أرباب القلوب المهلكة والنفوس المتمردة أي: وما أوتيتم من مستلذات النفس وشهوات الدنيا { فمتاع الحياة الدنيا } [القصص: 60] أي هي فانية موجبة لعذاب الأبد { وما عند الله } [القصص: 60] كما قال:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
، { خير وأبقى } [القصص: 60] لكم وهو موجب لسعادة الأبد { أفلا تعقلون } [القصص: 60] لكي لا يؤثر السعادة الأبدية على الشقاوة الأبدية.
[28.61-65]
ثم أخبر عن الفرق بين العاقل وبين الغافل بقوله تعالى: { أفمن وعدناه وعدا حسنا } [القصص: 61] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله تعالى: { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه } [القصص: 61] يشير إلى ما وعد لعوام المؤمنين وهو الجنة ولخواصهم وهو الرؤية ولأخص خواصهم وهو الوصول والوجدان. كما قال:
" ألا من طلبني وجدني ".
وأوحى إلى عيسى عليه السلام: تجوع تراني تجرد تصل إلي { كمن متعناه متاع الحياة } الفانية { الدنيا } التي يبدل طعوم عسلها سموم حنظلها، وليس من أكرم بوجدان مولاه كمن مني بالوقوع في الجحيم في عقباه بإزاء شهوة ساعة وجدها في دنياه { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } مع الشياطين { ويوم يناديهم } ربهم وهو عليهم غضبان: { فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } [القصص: 74] أنهم شركاؤهم تعبدونهم كما تعبدونني أهم يخلقون كما أخلق؟ أم هم يرزقونكم كما رزقتكم؟ أم هم ينصرونكم اليوم ويخلصونكم من قهري وعذابي؟ { قال الذين حق عليهم القول } [القصص: 63] في الأزل بأن يكونوا من أهل النار والمراد وبين يدل قوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[السجدة: 13] { ربنا هؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم } بتقديرك { كما غوينا } بما قضيت لنا ولهم الغواية والضلالة مساكين بنو آدم إنهم من خصوصية
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70] يحفظون الأدب مع الله في أقصى البعد كما يتأدبون الأولياء على بساط أقصى القرب ولا يقولون أغويناهم كما أغويتنا كما قال إبليس صريحا ولم يحفظ الأدب قال:
قال فبمآ أغويتني لأقعدن لهم
[الأعراف: 16] ومن يحفظ الأدب يقولون ربنا { تبرأنآ إليك } منهم: { ما كانوا إيانا يعبدون } تبرؤا منهم ومن عبادتهم إياهم ندامة على ما جرى عليهم بتقدير الله بلا جهدهم وقصدهم وإبليس من أعوان نكرانه عاند الحق تعالى وتكبر على من كرمه وشرفه بقوله: لما خلقت سيدي وقال:
أنا خير منه
[ص: 76] وحقره وقال:
لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال
[الحجر: 33] من طين واعترض على الحق تعالى وقال:
خلقتني من نار وخلقته من طين
[ص: 76] وأبى واستكبر وما ندم عما صدر منه ولم يقل أنا أتبرأ مما فعلت وأسجد لآدم الآن وبقوله: { وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } [القصص: 64] يشير إلى أنكم أشركتم من دعوتهم فلم يستجيبوا لكم وأعرضتم عن توحيدي وأنا قلت لكم
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60] بل كنت أنزل كل ليلة من غاية الكرم والرحمة إلى السماء الدنيا مع تنزهي عن نزول وصعود هو من شأن المخلوقين وصفاتهم وأنادي: هل من داع فاستجيب له وهل من تائب فأتوب عليه، فما كنتم من الداعين لي ولا من التائبين إلي.
وبقوله: { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } [القصص: 64] يشير إلى تحقق نفوسهم أنهم لو كانوا يهتدون إلى الحق وسبيل الرشاد ليرون عذاب الفطام عن المألوفات وترك الشهوات واللذات النفسانية الحيوانية ومشقة التزكية عن الأوصاف المذمومة وأذية الخروج عن طبيعة البشرية، وتحمل أعباء الشريعة على خلاف الطبيعة، وهذا كما قالوا:
إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ
[القصص: 57] كما مر شرحه وبقوله: { ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين } [القصص: 65] يشير إلى حقيقة مطالبة الحق تعالى عباده في إجابتهم المرسلين على حسب أحوالهم وحسب دعوى الأنبياء فإنهم كانوا يدعون الأمم إلى التوحيد؛ ليستعدوا لدخول الجنة ونيل درجات القرب، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم مختص بالدعوة على الله.
كما قال تعالى:
إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب: 45-46] فمن أجاب الدعوة بالرغبة فسؤاله سؤال المحبة ومن لم يجب الدعوة إلا بألوهية فسؤاله سؤال الهيبة، فلا تبقي لهم تميز لهم ولا قوة عقل ولا مكنة جواب.
[28.66-70]
{ فعميت عليهم الأنبآء يومئذ فهم لا يتسآءلون } [القصص: 66] لا يحتجون بحجة لاستيلاء الحيرة عليهم واستكان المدهش منهم فلا نطق ولا عقل ولا تمييز ولا فهم { فأما من تاب } رجع إلى الحضرة على قدمي المحبة وصدق الطلب { وآمن } بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الله، { وعمل صالحا } ليتمسك بذيل متابعة دليل كامل واصل صاحب قوة وقدرة يوصله إلى الله تعالى { فعسى أن يكون من المفلحين } الفائزين عن أسرار النفس المخلصين من حبس الأنانية إلى فضاء وسعة من الهوية.
ثم أخبر عن المختار لنيل هذه الأسرار بقوله تعالى: { وربك يخلق ما يشآء } [القصص: 68] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { وربك يخلق ما يشآء ويختار } [القصص: 68] يشير إلى مشيئته الأزلية في الخلق والاختيار في خلق، وأنه مختار يخلق ما يشاء كيف يشاء ثم يشاء ولا يشاء متى يشاء وله الاختيار في خلق الأشياء، فيختار وجود بعض الأشياء على عدمه فيوجده، ويختار عدم بعض الأشياء على وجوده فيعدم، ويختار بقاء بعض الأشياء في الوجود فيجعله باقيا ولا يفنيه، ويختار بعض الأشياء في العدم فينشئه فانيا في العدم ولا يوجده.
وله الخيرة في أن: يخلق بعض الأشياء جمادا وبعض الأشياء نباتا وبعض الأشياء حيوانا وبعض الأشياء إنسانا. وأن يخلق: بعض الإنسان كافرا وبعض الإنسان مؤمنا وبعضهم وليا وبعضهم نبيا وبعضهم رسولا. وان يخلق: بعض الأشياء شيطانا وبعضها جنا وبعضها ملكا وبعض الملك كروبيا وبعضهم روحا.
وله أن يختار: بعض الخلق مقبولا وبعضهم مردودا وليس لشيء من هذه الأشياء اختيار فيما هو به ولا أن يكون شيئا آخر بعدما اختار له الله، كما قال: { ما كان لهم الخيرة } [القصص: 68] من أمرهم أي: في وجودهم على ما هم به لا على غير ما هم به، { سبحان الله وتعالى } منزه { عما يشركون } ويشاركون له في الاختيار.
وبقوله: { وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } [القصص: 69] يشير إلى مكنونات الأوصاف النفسانية والأوصاف القلبية والأوصاف السرية والأوصاف العقلية والأوصاف الروحية، فإنه هو الذي أودع في وجود هذه الودائع حين خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا فهو العالم الخبير به، كما قال:
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
[الملك: 14] هو الخبير بما أودع فيه من الأوصاف وهي على ضروب ثلاثة:
ضرب منها: ما هو فيه بالقوة ولم يحصل فيه بالفعل فلا يطبع عليه صاحبه إلا بعد حصوله بالفعل فيظهر فيه داعية استعمال فيطبع عليه أن فيه هذه القصة وإن لم يستعملها حتى يصير علنا فيبقى فيه سرا مكنونا فالله يعلم سره وعلانيته، كما قال تعالى: { يعلم ما تكن صدورهم } [القصص: 69] أي: ما يخفون { وما يعلنون } [القصص: 69] أي: ما يظهرون.
والضرب الثاني: منها ما قد حصل فيه بالفعل ويظهر عليه بما يحضر بباله داعية استعمال في العلن وإن لم يعلنه.
والضرب الثالث: منها ما يعلنه بالاستعمال في الظاهر { وهو الله لا إله } يصلح للألوهية { إلا هو } وهو المتفرد بعز الهيبة والمنفرد بجلال ربوبية لا شبيه يساويه ولا نظير يضاهيه، { له الحمد } [القصص: 70] استحقاقا على عظمته والشكر استحبابا على نعمه ففي الدنيا المحمود الله، وفي العقبى الشكور الله { له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم } [القصص: 70] فيما يخلق ويختار فهو بالرجوع إلى الحضرة بطريق ويعز ويذل ويحيي ويميت { وإليه ترجعون } [القصص: 70] بالاختيار والاضطرار فأما الاختيار فهو الرجوع إلى الحضرة بطريق السير والسلوك والمتابعة والوصول وهذا مخصوص بالإنسان دون غيره، وأما بالاضطرار فقبض الروح والحشر والنشر والحساب والجزاء بالثواب والعقاب.
[28.71-75]
ثم أخبر عن الليل والنهار أنهما من نعمته وآثار رحمته بقوله تعالى: { قل أرأيتم إن جعل الله } والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة } [القصص: 71] يشير إلى ليل الفراق عند استعلاء ظلمة البشرية أن جعله عليكم سرمدا ولا نهارا للوصال له إلى يوم القيامة { من إله غير الله يأتيكم بضيآء } [القصص: 71] يخرجكم من ليل الفراق إلى نهار الوصال، وفيه إشارة أخرى وهي أن تعلم أن ليل الفراق ونهار الوصال بإيتاء الحق ليس لغيره تصرف فيهما هو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، { أفلا تسمعون } بسمع الحقيقة لتشكروا الله الذي ينعم عليكم بذهاب ليل الفراق وإيتاء نهار الوصال.
{ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار } [القصص: 72] نهار الوصال بطلوع شمس التجلي { سرمدا } لا ليل له { إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل } [القصص: 72] ستر { تسكنون فيه } عن وعثاء سطوة التجلي وتستريحون فيه من نصب تحمل أعبائه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مع كمال قوته عند حمل أعباء الوحي لما غلب كان يقول لعائشة رضي الله عنها:
" كلميني يا حميراء "
وذلك لتخرجه من سطوات الشمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب وليس هذا الستر من قبيل الحجاب، فإن الستر يكون عقيب التجلي وهو محاب الرحمة والمحبة لا حجاب الرحمة والمحبة، وذلك من جملة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم محميا به إذ كان يقول:
" إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة "
به يخبر عن الستر والتجلي وذلك من غاية اللطف والرحمة والحجاب ما يكون العبد محجوبا عن الحق تعالى وذلك من غاية القهر والعزة.
كما قال تعالى في المقهورين:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
[المطففين: 15] وبقوله تعالى: { أفلا تبصرون } يشير إلى أنكم لا تنظرون ببصر البصيرة أن الجبل لم يستقر مكانه عند سطوة صفة الربوبية وجعله دكا وخر موسى مع قوة نبوته صعقا، وذلك التجلي في أقل مقدار طرفة عين، فلم دام كيف يعيش الإنسان الضعيف، وهذا كما أن فلك الشمس تدور في بعض المواضع وجوبا لا غروب للشمس فيه فنهاره من شدته فلا يعيش الحيوان فيه، ولا ينبت النبات فيه من قوة حرارة الشمس فيه، وكذلك يدور فلك الشمس في بعض المواقع بعكس هذا تحت الأرض ليس للشمس طلوع فليله سرمدي لا يعيش الحيوان أيضا فيه ولا ينبت النبات، فلهذا المعنى قال تعالى: { ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار } [القصص: 73] أي: ليل الستر ونهار التجلي { لتسكنوا فيه } في ليل الستر لتستريحوا وتسكنوا بسكون حاشتكم { ولتبتغوا } في نهار التجلي { من فضله } أي: فضل وصاله وفيه معنى آخر أن تسكنوا إلى الوصال في نهار التجلي نظيره قوله:
وجعل منها زوجها ليسكن إليها
[الأعراف: 189] ولتبتغوا من فضله فضل وصاله في ليل الستر متطلعين لطلوع شمس التجلي في نهار الوصال { ولعلكم تشكرون } هذه النعمة فإن الشكر موجب الزيادة في النعمة كما قال تعالى:
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم: 7] وحقيقة الزيادة وهي الرؤية لقوله
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26].
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الحسنى هي الجنة والزيادة هي الرؤية "
فمعنى الآية ولعلكم تشكرون لكي يكون نعيم الدنيا موصلا بنعيم الآخرة، وذلك تحقيقه قوله:
ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
[البقرة: 201] أي: حسنة الوصال
وقنا عذاب النار
[البقرة: 201] نار الفراق وفائدة تكرار قوله: { ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } [القصص: 74] أنهم لعلهم تذكرون بخطاب ويوم يناديهم نداء كل ليلة يناديهم هل من داع هل من تائب فيجيبونه ويرجعون إليه.
وبقوله: { ونزعنا من كل أمة شهيدا } [القصص: 75] يشير إلى مقتضى نظر العناية ينزع من كل أمة من أرباب النفوس شهيدا وهو القلب الحاضر في بعض أهل النفوس المتمردة الذين لهم قلوب حاضرة بلا شعور نفوسهم فنظر الله، وبقوله: { فقلنا هاتوا برهانكم } [القصص: 75] يشير إلى أن لتلك القلوب براهين التوحيد بالقوة لا يحصل فيها بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق وتأييد أمره وهو قوله: { هاتوا } عند حصول البراهين بالفعل في قلوبهم فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق هو حقيقة الإلهية لله تعالى وتعالى له وليس له في ذلك شريك { وضل عنهم } [القصص: 75] أي زال وبطل عن القلوب { ما كانوا يفترون } [القصص: 75] النفوس المتمردة من الشبهات في إثبات الشركاء لله تعالى، ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل
[الأعراف: 43].
[28.76-78]
ثم أخبر أن قارون كان نسيب موسى كهارون فأدركت العناية هارون وأدرك الخذلان قارون بقوله تعالى: { إن قارون كان من قوم موسى } [القصص: 76] والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم } [القصص: 76] يشير إلى أن قارون النفس من قوم موسى القلب تحقيقه أن الله تعالى جعل النفس تبعا للقلب وسعادتها في متابعته، وشقاوتها في بغيها عليه وترك متابعته وسبب بغيها قوله: { وآتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } [القصص: 76] وكنوزها ما يودع في خزائن صفاتها فإن في خزائن كل صفة من صفاتها كنزا من خواصها المودعة فيها فبإيتاء الكنوز يشير إلى تهيج دواعيها وغلبات خواصها من البطر والنشاط والغرور، وأما بغيها الإباء والاستكبار والعجب والتمرد عن قبول النصح. { إذ قال له قومه } [القصص: 76] بنو إسرائيل صفات القلب { لا تفرح } [القصص: 76] بشهوات الدنيا وزينتها { إن الله لا يحب الفرحين } [القصص: 76] بها، وإنما يحب من يفرح بإقامة العبودية وطلب السعادة الأخروية، كما قال تعالى:
فبذلك فليفرحوا
[يونس: 58].
ومن جملة النصيحة قوله: { وابتغ فيمآ آتاك } [القصص: 77] أي: من الاستعداد الإنساني { الله الدار الآخرة } باستعماله في العبودية المأمور بها لنيل السعادة الأخروية الباقية { وأحسن } يعني: في العبادة بأن تعبد الله كأنك تراه شوقا إلى لقائه ومن الإحسان أن تطلب الله بجميع مساعيك { كمآ أحسن الله إليك } بأن طلبك من العدم ودعاك إلى الوجود بجميع صفاته
هل جزآء الإحسان
[الرحمن: 60] طلبه إياك
إلا الإحسان
[الرحمن: 60] إحسان طلبك إياه ليحسن إليك في جزاء إحسانك إليه بوجود الوصال والوصول كقوله:
" إلا من طلبني وجدني "
{ ولا تبغ الفساد في الأرض } [القصص: 77] أرض الروحانية بما آتاك الله من استعداد الروحاني والإنساني { إن الله لا يحب المفسدين } [القصص: 77] من الصفات النفسانية التي تفسد استعداد الروحانية الإنسانية القابلة لفيض الصفات الربانية.
وبقوله: { قال إنمآ أوتيته على علم عندي } [القصص: 78] يشير إلى أن نظر قارون النفس لقصوره ومناسبة طبعها لا يقع إلا على نفسه وكسبه بمحجوب نظره عن القدرة الإلهية والمواهب الربانية { أولم يعلم } [القصص: 78] قارون النفس { أن الله قد أهلك من قبله } [القصص: 78] أي: من قبل إهلاكه { من القرون من هو أشد منه قوة } [القصص: 78] في الفساد والإفساد كنمرود { وأكثر جمعا } [القصص: 78] للطاعة والعلم مثل إبليس وأتباعه { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } [القصص: 78] عند إهلاكهم كيلا يشتغلوا بالاعتذار، كما قال تعالى:
ولا يؤذن لهم فيعتذرون
[المرسلات: 36].
[28.79-82]
{ فخرج على قومه في زينته } [القصص: 79] يشير إلى أن قارون النفس مهما خرج على قومه أي: بني إسرائيل صفات القلب في إظهار ما
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث
[آل: عمران: 14] واستعماله في الصورة يفرز من تلك المعاملات ظلمات مسودة وجوه الصفات القلبية وتكدر صفوها وتقلب أحوالها وتغير طبعها حتى تتصف بصفات النفس، وتتبدل إرادة الآخرة بإرادة الدنيا وشهواتها إلى أن { قال الذين يريدون الحياة الدنيا يليت لنا مثل مآ أوتي قارون } [القصص: 79] النفس، { إنه لذو حظ عظيم } [القصص: 79] من نعيم الدنيا وزينتها وإنما وقع نظرهم على عظمة الدنيا وزينتها مع دناءتها وخستها وهوانها وقلة متاعها؛ لأنه اعتل بعلة سب حب الدنيا وزينتها المولد من تراكم شهوات ظلمات صفات النفس بعضها فوق بعض فهم ينظرون بنظر ظلمات صفات النفس بعد أن كانوا ينظرون بنظر نور صفات القلب ويبصرون عزة الآخرة وعظمتها وخسة الدنيا وهوانها، فإن الرضاع يغير الطباع.
وبقوله: { وقال الذين أوتوا العلم } [القصص: 80] يشير إلى صفات الروح الباقية على حالها غير متصفة بصفات النفس إذ قالوا: { ويلكم } [القصص: 80] لصفات القلب المتغيرة توبيخا لهم { ثواب الله } [القصص: 80] أي: ما يجازي الله من القربات والوصلات من دون الجنة { خير لمن آمن } بوحدانية الله تعالى { وعمل صالحا } للوصول إلى الوحدة { ولا يلقاهآ } المرتبة { إلا الصابرون } [القصص: 80] عن الدنيا وزينتها والآخرة ونعيمها والصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة على قانون الطريق إلى الوصول بعالم الحقيقة.
وبقوله: { فخسفنا به وبداره الأرض } [القصص: 81] يشير إلى أن حاصل قارون النفس إذا بغى على موسى القلب وصفاته وخرج عن المتابعة وعن زينة الحياة الدنيا واستيفاء لذاتها وشهواتها ومتابعا لهواه أن يخسف به الأرض أرض دركات السفل وأسفل سافلين النار ثم يخسف بداره وداره قالبه والأرض أرض جهنم فها خالدين أبدا.
[28.83-88]
ثم أخبر عن نجاة أهل الدرجات عن الدركات بقوله: { تلك الدار الآخرة } والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { تلك الدار الآخرة } يشير إلى عالم الغيب والأرواح { نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } [القصص: 83] أي: للأرواح المقدسة عن دنس الصفات الحيوانية المؤيدة بالتأييد الإلهي الذين لا يريدون علوا في أرض البشرية كالنفوس المتمردة كنفوس الفراعنة والجبابرة والأكاسرة ولا في أرض الروحانية مثل نفوس الأبالسة وبعض الأرواح الملكية مثل هاروت وماروت { ولا فسادا } [القصص: 83] بالنظر إلى غير الله يعني نجعل مملكة عالم الغيب والملكوت في تعرف الأرواح المذللة بالعبودية الخاضعة الخاشعة المطيعة المتواضعة المخلصة للربوبية غير الطالبة للعلو في الدارين ولا الناظرة إلى غير الله بنظر المحبة ليتصرف فيها بالكلية، يدل عليه قوله تعالى في بعض الكتب المنزلة: " عبدي أنا ملك حي لا أموت أبدا أطعني أجعلك ملكا حيا لا تموت أبدا، عبدي أنا ملك إذا قلت بشيء كن فيكون أطعني أجعلك ملكا إذا قلت لشيء كن فيكون " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت ".
وبقوله: { والعاقبة للمتقين } يشير إلى أن عاقبة الأمور أن يكون ملك الوحدة لمن اتقى بوحدانية الحق عما سواه { من جآء بالحسنة } [القصص: 84] أي: بمثل هذه الحسنة أي الإعراض عما سوى الله { فله خير منها } [القصص: 84] من مواهب الحق بإفاضة الفيض الإلهي الذي يورث ملك الوحدة لأنه ما أعرض عنه فهو مخلوقه، فافهم جدا.
{ ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } [القصص: 84] يشير إلى جزاء السيئات على حسب ما يعملون من السيئات فإن كانت السيئة بالشرك بالله فجزاؤه النار للأبد، وإن كانت المعاصي فجزاؤه العذاب بقدر المعاصي صغيرها وكبيرها، وإن كان حب الدنيا والرئاسة والسلطة الدنيوية فجزاؤه الذلة والصغار ونيل الدركات، وإن كانت طلب نعيم الآخرة ورفعة الدرجات فجزاؤه الحرمان عن كمالات القرب وكشف شواهد الحق تعالى، وإن كانت التلذذ بفوائد العلوم العقلية واستجلاء المعاني المعقولة فجزاؤه الحرمان عن كشف العلوم اللدنية والمعارف الربانية، وإن كانت ببقاء الوجود فجزاؤه الحرمان عن الفناء في أمد البقاء بالله بتجلي صفات الجمال والجلال.
وبقوله: { إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد } [القصص: 85] يشير إلى كمالية قدرها للنبي صلى الله عليه وسلم وخصه بها دون سائر الخلق في مقام الوحدة فبشره بها إن الذي { فرض عليك القرآن } أي: أوجب عليك أن تتخلق بخلقه وهو صفتي فيفني نورها ظلمة صفتك، فتكون فانيا عن صفاتك باقيا بصفاتي عند تجلي صفاتي لصفاتك، وإنا { لرآدك } أي: راد مرآتك بتجلي ذاتي { إلى معاد } خرجت من العدم لتكون فانيا عن أنانية ذاتك بأنانية ذاتي باقيا بأنانيتي كما أن صفاتك صارت فانية عنا باقية بصفاتي لتبقى بالذات والصفات فانيا عنك باقيا بذاتي وصفاتي { قل ربي أعلم من جآء بالهدى } ببذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { ومن هو في ضلال } [القصص: 85] وجوده باقيا { مبين } [القصص: 85] ضلالته في أفعاله وأحواله.
وبقوله: { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } [القصص: 86] يشير إلى أن العلوم الإنسانية والفهوم الروحانية قاصرة عن إدراك ما أخفى من قرة أعين، { وما كنت } يا محمد أيضا { ترجو أن يلقى إليك الكتاب } أي: القرآن الإكسير على النحاس لتبديل جوهر نحاس أنانيتك بإبريز هويته ما كان ذلك { إلا رحمة من ربك } [القصص: 86] اختصك بهذه الرحمة على جميع الأنبياء؛ لأن كتبهم أنزلت في الألواح والصحف على صورتهم وكتابك نزل به الروح الأمين على قلبك ألقاه كإلقاء الإكسير { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } [القصص: 86] بل تكون ظهيرا للمؤمنين بالدعوة إلى ربهم.
وبقوله: { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } [القصص: 87] يشير إلى أنه بعد إلقاء إكسير الكتاب وتبدل الجوهر يحتمل الصدود عن آيات الله؛ لأن القدرة به باقية لئلا يأمن مكر الله ويكون أعلم منا بالله وإحسانا منه.
ثم قال دفعا لآية الصدود { وادع إلى ربك } [القصص: 87] وهذا أيضا من اختصاصك به أن له الدعوة إلى الحضرة الربوبية بإفناء الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { ولا تكونن من المشركين } في الدعوة بأن تدعو طلاب الحق وعشاقه إلى الجنة والحضرة فادعهم إلى ربهم خالصا عن شرك الجنة كما قال تعالى:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5] { ولا تدع مع الله إلها آخر } من الهوى والدنيا والآخرة لأنه { لا إله إلا هو } أي: لا معبود ولا مطلوب ولا مقصود إلا وجهه أي لا محبوب إلا هو فإن { كل شيء } دونه { هالك } أي قابل للهلاك؛ إهلاكه بقدرته { إلا وجهه } أي: ذاته تعالى نظيره.
قوله:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك
[الرحمن: 26-27] أي: ذات ربك { له الحكم } فيما قضى وقدر وخلق ودبر وبحكمته البالغة جعل أسفل السافلين إلى أعلى عليين القرب ومقام قاب قوسين أو أدنى من حضرة رب العالمين دركات ودرجات، وجعل كل دركة مقام مردود من المبغضين وكل درجة مقام مقبول من المحبين والمحبوبين { وإليه ترجعون } وأرباب الدركات بالقهر للعذاب الأليم، وأرباب الدرجات باللطف للإكرام.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-6]
{ الم * أحسب الناس } [العنكبوت: 1-2] والإشارة في تحقيق الآيات تعالى { الم } يشير بالألف إلى تفرده عن كل شيء بوجه الفناء، وعدم لعدم الاحتياج وتوحده بالاستغناء كالألف عن الاتصال بالحروف واحتياج الحروف بالاتصال به، وباللام يشير إلى لطفه بعباده، وبالألف واللام يشير إلى الآية فكأنه أقسم بفردانيته وآلائه ونعمائه، وبالميم يشير إلى منه وإلى من أي العبد ومن الرب يعني: أنه أقسم بالآية مهما يكون من العبد التقرب إلى الرب بأصناف العبودية يكون من الرب التقرب إلى العبد بألطاف الربوبية، فمن العبد أداء العبادة بشكر النعم ومن الرب إعطاء السيادة بمزيد الكرم { أحسب الناس } يعني: الناس من أهل الغفلة والبطالة { يتركوا أن يقولوا آمنا } بالتقليد والجهالة بمجرد الدعوى دون المطالبة بالبلوى { وهم لا يفتنون } بأنواع البلاء لتخليص إبريز الولاء، فإن البلاء للولاء كاللهب للذهب، وإن المحبة والمحنة توأمان فلا مميز بينهما إلا نقطة الباء به يشير إلى أن أهل المحبة إذا أوقعوا أنفسهم كنقطة الباء تحتها تواضعا لله رفعهم كالنقطة فوق النون، ومن تكبر وطلب الرفعة والعلو في الدنيا كالنقطة فوق النون وصفه بالذلة كالنقطة تحت الباء، وقيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
" يبتلى الرجل على حسب دينه ".
وقال:
" البلاء موكل للأنبياء فالأمثل والأمثل "
فالعاقبة لمن لا يعرف قدرها كالدواء والبلاء لمن يعرف قدره كالدواء، فالبلاء على النفوس: لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل، وعلى القلوب: لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيوب، والبلاء على الأرواح: لتجردها بالبوائق عن العلائق، والبلاء على الأسرار: في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه، وإن أشد حفظ وجود التوحيد؛ لئلا يجري عليه مكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق ولا يدري أنه من الحق ولا يقال أنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك.
وبقوله: { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } [العنكبوت: 3] يشير إلى صدق الصادقين وكذب الكاذبين الذين عجنوا في تخمير طينتهم لا يظهر إلا إذا طرح في نار البلاء تصاعدت فيها روائح الضر وفوائح الشكر عن عود جوهر الصادقين ويصده بصدتين الضجرة وكفران النعمة عن رشيق جوهر المذنبين، وأنهم في البلاء على ضروب منهم: من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء وهذه صفة الصادقين، ومنهم: من يصبح ولا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء فهو من الكاذبين، ومنهم: من يؤثر في حال الرخاء لا يستمتع في العطاء ويستريح إلى البلاء فيستعذب مقاساة الضر والعناد وهذا أقل الكبراء.
وبقوله { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } [العنكبوت: 4] يشير إلى أنه من موجبات عمل السيئات سواد وجوه مرآة القلوب بصداء الحسبان، ورين الكفران ليتوهموا أنهم يسبقونا بالعدول عن طريق متنافي الانتقام عن المجرمين، وينجو من سطوات بإلقاء جلباب الحياء ونقض عهد الوفاء ولزوم الجفاء اغتروا بإمهالنا اليوم إياهم في رياض الغفلات مسرحين عشب الشهوات ناسين يوم الحسرات { سآء ما يحكمون } [العنكبوت: 4] بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات ونيل الدرجات هيهات هيهات أفلا يعلمون أن { من كان يرجوا لقآء الله فإن أجل الله لآت } [العنكبوت: 5] أي: من أقبل الثواب يؤمن أعمال تورث العذاب ويعانق المجاهدات فإنها تورث المشاهدات، ومن زكى عمره في رجاء لقائنا فسوف ينج وله النظر إلى جمالنا { وهو السميع } لأنين الشاقين { العليم } بحنين الواقفين الصادقين.
{ ومن جاهد } [العنكبوت: 6] أي: سعى في طلبنا { فإنما يجاهد لنفسه } وليزكيها عن الأخلاق الذميمة ويحليها بالأوصاف الحميدة، فيتخلص عن سجن الأمارية ويستأهل لجنته المطمئنة فيستحق لجذبة العناية بخطاب: ارجعي إلى ربك، فإني خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم هنا لي عنهم، وذلك قوله: { إن الله لغني عن العالمين } والعالمون هم الفقراء إلى الله والمحتاجون إليه في الدارين.
[29.7-11]
{ والذين آمنوا } [العنكبوت: 7] أي: أخلصوا قلوبهم لمحبتنا { وعملوا الصالحات } [العنكبوت: 7] بجميع وجودهم لبذله في طلب وجودنا { لنكفرن عنهم سيئاتهم } [العنكبوت: 7] لنفنين عنهم سيئاتهم أي: سيئات وجودهم { ولنجزينهم } [العنكبوت: 7] أي لنعطيهم وجودا حقيقيا { أحسن الذي كانوا يعملون } [العنكبوت: 7] بذل وجودهم لنيل وجودنا.
ثم أخبر عن وصية الإنسان لوالديه بالإحسان يقول: { ووصينا الإنسان } [العنكبوت: 8]، والإشارة في تحقيق الاثنين بقوله: { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } [العنكبوت: 8]، يشير إلى تعظيم الحق تعالى، وعظيم شأنه وعزة الأنبياء وإعزازهم، وعرفان قدر المشايخ وإكرامهم؛ لأن الأمر برعاية الحق والوالدين المعنيين:
أحدهما: أنهما كانا سبب وجود الولد.
والثاني: أن لهما حق التربية، فكلا المعنيين في إنعام الحق تعالى على العباد حاصل بأعظم وجه، وأجل حق منهما لأن حقهما كان مشوبا بحظ نفسهما وحق الله تعالى منزه عن الشوب، وأنهما وإن كانا سبب وجود الولد لم يكونا مستقلين بالسببية بغير الحق تعالى وإرادته؛ لأنهما كانا في السببية محتاجين إلى مشيئته وإرادته بأن يجعلهما سببا لوجود الولد، فإن الولد لا يحصل بمجرد سببهما بالنكاح بل تحصيل بموهبة الله تعالى.
كما قال:
يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور
[الشورى: 49] فالسبب الحقيقي بإيجاد آدم عليه السلام.
وأما الشريعة فنسبتها إلى الله حقيقية بأنه رب كل شيء ومربيه، ونسبتها إلى الوالدين مجازية؛ لأن صورة التربية إليهما حقيقة التربية إلى الله تعالى كما ربى نطفة الولد في الرحم حتى جعلها علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كساها اللحم ثم أنشأه خلقا آخر، والله تبارك وتعالى أعظم قدرا في رعاية حقوقه بالعبودية من رعاية حق الوالدين بالإحسان، وإن الواجب على العبد أن يخرج من عهده حق العبودية بالإخلاص ولا ثم يحسن بالوالدين.
كما قال تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
[الإسراء: 23] وأما النبي والشيخ لما كان سبب الولادة الثانية بإلقاء نطفة النبوة والولاية في رحم قلب الأمة والمريد وتربيتها إلى أن يولد الولد عن رحم القلب في عالم الملكوت.
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم رواية عن عيسى عليه السلام أنه قال:
" لم يلج ملكوت السماوات والأرض من لم يولد مرتين "
فكانا أحق برعاية الحقوق من الوالدين؛ لأنهما كانا سبب ولادته في عالم الأرواح وأعلى عليين القرب والوالد إن كانا سبب ولادته في عالم الأشباح وأسفل سافلين البعد، ولهذا السر كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنما أنا لكم كالوالد لولده "
وقد كانت أزواجه أمهات للأمة وقال صلى الله عليه وسلم:
" الشيخ في قومه كالنبي في أمته "
ولما كان لله تعالى في الإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصه به قبل وبعد أحق وأولى برعاية حقوقه عن الوالدين.
قال تعالى: { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ } [العنكبوت: 8] وفيه إشارة إلى أن المريد الصادق والطالب العاشق إذا تمسك بذيل إرادة شيخ كامل ودليل واصل بصدق الإرادة وعشق الطلب بعد خروجه عن الدنيا بتركها بالكلي جاهها ومالها، وقد سعى بقدر الوسع في قدر تعلقات تمنعه عن السير إلى الله متوجها إلى الحضرة بعزيمة كعزيمة الرجال، فإن كان له ولدان وهما بمعزل عما يهيجه من الصدق والمحبة فهما بجهلهما عن حال الولد يمنعان عن صحبة الشيخ وطلب الحق بالإعراض، ويقبلان به إلى الدنيا ويرغبانه في طلب جاههما ومالها ويحثان على التزويج في غير أوانه، فالواجب على المريد أن لا يطيعهما في شيء من ذلك فإن ذلك بالكلي طاغوت وقته وعليه أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وهما يجاهدانه على أن يشرك بالله لجهلهما بحاله وحال نفسهما وأنه يريدان أن يخرج عن عهدة العبودية الخالصة لربه، كما قضى ربه أن لا يعبدا إلا إياه، ولا يعبد من دونه من الدنيا والآخرة وما فيهما، وما يعلمان مهما يكن أنهن عبدة الهوى وأنهما يدعوانه إلى عبادة غير الله، فالواجب عليه أن لا يطيعهما في ذلك، ولكن عليه أن يردهما باللطف، ولا يزجرهما بالعنف إلى أن يخرج عن عهدة ما قضى به من العبودية بالإخلاص، ثم الواجب عليه أن يحسن إليهما ويسمع كلامهما ويطيعهما فيما لا يقطعه عن الله على وفق أمره.
ثم أوعد الجميع بالمرجع إليه فقال { إلي مرجعكم فأنبئكم } [العنكبوت: 8] أيها الولدان والوالدان { بما كنتم تعملون } [العنكبوت: 8] من العبادة الخالصة لله، ومن عبادة الهوى على لسان جزائكم ليقول لكم أن مرجع عبدة الهوى الهاوية: { والذين آمنوا } المحبة الحق وطلبوه بأن { وعملوا الصالحات } أي: أعمالا تصلح للسير إلى الله والوصول إلى حضرة جلال { لندخلنهم في الصالحين } [العنكبوت: 9] أي: ندخلهم مقام الأنبياء والأولياء بجذبات العناية تفهم إن شاء الله، وتؤمن به ثم أخبر عن صورة إيمان بلا معنى ولا إيقاف بقوله تعالى: { ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذي في الله } [العنكبوت: 10] يشير إلى حقيقة الإيمان نور إذا دخل قلب المؤمن ينظر الله تعالى وعنايته لا تخرجه أذية الخلق بل يزيد بالصبر على أذاهم والتوكل على الله، كما قال تعالى:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
[آل عمران: 173] وكقوله:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لمآ أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
[آل عمران: 146] وذلك لأن المحن تظهر جواهر الرجال، وهي تدل على قيمتهم وأقدامهم فقدر كل أحد وقيمته تظهر في محنته من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها، أو كانت محنته بموت قريب من الناس أو فقد حبيب من الخلق فحقر قدره وكثير من الناس مثله، ومن كانت محنته في الله ولله تعزيز قدره وقليل من كان مثله بقدر الوقوف في البلاء يظهر جواهر الرجال يصفوا عن الخبث مرآة قلوبهم، ويتزكى عن رذائل أخلاق نفوسهم كما تخلص جوهر نعم العبدية عن معدن الإنسانية بمدة أيام البلاء لأيوب عليه السلام مستعين بالصبر على البلاء، فالمؤمن من يكف الأذى، والولي من يجلي عن الخلق الأذى ويتشرب ولا يترشح عنه الشكوى عن البلوى ولا إظهار الدعوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منه كل مليح، ومن كان إيمانه لسانيا لا جنانيا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فإذا أوذي في الله { جعل فتنة الناس } وإذا هم { كعذاب الله } في الآخرة فتستولي عليه حرفة البشرية إذا لم يكن في حماية خوف الله وخشيته يفترسه خوف الخلق.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من خاف الله خوف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله يخوفه من كل شيء "
فإنه كان في معدن القلب جوهر القلب مودع يخرجه بسببين البلاء والجزع منه وذلك معنى قوله: { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } [العنكبوت: 11].
[29.12-19]
وقوله: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } [العنكبوت: 12] يشير إلى أن كافر النفس، ومنه أنهم يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية للمؤمنين من القلب والسر والروح بجميع صفاتهم { اتبعوا سبيلنا } في طلب الشهوات الحيوانية لاستيفاء الحظوظ بمددهم وموافقتهم { ولنحمل خطاياكم } أي: نرفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعتنا لنيل الشهوات ومستلذات الطبع { وما هم بحاملين من خطاياهم } [العنكبوت: 12] أي: ضرر ما يحصل من خطاياهم { من شيء } [العنكبوت: 12] لأنه من الضرر الذي يحصل للروح والقلب في متابعة النفس العمى والصم والبكم والجنون والاتصاف بجميع الصفات النفسانية { إنهم لكاذبون } في حمل هذه الآفات والضرر عنهم ولكن { وليحملن أثقالهم } [العنكبوت: 13] هذه الآفات التي بها أنفسهم متصفة { وأثقالا مع أثقالهم } [العنكبوت: 13] يعني: يضعف الضرر الذي يحصلون لهم من متابعتهم مع الضرر الذي يحصلون لأنفسهم في تتبع الشهوات واستيفاء اللذات من غير أن يحملوا عنهم مما عليهم، { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } [العنكبوت: 13] يعني: النفوس، وآخذون بما يوعدون الأرواح والقلوب في الاستتباع ويؤمنونهم من سطوات قهر الله بأن يحملوا خطاياهم، ويعزونهم بذلك.
ثم أخبر عن ابتلاء أهل الولاية بقوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة } [العنكبوت: 14] إلى قوله: { إن ذلك على الله يسير } [العنكبوت: 19] يشير إلى أنه تعالى كما بدأ الخلق بإخراجهم عن العدم إلى عالم الأرواح، ثم أهبطهم من عالم الأرواح غلى عالم الأشباح عابرين على الملكوت والنفوس السماوية والأفلاك والأنجم والفلك الأثير والهواء والبحار وكرة الأرض، ثم على المركبات والمعادن والنبات والحيوان إلى أن يبلغ أسفل سافلين الموجودات وهو القالب الإنساني، كما قال تعالى:
ثم رددناه أسفل سافلين
[التين: 5] أي : بتقدير النفخة الخاصة كما قال:
ونفخت فيه
[الحجر: 29] فكذلك نعيده بجذبات العناية إلى الحضرة راجعا من حيث هبط عابرا على المنازل والمقامات التي كانت على قمره بقطع تعلق نظره إلى خواص هذه المنازل، وترك الانتفاع بها فإنها حال العبودية على هذه المنازل استعاد خواصها وبعض أجزائها منها لاستكمال الوجود الإنساني روحانيا جسمانيا، فصار محجوبا عن الحضرة فعند رجوعه إلى الحضرة بجذبة (ارجعي) يرد من كل منزل ما استعاد منه، فإن العارية مردودة إلى أن يعاد إلى العدم بلا أنانية بتصرف جبة العناية { إن ذلك على الله يسير } أي: على العبد العود إلى الله بلا جذبة العناية عسير غير ممكن.
[29.20-26]
وهذا الرجوع والعود معنى قوله: { قل سيروا في الأرض } أي: أرض الوجود الإنساني { فانظروا كيف بدأ الخلق } بالعبور على المنازل المذكورة من العدم كذلك الرجوع بالعبور عليها أن يعود إلى العدم { ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } بعد انخلاعه عنه من كسوة الأنانية يلبس خلعة الهوية لاختصاصه بمنزلة الخلافة.
{ إن الله على كل شيء قدير } [العنكبوت: 20] إن الله قادر على أن يجعل المستقر لهذه الكرامة عند إظهار القهر لشر البرية { يعذب من يشآء } [العنكبوت: 21] بعذاب البعد والقطيعة والهجران { ويرحم من يشآء } [العنكبوت: 21] بتجرده عن كسوة الوجود، وتوقده بالوحدانية في الوصول والوصال { ومآ أنتم بمعجزين في الأرض } [العنكبوت: 22] أرض البشرية { ولا في السمآء } [العنكبوت: 22] سماء الروحانية لاستجلاب مقامات قرب الملكوتية { وما لكم من دون الله من ولي } [العنكبوت: 22] تتولونه { ولا نصير } [العنكبوت: 22] يستخلصكم عن بطشه بجذبة العناية إذ لم يعرفوا قدر هذه النعمة الجسمية، بقوله: { والذين كفروا بآيات الله ولقآئه } [العنكبوت: 23] يشير إلى طائفة من أرباب الطلب وأصحاب السلوك العابرين على بعض المقامات، المشاهدين آثار شواهد الحق الكاشفين ببعض الأسرار، ثم أدركتهم القربة بحجاب العزة فابتلاهم الله للغيرة بالالتفات إلى الغير، فحجبوا بعد أن كوشفوا، واستتروا بعد أن تجردوا، واستدرجوا بعد أن رفعوا، وبعدوا بعد أن قربوا، وحاروا بعد أن كاروا نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
ثم أخبر على حالهم ومآلهم فقال : { أولئك يئسوا من رحمتي } [العنكبوت: 23] عند قسمة الرحمة على المرحومين دون المرجومين { وأولئك لهم عذاب أليم } [العنكبوت: 23] وهذا عذاب الطرد والهجران والقطيعة والحرمان.
ثم أخبر عن جواب قوم إبراهيم له بغير الصواب بقوله تعالى: { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } [العنكبوت: 24] يشير إلى أن من شأن إبراهيم الروح أن يدعو تمرود النفس وقومه أي: صفاتها إلى الله ونهاهم عن عبادة الأوثان من الهوى والدنيا وما سوى الله، وأن من شأن نمرود النفس الأمارة بالسوء وصفاتها أن يجيبوه من لوم طبعهم وغاية سفههم بقولهم: { اقتلوه } بسيف الكفر والشرك وترك عبادة الله ولزوم عبادة غير الله، { أو حرقوه } بنار الشهوات والأخلاق الذميمة، فإن هاتين الحالتين أسباب هلاكه مودعة فأوقدوا عليه نار الشهوات والأخلاق الذميمة { فأنجاه الله من النار } [العنكبوت: 24] وجعلها عليه بردا وسلاما إذ أخلص جوهر الروحية من حرقة نار الشهوات والأخلاق، ومتعه بالخصائص المودعة فيها مما لم يكن في جبلة الروح مركوزا وكان به محتاجا في سيره، ولهذه الاستفادة بعث إلى أسفل سافلين القالب { إن في ذلك } [العنكبوت: 24] أي: في قصة إبراهيم وقومه { لآيات } [العنكبوت: 24] لعبرة { لقوم يؤمنون } [العنكبوت: 24] بحقائق القرآن وأسراره وأن له ظهرا وبطنا.
وبقوله: { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } [العنكبوت: 25] يشير إلى ما هو من خصائص إبراهيم الروح إذا كان مؤيدا بالتأييد الإلهي وإلهامات الحق؛ إذ عاين ما هو من مصالحه ومفاسده ولغيره منها في الدنيا والآخرة، ويرى أحوال الآخرة كأحوال الدنيا عيانا، وأن تحدثها النفس نصيحة لها، كما قال { إنما اتخذتم } الهوى والدنيا معبودا بخصوصية الظلومية والجهولية التي أنتم مجبولون عليها { مودة } طبيعية { بينكم } أي: بين النفس وصفاتها وبين شهوات الدنيا في { الحياة الدنيا } أي من بقائكم في الدنيا { ثم يوم القيامة } [العنكبوت: 25] بعد الخروج عن الدنيا { يكفر بعضكم ببعض } [العنكبوت: 25] أي: يكفر النفس بشهوات الدنيا إذا شاهدت وبال استعمالها وخسران حرمانها عن شهوة الجنة { ويلعن بعضكم بعضا } [العنكبوت: 25] أي: ويلعن النفس على الدنيا أنها كانت سبب شقاوتها ويلعن الدنيا عليها.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن أحدكم إذا لعن الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعصانا لله "
{ ومأواكم النار } [العنكبوت: 25] يعني: مأوى النفس والدنيا { وما لكم من ناصرين } [العنكبوت: 25] في الخلاص من العذاب وبقوله: { فآمن له لوط } [العنكبوت: 26] يشير إلى إيمان لوط القلب لأجله أي لعلاج إبراهيم الروح؛ لأنه لا يتخلص من أذى نمرود النفس وصفاتها إلا بعد إيمان القلب؛ لأن بنور الإيمان تندفع ظلمات النفس وصفاتها عن الروح فيستعد للمهاجرة إلى الله وذلك قوله: { وقال إني مهاجر إلى ربي } [العنكبوت: 26] وهجرته إلى ربه بقطع تعلقاته عما سوى الله { إنه هو العزيز الحكيم } [العنكبوت: 26] أي: إن الله هو أعز من أن يصل إليه أحد إلا بعد مفارقته عن غيره { الحكيم } [العنكبوت: 26] الذي لا يقبل بمقتضى حكمته إلا طيبا من لوث أنانيته كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ".
[29.27-40]
وقوله: { ووهبنا له } [العنكبوت: 27] يشير إلى أن الروح إذا هاجر بالسر والنفس متوجها إلى ربه يهب له { إسحاق } الخفي، ومن تولده { ويعقوب } الإخلاص { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } [العنكبوت: 27] ذرية روح الخفي والنفس وبالقلب أي: نجعلهم مجال الوحي والإلهام، إشارات الحق تعالى ومعادن العلوم وينابيع الحكمة وخزائن الأسرار والحقائق { وآتيناه أجره في الدنيا } [العنكبوت: 27] من المواهب الربانية واللذائذ الروحانية والاحتفاظ بلطائف الحظوظ النفسانية محفوظا عن آفاتها، وتبعها بقوله: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [العنكبوت: 27] لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة.
ثم أخبر عن تفرق قوم [لوط] من التمرد بقوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة } [العنكبوت: 28] إلى قوله: { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [العنكبوت: 40] وقومه إشارة في تحقيقها.
[29.41-45]
ثم أخبر عن وهن ولاة أهل الولاية فيما اتخذوه أولياء بقوله تعالى: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } [العنكبوت: 41] يشير على أن مثل النفس وصفاتها في اتخاذها من دون الله أولياء من الهوى والدنيا والشيطان كمثل العنكبوت اتخذت بيتا لمعان:
أحدها: معنى قوله: { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } [العنكبوت: 41] أنه سريع الزوال وشيك الانفصال، وإن حاصل ولايتهم اليوم العداوة في الآخرة كما قال تعالى:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف: 67] يعني إلا الذين اتقوا عن اتخاذ الأولياء دون الله.
والثاني: أن العنكبوت كلما زاد على نسجه في بيته ازداد بعد أمن الخروج فهو يعني ولكن سجنا على نفسه وقيدا على رجله بحيث يتوقع هلاكه، كذلك من اتخذ الهوى والدنيا والشيطان أولياء سجن فيه بسلاسل الإضلال والإغواء على طريق الشهوات إلى مهلكة النيران، ولا ينفعه استغاثة
يويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جآءني وكان الشيطان للإنسان خذولا
[الفرقان: 28-29].
والآخر: هو أن بيت العنكبوت أوهن البيوت؛ لأنه بلا أساس ولا جدار ولا سقف، فلا يمسك على أهون دفع، كذلك الكافر لا أصل لشأنه ولا أساس لبنيانه
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء
[النور: 39].
{ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } [العنكبوت: 42] من الهوى عن الحق تعالى وطلبه الخشية وركاكة ودناءة جبلت عليها { وهو العزيز } [العنكبوت: 42] لا يطلبه ولا يقبل عليه إلا عزيز، وهو أعز من أن يطلب الأذلاء ويهتدي إليه الأخشياء { الحكيم } [العنكبوت: 42] فبالحكمة يعز من يشاء بالهداية ويذل من يشاء بالضلالة.
وبقوله: { وتلك الأمثال نضربها للناس } [العنكبوت: 43] أي: للناسين عهد الميثاق { وما يعقلهآ إلا العالمون } [العنكبوت: 43] يشير إلى أن الكل مشتركون في سماع الأمثال، ولكن يتفرقون ويجتمعون في إدراك وفهم دقائقها ومعانيها وأسرارها ليسمعوا بسمع القول فما يعلقها إلا العالمون بالله؛ لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلوم، وكل فعل لم يكن مؤيدا بالأنوار الإلهي لا يدرك حقائق القرآن وأسرارها، ولا يعد العاقل في زمرة العقلاء، كما قال تعالى:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171] أي: صم عن سماع حقائق الأمثال بكم عن الإقرار بقبول فوائدها عمي عن رؤية آثار وكمالها فهم لا يعقلون لطائف خصائصها { خلق الله السموت والأرض بالحق } لمراتب صفات الحق تعالى ليكون مظهرها { إن في ذلك لآية } أي: في السماوات والأرض آية الحق مودعة ولكن { للمؤمنين } [العنكبوت: 44] الذين ينظرون بنور الله تعالى، فإن النور لا يرى إلا بالنور، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وقوله: { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر } [العنكبوت: 45] يشير إلى أن الله قبل تلاوة القرآن حق تلاوته وذلك بأن يعمل به حتى يتخلق بخلق القرآن لا يقدر على إقامة الصلاة والاستدامة لتنهاه عن الفحشاء، وهي الالتفات إلى الدنيا والمنكر وهو طلب غير الله وكل صلاة ليست موصوفة بهذه الصفة فهي خداع، ثم أشار بقوله تعالى: { ولذكر الله أكبر } [العنكبوت: 45] أي: أن موجب تلاوة القرآن وإقامة الصلاة تنهي العبد عن الفحشاء والمنكر وهما من أمارات مرض القلب ومرضه لعله نسيان ذكر الله.
كما قال تعالى:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67] إنما كان لإزالة مرض النسيان فعلى وصية العلاج بالأضداد، { ولذكر الله أكبر } [العكبوت: 45] من إزالة مرض النسيان عن القلب من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة؛ لأن تلاوة القرآن على نسيان القلب الساهي، كما قال: " رب تال للقرآن والقرآن يلعنه " ، وكذلك الصلاة هي مصليها مستوجب للويل، كما قال تعالى:
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون
[الماعون: 4-5] وأما الذكر فله اختصاص في إزالة مرض النسيان عن القلب بقوله تعالى:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد: 28] وعند الاطمئنان توجب سلامة القلب من الأمراض ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام لما نظر نظرة في النجوم، فقال:
إني سقيم
[الصافات: 89] كان طلبه من الله في إزالة سقمه وسلامة قلبه اطمئنان القلب مع وجود الإيمان قال:
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
[البقرة: 260] إنما اختص الذكر بإزالة مرض القلب دون تلاوة القرآن وإقامة صفته؛ لأنهما صادرتان من قلب مريض معلول بالنسيان الطبيعي للإنسان، ورأي العليل عليل، وأما الذكر وإن كان أيضا صادرا من القلب المريض ولكنه مختص بطرح إكسير ذكر الله فأبطل خاصية المعلولية وجعله إبريزا خالصا مخصوصا بخاصية المذكورية بقوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] فذكر العبد قد فني في ذكر الله فلا جرم ، { ولذكر الله أكبر } في إزالة مرض النسيان عن القلب بإقامة الصلاة وتلاوة القرآن وجميع أركان الإسلام بحضور القلب المتنور بنور الذكر صارت صادرة بجميع شرائطها موجبة للفلاح الحقيقي، وهو قوله تعالى:
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
[الأنفال: 45] وقوله تعالى:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون
[المؤمنون: 1-2] وقوله:
قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى
[الأعلى: 14-15] والفلاح الحقيقي الإخلاص من جبل الوجود بجود واجب الوجود.
وبقوله: { والله يعلم ما تصنعون } [العنكبوت: 45] يشير إلى نظر إليه لا يدرك كمالية الجزاء المعد له بمباشرة أركان الشريعة وملازمة آداب الطريقة للوصول إلى عالم الحقيقة، كما قال تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون
[السجدة: 17] ولكن يعلم ما تصنعون باستعمال مفتاح الشريعة وصناعة الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والموصل إلى الكنز المخفي من الوجود الحقيقي.
[29.46-52]
ثم أخبر عن جلال أهل الكتاب بأحسن الخطاب وطريق الصواب بقوله تعالى: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [العنكبوت: 46]، يشير إلى أهل العلم الظاهر إذا جادلوا أرباب القلوب وأصحاب العلوم الباطنة، فالواجب على أرباب القلوب مجادلتهم بالتي هي أحسن، وذلك بأن يكون منهم للخصم تمكين وفي خطابهم ثابتين، وفي قبول الحق أنصاف واعتقادا نصرة لما رأوه صحيحا بالحجة، وترك الميل إلى شيء باطل بتعقب المذهب، وفي تقرير الحق والدلالة له - يعني الحقيقي - رفق وفي سكونه للتفهم، ولين في الكلام بحيث لم تتبرم النفوس وتهيج فيها البقية الأمارية بالسوء وعصبية المذهب، فيمنعهم عن قبول الحق ويحرضهم على الجلال بالباطل فحينئذ لا تجادلوهم؛ لئلا يزدادوا إنكارا وفتنا { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا } [العنكبوت: 46] من العلوم الباطنة وكشف الحقائق { وأنزل إليكم } من العلوم الظاهرة والأحكام الزاهرة بالحجج الباهرة { وإلهنا وإلهكم واحد } والدين واحد { ونحن له مسلمون } [العنكبوت: 46] لقبول الحق وترك الباطل.
وبقوله: { وكذلك أنزلنآ إليك الكتاب } [العنكبوت: 47] يشير إلى أنه كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر كذلك أنزلنا على أهل الباطن الدلائل والبراهين الكشفية بما رآه من الشواهد الخفية، { فالذين آتيناهم الكتاب } [العنكبوت: 47] يعني: أرباب القلوب الذين علومهم في أنباء الحق موحية لاندارسهم الكتب وتحصيل العلوم بالتكرار فإنهم { يؤمنون به } أي: يصدقونكم بما تظهرون من حقائق العلوم وتشيرون إلى وقائعها { ومن هؤلاء } يعني: على الظاهر على أنواع فمن حرم بنظرنا إليه بالعناية فمنهم: { من يؤمن به } أي: بصدقكم بما تقيمون عليه من الدلائل الكشفية والبراهين بالواردات الحقيقية دلالة لهم إلى الحق تعالى، ومنهم محروم وسمناهم بالشقاوة فما استقبلتم إلا بالإنكار جحود، وذلك بالجهالة والضلالة.
ثم أخبر عن رعاية أهل العناية عن زلات السلوك بقوله تعالى: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } [العنكبوت: 48] يشير إلى أن القلب إذا تجرد عن المعلومات والسر تقدير عن يومان والروح تنزه عن الموجودات بالكافر أقرب إلى الفطرة، ولم يشتغلوا لقبول النفوس السفلية من الخسيسات والخيالات، والوهميات، فكانوا لما صادفهم من المغيبات قابلية من غير ممازجة طبع ومشاركة كسب وتكليف وتكيف بشرية، ولما كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم في البداية ممزوجا بعمل جبريل إذ أخرج منه ما أخرج، وقال: هذا حظ الشيطان منك. وفي النهاية محفوظا عن النفوس التعليمية بالقراءة والكتابة قابلا لإنزال القرآن عليه مختصا به عن جميع الأنبياء.
كما قال:
نزل به الروح الأمين * على قلبك
[الشعراء: 193-194] ثم أثبت هذه الرتبة بتبعية لمتابعيه فقال: { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } [العنكبوت: 49] يعني: أوتوا من الغيب لا من التعلم به يشير إلى قلوب الخواص من العلماء بالله خزائن الغيب فيها أودع براهين حقه وبينات سره ودلائل توحيده وشواهد ربوبيته فقانون الحقائق لقلوبهم، وكل شيء يطلب من موطنه ومحله فالدر يطلب من الصدق؛ لأن ذلك مسكنه، كذلك المعرفة، ووصف الحق يطلب من قلوب خواصه؛ لأن ذلك قانون معرفة، ومحل تجلي صفاته بل يطلب حضرة جلاله عند حضائر قدس قلوب خواص عباده كما سأل الله تعالى موسى عليه السلام قال: " إلهي أين أطلبك؟ قال: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ".
وبقوله: { وما يجحد بآياتنآ إلا الظالمون } [العنكبوت: 49] يشير إلى أن الحرمان من رؤية الآيات من خصوصية دين الحجة والإنكار إذا غلب على القلوب، فتصدأ كما تصدأ المرآة، فلا يظهر فيها نقوش الغيوب وتعمى عن رؤية الآيات وبقوله: { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه } [العنكبوت: 50] يشير إلى عمى بصر قلوبهم؛ لأنه تعالى أنزل عليه آية واضحة وهو القرآن فقال: { أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب } [العنكبوت: 51] وهو إتيان بدلالة:
أحدهما: أن نفس القرآن آية لأنه لا يمكنهم معارضته ولا الإتيان شيء من مثله.
والثاني: أن تيسير قراءة مثل هذا القرآن لا من غير كاتب وقارئ وإنزاله عليه وحفظ أدبه وأحواله وجزالة بيانه آية واضحة وعليها دلائل لائحة وفي قوله تعالى: { قل إنما الآيات عند الله } [العنكبوت: 50] أي: من عند الله والقرآن آية نزلت من عند الله وقوله: { وإنمآ أنا نذير مبين } [العنكبوت: 50] أي: صدور الإنذار والتبشير على وجه الرسالة من مثلي وأنا أمي آية صادرة من عند الله وسراج منير ذلك لا يبصره إلا عيون قلوب منزهة عن عمى الكفر والشرك وسبل حب الدنيا سورة بنور الإيمان مختصرة بالرحمة الخاصة متذكرة بواعظ الله، وذلك تحقيق قوله: { أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [العنكبوت: 51] { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا } [العنكبوت: 52] أي: مشاهدا إلى أنه من آياته كما كان ابن مريم وأمه آية والقرآن آية وأنهم عمي لا يبصرون الآيات.
{ يعلم ما في السموت والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله } [العنكبوت: 52] إنما آمنوا بالباطل لأنهم عموا بعين القلب لم يروا الحق والآيات
ولهم أعين لا يبصرون بها
[الأعراف: 179]، فلم يؤمنوا بها وأبصروا بعين النفس فرأوا الباطل وآمنوا به وكفروا بالحق، فإن في عمى القلب بصارة النفس وفي عمى النفس بصارة القلب، وفي بصارته سعادة الدارين وفي عماه خسارة الدارين، فالعميان بعيون القلب، والأبصار بعيون النفس { أولئك هم الخاسرون } [العنكبوت: 52].
[29.53-57]
ثم أخبر عن أمارة خسارتهم بقوله تعالى: { ويستعجلونك بالعذاب } [العنكبوت: 53] يشير إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بالاستعجال بالعذاب يعني من استعجل بالعذاب ولا يصبر على العاقبة لجعل خلق منه، وهو مركوز في جبلته فكيف يصبر على السراء والضراء لو لم يصبره الله تعالى كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127]، وبقوله: { ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب } [العنكبوت: 53] يشير إلى أن الإرادة القديمة بالحكمة القديمة سميت لكل مقدور وكائن آجلا في تعلق القدرة به فلا تقدم له ولا تأخر عن المضروب المسمى، وفيه إشارة أخرى أن الاستعجال في طلب العذاب في غير وقته المقدر لا ينفع وهو مذموم كيف ينفع الاستعجال في طلب مرادات النفس وشهواتها في غير أوانها وكيف لم يكن مذموما { وليأتينهم } ما استعجلوا به في وقت المقدر: { بغتة وهم لا يشعرون } لأن لهم فيه خيرا أو شرا.
وبقوله: { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } [العنكبوت: 54] يشير إلى أن استعجال العذاب لأهل العذاب وهو نفس الكافر واقع لا حاجة إليه بالاستدعاء؛ لأن جهنم الحرص والشره والشهوة والكبر والحسد والغضب والحقد { لمحيطة بالكافرين } [العنكبوت: 54] أي: بنفس الكافرين أو بالنفوس الكافرة، والآن ينعقد الوقت { يوم يغشاهم العذاب } [العنكبوت: 55] بإحاطة هذه الصفات { من فوقهم } الكبر والغضب والحسد والحقد { ومن تحت أرجلهم } الحرص والشره والشهوة، ولكنهم بنوم الغفلة قائمون ليس لهم خبر عن رزق العذاب كالنائم لا شعورا له بما يجري على صورتها؛ لأنه نائم بالصورة فإذا انتبه يجد ذوق ما يجري عليه من العذاب.
كما قال تعالى: { ويقول } [العنكبوت: 55] يعني: يوم القيامة { ذوقوا ما كنتم تعملون } [العنكبوت: 55] أي: ذوقوا عذابي ما كنتم الخلق والخالق به، والذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى:
وإن الفجار لفي جحيم
[الانفطار: 14] يعني: في الوقت ولا شعور لهم:
يصلونها يوم الدين
[الانفطار: 15] يكون الصلي والدخول يوم القيامة
وما هم عنها بغآئبين
[الانفطار: 16] اليوم، ولكن لا شعور لهم بها فمن تطلع لهم شمس العناية من مشرق القلب فتخرجه من ليل الدين إلى يوم الدين
وأشرقت الأرض
[الزمر: 69] بشريته
بنور ربها
[الزمر: 69] يرى نفس محاطة جهنم أخلاقها، فيحذرون ألمها ويقصد الخروج والخلاص عنها، فتؤذي أهل طلب الخلاص.
{ يعبادي الذين آمنوا } صدقوا وعاينوا بأن جهنم العبد محيطة بهم ووجدوا ذوق ألمها وضيق موطنها { إن أرضي } [العنكبوت: 56] أي: أرض حضرة جلالي وعظمتي { واسعة } فهاجروا بالخروج عن حبس وجودكم إلى سرادقات هويتي { فإياي فاعبدون } [العنكبوت: 56] أي: فإياي فاطلبون، وإلى هويتي فارجعون بالاختيار شوق أو محبة وموتوا عن أوصاف وجودكم بالإرادة قبل أن تموتوا بالكراهة فإن { كل نفس ذآئقة الموت ثم إلينا ترجعون } [العنكبوت: 57] بالاضطرار الذين اعتادوا منا بالفرار مقيدين بسلاسل التعلقات إلى الدنيا وأربابها مغلولين بأغلال الشهوات فيسجنون بسجن نيران الحسرات.
[29.58-69]
{ والذين آمنوا } [العنكبوت: 58] بحقيقة الوصول والوصال.
{ وعملوا الصالحات } مهاجرين عن أوطان الوجود { لنبوئنهم من الجنة } جنة الوصال { غرفا } من غرف المعارف { تجري من تحتها الأنهار } أنهار الحكم { خالدين فيها } [العنكبوت: 58] في جنات القرب والوصول.
{ نعم أجر العاملين } [العنكبوت: 58] القاصدين بالخروج عن حجب الأنانية للوصول إلى كعبة الهوية في السير فيها مجذوبين عنهم به { الذين صبروا } [العنكبوت: 59] في البداية: صبروا على حبس النفس بفطامه عن لبن مرامها، وفي الوسط: صبروا على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعيين، وفي النهاية: صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح من مواهب المعيشة وكرامة المحبوبية { وعلى ربهم يتوكلون } [العنكبوت: 59] بإعراض القلب عن غير الرب واثقين بربوبيته قائمين بقيوميته وبقوله: { وكأين من دآبة لا تحمل رزقها } [العنكبوت: 60] يشير إلى من كانت همته في أرض الدنيا طلب شهوات النفس، فإن رزقها مقسوم لها، وهو لا يحمل النظر عنها فهو متابعة الدابة، الله يرزقها مما هو متمناها، ويرزق إياكم أيها الطالبون الصادقون ما هو متمناكم من مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال والاستغراق في بحر الوصال، وهو السميع لتمني كل متمن، العليم بمطارح نظرهم فيعطي كل متمن على قدر همهم.
ثم أخبر عن سويتهم في الإقرار بوجوده واختلاف طبيعتهم في مطالبة وجوده بقوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } [العنكبوت: 61] يشير إلى أن بين الخلق في الإقرار بوجود الله وخالقيته سوية، وفي أنوارهم بالتوحيد اختلاف فمنهم من يثبت له الشرك، ومنهم من يثبت له الوحدة وينفي عنه الشركة، ولكل واحد من الفريقين موجب في الإثبات والنفي وموجب للتسوية في الإقرار، فأما موجب التسوية في الإقرار فقولهم: { بلى } فتساووا هاهنا بالإقرار بوجود الله وخالقيته، وأما موجب إثبات الوحدة ونفي الشركة فقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ".
فالإقرار بالوحدة وإثباتها ونفي الشرك من موجبات تلك الإصابة، فأما موجب إثبات الشركة فقوله صلى الله عليه وسلم:
" من أخطأ فقد ضل "
فإثبات الشركة له من موجبات ذلك الإخطاء وحصول الضلالة، وهذا تحقيق قوله تعالى: { الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده } [العنكبوت: 62] بإصابة ذلك النور المرشش { ويقدر له } بإخطار ذلك النور { إن الله بكل شيء عليم } [العنكبوت: 62] يعلم استحقاق كل طائفة من الفريقين لإصابة رشاش النور وإخطائه وبقوله: { ولئن سألتهم } [العنكبوت: 63] يشير إلى طائفة قد أخطأهم في البداية رشاش النور وإخطائه ذلك، فوقعوا في الضلالة وماتت قلوبهم، فإن الضلالة سم قاتل للقلوب ثم أحياها بنور الإيمان { ولئن سألتهم من نزل من السمآء } [العنكبوت: 63] سماء الروحانية.
{ مآء } [العنكبوت: 63] أي: ماء الإيمان { فأحيا به الأرض } [العنكبوت: 63] أرض القلوب { من بعد موتها } [العنكبوت: 63] بسم الضلالة { ليقولن الله قل الحمد لله } [العنكبوت: 63] الذي أنعم عليهم بنعمة الإحياء لقلوبهم الميتة { بل أكثرهم لا يعقلون } [العنكبوت: 63] أي: لا يفهمون تحقيق هذه الإشارة وأيضا لا يعقلون؛ لأنه ليس هذا المعنى مناسبا لقولهم بأن من أخطأه رشاش ذلك النور في البداية وهو موجب للضلالة كيف يهديه الله في النهاية، وقد قال تعالى:
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40] وذلك لأن عقولهم بمعزل عن فهم أن الله تعالى نور مصباح زجاجة قلب نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم بنور جماله وجلاله، ثم بعثه إلى الخلق وقال:
قد جآءكم من الله نور
[المائدة: 15] وهو سراج منير، فمن آمن به واتبع سراج قلبه المنطفئ من ذلك النور سراج قلبه المنير، نور الله سراج قلبه بذلك النور فأحياه بعد موته.
كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمت
[الأنعام: 122] أي: في الظلمات التي خلق فيها، ولم يصبه رشاش النور وبقوله: { وما هذه الحياة الدنيآ إلا لهو ولعب } [العنكبوت: 64] يشير إلى هذه الحياة الدنيا يعيش بها المرء في الدنيا بالنسبة إلى الحياة التي يعيش بها أهل الآخرة في الآخرة، وجوار الله تعالى لهو ولعب، وإنما شبهها باللهو واللعب لشيئين:
أحدهما: أن اللهو واللعب سريع الانقضاء لا يداوم، فلهذا المعنى أن الدنيا بشهواتها كظل زائل لا يكون لها بقاء، فلا تصبح لاطمئنان القلب بها والركون إليها.
والثاني: أن اللهو واللعب من شأن الصبيان والسفاء دون العقلاء وذوي الأحلام؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما أنا من دد ولا دد مني "
والدد اللهو واللعب فالعاقل يصون نفسه منه وبقوله: { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } [العنكبوت: 64] يشير إلى أن دار الدنيا لهي الموت؛ لأنه تعالى سمى الكافر وإن كان حيا بالميت بقوله:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80].
وقال تعالى:
لينذر من كان حيا
[يس: 70] فثبت أن الدنيا وما فيها لهي الموتات إلا من أحياه الله بنور الإيمان، فهو الحق والآخرة عبارة عن عالم الأرواح والملكوت فهي حياة كلها، وإنما سماها الحيوان؛ لأن الحيوان ما يكون حيا وله حياة فيكون جميع أجزائه حيا في الآخرة حيوان؛ لأن جميع أجزائها حية، فقد ورد في الحديث أن الجنة بما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنهار حتى ترابها وحصاها كلها حية، فالحياة الحقيقية التي لا تشينها الغصص والمحن والأمراض والعلل، ولا يدركها الموت والفوت هي حياة أهل الجنات والقربات لو كانوا يعلمون قدرها وغاية كماليتها وحقيقة عزتها لكانوا أشد حرصا في تحصيلها هاهنا، فمن فاتته لا يدركها في الآخرة ألا ترى أن من صفة أهل النار أنه لا يموت فيها ولا يحيا يعني ولا يحيا بحياة حقيقية يستريح بها فإنهم يتمنون الموت ولا يجدونه.
وقوله: { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } [العنكبوت: 65] يشير إلى أن الإخلاص تفريغ القلب عن كل ما سوى الله والثقة بأن لا نفع ولا ضرر إلا منه، وهذا لا يحصل إلا عند نزول البلاء في معرض التلف دوامة الهلاك؛ ولهذا وكل البلاء بالأنبياء والأولياء لتخليص الجوهر الإنساني القابل للفيض الإلهي من فيها التعلقات بالتكوين والرجوع إلى حضرة المكون، فإن الرجوع إليها مركون في الجوهر الإنساني لو خلي إلى طبعه لقوله تعالى:
إن إلى ربك الرجعى
[العلق: 8] فالفرق بين إخلاص المؤمن وإخلاص الكافر أن يكون إخلاص المؤمن مؤيدا بالتأييد الإلهي، وأنه قد عبد الله مخلصا في الرضا قبل نزول البلاء فنال درجة الإخلاص المؤيد من الله بالسر.
قال تعالى:
" الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
، فلا يتغير في الشدة والرخاء ولا في السخط والرضا، وإخلاص الكافر إخلاص طبيعي قد حصل عند نزول البلاء وخوف الهلاك بالرجوع الطبيعي غير مؤيد بالتأييد الإلهي عند خمود التعلقات ككواكب الفلك: { دعوا الله مخلصين له الدين } [العنكبوت: 65] دعاء اضطرار فأجابهم من يجيب المضطر بالنجاة من ورطة الهلاك، { فلما نجاهم إلى البر } وزوال الخوف والاضطرار عاد المشئوم إلى طبعه { إذا هم يشركون * ليكفروا بمآ آتيناهم } أي ليكون حاصل أمرهم من شقاوتهم أن يكفروا بنعمة الله ليستوجبوا العذاب الشديد، { وليتمتعوا } أياما قلائل، { فسوف يعلمون } [العنكبوت: 66] أن عاقبة أمرهم دوام العقوبة على الأبد.
ثم أخبر عن شقاوة أهل العناد وسعادة أهل الجهاد بقوله تعالى: { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } [العنكبوت: 67] يشير إلى حرم القلب فإنه آمن من دخول الشيطان فيه بأن الله حرم عليه دخوله فيه؛ ولكنه تتخطف الناس الصفات الناسوتية النفسانية من حولهم أي: حول القلب وصفاته { أفبالباطل } وهو ما سوى الله مشارب النفس { يؤمنون } يصرفون صدقهم في طلبه { وبنعمة الله } وهي مشاهدة الحق تعالى { يكفرون } [العنكبوت: 67] بألا يطلبون.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } [العنكبوت: 68] بأن يرى نفسه بأن له مع الله وقتا أو حالا أو كشفا أو مشاهدة، ولم يكن له من ذلك شيء وقالوا:
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ آباءنا
[الأعراف: 28] به يشير إلى الإباحية وأكثر مدعي زماننا هذا إذا صدر منه شيء على خلاف السنة والشريعة يقولون: إنا وجدنا مشايخنا عليه، والله أمرنا بهذا أي: مسلم لنا من الله هذه الحركات لمكانة قربنا إلى الله وقوة ولايتنا، فإنها لا تقربنا بل تنفعنا وتقيدنا { أو كذب بالحق لما جآءه } [العنكبوت: 68] أي: بالشريعة وطريقة المشايخ وسيرتهم.
{ أليس في جهنم } [العنكبوت: 68] النفس { مثوى } [العنكبوت: 68] محبس { للكافرين } [العنكبوت: 68] أي: لكافر نعمة الدين والإسلام والشريعة والطريقة بما يفترون ويدعون بلا معين القيام كذابين في دعواهم، وقد وعد الله الصديقين المجاهدين بما وعدهم بقوله: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت: 69] أي سبل وجداننا كما قال:
" ألا من طلبني وجدني ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا... "
" الحديث.
وقد قالت المشايخ: المجاهدات تورث المشاهدات، ولو قال قائل: ما للوهابيين والبراهمة والفلاسفة أنهم يجاهدون النفس حق جهادها، ولا يورث لهم المشاهدات؟
قلنا: لأنهم أقاموا بالمجاهدات فجاهدوا وتركوا الشرط الأعظم منه وهو قوله: { فينا } أي: خالصا وهم جاهدوا في الهدى والدنيا والخلق والرياء والسمعة والشهوة وطلب الرئاسة والعلو في الأرض والتكبر على خلق الله فأما من جاهد في الله جاهد أولا بترك الحرمات ثم بترك الشبهات ثم بترك الفضلات، ثم بقطع التعلق تزكية للنفس، ثم بالتنقية من شواغل القلب على جميع الأوقات وتخليته عن الأوصاف المذمومات تصفية للقلب، ثم بترك الالتفات إلى الكونين وقطع الطمع عن الدارين تحلية للروح، { والذين جاهدوا } في قطع النظر عن الأغيار بالانقطاع والانفعال لنهدينهم سبلنا بالوصول والوصال.
ثم اعلم أن الهداية على نوعين: هداية تتعلق بالمواهب فمن وهبه الله، فهي سابقة والتي تتعلق بالمكاسب فمن كسب العبد وهي مسبوقة ففي قوله: { والذين جاهدوا فينا } [العنكبوت: 69] إشارة إلى أن الهداية الموهبة سابقة على جهد العبد وجهده ثمرة تلك البذرة، فإن لم يكن بذر الهداية الموهبة مزروعة بنظر العناية في أرض طينية العبد لما نبت منها حضرة الجهد، ولو لم يكن المزروع مزكى بسقي جهد العبد لما أثمر ثمار الهداية المكتسبة.
[30 - سورة الروم]
[30.1-7]
{ الم } [الروم: 1] يشير بالألف إلى ألفة طبع الموضع بعضهم لبعض، وباللام يشير إلى أن ألفة المؤمنين لما كان من كرم الله وفضله بالله ألف بين قلوبهم انتهت إلى غاية حصلت ألفة ما بينهم وبين أهل الكتاب إذا كانوا يوما من أهل الإيمان وإن كان اليوم خاليا عن ذلك، وإنه لو عم الكافرين لما كان جليا غلب عليهم حتى من لؤم طبعهم أنهم يعادون بعضهم بعضا، وأن مغفرة رب العالمين لما كانت من كرمه العميم وإحسانه القديم انتهت إلى غاية شملت الفريقين ليتوب على العاصي من الحزبين ويعم الطائفتين خطاب:
إن الله يغفر الذنوب جميعا
[الزمر: 53].
وبقوله: { غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } [الروم: 2-3] يشير إلى إعجاز القرآن وصحة نبوة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ أخبر عن حال غيبي، وأنه جاء كما أخبر بعد سبع سنين، وفيه إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بحسب الأوقات، ففي بعض الأحوال يغلب فارس النفس على روم القلب للطالب الصادق فينبغي ألا يزل هذا قدمه عن صراط الطلب ويكون له قدم صدق عند الله بالثبات.
وأما قوله: { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } [الروم: 3] أي: سيغلب روم القلب على فارس النفس بتأييد الله ونصرته { في بضع سنين } [الروم: 4] من أيام الطلب { لله الأمر من قبل ومن بعد } [الروم: 4] يعني: غلبة فارس النفس على روم القلب كان أولا بحكم الله وتقديره، وله في ذلك حكمة بالغة في صلاح الحال والمآل ألا ترى أن فارس نفس جميع الأنبياء والأولياء في البداية غلبت على روم قلبهم ثم غلبت روم قلبهم على فارس نفسهم ومن بعد غلبة روم القلب على فارس النفس أيضا يحكم الله فإنه يحكم فلا معقب لحكمه.
{ ويومئذ } [الروم: 4] يعني: يوم غلبت الروم { يفرح المؤمنون } [الروم: 4] يعني: الروح والسر والعقل { بنصر الله } [الروم: 5] المؤمنين على الكافرين { وهو العزيز } [الروم : 5] فبعزته يعز أولياءه ويذل أعداءه، { الرحيم } [الروم: 5] برحمته ينصر أهل محبته وهم أرباب القلوب { وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس } [الروم: 6] من نسي ألطافهم معهم.
{ لا يعلمون } [الروم: 6] صدق وعده ووفاء عهده لأنهم، { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } [الروم: 7] يجدون ذوق حلاوة شهوات الدنيا بالحواس الظاهرة { وهم عن الآخرة } [الروم: 7] كمالاتها ووجدان دون شهواتها بحواس الباطلة أنها موجبة للبقاء الأبدي وأن عسل شهوات الدنيا مسموم يهلك { هم غافلون } [الروم: 7] لاستقرائهم في بحر البشرية وتراكم أمواج أوصافها الذميمة.
[30.8-11]
{ أولم يتفكروا } [الروم: 8] بالعقل السليم { في أنفسهم } [الروم: 8] أي: في خلق أنفسهم وكمالية استعدادها أنه { ما خلق الله السموت } [الروم: 8] سماوات الروحانية والأرض أرض النفسانية { وما بينهمآ إلا بالحق } [الروم: 8] أي: مظهر لصفات الحق فإنها مخصوصة من الموجودات بمرآة صفات جماله وجلاله.
{ وأجل مسمى } [الروم: 8] يعني: بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلب عن صدأ الأوصاف الذميمة النفسانية، والأجل المسمى هو صفاء القلب وتوجهه إلى الحق تعالى شوقا إلى لقائه { وإن كثيرا من الناس } [الروم: 8] من الناسين أي لا من المؤمنين الذاكرين، { بلقآء ربهم لكافرون } [الروم: 8] أي: مع أنهم عن الشهود لمعزولون بالإيمان بلقائه أيضا، لكافرون جاحدون منكرون كالمعتزلة وتابعيهم.
ثم أخبر أن بالسير يحصل اعتبار الأخيار بقوله تعالى: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا } [الروم: 9] يشير إلى طلبة العلم الذين يشرعون في علوم غير نافعة بل مضرة مثل الكلام والمنطق والمعقولات فتؤثر عليهم عقيدتهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وإن وقعوا في أدنى شك في الكفر فيقول لهم: { أولم يسيروا في الأرض } أرض البشرية والسير فيها إنما يكون بالعبور عليها والخروج عنها وتبديلها بالأخلاق الحميدة الروحانية لتزكي النفس عن لوث هذه الصفات مثل الكبر والغضب والحقد والحرص والشهوات والشره والحسد، وأمثالها من المذمومات وتصفي القلب عن ظلمته ورينه وتخلص الروح عن حجبها وتتجلى بحلية نور الإيمان { فينظروا } بعد ذلك بنور الإيمان الحقيقي.
{ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [الروم: 9] من الفلاسفة أنهم كانوا أشد منهم قوة في علم المقال، { وأثاروا الأرض } [الروم: 9] أرض البشرية بالرياضة والمجاهدة { وعمروهآ } بتبديل الأخلاق والاستدلال بالدلائل العقلية والبراهين المنطقية { أكثر مما عمروها } [الروم: 9] المتأخرون؛ لأنهم كانوا أطول أعمارا منهم فوسوس لهم الشيطان وغرهم بعلومهم العقلية واستبدت نفوسهم بها وظنوا أنهم غير محتاجين إلى الشرائع ومتابعة الأنبياء.
{ وجآءتهم رسلهم بالبينات } [الروم: 9] بالمعجزات الظاهرة فلم يؤمنوا بها ونسبوها إلى السحر والنيرنج واعتمدوا على سؤالات نفوسهم من الشبهات بحسبان أنها من البراهين القاطعة فأهلكهم الله في أودية الشكوك والخيال، { فما كان الله ليظلمهم } بالابتلاء بهذه الآفات بأن يكلهم إلى وساوس الشيطان وهواجس نفوسهم ولا يرسل إليهم الرسل ولا ينزل معهم الكتب { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [الروم: 9] بتكذيب الأنبياء ومتابعة الشيطان وعبادة الهوى.
{ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى } [الروم: 10] أي: عاقبة أمر الفلاسفة الذين هم مكذبوا الأنبياء لما أساءوا بتكذيب الأنبياء بأن صاروا أئمة الكفرة وصنعوا الكتب في الكفر وأوردوا فيها الشبهات على بطلان ما جاء به الأنبياء من الشرائع والتوحيد وسمو الحكمة وسمو أنفسهم الحكماء فالآن بعض المتعلمين من الفقهاء، إما لوفور حرصهم على العلم والحكمة، وإما لخباثة الجوهر، وليتخلصوا من تكاليف الشرع، يطالعون تلك الكتب ويتعلمونها، وبتلك الشبهات التي درسوا بها كتبهم يهلكون في أودية الشكوك ويقعون في الكفر.
وهذه الآفة وقعت في الإسلام من المتقدمين والمتأخرين منهم، فكم من مؤمن عالم فسدت عقيدتهم بهذه الآفة وأخرجوا ربقة الإسلام من عنقهم فصاروا من جملتهم، ودخلوا في زمرتهم داخل هذه الآفة يبقى في هذه الأمة إلى قيام الساعة فإن كل يوم يزدادون ويقل طلبة علوم الدين من التفسير والأحاديث والمذهب، ويكثر طلبة علوم الفلسفة والزندقة ويسمونها الأصول والكلام.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه: " من تكلم تزندق " ثم وبال هذه الجملة إلى قيام الساعة يكتب في ديوان من سن هذه السنة السيئة ومن أوزار من عمل من غير أن ينقص من أوزارهم شيء على أن كذبوا بآيات الله بالقرآن واستهزءوا بها وسموا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصحاب النواميس وسموا الشرائع الناموس الأكبر عليهم لعائن الله تترى.
وبقول: { الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون } [الروم: 11] يشير إلى أنه تعالى كما بدأ روح الإنشاء ورده إلى أسفل سافلين القالب، ثم يعيده بطريق السير والسلوك على المعاملات والمنازل التي أنزل عليها إلى عالم الأرواح ثم بجذبة ارجعي إليه ترجعون.
[30.12-17]
ثم أخبر عن حال المجرمين في يوم الدين قال تعالى: { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } [الروم: 12] يشير إلى أن من مات بالإرادة قبل أن يموت بالطبيعة فقد قامت قيامته أنهم يندمون بما أجرموا بالإعراض عن الله وطلبه وأشركوا في طلب ما سوى الله { ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء } [الروم: 13]، ليقربوهم إلى الله بل أبعدوهم عن الحضرة { وكانوا بشركآئهم كافرين } أي: صاروا كافرين بطلب غير الله ومحبتهم { ويوم تقوم الساعة } [الروم: 14] أي: إذا قامت قيامة العشق على المحبين { يومئذ يتفرقون } [الروم: 14] المحبون فرق: فريق هم أهل القربة، وفريق هم أهل الوصلة، وفريق هم أهل المعرفة، وفريق هم الملوك على أسرة الوجود متوجون بتيجان العزة، منعمون تحت قباب الغيرة كما أشار إلى أحوالهم بقوله تعالى: { فأما الذين آمنوا } [الروم: 15] بالمحبة { وعملوا الصالحات } [الروم: 15] في طلب الوصلة، { فهم في روضة } من رياض الأنس { يحبرون } ويسرون بسماع ملاطفات المحبوب ويتنعمون عن إمساكه وأما الذين كفروا بالإعراض عن الله والإقبال على غير الله، { وكذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة } [الروم: 16] أي: بمشاهدة شواهدنا { فأولئك في العذاب } [الروم: 16] عذاب البعد وألم حرقة الفراق والنيران المشتعلة على أنفسهم بالشهوات { محضرون } [الروم: 16] إلى أبد الآباد وبقوله: { فسبحان الله } [الروم: 17] بفاء التعقيب عقيب الآيتين يشير إلى تنزيه حضرة جلاله من نقص أو شين يعود إليه { حين تمسون } [الروم: 17] أي: حين تقبلون على ليل نيل شهوات الدنيا بالإعراض عن الله يا كافري النعم من أرباب النفوس { وحين تصبحون } [الروم: 17] أي: وحين تقبلون على صباح نهار تجلي شموس الوصال بالإعراض عن غير الله.
[30.18-22]
{ وله الحمد } في الحالتين إن كنتم { في السموت } [الروم: 18] سماوات القربات والوصلات.
{ والأرض } [الروم: 18]، وإن كنتم في أرض البعد والقربات { وعشيا } [الروم: 18] أي: عشاء غشاوة القلوب بالقساوة والاستغراق في بحر الغفلات { وحين تظهرون } [الروم: 18] عند استواء شمس العرفان وسعة سماء القلوب واستهلاك وجود العارف في عين الشمس باقيا بعين الشمس، فإن الربح والخسران في تلك الحالتين راجع إلى الطائفتين
إن الله لغني عن العالمين
[العنكبوت: 6].
{ يخرج الحي } [الروم: 19] بنور الله { من الميت } [الروم: 19] أي: من النفس الميتة عن صفاتها وأخلاقها الذميمة إظهارا للطفه ورحمته { ويخرج الميت } أي: القلب الميت عن الأخلاق الحميدة الروحانية { من الحي } [الروم: 19].
{ ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون } [الروم: 19] من النفس الحية بالصفات الحيوانية الشهوانية إظهارا لقهره وعزته.
ثم أخبر عن الآيات البينات الدالة على خلقه المخلوقات بقوله: { ومن آياته أن خلقكم من تراب } [الروم: 20] يشير إلى أن التراب أبعد الموجودات عن الحضرة؛ لأنا إذا نظرنا على الحقيقة وجدنا أقرب الموجودات إلى الحضرة عالم الأرواح؛ لأنه أول ما خلق الله الأرواح ثم العرش؛ لأنه محل صفة رحمانية، ثم الكرسي، ثم السماء السابعة، ثم السماوات كلها، ثم فلك الأثير، ثم فلك الزمهرير الهواء، ثم الماء ثم التراب وهو جماد لا حس فيه ولا حركة وليس له قدرة على تغيير ذاته وتبديل صفاته، فلما وجدنا ذاته متغيرة عن وصف الترابية صورة ومعنى وصفاته متبدلة كتغير صورته بصورة البشر وتبدل صفته بصفة البشرية؛ علم أنه محتاج إلى مغير ومبدل وهو الله سبحانه وتعالى.
وأشار بقوله: { ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون } [الروم: 20] يعني: كنتم ترابا جمادا ميتا أبعد الموجودات عن الحضرة جعلتكم بشرا بنفخ الروح فإنه آية أظهر وأبين من الجمع بين أبعد الأبعدين والأقربين بكمال القدرة والحكمة، وجعلتكم مسجود الملائكة المقربين وجعلتكم مرآة مظهرة بجميع صفات جمالي وجلالي ولهذا السر جعلتكم خلائف الأرض.
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } [الروم: 21] يعني: ازدواج الروح والنفس فإنه تعالى خلق النفس من الروح وجعلها زوجه كما خلق حواء من آدم وجعلها زوجة ليسكن إليها يعني: الأرواح إلى النفوس كما سكن آدم إلى حواء، ولو لم تكن حواء لاستوحش آدم في الجنة كذلك الروح، ولو لم تكن النفس خلقت منه لسكن إليها واستوحش من القالب ولم يسكن فيه { وجعل بينكم } [الروم: 21] أي: بين الروح والنفس { مودة ورحمة } [الروم: 21] ألفة واستئناسا ليسكن في القالب.
{ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [الروم: 21] بالفكر السلبي في الإنسان كيف أودع الله فيه سرا من المعرفة التي كل المخلوقات كانت في الخلقة تبعا لها، { ومن آياته خلق السموت } [الروم: 22] سماوات القلوب { والأرض } [الروم: 22] أرض النفوس، { واختلاف ألسنتكم } [الروم: 22] أي: اختلاف ألسنة القلوب في ألسنة النفوس فإن لسان القلوب يتحرك بالميل إلى العلويات وفي طلبها يتكلم ولسان النفوس يتحرك بالميل إلى السفليات وفي طلبها يتكلم.
{ وألوانكم } [الروم: 22] أي: وطبائعكم المختلفة منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، { إن في ذلك لآيات للعالمين } [الروم: 22] العارفين الذين عرفوا حقيقة أنفسهم وكماليتها فعرفوا الله ورأوا آياته إراءة إياهم لقوله:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53].
[30.23-27]
{ ومن آياته منامكم باليل } [الروم: 23] ليل البشرية { والنهار } [الروم: 23] نهار الروحانية، { وابتغآؤكم } [الروم: 23] في الواقعات { من فضله } أي: من المواهب الربانية التي هي مشتملة على أنواع المكاشفات والمشاهدات والمكالمات وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
{ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } [الروم: 23] كلام الله ومخاطباته وإشارة من شجرة الموجودات كما سمع من الشجرة
أن يموسى إني أنا الله رب العالمين
[القصص: 30] { ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا } [الروم: 24] أي: برق شواهد الحق عند انخراق سحاب حجب البشرية وظهور تلألؤ أنوار الروحانية أولها برق، ثم اللوامع ثم الطوالع ثم الإشراق ثم التجلي فينور البرق فيرى شهوات الدنيا أنها نيران فيخاف منها ويتركها ويرى مكروهات تكاليف الشرع على النفس أنها جنان فيطمع فيها ويطلبها.
{ وينزل من السمآء مآء } [الروم: 24] أي: من سماء الروح ماء الرحمة { فيحيي به الأرض } أرض القلوب { بعد موتها } بالمعاصي والذنوب واستغراقها ببحر الدنيا وتموج شهواتها برياح الخذلان { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [الروم: 24] لا يبيعون الآخرة بالأولى ولا قربات المولى بنعيم جنة المأوى { ومن آياته أن تقوم السمآء } [الروم: 25] سماء القلب { والأرض } [الروم: 25] أرض النفس { بأمره } أي: بالروح لأن الروح من أمره، { ثم إذا دعاكم } إلى الحق بجذبة خطاب ارجعي، { دعوة من الأرض } [الروم: 25] { إذآ أنتم تخرجون } [الروم: 25] يعني: النفس والقلب والروح من أنانية وجودكم إلى هوية جوده، { وله من في السموت } [الروم: 26] الروحانية، { والأرض } [الروم: 26] أرض البشرية وأرباب القلوب وأصحاب النفوس، { كل له قانتون } [الروم: 26] مطيعون بأن يكونوا مظهر صفات لطفه يعني: له باب القلوب ومظهر صفات نهرهم يعني: أصحاب النفوس ولذلك خلقهم.
{ وهو الذي يبدؤا الخلق } [الروم: 27] بإشارة { كن } ، { ثم يعيده } بنفخ صور إسرافيل { وهو أهون عليه } يعني: البداءة من الإعادة لأنه في البداءة كان بنفسه مباشرا بنفسه للخليقة وفي الإعادة كان المباشر إسرافيل بنفخه، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق وعنده سواء؛ لأن أفعال الأغيار أيضا مخلوقة وفيه إشارة في غاية الدقة واللطافة أن الخلق أهون عند الله عند الإعادة منهم عند البدأة؛ لأنه في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث ولا متدنسين بدنس الشرك في الوجود بأن يكونوا شركاء في الوجود مع الله فلعزتهم في البداية باشر بنفسه خلقتهم وفي الإعادة لهوانهم باشر بنفس غيره.
{ وله المثل الأعلى } [الروم: 27] فيما أودع من الآيات في السماوات في سماوات الأرواح والقلوب والأرض وأرض النفوس والأبدان، بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة { وهو العزيز } [الروم: 27] أي: أعز من أن تعرفه العقول وتدركه الأبصار { الحكيم } [الروم: 27] بأن يعرف من يشاء كمالية ذاته وصفاته بقدر ما يشاء، ويضرهم بمشاهدة جماله وجلاله كما يشاء.
[30.28-30]
ثم أخبر عن ضرب الأمثال بالفضل والأفضال بقوله تعالى: { ضرب لكم } [الروم: 28] يشير إلى الروح والقلب والسر والعقل { مثلا من أنفسكم } معكم { هل لكم } [الروم: 28] يا روح وأتباعه.
{ من ما ملكت أيمانكم } [الروم: 28] أي: الأعضاء والجوارح والحواس والقوى التي نسبتها إليكم نسبة العبد مع المولى إلى { من شركآء في ما رزقناكم } [الروم: 28] كم من العلوم والكشوف والشواهد والمواهب الربانية يشاركونكم فيها، { فأنتم فيه } [الروم: 28] وهم في المواهب.
{ سوآء تخافونهم } [الروم: 28] ألا تضيعوا شيئا من المواهب بالتصرفات الفاسدة فيها { كخيفتكم أنفسكم } [الروم: 28] يعني: تصفية الروح عن القلب ألا يضيع شيئا مما أفاض إليه من الفيض الإلهي والمواهب الربانية بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة، وطلب مراد هواه عند إظهار شيء منها وتصفية القلب عن السر والعقل بأن تصرفها فيها بنوع من التصرفات الفاسدة التي تفسد العقائد، وتوقع في الشكوك والظنون الفاسدة والشبهات العقلية وغيرها من الآفات فكما لا يصلح هؤلاء لشركهم؛ لأنكم معهم بمثابة الملوك مع العبد، كذلك هم مع حسن استعدادكم في قبول الفيض الإلهي يا روح وأتباعه لا تصلحون أن تكونوا شركاء في كمالية ذاتي وصفاتي إذا تجليت عليكم، فبسطوات أنوار جمالي وجلالي تنمحي آثار ظلمات أوصافكم وبأنوار صفاتي تشاهدون صفاتي فتسبحوني أن أكون صرت حالا فيكم، أو صرتم بعضا مني أو تصيرون أنا، أو أصير أنتم، فإن
" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار "
ومن كبريائي ألا أكون جزءا لأحد أو مثلا ومن عظمتي أن لا يكون أحد جزئي ولا مثلي، وأنا الذي
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى: 11].
ثم قال: { كذلك نفصل الآيات } [الروم: 28] نبينها ونشرحها { لقوم يعقلون } [الروم: 28] يفهمون رموزنا وإشاراتنا في تنزيه ذاتنا وصفاتنا عن مشابهته في دعاوى الخلق ومشاكلهم، { بل اتبع الذين ظلموا } [الروم: 29] بوضع الشبهات والحسبانات من الدعاوى بالاتصال والاتحاد والحلول في غير موضعها، { أهوآءهم } حتى قالوا ما قالوا بالهوى، { بغير علم } [الروم: 29] حقيقي فضلوا بمتابعة الهوى، { فمن يهدي من أضل الله } بالخذلان واتباع الهوى.
{ وما لهم من ناصرين } [الروم: 29] في خلاصهم من خذلان الحق وبقوله: { فأقم وجهك للدين حنيفا } [الروم: 30] يشير إلى أهل الطلب من المحب الصادق أي: أخلص قصدك إلى الله واحفظ عهدك مع الله، أقم عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله حنيفا مستقيما في دينه ثابتا في التوجه إليه، معرضا عما سواه والزم { فطرت الله التي فطر الناس عليها } [الروم: 30] إذ كنت مع الله بلا غفلة مع غيره مستمعا لخطابه مصيبا لجوابه، مشاهدا لوحدانية مخلصا في توحيده، مفردا لفردانيته، مفتخرا بعبوديته مستسلما لأحكام ربوبيته، مستأنسا بشهود جماله، مستنيرا بأنوار جلاله.
{ لا تبديل لخلق الله } [الروم: 30] أي: لا تحويل لما خلقهم، فطر الناس كلهم على التوحيد فأقام قلب من خلقه للتوحيد والسعادة وأزاغ قلب من خلقه للإلحاد والشقاوة { ذلك الدين القيم } [الروم: 30] القائم بالحق لا يغيره البلاء ولا تعتريه الأهواء.
{ ولكن أكثر الناس } [الروم: 30] أي: الناسين الله غير الذاكرين الله { لا يعلمون } [الروم: 30] قدر التوجه إلى الله بالإعراض عما سواه.
[30.31-35]
{ منيبين إليه } [الروم: 31] راجعين إلى إلهيته بالخروج عن حبس أنانيته { واتقوه } أي: واتقوا به من غيره { وأقيموا الصلاة } [الروم: 31] أي: أديموها بالحضور مع الله.
{ ولا تكونوا من المشركين } [الروم: 31] الملتفتين إلى غير الله، { من الذين فرقوا دينهم } [الروم: 32] الذين كانوا عليها في الفطرة التي فطر الناس عليها من التجريد والتفريد والتوحيد والمراقبة في مجلس الأنس والملازمة للمكالمة مع الحق، { وكانوا شيعا } [الروم: 32] أي: وصاروا فرقا: فريقا: منهم مالوا إلى نعيم الجنان، وفريقا: منهم رغبوا في نعيم الدنيا بالخذلان، وفريقا: منهم وقعوا في شبكة الشيطان فساقهم إلى حب الشهوات وإلى درك النيران.
{ كل حزب } [الروم: 32] من هؤلاء الفرق { بما لديهم } [الروم: 32] من مشتهى نفوسهم ومقتضى طباعهم، { فرحون } [الروم: 32] فجالوا في ميدان الغفلات واستغرقوا في بحار الشهوات وظنوا بالظنون الكاذبة أن جذبتهم إلى ما هم فيه السعادة الحادثة، فإذا انكشف ضباب فهمهم، وانقشع سحاب جهدهم، انقلب فرحهم ترحا واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة ولم يفرحوا إلا في أوطان الجهالة، وسوف ترى إذا تجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار.
ثم أخبر عن خصائص الإنسان الغالب عليه نسيان الإحسان بقوله تعالى: { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } [الروم: 33] يشير إلى طبيعة الإنسان أنها ممزوجة من هداية الروح وطاعته، ومن ضلالة النفس وعصيانها وتمردها، فإن الناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية انكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها ورجعت على وفق طبعها المجبولة عليه إلى الحضرة، ورجعت النفوس أيضا بموافقة الأرواح على خلاف طباعها مفطورة في دفع البلية إلى الله مستغيثين بلطفه مستجيرين عن محنتهم ، مستكشفين الضر، فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم.
{ ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } [الروم: 33] وهم النفوس المتمردة يعودون إلى عادتهم المذمومة وطبيعتهم الدنيئة في كفران النعمة { ليكفروا بمآ آتيناهم } [الروم: 34] من النعمة والرحمة، ثم هددهم بقوله: { فتمتعوا فسوف تعلمون } [الروم: 34] ما جزاء ما تعملون على وفق طباعكم واتباع لهواكم.
وبقوله: { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [الروم: 35] يشير إلى أن أعمال العباد إذا كانت مقرونة بالحجة المنزلة تكون حجة لهم، وإذا كانت من نتائج طباع نفوسهم الخبيثة يكون عليهم.
[30.36-40]
ثم أخبر عن الإنسان الناسي ذكر الله الموكول إلى طبعه بقوله: { وإذآ أذقنا الناس رحمة } [الروم: 36] في صورة نعمة الدنيا أو شهوة النفس والهوى { فرحوا بها } [الروم: 36] وغرتهم الحياة الدنيا وأعرضوا عن عبودية المولى.
{ وإن تصبهم سيئة } [الروم: 36] شدة وضيق في حظوظ النفوس وفوات ملائم الطبع والهوى بشؤم { بما قدمت أيديهم } من مخالفات أمر المولى، { إذا هم يقنطون } من رحمة المولى ولا يرجعون عن متابعة الهوى، وليس هذا من دأب المحبوبين وليس هذا من دأب المحبين ولا من دأب المريدين، قال الله تعالى في وصفهم
لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم
[الحديد: 23].
ثم قال: { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [الروم: 37] والإشارة فيه أن لا يعلق العبد قلبه إلا بالله؛ لأن ما يسوءه ليس زواله إلا من الله، وما يسره ليس وجوده إلا من الله، فالبسط الذي سره ويؤنسه من وجوده، والقبض الذي يسوءه ويوحشه منه حصوله، فالواجب لزوم حقوقه بالأسرار وقطع الأفكار من الأغيار.
وبقوله تعالى: { فآت ذا القربى حقه } [الروم: 38] يشير إلى أن القرابة على قسمين: قرابة النسب، وقرابة الدين.
فقرابة الدين: أمس بالمواساة والمراعاة أحق وهم الإخوان في الله والأولاد من طلب الولاية من أهل الإرادة الذين تمسكوا بأذيال الأكابر منقطعين إلى الله مشتغلين بطلب الله متجردين عن الدنيا غير مستفرغين للمعيشة ، فالواجب على الأغنياء بالله القيام بأداء حقوقهم فيها يكون لهم عرف على الاشتغال بموجب الطلب بفراغ القلب.
{ والمسكين } من يكون محروما عن صدق الطلب وهو من أهل الطاعة والعبادة أو طالب العلم فمعاونته بقدر الإمكان وحسب الحال واجبة.
{ وابن السبيل } المسافر فحقه القيام بشأنه بحكم الوقت فمن تكون همته الطلب أعلى فهو من أقارب ذوي القربى وبإيثار الوقت عليه أولى فحقه آكد وتفقده أوجب، { ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون } [الروم: 38] بسعادة الدارين وسيادتها.
{ ومآ آتيتم من ربا } [الروم: 39] أي بغير واجب عليكم من الإنفاق على الأغنياء لاستمالة قلوبهم واصطيادها، { ليربوا في أموال الناس } [الروم: 39] بأن يستجلب منهم بالاستعطاف { فلا يربوا عند الله } إن لم يكن لوجه الله، وبقوله: { ومآ آتيتم من زكاة تريدون وجه الله } [الروم: 39] يشير إلى إنفاق المال في سبيل الله تزكية للنفس عن لوث حب الدنيا كما كان حال أبي بكر رضي الله عنه تجرد عن ماله تزكية لنفسه.
كما أخبر الله تعالى عن حاله بقوله:
وسيجنبها الأتقى * الذى يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى
[الليل: 17-20] أي: شوقا إلى لقاء ربه، { فأولئك هم المضعفون } [الروم: 39] أي: تعطون أضعاف ما يرجون ويتمنون لأنه بقدر همتهم وحسب نظرهم المحدث يرجون الله تعالى بحسب إحسانه وكرمه القديم يعطي عطاء غير منقطع بقوله تعالى: { الله الذي خلقكم } [الروم: 40] يشير خلقكم من العدم بإخراجكم إلى عالم الأرواح.
{ ثم رزقكم } [الروم: 40] أبصاركم بمشاهدة شواهد ربوبيته ورزق قلوبكم فهم خطابه ودرك مراده ورزق ألسنتكم إجابة سؤال والشهادة بتوحيده { ثم يميتكم } [الروم: 40] عن مشاهدة الأرواح بالإهباط إلى قبول الأشباح، كما قال في ذلك
ومآ أنت بمسمع من في القبور
[فاطر: 22] { ثم يحييكم } [الروم: 40] بقوة الإيمان والإيقان والعرفان، { هل من شركآئكم } [الروم: 40] من الأصنام والأنام { من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى } [الروم: 40] منزه بذاته وصفاته { عما يشركون } [الروم: 40] أعداؤه بطريق عبادة الأصنام وأولياؤه بطريق عبادة الهوى.
[30.41-45]
ثم أخبر عن أسباب فساد الاستعداد بقوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر } [الروم: 41] يشير إلى بر النفس وبحر القلب، وفساد النفس بأكل الحرام وارتكاب المحظورات وتتبع الشهوات وفساد القلب بالعقائد السوء ولزوم الشبهات والتمسك بالأهواء والبدع والاتصاف بالأوصاف الذميمة وحب الدنيا وزينتها وطلب شهواتها ومتابعتها ومن أعظم فساد القلب عقد الإصرار على المخالفات كما أن من أعظم الخيرات صحة العزم على التوبة إلى الحق والإعراض عن الباطل، ومن جملة فساد القلب التأويلات بغير الحق والانحطاط إلى الرخص من غير قيام حجة والعلو في الدعاوى من غير استحياء من الله وإظهار المعالي رياء وسمعة.
وبقوله: { بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 41] يشير إلى أن الناس خلقوا على فطرة الإسلام مستعدين لكسب الخير والشر، إلا أن لله القدر وخلق الأفعال، وللعبد الكسب دون الخلق قوله: { ليذيقهم بعض الذي عملوا } [الروم: 41] أي: ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا من الذنوب والإعراض بالبأساء والضراء والمصائب، { لعلهم يرجعون } [الروم: 41] من الغفلات وتتبع الشهوات وتتبع الأوقات إلى الله وطلبه، والجهد في عبوديته وتعظيم الشرع والتأسف على ما فاتهم من الحق.
ثم دلهم على إصلاح ما أفسدوه بقوله: { قل سيروا في الأرض } [الروم: 42] يشير إلى السير في أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة بقطع المنازل وسلوك المقامات { فانظروا } [الروم: 42] بنظر الاعتبار وطلبوا الحق بنعت الأفكار { كيف كان عاقبة الذين من قبل } [الروم: 42] مدعي الطلب وأصحاب الرياضات، فتعرفوا أموالهم قياسا على أموالكم فيما يعتريكم من العثرات والوقعات والساكنات والركون إلى الإيمان ليتحقق عندكم بأن { كان أكثرهم مشركين } [الروم: 42]، إذا استجلى بعضكم بعض الأحوال فسكنوا إليها واستحسن بعضهم بعض المقامات فركنوا إليها، فأشركوا بالالتفات إلى ما سوى الحق تعالى فيعتبروا عن حالهم وتمسكوا بقوله: { فأقم وجهك للدين القيم } [الروم: 43] بصدق التوجه إلى الله والثبات عليه من غير السكون من شيء من المنازل والركون إلى شيء من الدارين، ومن عرف التوجه أن يكون بالموافقة والاتباع دون الاستبداد برأيه على وجه الاتباع، ومن لم يتأدب بشيخ كامل، ولم يتلقف كلمة التوحيد ممن هو لسان وقته كان خسرانه أتم ، ونقصانه أعم في نفسه.
{ من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } [الروم: 43] يعني: يوم القيامة { يومئذ يصدعون } [الروم: 43] أي: فرقا وأحزابا يشير به إلى العزل عن الارتقاء لعدم استعداد الترقي من مقام إلى مقام آخر، فيكون فريق فيه أهل الدركات وفريق فيه أهل الدرجات، وفريق أهل الفرقات، وفريق أهل القربات، وفريق أهل الوصلات.
{ من كفر } [الروم: 44] أنكر على أهل الحق { فعليه كفره } [الروم: 44] أي ما حرمانه عن هذا الحديث بموجبه إنكاره { ومن عمل صالحا } [الروم: 44] للترقي أي: يصلح للترقي في المقامات وكشف الأحوال { فلأنفسهم يمهدون } [الروم: 44] قاعدة نيل المقاصد والمطالب.
{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } [الروم: 45] أي: من المواهب التي زيادة على جزاء الإيمان والعمل الصالح الذي من المكاسب، وجزاء المكاسب من المخلوقات والزيادة وهي الرؤية التي هي من المواهب ما يتعلق بالفضل الرباني وهي غير مخلوقة، كما قال تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26] وهي الرؤية وهي من الفضل لا من الكسب كقوله:
ويزيدهم من فضله
[فاطر: 30].
ثم قال: { إنه لا يحب الكافرين } [الروم: 45] إذا لم يرزقهم الإيمان ليقعوا في الكفر بالخذلان يشير إلى منكري أهل الحق أنه ما أحبهم إذ لم يرزقهم الصدق والطلب، فوقعوا بالخذلان في الإنكار والكفران.
[30.46-50]
{ ومن آياته } [الروم: 46] أي: من أمارات فضله وكرمه { أن يرسل الرياح مبشرات } [الروم: 46] يرسل رياح الرجاء على قلوب العوام فتكنس قلوبهم عن عبادة المعاصي، وغناء اليأس وتبشرها بدخول نور الإيمان، ثم يرسل رياح البسط على أرواح الخواص فتطهرها من وحشة القبض ودنس الملاحظات، وتبشرها بدوام الوصال والارتياح به ولكن بعد احتياج لكن { وليذيقكم من رحمته } [الروم: 46] أي: من رحمة الخاصة وهي تجلي صفاته فتستغرقون في بحر ألطافه.
{ ولتجري الفلك } [الروم: 46] فلك القلوب فيه { بأمره } بكرمه وحسن رعايته، { ولتبتغوا من فضله } [الروم: 46] وهو الاتصاف بصفاته والانتفاء هو انتفاء الصفات في صفاته، { ولعلكم تشكرون } [الروم: 46] ببذل الوجود لنيل المقصود فإن الشكر يقتضي المزيد والمزيد في هذا المقام إفناء الذات في ذاته تعالى ليبقى بإبقائه { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم } [الروم: 47] يشير به إلى المتقدمين من المشايخ المتصوفين لتربية قومهم من المريدين ودلالتهم بالتسليك إلى حضرة رب العالمين.
{ فجآءوهم بالبينات } [الروم: 47] على لسان التحقيق في بيان الطريق لأهل التصديق فمن قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومن عارضهم بالإنكار والجحود فابتلاهم بعذاب الخلود في الإبعاد والجحود وذلك تحقيق قوله: { فانتقمنا من الذين أجرموا } [الروم: 47] أي: أنكروا، { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [الروم: 47] المتقربين إلينا أن ننصرهم بتقربنا إليهم.
ثم شرح معنى تقربه إلى العباد بقوله: { الله الذي يرسل الرياح } [الروم: 48] رياح عطف وجوده { فتثير سحابا } [الروم: 48] من ألطافه { فيبسطه في السمآء } [الروم: 48] سماء قلوبهم { كيف يشآء ويجعله كسفا } [الروم: 48] قطعا، قطعة: تمطر غيث القربة على النفوس فتطهرها من الذنوب، وقطعة: تمطر على الأسرار بغيث الأنوار فتطهرها عن النظر إلى الأغيار، وقطعة: تمطر على الأرواح بغيث الكشف على الأسرار فتطوى ببساط الحشمة على ساحات قربه وتضرب قباب الهيبة بمشاهد كشفه، وينشر عليهم أنهار أنسه، ثم يتجلى لهم بحقائق قدسه ويسقيهم بكأس التجلي شراب طهور محبته، وبعدما محاهم عن أوصافهم أصحاهم لا بهم ولكن بنفسه والعبارات عن ذلك خرس والإشارات دونها طمس، هذه حقائق قوله: { فترى الودق يخرج من خلاله فإذآ أصاب به من يشآء من عباده إذا هم يستبشرون } [الروم: 48] بألطاف الربوبية.
{ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } [الروم: 49] مطر العناية، { من قبله } [الروم: 49] أي من قبل مطر العناية { لمبلسين } [الروم: 49] آيسين من نزول المطر آيسين أيضا من كمالية مطر العناية أن يكون كما استبشروا به؛ لأن حقائق تلك العناية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم أخبر عن آثارها التي هي قريبة من فهم الإنسان لا عن حقيقتها، فإنه من لم يذق لا يدري فقال: { فانظر إلى آثار رحمت الله } [الروم: 50] أي رحمتها الخاصة { كيف يحي الأرض } [الروم: 50] أرض القلوب بالفيض الإلهي { بعد موتهآ } [الروم: 50] بكبائر الذنوب، { إن ذلك } [الروم: 50] أي أن الآثار التي تراها { لمحي الموتى } [الروم : 50] فهو الله المحيي يحيي الموتى من القلب بتجلي صفة المحيي للقلوب الميتة فيحيها، { وهو على كل شيء قدير } [الروم: 50] من أحيا قالب الإنسان بعد موته في الحشر ومن أحيا قلب بعد موته في الدنيا.
[30.51-53]
ثم أخبر عن أموات الأحياء من غير الأحياء بقوله تعالى: { ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون } [الروم: 51] يشير إلى ريح الشقاوة الأزلية إذا هبت عن مهب القهر والعزة على زرع معاملة الأشقياء، وإن كانت مخضرة أي على وفق الشرع نجعلها مصفرة يابسة تذروها الرياح كأعمال المنافق وخلوا بعد الإيمان التقليدي بالنفاق يكفرون بالله وبنعمه.
وبقوله: { فإنك لا تسمع الموتى } [الروم: 52] يشير إلى أن الكفر موت القلب كما أن العصيان مرض فمن مات قلبه بالكفر بطل سمعه فلا تنفعه لصمه وهو معنى قوله: { ولا تسمع الصم الدعآء } [الروم: 52] يعني: إذا كان في السريرة صم عن سماع الحقيقة فسماع الظاهر لا يفيده إلا تأكيد الحجة، { إذا ولوا مدبرين } [الروم: 52] معرضين عن الحق، وكما لم يسمع الصم الدعاء فلم يمكنه أن يهدي العمي { ومآ أنت بهاد العمي عن ضلالتهم } [الروم: 53] عن ضلالتهم لأنهم موتى عن الحياة الحقيقية فالميت لا يبصر شيئا كما { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } لأن الإيمان حياة القلب، فإذا كان القلب حيا يكون له السمع والبصر واللسان.
ثم فسر المؤمن الحقيقي بقوله: { فهم مسلمون } [الروم: 53] أي: مستسلمون لأحكام الشريعة وآداب الطريقة في التوجه إلى عالم الحقيقة.
[30.54-56]
{ الله الذي خلقكم من ضعف } [الروم: 54] في البداية ضعف العقل.
{ ثم جعل من بعد قوة } [الروم: 54] في العقل بالبراهين والحجج.
{ ثم جعل من بعد ضعف قوة ضعفا وشيبة } [الروم: 54] في الإيمان لمن كان العقل عقيلته فكما تعقل بعلاقة المعقولات، فينظر فيها بداعية الهوى بنظر مشوب بآفة الوهم والخيال، فيقع في ظلمات الشبهات فتزل قدمه عن الصراط المستقيم والدين القويم فيهلك كما هلك فمن شرع في تعلم المعقولات بلا نور المتابعة ونور الشريعة وسعوا في إبطال الشريعة بظلمة الطبيعة.
يريدون ليطفئوا نور الله بأفوههم والله متم نوره ولو كره الكفرون
[الصف: 8] وأيضا خلقكم من ضعف أي ضعف التردد والتحير في الطلب، ثم جعل من بعد ضعف قوة في صدق الطلب، ثم جعل من بعد قوة في الطلب ضعفا في حمل القول الثقيل وهو حقيقة قوله: لا إله إلا الله فإنها توجب الفناء الحقيقي في المعنى ويوجب الضعف الحقيقي في الصورة بحمل المعاتبات والمعاشقات التي تجري بين المحبين فإنها تورث الضعف أو الشيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" شيبتني سورة هود وأخواتها "
فإن فيها كانت إشارة من المعاشقات بقوله:
فاستقم كمآ أمرت
[هود: 112].
{ يخلق ما يشآء } [الروم: 54] من القوة والضعف في السعيد والشقي، فيخلق في السعيد قوة الإيمان وضعف البشرية وفي الشقي قوة البشرية لقبول الكفر وضعف الروحانية لقبول الإيمان { وهو العليم } بأهل السعادة، { القدير } بخلق أسباب الشقاوة فيه.
{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } [الروم: 55] يشير إلى يوم تطلع شمس العناية عن شرق قلب أهل السعادة.
يوم تبدل الأرض غير الأرض
[إبراهيم: 48] إذا أشرقت الأرض بنور ربها تقوم قيامتهم وتبعث القلوب الميتة عن قبور تواليها بنفخ صور الجذبة الإلهية، فيقسم المجرمون الذين كانوا إلى يوم البعث مقبلين على الدنيا معرضين عن الحق تعالى ما لبثوا في قبور القوالب غير ساعة فقط استقبلوا أيام غفلتهم وهم مقبورون في قبر القوالب الدنيوية في مقابل صباح تجلت فيه شمس جذبة العناية وهو صباح إشراق بنور أزلي أبدي فرأوا الأيام المعدودة الدنيوية المتناهية الفانية بالنسبة إلى صباح يوم أزلي أبدي كساعة ولا تستغرب أن عدد أيامهم المعدودة في هذا العرض ساعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صبح ليلة المعراج بهذا الصباح كأن الدنيا ساعة فجعلها طاعة فقد رأى مدة عمر الدنيا بالنسبة إلى ذلك الصباح كساعة.
{ كذلك كانوا } [الروم: 55] يعني في أيام جاهليتهم وأوان غفلتهم { يؤفكون } [الروم: 55] يكذبون أو يحسبون بزعم نفوسهم لا يموتون بهذا الموت الإرادي ولا يبعثون بهذا البعث الجذباتي الرباني.
{ وقال الذين أوتوا العلم } اللدني { والإيمان } العياني وهم القلوب والأرواح والأسرار الذين أحيوا بنور جذبة الحق فرأوا بدار الحقيقة حقيقة الأمر قالوا: { لقد لبثتم في كتاب الله } [الروم: 56] وهو التقدير الأزلي في أم الكتاب { إلى يوم البعث } فهذا يوم البعث الحقيقي، { ولكنكم كنتم لا تعلمون } [الروم: 56] أن تستحقوا لهذه السعادة العظمى.
[30.57-60]
ثم أخبر عن المحرومين عن نيل هذه السعادة الذين ظلموا أنفسهم بوضع صرف استعدادها طلب الحق في موضع طلب الأغيار بقوله: { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم } [الروم: 57] أن يقولوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا.
{ ولا هم يستعتبون } [الروم: 57] يسترجعون لتحصيل هذه السعادة لإبطال استعداد الطلب وبقوله: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [الروم: 58] يشير أن أكثر القرآن أمثال ضربها الله في صورة القصص والأخبار والأحكام، وذكر الدنيا وما فيها وذكر الآخرة وما فيها وأمور أهل السعادة وأمور أهل الشقاوة، ولها معان وأسرار وحقائق وأنوار وتشتمل على إرشاد أرباب الطلب وأصحاب السلوك في السير إلى الله وبيان معاملاتهم وشرح أحوالهم ومنازلهم، ومقاماتهم وإظهار منافعهم ومضارهم، وإثبات مقاصد عوامهم وخواصهم وتنبيه نائمهم، وتشويق سامعهم، وإنذار مغفلهم، وتبشير مرشدهم، وضرب مثل القرآن بالحبل الذي يكون أحد طرفيه في الحضرة وأحد طرفيه في يد العبد فقال:
واعتصموا بحبل الله جميعا
[آل عمران: 103] فمن اعتصم به حق الاعتصام يبلغهم إلى مرتبة يخاطبون بخطاب واعتصموا بالله.
{ ولئن جئتهم بآية } [الروم: 58] يا محمد؛ يعني: من لم يهتد بالقرآن أنه معجزة ظاهرة { ليقولن الذين كفروا } [الروم: 58] بالقرآن وكل منه معجزة، { إن أنتم إلا مبطلون } [الروم: 58] { كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } [الروم: 59] أسرار القرآن ولا يفهمون حقائق أمثال إلى قيام الساعة بإنكارهم على حقائق القرآن وأهلها، كما طبع على قلوب الذين كفروا بالقرآن بكفرهم، وبقوله: { فاصبر } [الروم: 60] يشير إلى الطالب الصادق؛ فاصبر على مقاساة شدائد فطام النفس عن مألوفاتها تزكية لها وعلى مراقبة القلب عن التدنس بصفاء النفس تصفية له، وعلى معاونة الروح على بذل الوجود لنيل الجود تخلية له.
{ إن وعد الله حق } [الروم: 60] فيما قال:
" ألا من طلبني وجدني "
{ ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } [الروم: 60] يشير به إلى استخفاف أهل البطالة واستجهالهم أهل الحق وطالبيه وهم ليسوا أهل الإيمان وإن كانوا أهل الإيمان التقليدي يعني: لا يقطعون عليك الطريق بطريق الاستهزاء أو الإنكار كما هو عادة أهل الزمان يستخفون طالبي الحق وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يفعلون من ترك الدنيا وتجردهم عن الأهالي والأولاد والأقارب؛ وذلك لأنهم لا يوقنون بوجود طلب الحق تعالى وبالوجود على طالبي الحق أولا التجريد لقوله تعالى:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم
[التغابن: 14] وبعد تجريد الظاهر يجب عليهم التفريد وهو قطع القلب عن سعادة الدارين، وبهذين القدمين وصل من وصل إلى مقام التوحيد، كما قال بعضهم: خطوتان وقد وصلت، والله أعلم وهو المستعان.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-12]
{ الم } [لقمان: 1] يشير بالألف إلى آلائه، وباللام إلى لطفه وعطائه، وبالميم إلى مجده وثنائه، فبآلائه رفع الجحد من قلوب الأولياء، وبلطف عطائه أثبت المحبة في أسرار أصفيائه، وبمجده وثنائه مستغن عن جميع خلقه بوصف كبريائه { تلك آيات الكتاب الحكيم } [لقمان: 2] أي: المحكم المحروس عن التغيير والتبديل وهو { هدى } [لقمان: 3] يهدي بهداه إلى الحق تعالى { ورحمة } [لقمان: 3] لمن اعتصم به بوصاله بجذبات مودعة فيه إلى الله تعالى.
كما أشار إلى هذا المعنى بقوله: { ورحمة للمحسنين } [لقمان: 3] والمحسن من يعتصم بحبل القرآن متوجها إلى الله، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان حين سأله جبريل عن الإحسان فقال:
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه "
فمن يكون بهذا الوصف يكون لا بد متوجها إليه حتى يراه، ولا بد للمتوجه إليه أن يعتصم بحبله وإلا هو منزه عن الجهات، فلا يتوجه إليه بجهة من الجهات.
ثم شرح حال المحسنين وقال: { الذين يقيمون الصلاة } [لقمان: 4] أي: يدعونها بصدق التوجه وحضور القلب والإعراض عما سواه، { ويؤتون الزكاة } [لقمان: 4] تزكية للنفس، فزكاة العوام من كل عشرين دينار لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل كما قال تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
[التوبة: 103]، فبإيتاء الزكاة على وجه الشرع ورعاية حقوق الأركان الأخرى نجاة العوام من النار، وزكاة الخواص من المال كلية قال صلى الله عليه وسلم:
" من كان لله كان الله له ".
وهم بالآخرة هم يوقنون
[النمل: 3] بخروجهم عن الدنيا وتوجههم إلى المولى والآخرة من المنزل الثاني لمن يسير إلى الله بقدم الخروج عن منزل الدنيا فمن خرج عن الدنيا لا بد له أن يكون في الآخرة فيكون موقنا بها بعد أن كان مؤمنا بها.
{ أولئك على هدى من ربهم } [لقمان: 5] أي: أولئك اهتدوا بالله إليه بجذبات العناية { وأولئك هم المفلحون } [لقمان: 5] يعني: هم الذين أفلحوا بالجذبات إذ خلصوا من حبس الوجود، فلما أخبر عن حال المعتصمين بحبل الله الواصلين إليه أخبر عن المعرضين عن القرآن متوجهين إلى لهو الحديث فقال: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } [لقمان: 6] فما يشغل عن الله ذكره ويحجب عن الله سماعه فهو لهو الحديث، وأما الغناء فمنه محرم وهو ما صرح تحريمه الشرع مثل المزامير وطبل المخنثين، ومنه ما لم يتعرض له الشرع أنه حلال أم حرام فهي كسائر المباحات، ومن جملتها مثل الدف والغناء بالكف في ظاهر الشرع كما حكم به الشافعي رحمه الله.
وأما على مذهب أهل الحقيقة فالحكم في المباح منها ما أفتى به الجنيد - قدس الله روحه - فقال: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم، وعلى أهل القلوب مباح لوقوف علومهم وصفاء قلوبهم، واجب على أصحابنا لفناء حظوظهم.
وقال أبو بكر الكتاني: سماع العوام على متابعة الطبع، وسماع المريدين رغبة ورهبة، وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم، وسماع العارفين على المشاهدة، وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل واحد من هؤلاء مصدر ومقام، فلا ريب في أن السماع مشتمل على كثير من الفوائد.
قال تعالى:
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
[الزمر: 18]، وقال:
وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
[المائدة: 83] فكل سماع يفيد هذه المعاني لصاحبه من الهداية والرشد والمعرفة فهو السماع الذي أسمعه الله تعالى فمن القوم من يسمع في الله ولله وبالله ومن الله، ولا يسمع بالسمع الإنساني بل بالسمع الرباني كما قال تعالى:
" كنت له سمعا فبي يسمع "
فالحاصل أن من فسر قوله تعالى: { لهو الحديث } [لقمان: 6] بالغناء وحرمها إنما حرمها لأنها لهو وقد جاء في الحديث:
" كل لهو حرام "
وقد حلت ربقة هذه الطائفة عن أن يسمعوا بلهو ويجتمعوا بسهو فإنهم يسمعون من حيث صفاء التوحيد بحق لا بحظ فهم بين استتار يوجب التلهب أو تجل يورث الترويح، أو خطاب يقتضي الاشتياق أو عتاب يزيد في الإحراق، فتارة يخاطبهم الحق بإشعارهم فيخطفهم عن وله، كأن البشرية مستورة، وتارة يتضرعون بين يدي الحق بأقوالهم وأبياتهم فيملأ في قلوبهم سرورا وحبورا وعلى الحقيقة إن السماع مهما كان لجماعة من المريدين الصادقين أرباب الرياضات والمجاهدات بحضور شيخ كامل تحميهم ولايته عن تصرفات الشياطين، وتبدر همته لئلا تهيج في أنفسهم الآفات والفتن النائمة، وإلا فالاحتراز سنة أقرب إلى الصواب وأبعد من موجبات العقاب.
{ ليضل عن سبيل الله بغير علم } [لقمان: 6] يعني: من يشتري لهو الحديث مما يشغل عن الله ذكره يكون حاصله أن يضل عن سبيل الله بغير علم عن تلك الضلالة { ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } [لقمان: 6] إهانة الطرد والإبعاد، وما في الآيات قد تقدم تفسيرها وتحقيقها إلى قوله تعالى: { بل الظالمون في ضلال مبين } [لقمان: 11].
ثم أخبر عن إعطاء النعمة في إيتاء الحكمة بقوله تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [لقمان: 12] يشير إلى لقمان القلب وإتيانه الحكمة والحكمة عدل الوحي، قال صلى الله عليه وسلم:
" أوتيت القرآن وما يعدله "
وهو الحكمة بدليل قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
[الجمعة: 2] فالحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء، وكما أن النبوة ليست كسبية بل هو
فضل الله يؤتيه من يشآء
[الجمعة: 4] فكذلك الحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء إياها طريق تحصيلها بقوله صلى الله عليه وسلم:
" من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه "
فكما أن القلب مهبط الوحي من إيحاء الحق تعالى فكذلك مهبط الحكمة بإيتاء الحق تعالى.
كما قال: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [لقمان: 12]، وقال:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة: 269]، فثبت أن الحكمة من المواهب لا من المكاسب؛ لأنها من الأحوال لا من المقامات والمعقولات التي سمتها الفلاسفة حكمة ليست بحكمة فإنها من نتائج الفكر السليم من شوب آفة الوهم والخيال وذلك يكون للمؤمن والكافر، وقلما يسلم من الشوائب ولهذا وقع الاختلاف في أدلتهم وعقائدهم ومن يحفظ الحكمة التي أوتيت بعض الحكماء الحقيقة لم تكن حكمة بالنسبة إليه؛ لأنه لم يؤت الحكمة ولم يكن هو حكيما ولما كانت الحكمة من إنعام الله على لقمان ونعمة من نعمه طالبه بشكرها بقوله: { أن اشكر لله } [لقمان: 12]، إذ أتاك هذه النعمة وأنت نائم غافل عنها جاهل بها.
ثم قال: { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه } [لقمان: 12] لأن الشكر موجب لمزيد النعمة، وأيضا لأن الكفر من الوصف اللازم للإنسان بأنه
لظلوم كفار
[إبراهيم: 34] والشكر من صفة الحق فإن الله شاكر عليم، فمن شكر فإنما شكر لنفسه بإزالة الصفة الكفارية عنها واتصافها بصفة شاكرية الحق تعالى، { فإن الله غني } [لقمان: 12] أزلي الغنى وأبديتها لا يحتاج إلى شكر الشاكرين وهم يحتاجون في تحصيل الشكر إليه، ولو أنعم عليهم بمزيد النعمة لشكرهم إياه ما ينقص من غناه شيء، { حميد } [لقمان: 12] في ذاته وصفاته أن يحمده العباد ويشكروه.
[31.13-16]
{ وإذ قال لقمان } [لقمان: 13] الروح لابنه وهو السر المتولد من ازدواج الروح والقلب { وهو يعظه } [لقمان: 13] أي: لا يتصف بصفات النفس وأن من صفاتها الشرك فإنها تعبد الهوى والشيطان والدنيا فقال: { يبني لا تشرك بالله } [لقمان: 13] بالالتفات إلى الدارين وما فيهما، { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] على نفس المشرك لا على الله تعالى؛ لأنه وضع شيئا من المخلوقات بتعبده موضع تعبد الحق تعالى فأعرض عن الحق بالتوجه إلى ذلك الشيء وفوت على نفسه الوصول إلى التوحيد عند طلب الوصول إلى ما أشرك به، فأي ظلم أعظم على النفس من فواتها الوصول إلى التوحيد واتصالها بالشرك .
{ ووصينا الإنسان } [لقمان: 14] يشير به إلى السر بوالديه وهما الروح والقلب { حملته أمه } [لقمان: 14] وهي القلب، { وهنا على وهن } [لقمان: 14] تعبا على تعب وجهادا على جهاد، يعني: على النفس عند حمل ولد السر لئلا يوصل إلى مشام القلب رائحة مشتهياتها فيسقط جنين السر وجهاد آخر عند وضع حمل السر لئلا يذبحه فإنها كفرعون لموسى السر؛ لأن هلاكها يكون على يده وبقوله: { وفصاله في عامين } [لقمان: 14] يشير إلى فطامه من مألوفات الدارين فإنه هو معدن الإخلاص الذي هو سر بينه وبين الله لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، { أن اشكر لي } [لقمان: 14] إذ أنعمت عليك بأن أجعلك مخزن أسراري { ولوالديك } [لقمان: 14] إذ أنعما عليك بحسن { إلي المصير } [لقمان: 14] أي: ليكون مرجعكم إلي في جميع الحالات لا إلى غيري.
وبقوله: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } [لقمان: 15] يشير إلى أن الروح طبيعة روحانية لو خلى إلى طبيعة يتعلق بمستحسنات طبعه من الروحانيات الأخرويات وأن القلب وإن لم يكن له طبيعة خاصة يتعلق بها؛ ولكنه قابل لطبيعة الروح وطبيعة النفس، فتارة يميل إلى الآخرة بتبعية الروح وتارة يميل إلى الدنيا بتبعية النفس، وكلتاهما الطاغوت وللسر طبيعة الإخلاص لو خلى إلى طبعه فيقول: { وإن جاهداك } والد الروح ووالدة القلب على أن يتعلق بشيء من الدارين لا على طبيعتك وهي الإخلاص في التوحيد { فلا تطعهما } فتكون مشركا وفي هذا المعنى إشارة لطيفة وهي أن للروح والقلب تكون فترات وأحوال مختلفة بحسب الأوقات تزل قدمها عن صراط التوحيد فعلا وصفة، فإذا كان السر محفوظا على طبعه من الإخلاص في التوحيد فيرجعان سريعا إلى طبع السر في التوحيد، وإن تغير السر عن طبيعته من الإخلاص في التوحيد فذلك المصيبة العظمى وفي التدارك وإصلاح حاله إمكان بعيد وإن كان الروح والقلب والنفس والبدن كل واحد منهم يقوم بأداء ما يجب عليه من الشرع والعقل لا ينفعهم من فساد حال السر فافهم جدا.
وهذا حال بعض المتعلمين لعلم الأصول والمعقولات عند تطرف الشكوك في أسرارهم ويتغير بها إخلاص التوحيد في أسرارهم بحسبان تحصيل التوحيد بطريق الاستدلال بالشبهات المعقولة
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف: 104] وكذلك حال بعض الفقراء الذين لا يتمسكون بذيل إرادة شيخ واصل ويلازمون صحبته ويستسلمون إليه ليربيهم على قاعدة الطريقة، وقانون الشريعة بل يدورون في العالم متابعي الهوى ويتلقون بعضهم في بعض كلمات من الطامات والخيالات الفاسدة، ويتوهمون من أسرار الشيوخ وكلماتهم في التوحيد في المعرفة معان توقعهم في الكفر والإلحاد لأن أكثرهم يتركون ما أوجب عليهم الشرع من التكاليف على حسبان أنهم أهل عرفان في مقام الوحدة.
ثم قال: { وصاحبهما في الدنيا معروفا } [لقمان: 15] وذلك أن في الدنيا للروح والقلب ليس بد من القيام بالوحدة ثم بمصالح دنيوية لقوام البدن وتحصيل أسباب التعيش في بعض الأوقات ولا يمكنها ذلك إلا بموافقة السر فهو مأمورها بالمعروف أي: بحيث ألا يخل بحاله من الإخلاص { واتبع سبيل من أناب } [لقمان: 15] وهي الخفاء الذي هو واسطة بين الروح والحق تعالى ومن طبعه الإنابة إلى الحضرة، { ثم إلي مرجعكم فأنبئكم } [لقمان: 15] بطريق مجازاة كل واحد منكم، { بما كنتم تعملون } [لقمان: 15] من الخير والشر.
ثم أخبر عن دقائق الحكمة وحقائقها بقوله: { يبني إنهآ } [لقمان: 16] يشير إلى المقسومات الأزلية من الأرزاق والأخلاق الإنسانية والمواهب الإلهية، { إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموت } [لقمان: 16] في الصورة والمعنى، { أو في الأرض } [لقمان: 16] في الصورة والمعنى { يأت بها الله } [لقمان: 16] لمن قدر له وقسم من أسباب السعادة والشقاوة إن شاء بطريق كسب العبد وإن شاء
يجعل له مخرجا
[الطلاق: 2] في حصولها
من حيث لا يحتسب
[الطلاق: 3]، { إن الله لطيف } [لقمان: 16] بعباده { خبير } [لقمان: 16] بإتيان ما قسم لهم بلطف ربوبيته فالواجب على العبد أن يثق بوعده ويتكل على كرمه فيما قدر له ويسعى إلى القيام بعبوديته.
[31.17-21]
كما أمره الله تعالى بقوله: { يبني أقم الصلاة } [لقمان: 17] أي: أدمها، وأدامتها في أن ينتهي من الفحشاء والمنكر فإنه تعالى وصف الصلاة بأن
تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45] فإنه في الصلاة وإن لم يكن على هيئاتها، ومن لم يكن منتهيا عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، وإن كان مؤديا هيئاتها، ولهذا المعنى ذكر عقيب قوله: { أقم الصلاة } ، وقوله: { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } [لقمان: 17] يشير به إلى أن تأمر قلبك بالمعروف والمعروف ما يوصل العبد إلى الله وتنهي نفسك عن المنكر والمنكر ما يشغل العبد عن الله.
وقوله: { واصبر على مآ أصابك } [لقمان: 17] يشير إلى أن البلاء والمحنة فلا بد للمريد الصادق أن يصبر على ما أصابه في أثناء الطلب مما ابتلاه الله به من الخوف من الأعداء في الظاهر أو من الأعداء في الباطن والجوع من الجوع الظاهر عند قلة الغذاء للنفس أو مفارقة الأولاد والأهالي والإخوان والأخدان والثمرات يعني: ثمرات المجاهدات.
وبشر الصابرين
[البقرة: 155] على هذه الأحوال بأن
عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
[البقرة: 157] إلى الحضرة { إن ذلك } [لقمان: 17] المقدمات { من عزم الأمور } [لقمان: 17] الموصلة للعبد إلى الرب { ولا تصعر خدك للناس } [لقمان: 18] تكبرا وتجبرا معجبا بما فتح الله عليك فتكون بهذا مفسدا في لحظة ما أصلحته في مدة.
{ ولا تمش في الأرض مرحا } [لقمان: 18] كمشية الجبارين وأيضا ولا تمش مرحا في طلب الحق تعالى بالتوالي والسكون كمشية المختال الفخور { إن الله لا يحب كل مختال فخور } [لقمان: 18] في السير إليه فخور بما مال من الحق على الناس بطريق العجب والنظر إليهم بالحقارة { واقصد في مشيك } [لقمان: 19] بين مشي المتكاسل الجبان المتعلل وبين مشي المتسارع المستعجل المقدام { واغضض من صوتك } [لقمان: 19] في إظهار الدعاوى وكتمان المعاني كن فانيا عن شواهدك مصطلما عن قولك مأخوذا عن حولك وقوتك بما استولى عليك من كشوفات سرك وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من خمار غفلتك بل من سكر إعجابك وحسبانك، { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } [لقمان: 19] فيه إشارة إلى أن الذي يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحق وقالوا: هو صوفي يتكلم قبل أوانه.
ثم أخبر عن كمال عنايته في أهل ولايته بقوله تعالى: { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموت وما في الأرض } [لقمان: 20] يشير إلى ما في سماوات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل واليقين والصبر والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية والمواهب الربانية وتسخيرها بأن يستر العورة عليها بالسير والسلوك المتداركة بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها وإلى ما في أرض النفوس من الأوصاف الذميمة مثل الكبر والحسد والحقد والبخل والحرص والشره والشهوة وغيرها تبديلها بالأخلاق الحميدة والعبور عليها والتمتع بخواصها محترزا عن عواقبها.
ثم من على العباد بما أنعم عليهم في تسخيرها في الروح لهم وقال: { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } [لقمان: 20] فالنعمة الظاهرة هي تسخير ما في السماوات وما في الأرض الظاهرة من الكواكب السيارة والملائكة المقربين فتسخير الكواكب تيسيرها في البروج على الأفلاك التي دبرها لكل واحدة منها فلكا، وقدر لهن القربات والاتصالات وجعلهن مدبرات العالم السفلي متصرفات بالخواص والطبائع في العناصر الأربعة ولقراباتهن واتصالاتهن مقتضيات في إظهار الأمور المقدرة بتقدير العزيز العليم في عالم السفلي من الزماني مثل الشتاء والصيف والخريف والربيع.
ومن المكاني مثل المعدن والنبات والحيوان والإنسان فظهور الأحوال المختلفة بحسب سير الكواكب على الدوام لمصالح الإنسان ومنافعهم منها، وتسخير الملائكة بأن الله تعالى من كمال حكمته وقدرته جعل كل صنف من الملائكة موكلين على نوع من المدبرات وأعوانا لها كالملائكة الموكلين على الشمس والقمر والنجوم وأفلاكها والموكلين على السحاب والمطر، وقد جاء في الخبر أن على كل قطرة من المطر موكلا من الملائكة لينزلها حيث أمر، والموكلين على الرياح والبحور والمخلوقات، والملائكة الكتاب للناس الموكلين عليهم، ومنهم المعقبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله حتى جعل على الأرحام ملائكة، فإذا وقعت نطفة الرجل في الرحم يأخذ الملك بيده اليمنى وإذا وقعت نطفة المرأة يأخذها الملك بيده اليسرى، فإذا أمر مشجها بمشج النطفتين، وذلك قوله تعالى:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه
[الإنسان: 2].
وأما الملائكة الموكلين على الجنة والنار كلهم مسخرون لصالح الإنسان ومنافعهم حتى الجنة والنار مسخرات لهم تطميعا وتخويفا لأنهم يدعون ربهم خوفا وطمعا، والنعمة الباطنة هي تسخير ما في السماوات وما في الأرض الباطنة وهي القلب والنفس وقد تقدم ذكر ما فيهما وبقوله:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم
[الحج: 3] يشير إلى أهل الجدل من الأصوليين والفلاسفة، فإنهم يجادلون في ذات الله وصفاته بغير علم في معرفة ذاته وصفاته؛ لأنهم ما سلكوا طريق المعرفة في متابعة الأنبياء بدلالة صاحب ولاية عالم رباني واقف على أسرار الطريقة عارف بأسرار عالم الحقيقة ليخرجهم من ظلمات الإنسانية إلى نور الربانية ليعرفوا الحق تعالى بنوره فهو يهديهم إلى معرفة ذاته وصفاته بإفناء ذاتهم وصفاتهم عند تجلي ذاته وصفاته، فلما كان أهل الجدال بمعزل هذا العلم وعن هذا الهدى قال تعالى:
يجادل في الله بغير علم ولا هدى
[الحج: 8] ولا هدى.
وأما قوله:
ولا كتاب منير
[الحج: 8] يشير إلى أنهم إذا كانوا معطلين عن هذا الهدى لو تمسكوا بالقرآن واستمسكوا به في معرفة ذات الله وصفاته لاهتدوا ولكنهم { وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا } [لقمان: 21] بهذا يشير إلى الجدال إذا قال لهم أهل الحق: اتبعوا في معرفة ذات الله وصفاته ما أنزل الله من كتابه من الدلائل في التوحيد، يقولون: بل نتبع الدلائل العقلية تقليدا لما وجدنا عليه أستاذنا والحكماء الأوائل، فلا يقبلون دلائل القرآن العظيم والكلام على التوحيد ويقبلون دلائل العقول المشوبة بالوهم والخيال وشبهات أهل الأهواء والبدع على الكفر والضلالة قال الله تعالى فيهم: { أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } [لقمان: 21] أي: بموجبات اتباعهم الدلائل والشبهات العقلية.
[31.22-26]
ثم أخبر عن أهل الحق وطالبيه بالصدق بقوله تعالى: { ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن } [لقمان: 22]، يشير إلى أن من يسلم نفسه ويخلص في ذلك قصده ويعرض عما سوى الله ويقبل وجهه على الله وهو محسن، يعني: من نعت المحسن أن يعبد الله كأنه يراه، فينبغي ألا يرى في الوجود مع الله شيئا ومن هذا حاله، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } [لقمان: 22]، وسلك المحبة المثلى { وإلى الله عاقبة الأمور } أي: عاقبة أمر التوجه يكون إلى الله بالوصول { ومن كفر فلا يحزنك كفره } [لقمان: 23] وإعراضه فإنه بالإعراض عن الله من يدعي الطلب { إلينا مرجعهم } [لقمان: 23] بلا اختيارهم { فننبئهم بما عملوا } [لقمان: 23] أي: بحسب أعمالهم يخبرهم عما عملوا من الحسنات والسيئات.
{ إن الله عليم بذات الصدور } [لقمان: 23] أي: عليم بما حوته الصدور من الصفات النفسانية والأخلاق الروحانية وما يتولد منها من الأعمال والأحوال قبل تولده منها، فمن كانت همته مصروفة على التمتعات الدنيوية الفانية تمتعهم من متاع الدنيا قليلا أيام حياته القليلة.
{ ثم نضطرهم } [لقمان: 24] لفساد استعدادهم بالتمتعات الذميمة من شهوات النفس { إلى عذاب } [لقمان: 24] أي: معاملات موجبة للعذاب { غليظ } [لقمان: 24] وغلظة العذاب عبارة عن دوامه إلى الأبد { ولئن سألتهم } [لقمان: 25] يعني كافر النفس وصفاتها { من خلق السموت والأرض ليقولن الله } [لقمان: 25] للاحتياج به ولبقية آثار الإيمان الفطري معها.
{ قل الحمد لله } [لقمان: 25] على ما أبقى على النفوس أثر التوحيد { بل أكثرهم لا يعلمون } [لقمان: 25] قدر بقاء أثر التوحيد بل أكثرهم لا يعلمون { لله ما في السموت والأرض } الظاهرة والباطنة فإنها خزائنه كما قال:
ولله خزآئن السموت والأرض
[المنافقون: 7] { إن الله هو الغني } بذاته وصفاته قبل خلق السماوات والأرض وبعده وكلمة هو تكون للحصر أي: هو الغني وحده وليس معه غني آخر، ودليله قوله تعالى:
والله الغني وأنتم الفقرآء
[محمد: 38] { الحميد } في ذاته وصفاته وإن لم يكن له حامد فهو الحامد لنفسه.
[31.27-32]
قوله: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [لقمان: 27] أي: لو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام والبحار يصير مدادا، وبمقدار ما يقبله ينفق القرطاس ويتكلف الكتاب حتى تنكسر الأقلام وتفنى البحار وتستوفى القراطيس ويفنى عمر الكتاب ما نفدت معاني كلام الله؛ لأن هذه الأشياء وإن كثرت فهي متناهية ومعاني كلامه لا تتناهى لأنها قديمة والمحصور لا يبقى بما لا حصر له.
والإشارة فيه أن الله سبحانه إذا تجلى عبد بصفة المتكلم ينفتح الباب على قلبه من عالم غير متناه فيشار إليه: ما نفدت معاني ما لنا معك من الكلام، والذي يسمعك مما يخاطبك به بحسب الوقت ومقتضى الحال، وما بيننا من المعاتبات والمعاشقات سرا بسر وإضمارا بإضمار لا يطويه الزمان ولا يحويه الزمان ولا يحويه المكان، فإنه منطق المحبة من الحبيب الأزلي إلى الحبيب الأبدي فما لنا معك أزلي أبدي غير متناه وما لك معنا فهو أبدي بغير أزلي
ما عندكم ينفد وما عند الله باق
[النحل: 96] إن الله عزيز لعزته لا يتكلم إلا مع الأعزة حكيم لحكمته.
وقال: { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس } [لقمان: 29] شمس الروح { والقمر } [لقمان: 29] قمر القلب { كل يجري } بتسخير الحق تعالى { إلى أجل مسمى } [لقمان: 29] للوصال والوصول وللفراق والقطيعة.
{ وأن الله بما تعملون } [لقمان: 29] من الدواعي الروحية والقلبية { خبير } [لقمان: 29] أنه يصلح لأسباب الوصال ولأسباب الفراق ذلك الإشارات لتعلموا { بأن الله هو الحق } [لقمان: 30] وبالطلب أحق فتبادروا في طلبه قبل فوات الفرصة { وأن ما يدعون } [لقمان: 30] يطلبون { من دونه الباطل } [لقمان: 30] فتتركوه بالاختيار قبل فواته بالاضطرار { وأن الله } [لقمان: 30] أي: ولتعلموا أن الله { هو العلي الكبير } [لقمان: 30] أعلى رتبة وأكبر مطلوبا ومحبوبا مما سواه.
ثم أخبر عن أحكام الملك بإجراء الفلك بقوله تعالى: { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته } [لقمان: 31] في الظاهر سلامتهم في السفينة وفي الباطن سلامتهم في حدثان الكون ونجاتهم في سفن العصمة في بحار القدرة وفي الحقيقة سلامة السالكين في سفينة الشريعة بملاحية الطريقة في بحر الحقيقة وإراءتهم آيات شواهد الحق.
{ إن في ذلك لآيات لكل صبار } [لقمان: 31] ثابت القدم على صراط مستقيم الطلب لا ينهزم من صورة البلايا ولا يفر من مقاساة الشدائد ولا يزل قدمه عن صراط الطلب عند ملاقاة التعب والنصب { شكور } [لقمان: 31] على ما يصيبه من تصاريف التقدير من البلايا والعطايا نعمة يجب عليها الشكر.
[31.33-34]
قوله: { يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق } [لقمان: 33] مرة يخوفكم بأفعاله فيقول: اتقوا فتنة، ومرة بصفاته فيقول:
ألم يعلم بأن الله يرى
[العلق: 14] ومرة بذاته يقول:
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران: 28] { إن وعد الله حق } [لقمان: 33] بالحشر والنشر والجنة والنار والثواب والعقاب والقربة والرؤية حق { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } [لقمان: 33] بسلامتكم في الحال فعن قريب ستندمون في المآل { ولا يغرنكم بالله } الشيطان { الغرور } [لقمان: 33] ولا ينسينكم الرجوع إلى القبول ولا تغفلوا عن أحوال القيامة وأهوالها { إن الله عنده علم الساعة } [لقمان: 34] وأحوالها وأهوالها وهو منفرد بعلمها.
{ وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } [لقمان: 34] ذكورها وإناثها وسعيدها وشقيها وحسنها وقبيحها، ويعلم متى ينزل الغيث وكم قطرة ينزلها وبأي بقعة يمطرها { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } [لقمان: 34] من خير وشر ووفاق { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [لقمان: 34] أيدرك مراده أم يفوت أن الله عليم بحالات الخلائق أجمعين خبير بمكافأتهم بحسب معاملاتهم.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-5]
{ الم } [السجدة: 1] يشير بالألف إلى أنه ألف المحبون بقربتي فلا يصبرون عني، وألف العارفون بتمجيدي فلا يستأنسون بغيري، والإشارة في اللام إلى قصد أحبائي مدخر لقاءي فلا أبالي أقاموا على صفاتي أم قصروا في وفائي، والإشارة في الميم إلى ترك أوليائي مرادهم لمرادي فلذلك آثرتهم على جميع عبادي.
{ تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } [السجدة: 2] إذا تعذر لقاء الأحباب فأعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزل رب العالمين إلى أهل العالمين كتابا في الظاهر ليقرأ على أهل الظاهر فينذر به أهل الغفلة ويبشر أهل الخدمة، وكتابا في الباطن على أهل الباطن لتتنور بأنواره بواطنهم وتتزين بأسراره سرائرهم فينذر له أهل القربة لئلا يلتفتوا إلى غيره ولا يستأنسوا بغيره، فتسقطهم الغيرة عن القربة ويبشر به أهل المحبة بالوفاء بوعد الرؤية وباللقاء على بساط الوصلة وبالبقاء بعد الفناء في الوحدة فيتكلموا بالحق عن الحق للحق، فإذا سمع أهل الباطل كلامهم في الحقائق من ربهم وأنكر عليهم أهل الغفلة أنه من الله { أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك } [السجدة: 3] يا قلب من تكلم بالحق { لتنذر قوما } [السجدة: 3] من النفس وصفاتها { مآ أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون } [السجدة: 3] إلى الله { الله الذي خلق السموت } [السجدة: 4] سماوات الأرواح { والأرض } أرض الأشباح { وما بينهما } [السجدة: 4] من النفس والقلب والسر { في ستة أيام } [السجدة: 4] أي: خلقهم في ستة أجناس من الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك { ثم استوى على العرش } أي: عرش الخفاء وهو لطيفة ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة.
{ ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } [السجدة: 4] يبلغكم إلى عالم الربوبية { أفلا تتذكرون } [السجدة: 4] كيف خلقكم في أطوار مختلفة هو الذي { يدبر الأمر من السمآء } [السجدة: 5] أي بأمر كن خلق سماء الروح والقلب { إلى الأرض } [السجدة: 5] أرض النفس بتدبير الأمر { ثم يعرج إليه } النفس المخاطبة بخطاب
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] { في يوم } طلعت فيه شمس صدق الطلب وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق تعالى { كان مقداره } [السجدة: 5] في العروج بالجذبة { ألف سنة مما تعدون } من أيامكم في السير من غير جذبة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ".
[32.6-11]
{ ذلك عالم الغيب } [السجدة: 6] أي: عالم الروح وخاصية صفاته { والشهادة } [السجدة: 6] أي: عالم النفس والبدن { العزيز } [السجدة: 6] بأن لا يصل إليه أصحاب النفوس { الرحيم } [السجدة: 6] بأن يرحم على أرباب القلوب بجذبة العناية؛ ليوصلهم إلى مقام الوحدة { الذي أحسن كل شيء } [السجدة: 7] به يشير إلى أنه تعالى من نتائج إحسانه القديم لما أراد أن يخلق مرآة تجلي صفات جماله وجلاله خلق لحديد المرآة معدنا، وهو عالم الشهادة بجميع أجناسه وأنواعه، وأحسن خلقه بمعدنية ذلك الحديد، وأحسن خلق الحديد مستعدا للمرآتية وهو شخص آدم وصورته فقال: { وبدأ خلق الإنسان من طين } [السجدة: 7] فخمر طينة آدم بيده أربعين صباحا فأودع كل صباح خواص نوع من أجناس عالم الشهادة بالتخمير في طينته وصفاته.
{ ثم جعل نسله من سلالة } [السجدة: 8] سلها من أجناس عالم الشهادة { من مآء مهين } [السجدة: 8] { ثم سواه } [السجدة: 9] شخص إنسان هو حديد المرآة، { ونفخ فيه من روحه } [السجدة: 9] فصار مرآة كاملة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله، ثم تجلى فيها كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق آدم فتجلى ربه فيه "
{ وجعل لكم السمع } بتجلي صفة السمعية { والأبصار } بتجلي صفة البصر به { والأفئدة } التي هي مرآة العلوم بتجلي عالميته { قليلا ما تشكرون } [السجدة: 9] يشير به إلى أن قليلا منكم يعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة فيها، فإنه أحسن خلق كل شيء من هذه الأشياء لما خلق له ولمعرفة ذاته وصفاته.
كما قال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] أي: ليعرفون وقالوا خواص أنواع عالم الشهادة { أءذا ضللنا في الأرض } [السجدة: 10] أرض البشرية، ولم يبق لنا أثر ظاهر في عالم الشهادة { أءنا لفي خلق جديد } [السجدة: 10] ونعاد إلى كماليتنا بعد أن فنينا في قالب آدم عن طبائعنا قال الله تعالى: { بل هم بلقآء ربهم كافرون } [السجدة: 10] من نتائج تلك الضلالة التي أخبروا عنها بقوله: { أءذا ضللنا في الأرض } [السجدة: 10] { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [السجدة: 11] وهو المحبة الإلهية فإنها تقبض الأرواح عن الصفات الإنسانية وتميتها عن محبوباتها بقطع تعلق الروح الإنساني قوله تعالى: { ثم إلى ربكم ترجعون } [السجدة: 11] بجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28].
[32.12-15]
ثم أخبر عن وصف المجرمين المحرومين بقوله: { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم } [السجدة: 12] يشير إلى أهل الدنيا من المجرمين، وكان جرمهم أنهم نكسوا رءوسهم في أهل الدنيا وشهواتها بعد أن خلقوا رافعي رءوسهم عند ربهم يوم الميثاق عند سماع خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172] رفعوا رءوسهم
قالوا بلى
[الأعراف: 172] ابتلوا بالدنيا وشهواتها وزينتها من الشيطان نكسوا رءوسهم بالطبع فيها، فصاروا كالبهائم والأنعام في طلب شهوات الدنيا.
كما قال تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179] لأن للأنعام ضلالة طبيعية جبلية في طلب شهوات الدنيا، وما كانوا مأمورين بعبودية الله ومنهيين عن الشهوات لكي تحصل لهم ضلالة مخالفة الأمر والنهي، وللإنسان شركة مع الأنعام في الضلالة الطبيعية بميل النفس إلى الدنيا وشهواتها ولاختصاص بضلالة المخالفة فلهذا صار أضل من الأنعام كما عاشوا ناكسوا رءوسهم إلى شهوات الدنيا ماتوا فيها عاشوا فيه، ثم حشروا على ما ماتوا عليه ناكسوا رءوسهم عند ربهم، وقد ملكتهم الدهشة وغلبتهم الحجة فاعتذروا حين لا عذر واعترفوا ولا حين اعتراف.
{ ربنآ أبصرنا } [السجدة: 12] ما لم نكن نبصر، { وسمعنا } [السجدة: 12] ما لم نكن نسمع { فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون } [السجدة: 12] إنك قادر على توفيقنا للعمل الصالح، ولو شئنا في الأزل هدايتكم وهداية أهل الضلالة { لآتينا كل نفس هداها } [السجدة: 13] بإصابة رشاشة النور على الأرواح التي طفت في ظلمة ثم رش عليهم بنوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى { ولكن حق القول مني } قبل وجود آدم وإبليس، { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [السجدة: 13] ولكن تعلقت المشيئة بإغواء قوم كما تعلقت بإدناء قوم، وإدناء أن يكون للنار قطان كما أردنا أن يكون للجنة سكان إظهارا لصفات لطفنا وصفات قهرنا؛ لأن الجنة وأهلها مظهر لصفات لطفي والنار وأهلها مظهر لصفات قهري، وإني لفعال لما أريد.
وبقوله: { فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هذآ } [السجدة: 14] يشير إلى أنكم كنتم في نار البعد وعذاب الهجر في الدنيا بما نسيتم لقاءنا ولقاء يومكم هذا، ولكن كنتم في نوم الغفلة والنائم لا يذوق ألم ما عليه من العذاب ما دام كان نائما، ولكنه إذا انتبه نومه يذوق ألم ما به من العذاب والناس نيام ليس لهم ذوق ما فيهم من العذاب، فإذا ماتوا انتبهوا، فقيل لهم: { فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هذآ إنا نسيناكم } [السجدة: 14] من الرحمة كما نسيتمونا من الخدمة { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } [السجدة: 14] الغلو في العصيان والنسيان.
ثم أخبر عن أمان أهل الإيمان بقوله تعالى: { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا } [السجدة: 15] يشير إلى أن أهل الإيمان الحقيقي شعارهم الخضوع ودثارهم الخشوع بين يدي مولاهم، فإذا ذكروا بآيات الله ودعوا بها إلى الله { خروا سجدا } [السجدة: 15] في سرائرهم على تراب التذلل بنعت الذبول وحكم الخمود شاكرين الله بأنهم ذكروا بنعمة ذكروا بآيات الله، وسبحوا بحمد ربهم أي: نزهوا حضرة جلاله عن ألا يحمدوا غيره؛ لأنهم رأوه ولي نعم جميع الموجودات فالحمد لا يليق بأحد إلا به فالواجب على جميع الموجودات حمده على نعمه وثناؤه على كرمه وتحقيق قوله:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44] ولكنه تعالى أعز وأعلى قدرا من أن يخرج عن حقيقة حمده وثناء غيره، فلهذا
" قال تعالى ليلة المعراج للنبي صلى الله عليه وسلم: " اثن علي " قال صلى الله عليه وسلم: " لا أحصي ثناء عليك " ، ثم أثنى عليه فقال: " أنت كما أثنيت على نفسك "
يعني: قولك
الحمد لله رب العالمين
[الفاتحة: 2] هو ثناء على نفسك
وهم لا يستكبرون
[النحل: 49] في سجودك، كما استكبر إبليس أن يسجد لك إلى قبلة آدم، ولو سجد له بأمرك لكان سجوده في الحقيقة لك، وكان آدم قبلة للسجود كما أن الكعبة قبلة لنا في سجودنا لك.
[32.16-20]
ثم وصف الساجدين لأنهم بأي خصوصية سجدوا له { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [السجدة: 16] جنوب همهم عن مضاجع الدارين وتتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال فلا يسلكون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم ويفارقون مألوفهم، ويهجرون في الله معارفهم { يدعون ربهم } بربهم { خوفا } عن القطيعة والإبعاد { وطمعا } في القربات والمواصلات { ومما رزقناهم ينفقون } [السجدة: 16] من نعمة الوجود ينفقون ببذل المجهود في طلب المفقود ليرد إليهم بالجود ما أخفى لهم من النقود.
كما قال تعالى: { فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17] وفي الحقيقة أن ما أخفى لهم إنما هو جمالهم فقد أخفى عنهم لعينهم، فإن العين حق فاعلم أنه ما دام أن تكون عينكم الفانية باقية يكون جمالكم الباقي مخفيا عنكم لئلا تصيبه عينكم فلو طلع صبح سعادة التلاقي، ويذهب بظلمة الشين من البين، وتبدلت العين بالعين فذهب الجفاء وظهر الخفاء ودام اللقاء، كما أقول:
قد جاء هواكم وذهب بالبين
لم يبق سوى وصالكم في البين
ما جاء بغير عينكم في عيني
والآن تحت عينكم لي عيني
وبقوله: { جزآء بما كانوا يعملون } [السجدة: 17] يشير إلى عدم علم كل نفس بما أخفى لهم وحصول جهلهم به إنما كان جزاء بما كانوا يعملون بالإعراض عن الحق؛ لإقبالهم على طلب غير الله وعبادة ما سواه { أفمن كان مؤمنا } [السجدة: 18] بطلب الحق { كمن كان فاسقا } بطلب ما سوى الحق { لا يستوون } الطالبون لله والبطالون عن الله.
{ أما الذين آمنوا } [السجدة: 19] بطلب الحق تعالى { وعملوا الصالحات } بالإقبال على الله والإعراض عما سواه { فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون } يعني: أن جنات هي مأوى الأبرار ومنزلهم تكون لهم نزلا للمقربين السائرين إلى الله وأما مأواهم ومنزلهم ففي
مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
{ وأما الذين فسقوا } [السجدة: 20] خرجوا عن سبيل الرشاد ووقعوا في بين البعد والإبعاد { فمأواهم النار كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها } [السجدة: 20] لأنهم في هذه الصفة عاشوا وفيها ماتوا فعليها حشروا وذلك أن دعاة الحق كانوا في الدنيا ينصحون لهم أن يخرجوا من أسفل الطبيعة بحبل الشريعة ورعاية أدب الطريقة حملهم الشوق الروحاني على التوجه إلى الوطن الأصلي العلوي، فلما عزموا على الخروج من الدركات الشهوية أدركتهم الطبيعة النفسانية الحيوانية السفلية وأمادتهم إلى أسفل الطبيعة { وقيل لهم } [السجدة: 20] يوم القيامة { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [السجدة: 20] لأنكم وإن كنتم معذبين في الدنيا، ولكن ما كان لكم الشعور بالعذاب لخلل حواسكم الأخروية ولو كنتم تدرون ذوق العذاب لانتهيتم من الأعمال الموجبة لعذاب النار، كما أنكم لما ذقتم ألم عذاب النار في الدنيا احترزتم عنها غاية الاحتراز.
[32.21-25]
ثم أخبر عن عذاب الدنيا أنه الأدنى بقوله تعالى: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } [السجدة: 21] يشير إلى أرباب الطلب وأصحاب السلوك إذا وقعت لأحدهم في إنشاء السلوك وقفة لعجب بداخله ولملالة وسآمة للنفس، أو لحسبان وغرور في قبول أو رفعت له فترة بالتفاته إلى شيء من الدنيا وزينتها وشهواتها فابتلاه الله ابتلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبائه لعلم بإذاقة عذاب البلاء والمحن انتبهوا من نوم الغفلة وتداركوا أيام العطلة قبل أن يذيقهم العذاب الأكبر بالخذلان والهجران وقسوة القلب، كما قال تعالى:
ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
[الأنعام: 110] إلى صدق طلبهم وشرح إرادتهم وعلو محبتهم
ومن أظلم ممن ذكر بآيت ربه فأعرض عنها
[الكهف: 57] إذا نبذ العبد بأنواع الزجر وحرك في الترك حدود الوفاق مصون من التأديب ثم لم يردع عن فعله واغتر بطول سلامته وأمن هواجم مكره وخفايا سره أخذه بغتة بحيث لا يجد خرجة من أخذته، كما قال تعالى: { إنا من المجرمين } [السجدة: 22] المصرين على جرمهم { منتقمون } [السجدة: 22] بخسارة الدارين.
وبقوله: { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقآئه } [السجدة: 23] يشير إلى أن موسى عليه السلام لما أوتي الكتاب اليوم وهو حق سمعه، فلا شك يا محمد أنه يحظى غدا حظ بصره بالرؤية، ولكن بشفاعتك وبركة متابعتك واختصاصه في دعائه بقوله: اللهم اجعلني من أمة أحمد، فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعيتك لأمتك، وفيه إشارة أخرى، وهي أن لموسى القلب ينفتح في البداية إذنه لاستماع الكلام، فلما تأثر فيه شراب السماع وغلب عليه السكر هاج له شوق اللقاء فاستغاث إلى ربه:
أنظر إليك
[الأعراف: 143] ثم ينفتح بصره فنودي مبشرا له فلا تكن في مرية من لقاءه { وجعلناه هدى } [السجدة: 23] الهاء كناية عن موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب { وجعلنا منهم أئمة } [السجدة: 24] وهم السر والخفاء { يهدون } [السجدة: 24] بأمرنا إلينا لما صبروا على مجادلي أحكامنا الأزلية وصبروا على مقاساة شدائد التزكية والتصفية إلى أوان استحقاق التجلية يتجلي صفات الربوبية { وكانوا بآياتنا يوقنون } [السجدة: 24] أي: بشواهد آثار التجلي منا { يوقنون } [السجدة: 24] أنه بلا ريب.
ثم أخبر عن أصل الفصل بقوله تعالى: { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة } [السجدة: 25] يشير إلى أنه تبارك وتعالى يحكم بين عباده لوجوه:
أولها: لعزتهم لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين بل هو بفضله وكرمه يكون حاكما عليهم.
وثانيها: غيرة عليهم لئلا يطلع على أحوالهم أحد غيره.
وثالثها: رحمة وكرما فإنه ستار لا يفشي عيوبهم ويستر عن الأغيار ذنوبهم.
ورابعها: لأنه كريم ومن سنة الكرام أنهم
وإذا مروا باللغو مروا كراما
[الفرقان: 72].
وخامسها: فضلا وعدلا فإنه الخالق الحكيم الذي خلقهم وما يعلمون على مقتضى حكمته ووفق مشيئته، فإن رأى منهم حسنا فلذلك من نتائج إحسانه وفضله، وأن منهم قبيحا فذلك من موجبات حكمته وعدله وأنه
لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40].
وسادسها: عناية وشفقة فإنه تعالى خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، فلا يجوز عن كرمه أن يخسروا عليه.
وسابعها: رحمة ومحبة فإنه تعالى بالمحبة خلقهم لقوله:
" فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف "
وللمحبة خلقهم لقوله:
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا وعين الرضا عن كل عيب كليلة.
وثامنها: لطفا وتكريما فإنه نادى عليهم بقوله:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70] فلا يهين من كرمه.
وتاسعها: عفوا وجودا فإنه تعالى عفو يحب العفو، فإن رأى جريمة في جريدة العبد يجب عفوها، وأنه جواد يحب أن يجود عليهم بالمغفرة والرضوان.
وعاشرها: أنه تعالى جعلهم خزائن أسراره فهو أعلم بحالهم وأعرف بقدرهم، فإنه خمر طينتهم بيده أربعين صباحا وجعلهم مرآة يظهر لها جميع صفاته عليهم لا على غيرهم، ولو كانت الملائكة المقربون ألا ترى أنه تعالى لما قال لهم:
إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] فما عرفوهم حق معرفتهم حتى قال تعالى فيهم عزة وكرامة لهم:
إني أعلم ما لا تعلمون
[البقرة: 30] أي: من فضائلهم وشمائلهم، فإنهم خزائن أسراري ومرآة جمالي وجلالي، فأنتم تنظرون إليهم بنظر الغيرة وأنا أنظر إليهم الرحمة والمحبة، فلا ترون منهم إلا كل قبيح ولا أرى منهم إلا كل جميل، فلا أرضى أن أجعلكم حاكما بينهم بل بفضلي وكرمي أنا أفضل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فأحسن مع محسنهم وأتجاوز عن سيئهم، فلا يكبر على اختلافهم لعلمي بحالهم أنهم لا يزالون مختلفين
إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53] ولذلك خلقهم.
[32.26-30]
وبقوله: { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون } [السجدة: 26] يشير إلى عذر الهالكين بأنه ما هلك أحد بنفسه إلا بإهلاكنا إياهم { يمشون في مساكنهم } [السجدة: 26] التي أسكناهم فيها على أقدام الهلاك فمن المهلكين من يهده الله إلى أن الله الذي هو أهلك فهو المهتدي، ومن أمارة علم من يعلم أن الله أهلكه أن يعلم ويهتدي إلى أن الله هو يحييه فيرجع إلى الله بالتوبة والاستغفار ليحييه كما أهلكه { إن في ذلك } [السجدة: 26] الإهلاك { لآيات } [السجدة: 26] بأن الله هو المهلك والمحيي { أفلا يسمعون } [السجدة: 26] هذا المعنى من لسان الإهلاك؛ ليرجعوا إليه في طلب الإحياء والنجاة.
{ أولم يروا أنا نسوق المآء } [السجدة: 27] ماء الهداية { إلى الأرض الجرز } [السجدة: 27] الجرز: القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها فيعود عودها مورقا بعد ذبوله حاكيا لحاله حال حصوله { فنخرج به زرعا } [السجدة: 27] من الواردات التي تصلح لتربية النفوس، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب { تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون } [السجدة: 27].
{ ويقولون } [السجدة: 28] بالإنكار والاستهزاء { متى هذا الفتح } [السجدة: 28] والفتوح التي تدعونها { إن كنتم صادقين } [السجدة: 28] في دعواها، وهذا منكري هذه الطائفة يستدعون منهم إظهارا الكرامات وعرض الفتوحات { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا } [السجدة: 29] وأنكروا وجحدوا إيمانهم بما فتح الله على قلوب أوليائه إذ لم يعتدوا بهم ولم يهتدوا بهداهم، فما لهم إلا الخسران والزفرات { ولا هم ينظرون } [السجدة: 29] بنظر العناية { فأعرض عنهم } [السجدة: 30] يا طالب الصادق بالإقبال علينا وانظر لفتوحات ألطافنا { إنهم منتظرون } [السجدة: 30] هول مقتنا وخفايا مكرنا.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-5]
قوله: { يأيها النبي اتق الله } كلام قديم وخطاب أزلي، وهو صلى الله عليه وسلم الأبد في كتم العدم بلا هو، وكان الأمر أمر التكوين فأسمعه الله تعالى في العدم كما أسمع السماوات والأرض، وهما في العدم
ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين
[فصلت: 11] ولما كان الأمر إليهما أمر التكوين فأجاباه بلسان الكينونة، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما خوطب بأمر التكوين أفق الله أجاب الله بلسان الكينونية: اتقيت الله، فكان في الأزل إلى الأبد كما كان متقيا، ولما قال تعالى: { ولا تطع الكافرين والمنافقين } [الأحزاب: 1] لم يكن مطيعا لهم من الأزل إلى الأبد كما كان نبيا من الأزل إلى الأبد لقوله:
" كنت نبيا وآدم بين الماء والطين "
{ إن الله كان عليما } [الأحزاب: 1] بحالك { حكيما } [الأحزاب: 1] فيما قدر لك { واتبع ما يوحى إليك من ربك } [الأحزاب: 2] وهذا أيضا من التكوين يعني اتبع إلى الأبد ما يوحى بالخطاب الأزلي من ربك { إن الله كان بما تعملون خبيرا * وتوكل على الله } [الأحزاب: 2-3] توكلا أزليا أبديا { وكفى بالله وكيلا } [الأحزاب: 3] لك فيما أنعم عليك بنعمة النبوة وهذه النعمة التي لا يمكنك تحصيلها بالأصالة، فهو حصلها لك بالوكالة وبقوله: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } [الأحزاب: 4] يشير إلى أن القلب صدق درة المحبة، والمحبة أمانتي التي عرضتها
على السموت والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72] وأمرتكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، فأهلها أمانة المحبة حضرة جلالي فلا تخوني في أمانتي أي: فلا تحبوا غيري، ولا تكونوا ممن يتخذون الله أندادا يحبونهم كحب الله أي يصرفون محبة الله في الأنداد وكونوا كالذين آمنوا وهم
أشد حبا لله
[البقرة: 165] يعني أهل الإيمان ما خانوا في أمانة المحبة وردوها إلى أهلها.
فمعنى الآية أن القلب واحد والمحبة واحدة فلا تصلح إلا لمحبوب واحد من غير شريك فإنه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل محبة بالشركة وبقوله: { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } [الأحزاب: 4] يشير إلى أن في القرابة النسبية خواص لا توجد في القرابة السببية وهي مما أودع الله فيها بالحكمة البالغة وعليها أحكام مبنية من الشريعة والطريقة والحقيقة
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23] فلا سبيل لأحد أن يضع في الأزواج بالظهار ما وضع الله في الأمهات، ولا أن تضع الإجابة بالمني ما وضع الله في الأبناء، فإن الولد سر أبيه كما قال تعالى: { وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم } [الأحزاب: 4] فما لم يجعل الله ليس مقدور أحد أن يجعله { ذلكم قولكم بأفواهكم } [الأحزاب: 4] لا حقيقة له { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [الأحزاب: 4] أي: اسم كل شيء مناسب لمعناه كما هدى آدم بتعليم الأسماء كلها وخصه بهذا العلم دون الملائكة المقربين { ادعوهم لآبآئهم هو أقسط عند الله } [الأحزاب: 5] فيما اختصهم به بقوله: { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } [الأحزاب: 5] يشير إلى أن آباءهم الحقيقة الذين ولدوهم من أرحام قلوبهم في عالم الملكوت وهي النشأة الثانية من الأنبياء { وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به } [الأحزاب: 5] في معرفة الإنسان، فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه النسبة الباقية كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل حسب ونسب تتقطع إلا حسبي ونسبي "
فحسبه الفقر، ونسبه النبوة { ولكن ما تعمدت قلوبكم } [الأحزاب: 5] بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته، وأنتم تعلمون أن يكون مخالفته قطع رحم الأبوة { وكان الله غفورا رحيما } [الأحزاب: 5] فيما صدر عنكم بغير قصدكم في قطع الرحم الحقيقي.
[33.6-11]
ثم أخبر عن صلة رحم الأبوة بالنبوة بقوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [الأحزاب: 6] أي أحق بهم في توليتهم من صلب النبوة من أنفسهم؛ لأنهم لا يقدرون على توليد أنفسهم في النشأة الثانية، كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه، فالنبي بمنزلة أبيهم { وأزواجه أمهاتهم } [الأحزاب: 6] يشير إلى أن أمهاتهم قلوبهم، وهن أزواجه ليتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم؛ لتأخذوا من صلب النبي نطفة الولاية في أرحام القلوب، وإذا حملوا النطفة صانوها من الآفات؛ لئلا تسقطوا بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فإنها تسقط الجنين فيرتدوا على أعقابهم كما لم يؤمنوا به أول مرة.
ثم قال { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [الأحزاب: 6] يعني بعد أولوية النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين أولوا الأرحام في الدين بعضهم أولى ببعض للتربية بعد النبي صلى الله عليه وسلم أكابرهم من المؤمنين الكاملين أولى بأصاغرهم من الطالبين { في كتاب الله } أي: في سنة الله وتقديره للتوليد في النشأة الثانية عن النبي صلى الله عليه وسلم { من المؤمنين } بالنشأة الأخرى { والمهاجرين } عما سوى الله { إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم } [الأحزاب: 6] يشير إلى النفس إذا تزكت عن الأخلاق الذميمة وتبدلت عداوتها، فصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيواسها ويعمل { معروفا } برفق من الأفارق { كان ذلك } المعروف في حق النفس مقدارا { في الكتاب } عند الله { مسطورا } في أم الكتاب.
{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [الأحزاب: 7] في الأزل وهم في كتم العدم مختفون { ومنك } يا محمد أولا بالحبيبية { ومن نوح } بالدعوة، { و } من { إبراهيم } بالخلة، { و } من { موسى } بالمكالمة، { و } من { عيسى ابن مريم } بالعبدية { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } [الأحزاب: 7] بالوفاء وبغلظة الميثاق يشير إلى أن غلظنا ميثاقهم بالتأييد والتوفيق للوفاء به.
{ ليسأل الصادقين } [الأحزاب: 8] في العهد والوفاء { عن صدقهم } [الأحزاب: 8] لما صدقوا إظهارا لصدقهم كما أثنى عليهم
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
[الأحزاب: 23] وكان سؤال تشريف لا سؤال تعنيف، وسؤال إيجاب لا سؤال عتاب، والصدق أن لا يكون في أحوالكم شوب، ولا في أعمالكم عيب، ولا في اعتقادكم ريب ومن أمارات الصدق في المعاملة وجود الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق، وفي الأحوال تصفيتها من غير مداخلة إعجاب، وفي القول سلامته من المعارض، وفيما بينك وبين الناس التباعد من التلبيس والتدليس، وفيما بينك وبين الله بإدامة التبرؤ عن الحول والقوة بل الخروج عن الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي { وأعد للكافرين } [الأحزاب: 8] المنكرين على هذه المقامات، المعرضين عن هذه الكرامات { عذابا أليما } [الأحزاب: 8] من الحسرات والغرامات.
ثم أخبر عن كرمه مع العباد بإعطاء نعمه بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } [الأحزاب: 9] يشير إلى أنواع نعمه الظاهرة والباطنة.
أولها: نعمة الإيجاد من كتم العدم.
وثانيها: إذ أخرجكم من العدم جعلكم أرواحا مطهرة إنسانية
في أحسن تقويم
[التين: 4] لا حيوانا أو نباتا أو جمادا .
وثالثها: يوم الميثاق شرفكم بخطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172] ثم وفقكم لاستماع خطابه ثم دلكم إلى إصابة جوابه.
ورابعها: أنعم عليكم بالنفخة الخامسة عند بعثك إلى القالب الإنساني؛ لئلا ينزلوا المنزل من المنازل السماوية والكوكبية والجنية والشيطانية والنارية والهوائية والمائية والأرضية والنباتية والحيوانية وغيرها من المنازل إلى أن أنزلكم في المقام الإنسانية.
وخامسها: عجن طينة قالبكم بيده أربعين صباحا ثم صوركم في الأرحام وسواكم ثم نفخ فيه من روحه.
وسادسها: شرف روحكم بتشريف إضافته إلى نفسه بقوله:
من روحي
[ص: 72] وما أعطى هذا التشريف لروح من أرواح الملائكة المقربين.
وسابعها:
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا
[النحل: 78] ثم بالإلهامات الربانية علمكم ما يحتاجون إليه من أسباب المعاش.
وثامنها: ألهمكم فجوركم وتقواكم؛ لتهتدوا إلى سبيل الرشاد للرجوع إلى المعاد.
وتاسعها: أرسل إليكم الأنبياء والرسل ليخرجوكم من الظلمات الخلقية إلى نور الخالقية.
وعاشرها: أنعم عليكم بالإيمان ثم بالإيقان ثم بالإحسان ثم بالعرفان ثم بالعيان ثم بالعين ثم أتاكم من كل ما سألتموه
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34] وذكر نعمة استعمالها في عبودية إذا شكر نعمة، وشكر النعمة رؤية النعمة أن يرى نعمة توفيقه لأداء شكره إلى أن نعجز عن أداء شكره، فإن نعمه غير متناهية وشكرك متناه، فرؤية العجز عن أداء الشكر حقيقة الشكر، ومن الشكر بذكر ما سلف من الذي دفع عنده وأنت بصدده من أنواع البلاء والمحن والمصائب والمكائد.
فمن جملة ذلك قوله: { إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } [الأحزاب: 9] به يشير إلى جنود الشياطين وجنود وصفات النفس وجنود الدنيا وزينتها { فأرسلنا عليهم ريحا } [الأحزاب: 9] من نكبات قهرها { وجنودا لم تروها } [الأحزاب: 9] من حفظنا وعصمتها { وكان الله بما تعملون } [الأحزاب: 9] من الميل إلى الدنيا وشهواتها بصيرا بدفعها وعلاجها كم من بلاء صرفه عن العبد وهو لم يشعر، وكم من شغل كان بصدده فصده عنه وهو لم يعلم، وكم أمر عوقه والعبد يصبح وهو يعلم أن في تيسيره هلاكه فيمنعه منه رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صدره وبقوله: { إذ جآءوكم من فوقكم } [الأحزاب: 10] يشير إلى الآفات السماوية أو { ومن أسفل منكم } [الأحزاب: 10] من متولدات البشرية إذا أحاط بكم سرادق البلاء وأحدق بكم أحكام القضاء { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } [الأحزاب: 10] من تراكم البلاء وترادف النكبات، وقد ضاق نطاق طاقة البشرية من ضعف الإنسانية لولا أن تداركتكم العناية لأهلكتكم تعاقب النكابة { وتظنون بالله الظنونا } [الأحزاب: 10] وداخلكم كوامن الارتياب وبدا في سويدائكم جولان الشكوك؛ هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ثم أنال عنهم جملتها وهون عليهم شدتها حتى تفرقت عن قلوبهم همومها فجرت ينابيع السكينة عنها.
[33.12-16]
ومن قوله: { وإذ يقول المنافقون } [الأحزاب: 12] إلى قوله: { ثم سئلوا الفتنة لآتوها } [الأحزاب: 14]، وتمام الآية: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طآئفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا } [الأحزاب: 12-14] يشير إلى مرض القلوب وصحة النفوس وجأشهما إذا وكلتا إلى حالتيهما من فساد الاعتقاد وسوء الظن بالله ورسوله ونقض العهود والاغترار بتسويلات الشياطين والفرار من معادن الصدق والتمسك بالحيل والمكائد والكذب والتعلل بالأعذار الواهية، فغلبات الخوف البشرية والجبانة وقلة اليقين والصبر وكثرة الريب والجزع، وعند احتمال خطر الأذية لو سئلوا الارتداد عن الإسلام والإشراك بعد الإقرار بالتوحيد أجابوهم وجاءوا به { وما تلبثوا بهآ } [الأحزاب: 14] يعني في الاحتراز عن الوقوع في الفتنة { إلا يسيرا } [الأحزاب: 14] بل أسرعوا في إجابتها لاستيلاء أوصاف النفوس وغلباتها وبصدأ القلوب وهجوم غفلاتها.
ثم أخبر عن نقض العهود لوهن العقول بقوله تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } [الأحزاب: 15] يشير إلى مدعي الطلب، فإنهم يعاهدون الله من قبل الشروع في الطلب أنهم { لا يولون الأدبار } [الأحزاب: 15] عن المحاربة مع الشيطان وعند الجهاد مع النفس، فلما شرعوا في الحرب والجهاد مع أحزاب النفس والشيطان، وقد حمل كل حزب منهم أسلحتهم وأخذوا خدعات الحرب ومكائده، وهم الشجعان والأقوياء والأبطال المجربون وعساكر طلاب القلوب المرضى، وهم بعد إغمار غير مجربي الحروب والقتال وإن كان لهم الأسلحة ولكنهم بمعزل عن استعمالهم لضعفهم وعدم العلم بكيفية الاستعمال، فإذا قام الحرب ودام الضرب، غلب الأقوياء على الضعفاء وانهزم المرضى عن الأصحاء، فلم يشد أزرهم الصدق ولم يعاونهم العشق ولم يذكروا حقيقة قوله: { وكان عهد الله مسئولا } [الأحزاب: 15]، ولا يتفكروا في قوله: { قل لن ينفعكم الفرار } [الأحزاب: 16] أيها الطالبون: إن فررتم وإن تفروا إلى الله لينفعكم، فإن الفرار من الموت أو القتل أو موت النفس وقتلها بالمجاهدة لا ينفع عند نزول الآجال، وإن لم تأتهم الآجال فهي من غاية الشقاوة، وإذا لا تمتعون كالبهائم والأنعام في رياض الدنيا إلا قليلا ولا نهاية لتلك الشقاوة.
[33.17-20]
ثم قال { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا } [الأحزاب: 17] ومن الذي تحقق لكم من دونه مرجوا أو يمنعه منكم إن أراد بكم رحمة { ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } [الأحزاب: 17] لو عرفوه حق المعرفة { قد يعلم الله المعوقين منكم } [الأحزاب: 18] عن قتال النفس وجهادها وهم الهوى والشيطان والدنيا وشهواتها، { و } هم { القآئلين لإخوانهم } وهم الحواس الظاهرة والباطنة والجوارح والأعضاء { هلم إلينا } أي كونوا أتباعا لنا لتنتفعوا { ولا يأتون البأس إلا قليلا } [الأحزاب: 18] القتال والجهاد مع النفس وأعوانها الملازمة أحكام الشريعة على وفق الطريقة { إلا قليلا } من الأركان الظاهرة دفعا للطعان والجدود.
ثم وصف المعوقين عن الطلب والمانعين عن الجهاد، فقال: { أشحة عليكم } [الأحزاب: 19] بخلاء فيما يصل إليكم يا أرباب الطلب من ثمرات المجاهدات، فإن المجاهدات تورث المشاهدات { فإذا جآء الخوف } من عذاب الآخرة عند تذكرها { رأيتهم } أي: رأيت النفس وصفاتها { ينظرون إليك تدور أعينهم } [الأحزاب: 19] بالحسرة والندامة، وقد طاشت من الرعب قلوبهم وطاحت بصائرهم { كالذي يغشى عليه من الموت فإذا } [الأحزاب: 19] جاءت الغفلة و { ذهب الخوف } أيها الطلاب { سلقوكم } [الأحزاب: 19] إخوان السوء وإخوان الشياطين { بألسنة حداد } بأنواع التعريفات وأصناف الفترات { أشحة على الخير } بأن يصيبكم من فضل الله وكرمه { أولئك لم يؤمنوا } [الأحزاب: 19] يشير به إلى مدعي الطلب إذا ارتد عن الطلب، فإن المشايخ قد قالوا: إن مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة؛ ولهذا قال تعالى: { فأحبط الله أعمالهم } [الأحزاب: 19] لأنها لم تكن في إيمان حقيقي بل كان بالتقليد والرياء والسمعة، وكان ذلك الرد والإبطال على الله يسيرا.
[33.21-25]
ثم أخبر عن حسن الأسوة وسر القدوة وبقوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [الأحزاب: 21] يشير إلى ما سبقت به العناية لهذه الأمة في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر بلفظ { كان } أي: كان لكم مقدر في الأزل أن يكون لكم عند الخروج من العدم إلى الوجود { في رسول الله أسوة } أي: فقد أحسنته، وذلك بأن أول شيء تعلقت به القدرة للإيجاد كان روح رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله:
" أول ما خلق الله روحي "
والأسوة الحسنة عبارة عن تعلق القدرة بأرواح هذه الأمة لإخراجهم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدم إلى الوجود، فمن أكرم بهذه الكرامة يكون لها أثر في عالم الأرواح قبل تعلقه بعالم الأشباح، فأما أثره في عالم الأرواح فتقدمه على الأرواح بالخروج إلى عالم الأرواح وترجيعه في الصف الأول بقرب روح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في الصف الذي يليه، وبتقدمه في قبول الفيض الإلهي وبتقدمه عند استخراج ذرات الذريات من صلب آدم في استخراج ذريته بإحضارها في الحضرة وبتقدمه في استماع خطاب
ألست بربكم
[الأعراف: 172] وبتقدمه في إجابة الرب تعالى بقوله:
قالوا بلى
[الأعراف: 172] وبتقدمه في المعاهدة مع الله وبتأخره في الرجوع إلى صلب آدم وبتأخره في الخروج عن أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، وفي الخروج عن الرحم ويتأخر تعلق روحه بجسمه، فإن لله الذي هو المقدم والمؤخر في هذه التقدمات والتأخرات حكم بالغة، ولها تأثيرات عجيبة يطول شرحها، وأما أثره في عالم الأشباح فاعلم أنه بحسب هذه المراتب في ظهور أثر الأسوة يظهر أثرها في عالم الأشباح عند تعلق نظر الروح بالنطفة في الرحم أولا إلى أن تربى النطفة بنظره في الأطوار المختلفة، وتصير قالبا مستوي الروح مستعدا للقبول تعلق الروح به فمثل القالب المستوي مع الروح كمثل الشمعة مع نقش الخاتم إذا وضع عليها تقبل جميع نقوش الخاتم.
فالروح المكرم إذا تعلق بالقالب المستوي يودع فيه جميع خواصه التي استفاد من تلك التقدمات والتأخرات الأسوية، فكل ما يجري على الإنسان من بداية ولادته إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأحوال كلها من آثار خواص أودعها الله في الروح فبحسب قرب كل روح الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده عنه له أعمال ونيات تناسب حاله في الأسوة، فأما حال أهل القرب منهم بأن يكون علمهم على وفق السنة خالصا لوجه الله.
كما قال تعالى: { لمن كان يرجوا الله } [الأحزاب: 21] وأما من هو دونهم في القرب والإخلاص فبأن يكون لليوم الآخر أي للفوز بنعم الجنان كما قال تعالى: { واليوم الآخر } [الأحزاب: 21] ثم جعل نيل هذه المقامات مشروطا بقول: { وذكر الله كثيرا } [الأحزاب: 21] لأن في الذكر وهو كلمة " لا إله إلا الله " نفيا أو إثباتا وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله بهما يخرجان من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي عند رؤية الأحزاب.
وبقوله: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } [الأحزاب: 22] يشير إلى أهل نور الوجود المجتمعين على إضلالهم وإهلاكهم من النفس وصفاتها والدنيا وزينتها والشيطان وأتباعه { قالوا } متوكلين على الله مفوضين أمورهم إلى الله { هذا ما وعدنا الله ورسوله } [الأحزاب: 22] فإن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل وصدق الله ورسوله { وما زادهم إلا إيمانا } [الأحزاب: 22] بصدق وعد الله { وتسليما } [الأحزاب: 22] لأحكامه الأزلية.
وبقوله تعالى: { من المؤمنين رجال } [الأحزاب: 23] يشير إلى أن فهم من هو بمنزلة الرجال بأن يكون هو متصرفا في الموجودات وألا تصرف لشيء من الموجودات رأت فيه، كما قال بعضهم: " أنا سيد لا يدخلني شيء " ، وأمارة رجوليتهم أنهم { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ألا يعبدوا غيره من الدنيا والعقبى والدرجات العليا إلى أن يصلوا إلى الحضرة العلي الأعلى { فمنهم من قضى نحبه } [الأحزاب: 23] أي: بلغ مقصده وهذا حال المنتهين { ومنهم من ينتظر } [الأحزاب: 23] البلوغ والوصال وهو في السير وهذا حال المتوسطين { وما بدلوا تبديلا } [الأحزاب: 23] بالإعراض عن الطلب والإقبال على غير الله.
{ ليجزي الله الصادقين بصدقهم } [الأحزاب: 24] في الطلب وبقدم الصدق ينزلون عند ربهم { ويعذب المنافقين إن شآء } [الأحزاب: 24] وهم مدعو الطلب بغير قدم صدق بل بقدم كذب ورياء { أو يتوب عليهم } [الأحزاب: 24] أن يكونوا في زي أهل الحرفة ولباس التقوى وفي سيرة أهل الرياء والنفاق، كما قال بعضهم:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
إن الله كان من الأزل إلى الأبد غفورا لمن يشاء رحيما لمن يشاء.
وبقوله: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم } [الأحزاب: 25] يشير إلى كفار النفس والشيطان والدنيا وردهم عن القلوب المنورة بنور الإيمان ومنهم غيظهم { لم ينالوا خيرا } [الأحزاب: 25] أي مرادا { وكفى الله المؤمنين القتال } [الأحزاب: 25] بريح القهر إذ هبت على النفوس فأبطلت شهواتها وعلى الشيطان فردت كيده على الدنيا فأزالت زينتها { وكان الله قويا } [الأحزاب: 25] في إبطال الباطل وتحقيق الحق { عزيزا } [الأحزاب: 25] لا مانع له عما يشاء.
[33.26-30]
{ وأنزل الذين ظاهروهم } [الأحزاب: 26] أي: أعانوا للنفس والشيطان والدنيا على القلوب { من أهل الكتاب } [الأحزاب: 26] وهم العلماء المداهنون بفنون الرخص لا عزائم الطلب ويغرونهم التجريد والمجاهدة وترك الدنيا والعزلة والانقطاع، ويقولون: هذه رهبانية وليست ومن ديننا ويتمسكون بآيات وأخبار لها ظاهر وباطن، فيأخذون بظاهرها ويبطلون ويضيعون باطنها، ولا يعلمون أن القرآن يفسر بعضه بعضا فيؤمنون ببعض هو على وفق طباعهم ويكفرون ببعض هو على خلاف طباعهم، أولئك أعوان النفوس والشياطين.
{ من صياصيهم } وإنزالهم بأن الله تعالى ينور قلوب أرباب الطلب بنور الإيقان والعرفان؛ ليتحقق عندهم جهل هؤلاء العلماء السوء وينزل وقعهم ووقارهم في نظر أهل التحقيق { من صياصيهم } أي: من حصون تكبرهم وتجبرهم وغرورهم وحسبانهم عند أهل النظر، وأيضا أنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب؛ لئلا يفتنون بهم ويغتروا عن صدق طلبهم { وقذف } [الأحزاب: 26] بنور قلبهم { في قلوبهم } [الأحزاب: 26] النفوس والشياطين { الرعب } [الأحزاب: 26] ليتفرقوا عن تسويلات أرباب الطلب { فريقا تقتلون } [الأحزاب: 26] وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه { وتأسرون فريقا } [الأحزاب: 26] وهم الدنيا وجاهها ومالها.
{ وأورثكم } [الأحزاب: 27] يا أرباب الحق { أرضهم وديارهم وأموالهم } [الأحزاب: 27] لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة وبقوله: { وأرضا لم تطئوها } [الأحزاب: 27] يشير إلى مقامات وكمالات لم يبلغوها باستعمال الدنيا، وما فيها أمر استعمالها فيه وكان الله على توفيق استعمال كل شيء من الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها في طلب الحق قديرا.
ثم أخبر عن طالب الدنيا أنه تارك العقبى والمولى بقوله تعالى: { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } [الأحزاب: 28] موجب للمفارقة عن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه مع أنهن محال النطفة الإنسانية في عالم الصورة ليعلم أن حب الدنيا وزينتها آكد في إيجاب المفارقة عن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأن أرحام قلوبهم محل النطفة الروحانية الربانية، فينبغي أن يكون أطيب وأزكى لاستحقاق تلك النطفة الشريفة، فإن الطيبات للطيبين وبقوله: { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } [الأحزاب: 29] يشير إلى أن محبة الله ورسوله والدار الآخرة موجبة الاتصال إلى النبي صلى الله عليه وسلم والوصلة إلى الله عز وجل إن كانت خالصة من دون الله، فإن كانت مشوبة بنعيم الجنة فله نعيم الجنة بقدر شوب محبة الله محبة النعيم، وله من الأجر العظيم بحسب محبة الله، فإن قال قائل: فلما تحقق أن محبة الله إذا كانت مشوبة بمحبة غير الله يوجب النقص من الأجر العظيم فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم توجب النقص من الأجر العظيم، قلنا: لا يوجب النقص من الأجر العظيم بل تزيد فيه لأن من أحب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أحب الله كما أن من يطع الرسول فقد أطاع الله والفرق بين محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة الجنة أن محبته بالحق دون الحظ ومحبة الجنة بالحظ دون الحق، فإن الجنة حظ النفس كما قال تعالى:
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم
[فصلت: 31] ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومتابعته مؤدية إلى محبة الله للعبد لقوله:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران: 31].
وبقوله: { ينسآء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [الأحزاب: 30] يشير إلى أن الثواب والعقاب بقدر نفاسة النفس وخستها تزيد وتنقص، وأن زيادة العقوبة على الجرم من أمارات الفضيلة كحد الحر والعبد، وتقليل ذلك من أمارات النقص وذلك لأن أهل السعادة صنفين: صنف منهم السعيد والآخر الأسعد، فالسعيد: من أهل الجنة، والأسعد: من أهل الله، فإذا صدر من السعيد طاعة فأعطي أجرا واحدا من الجنة، وإن صدر معصية فأعطي بها عذابا واحدا من الجحيم، وإذا صدر من أهل الأسعد طاعة فأعطي أجره مرتين وذلك بأن له درجة في الجنة ومرتين في القربة، وإن صدر منه معصية يضاعف له العذاب ضعفين نقص في درجته من الجنة ونقص في مرتبته من القربة أو عذاب من ألم مس النار، وعذاب من ألم مس بعد ذلك الحجاب ومن هنا كان دعاء السري السقطي - قدس سره -: اللهم إن كنت معذبي بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب { وكان ذلك على الله يسيرا } [الأحزاب: 30] أن يضاعف لهم العذاب ضعفين بخلاف الخلق لأن تضعيفه العذاب في جهنم ليس بيسير، فإنهم يبعثون به ويعسر عليهم ذلك.
[33.31-34]
وقوله: { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا } [الأحزاب: 31] أي: تعمل لله خالصا غير مشرب بطمع الجنة؛ ولهذا قال الله ورسوله: ولم يعمل للدار الآخرة { نؤتهآ أجرها مرتين } [الأحزاب: 31] يشير إلى أن الطاعة والعمل الصالح من غير شوب يوجب أجر المزيد في القرب وبتبعيتها يوجب أجرا آخر في درجات الجنة { وأعتدنا لها } [الأحزاب: 31] بمزيد العناية { رزقا كريما } [الأحزاب: 31] والكريم هو الله أي: يرزقه من المشاهدات الربانية والمكاشفات والمكالمات مزيدا على القربة، وهذا معنى قوله:
وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40].
وقوله: { ينسآء النبي لستن كأحد من النسآء } [الأحزاب: 32] يشير إلى أرباب قلوب أسرار أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية المشايخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الحق { إن اتقيتن } بالله من غيره { فلا تخضعن بالقول } لشيء من الدارين على أن تخضع له بالقول لا بالقلب والعمل بزعمك، فإن كثيرا من الصادقين يخضعون لأرباب الدنيا والأعمال الدنيوية لصلاح الآخرة ومصالح الدين بزعمهم، فبالتدريج وقعوا في ورطة الهلاك ورجعوا القهقرى إلى الدنيا واستغرقوا في بحر الغفلات لضعف الحالات، وهذا معنى قوله: { فيطمع الذي في قلبه مرض } [الأحزاب: 32].
وقوله: { وقلن قولا معروفا } [الأحزاب: 32] يشير إلى أن لا يشرعوا في شيء من أحوال الدنيا وأعمالها إلا بحسب القوة والقدرة التي يغلبون عليها بالمعروف، ولا يغلب عليكم بالنكرات { وقرن في بيوتكن } [الأحزاب: 33] يخاطب به القلوب أن يقروا في أوطانهم من عالم الملكوت من الأرواح متوجهين إلى الحضرة { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } [الأحزاب: 33] أي: لا تخرجوا إلى عالم الحواس راغبين في زينة الدنيا وشهواتها كما هو من عادات الجهلة.
{ وأقمن الصلاة } [الأحزاب: 33] بدوام الحضور والمراقبة والعروج إلى الله بالسير، فإن الصلاة معراج المؤمن بأن يرفع يديه من الدنيا ويكبر عليها، ويقبل على الله بالإعراض عما سواه ويرجع من مقام تكبر الإنساني إلى خضوع ركوع الحيواني، ومنه إلى خضوع سجود النباتي، ثم إلى قعود الجمادي، فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب، فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحانية يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها ويسلم عن شماله على الدنيا وما فيها مستغرقا في بحر الألوهية بإقامة الصلاة وإدامتها.
{ وآتين الزكاة } [الأحزاب: 33] فالزكاة ما زاد على الوجود الحقيقي من الوجود المجازي فإيتاؤها صرفها وإفناؤها في الوجود الحقيقي بطريق { وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } [الأحزاب: 33] وهو لوث الحدوث بشراب طهر تجلي صفات جماله وجلاله: { أهل البيت ويطهركم تطهيرا } [الأحزاب: 33] لا يكون عن تلوثا { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } [الأحزاب: 34] يشير به إلى تذكر عظيم النعمة التي تصل من مواهب الحق، وجليل الحالة التي تجري في بيوت القلوب من الواردات والإشارات والشواهد والكشوف وحقائق القرآن وأسراره وأنواره ومواعظه والحكمة التي فيه { إن الله كان لطيفا خبيرا } [الأحزاب: 34] بعباده بأن جعل قلوبهم مرآة صفات لطفه ومظهرها { خبيرا } [الأحزاب: 34] فيما صنع ولما صنع.
[33.35-37]
ثم أخبر عن المسلمين والمسلمات من أهل البدايات والنهايات بقوله: { إن المسلمين والمسلمات } [الأحزاب: 35] المسلم هو المستسلم للأحكام الأزلية بالطوع والرغبة مسلما نفسه إلى المجاهدة والمكابدة ومخالفة الهوى، وقد سلم المسلمون من لسانه ويده { والمؤمنين والمؤمنات } [الأحزاب: 35] والمؤمن من آمنه الناس وقد أحيا الله قلبه أولا بالفعل، ثم بالعلم ثم بالفهم ثم بنور الله ثم بالتوحيد ثم بالمعرفة ثم أحياه بالله { والقانتين والقانتات } [الأحزاب: 35] القنوت استغراق الوجود في الطاعة والعبودية { والصادقين والصادقات } [الأحزاب: 35] في عقودهم وعهودهم ورعاية حدودهم والصدق نور الهدى لقلوب الصديقين بحسب قربهم من ربهم { والصابرين والصابرات } [الأحزاب: 35] على الخصال الحميدة وعن الصفات الذميمة، وعند جريان مفاجأة القضية في الابتداء ونزول البلاء { والخاشعين والخاشعات } [الأحزاب: 35] الخشوع إطراق السريرة عند توارد الحقيقة { والمتصدقين والمتصدقات } [الأحزاب: 35] بأموالهم وأعراضهم حتى لا يكون لهم مع أحد خصمه، فيما نالوا منهم وحقيقة الصدقة ما يكون بالأحوال على أرباب الطلب { والصائمين والصائمات } [الأحزاب: 35] الممسكين عما لا يجوز في الشريعة والطريقة بالقلب والقالب فصوم القالب بالإمساك عن الشهوات وصوم القلب بالإمساك عن رؤية الدرجات والقربات { والحافظين فروجهم والحافظات } [الأحزاب: 35] في الظاهر عن الحرام وفي الحقيقة عن تصورات المكونات { والذاكرين الله كثيرا والذاكرات } [الأحزاب: 35] بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية بجميع ذرات المكونات بل بالله وجميع صفاته { أعد الله لهم } [الأحزاب: 35] في الأزل وهم في العدم { مغفرة } [الأحزاب: 35] وهي نور من أنوار جماله، فلما خرجوا من العدم جعل نور المغفرة مغفرا لرأس روحهم يغطيهم عما يقطعه عن الله { وأجرا عظيما } [الأحزاب: 35] والعظيم هو الله يعني أجرا من مواهب ألطافه بتجلي ذاته وصفاته.
ثم أخبر عن نفي الخيرة عن البرية بقوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة } [الأحزاب: 36] يشير إلى أن العبد ينبغي أن لا يكون له اختيار ما بغير ما اختاره الله له بل تكون خيرته فيما اختاره الله له، ولا يعترض على أحكامه الأزلية عند ظهورها بل له الاحتراز عن شيء شر ما قضى الله قبل وقوعه، فإذا وقع الأمر فلا يخلو، إما أن يكون موافقا للشرع أو مخالفا للشرع، فإن يكن موافقا للشرع فلا يخلو إما أن يكون موافقا لطبعه أو مخالفا لطبعه، فإن يكن موافقا لطبعه فهو نعمة من الله يجب عليه شكرها، وإن يكن مخالفا لطبعه فيستقبله بالصبر والتسليم والرضا، وإن يكن مخالفا للشرع يجب عليه التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله تعالى من غير اعتراض على الله فيما قدر وقضى وحكم به، فإنه حكيم يفعل ما يشاء بحكمته ويحكم ما يريد لعزته { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل } [الأحزاب: 36] عن الصراط المستقيم { ضلالا مبينا } [الأحزاب: 36] بيان للشرع { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } [الأحزاب: 37] بأن أوقعه في معرض هذه الفتنة العظيمة والبلية الجسيمة وقواه على احتمالها وأعانه على التسليم والرضا، فيما يجري الله عليه وفيما يحكم به عليه من مفارقة الزوجة وتسليمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن ذكر اسمه في القرآن من بين الصحابة وأفرده به وأنعمت عليه بقبول زينب بعد أن أنعمت عليه بإيثارها عليه بقولك { أمسك عليك زوجك } [الأحزاب: 37] وبإقبالك عليه وبتثبيتك له، وأما بقوله تعالى: { واتق الله } [الأحزاب: 37] يشير إلى أنني أتقي الله في طلبها فأنت اتق الله في طلاقها وإمساكها وبقوله تعالى: { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } [الأحزاب: 37] يشير إلى أنك تعلم ما أعلمك أنها ستكون زوجك وأنت تخفي في نفسك هذا المعنى والله يريد أن ينجز لك وعده ويبدي أنها زوجك بقوله { زوجناكها } [الأحزاب: 37] { وتخشى الناس } أي: تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة أن يخطر ببالهم نوع إنكار أو اعتراض عليه أو شك في نبوته، فإن النبي من تنزه عن مثل هذا الميل ويتبع الهوى فيخرجهم من الإيمان إلى الكفر، فكانت تلك الخشية إشفاقا عليهم ورحمة بهم أنهم لا يطيقون سماع هذه الحالة ولا يقدرون على تحمله وبقوله: { والله أحق أن تخشاه } [الأحزاب: 37] يشير إلى أن رعاية جانب الحق أحق من رعاية جانب الخلق؛ لأن لله تعالى في إبداء هذا الأمر وإجراء هذا القضاء حكما كثيرة فأقصى ما يكون في رعاية جانب الخلق أن لا يضل بعض الضعفاء، فلعل الحكمة في إجراء هذا الحكم فتنة لبعض الناس المستحقين للضلالة والإنكار؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وهذا كما قال تعالى:
وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس
[الإسراء: 60] قالوا: وجب على النبي صلى الله عليه وسلم إذا عرض له أمران في أحدهما رعاية جانب الحق وفي الآخر رعاية جانب الخلق أن يختار رعاية جانب الحق على الخلق، فإن للحق تعالى في إجراء حكم من أحكامه وإمضاء أمر من أوامره حكما كثيرة، كما قال تعالى في إجراء تزويج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب قوله: { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم } أي: فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضى منهن وطرا، أما وطر زيد في الصورة استيفاء حظه منها بالنكاح ووطره في المعنى شهرته في الخلق إلى قيام الساعة بأن الله ذكره في القرآن باسمه دون جميع الصحابة، وبأنه آثر النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بإيثار زينب { وكان أمر الله } أي: ما قدر { مفعولا } لا يمكن لأحد دفعه ولو كان نبيا.
[33.38-43]
وقوله: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } [الأحزاب: 38] يشير إلى أن الله تعالى إذا قضى أمر النبي أو الولي لم يجعل عليه في ذلك من حرج ولا سبب نقصان، وإن كان في الظاهر سبب نقصان ما عند الخلق { سنة الله في الذين خلوا من قبل } [الأحزاب: 38] من الأنبياء والأولياء { وكان أمر الله } يعني: الذي يجري على الأنبياء والأولياء { قدرا مقدورا } [الأحزاب: 38] قضاء مبرما مبنيا على حكم كثيرة.
ثم وصفهم فقال: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله } [الأحزاب: 39] في أداء الرسالة ورعاية حقوق الأمم وحفظ مصالح الدين { وكفى بالله حسيبا } [الأحزاب: 39] حافظا لمصالحهم ومحاسبا لهم بكرمهم وبقوله: { ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم } [الأحزاب: 40] يشير إلى قطع نسبه إلى الخلق وتصحيحه إلى النبوة والرسالة بقوله: { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [الأحزاب: 40] ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" كل حسب ونسب منقطع إلا حسبي ونسبي "
ويقول:
" لست كأحدكم "
وبقوله: { وكان الله بكل شيء عليما } [الأحزاب: 40] يشير إلى إحاطة علمه من الأزل إلى الأبد بما كان ويكون فيما بينهما كما هو مع تغير أحوال المعلومات بلا تغير العلم بها من غير أن يشغله شأن من شأن علم معلوم له على صفة معينة عن شأن علمه بذلك المعلوم له اليوم على غير الصفة المعينة بالأمس.
ثم أخبر عن كثرة الذكر وترجيحه على الفكر بقوله: { يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا } [الأحزاب: 41] يشير إلى أن أحبوا الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أحب شيئا أكثر ذكره "
فأوجب الله تعالى محبته بالإشارة في الذكر الكثير، وإنما أوجبها بالإشارة دون العبارة الصريحة؛ لأن أهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحر يكفيه الإشارة، وإنما لم يصرح بوجوب المحبة؛ لأنها مخصوصة بقوله دون سائر الخلق، كما قال تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] فعلى هذا بقوله:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] يشير إلى أن أحبوني أحببكم.
ثم يقول: { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } [الأحزاب: 43] يشير إلى أنكم إن تذكرون بذكر محدث، فإني قد صليت عليكم لما وفقتم لذكري كما أن محبتي لو لم تكن سابقة على محبتكم لما هديتم إلى محبتي، وأما صلاة الملائكة فإنما هي دعاء لكم على أنهم وجدوا رتبة الموافقة مع الله في الصلاة عليكم ببركتكم، ولولا استحقاقكم لصلاة الله عليكم لما وجدوا هذه الرتبة الشريفة.
ثم قال: { ليخرجكم } [الأحزاب: 43] وما قال: لتخرجكم لمعنيين:
أحدهما: لئلا يكون للملائكة منة عليكم بإخراجكم من الظلمات إلى النور.
والثاني: لأنهم لا يقدرون على ذلك لأن الله هو الهادي من الضلالة إلى الإيمان؛ بل هو الذي يخرجكم من ظلمات البشرية وصفاتها إلى نور الروحانية وصفاتها ومن ظلمات الخليقة الروحانية إلى نور الربوبية بجذبات تجلي ذاته وصفاته، { وكان بالمؤمنين } [الأحزاب: 43] في الأزل قبل إيجاد الملائكة { رحيما } [الأحزاب: 43] بأن يرحم عليهم بإخراجهم من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي دون غيرهم من الملائكة المقربين، فافهم جدا.
[33.44-49]
وبقوله: { تحيتهم يوم يلقونه سلام } [الأحزاب: 44] يشير إلى أن التحية إذا قرنت بالرؤية واللقاء إذا قرن بالتحية لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر والتحية خطاب يفاتح به الملوك، فبهذا أخبر عن علو شأنهم ورفعة درجتهم، وأنهم قد سلموا عن آفات القطيعة بدوام الوصلة.
وبقوله: { وأعد لهم أجرا كريما } [الأحزاب: 44] يشير إلى سبق العناية الأزلية في حقهم؛ لأن في الإعداد تعريفا بالإحسان السابق والأجر الكريم ما يكون سابقا على العمل؛ بل يكون العمل من نتائج ذلك الكرم.
ثم أخبر عن أفضاله بإرسال نبيه بقوله تعالى: { يأيها النبي إنآ أرسلنك شهدا } [الأحزاب: 45] يشير إلى محبوبيته أي: إنا أرسلناك من العدم إلى عالم الوجود { شهدا } أي: شاهدا لنا ببعث المحبوبية وشاهدا البيان بعطف المحبة { ومبشرا } [الأحزاب: 45] لعبادنا المحبين الطالبين برؤية جمالنا { ونذيرا } [الأحزاب: 45] للطالبين الغافلين عن كمال حسننا وحسن كمالنا { وداعيا } [الأحزاب: 46] كلا الفريقين إلى الله إلى عالم ألوهيته بإذنه { وسراجا منيرا } [الأحزاب: 46] أي: بأمرنا لا بطبعك ورائك؛ لأنه لا يهتدي أحد إلى عالمنا إلا بنا، وقد اختص نبينا صلى الله عليه وسلم برتبة دعوة الخلق إلى الله من بين سائر الأنبياء والمرسلين فإنهم كانوا مأمورين بدعوة الخلق إلى الجنة واختصاصه صلى الله عليه وسلم من العالم السفلي إلى العالم العلوي ومن الملك إلى الملكوت، ومن الملكوت إلى عالم الجبروت والعظموت لجذبة " أدن مني " وقرب إلى مقام قاب قوسين أو أدنى إلى أن نور سراج قلبه بنور الله بلا واسطة ملك أو نبي ومن هنا قال:
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
لأنه كان في مقام الوحدة فلا يصل إليه أحد إلا على قدمي الفناء عن نفسه والبقاء بربه فناء بالكلية وبقاء بالكلية بحيث لا يبقى نار نور الإلهية من حطب وجوده قدر ما يصعد منه دخان نفسي، وما بلغ كمال هذه الرتبة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه من بين سائر الأنبياء يقول:
" أمتي أمتي "
وناهيك عن هذا حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم وجد في كل سماء نفرا من الأنبياء إلى أن بلغ السماء السابعة ووجد هناك إبراهيم عليه السلام مستندا إلى سدرة المنتهى فعبر عنها مع جبريل إلى أقصى السدرة وبقي جبريل في السدرة فأدنى إليه الرفوف فركب عليه فأداه إلى قاب قوسين أو أدنى فهو الذي جعل الله له نورا فأرسله إلى الخلق.
وقال:
قد جآءكم من الله نور
[المائدة: 15] فأذن له أن يدعو الخلق إلى الله بطريق متابعته فإنه
من يطع الرسول
[النساء: 80] حق طاعته
فقد أطاع الله
[النساء: 80] والذين يبايعونه إنما يبايعون الله
يد الله فوق أيديهم
[الفتح: 10] فإن يده فانية في يد الله باقية بها وكذلك جميع صفاته تفهم إن شاء الله وتنتفع به، وبقوله: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا } [الأحزاب: 47] يشير إلى ذكرنا أن لمتابعته اقتباس نور الإلهية بمصباح قلوبهم من سراج قلبه المنور بنور الله المنير سرج قلوب الأمة، فهذا هو حقيقة الدعوة إلى الله.
{ ولا تطع الكافرين والمنافقين } [الأحزاب: 48] بتخلق خلق من أخلاقهم ولا توافق من أعرضنا عنه، وأغفلنا قلبه عن ذكرنا وأضللناه من أهل الكفر والنفاق وأهل البدع والشقاق وفيه إشارة إلى أرباب الطلب بالصدق وأن لا تطيعوا المنكرين الغافلين عن هذا الحديث فيما يدعونهم إلى ما يلائم هوى نفوسهم ويقطعون به الطريق عليهم ويزعمون أنهم ناصحوهم ومشفقون عليهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا { ودع أذاهم } [الأحزاب: 48] بالبحث والمناظرة على إبطال إنكارهم.
{ وتوكل على الله } [الأحزاب: 48] في طلب الحق وترك ما سواه، { وكفى بالله } [الأحزاب: 48] عن الدارين { وكيلا } [الأحزاب: 48] لك في الاكتفاء بما يحتاج إليه.
ثم أخبر عن نكاح المؤمنين وسراحهم بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن } [الأحزاب: 49] يشير إلى كرم الأخلاق يعني: إذا نكحتم المؤمنات ومالت قلوبهن إليكم ثم آثرتم الفراق قبل الوصال فكسرتم قلوبهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن ليكون لهن عليكم تذكرة في أيام الفرقة وأوائلها إلى أن تتوطن نفوسهن على الفرقة { وسرحوهن سراحا جميلا } بألا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير ولا تستردوا منهن شيئا تفضلتم به عليهن، فلا تجمعوا عليهن الفراق بالحال والإضرار من جهة المال.
[33.50-51]
وبقوله: { يأيها النبي إنآ أحللنا لك } [الأحزاب: 50] تمام الآيات إلى قوله: { وكان الله عليما حليما } [الأحزاب: 51] يشير إلى أن إعزاز النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وإظهار كمال قوته بالتوسعة في باب النكاح بكم شاء وبمن شاء وكيف شاء ورفع الحرج عنه فيما اقتضت نفسه وهواه وهذا يدل على أن نفسه تنورت بنور قلبه وقلبه منور بنور روحه أن نفسه هي الطمأنينة التي بجذبة
ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي
[الفجر: 28-29] غاصت في بحر الملكوت الأعلى بإشارة
وادخلي جنتي
[الفجر: 30] عبرت إلى عالم الملكوت ودخلت في عالم الجبروت فما أبقت لها صفة من صفاتها إلا خرجت عن طبيعتها وتخلقت بأخلاق ربها.
كما أخبر الله تعالى عنها بقوله:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم: 4] هو الله تبارك وتعالى وأنه على خلقه وأنه صلى الله عليه وسلم لما انسلخت نفسه عن صفاتها بالكلية لم يبق له أن يقول يوم القيامة نفسي نفسي ومن هنا قال عليه السلام:
" أسلم شيطاني على يدي "
فلما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى لا ينطق بالهوى اتفقت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة من الجنة لأنه نزع من صدره الدنيا على ما ينزع من صور غيره في الآخرة، كما قال:
ونزعنا ما في صدورهم من غل
[الأعراف: 43] وقال في حقه:
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح: 1] يعني: بنزع الغل عنه فقال الله عز وجل له في الدنيا { ترجي من تشآء منهن وتؤوي إليك من تشآء } [الأحزاب: 51] أي: غل يتعلق به إرادتك ويقع عليه اختيارك فلا حرج عليك ولا جناح كما يقول لأهل الجنة: لكم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين { وكان الله عليما } في الأزل بتأسيس بنيان وجودك على قاعدة محبوبيتك ومحبتك { حليما } فيما يصدر عنك ما لم يحلم من غيرك.
[33.52-54]
ثم أخبر عن جبر قلوب أرباب الحجرات بتحريم المحللات بقوله تعالى: { لا يحل لك النسآء من بعد } [الأحزاب: 52] الإشارة فيها ما يتعلق بتربية نفس النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله تعالى وسع الأمر عليه في باب النكاح حظيت نفسه بشرب من مشاربها موجب لانحراف مزاجها كمن أكل طعاما حلوا حارا صفراويا فيحتاج إلى غذاء حامض بارد دافع للصفراء حفظا للصحة، فالله تعالى من كمال عنايته في حق حبيبه غذاه بحامض.
{ لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } [الأحزاب: 52] لأن حلاوته تزيد في الحرارة التي يتولد منها عين القلوب لتسكين الحرارة ورفع الصفراء ولاعتدال المزاج القلبي والنفسي.
ومنها: ما يتعلق بتربية نفوس أزواجه، وذلك أن الله تعالى لما ضيق الأمر عليهن في باب الصبر على ما أحله للنبي صلى الله عليه وسلم وتوسع أمر النكاح عليه وخيره في الإرجاء والإيواء إليه كان أحمض في مذاقهن وأبرد شيء لمزاج قلوبهن فغذاهن بحلاوة { لا يحل لك النسآء } من العدم وسكن بها برودة مزاج قلوبهن حفظا لسلامة قلوبهن وجبرا لانكسارها.
ومنها: ما يتعلق بمواعظ نفوس رجال الأمة ونسائها ليتعظوا بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال أزواجه وأمته { إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا } [الأحزاب: 52] يراقب مصالحهم.
وبقوله: { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [الأحزاب: 53] يشير إلى حفظ الأدب في الاستئذان ومراعاة الوقت وإيجاب الاحترام ، فإذا أذن لكم فادخلوا على وجه الأدب وحفظ أحكام تلك الحضرة، وإذا انتهت حوائجكم فاخرجوا ولا يتغافلوا عنكم ولا يمنعكم حسن خلقه من حفظ الأدب، ولا يحملنكم فرط احتشامه على الإبرام عليه { فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث } [الأحزاب: 53] وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم جرهم على المباسطة الموجبة أن أنزل الله هذه الآية.
وبقوله: { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } [الأحزاب: 53] يشير إلى أن البشر بشر وإن كانوا من الصحابة وأن النساء نساء، وإن كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } [الأحزاب: 53] هذا يعظم أمره صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين ووقاره ليعظمونه ويوقرونه في جميع الأحوال وفي حال حياته وبعد وفاته بقدر ازدياد تعظيمه وتوقيره في القلوب يزداد نور الإيمان فيها ولكم للمريدين مع الشيوخ في رعاية هذه الآداب أسوة حسنة لأن الشيخ في قومه كالنبي في أمته { إن ذلكم } [الأحزاب: 53] أي: ملاحظة شيء من هذا { كان عند الله عظيما } [الأحزاب: 53] أي: ذنبا عظيما يشير بهذه العظمة إلى عظمته صلى الله عليه وسلم عند الله وكمال عزته في تلك الحضرة { إن تبدوا شيئا } [الأحزاب: 54] من ترك الأدب وحفظ الحرمة وتعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم: { أو تخفوه } [الأحزاب: 54] في أنفسكم { فإن الله كان بكل شيء } [الأحزاب: 54] تعملونه في السر والعلانية وبمقدار جزائه من الحسنة والسيئة { عليما }.
[33.55-57]
وقوله: { لا جناح عليهن في آبآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن } [الأحزاب: 55] يشير إلى تسكين قلوبهن بعد فطامهن عن مألوف العادة ونقلهن إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة فمن عليهن وعلى إقرار بأنهن بإنزال هذه الرخصة لاندمال جرحهن ما على سبيل الاحتياط لهن مع ذلك فقال: { واتقين الله } [الأحزاب: 55] فيهم وفي غيرهم بحفظ الخواطر وميل النفوس ومنها { إن الله كان على كل شيء } [الأحزاب: 55] من أعمال النفوس وأحوال القلب { شهيدا } [الأحزاب: 55] حاضرا وناظرا إلينا.
ثم أخبر عن كمال عزة النبي صلى الله عليه وسلم وعظمته عنده تعالى بقوله: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } [الأحزاب: 56] يشير بهذا الاختصاص إلى كمال العناية في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق أمته، أما كمال عنايته في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى يصلي عليه صلاة تليق بتلك الحضرة القدسية عن التشبه فيه المثال مناسبا لحضرة نبوته بحيث يفهم معناها سواهما، وأما كمال عنايته في حق أمته فهو أنه تعالى أوجب على أمته الصلاة عليه، ثم جازاهم بكل صلاة عليه عشر صلوات من صلاته وبكل سلام عشرا وهذه عناية مخصصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأمته.
ولصلاة الله تعالى على عباده مراتب بحسب مراتب العباد ولها معان: منها الرحمة ومنها المغفرة ومنها البركة ومنها الوارد ومنها الشواهد ومنها الكشوف ومنها المشاهدة ومنها الجذبة ومنها التغذية ومنها الشرب ومنها الري ومنها السكر ومنها التجلي ومنها الفناء في الله ومنها البقاء بالله وهذا هو حقيقة صلوات الله على عباده ولكل واحد من أصحاب المقام الباقي بالله في هذا المقام إلى ما لا نهاية لها.
كما قال تعالى:
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
[البقرة: 157] أي إلى الله والسير بالله في الله { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [الأحزاب: 57] بأن لا يؤمنوا بالله ورسوله ويخالفون أمرهما ويتابعون هواهم بل يتخذون إلههم هواهم وكما قال:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80] فكذلك من أذى رسوله فقد أذى الله وكما استحق المؤمنون بطاعة الرسول والصلاة عليه صلاة الله، فكذلك الكافرون استحقوا بمخالفة الرسول وإيذائه لعنة الله، فقال تعالى: { لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [الأحزاب: 57] فلعنة الدنيا هي الطرد عن الحضرة والحرمان عن الإيمان ولعنة الآخرة الخلود في النيران والحرمان عن الجنان، وهذا حقيقة قوله: { وأعد لهم عذابا مهينا } [الأحزاب: 57]
[33.58-59]
وقوله: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } [الأحزاب: 58] يشير إلى أن إيذاء المؤمنين مقرون بإيذاء الرسول كما أن إيذاء الرسول مقرون بإيذاء الله فحقيقة معناه أن من أذى المؤمن، فكمن أذى الرسول فكمن أذى الله ومن أذى الله فهو مستحق الطرد واللعن في الدنيا والآخرة وقوله: { يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } [الأحزاب: 59] تنبيه لهن على حفظ القسمين ورعاية حقه منهن بالتصاون والتعفف وفيه إثبات وقرهن وعزة قدرهن { ذلك } [الأحزاب: 59] أي: ذلك التنبيه { أدنى أن يعرفن } [الأحزاب: 59] أي: يعرفن أن لهن قدرا وعزة في الحضرة { فلا يؤذين } [الأحزاب: 59] بالأطماع الفاسدة والأقوال الكاذبة { وكان الله غفورا رحيما } [الأحزاب: 59] لهن بامتثال الأوامر رحيما بهن بإعلاء درجتهن.
[33.60-68]
ثم أخبر عن حال المنافقين بعد ذكر الموافقين { لئن لم ينته المنافقون } [الأحزاب: 60] إلى قوله: { والعنهم لعنا كبيرا } [الأحزاب: 68] يشير إلى تهديد المنافقين ومن بصددهم من منافقي أهل الطلب من المتصوفة والمتعرفة الذين يلبسون في الظاهر ثيابهم ويلبسون في الباطن ما يخالف مقرهم وسرائرهم، وأنهم لو لم يمتنعوا عن أفعالهم ولم يتغيروا عن أحوالهم لأجرى معهم سنته في التدبير والتغيير على من سلف من نظرائهم ونزل بكبرائهم، ثم ذكر مسألة القوم عن قيام الساعة وتكذيبهم ذلك واستهزائهم بالمؤمنين بها، ثم استعجالهم إتيانها من غير استعداد لها، ثم أخبر عن صعوبة العقوبة التي علم أنه يعذبهم بها وما يقع عليهم من الندامة على ما فرطوا فلا تنفعهم الندامة، ولا يكون سوى الغرامة والملامة.
[33.69-73]
ثم أخبر عن إيذاء أهل الأهواء للأنبياء والأولياء بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [الأحزاب: 69] يشير إلى هذه الأمة بكلام قديم أزلي أن لا تكونوا كأمة موسى في الدنيا الإيذاء فإنه من صفات السباع بل كونوا أشداء على الكفار رحماء بينكم ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم:
" لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" والمؤمن من أمنه الناس "
وقوله: { لا تكونوا } نهي جزم عند تكوينهم بنفي هذه الصفة عنهم أي: كونوا ولا تكونوا بهذه الصفة فيه إشارة إلى أن كل موجود عند إيجاده بأمر كن مأمور بصفة مخصوصة به ومنهي عن صفة مخصوصة به فكان كل موجود كما أمر بأمر التكوين ولم يكن كما نهى بنهي التكوين.
كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:
فاستقم كمآ أمرت
[هود: 112] أي: كما أمرت بالاستقامة بأمر التكوين عند الإيجاد فكان كما أمر قال تعالى ناهيا له بنهي التكوين:
فلا تكونن من الجهلين
[الأنعام: 35] فلم يكن من الجاهلين كما نهى عن الجهل وبقوله: { وكان عند الله وجيها } [الأحزاب: 69] يشير إلى أن موسى عليه السلام كان في الأزل عند الله متصفا بالوجاهة، فلا يكون غير وجيه بتغير بني إسرائيل إياه كما قيل:
إن كنت عندك يا مولاي مطرحا
فعند غيرك محمول على الحدق
وبقوله: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } [الأحزاب: 70] { يصلح لكم أعمالكم } [الأحزاب: 71] يشير إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بالتقوى وهو التوحيد عقدا وحفظ الحدود وجهدا، ولا يحصل سداد أعمال التقوى إلا بالقول السديد وهو كلمة لا إله إلا الله، فبالمداومة على قول هذه الكلمة شرائطها { يصلح لكم أعمالكم } أي: أعمال التقوى يقال سواد أقوالكم سداد أعمالكم وسداد الأقوال وسداد الأعمال يحصل سداد الأحوال وهو قوله: { ويغفر لكم ذنوبكم } [الأحزاب: 71] وهو عبارة عن دفع الحجب الظلمانية بنور المغفرة الربانية { ومن يطع الله } [الأحزاب: 71] فيما أمره ونهاه ويطع رسوله فيما أرشده وهداه إلى صراط مستقيم متابعته { فقد فاز فوزا عظيما } [الأحزاب: 71] بالخروج عن الحجب الوجودية بالفناء في وجود الهوية والبقاء ببقاء الربوبية.
وبقوله: { إنا عرضنا الأمانة على السموت والأرض والجبال } [الأحزاب: 72] أي: عليها وعلى أهاليها يشير إلى أن حقيقة الأمانة وهي التي عبر عنها بالفوز العظيم، وقد فسرنا الفوز العظيم بالفناء في الله والبقاء بالله وهو عبارة عن قبول الفيض الإلهي بلا واسطة فالحاصل أن حقيقة الأمانة هي الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمى بالأمانة؛ لأنه من صفات الحق تعالى فلا يتملكه أحد وقد اختص الإنسان بقبول هذا الفيض وحمله من سائر المخلوقات لاختصاصه بإصابة رشاش النور الإلهي لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى "
فكل روح أصابه رشاش نور الله صار مستعدا لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة فكان عرض الفيض الإلهي على المخلوقات وحمل الفيض خاصا للإنسان؛ لأن نسبة الإنسان مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص، فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن عرض فيض الروح عام على الشخص الإنساني وقبوله وحمله مخصوص بالقلب بلا واسطة.
ثم من القلب بواسطة العروق والشريانات وعروق ممتدة تصل عكس فيض الروح إلى جميع الأعضاء فيكون متحركا به كذلك عرض الفيض الإلهي عام لاحتياج الموجودات به وقبوله وحمله خاص للإنسان ومنه يصل عكس الفيض إلى سائر المخلوقات ملكها وملكوتها.
فأما في ملكها: وهو ظاهر الكون أعني الدنيا فيصل الفيض إليه بواسطة صورة للإنسان من بصنائعه الشريفة وحرفه اللطيفة التي به العالم معمور ومزين.
وأما إلى ملكوتها: وهو باطن الكون أعني الآخرة فيصل الفيض إليها بواسطة روح الإنسان هو أول شيء تعلقت بالقدرة فيعلق الفيض الإلهي من أمر كن أولا بالروح الإنساني، ثم يفيض منه إلى عالم الملكوت فظاهر العالم وباطنه معمور بظاهر الإنسان وباطنه هذا هو سر الخلافة المخصوصة بالإنسان.
وبقوله { إنه كان ظلوما جهولا } [الأحزاب: 72] على صيغة المبالغة يشير إلى أن الظالم هو الذي يظلم على غيره والظلوم من يظلم على نفسه والجاهل من يجهل غيره والجهول من جهل نفسه فأما ظلمه على نفسه فبحمل الأمانة لأنه وضع شيئا في غير موضعه فأفنى نفسه فيها وأما جهله بنفسه فبأنه يحسب أن هذه البهيمة التي تأكل وتشرب وتنكح وما علم أن هذه الصور الحيوانية هي قشرة ولها لب هو روحه وروحه أيضا قشر وله لب هو محبوب الحق تعالى الذي قال:
يحبهم
[المائدة: 54] وهو محب الحق تعالى بقوله:
ويحبونه
[المائدة: 54] فمن أحب غير الله جهل نفسه.
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
[البقرة: 130] يعني: أن إبراهيم كان على ملة الخلة وغيره جهل نفسه وأحب غير الله فقد رغب عن ملة إبراهيم فمن يحب قشر الجسمانية الظلمانية ووصل إلى لب الروحانية النورانية، ثم علم أن هذا اللب أيضا قشر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة "
فعبر عن القشر الروحاني فيصل إلى لبه الذي هو محبوب الحق ومحبته فقد عرف نفسه، ولما عرف نفسه فقد عرف ربه بتوسله لا شرك فيه وأنه لما عرضت الأمانة عليه وعلى المخلوقات وهو الفيض الإلهي كما قررنا في الوجه المنور برشاش نور الله عرف شرف الأمانة وقصدها فكما لم يكن بهم ذا جبلة يحملها روح الملائكة وغيرهم منورا برشاش نور الله ما عرفوها حق المعرفة وما كانوا مخصوصين بالمحبوبية، ولم يكن لهم راحلة يحملها بقوة الظلومية والجهولية فلما علموا خطر حملها،
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها
[الأحزاب: 72] وبمحمل الجسدانية وقوة الظلومية والجهولية حملها الإنسان فصارت الظلومية والجهولية في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها مدحا وفي حق الخائنين فيها ذما وكل وجه ذكره المفسرون في معنى يدل على هذا قوله
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
[البقرة: 130] أي: من جهل نفسه في معنى الأمانة حق ولكن طرقها ودعاؤها فحقيقتها ما ذكرنا وما هو قريب بها، والله أعلم.
بقوله تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } [الأحزاب: 73] هذه اللام لأمر الصيرورة والعاقبة يشير إلى أن الحكمة في عرض الأمانة أن يكون الخليفة في أمرها على ثلاث طبقات:
طبقة منها: تكون للملائكة وغيرهم ممن لم يحملها فلا يكون في ذلك لهم ثواب ولا عذاب.
وطبقة منها: من يحملها ولم يؤد حقها وقد خان فيها، فهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات الذين حملوها بالظلومية على أنفسهم وضيقوها بجهولية قدرها فما رعوها حق رعايتها حاصل فهم أمرهم العذاب المؤبد.
وطبقة منها: من يحملها ويؤد حقها ولم يخن فيها ولكن لثقل الحمل وضعف الإنسان يتلعثم في بعض الأوقات فيرجع إلى الحضرة بالتضرع والابتهال مقربا بالذنوب وهم المؤمنون والمؤمنات ليتوب الله عليهم لقوله: { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } [الأحزاب: 73] والحكمة في ذلك فتكون كل طبقة من الطبقات الثلاث مرآة يظهر فيها جمال صفة من صفاتها.
فالطبقة الأولى: إذ لم تحمل الأمانة وتركوا نفعها لضرها فهم مرآة جمال صفة عدله.
والطبقة الثانية: إذا حملوها طمعا في نفعها ولم يؤدوا حقها وقد خانوا فيها بأن باعوها بعرض من الدنيا الفانية،
فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
[البقرة: 16] فهم مرآة فيها جمال صفة قهره.
والطبقة الثالثة: إذ حملوها بالطوع والرغبة والشوق والمحبة وأدوها حقها بقدر وسعهم ولكن كما قيل لكل جواد كبوة ووقع في بعض الأوقات قدم صدقهم عند ربهم في حجر بلاء وابتلاء بغير اختيارهم، ثم اجتباهم ربهم فتاب عليهم، وهداهم بجذبات العناية إلى الحضرة فهم مرآة يظهر فيها جمال فضله ولطفه وذلك قوله: { وكان الله غفورا رحيما } [الأحزاب: 73] للمؤمنين والمؤمنات بفضله، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[34 - سورة سبإ]
[34.1-5]
{ الحمد لله الذي له ما في السموت وما في الأرض } [سبأ: 1] يشير إلى الثناء على نفسه والمدح لذاته إخبارا عن كمال جلاله واستحقاقه لنعوت عزه وجماله، فهو في الأزل حامد لنفسه محمود وأحمد موجود وفي الآزال معبود وبالظلمات مقصود الذي له ما في السماوات وما في الأرض ملكا وملكا لا شركة لأحد فيهما فلا ملك ولا مالك إلا هو وإن جرى هذان الاسمان على مخلوقه، فإن ذلك المخلوق داخل في ملكه وملكه وأنه الزنجي لا يتغير عن لونه، وإن سمي كافورا.
{ وله الحمد في الآخرة } ذكر بلام التمليك، وذكر الحمد بالألف واللام وهي لاستغراق الجنس يعني كل حمد حمد به الحامدون في السماوات والأرض وفي الدنيا والآخرة، وكل حمد يحمد به أحد من خلقه راجع إليه؛ لأنه هو أصل الحمد والحمد ملك له لا شركة لأحد فيه وأنه حمد نفسه بقوله الحمد لله، وأنزل على خلقه ليحمدوه بحمد قديم فيه معنى يصلح لذاته القديم، فإن الحمد المحدث بمعنى محدث تدركه الأفهام المحدثة لا يصلح لذاته القديم ولهذا ليلة المعراج.
كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
" أثن علي، قال صلى الله عليه وسلم: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
يعني: الثناء المحدث من محدث لا يصلح لذاتك القديم إلا ثناؤك القديم الصادر من ذاتك القديم من الأزل إلى الأبد بلا بداية له ولا نهاية يصلح لذاتك الذي لا أول له ولا آخر، بل أنت أول كل شيء وآخر كل آخر وظاهر كل ظاهر وباطن كل باطن.
{ وهو الحكيم } [سبأ: 1] فيما قدر ودبر { الخبير } [سبأ: 1] بما خلق كيف خلق وبما خلق { يعلم ما يلج في الأرض } [سبأ: 2] أي: أرض البشرية بواسطة الحواس الخمس والأغذية الصالحة والفاسدة من الحلال والحرام { وما يخرج منها } [سبأ: 2] من الصفات المتولدة منها والأعمال المنجية { وما ينزل من السمآء } [سبأ: 2] سماء القلب من الفيض الروحاني والإلهامات الربانية { وما يعرج فيها } من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى { وهو الرحيم } [سبأ: 2] لمن تولاه { الغفور } [سبأ: 2] لذنوب أهل ولايته.
{ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } [سبأ: 3] أي: وقالت النفوس الكاذبة المكذبة لأهلها أن القيامة ليست آتية ولا نبعث، فبهذا التمني كفروا وكذبوا الرسل وما قبلوا دعوتهم وكلامهم، وتابعوا أهواءهم وهذا الكفر والتكذيب والتمني الفاسد طبيعة النفوس كلها، فمن وكله الله بالخذلان إلى طبيعة نفسه تكون هذه الخصال سجنه أبدا.
وإذا أراد الله لعبد خيرا ينظر إلى قلبه بنظر العناية ويسمعه قوله: { قل بلى وربي لتأتينكم } [سبأ: 3]، وينطبق بهذا الإقرار وتصديق الرسل وقول الشريعة والعمل بها وهو { عالم الغيب } [سبأ: 3] غيب القلوب والشهادة شهادة النفوس { لا يعزب عنه مثقال ذرة } [سبأ: 3] مما يجري { في السموت } [سبأ: 3] سماوات القلوب { ولا في الأرض } [سبأ: 3] أرض النفوس { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } [سبأ: 3] مكتوب عنده في أم الكتاب وبتقديره يجري ما يجري على أهل النفوس وبتوفيقه يجري ما يجري على أهل القلوب كما اقتضت الحكمة الإلهية والمشيئة القديمة.
{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [سبأ: 4] خير الجزاء { أولئك لهم مغفرة } [سبأ: 4] لذنوب النفوس { ورزق كريم } [سبأ: 4] من كرم الحق وفضله للأرواح والقلوب من المواهب السنية { والذين سعوا في آياتنا } [سبأ: 5] أي: في إبطال القرآن أنه منا بهذا يشير إلى الفلاسفة الذين يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان حكيما من الحكماء وبالحكمة أخرج هذا الناموس الأكبر يعنون النبوة والشريعة، ويزعمون أن القرآن كلامه أنشأه من تلقاء نفسه يسعون في هذا المعنى { معاجزين } [سبأ: 5] يجاهدون جهدا تاما في إبطال الحق وإثبات الباطل { أولئك لهم عذاب من رجز أليم } [سبأ: 5] الرجز سوء الطرد والإبعاد.
[34.6-10]
{ ويرى الذين أوتوا العلم } [سبأ: 6] من عند الله موهبة منه لا من عند الناس بالتكرار والبحث { الذي أنزل إليك من ربك } [سبأ: 6] من النبوة والقرآن والحكمة { هو الحق } وإنما يرون هذه الحقيقة؛ لأنهم ينظرون بنور العلم الذي أريتهم من الحق تعالى، فإن الحق لا يرى إلا بالحق كما أن النور لا يرى إلا بالنور، ولما يرى الحق بالحق كان الحق هاديا لأهل الحق وطالبيه إلى طريق الحق، وذلك قوله تعالى: { ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } [سبأ: 6] لأنه لا يوجد إلا به وبهدايته الحميد؛ لأنه لا يرد الطالب بغير وجدان كما قال:
" ألا من طلبني وجدني "
ثم أخبر عن منكري البعث من الكفار بقوله تعالى: { وقال الذين كفروا } [سبأ: 7] بالاستهزاء { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } [سبأ: 7] يشير إلى أن تراكم الغفلة على القلوب وظلمات الشهوات النفسانية وغلبات الصفات الذميمة الحيوانية إذا استولى أرخيت حجبها بين الروح والقلب، فيحرم القلب من الاستفادة بنور الروح ويسود بظلمات صفات النفس ويقسو حتى ينسى الله وينسى عالم الأرواح الذي هو الآخرة كالطفل الصغير يسير إلى بعض البلاد فينسى وطنه الأصلي بحيث لو ذكر به لم يتذكر كذلك نفس الإنسان القاسي قلبه إن ذكر الآخرة، وهي وطنه الأصلي لم يتذكر ويكفر به.
ويقول مستهزئا به: { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } [سبأ: 7] ويتعجب من هذا الكلام ولا يتفكر أن أجزاءه كانت ممزقة حين هو ذرة أخرجت من صلب آدم وكيف جمع الله ذرات شخصه المتفرقة، وجعلها خلقا جديدا كذلك يجمع الله أجزاءه الممزقة للبعث ويقول منكرا متعجبا: { أفترى على الله كذبا أم به جنة } [سبأ: 8].
وقال تعالى: { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة } [سبأ: 8] من الغفلة وكثرة الحجب { في العذاب } من العمى والصم { والضلال البعيد } هو البعد عن الحضرة { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء } [سبأ: 9] سماء القلب { والأرض } [سبأ: 9] أرض النفس ما بين أيديهم من صفات القلب وما خلفهم من صفات النفس { إن نشأ نخسف بهم الأرض } [سبأ: 9] أرض البشرية بغلبات صفاتهم { أو نسقط عليهم كسفا من السمآء } [سبأ: 9] أي: نقلب عليهم صفة من صفات القلب ونهلكهم بها؛ لأن كل صفة من صفات القلب وإن كانت حميدة، فإذا جاوزت حدها تؤول إلى الصفة فتصير ذميمة كالسخاوة، فإنها حميدة من صفات القلب فإذا جاوزت حدها يكون تبذيرا وهي ذميمة
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين
[الإسراء: 27].
{ إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } [سبأ: 9] راجع إلى الله يرى الآيات بنور الله عن فضله بعد أن أخبر عن عدله بقوله تعالى: { ولقد آتينا داوود منا فضلا } [سبأ: 10] يشير إلى داود الروح والفضل الذي أعطاه منه هو الفيض الإلهي بلا واسطة ولما ذكره بلفظ النكرة فضلا يدل على أنه أعطاه شيئا من الفضل وهو مما يتعلق به تعالى؛ إذ قال: { منا } وهو الفيض كما ذكرنا، والفرق بينه وبين نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فضله في حق داود عليه السلام على صيغة النكرة وهي تدل على نوع من الفضل، وقال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113] والفضل الموصوف بالعظمة يدل على كمال الفضل، وكذلك قوله
فضل الله
[النساء: 113] لما أضاف الفضل إلى الله اشتمل على جميع الفضل كما لو قال: أخذ دار فلان اشتمل على جميع الدار.
وبقوله: { يجبال أوبي معه والطير } [سبأ: 10] يشير إلى أن الذكر من اللسان يعبر إلى أن يصل إلى الروح ويصير الروح ذاكرا لله، فعلى مقتضى كرم الله وسنته بقوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] بذكر الله ولما تنور الروح بنور ذكر الله إياه ينعكس النور من داود الروح على جبال النفس وطير القلب فتصير ذاكرا لله ومذكورا له، ثم بالمداومة ينعكس نور الذكر من النفس على البدن فيستوعب جميع أجزاء البدن ظاهرها وباطنها، ثم ينعكس من أجزاء العنصرية على العناصر الأربعة مفردها ومركبها وينعكس من النفس على النفوس أعني النفس الإنسانية والنفس الحيوانية والنفس السماوية والنفس النجومية ينعكس نور الذكر من الروح الإنساني على عالم الأرواح إلى أن يستوعب جميع العالم ملكه وملكوته، فيذكر العالم بما فيه موافقة للذاكر وإلى هذا المقام أشار بقوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44].
ثم يعبر الذكر عن المخلوقات ويصعد إلى رب العالمين، كما قال تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب
[فاطر: 10] فيذكره تعالى كما يذكره الذاكر، ففي هذا المقام يتصف العبد بصفة الرب ويتخلق بخلقه في الذاكر به والمذكور به، فكما أنه تعالى يكون الذاكر والمذكور يكون العبد أيضا ذاكرا ومذكورا تفهم إن شاء الله وتؤمن به، فتحقيق هذا المقام يعلم حقيقته.
قوله تعالى: { ولقد آتينا داوود منا فضلا } [سبأ: 10] أنه هو مذكور به الحق تعالى، وينبئ عن هذا المعنى قوله: { يجبال أوبي معه والطير } [سبأ: 10] يشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وبقوله: { وألنا له الحديد } [سبأ: 10] يشير إلى إلانة قلبه.
[34.11-14]
{ أن اعمل سابغات } [سبأ: 11] وهي الحكم البالغة التي تظهر ينابيعها من قلبه على لسانه { وقدر في السرد واعملوا } [سبأ: 11] أي: في سرد الحديث بأن يتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس.
وأشار بقوله: { واعملوا صالحا } [سبأ: 11] أي: جميع أعماله الظاهرة أن يعمل في العبودية كل واحدة منها عملا يصلح لها ولذلك خلقت { إني بما تعملون } [سبأ: 11] كل واحدة منهن { بصير } [سبأ: 11] واحدة فيها عملا يصلح لها ولذلك وبالبصارة خلقتكم وقيل: أوحى الله إلى داود وكانت تلك الزلة مباركا عليك، فقال: رب كيف تكون الزلة مباركة؟ فقال: كنت تجئ قبلها كما يجئ المطيعون فالآن يجيء كما تجيء أهل الذنوب وفيما أوحى الله للمخاطبين غيرة منه إليه:
" يا داود أنين المذنبين أحب إلي من صراخ العابدين "
وصلاته في الدين، فلما وقع له ما وقع كان يقول: اللهم اغفر للمذنبين وقيل: لما تاب الله عليه واجتماع الجن والإنس والطير لمجلسه فلما رفع صوته وأدار لسانه في حنكه على حسب ما كان من عادته تفرقت الطيور وقالوا: الصوت صوت داود والحال ليست تلك، فبكى داود عليه السلام وقال: ما هذا يا رب فأوحى الله إليه: يا داود هذا من وحشة الزلة وكانت أنس الطاعة.
وبقوله تعالى: { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } [سبأ: 12] يشير إلى القلب وسيره إلى عالم الروح وسرعته في السير للطافته بالنسبة إلى كثافة النفس وإبطائها في السير، وذلك لأن مركب النفس في سير البدن وهو كبير بطئ السير ومركب القلب في السير هو الجذبة الإلهية وهي من صفات لطفه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء "
ويقلبها إلى الحضرة برياح العناية اللطف كما قال صلى الله عليه وسلم:
" قلب المؤمن كريشة في فلاة يقلبها ظهرا عن بطن "
وهذا حقيقة قوله { ولسليمان الريح } أي: لسليمان القالب سخرنا ريح العناية ليسير به وهو ابن داود الروح وبساطة الذي كان يجلسه وتجري به الريح هو السر، ولهذا المعنى قيل: أن سليمان في مسيره لاحظ ملكه يوما فمال الريح ببساطه، فقال سليمان للريح استو، فقالت الريح: استو أنت ما دمت مستويا بقلبك كنت مستويا فملت وملت كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
[الرعد: 11].
وبقوله: { وأسلنا له عين القطر } [سبأ: 12] يشير إلى عين الحقائق والمعاني { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } [سبأ: 12] أي: وسخرنا له صفات الشيطان ليعمل بين يديه بإذن الله أي على وفق أمره ونهيه بطبيعته الشيطانية ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله سلطني على شيطاني فأسلم على يدي فلا يأمرني إلا بخير ".
{ ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } [سبأ: 12] أي: سعير المحبة وعذابها ان نار المحبة تحرق شوكها ونور المحبة يعني ظلمة خبثها وتمردها.
{ يعملون له } [سبأ: 13] أي: لسليمان القلب { ما يشآء } أي: يتصفون بصفات القلب ويكون أعمالهم على وفق مشيئته لا على وفق طبيعتهم ومشيئتهم { من محاريب وتماثيل } أي: مما يتوجه به إلى الله فإن الله تعالى اختص للشيطان بهذه الصفة من بين سائر المخلوقات أعني التوجه إلى الله والسجود له والإباء والاستكبار عن سجدة غيره، وهذا أخلص عبودية لله وأخص وصف وأشرفه في الموجودات إذا كان بإذن الله وأردى خصلة وأخس وصف وأخبثه إذا كان بالطبيعة وخلاف أمر الله وموجبا للطرد واللعن.
كما كان حال إبليس إذ قال تعالى له:
يإبليس ما منعك أن تسجد
[ص: 75] إذ أمرتك
قال أنا خير منه خلقتني من نار
[ص: 76] والنار من شأنها طلب العلو والتوجه إلى الحضرة
وخلقته من طين
[ص: 76] ومن شأنه طلب السفلي والإعراض عن الحضرة فالله تبارك وتعالى لما خمر طينة آدم بيده عجن فيها كل خاصية وصفة ما اختص بها شيئا من المخلوقات ليكون آدم عالما بجميع الأشياء بتلك الخصائص ليقدر على التصرف فيها بخلافة الحق تعالى وليتوسل بها في الرجوع الذي هو مخصوص به إلى الحضرة والوصول إليه فبخاصية الإباء والاستكبار الشيطاني امتنع وأبى عن السجود لغير الله وبها يتوجه القلب إلى الله بإعراضه عن غيره ويقول
وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام: 79] يعني الذين أشركوا بتوجههم إلى الدنيا أو إلى الآخرة
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين
[الأنعام: 162].
ثم قال
وبذلك أمرت
[الأنعام: 163] بأن إعراضي عن المخلوقات وإبائي واستكباري بالأمر لا بالطبع، ولو وكل القلب في الروح الخاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كانت رغبتها في العبور عن مقام الروحانيات كالملائكة عن المقام المعلوم الروحاني وقول بعضهم: لو دنوت أنملة لاحترقت، ولما كان الإنسان محمول العناية وبجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] رجع من أسفل سافلين الموجودات إلى الحضرة فلم يسجد لشيء منها بتمرد صفة الشيطانية وإبائها واستكبارها وعبر عن المقامات كلها إلى أن بلغ سدرة منتهاها فأراد أن يقف عندها كجبريل ويقول: " لو دنوت أنملة لاحترقت " عملت له صفة الشيطنة النارية التي لا تبالي بالنار محراقا من المحبة، فبتلك الصفة أفدى نفسه لنا نور الإلهي وعبر ببذل وجوده عن
نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة
[الهمزة: 6-7].
وبقوله: { كالجواب وقدور راسيات } [سبأ: 13] يشير إلى المادية التي لا نهاية لها التي يأكل منها الأنبياء والأولياء؛ إذ يلبثون عنده، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
{ اعملوا آل داوود شكرا } [سبأ: 13] يشير به إلى شكر داود الروح وسليمان القلب، ومن آله السر والخفي والنفس والبدن، فإن هؤلاء كلهم من متولدات الروح، فشكر البدن: استعمال الشريعة لجميع أعضائه وجوارحه ومحال الحواس الخمس، ولهذا قال: { واعملوا }.
وشكر النفس: بإقامة شرائط التقوى والورع وشكر القلب لمحبة الله وخلوه عن محبة ما سواه.
وشكر السر: مراقبة عن التفاته بغير الله، وشكر ببذل وجوده على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مختفيا بنور الوحدة عن نفسه.
وبقوله: { وقليل من عبادي الشكور } [سبأ: 13] يشير إلى قلة من يصل إلى مقام الشكورية، وهو الذي يكون شكره، فللعوام شكرهم بالأقوال كقوله:
وقل الحمد لله
[الإسراء: 111] يريكم آياته وللخواص شكرهم بالأعمال كقوله: { اعملوا آل داوود شكرا } [سبأ: 13] ولخواص الخواص شكرهم بالأحوال وهو الاتصاف بصفة الشكور، والشكور هو الله لقوله:
إن ربنا لغفور شكور
[فاطر: 34] بأن يعطي على عمل فان عشر ثواب باق.
ثم أخبر عن إخبار إمضاء قضائه على أنبيائه وأوليائه، وبقوله تعالى: { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته } [سبأ: 14] يشير إلى كمال قدرته وحكمته أنه هو الذي سخر الجن والإنس لمخلوق واحد مثلهم، وهم الألوف الكثيرة والوحوش والطيور، ثم قضى عليه الموت وجعلهم مسخرين لجثة بلا روح، وبحكمته جعل دابة الأرض حيوانا ضعيفا مثلها دليلا لهذه الألوف الكثيرة ومن الجن والإنس يدلهم على علم ما لم يعلموا بفعلها، وفيه أيضا إشارة أنه تعالى جعل فعلها سببا لإيمان أمة عظيمة وبيان حال الجن أنهم لا يعلمون الغيب لقوله: { فلما خر تبينت الجن } [سبأ: 14] أي: حال الجن { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } [سبأ: 14] وفيه إشارة أخرى أن نبيين من الأنبياء اتكئا على عصوين وهما موسى وسليمان عليهما السلام، فلما قال موسى
هي عصاي أتوكأ عليها
[طه: 18] قال ربه
ألقها
[طه: 19] فلما ألقاها جعلها ثعبانا مبينا يعني من اتكأ على غير فضل الله ورحمته يكون متكأه ثعبانه، ولما اتكأ سليمان على عصاه في قيام ملكه بها فاستمسك بعث الله أضعف دابة وأخسها لإبطال متكئه ومستمسكه ليعلم أن من قام بغيره زال بزواله، وإن كل متمسك غير الله طاغوت من الطواغيت
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها
[البقرة: 256].
[34.15-19]
ثم أخبر عن سبأ بقوله تعالى: { لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } [سبأ: 15] يشير إلى سبأ السر في مساكنهم آية من آيات الله والآية هي { جنتان } أي: جنة الروح عن يمين السر وحية القلب عن شمال السر، وذلك لأن السر لطيفة خلقت من بين الروح والقلب فما يرد من فيض الروح وداود الحق تعالى يصل إلى السر، ومنه يرد إلى القلب وما يصدر من القلب من أنوار الذكر والطاعات أو ظلمة أوصاف النفوس في معاملاتها يصعد إلى السر، ومن السر يصعد إلى الروح فالسر بين هاتين الجنتين في رغد من العيش وسلامة من الحال، فأمر بالصبر على العاقبة والشكر على النعمة.
{ كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة } [سبأ: 15] بلدة الإنسانية قابلة لبذر التوحيد وهو كلمة لا إله إلا الله { ورب غفور } [سبأ: 15] يستر عيوب عباده بنور معرفته ويغفر ذنوبهم لعزة معرفته { فأعرضوا } [سبأ: 16] عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء وكفروا النعمة وتعرضوا للنقمة وضيقوا الشكر فبدلوا وبدل لهم الحال { فأرسلنا عليهم سيل العرم } [سبأ: 16] سيل سطوات قهرنا { وبدلناهم بجنتيهم } [سبأ: 16] الشجرتين بأشجار الإيمان والإيقان والتقوى والصدق والإخلاص والتوكل والأخلاق الحميدة { جنتين ذواتي أكل } [سبأ: 16] من الكفر { خمط } [سبأ: 16] من النفاق { وأثل } [سبأ: 16] من الشك.
{ وشيء من سدر قليل } [سبأ: 16] من الأوصاف الذميمة { ذلك جزيناهم بما كفروا } [سبأ: 17] أي: بما غرسوا سرا في بستاني القلب والروح أشجار هذه الأخلاق السوء { وهل نجزي إلا الكفور } [سبأ: 17] أي: وهل تثمر الأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة؟ فما غرسوا إلا بما استوجبوا وما حصدوا إلا ما زرعوا، وما وقعوا إلا في الحفرة التي حفروا، كما قيل: " يداك أوكتا وفوك نفخ ".
وبقوله تعالى: { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } [سبأ: 18] يشير إلى مقامات القرب وجوار رب العزة والمنازل المتصلة بعضها ببعض إلى الحضرة من التوبة والزهد في الدنيا والتوكل وتزكية النفس وتصفية القلب وتحلية الروح { وقدرنا فيها } [سبأ: 18] أي: في هذا المثال { السير } [سبأ: 18] إلى الله وقلنا لهم { سيروا فيها ليالي } [سبأ: 18] أي: السير في ليل البشرية { وأياما } [سبأ: 18] أي: السير في أيام الروحانية آمنين في خفارة الشريعة ودراية المتابعة فما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم والإصرار على غيهم وطغيانهم ومن خشية النفس وركاكة العقل مالوا إلى الدنيا ورغبوا في شهواتها، وبجهلهم طلبوا البعد عن الحضرة في عبارة: { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } [سبأ: 19] وتحقيق هذه الإشارة طلب الدنيا وشهواتها هو طلب البعد عن الله وعن حضرته { وظلموا أنفسهم } [سبأ: 19] بما مالوا إلى الدنيا.
{ فجعلناهم أحاديث } [سبأ: 19] عبرة للعالمين وتنبيها للراغبين؛ لئلا نقطع عليهم الدنيا بما فيها طريق الطلب وسبيل الرشاد إلى الله عز وجل { ومزقناهم كل ممزق } [سبأ: 19] أي: مزقناهم في أودية الهلاك لكل فرقة دركة من دركات جهنم البعد { إن في ذلك } [سبأ: 19] أي: في هذه القضية { لآيات } [سبأ: 19] دلالات { لكل صبار } [سبأ: 19] على ترك الدنيا وشهواتها { شكور } [سبأ: 19] لنعمة عصمة الحق تعالى إياه وتوفيقه للعبودية.
[34.20-24]
ثم أخبر عن حال الشيطان مع الإنسان بقوله: { ولقد صدق } [سبأ: 20] حديثا عليهم { إبليس } [سبأ: 20] عليهم ظنه يشير إلى أن إبليس لم يكن متيقنا أنه يقدر على الإغواء والإضلال بل كان ظانا بنفسه أنه يقدر على إغواء من لم يطع الله ورسوله، ولما زين لهم الكفر والمعاصي على وفق هواهم، وتابعوه بذلك صدق عليهم ظنه غير مستقل في التسلط عليهم بل بتسليط الله إياه عليهم.
كما قال تعالى: { وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم } [سبأ: 21] أي: ما سلطناه عليهم إلا لنميز { من يؤمن بالآخرة } [سبأ: 21] أي: نظهر ونبين من هو مؤمن ممن هو منها أي: من الآخرة { في شك } [سبأ: 21] ولا يظنن ظان بالله ظن السوء إن الله جل جلاله لم يكن عالما بأهل الكفر وأهل الإيمان، وإنما سلط عليهم إبليس ليعلم به المؤمن من الكافر، فإن الله تعالى بكمال قدرته وحكمة خلق أهل الكفر مستعدا للكفر وخلق أهل الإيمان مستعدا للإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا ".
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الأعراف: 179] فالله تعالى كان عالما بحال الفريقين قبل خلقهم، وهو الذي خلقهم على ما هم به، ولهذا قال: { وربك على كل شيء حفيظ } [سبأ: 21] أي: هو الذي يحفظ كل شيء على ما هو به وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعث الشيطان مزينا وليس إليه في الضلالة شيء وإنما سلطه على بني آدم لاستخراج جواهرهم عن معادنهم الإنسانية "
كما تسلط النار على المعادن لتخليص جوهرها فإن كان الجوهر ذهبا فيخرج من الخلاص الذهب وإن كان الجوهر نحاسا فيخرج النحاس، فلا تقدر النار أن يخرج من معدن النحاس الذهب ولا من معدن الذهب النحاس، وإنما سلط الشيطان على بني آدم؛ لأنهم معادن الذهب والفضة وهو ناري ليستخرج جواهرهم من معادنهم بنفخة الوسواس فلا يقدر أن يخرج من كل معدن إلا ما هو جوهره.
وبقوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } [سبأ: 22] يشير إلى الهوى والدنيا والشيطان فإن النفوس الحيوانية يعبدون هذه الأشياء ويتخذونها آلهة لاحتياجهم بها { لا يملكون مثقال ذرة في السموت } [سبأ: 22] سماوات القلوب { ولا في الأرض } [سبأ: 22] أرض النفوس من سعادة ولا شقاوة، وما لهم فيهما من شرك أي: شركة في إصلاح القلوب والنفوس وإفسادها، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وما له أي: { وما له منهم من ظهير } [سبأ: 22] أي: معاونة في الإصلاح والإفساد وإن كانوا وسائط لهذا المعنى؛ لأنهم كالمال للصانع، فالصانع واحد والآلات والأدوات كثيرة.
وبقوله: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 23] يشير إلى أنه تعالى منفرد بملكه متوحد في الهيئة متقدس عن الأضداد والأنداد، وإن الملائكة في السماء بوصف الهيبة فزعون لا يتجاسرون بشفاعة أحد إلا بإذنه، وإنهم مع رفعة قدرهم وعزة قوتهم إذ أوحى الله بشيء وسمعوا كلامه من سطوة كلامه يفزعون ومن عظمة كلامه لا يفهمون { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } [سبأ: 23] يعني: يسأل بعضهم عن بعض قالوا الحق يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه يقول الحق ولا يقول الباطل { وهو العلي الكبير } [سبأ: 23] أي: علي الشأن وكبير السلطان في ذاته وصفاته وأفعاله.
{ قل من يرزقكم من السموت } [سبأ: 24] سماوات القلوب { والأرض } [سبأ: 24] أرض النفوس { قل الله } [سبأ: 24] يشير إلى أن ماء الفيض إذا نزل من سماء القلب وضياء شمس الروح إذا سطع من سماء القلب على أرض النفس، وفيها بذر المعاملات الشرعية مزروع فمن الذي يرزق من ثمراتها إلا الله؛ لأن ماء الفيض وضياء شمس الروح على أرض النفس المزروعة ببذر أعمال الشريعة لا يثمر إلا بهبوب ريح العناية عليه { وإنآ أو إياكم لعلى هدى } [سبأ: 24] بالإيمان بهذه الحقيقة أو هاهنا بمعنى الواو يعني أنا وإياكم لعلى هدى إذ نؤمن بهذا { أو في ضلال مبين } [سبأ: 24] إن لم يؤمن بهذا.
[34.25-30]
قوله: { قل لا تسألون عمآ أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } [سبأ: 25] يشير إلى كل زارع يحصد زرعه لا زرع غيره { قل يجمع بيننا ربنا } [سبأ: 26] يوم حصاد زرعنا، { ثم يفتح } أي: يحكم { بيننا بالحق } [سبأ: 26] بأن يختص كل واحد منا بحصاد زرعه { وهو الفتاح العليم } [سبأ: 26] أي: حاكم عليم فيما يحكم به { قل أروني الذين ألحقتم به شركآء } [سبأ: 27] من الدنيا والهوى والشيطان
ماذا خلقوا من الأرض
[فاطر: 40] أرض النفس شيئا أي شيئا من الأعمال النافعة المنجية
أم لهم شرك في السموت
[فاطر: 40] أي: لهم شرك مع سماوات القلوب بالواردات الروحانية والشواهد الربانية.
ثم قال: { كلا } أي: ليس شريك في الأفضال والرحمة لهم شركة في حكم من أحكامنا { بل هو الله } [سبأ: 27] أي: هذا كله من فضل الله ورحمته { العزيز } [سبأ: 27] الذي ليس له شريك في الإفضال والرحمة ولا مثل ولا نظير { الحكيم } [سبأ: 27] الذي أفعاله مبنية على الحكمة لا على العلة ثم أخبر عن رسالة المصطفى أنه إلى كافة الورى بقوله: { ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا } [سبأ: 28] يشير إلى أن إرسال ماهية وجودك التي عبرت عنها مرة بنورك وتارة بروحي من كتم العدم إلى عالم الوجود لم يكن منا إلا ليكون بشيرا ونذيرا للناس كافة من أهل الأولين والآخرين والأنبياء والمرسلين، وإن لم يخلقوا بعد لاحتياجهم بك من بدأ الوجود في هذا الشأن وغيره إلى الأبد.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم "
فأما في بدأ وجودهم فالأرواح لما حصلت في عالم الأرواح بإشارة كن، تابعين لروحك احتاجت إلى أن يكون لها بشيرا ونذيرا؛ لتعلقها بالأجسام لأنها علوية بالطبع لطيفة روحانية، والأجسام سفلية بالطبع كثيفة ظلمانية لا يتعلق بها، ولا يميل إليها لفساده بينهما، فيحتاج إلى بشير يبشرها بحصول كمال لها عند الأثقال بها لترغب إليها وتحتاج إلى نذير ينذرها بأنها إن لم تتعلق بالأجسام يحرم عن كمالها، وتبقى ناقصة غير كاملة مثل حبة فيها شجرة مركوزة بالقوة، وإن تزرع وتربي بالماء تخرج الشجرة من القول إلى الفعل إلى أن تبلغ كمالها بشجرة مثمرة، فالروح بمثابة البذر، والقالب بمثابة الأرض، والشخص الإنساني بمثابة الشجرة، والتوحيد والمعرفة ثمرتها الشريفة بمثابة الماء لتربيتها والبشير والنذير بمثابة المربي، فيعد تعلق الروح بالقالب واطمئنانه إليه واتصافه بصفة يحتاج إلى بشير بحسب مقامه يبشره بنعيم الجنة وملك لا يبلى، ثم يبشره بقرب الحق تعالى ويشوقه إلى جماله ويعده بوصاله وبنذير ينذره أولا بنار جهنم يوعده بالبعد عن الحق، ثم بالقطيعة والهجران.
وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات منبتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين، وأنهم وإن كانوا ثمرة هذه الشجرة أيضا ولكن وجدوا هذه المرتبة بتبعية كماله لا من بذر واحد يظهر على الشجرة ثمار كثيرة بتبعية ذلك البذر الواحد فيجد كل بشير ونذير فرعا لأصل بشريته ونذيريته، والذي يدل على هذا التحقيق قوله تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107] دخلت شجرة الموجودات كلها تحت الخطاب وبقوله:
ولكن أكثر الناس لا يعلمون
[الروم: 6] يشير إلى أن أكثر الناس الذين هم أجزاء وجود الشجرة، وما وصلوا إلى رتبة الثمرية لا يعلمون حقيقة ما قدرنا؛ لأن أحوال الثمرة ليست معلومة للشجرة إلا لثمرة مثلها ووصفها ليكون واقفا بحالها.
وبقوله: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [سبأ: 29] يشير إلى أرباب الطلب واستعجالهم فيما وعدهم من رتبة الثمرة يعني متى نقل إلى الكمال الذي بشرتمونا به بقوله: { قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [سبأ: 30] مجيئهم كما أن الثمرة لكل شجرة وقتا معلوما لإدراكها وبلوغها إلى كمالها كذلك لكل طالب وقت معلوم بلاغه إلى رتبة كماله، كما قال تعالى:
حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة
[الأحقاف: 15]؛ ولهذا السر قال تعالى مع حبيبه صلى الله عليه وسلم:
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل
[الأحقاف: 35] بهذا يشير إلى أن لنيل كل مقام صبرا مناسبا لذلك المقام فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان من أولي العزم من الرسل أمر بصبر أولي العزم كذلك أمر صاحب المقام وطالبه بصبر أهله.
[34.31-34]
وقوله: { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } يشير إلى كفار النفس وصفاتها وكفرهم بحقائق القرآن والكتب المنزلة { ولو ترى إذ الظالمون } وهم النفوس الكفرة والقلوب الظالمة صرفت استعدادها من غير موضعها { موقوفون عند ربهم } [سبأ: 31] بحجب صفاتهم { يرجع بعضهم } [سبأ: 31] وهم النفوس المستكبرة { إلى بعض القول } وهم القلوب المستضعفة { يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } [سبأ: 31].
{ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا } [سبأ: 32] من النفوس للقلوب { أنحن صددناكم عن الهدى } عن طريق الحق { بعد إذ جآءكم } يشير إلى أن الله عز وجل هداكم للإيمان، ولو كان هدى الله قد جاءكم كيف نقدر أن نصد عنكم هدى الله { بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين } [سبأ: 32] في إفشاء استعداد قبول الإيمان وصرفه في غير موضعه { وقال الذين استضعفوا } [سبأ: 33] من القلوب مجيبين { للذين استكبروا } [سبأ: 33] من النفوس المتمردة { بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله } [سبأ: 33] يعني مكرتم بالليل والنهار على الدوام مكرا إذ كنتم تأمروننا بالهواجس النفسانية أن نتبع الهوى، ونتخذها إلها ونكفر بالله بترك أوامره ونواهيه ونجعل له أنداد من الشهوات الدنيوية، فبهذا المكر قطعتم علينا طريق الحق تعالى: { وأسروا الندامة } [سبأ: 33] الفريقان أي: أظهرها { لما رأوا العذاب } [سبأ: 33] حين ما نفعهم الإيمان والندامة { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } [سبأ: 33] التي اتخذوها من الأعناق ما يفلح لغل الأعناق.
وقوله: { ومآ أرسلنا في قرية من نذير } [سبأ: 34] يشير إلى إرسال نذير إلهام رباني في قربة الشخص الإنساني { إلا قال مترفوهآ } أي: النفس وصفاتها الأغنياء والمنتقمون بالدنيا { إنا بمآ أرسلتم به } [سبأ: 34] من أعمال الخير والأخلاق الحميدة { كافرون } [سبأ: 34] جاحدون.
[34.35-39]
{ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا } [سبأ: 35] منكم افتخروا بما هو فتنة لهم بقوله:
إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة
[التغابن: 15] { وما نحن بمعذبين } [سبأ: 35] من عذاب الفقر والفقر هو مفتخر نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله:
" الفقر فخري "
وهم يعدون بجهلهم من العذاب وهو عين الرحمة { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء } [سبأ: 36] به فتنة { ويقدر } لمن يشاء به رحمة { ولكن أكثر الناس } [سبأ: 36] من أهل الغفلة والخذلان { لا يعلمون } [سبأ: 36] هذه الحقيقة بل يظنون أن الغنى هو الرحمة والفقر هو النقمة.
ثم أخبر عن فساد الأموال والأولاد بقوله تعالى: { ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } [سبأ: 37] يشير إلى أن لا يستحق الزلفى عند الله بالمال والأولاد؛ لأن المال والأولاد مما زين للناس حبه، وحب غير الله يوجب البعد عن الله كما قال صلى الله عليه وسلم:
" حبك الشيء يعمي ويصم "
يعني: يعميك عن رؤية غيره، وهذا أمارة كمال البعد، فإن كمال البعد يورد العمى والصم قال الشاعر:
وعارضته وصلا قصا إذ
دعت وأحببت من ورقا
تدعوا فاسمع ولكن من موجبات القربة الأعمال الخالصة والأحوال الصافية والأنفاس الزاكية بل العناية السابقة والهداية اللاحقة والرعاية الصادقة لقوله: { إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزآء الضعف } [سبأ: 37] يضاعف على ما كان لمن يقدمهم من الأمم { وهم في الغرفات } [سبأ: 37] أي: درجات القربات { آمنون } [سبأ: 37] من الهجران والقطيعة.
{ والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون } [سبأ: 38] هم الذين لا يحرسون الأولياء ولا يراعون حق الله في السر فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله في عذاب السقوط من عين الله { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء من عباده } [سبأ: 39] فكما أن رزق النفس هو الطعام والشراب كذلك، رزق القلب: هو اليقين والاطمئنان بذكر الله تعالى، ورزق السر: أسرار القرآن والذكر، ورزق الروح: حقائق القرآن وحكمه، ورزق الخفي: وهو ستر السر للمشاهدات والمعاينات والكشوف، فيبسط { لمن يشآء } [سبأ: 39] { ويقدر } [سبأ: 39] لمن يشاء { ومآ أنفقتم من شيء } [سبأ: 39] من الموجودات والوجود فهو يخلقه من الموجود الفاني في الوجود الباقي، ومن الوجود المجازي إلى الوجود الحقيقي فمن الخلف في الدنيا الرضا بالعدم والفقر صورة ومعنى، وهو أتم من السرور بالموجود والوجود وبقوله: { وهو خير الرازقين } [سبأ: 39] فيشير إلى أنه خير المنفقين؛ لأن خيرية المنفق بقدر خيرية النفقة فما ينفق كل منفق من النفقة فهو فان، وما ينفق الله من نفقة ليخلقه لها فهي باقية والباقيات خير من الفانيات.
[34.40-44]
ثم أخبر عن حال النشر والحشر بقوله: { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [سبأ: 40] يشير إلى أنه كما يعبد قوم الملائكة يقول الشيطان وإذا سأل الملائكة { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [سبأ: 40] يبشرون الملائكة منهم وينزهون الله ويقولون سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن كذلك من يعبد الله بقول الوالدين والأستاذين أو أهل بلده أو بالتعصب والهوى كما يعبدون اليهود والنصارى والصابئون والمجوس وأهل البدع والأهواء يتبرأ منه ويقول: أنا منزه من أن أعبد، يقول: من يعبدني بالهوى أو أعبد بالهوى فإن من عبدني بالهوى فقد عبد الهوى ومن عبدني بإعانة أهل الهوى إياه على تعبدي فقد عبد أهل الهوى لأنه ما عبدني مخلصا كما أمرته
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5] ولهذا المعنى أمرنا الله عز وجل أن نقول في عبادته في الصلاة
إياك نعبد
[الفاتحة: 5] أي: لم نعبد غيرك
وإياك نستعين
[الفاتحة: 5] على عبادتك لنعبدك بإعانتك لا بإعانة غيرك.
وبقوله: { أكثرهم بهم مؤمنون } [سبأ: 41] يشير إلى أن أكثر مدعي الإسلام بأهل الهوى يؤمنون أي: بتقليدهم وتصديقهم فيما يقيمون إليه من البدع والاعتقاد السوء وبقوله: { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا } [سبأ: 42] يشير إلى أن من علق قلبه بالأغيار وظن صلاح حاله من الاحتيال والاستعانة بالأمثال والأشكال نزع الله الرحمة من قلوبهم ويتركهم ويشوش أحوالهم، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة ولا لهم من عقولهم في أمورهم استبصار ولا إلى الله رجوع إلا في الدنيا، فإن رجعوا إليه في الآخرة لا يرحمهم ولا يجيبهم كما قال: { ونقول للذين ظلموا } [سبأ: 42] عبدوا غير الله { ذوقوا عذاب النار } [سبأ: 42] نار البعد والقطيعة { التي كنتم بها تكذبون } [سبأ: 42].
وبقوله: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آبآؤكم } [سبأ: 43] يشير إلى أن صاحب نظر من أرباب الولاية إذا دل الناس على الله ودعاهم إليه قال إخوانهم السوء وإخوانهم الجهلة، والمهجرون من أهل الغفلة من الأقارب ومن أبناء الدنيا، وربما كان من العلماء السوء الذين أسكرتهم محبة الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم فيهم:
" أولئك قطاع الطريق على عبادي "
هذا رجل يريد اصطيادكم واستتباعكم لتكونوا من أتباعه وأعوانه ومريديه، ويصدكم عن مذاهبكم ويطمع في أموالكم ومن ذا الذي يطيق أن يترك الدنيا بالكلية ويقطع عن أقاربه وأهاليه ويضيع أولاده ويعق والديه، وليس هذا طريق الحق وإنك لا تتم هذا الأمر ولا بد لك من الدنيا ما دمت تعيش وأمثال هذا حتى يميل ذلك المسكين من مدلول النصح في الإقبال على الله والإعراض عن الدنيا، وربما كان له هذا من خواطره الذميمة نية وهواجس نفسه الردية فيهلك ويضل { وقالوا ما هذآ } [سبأ: 43] يعني نصح هذا الناصح { إلا إفك مفترى } [سبأ: 43] لأغراض فاسدة { وقال الذين كفروا } [سبأ: 43] وجحدوا وأنكروا { للحق لما جآءهم } [سبأ: 43] على لسان أولياء الله وأهل الحق { إن هذآ إلا سحر مبين } [سبأ: 43].
وبقوله: { ومآ آتيناهم من كتب يدرسونها } [سبأ: 44] يشير إلى أنهم يعني هؤلاء المنكرين ما قرءوا في كتب أنزلناها هذا الإنكار والاعتراض وصد الطالبين عن سبيل الرشاد { ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير } [سبأ: 44] يعني: وما صحبوا شيخا كاملا قبل هذا ليميز بنور صحبته كذلك وافتراءك.
[34.45-49]
ثم يقول تعالى في تكذيبهم أهل الحق { وكذب الذين من قبلهم } [سبأ: 45] يعني من المنكرين { وما بلغوا } [سبأ: 45] يعني هؤلاء المنكرين { معشار مآ ءاتيناهم } [سبأ: 45] من الإنكار والجحود { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } [سبأ: 45] أي: اعتبروا بمن كان قبلكم من منكري المشايخ ومكذبي الرسل ما كان عاقبة إنكارهم إلا بحرمان في الدنيا عن مراتب الدين وفي الآخرة عذاب نار القطيعة { قل } [سبأ: 46] يعني للمنكرين { إنمآ أعظكم بواحدة } [سبأ: 46] وهي { أن تقوموا لله } لا بالهوى لكشف أحوال أهل الحق { مثنى وفرادى } أي: إذ سولت لكم أنفسكم تكذيبهم فأمعنوا النظر هل ترون فيهم آثار ما رميتموهم به من الكذب والافتراء وطبع المال والجاه { ثم تتفكروا } [سبأ: 46] جميعا فتعلموا { ما بصاحبكم من جنة } [سبأ: 46] كما ظننتم به { إن هو إلا نذير لكم } [سبأ: 46] بلسان ينطق بالحق { بين يدي عذاب شديد } [سبأ: 46] في الدنيا والآخرة لينجيكم عنه فالعذاب الشديد في الدنيا الجهل والنكرة والجحود والإنكار والطرد واللعن من الله وفي الآخرة هي الحسرة والندامة والخجلة عند السؤال، وفي بعض الأخبار إن غدا يسألهم الحق فيقع عليهم الخجلة يقولون عذبنا يا ربنا بما شئت من أنواع العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال.
ثم أخبر عن أمر الآخرة بقوله تعالى: { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } [سبأ: 47] يشير إلى أن من شرط دعوة الحق إلى الله أن تكون خالصة لوجه الله لا يشوبها طمع في الدنيا والآخرة، كما قال: { إن أجري إلا على الله } [سبأ: 47] وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد سألهم شيئا من الأجر ثم رده إليهم بقوله: فهو لكم، وأما ما سأل منهم ما أمره الله تعالى بقوله:
لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى
[الشورى: 23] ثم أمره بردها إليهم بقوله: ما سألتكم عليه من أجر إلا المودة في القربى فهو رد إليكم ليكون مودتهم خالصة لله ويكون أداء رسالتي خالصا لوجه الله { وهو على كل شيء } [سبأ: 47] يصدر مني ومنكم { شهيد } [سبأ: 47] يجازينا بحسب نيتنا وصدق عقيدتنا.
{ قل إن ربي يقذف بالحق } [سبأ: 48] على أفعال أهل الخلاف فيضمحل اجتراؤهم ويحيق بهم شؤم معاصيهم ويقذف بالحق إذا حضر أصحاب المعاني على ظلمات أصحاب الدعاوى فيحمل ما أنذرهم ويفتضحون في الحال ويفضح عوارهم، وذلك لأنه تعالى { علام الغيوب } ، وإنما ذكر الغيوب بلفظ الجمع؛ لأنه عالم بغيب كل واحد، وما في ضمير كل واحد، وأنه تعالى عالم بما يكون في ضمير أولاد كل أحد إلى يوم القيامة، وإنما قال علام بلفظ المبالغة ليتناول علمه معلومات الغيوب في الحالات المختلفة كما هي بلا تغير في العلم عند تغير المعلومات من حال إلى حال بحيث لا يشغله شأن حال عن حال { قل جآء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } [سبأ: 49] على مرور الأيام لا يريد الباطل إلا زهوقا والحق لا يزداد على ممر الأيام إلا قوة وظهورا.
[34.50-54]
وبقوله: { قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسي } [سبأ: 50] يشير إلى أن الضلالة منشؤها نفس الإنسان، فإذا وكلت النفس إلى طبعها لا يتولد منها إلا الضلالة وبقوله: { وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } [سبأ: 50] يشير إلى أن الهداية من مواهب الحق تعالى ليس نفسي منشؤها، ولذلك قال الله تعالى فيه
ووجدك ضآلا فهدى
[الضحى: 7] { إنه سميع } [سبأ: 50] من الأزل بمنطق كل ناطق وتسبيح كل مسبح من الناطقين والجمادات إلى الأبد، وهم في كتم العدم وفي حال وجودهم بحيث لا يشغله شأن من الناطقين والجمادات إلى الأبد، وهم في كتم العدم وفي حال وجودهم بحيث لا يشغله شأن سمع مسموع عن شأن سمع مسموع آخر بلا تغير سمعه عند تغير المسموعات { قريب } [سبأ: 50] بكل شيء وإن كان بعيدا منه، وقرب من ليس يقربه قرب { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } [سبأ: 51] أي: لو رأيت ذلك لرأيت منظرا فظيعا { وأخذوا من مكان قريب } [سبأ: 51] إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاشتغال.
{ وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش } [سبأ: 52] إذا تابوا وقد أغلقت الأبواب وندموا وقد تقطعت الأسباب فليس إلا الخسران والندم، ولات حين ندامة، كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يستفق من غفلته يتجاوز عنه مرة، ويعفى عنه كرة، فإذا استمكنت منه القسوة وتجاوز سوء الأدب حد الغفلة، وزاد على مقدار الكثرة؛ يحصل له من الحق رد، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يسمع له دعاء، ولا يرحم له بكاء، كم قيل:
فخل سبيل العين بعدك للبكا
فليس لأيام الصفاء رجوع
وبقوله { وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد } [سبأ: 53] يشير إلى خواصه يتمنون معارف الأسرار ومراتب الأحرار وهم بعد في أيدي كفار الأوصاف مأسورون وبقيود الحواس مقيدون، ولا يرمون الظنون الكاذبة ويردفون المعاني الصادقة { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [سبأ: 54] قال: " الدين ليس بالتمني " { كما فعل بأشياعهم من قبل } أي: كما فعل بطريق الحرمان باتكالهم من المتمنين المتقدمين الذين { إنهم كانوا في شك } في حقيقة هذا الأمر { مريب } لغير موقع في الريبة.
[35 - سورة فاطر]
[35.1-5]
{ الحمد لله فاطر السموت } [فاطر: 1] يشير إلى أن ذاته تعالى مستحق للمدح والثناء والشكر من الأزل إلى الأبد بحمد أزلي أبدي وهو حمده لذاته تعالى فهو الحامد والمحمود، كما قال: المراد فاطر خالق مبدئ معناه أول شيء تعلقت به القدرة سماوات الأرواح { والأرض } [فاطر: 1] أرض النفوس، ثم بقوله: { جاعل الملائكة رسلا } [فاطر: 1] يشير إلى أنه تعالى خلق الملائكة وخلق أرواح الإنسان وبقوله: { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } [فاطر: 1] يشير إلى كمالية استعداد بعضهم على بعض { يزيد في الخلق ما يشآء } [فاطر: 1] يشير إلى زيادة فيما خلق من الأرواح والملائكة وما يندرج تحت الخلقية، فإنه ذكر أشرف المخلوقات.
ثم قال { يزيد في الخلق ما يشآء } [فاطر: 1] يعني: يزيد في الخلق ما ليس الخلق وهو الفيض الإلهي وهو حقيقة الأمانة التي اختص الإنسان بحمدها، وأنه تعالى زاد في استعداد الإنسان حسن تقويم لقبول الفيض الإلهي على استعداد الملك، ولهذا أبين أن يحملنها وأشفقن منها ومن أكرم هاهنا فهذه الزيادة في خليقته يكرم غدا بتلك الزيادة التي قال تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالرؤية، وذلك لأن رؤية الله ليست من الخلق وليس للخلق استعداد رؤية الله.
كما قال تعالى:
لا تدركه الأبصر
[الأنعام: 103] بل بنور فيضه وهي مخلوقة الحسنى أي: الجنة وهي مخلوقة وزيادة يعني على المخلوق وهي من المواهب الإلهية بإفاضة الفيض الإلهي بحسب استعداد الخلق في قبولها { إن الله على كل شيء } [فاطر: 1] من الاستعدادات في قبول هذه الزيادة والإباء عنها { قدير } [فاطر: 1].
{ ما يفتح الله للناس من رحمة } [فاطر: 2] أي: من رحمة هذه الزيادة من الفيض { فلا ممسك لها } [فاطر: 2] من المخلوقات شيء { وما يمسك } [فاطر: 2] من رحمة هذا الفيض من الملك { فلا مرسل له } [فاطر: 2] يعني: من الفيض الإلهي { من بعده } [فاطر: 2] أي: بعد الله { وهو العزيز } [فاطر: 2] فبعزته أمسك فيضه ممن أمسك { الحكيم } [فاطر: 2] فبحكمته أرسل فيضه إلى من أرسل.
وبقوله: { يأيها الناس } [فاطر: 3] يشير إلى الناسين للأيام التي كانوا في جواره { اذكروا نعمت الله عليكم } [فاطر: 3] في ذلك الجوار فمن ذكر نعمته فصاحب عبادة وقابل زيادة ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة ومحبة ونائل زيادة ولكن فرقا بين زيادة وزيادة هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته في الدارين لقاؤه اليوم شرا بشر من حيث المشاهدة وغدا جهرا بجهر من حيث المعاينة والنعمة على قسمين: ما دفع من المحن، وما منح من المنن، فذكره عما دفع عنه يوجب دوام العصمة وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة.
{ هل من خالق غير الله يرزقكم } [فاطر: 3] يشير إلى أن الرزاق هو الخالق فحسب { يرزقكم من السمآء } [فاطر: 3] أي: من سماء الأرواح ماء الفيض { والأرض } أرض النفوس نيات الأعمال الصالحة وفائدة من هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يتعلق قلبه بأحد في طلب شيء ولا يتذلل للارتفاق بالمخلوق، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا فيتخلص عن ظلمات تدبيره واحتياله وتوهم شيء من أمثاله وأشكاله ويستريح بشهود تقديره ولا محالة يخلص في توكله وتفويضه.
وقوله: { لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } [فاطر: 3] يشير إلى أنه لما تحقق أنه ليس متصرف غيره فمن أين يكذبون الرسل إلا بحكمه وتقديره وله حكمة في ذلك وبقوله: { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } [فاطر: 4] يشير إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولأولياء أمته وتسهيل للصبر على الأذية إذا علم أن الأنبياء - عليهم السلام - استقبلهم مثل ما استقبله وإنهم لما صبروا والله كفاهم كذلك يسلك سبيلهم ويهتدي بهم وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه وليعلم أرباب القلوب أن حالهم مع الأجانب في هذه الطريقة كأحوال الأنبياء - عليهم السلام - مع السفهاء من أممهم فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل من أهل الإرادة، وقد كان أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذية إلا بسر حالهم عنهم والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من العباد المتقشفين والعلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.
وقوله: { وإلى الله ترجع الأمور } [فاطر: 4] يشير إلى أمر إقرار المقرين وإنكار المنكرين أنه ليس إليهم وأنه يرجع إلى تقدير عليم حكيم أنه يعلم بحال جميعهم وبحكمته يدبر أمورهم على وفق معيشته وإرادته.
ثم أخبر عن غرور أهل الفتور لقوله: { يأيها الناس إن وعد الله حق } [فاطر: 5] يشير إلى كل ما وعد به الله من الثواب والعقاب والدرجات في الجنة والدركات في النار والقربات في أعلى عليين وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر والبعد إلى أسفل سافلين حق، فإذا علم ذلك استعد للموت قبل نزول الموت ولا يهتم للرزق ولا يتهم الرب في كفاية الشغل ونشط في استكثار الطاعة ثقة بالمقسوم.
{ فلا تغرنكم الحياة الدنيا } [فاطر: 5] بزينتها وشهواتها فتقطع بهما على الطالب الصادق طريق الطلب من الرياضات والمجاهدات وترك الأوطان ومفارقة الإخوان { ولا يغرنكم } الشيطان وهو الغرور بالله وكرمه وعفوه وسعة رحمته، فإنه أكرم الأكرمين مع أهل الكرم، وشديد العقاب مع أهل العقاب والعذاب.
[35.6-9]
{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدو } [فاطر: 6] وعداوته بدوام مخالفته، فإن من الناس من يعاديه بالقول والقلب؛ ولكن يوافقه بالفعل بل يعبده فإن عبادة الشيطان هي طاعته، وهذا مما أخذوا عليه العهد يوم الميثاق بقوله:
ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين
[يس: 60] أي: لا تطيعوه فإن في طاعته مخالفتنا وفي مخالفته طاعتنا، وفي عداوته محبتنا ولا يقوى إلا بملازمة الذكر ودوام الاستعانة بالرب وتلك الاستعانة صدق الاستغاثة والشيطان لا يفتر في عداوتك فلا تغفل عن كيده بذكر مولاك لحظة، فإنه يدعوك على التأييد لتكون من حزبه.
كما قال تعالى: { إنما يدعوا حزبه } [فاطر: 6] وحزبه المعرضون عن الله المشتغلون لغير الله { ليكونوا من أصحاب السعير } { الذين كفروا لهم عذاب شديد } [فاطر: 7] بعذاب معجل وعذاب مؤجل فعجل تفرقة قلوبهم، وانسداد بصائرهم وخساسة أنفسهم حتى أنهم يرضون بأن يكون معبودهم الأصنام والهوى والدنيا والشيطان وعذاب الآخرة مما لا يخفى صعوبته
الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير
[هود: 11] في المعجل يستر ذنوبهم ولولا ذلك لافتضحوا بكشف الحجب، وفي المؤجل تمحى الذنوب عن ديوانهم ولولا ذلك لهلكوا، والأجر الكبير اليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة وما يناله في قلبه من زوائد اليقين وخصائص الإحسان وأنواع المواهب وفي الآخرة تحقيق السؤال ونيل ما فوق المأمول.
{ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } [فاطر: 8] يشير به إلى دركات الشقاء في الكافر يتوهم أن عمله حسن كما قال تعالى:
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف: 104] ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها ويحرس حطامها بمتابعة شهوة ساعة فلقد زين له سوء عمله والذي يؤثر على دينه شيئا من المخلوقات فهو من جملتهم والذي يتوهم أنه إذا وجد نجاته ودرجاته في الجنة فقد اكتفى فقد زين له سوء عمله فرآه حسنا، ومعنى الآية: فمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن زينت له الدنيا بحذافيرها والآخرة بنعيمها فرآها حسنا إلى قربات الحق ومواهبه قبيحا ولم يلتفت إليها أي: لا يستويان.
وبقوله: { فإن الله يضل من يشآء ويهدي من يشآء } [فاطر: 8] يشير إلى أنه ليس للإنسان اختيار حقيقي ليرى الحسن حسنا والقبيح قبيحا أو حسنا، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [فاطر: 8] يعني: إذا عرضت سر التقدير ومقتضى الحكمة وعلمت أنهم سقطوا من غير الله ودعوتهم جهرا وبذلت لهم نصحا فأجابتهم: ليس إليك ولا إليهم على الحقيقة فلا تضع على قلبك من ذلك مشقة وعناء { إن الله عليم بما يصنعون } [فاطر: 8] وإنما يصنعون بحكمة منه واختيار في ذلك.
وبقوله: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت } [فاطر: 9] يشير إلى أنه تعالى من سنته إذا أراد إحياء أرض يرسل الرياح فتثير سحابا ثم يوجه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد تخصيصا له كيف يشاء ويمطر هناك كيف يشاء كذلك إذا أراد إحياء قلب ما يسقيه وينزل عليه من أمطار عنايته فيرسل أولا رياح الرجاء ويزعج بها كوامن الإرادة ثم ينشئ فيه سحاب الاحتياج ولوعة الانزعاج، ثم يأتي بمطر الجود فينبت به في القلب أزهار البسط وأنوار الروح ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الأنس وذلك قوله: { فأحيينا به الأرض } [فاطر: 9] أرض القلب { بعد موتها } باستيلاء صفات النفس عليها { كذلك النشور } يوم الحشر.
[35.10-13]
وبقوله: { من كان يريد العزة } [فاطر: 10] يشير إلى أن الإنسان خلق ذليلا مهينا محتاجا إلى كل شيء ولا يحتاج شيء إلى شيء كاحتياج الإنسان إلى الأشياء كلها واحتياج كل شيء لشيء دون شيء إلا الإنسان والذلة قدر الحاجة، فمن ازدادت حاجته ازدادت مذلته { فلله العزة جميعا } لعدم احتياجه وكل شيء ذليل لاحتياجه إليه فلما كان احتياج الإنسان كاملا مكان ذله كاملا.
قال تعالى: { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } [فاطر: 10] أي: لا تطلب العزة من غير الله؛ لأنه ذليل أيضا لله فبقدر قطع النظر عن الأشياء وطلب العزة منه ينقص ذلة العبد ويزيد عزته إلى أنه لا يبقى له الاحتياج إلى غير الله ولا يزيل الاحتياج والافتقار إلى غير الله من القلوب إلا بنفي لا إله، وإثبات إلا الله، فبالنفي يقطع تعلقاته عن الكونين، وبالإثبات يتوجه بالكلية إلى الحق تعالى، فإذا لم يبق له تعلق ترجع حقيقة الكلمة إلى الحضرة، كما أن النار تستنزل من الفلك الأثير باصطكاك الحجر والحديد، ثم يوقد بها شجرة فالنار تأكل الشجرة وتفنيها من الحطيبة وتبقيها بالنارية إلى أن تفنى الشجرة بالكلية فلما لم يبق من وجود الحطب شيء ترجع النار إلى الأثير وهذا سر قول الله: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [فاطر: 10].
والعمل الصالح هو أركان الشريعة فأول ركن منها كمال استنزال نار نور الله من أثير الحضرة باصطكاك حديد " لا إله إلا الله " وحجر القلب القاسي فلما وقعت النار في شجرة الوجود الإنساني عمل العبد بركن من الأركان الخمسة التي بني الإسلام عليها، والأركان الأربعة الباقية هي العمل الصالح الذي يقلع أصل الشجرة من أرض الدنيا ويقطعها قطعا تستعد به لقبولها النار واشتعالها بالنار واحتراقها بها لتقع النار إلى أن تحترق الشجرة بالكلية، وترفع بالعبور عن الشجرة إلى أثير الحضرة ولما كانت الشجرة مشتعلة بتلك النار آنس موسى عليه السلام من جانب الطور نارا
فلمآ أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة
[القصص: 30] على لسان الشعلة:
إني أنا الله رب العالمين
[القصص: 30] تأمله تفهم إن شاء الله تعالى.
وقوله: { والذين يمكرون السيئات } [فاطر: 10] فيشير إلى الذين يظهرون الحسنات بالمكر ويخفون السيئات من العقائد الفاسدة؛ ليحسبوهم الخلق من العالمين الصادقين.
{ لهم عذاب شديد } [فاطر: 10] وشدة عذابهم في تضعيف عذابهم، فإنهم يعذبون بالسيئات التي يخفونها ويضاعف لهم العذاب بمكرهم في إظهار الحسنات دون حقيقتها، كما قال تعالى: { ومكر أولئك هو يبور } [فاطر: 10] أي: مكرهم يهلكهم.
وبقوله: { والله خلقكم من تراب } [فاطر: 11] يشير إلى أنكم أبعد شيء من المخلوقات إلى الحضرة؛ لأن التراب أسفل المخلوقات وكثيفها فإن فوقها ماء وهو الطبيعة، وفوق الماء هواء وهو ألطف من الماء وفوق الهواء الأثير وهو ألطف من الهواء، وفوق الأثير السماء وهي ألطف من الأثير ولكن لا تشبه لطافة السماء بلطافة ما تحتها من العناصر؛ لأن لطافة العناصر من لطافة الأجسام ولطافة السماء من لطافة الأجرام فالفرق بينهما أن لطافة الأجسام تقبل الخرق والالتئام ولطافة السماوات لا تقبل الخرق والالتئام إلا أن يشاء الله وفوق كل سماء ما هو ألطف منه إلى الكرسي وهو ألطف من السماوات وفوقه العرش وهو ألطف من الكرسي، وفوقه عالم الروح وهو ألطف من العرش ولكن لا تشبه لطافة الأرواح بلطافة العرش والسماوات؛ لأنها لطافة الأجرام فالفرق بينهما أن لطافة الأجرام قابلة للجهات الست، ولطافة الأرواح غير قابلة للجهات وفوقه الله
وهو القاهر فوق عباده
[الأنعام: 18] وهو ألطف من الأرواح ولكن لطافته لا تشبه لطافة الأرواح؛ لأن لطافة الأرواح نورانية علوية محيطة بما دونها إحاطة العلم بالمعلوم والله منزه عن هذه الأوصاف
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى: 11].
قوله: { ثم من نطفة } [فاطر: 11] أي: ثم خلقكم من نطفة، يشير إلى أنه خلقكم من أسفل المخلوقات وهي النطفة؛ لأن التراب نزل دركة المركب ثم دركة النباتية ثم دركة الحيوانية ثم دركة الإنسانية، ثم دركة النطفة، فهي أسفل سافلين المخلوقات، وهي آخر خلق خلقه الله من أصناف المخلوقات كما أن أصناف آخر شيء على الشجرة آخر شيء يخلقه الله تعالى وهو البذر الذي يصلح أن يؤخذ من الشجرة، فالبذر آخر صنف خلق من أصناف أجزاء الشجرة.
وقوله: { ثم جعلكم أزواجا } [فاطر: 11] يشير إلى ازدواج الروح والقالب، فالروح على أعلى مراتب القهر والقالب من أسفل دركات البعد، فبكمال القدرة والحكمة جمع بين أقرب الأقربين؛ ليكونا بالروح والفناء وأبعد الأبعدين ورتب للقالب على ظاهره الحواس الخمس وفي باطنه قوى البشرية ورتب للروح المدركات الروحانية؛ ليكون بالروح والقالب مدركا لعالم الغيب والشهادة.
وبقوله: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } [فاطر: 11] يشير إلى أن كل أنثى ووضع حملها إنما هو بتقديره وبعلمه بكيف وكيفية على وفق حكمته وإرادته { وما يعمر من معمر } إلا وله في تعميره إلى أجل يعمر بأمر حكمة بالغة { ولا ينقص من عمره } أي: من عمره التام { إلا في كتاب } [فاطر: 11] أي: الحكمة في تمام عمر من عمر عمرا تاما، وفي نقص من عمر عمرا ناقصا في أيام أم الكتاب الذي عنده لا يزيد فيه ولا ينقص { إن ذلك } [فاطر: 11] أي: في رعاية تلك الحكمة وإمضائها { على الله يسير }.
ثم أخبر عن تلون الإنسان في تكونه بقوله تعالى: { وما يستوي البحران } [فاطر: 12] يشير إلى بحر الروح { هذا عذب فرات } [فاطر: 12] أي: صفاته حميدة { سآئغ شرابه } [فاطر: 12] أي: جائز عند الخلق والخالق يعني مشروبه مقبول محمود { وهذا ملح أجاج } [فاطر: 12] أي: بحر النفس وصفاتها ذميمة { ومن كل تأكلون لحما طريا } [فاطر: 12] أي: من البحرين، أما من بحر الروح فلحمه الطري هو الواردات الربانية، وأما بحر النفس فلحمها الطري هي شهوات { وتستخرجون } [فاطر: 12] منه أي: من بحر الروح { حلية تلبسونها } [فاطر: 12] من شواهد الحق ومعارفه.
{ وترى الفلك فيه } [فاطر: 12] يعني سفينتي الشريعة والطريقة { مواخر } [فاطر: 12] تجري إحداهما وهي سفينة الشريعة من بحر الروح إلى بحر النفس فيها أعمال الأوامر والنواهي، وثانيهما وهي سفينة الطريقة تجري من بحر الروح إلى الحضرة فيها أعمال الأسرار والحقائق والمعاني { لتبتغوا من فضله } [فاطر: 12] وهو الوصول إلى الحضرة على قدمي الشريعة والطريقة { ولعلكم تشكرون } في طلب الزيادة.
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } [فاطر: 13] أي: يغلب نهار الروحانية على ليل البشرية وكذلك الفيض مرة يغلب على البسط على القبض وكذلك في الصحو والسكر وكذلك الفناء والبقاء وكذلك السر والتجلي وكذلك الأنس والهيبة { وسخر الشمس } [فاطر: 13] شمس التوحيد { والقمر } [فاطر: 13] قمر المعرفة على ما يريد إظهارها على القلوب { كل يجري } في مقامات القلوب والأرواح { لأجل مسمى } [فاطر: 13] لنهاية مقدرة.
{ ذلكم الله ربكم له الملك } [فاطر: 13] ملك القدرة على الوصول { والذين تدعون من دونه } [فاطر: 13] من العالمين { ما يملكون من قطمير } [فاطر: 13] من هذه المقامات والدرجات.
[35.14-18]
{ إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم } [فاطر: 14] إن استغثتم بهم لم يعينوكم وإن دعوتموهم لم يسمعوا دعاءكم { ولو سمعوا } على جهة ضرب المثل { ما استجابوا لكم } [فاطر: 14] لأنهم لا يملكون نفع أنفسهم فكيف يملكون نفع غيرهم، { ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14] ويؤمنون بحقيقة الإيمان حين لا ينفعهم الإيمان إذ صار الإيمان.
وقوله: { يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله } [فاطر: 15] يشير أن الاحتياج الحقيقي إلى ذات الله وصفاته مختص بالإنسان من بين سائر المخلوقات وإن كانت المخلوقات محتاجة إلى الله بأجمعها ولكنه تعالى ما شرف شيئا من المخلوقات بتشريف خطاب { أنتم الفقرآء } والله خلق الملائكة المقربين لأن الفقر على ثلاثة أوجه: فقر خلقة: وهو للعوام، وفقر صفة: وهو للخواص، وفقر كرم: وهو لأخص الخواص.
ففقر الخلق: عام لكل أحد ولكن حادث فقر من محدثه فالمخلوق مفتقر إلى خالقه في أول حاجة وجوده ليبديه وينشئه في الثاني من حال بقائه ليديمه ويقيمه ويحضر.
وأما فقر الصفة: فهو خاص وهو التجرد عن الدنيا وما فيها والتجرد عن الآخرة وما فيها متوجها إلى الله بكل وجوده فهو فقير عن صفاته المفتقرة إلى الكونين لفنائه بالله عن الكونين، وافتقاره إلى الله بدلا عن الكونين لافتقاره إلى الكونين ولكن يمكر بهما.
وأما فقر الكرم: فهو للأخص وهو التفرد عن الوجود بالجود واجب الوجود والتوحد به فهو الفقر الحقيقي عن عينه والفناء الحقيقي بالله بعينه فكان افتقار المخلوقات إلى أفعال الله وافتقار الإنسان إلى ذات الله وصفاته كمثل سلطان يكون له رعية وهو صاحب الجمال فيكون افتقار جميع رعاياه إلى خزائنه وممالكه ويكون افتقار عشاقه إلى ذاته وصفاته فيكون غني كل مفتقر بما يفتقر إليه فغنى الرعية يكون بالمال والملك وغنى العاشق يكون بمعشوقه.
وقوله: { والله هو الغني الحميد } [فاطر: 15] يشير إلى أنه تعالى غني عن كل مفتقر وأنه يغني كل مفتقر بما يفتقر إليه حتى يحمده عليه وتحقيقه أنه هو الغني المغني.
وقوله: { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [فاطر: 16] يشير إلى كمال غنائه واستغنائه عن غيره وتهديد لمدعي محبته وطلبه أي أنه لم يطلبوه حق الطلب يفنيكم ويأتي بخلق جديد في المحبة والطلب { وما ذلك } [فاطر: 17] أي: إفناؤكم { على الله بعزيز } [فاطر: 17] متعب ولا مستصعب.
ثم أخبر عن حمال الأثقال بقوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [فاطر: 18] يشير إلى أن لله تعالى في كل واحد من الخلق سرا مخصوصا وله مع كل واحد شأن آخر وكل مطالب بما حمل أن كل بذر ينبت نبات قد أودع فيه فلا يطالب بنبات بذر آخر لأنه لا يحمل إلا ما يحمل عليه { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } [فاطر: 18] من الطاعة والعصيان نورا وظلمة، فإذا آثر واحد منهما في جوهر الإنسان واتصف الجوهر بصفة النور أو بصفة الظلمة لا ينقل تلك النطفة من جوهر إلى جوهر إنسان آخر.
وقوله تعالى: { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [فاطر : 18] يشير إلى أن إنذارك إنما يؤثر في الذين لهم قلوب منورة بنور الإيمان وقلوبهم في الغيب يخشى من الله بذلك النور لعلمها بالله لقوله:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28] فمن لم يكن بهذه الصفة يكون قلبه ميتا لا يؤثر فيه الإنذار.
كما قال تعالى:
لينذر من كان حيا
[يس: 70] مع هذا جعل تأثير الإنذار مشروطا بشرط آخر وهو { وأقاموا الصلاة } في الشهادة ثم قال: { ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه } [فاطر: 18] أي: من تزكيت نفسه عن الصفات الذميمة وفائدة تزكية نفسه عائدة إلى نفسه لأنها بالتزكية عن صفاتها يستحق لتحليه بصفات الله إلى هذا أشار بقوله: { وإلى الله المصير } [فاطر: 18] يعني: إذا كان مصيره إلى الله لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة فقد زكي عن صفاته التي تتعلق بالدنيا وهي صفات النفس وعن صفاته التي تتعلق بالآخرة وهي صفات الروح فيتحلى بصفات النفس وعن صفاته التي تتعلق بالآخرة وهي صفات الروح لله تعالى.
[35.19-26]
قوله تعالى: { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحيآء ولا الأموات } [فاطر: 19-22] يشير إلى حقائق التخلية يعني قبل التزكية والتخلية كان أعمى فصار بصيرا وكان في الظلمات فصار في النور وكان في حرقة جهنم البعد فصار في ظل جنات القرب وكان ميتا فصار حيا { إن الله يسمع } [فاطر: 22] كلام { من يشآء } [فاطر: 22] بعد إحيائه بنور صفاته.
{ ومآ أنت بمسمع من في القبور } [فاطر: 22] يعني ميتا لم يحييه الله بنور صفاته { إن أنت إلا نذير } [فاطر: 23] ليس إليك الإحياء ولا الإسماع { إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير * وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير * ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير } [فاطر: 24-26] وباقي الآيات تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: { فكيف كان نكير } [فاطر: 26].
[35.27-31]
ثم أخبر عن آثار رحمته من ماء السماء بقوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } [فاطر: 27] يشير إلى أنه تعالى أنزل من سماء القدرة ماء الروح فأخرج به من أشجار الأشخاص ثمرات الأخلاق المختلفة ألوانها من أهل السعادة والشقاوة { ومن الجبال جدد } [فاطر: 27] أي: من جبال النفس أخرج الطريق وهي صفاتها ببعض صفة اطمئنانها { وحمر } [فاطر: 27] صفة لوامتها { وغرابيب سود } [فاطر: 27] صفة أماريتها.
ثم قال: { ومن الناس والدوآب والأنعام مختلف ألوانه } [فاطر: 28] جمع فيه صفات الروح وصفات النفس المشترك بين الإنسان والحيوان مع اختلاف أوصافهم، ثم قال كذلك أي: كاختلاف ما ذكرنا من الإنسان وأخلاقه { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر: 28] بحسب اختلافهم في العلم فمنهم من هو عالم بأحكام الله من أوامره ونواهيه فيكون خوفه من فوت الجنان وعذاب النيران، ومنهم من هو عالم بصفات الله من صفات اللطف والقهر فيكون خوفه من الحرمان عن مقامات القرب والخذلان إلى دركات البعد، ومنهم من هو عالم بالله بنور الله فخوفه يكون هيبة من ذاته تعالى. كما قال:
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران: 28] فبقدر مراتب العلم تكون مراتب الخوف كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا أعلمكم بالله وأخشاكم منه "
{ إن الله عزيز } [فاطر: 28] أن يعرفوه حق معرفته { غفور } [فاطر: 28] يغفر عجز العباد وقصورهم في معرفته { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة } [فاطر: 29] أي: ائتمروا بما في كتاب الله من الصلاة وغيرها.
{ وأنفقوا مما رزقناهم سرا } [فاطر: 29] أي: من علم الباطن { وعلانية } [فاطر: 29] أي: من علم الظاهر { يرجون تجارة لن تبور } [فاطر: 29] يعني خالصة لله مع الله بالله { ليوفيهم أجورهم } [فاطر: 30] بحسب أعمالهم وخلوص نياتهم { ويزيدهم من فضله } [فاطر: 30] ما يستحقونه وإنما يستحق كرمه به { إنه غفور } [فاطر: 30] يغفر تقصيرهم في العبودية { شكور } [فاطر: 30] يشكر سعيهم مع التقصير بفضل الربوبية.
وقوله: { والذي أوحينآ إليك من الكتاب } يشير إلى هذه المعاني المختلفة التي ذكرها إنه { هو الحق مصدقا لما بين يديه } [فاطر: 31] من الآيات التي تجئ بعده { إن الله بعباده } [فاطر: 31] من أهل السعادة وأهل الشقاوة { لخبير } [فاطر: 31] لأنه خلقهم { بصير } [فاطر: 31] بما يصدر منهم من الأخلاق والأعمال.
[35.32-35]
ثم أخبر عن أحوال أهل الشقاوة وأعمال أهل الشقاوة بقوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [فاطر: 32] يشير إلى إيراثهم الكتاب حيث علمهم القرآن بلا واسطة كما قال:
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2] وذلك قبل خلقهم؛ لأنه قال:
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان
[الرحمن: 1-3] أي: علمهم القرآن وهم بلا هم وهذا علم القرآن لسان الطيور ثم خلقهم؛ لأنه قال وعلمهم البيان قال
خلق الإنسان * علمه البيان
[الرحمن: 3-4] وهذا النوع من الإيراد مخصوص بهذه الأمة لأنه كما جاء في الخبر لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:
" أمتي ورب الكعبة ثلاث مرات "
وإنما ذكر بلفظ الميراث لأن الميراث يقتضي صحة النسب أو صحة السبب على وجه مخصوص، فمن لا سبب له ولا نسب ولا ميراث له فالسبب هاهنا طاعة العبد والنسب فضل الرب فأهل الطاعة هم أهل الجنة.
كما قال تعالى:
أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس
[المؤمنون: 10-11] فهم ورثوا الجنة بسبب الطاعة وأصل ارثهم بالسببية المبايعة التي جرت بينهم وبين الله بقوله:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة: 111] فهؤلاء أطاعوا الله بأنفسهم وأموالهم فأدخلهم الله الجنة جزاء بما كانوا يعملون وأهل الفضل هم أهل الله وفضله معهم بأن أورثهم المحبة والمعرفة والقربة.
كما قال
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54] إلى قوله:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[المائدة: 54] فمن لا سبب له ولا نسب فلا ميراث له ولما كانت الوراثة بالنسب والسبب، وكان السبب جنسا واحدا كالزوجية وهي صاحب الفرض وكان النسب من جنسين الأصول والفرع الأصول كالآباء والأمهات، والفرع كما يتولد من الأصول كالأولاد والإخوة والأخوات وأولادهم والأعمام وأولادهم وهم صاحب فرض وعصبة فصار مجموع الورثة ثلاثة أصناف صنف صاحب الفرض بالسبب وصنف صاحب الفرض بالنسب وصنف صاحب الباقي وهم العصبة كذلك الورثة هاهنا ثلاثة أصناف. كما قال تعالى: { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } [فاطر: 32] ثم نقول ولنا أن نجعل الأفضل منهم المقدم كما قدمه الله وهو الظالم لنفسه قدمه على السابق، ولنا أن نجعل الأفضل منهم الأخير وهو السابق فأما تقديم الظالم فبأنه قد ظلم على نفسه في البداية والوسط والنهاية لله وفي الله وبالله.
أما في البداية: فبأنه لما عرض الله تعالى الأمانة على السماوات وأهلها والأرض وأهلها والجبال وأهلها
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
[الأحزاب: 72] لأنه ظلم على نفسه لما قصد وضع الأمانة القديمة بحملها في غير موضعها، وهو محمل الإنسان الذي خلق ضعيفا ولهذا لما زلت قدم آدم عليه السلام من ثقل حمل الأمانة، قال:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23] أي: بحمل الأمانة الثقيلة وإنما
اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
[طه: 122] بعد زلة قدمه استحقاقا؛ لأنه لو لم يحملها لبقيت الأمانة غير محمولة، ولما كانت الحكمة في عرضها حملها فلو لم تحمل لكان الغرض لحملها عبثا وهل جناب القدس الإلهي أن يقع فعل من أفعاله عبثا فآدم عليه السلام إنما ظلم نفسه بحملها تاركا لحظوظه راغبا لحقوق الحق تعالى؛ لئلا يقع عرض الأمانة من الله عبثا فأبت المخلوقات أن تحملنها رعاية لحظوظ أنفسهم.
وقد ظلم الإنسان على نفسه رعاية لحقوق ربه، فلا جرم قدسه الله على الملائكة المقربين وأمرهم بسجوده لظلمه على نفسه إيثارا لربه، فثبت أن الظالم أولى بالتقديم، ولنا ظلمه في الوسط على نفسه، فبإعراضه عن الدنيا وترك زينتها على خلاف طبع نفسه ونهى نفسه عن هواها وفطامها عن شهواتها الحيوانية ومألوفاتها الإنسانية وتكليفها على الطاعات والعبادات، وتزكيتها عن أوصافها بالمجاهدات والرياضات وبتركها الأوطار والأوطان ومفارقتها عن الإخوان والأخدان ومهاجرتها عن الأهالي والبلدان ومقاساة الشدائد في الأسفار بالمشي على الأقدام وركوب الأهوال في البوادي والجبال والصبر في البلاء عند نزول القضاء وبذل الروح في محاربة الأعداء، وأمثال هذا مما يعالجون به أرباب الطلب وأهل الإرادة نفوسهم.
وأما ظلمه على نفسه في النهاية: فبالسعي في إنشاء صفاتها في صفات الروح ثم إفناء ذاتها في ذات الروح ثم إفناء ناسوتية الإنسانية في لاهوتية الربانية.
وهذا تحقيق قوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي
[الفجر: 27-30] ولما فعل بابن منصور سمع منه فلما أصغى إليه فهو يقول في مناجاته: إلهي أفنيت ناسوتيتي في لاهوتيتكم محوت نسوتيتي على لاهوتيتك إن ترحم على من سعى في قتلي وهذا غاية ظلم الظالم لنفسه ولهذا ذكر بلفظ المبالغة أنه كان ظلوما جهولا فثبت بهذه المعاني والحقائق أن الظالم لنفسه أحق وأولى بالتقديم، وأما الدليل على أفضلية السابق على الظالم لنفسه فبأن للسابق في سبقيته بداية ووسطا ونهاية، وله في هذه المراتب الثلاثة فضل على الظالم لنفسه، أما في البداية: فبأن له سبق العناية الأزلية بقوله تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
[الأنبياء: 101] يعني: في الأزل قبل خلقهم، وأما في الوسط: فبأن له سبقة في الخروج من العدم إلى الوجود في اتباع روح النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أول روح خرج من العدم إلى الوجود وأهل سبقة العناية متتابعين لروحه، وأما في النهاية: فبأن له سبقة في الرجوع إلى الحضرة على أقدام الخيرات.
كما قال تعالى: { ومنهم سابق بالخيرات } [فاطر: 32] وهذه الخيرات على قسمين: قسم مركب: من كسب العبد بتقديم الخيرات، وقسم: من فضل الرب بتواتر الجذبات إلى أن يسبق على الظالم لنفسه وعلى المقتصد بالسير بالله في الله، وإن كان مسبوقا بالذكر في الأخبار كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مسبوقا بالخروج في آخر الزمان للرسالة سابقا بالرجوع إلى الحضرة ليلة المعراج على جميع الأنبياء والرسل.
كما أخبر عن حال نفسه وحال سابقي أمته لقوله صلى الله عليه وسلم:
" نحن الآخرون السابقون "
الآخرون خروجا في عالم الصورة السابقون وصولا إلى عالم الحقيقة ولعل أنه يخطر ببال بعضهم أن الأفضلية إنما تكون في طرف واحد من طرفين طرف في الظالم والسابق، وقد أثبتها للطرفين فالجواب عنه أن التعدد إنما يكون في عالم الاثنينية وهو عالم القال، فمنهما يكون مصير كل واحد من الظالم لنفسه والسابق بالخيرات بإذن الله إلى عالم الوحدة قد ارتفعت الاثنينية قد بقيت الوحدة فلا فرق بين الظالم والسابق، فإن الظالم في حمل الأمانة قد سبقته العناية في حملها وللسابق في سبقه على غيره بالسير فالله قد أدركه الظلم على نفسه في حمل الأمانة فالظالم هاهنا هو السابق والسابق هو الظالم، كما قيل:
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتني
ولهذا كرر الله تعالى اسم السابق والسابق هو الظالم فقال:
والسابقون السابقون * أولئك المقربون
[الواقعة: 10-11] وذلك لأن الإنسان على ضربين سابق ولد سابقا وعاش سابقا ومات سابقا، وسابق ولد سابقا وعاش ظالما ومات سابقا فالمقدم من السابقين هم الذين عاشوا سابقين والمؤخر منهم هم الذين عاشوا ظالمين وماتوا سابقين، فكان اسم الظلم عليهم عارية إذ ولدوا سابقين وماتوا سابقين، فأما من ولد ظالما وعاش ظالما ومات ظالما من هذه الأمة فهو من أهل الكبائر الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم
" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "
فعلى هذا المقصد من مات على التوبة والسابق عاش في الطاعة ومات في الطاعة وهذا بلسان أهل الظاهر.
وأما بلسان القدم فالظالم السالك والمقتصد المجذوب والسابق المجذوب السالك فالسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه، وقوله تعالى: { ذلك هو الفضل الكبير } [فاطر: 32] الذي ذكر الظالم مع السابق في الإيراث والاصطفاء ودخول الجنة، ومن دقائق حكمته أنه تعالى ما قال في هذا المعرض ذلك هو الفضل العظيم؛ لأن الفضل العظيم الكبير جنات عدن، وهي أدنى الجنان إلى الحضرة يدخلونها بفضل الله، وذلك أنه تعالى لما ذكرهم أصنافا ثلاثة رتبها ولما ذكر حديث الحسن والنعم والتزين فيها ذكرهم على الجميع { جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } [فاطر: 33] نبه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضل، وليس في الفضل تمييز فيما يتعلق بالنعمة دون ما يتعلق بالغم؛ لأن في الخيرات من أهل الجنة من يرى الله سبحانه في كل جمعة بمقدار أيام الدنيا مرة فهو مقام الظالم ومنهم يراه في كل يوم مرة وهو مقام المقتصد، ومنهم من هو غير محجوب عنه لحظة وهو مقام السابق وهذا المعنى معنى الجزء مع تفاوت الألفاظ.
{ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } والحزن سمي حزنا لحزون الوقت على صاحبه وليس في الجنة وهي بالحق حزونه وإنما هو رضا واستبشار، { إن ربنا لغفور } للظالم لنفسه { شكور } للمقتصد والسابق، وإنما قدم ما للظالم رفقا بهم لضعف أحوالهم وبقوله: { الذي أحلنا دار المقامة من فضله } [فاطر: 35] كشف القناع عن وجه الأحوال كلها أن الظالم والمقتصد والسابق، فدخل كل واحد منهم في مقام أحله الله فيه عن فضله لا بجهده وعمله، وإن الذي أدخله الجنة جزاء بعمله فتوفيقه للعمل أيضا من فضل الله، وهذا حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم:
" قبل من قبل لا لعلة ورد من رد لا لعلة ".
{ لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب } [فاطر: 35] في نيل مرادنا وقضاء حوائجنا حتى إذا أرادوا أن يروا ربهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة وانتظام وقت؛ بل هم في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاما، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة في جهة يرونه كما هم بلا كيفية كل وقت صفت لهم إرادة الرؤية لقوله:
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
[الزخرف: 71].
[35.36-38]
ثم أخبر عن من لا نسب له ولا سبب بقوله تعالى: { والذين كفروا لهم نار جهنم } [فاطر: 36] يشير إلى من سر صفاء القلب ونور الروح الفطري بظلمات صفات البشرية يعذب بنار البعد والقطيعة، { لا يقضى عليهم } [فاطر: 36] بالموت { فيموتوا } [فاطر: 36] بالأرواح والنفوس { ولا يخفف عنهم من عذابها } [فاطر: 36] عذاب البعد والقطيعة { كذلك نجزي كل كفور } [فاطر: 36] بستر نعمتنا بالكفران { وهم يصطرخون فيها } [فاطر: 37] تستغيث أرواحهم في نار البعد يقولون: { ربنآ أخرجنا } [فاطر: 37] من ظلمات البشرية { نعمل صالحا } [فاطر: 37] تصفية للقلب وتحلية للروح { غير الذي كنا نعمل } [فاطر: 37] من متابعة الهوى والطبع ومخالفات الشرع يقول لهم منادي العزة: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } [فاطر: 37] أي: لم تبلغوا حد البلاغة التي تفتح بها نظر العقل فينظروا بنظر العقل إلى المصنوعات فيعرفوا صانعها.
{ وجآءكم النذير } [فاطر: 37] أي: وما جاءكم النذير فيدعوكم إلى الله ويخوفكم منه فإذا لم تستعملوا العقل ولم تسمعوا قول نذير الظاهر من الأنبياء وقول نذير الباطن من الإلهامات الربانية وما رجعتم بالقلوب إلى الحضرة المقدسة، { فذوقوا } [فاطر: 37] عذاب نار البعد الذي كنتم معذبين به ولكن كنتم نائمون فما ذقتم ذوق العذاب { فما للظالمين } على أنفسهم بصرف الاستعداد لعبودية الحق تعالى في غير موضعه من عبودية الدنيا والهوى والشيطان { من نصير } يغيثه منهم { إن الله عالم غيب السموت } [فاطر: 38] سماوات القلوب { والأرض } [فاطر: 38] أرض النفوس، { إنه عليم بذات الصدور } [فاطر: 38] أي: عالم بإخلاص المخلصين وصدق الصادقين وهما من غيب سماوات القلوب وعالم بنفاق المنافقين وجحد الجاحدين وهما من غيب أرض النفوس ومجمع الجميع الصدور.
[35.39-45]
وقوله: { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } [فاطر: 39] يشير إلى أن كل واحد من الأفاضل والأراذل خليفة من خلفائه في أرض الدنيا والأفاضل يظهرون جمال صفاته في مرآة أخلاقهم الربانية وهو سبحانه يتجلى بذاته وجميع صفاته بمرآة قلوب الصادقين منهم؛ لتكون مرآة قلوبهم لجمال صفاته وجلال ذاته مظهره، والأراذل يظهرون جمال صنائعه وكمال بدائعه في مرآة حرفهم وصنعة أيديهم ومن خلافتهم أن الله تعالى استخلفهم في خلق كثير من الأشياء كالخبز، فإنه تعالى يخلق الحنطة بالاستقلال، والإنسان بخلافته يطحنها ويخبزها، وكالثوب فإنه تعالى يخلق القطن والإنسان يغزله وينسج منه الثوب بالخلافة.
وبقوله: { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة } [فاطر: 45] يشير إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجبه المؤاخذة ولكن الله بفضله ورحمته { يؤخرهم إلى أجل مسمى } [فاطر: 45] فإذا جاء أجلهم { فإن الله كان بعباده بصيرا } [فاطر: 45] يؤاخذ به من يكون عنده من أهل المؤاخذة، ويعفو عمن هو أهل للعفو.
[36 - سورة يس]
[36.1-10]
{ يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم } [يس: 1-4] يشير إلى سيادة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أنه ما بلغ أحد من المرسلين إلى رتبته في السيادة، وذلك أنه تعالى أقسم بالقرآن الحكيم أنه لمن المرسلين على صراط مستقيم إلى قاب قوسين من القرب أو أدنى أي: بل أدنى من كمال القرب، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
فإن لكل نبي مرسل كان يسير إلى مقام معين على صراط مستقيم هو صراط الله.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ليلة المعراج رأى في كل سماء بعض الأنبياء حتى قال: رأيت موسى عليه السلام في السماء السادسة، ورأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة، وقد عبر عنهم إلى كمال رتبته ما بلغ أحد من العالمين إليها وإنما قال: { والقرآن الحكيم }؛ لأنه منبع كل حكمة ومعدن كل عظة.
وقوله: { تنزيل العزيز الرحيم } [يس: 5] يشير إلى أن القرآن تنزيل من عزيز غني لا يحتاج في تنزيله لعلة بل هو رحيم اقتضت حكمته تنزيل القرآن فإنه حبل الله ليعتصم به الطالب الصادق ويصعد إلى سرادقات عزته وعظمته.
وقوله: { لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون } [يس: 6] يشير إلى أنا خصصناك بإنذار قوم { مآ أنذر آبآؤهم } [يس: 6] منذ عيسى عليه السلام وقد حصلوا في أيام الفترة لتنذرهم بهذا القرآن فإنه هادي العباد إلى سبيل الرشاد.
وقوله: { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } [يس: 7] يشير إلى القول الذي صدر منه في الأزل لخلق الموجودات.
كما قال تعالى:
إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون
[النحل: 40] كما أردناه فحق ذلك القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون على وفق إرادتنا، { إنا جعلنا في أعناقهم } [يس: 8] بالتقدير في الأزل { أغلالا } [يس: 8] من الأحكام الأزلية في صورة المواقع من الإيمان { فهى } يعني: المواقع { إلى الأذقان فهم مقمحون } [يس: 8] فيما قدرنا لهم { وجعلنا من بين أيديهم } [يس: 9] في الأزل { سدا } من العزة بينهم وبين الإيمان { ومن خلفهم } إلى الأبد { سدا فأغشيناهم } بظلمة البشرية { فهم لا يبصرون } [يس : 9] طريق السداد وسبيل الرشاد.
وبقوله: { وسوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [يس: 10] يشير إلى أن أحاط بهم سرادقات الشقاء وتمادى بهم إلى تعاطي الجفاء وسد بين أيديهم وخلفهم سدا أنواع البلاء كيف يصبح فيهم الإنذار وينجيهم النصح من عذاب النار.
[36.11-15]
{ إنما تنذر من اتبع الذكر } [يس: 11] بالمداومة عليه { وخشي الرحمن بالغيب } [يس: 11] يعني: بنور غيبي يشاهد وخاصة عاقبة الكفر والعصيان ويتحقق عنده بشواهد الحق كماليته حلاوة الإيمان ورفعة رتبة العرفان { فبشره } [يس: 11] أنهم استوجبوا { بمغفرة } [يس: 11] منه خالصة { وأجر كريم } [يس: 11] يناسب كرمه.
ثم أخبر عن إنعامه العميم وأجره الكريم بقوله تعالى: { إنا نحن نحيي الموتى } [يس: 12] أي: نحيي قلوبا ماتت بالقسوة بماء يمطر عليها من ضروب الإقبال والزلفة، { ونكتب ما قدموا } [يس: 12] من الأنفاس المتصاعدة ندما على ما فرطوا فيه أو شوقا إلى لقائنا { وآثارهم } [يس: 12] خطأ أقدام صدقهم على بساط التقرب إلينا وتزرف دموعهم على عرصات خدودهم { وكل شيء } [يس: 12] مما يتقربون به إلينا { أحصيناه في إمام مبين } [يس: 12] ثبتنا آثاره وأنواره في لوح محفوظ قلوب أحبابنا.
وقوله: { واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جآءها المرسلون } [يس: 13] إلى قوله:
فإذا هم خامدون
[يس: 29] يشير إلى أصناف ألطافه مع أحبابه وأنواع قهره مع أعدائه منها ضرب مثلا لأصحاب قرية القلوب { إذ جآءها المرسلون } [يس: 13] من ألطافه كرة بعد مرة، { إذ أرسلنآ إليهم اثنين } [يس: 14] رسولين من الخواطر الروحانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور وللإنابة إلى دار الخلود، { فكذبوهما } [يس: 14] النفس وصفاتها { فعززنا بثالث } [يس: 14] من الجذبة { فقالوا إنآ إليكم مرسلون * قالوا } [يس: 14-15] أي: النفس وصفاتها { مآ أنتم إلا بشر مثلنا } [يس: 15] أي: ما أنتم إلا الخواطر البشرية { ومآ أنزل الرحمن من شيء } [يس: 15] أي: من خاطر الإلهام والجذبة { إن أنتم إلا تكذبون } [يس: 15] بالانتماء إلى الحضرة.
[36.16-27]
{ قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون * وما علينآ إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم } [يس: 16-18] وذلك أن الإلهام والجذبة يقويان القلب وصفاته ويذيبان النفس وصفاتها ويمنعان النفس عن استيفاء شهواتها والبلد بلدتنا الدنيا فلهذا أنشأ النفس وصفاتها بهؤلاء المرسلين { قالوا طائركم معكم } أي: جاء هذا الشؤم معكم لا من العدم.
كما قال تعالى:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه
[الإسراء: 13] وهو بعد في العدم { أئن ذكرتم } علمتم هذا التحقيق وتيقنتم { بل أنتم قوم مسرفون } أيتها النفس وصفاتها في موافقة الطبع ومخالفة الحق تعالى، { وجآء من أقصا المدينة رجل يسعى } [يس: 20] يشير إلى صفة الروح المشتاق إلى جمال الحق تعالى.
{ قال يقوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا } [يس: 20-21] أي: لا مشرب لكم من مشاربكم { وهم مهتدون } [يس: 21] إلى الحق تعالى { وما لي لا أعبد الذي فطرني } [يس: 22] به يشير إلى كلام الروح وذلك لأنه أول خلق فطره الله تعالى بأمر كن لا من شيء أي: كيف بي ألا أعبد من خلقني قبل كل شيء فكتب لعبده في عالم الأرواح قبل خلق الأجسام بألفي عام ولم يكن لي شريك في العبودية كما لم يكن له شريك في الألوهية { وإليه ترجعون } [يس: 22]
يأيتها النفس
[الفجر: 27] وصفاتها بقوله:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] ومن كلام الروح، { أأتخذ من دونه آلهة } [يس: 23] من الدنيا والهوى والشيطان.
{ إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } [يس: 23] { إني إذا } [يس: 24] بعبادة غير ربي { لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون } [يس: 24-25] فأجيبوا لي وآمنوا بربكم، وإنما قال: آمنت بربكم وما قال آمنت بربي ليعلموا أن ربهم هو الذي يعبده فيعبدوا ربهم؛ ولذا قال: آمنت بربكم؛ لعلهم يقولون: أنت تعبد ربك ونحن نعبد ربنا وهو آلهتهم.
قوله: { قيل ادخل الجنة } [يس: 26] يشير إلى أن الروح بالجذبة الإلهية يجذب إلى الحضرة قبل النفس وصفاتها والنفس حين تتشرف بتشريف الجذبة قيل لها أولا:
فادخلي في عبادي
[الفجر: 29] وهي عبارة عن عالم الأرواح، ثم قيل لها:
وادخلي جنتي
[الفجر: 30]، ومن كلام الروح { قال يليت قومي } [يس: 26] وهم النفس وصفاتها { يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } [يس : 26-27] لم يرغبوا في نعيمها ويرغبوا عن الدنيا وشهواتها فإنها جحيمها.
[36.28-35]
وقوله: { ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء } [يس: 28] يشير إلى أنه فاتها بعد رجوع الروح إلى الحضرة وما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقعدون على إصلاح حالهم فإن صلاح النفس في موتها والمميت هو الله، { وما كنا منزلين } [يس: 28] يعني: الملائكة في إماتتهم { إن كانت إلا صيحة واحدة } من وارد الحق { فإذا هم } [يس: 29] يعني: النفس وصفاتها { خامدون } ميتون عن أنانيتهم بهويته.
ثم أخبر عن حسرة أهل الغرامة يوم القيامة، وبقوله: { يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } [يس: 30] يشير إلى أن للعباد موضع التحسر إن لم يتحسروا اليوم وذلك لانخراطهم كلهم في سلك واحد من التكذيب ومخالفة الرسل والاستهزاء بهم ومنافاة أولياء الله سبحانه، كما غلبت هذه الخصال الرديئة على أهل زماننا هذا الذين يسمعون القول من المحققين فيتبعون أقبحه ويقعون في أولياء الله ويستهزءون بهم وبكلماتهم المستحسنة إلا من شاء الله به خيرا من أهل النظر وأدب بأدب الإرادة وقليل ما هم فهددهم الله عز وجل بقوله: { ألم يروا } [يس: 31] يعني: هؤلاء الغفلة الجهلة. { كم أهلكنا قبلهم من القرون } [يس: 31] الماضية وما عاملنا قبلهم من الأمم الخالية { أنهم إليهم لا يرجعون } [يس: 31] كلهم في قبضة القدرة لم يعننا أحد { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } [يس: 32] ولم يكن لواحد منهم علينا عون ولا مدد ولا عن حكمنا ملتحد فيه إشارة أخرى وهي أن الله سبحانه جعل هذه الأمة آخر الأمم فضلا منه وكرما ليعتبروا هؤلاء بأفاضلهم وأراذلهم وما جعلهم عبرة لأمة أخرى، وأنه تعالى قد شكا لهم كل أمة، وما شكا إلى أحد من غيرهم شكايتهم.
وقوله: { وآية لهم الأرض الميتة } [يس: 33] يشير إلى القلب الميت { أحييناها وأخرجنا منها حبا } [يس: 33] وهو الطاعة والعبادة، { فمنه يأكلون } [يس: 33] فإنها غذاء الأرواح { وجعلنا فيها جنات من نخيل } [يس: 34] نخيل الأذكار، { وأعناب } [يس: 34] من أعناب الأشواق { وفجرنا فيها من العيون } [يس: 34] عيون الحكمة، { ليأكلوا من ثمره } [يس: 35] وهي المكاشفات والمشاهدات فإن المجاهدات تورث المشاهدات { وما عملته أيديهم } [يس: 35] من الصدقات والخيرات { أفلا يشكرون } [يس: 35] نعم الله الظاهرة والباطنة.
[36.36-40]
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها } [يس: 36] من الآباء العلوية والأمهات السفلية بازدواج الكاف والنون { مما تنبت الأرض } [يس: 36] أرض البشرية { ومن أنفسهم } [يس: 36] بازدواج الروح والقالب، { ومما لا يعلمون } [يس: 36] من تأثير نظر العناية في قلوب عباده المخلصين لهم منا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، { وآية لهم اليل } [يس: 37] ليل البشرية { نسلخ منه النهار } [يس: 37] الروحانية { فإذا هم مظلمون } [يس: 37] بظلمة الخلقية فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليه من نوره، { والشمس } [يس: 38] أي: شمس نور الله { تجري لمستقر لها } [يس: 38] وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله ذلك المستقر { ذلك تقدير العزيز } [يس: 38] الذي لا يهتدي إليه أحد إلا به { العليم } [يس: 38] الذي يعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله: { والقمر قدرناه منازل } [يس: 39] يشير إلى صفة قمر القلب فإن القلب كالقمر في استفادة النور من الشمس بالروح أولا ثم من شمس شهود الحق تعالى وله ثمانية وعشرون منزلا على حسب حروف القرآن، كما أن للقمر ثمانية وعشرون منزلا فالقلب ينزل كل حين منها بمنزل وهذه أسماؤها: الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والغيرة والفتوة والقربة والكثرة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين، فإذا صار إلى آخر منازله فقد تخلق بخلق القرآن واعتصم بحبل الله وله أوان أن يعتصم بالله، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في قطع منازل العبودية:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99].
ويقال للمؤمنين في الجنة: " اقرأ وارتق " يعني: اقرأ القرآن وارتق مقامات القرب وبقوله: { حتى عاد كالعرجون القديم } [يس: 39] يشير إلى سير قمر القلب في منازله فإذا ألف الحق تعالى في أول منزل ثم بر بالإيمان والعمل الصالح، ثم تاب وتوجه إلى الحضرة، ثم ثبت على ذلك التوجه جعل له الجمعية مع الله فيستنير قلبه بنور ربه حتى يصير بدرا كاملا، ثم يتناقص بدنوه من شمس شهود الحق تعالى قليلا قليلا كلما ازداد بدنوه من الشمس ازداد في نفسه نقصانا إلى أن يتلاشى ويخفى ولا يرى لها أثرا وهذا مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" الفقر فخري "
لأنه صلى الله عليه وسلم كلما ازداد دنوه إلى الحضرة ليلة المعراج ازداد في فقره من الوجود.
كما أخبر الله تعالى عنه بقوله:
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 8-9] ذكر هاهنا فقرة إلى الوجود فوجده الله عائلا عن وجوده فأغناه بجوده وبقوله: { لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر } [يس: 40] يشير إلى أن القمر عند تلاشي وجوده وفقره عن الوجود وإن كانت الشمس تغنيه بجودها وتنور القمر شمسا والشمس قمرا فكذلك قمر القلب متوجه إلى شمس الحق تعالى يتنور بنورها.
لا تدرك القمر ليصير القمر، { ولا اليل سابق النهار } [يس: 40]؛ ليكون نهارا؛ يعني: لا يصير القمر شمسا ولا الشمس قمرا، فكذلك القلب بتوجهه إلى شهود الحق تعالى بتنورها، كما قال تعالى: { وأشرقت الأرض بنور ربها } [الزمر: 69]، ولكنه لا يصير الرب تعالى عبدا ولا العبد ربا.
{ وكل في فلك يسبحون } [يس: 40]، فالرب تعالى يسبح في فلك الربوبية، والعبد في فلك العبودية، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، من أصحاب الحلول وأرباب الفضول.
[36.41-50]
ثم أخبر بعد السير في الفلك بقوله تعالى: { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } [يس: 41]، يشير إلى حمل عباده في سفينة الشريعة خواضهم في بحر الحقيقة، دعواتهم في بحر الدنيا، فإن من نجا من تلاطم أمواج الهوى في بحر الدنيا، إنما نجا بحمله العناية في سفينة الشريعة، وكذلك من تلاطم أمواج الشبهات في بحر الحقيقة بحمله عواطف إحسان ربه في سفينة الشريعة، بملاحية أرباب الطريقة.
{ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [يس: 42] وهو جناح من المشايخ الواصلين الكاملين، { وإن نشأ نغرقهم } [يس: 43] يعني: العوام في بحر الدنيا، والخواص في بحر الحقيقة بكسر سفينة الشريعة كما ركب كثير من المتمنين بحر الحقيقة بلا سفينة الشريعة، أو كسروا الشريعة أغرقوا فأدخلوا نارا { فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين } [يس: 43-44]، وهم المشايخ، فإنهم صورة رحمة الحق تعالى، { ومتاعا إلى حين } أي: حين تدركهم العناية الربانية.
{ وإذا قيل لهم اتقوا } [يس: 45]، احذروا { ما بين أيديكم } [يس: 45] من الدنيا وما فيها من شهواتها ولذائذها، { وما خلفكم } [يس: 45] من الآخرة وما فيها من نعيمها وحورها وقصورها وأشجارها وأثمارها وأنهارها، وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فيها { لعلكم ترحمون } [يس: 45] بمشاهدة الجمال ومكاشفة الجلال وكمالات الوصال.
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } [يس: 46]، وهم الرجال البالغون الكاملون في الدين من أرباب الحقيقة وأهل اليقين { إلا كانوا عنها معرضين } [يس: 46]، هذا حال المسيئين في أودية الخذلان الموسومين بسمة الحرمان، فلا يأتيهم منه آية من آيات الله؛ لينجيهم من بحر الغفلة ويريحهم من تيه الحيرة إلا قابلوه بإعراضهم ونازعوه باعتراضهم.
{ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } [يس: 47]، من الأموال والأهالي في طلب الحق تعالى بالتجريد والتفريد، { قال الذين كفروا للذين آمنوا } [يس: 47] به: { أنطعم } [يس: 47]، من أموالنا { من لو يشآء الله أطعمه } [يس: 47] خيرا من أموالنا، { إن أنتم إلا في ضلال مبين } [يس: 47] في طلب الحق وترك الدنيا، بل هذا قول الرجال البالغين لهؤلاء الذين لعب بهم الشيطان وأضلهم عن سبيل الرشاد، { إن أنتم إلا في ضلال مبين } [يس: 47]، في طلب الدنيا وترك لقاء المولى، ومن غاية ضلالتهم وفرط جهالتهم، { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [يس: 48]، يستعجلون تخوم الساعة ويستبطئون قيام القيامة، لا عن تصديق يزيحهم عن شكهم، أو خوف يمنعهم عن غيهم، ولكن تكذيبا لدعوة الرسل، وإنكارا على أوضح السبل، واستبعادا للنشر والحشر.
قال الله تعالى: { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون } [يس: 49]، بإنكار النشر والحشر أهل الإقرار به، { فلا يستطيعون توصية } [يس: 50] أي: توصية بعضهم بعضا في ترك الخصومة { ولا إلى أهلهم يرجعون } [يس: 50] للاستبصار.
[36.51-59]
{ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } [يس: 51] يشير إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب، وإذا السر والروح والخفى من أحداث أوصاف البشرية إلى نفخ إسرافيل وهم يرجعون بعضهم بالسير وبعضهم بالطير، { قالوا يويلنا } [يس: 52] أي: من رقادنا في الغفلة { من بعثنا من مرقدنا } [يس: 52] غير فضل الله وكرمه، { هذا ما وعد الرحمن } [يس: 52] من كمال رحمته { وصدق المرسلون } [يس: 52] فيما بلغوا من ألطاف الحق تعالى، { إن كانت إلا صيحة واحدة } [يس: 53] يشير إلى جذبة واحدة، { فإذا هم جميع لدينا محضرون } [يس: 53] بالخروج من لدنهم والغيبة عنهم.
{ فاليوم لا تظلم نفس شيئا } [يس: 54] من استحقاقها وما هي مستعدة لقبوله، { ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } [يس: 54]، فمن عمل للدنيا يجزى من الدنيا، ومن عمل للآخرة يجزى منها، ومن عمل لله يجزى عواطف حسانه وشواهد سلطانه.
ثم أخبر عن أهل الجنان وأرباب الجنان بقوله تعالى: { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } [يس: 55] وفيه إشارة:
منها: إنه لما كان الغالب عليهم طلب الجنة والأخذ بمجامع قلبهم أمرها: أضيفوا إليها، قيل لهم: إن أصحاب الجنة كما أنه من الغالب عليه طلب الدنيا، وهو في أسرها أضيف إليها، وقيل له: صاحب الدنيا.
ومنها: إنه لما كانت هممهم مقصورة على طلب الجنة شغلهم الله بالفاكهة مع أزواجهم عن طلب الله دون المعاشقة عند المشاهدة والمعاينة، وهو قوله: { هم وأزواجهم في ظلال على الأرآئك متكئون } [يس: 56] أي: يكونوا متكئين على هذه الحالة وهذه الأحوال، وإن جلت عنهم بالنسبة إلى أصحاب الجحيم، ولكنها بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر من الملوك والسلاطين، الذين هم أهل الله وخاصته يتقامرون.
وعلى هذا يدل قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن أكثر أهل الجنة البله "
، عن بعض أرباب النظر أنه كان واقفا على باب الجامع يوم الجمعة، والخلق قد فرغوا من الصلاة وهم يخرجون عن الجامع، قال: " هؤلاء حشر الجنة " ، وللمجالسة أقوام آخرون، ومن كان في الدنيا عن الدنيا حرا فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حرا،
يختص برحمته من يشآء
[البقرة: 105]، ولعل يكون هذا الخطاب لأقوام فارغين عن الالتفات إلى الكونين مراقبين للمشاهدات، الذين قال الله فيهم:
فإذا فرغت
[الشرح: 7] بعني: عن تعلقات الكونين
فانصب
[الشرح: 7]؛ أي: اطلب الحق تعالى:
وإلى ربك فارغب
[الشرح: 8]، فيقول لهم: { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } [يس: 55] { وأزواجهم } [يس: 56] أي: أشكالهم، فارغبوا أنتم إلي واشتغلوا بي، وتنعموا بنعيم وصالي، وتلذذوا لمشاهدة جمالي، وتصدروا بطالعة جلالي.
وقيل: قرئ عند الشبلي قوله: { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون... } [يس: 55] الآية، فشهق شهقة وغاب فلما أفاق قال: فإنهم مساكين لو علموا أنهم عما شغلوا لهلكوا.
ومنها: { إن أصحاب الجنة } ، يعني: في الدنيا { في شغل فاكهون } بأنواع الطاعات والعبادات عن طلب الحق والشوق إلى لقائه كانوا يطلبون منه، وما كانوا يطلبون كما روي عن يحيى بن معاذ أنه قال: رأيت رب العزة في منامي، فقال لي: يا معاذ كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد، فإنه يطلبني.
وروي عن أبي يزيد أنه قال: رأيت ربي في المنام، فقال لي: يا أبا يزيد أنا بدك اللازم فالزم بدك.
فاعلم أن كل مطلوب يوجد في الآخرة أنه ثمرة بذر طلبه في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" يموت الناس على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه ".
ومنها: يجود كمال كرمه أنه تعالى يخاطب بهذا الأقوام من عصاة الموحدين، وهم في العرصات بعد لم يدخلوا الجنة، فيقول الحق تعالى لهم:
يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
[الزمر: 53] إن كان أهل النار لا يتفرغون إليكم لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنكم في لذاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهاليهم وأشكالهم، فليس لكم اليوم إلا أنا من فرط كرمي ورحمتي، فيدعون منه السلامة عن النار برحمته، ودخول الجنة بكرمه، فيعطي سؤلهم ويبذل مأمولهم، وذلك تحقيق قوله: { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم } [يس: 57-58].
ومنها: إن لله عبادا استخصهم للتخلق بأخلاقه في سر قوله:
" كنت له سمعا وبصرا فبي يسمع وبي يبصر "
، فلا يشغلهم شأن اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم عن شأن شهود مولاهم في الجنة، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته بأي حال من حالاتهم، ولا يقدح اشتغالهم باستيفاء حظوظهم من معارفهم، ويقول: { سلام قولا من رب رحيم } [يس: 58]، يشير إلى أن سلامه تبارك وتعالى كان قولا منه بلا واسطة وأكده بقوله: { من رب } ليعلم أنه ليس سلام على لسان سفيره، وقوله: " من رحيم " فالرحمة في تلك الحالة أنه يرزقهم الرؤية في حال ما تسلم عليهم؛ ليكمل لهم النعمة.
وإشارة أخرى أن السلام من الرب الرحيم لو لم يكن صادرا عند تجليه جل جلاله لأهل الجنة لتلاشت من سطوة جلاله الجنة وما فيها، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على بساط قرب أو أدنى في خلوة
" لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل "
؛ بتجلي ذاته وصفاته سبحانه وتعالى على وجه لم يتخصص به أحد من العالمين قبله ولا بعده، ما أثبته إلا قوله تعالى:
" السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته "
، ما سلم من تلك السطوة إلا في حفاوة سلامه كما سلم إبراهيم عليه السلام من البرد حين قال:
ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69]، وبقوله: { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } [يس: 59] يشير إلى امتياز المؤمن والكافر في المحشر والمنشر بابيضاض وجه المؤمن، واسوداد وجه الكافر، وبإيتاء كتاب المؤمن بيمينه، وبإيتاء كتاب الكافر بشماله، وبثقل الميزان بالنور وبخفه بالظلمة، وثبات القدم على الصراط وزلة القدم.... وغير ذلك.
[36.60-66]
وبقوله: { ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } [يس: 60-61]، يشير إلى كمال رأفته وغاية مكرمته في حق بني آدم؛ إذ يعاتبهم معاتبة الحبيب للحبيب، ومناصحة الصديق للصديق، وأنه تعالى يكرمهم ويبجلهم من أن يعبدوا الشيطان؛ لكمال رتبتهم واختصاص قربتهم للحضرة، وغاية ذلة الشيطان وطرده ولعنه عن الحضرة وسماه عدوا لهم وله سمي بني آدم أولياء والأحباب، وخاطب المجرمين منهم كالمقتدي الناصح لهم: { ألم أعهد إليكم } [يس: 60]؟ ألم أنصحكم؟ ألم أخبركم عن خيانة الشيطان وعداوته لكم؟ وإنكم أعز من أن تعبدوا مثله ملعونا مهينا { وأن اعبدوني } إذ إن مثلكم يستحق لعبادة مثلي فإني أنا العزيز الغفور، وإني خلقتكم لنفسي وخلقت المخلوقات لأجلكم وعززتكم، وكم وصلت إليكم القول وذكرتكم فلم تقبلوا نصحي، ولم تتعظوا بوعظي، ولم تعملوا بأمري وعملتم بأمر الشيطان وقبلتم إغواءه إياكم.
{ ولقد أضل منكم جبلا كثيرا } [يس: 62]، عن صراط مستقيم عبوديتي، وأبعدكم عن جواري وقربتي، { أفلم تكونوا تعقلون } [يس: 62]؛ لتعلموا أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، فلا تظلموا على أنفسكم وارجعوا إلى ربكم قبل أن يقول لكم خزنة جهنم: { هذه جهنم التي كنتم توعدون * اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } [يس: 63-64]؛ أي: استعدوا لجهنم الفراق إن كفرتم بنعمة الوصال، وذوقوا عذاب شديد الكفران إذ رضيتم عن الوصلة بالهجران.
ثم أخبر عن اعتراف الأركان وختم اللسان بقوله تعالى: { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } [يس: 65]، فيشير إلى أن الغالب على الأفواه الكذب، كما قال تعالى:
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
[آل عمران: 167]، والغالب على الأعضاء الصدق، ويوم القيامة يسأل الصادقون عن صدقهم، فلا يسأل الأفواه فإنها كثيرة الكذب، ويسأل الأعضاء فإنها كثيرة الصدق، تشهد بالحق، أما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة لهم، وأما العصاة من المؤمنين الموحدين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضا لهم بالإحسان، فكما قيل: بيني وبينك يا ظلوم الموقف والحاكم العدل الجواد المثقف، وفي بعض الأخبار المروية المسندة: أن عبدا يشهد عليه أعضاؤه بالزلة فتتطاير شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي، فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له، وينادي مناد هذا عتيق الله بشعرة.
وبقوله: { ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون } [يس: 66]، فيشير إلى طمس عين الظاهر بحيث لا يكون لها سبق ، فكيف تبكي حتى تشهد بالبكاء على صاحبها؟! ويشير أيضا إلى طمس عين الباطن، فإذا كانت مطموسة كيف يبصر بها الحق والباطل ليرجع من الباطل إلى الحق؟! وإذا لم يبصر بها الحق كيف يخاف من الباطل ليحرق قلبه بنار الخوف؟! فيسيل منه الدمع ليشهد له بالبكاء من الخوف.
[36.67-72]
{ ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم } [يس: 67]؛ أي: نحول صفاتهم الإنسانية بصفات السبعية والشيطانية، { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون } [يس: 67]، لا يقدرون على إزالة هذه الصفات، ولا يقدرون على رجوعهم إلى صفاتهم الإنسانية، فمن مسخه الله في الدنيا بالصفات حشره الله تعالى في صورة صفته الممسوخة بها، كم جاء في الحديث الصحيح:
" إن آذر يحشر على صورة ضبع ".
وقوله: { ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون } [يس: 68]، يشير إلى أن الإنسان كما لو عمر يرده الله إذا استوى شبابه وقوته إلى العكس، حتى يأخذ في النقصان من الزيادة كما كان يزداد في القوة إلى أن يبلغ أرذل العمر في السن، فيصير إلى حال مثل حال الطفولة في الضعف، ثم لا يبقى على النقصان شيء، فكذلك لو عمر السالك لطريق الحق تعالى إلى ألا يبقى منه ما يسند الفعل في السير عن وجوده بعد السير في وجوده إلى أقصى مراتب الروحانية، ثم تفنى روحانيته في ربوبية الحق تعالى إلى ألا يبقى منه ما يسند الفعل إليه، كما قال تعالى:
" فبي يسمع وبي ينطق وبي يبطش وبي يمشي ".
وبقوله: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } [يس: 69]، يشير إلى أن كل أقوال وأعمال وأحوال تجري على العباد في الظاهر والباطن كلها تجري بتعليم الحق تعالى الحرف والصنائع، وذلك سر قوله تعالى:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31]، وتعليمه الصنائع لعباده على ضربين بواسطة وبغير واسطة، أما بالواسطة فتعليم بعضهم بعضا، وأما بغير الواسطة فكما علم داود عليه السلام صنعة لبوس، وكل حرفة وصنعة يعمل الإنسان من قريحته بغير تعليم أحد، فهو من هذا القبيل وقوله: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } [يس: 69]، إشارة إلى أنه تعالى ما علمه الشعر ولكن علمه الذكر والقرآن، كما قال:
الرحمن * علم القرآن
[الرحمن: 1-2]، وقوله: { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } [يس: 70]، يشير إلى أن كل قلب يكون جوفه بنور الله وبروح منه بقيده الأقدار ويتأثر بها، وأمارة تأثيره: الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والمولى، ووجب القول الأزلي على الكافرين بموت قلوبهم وقساوتها فلا يتأثر بالإنذار.
ثم أخبر عن قدرته ومن علينا بنعمته وبقوله تعالى: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما } [يس: 71]، يشير إلى أنه تعالى خلق للإنسان جميع ما خلق بالوسائط وغير الوسائط، ومما خلق بغير الوسائط خلق لهم أنعاما، ذكر عظيم منته عليهم وجميل نعمته لديهم بما خلق لهم المخلوقات، وبما سخر لهم من الأنعام التي ينتفعون بها بوجوه من الانتفاع فهم لها مالكون؛ لينتفعوا بركوبها وأكل لحومها وشحومها وبشرب ألبانها، وما يحمل عليها بالتقرب بها في قطع المسافة البعيدة إلى الزيارات والمواضع الشريفة والمزارات المتبركة، ثم بأصوافها وأدبارها وشعورها.
[36.73-77]
ثم بعضها كما قال تعالى: { ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون } [يس: 73]، فطالبهم بالشكر عليها فوجدهم مقصرين في أدائها مبالغين في كفران النعمة، ثم شكا عنهم مع حبيبه صلى الله عليه وسلم فقال مع كل هذه الوجوه عن الإحسان: { واتخذوا من دون الله آلهة } [يس: 74]، أكلوا نعمتي وانتفعوا بها وعبدوا غيري، { لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم } [يس: 74-75]، ولا نصر أنفسهم { وهم لهم جند محضرون } [يس: 75] في العذاب؛ ليذوق بعضهم وبال بعضهم.
ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: { فلا يحزنك قولهم } [يس: 76]، يشير إلى كلام الأعداء الصادر من العداوة والحسد جدير أن يحزن قلوب الأنبياء مع كمال قوتهم، وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم الالتفات له، وتطييب القلوب في مقاساة الشدائد في الله بأن لها ثمرات كريمة عند الله، وللحساد مطالب بها عند الله كما قال { إنا نعلم ما يسرون } [يس: 76] من الحسد والضغائن { وما يعلنون } [يس: 76] من العداوة والطعن وأنواع الجفاء، وإذا علم العبد أن ألمه آت من الحق هان عليه ما يقاسيه، لا سيما إذا كان في الله.
ثم أخبر عن عناية الرحمن وغواية الإنسان بقوله تعالى: { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } [يس: 77]، يشير إلى كمال عنايته في خلق الإنسان أنه أفرغ عليه سبحانه نعمه؛ إذ كان نطفة من ماء مهين فشدد أسره، وجمع نشره وسوى أعضاءه، وركب أجزاءه ونفخ فيه من روحه وأودعه العقل والتمييز، ثم أنه جاء ظلوما كفارا لأنعمه كما شكا عنه أنه خصيم مبين ينازعه في خطابه، ويعترض عليه في أحكامه بزعمه في استصواب رأيه، وكما قيل:
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
[36.78-83]
{ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } [يس: 78] أولم يتفكروا في بدء خلقه، إنا أنشأناه من الذرة التي استخرجناها من صلب آدم، وهي أصغر من العظيم الرميم، ثم أودعناها في النطفة وهي في صلب أبيه مودعة، ثم أودعنا النطفة في رحم أمه والنطفة ميتة، ثم أنشأنا النطفة خلقا آخر حيا، { قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم } [يس: 79]، الذي علم أن يخلق آدم من تراب بلا أب وأم، وأنه يخلق حواء بلا أم ويخلق عيسى بلا أب.
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } [يس: 80]؛ أي: من شجر أخضر البشرية نار المحبة { فإذآ أنتم منه توقدون } [يس: 80]، شجرة بشريتكم ومصباح قلوبكم.
{ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } [يس: 81]، بهذه الإشارات مهد سبيل الرشاد إلى الاستدلال، وقال: إن الإعادة في الابتداء، فإذا أقررتم بالابتداء فأي إشكال بقي في جواز الإعادة في الانتهاء؟ ثم قال: الذي قدر على خلق النار في الأغصان الرطبة من المرخ والعفار قادر على خلق الحياة في الرمة البالية، ثم زاد في البيان بأن قال: إن القدرة على مثل الشيء كالقدرة عليه لاستوائها بكل وجه، وأنه يحيي النفوس بعد موتها في العرصة، كما يحيي الإنسان من النطفة، والطير من البيضة، ويحيي القلب بالعرفان لأهل الإيمان كما يحيي نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان .
وقوله: { إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [يس: 82]، يشير إلى أن الإرادة الأزلية لما تعلقت بإيجاد المكونات تعلقت القدرة الأزلية على وفق الحكمة الأزلية بالمقدورات إلى الأبد على وفق الإرادة بإشارة أمر: { كن فيكون } إلى الأبد ما شاء في الأزل، ثم نزه ذاته تعالى عن وصمة العجز عما يريد كينونته، وقال: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } [يس: 83]، أثبت لكل شيء ملكوتا - ملكوت الشيء: ما هو الشيء به قائم - ولو لم يكن لشيء ملكوت يقوم به لما كان شيء، والملكوتيات قائمة بيد قدرته { وإليه ترجعون } [يس: 83]، فاختيار أهل القبول وما لاضطرار أهل الرد، عصمنا الله من الرد بفضله.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-12]
{ والصافات صفا } [الصافات: 1] يشير إلى صفوف الأرواح، وما أنهم لما خلقوا قبل الأجساد كانوا في أربع صفوف كان الصف الأول: أرواح الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة - وكان الصف الثاني: أرواح الكفار والمنافقين.
{ فالزاجرات زجرا } [الصافات: 2] في " الإلهامات الربانية ": الزاجرات العوام عن المناهي والخواص عن رؤية الطاعات، والأخص عن الالتفات إلى الكونين.
{ فالتليت ذكرا } [الصافات: 3]؛ هم
والذاكرين الله كثيرا والذاكرات
[الأحزاب: 35].
والمقسوم عليه { إن إلهكم لواحد } [الصافات: 4] فلا تتخذوا من دونه آلهة من الدنيا والهوى والشيطان، ومعنى كونه واحدا تفرده في صفة عن القسيم وتقدسه في وجوده عن الشبيه، وتنزهه في ملكه عن الشريك، واحد في جلاله أحد باستحقاق جماله، واحد في أفعاله أحد في كبريائه بنعت علائه ووصف سنائه، { رب السموت والأرض } [الصافات: 5] أرض النفوس، { وما بينهما } [الصافات: 5] من صفات النفوس وصفات القلوب، { ورب المشارق } [الصافات: 5] مشارق القلوب تطلع منها شموس الشواهد، وأقمار الطوالع، ونجوم اللوامع.
{ إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب } [الصافات: 6]، يشير به إلى الرأس فإنه بالنسبة إلى البدن كالسماء المزين { بزينة الكواكب } الحواس، وأيضا زين سماء الدنيا بالنجوم، وزين قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال، كما حفظ السماوات بأن جعل النجوم للشياطين رجوما، كذلك زين القلوب بأنوار التوحيد فإذا قرب منها الشياطين رجموهم بنجوم معارفهم.
كما قال: { وحفظا من كل شيطان مارد } [الصافات: 7]؛ يعني من شياطين الإنس { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } [الصافات: 8]، وهم أرباب الحقائق.
{ ويقذفون من كل جانب * دحورا } [الصافات: 8-9] يرمون كلماتهم الشريفة من كل جانب من جوانب أصحاب الأنفاس المطهرة؛ فيلقونها إلى أوليائهم من مدعي هذا الحديث، فمن دعواهم أكثر من معناهم على غير وجهها؛ فيفهمون هؤلاء منها ما يقرب إلى طبعهم وهواهم، ويتوهمون أنها من الحقائق والأسرار، فإنهم بهذه الخيالات الفاسدة والتمويهات الكاسدة، ساروا من أهل الأسرار وأرباب الحقائق، وبهذا الحسبان والتمني يخالفون الشريعة وشموس ما الحقيقة، فضلوا وأضلوا كثيرا فيستحقون بهذا الطرد والإبعاد.
{ ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } [الصافات: 9-10]، كذلك إذا اغتم الشيطان من الأولياء أن بلغ إليهم شيئا من وساوسه فإذا هم مبصرون.
{ فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ } [الصافات: 11] عرفهم عجزهم عن الإثبات، وضعفهم في كل حال، ثم ذكرهم نسبتهم إلى الطين اللازب، كما قال: { إنا خلقناهم من طين لازب } [الصافات: 11] يشير به إلى أنه تعالى أودع في طينة الإنسانية خصوصية لزوب ولصوق، وبكل شيء صادفه؛ فصادف قوم الدنيا فلصقوا بها، وصادف قوم الآخرة فلصقوا بها، وصادف قوم نفحات ألطاف الحق فلصقوا بها؛ فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه، بل عجبت إذا تحققت هذا المعنى، ويسخرون بهذا المحرومون عن هذه السعادة.
[37.13-24]
ثم أخبر عن خذلان أهل الحرمان بقوله تعالى: { وإذا ذكروا لا يذكرون } [الصافات: 13]، يشير إلى أنهم نسوا الله غاية النسيان بحيث لا يذكرونه، { وإذا ذكروا } يعني: الله { لا يذكرون } لا يتذكرون، { وإذا رأوا آية } [الصافات: 14]؛ أي: رجلا يكون آية من آيات الله { يستسخرون } [الصافات: 14]؛ يسخرون به ويعرضون عن الإيمان، ويقولون لما يأتي به: { إن هذآ إلا سحر مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو آبآؤنا الأولون } [الصافات: 15-17] يبعثون.
قالوا: على وجهة الاستبعاد والمعرفة لهم مفقودة، والبصائر لهم مسدودة، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة، { قل نعم وأنتم داخرون } [الصافات: 18] على وجه الفقر تبعثون، وبزجرة واحدة تحشرون، كما قال: { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم } [الصافات: 19] قيام { ينظرون } [الصافات: 19]، حيارى كأنهم سكارى، { وقالوا يويلنا هذا يوم الدين } [الصافات: 20] دعوا بالويل على أنفسهم حين لا ينفعهم الويل؛ فيقال لهم: { هذا يوم الفصل } [الصافات: 21] الذي كذبتم به، وقد عاينتم { الذي كنتم به تكذبون * احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [الصافات: 21-22]، يشير به إلى حشر النفوس ولعبادها { وما كانوا يعبدون * من دون الله } [الصافات: 22-23] من الهوى والدنيا والشيطان { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [الصافات: 23]، فإنهم كانوا في الدنيا يهدون إلى هذا الصراط، وأنهم يحشرون على ما ماتوا عليه، وكذلك من أعان صاحب فترة في فترته أو صاحب زلة في زلته كان مشاركا في عقوبته، واستحقاق طرده وإبعاده، كما أشركت النفوس والأجساد في الثواب والعقاب؛ لقوله: { وقفوهم إنهم مسئولون } [الصافات: 24]، فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام، وهو مسئول عن أداء حقوق ذلك المقام، فإن خرج عن عهدة جوابه بالصواب أذن في العبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، فمن السؤال صعب وقوم يسألهم الملك، فالذين يسألهم الملائكة أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف، وأقوام لهم أعمال لا تصلح للكشف، وهم قسمان:
الخواص يسترهم الحق عن إطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة.
وأقوام هم أرباب الزلات يختصهم الله برحمته فلا يفضحهم.
ثم إنهم يكونون في بعض أحوالهم بعين الهيبة، وفي بعض أحوالهم بنعت البسط والقربة، وفي الخبر: إن أقواما يسترهم بكنفه، عن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن الله يدني المؤمنين يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس، فيقول: أي عبدي تعرف ذنبك كذا وكذا، فيقول: نعم أي رب، ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنبك كذا وكذا، فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقين فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين "
، حديث متفق على صحته.
وأما الأغيار والأجانب فيقال لهم:
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء: 14] فإذا قرءوا كتابهم يقال لهم ما جزاء من عمل هذا؟ فيقول: جزاؤه النار، فيقال لهم: ادخلوها بحكمهم.
[37.25-36]
ثم يقال لهم في بعض أحواله استيلاء الفزع عليهم: { ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون } [الصافات: 25-26] بالاضطرار.
وبقوله: { وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون } [الصافات: 27]؛ أي: يتخاصمون، يشير إلى أن دأب أهل الدنيا أنهم يلقون ذنب بعضهم على بعض، ويدفعون عن أنفسهم البلاء، ويرضون لإخوانهم ما لا يرضون لأنفسهم، وهمة أهل الدين أنهم يضعون ذنب الإخوان على أنفسهم، ويبرءون أعراض الإخوان عن تهمة الذنوب، ويتهمون أنفسهم بها، كما أن عيسى عليه السلام رأى رجلا قد سرق شيئا فقال له: أسرقت؟ قال: لا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: صدقت وكذبت عيناي.
وبقوله: { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [الصافات: 28]؛ أي: أضللتمونا عن الدين، يشير إلى أن من كان مؤمنا حقيقيا لا يقدر أحد على إضلاله، ولكن الذين اتخذوا الإيمان بالتقليد لا بالتحقيق فيضلون بإضلال أهل الأهواء والبدع، كما أشار إلى هذا المعنى بقوله: { قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } [الصافات: 29]؛ أي: إيمانكم ما كان حقيقيا بل كان تقليديا، فزال بأدنى شبهة، ويستدلون على هذا المعنى بقولهم { وما كان لنا عليكم من سلطان } [الصافات: 30]؛ ليزيل إيمانكم عنكم بالقهر والغلبة على قلوبكم، { بل كنتم قوما طاغين } [الصافات: 30]؛ أي: كان لكم نفوس أمارين بالسوء طغت عليكم نفوسكم، وأضلتكم عن سواء السبيل.
ثم أخبر عن إقرارهم بعد إنكارهم بقوله تعالى: { فحق علينا قول ربنآ } [الصافات: 31] يشير إلى قوله تعالى في الأزل: { كن } ، وحكم بأمر واحد وهو { كن }؛ أي: يكون كل شيء كما أراده في الأزل وأخبر الله تعالى عن مقتضى قوله: { كن } في الأزل، وقال: { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } [الصافات: 33]، كما كانوا في الغواية والضلالة مشتركون.
{ إنا كذلك نفعل بالمجرمين } [الصافات: 34]؛ يعني في حكم الأزل بأمر { كن }؛ ليكونوا مجرمين ليذوقوا العذاب الأليم، ومن ذلك { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } [الصافات: 35]، ولهذا { ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 36] فقال تعالى على قصد قوله: { كن } في الأزل.
[37.37-50]
{ بل جآء بالحق وصدق المرسلين } [الصافات: 37]؛ يعني: محمدا { إنكم لذآئقو العذاب الأليم } [الصافات: 38]؛ يعني: كفار مكة، { وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } [الصافات: 39] وما كنتم تعملون إلا ما قد أمرتم بعمله بأمر { كن }.
{ إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 40] في العبودية والمخلصين في حكم الأزل بالعصيان، { أولئك لهم رزق معلوم } [الصافات: 41] من أمر { كن } بالسعادة.
ثم أشار من الرزق المعلوم إلى الفاكهة فقال: { فواكه } [الصافات: 42]؛ أي: فهم ألا يتفكهوا مما يشاءون { وهم مكرمون } [الصافات: 42] من الأزل إلى الأبد بأنهم محمولو العناية، كما قال:
ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم
} [الإسراء: 70]، { في جنات النعيم } [الصافات: 43]، في جوار الحق تعالى: { على سرر متقابلين } [الصافات: 44]، في المدارج والمراتب يستأنس بعضهم برؤية بعض وهذه صفة الأبرار فإن من صفة الأحرار ألا يستأنس إلا بمولاه بقوله: { يطاف عليهم بكأس من معين * بيضآء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } [الصافات: 45-47] يشير إلى أن أهل السير من أرباب الوسائط الذين وقفوا على أبواب الشهوات الإنسانية، ومشربهم التلذذ بالشراب من الكأس والشراب من معين، وقوم شربوا ومشربهم الحب كما قال قائلهم:
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفذ الشراب وما رويت
وقال آخر:
قوم شربوا ومشربهم المحبوب
شراب ألحاظ يسكر اللبا
وإلى مثل هذا المعنى يشير بقوله: { وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون } [الصافات: 48-49] لا ينظرون إلى غير الولي، ثم الولي قد ينظر إليهن، وفيهم من لا ينظر إليهن:
جننا على ليلى وجنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ثم أخبر عن إقبال أرباب الأحوال بقوله تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون } [الصافات: 50] يشير إلى أن أهل جهنم هم الذين كانوا ممن لم يقبلوا على الله بالكلية وإن كانوا مؤمنين موحدين وإلا كانوا في مقعد صدق مع المقربين.
[37.51-61]
وبقوله: { قال قآئل منهم إني كان لي قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون } [الصافات: 51-53] يشير إلى أنهم في الجنة يتذكرون فيما جرى بينهم في الدنيا مع قرنائهم؛ ليريهم ما بهم من العذاب فيعرفوا قدر نعمة الله على أنفسهم، ويزيد في الشكر على نعم الله، ويستحلي لهم ذوق نعيم الجنة مما يطالعون أحوال قرنائهم السوء وذلك قوله تعالى: { هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سوآء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي } [الصافات: 54-57]؛ أي: نعمة حفظه وعصمته وهدايته { لكنت من المحضرين } [الصافات: 57]؛ أي: معكم فيما كنتم فيه من الضلالة في البداية وفيما أنتم فيه من العذاب والبعد والنهاية، وإنما أخبر الله تعالى عن هذه الحالة قبل وقوعها؛ ليعلم أن غيبة الأشياء سواء في علمه وجودها وعدمها، بل كانت المعدومات في علمه موجودة، وليعلم أن الأمور بيده تعالى يقلبها كيف يشاء.
بقوله تعالى: { أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين } [الصافات: 58-59] يشير إلى أن من مات بالموتة الأولى - وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية الحيوانية - فقد حي بحياة روحانية ربانية لا يموت بعدها أبدا، بل ينقل المؤمن من دار في جوار الحق تعالى، فلا يعذب بنار الهجران وآفة الحرمان، وأذهبت نفحة من نفحات الحق من جناب القدس، أو شم رائحة من نسيم القرب، أو بدت شظية من الحقائق، وتباشير الوصلة جدير أن يقول: { إن هذا لهو الفوز العظيم } [الصافات: 60] وبالحري أن يقال: { لمثل هذا فليعمل العاملون } [الصافات: 61]، بل لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح وتفدي الأشباح، كما قيل:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وإن كنت من ليلى على اليأس طاويا
وهاهنا تضيق العبارات وتتقاصر الإشارات.
[37.62-75]
ثم أردف بعد قصة الأولياء قصة الأعداء، فقال: { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين } [الصافات: 62-65]، يشير إلى أن من كان هاهنا معاملاته في صفة قبح صفات الشياطين؛ أي: في قبح صورة الشياطين، { فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون } [الصافات: 66]؛ لأنهم كانوا لها في مزرعة الآخرة - أعني: الدنيا - زراعين، { ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } [الصافات: 67]، ثم أن من جهنم لا إلى الجحيم.
{ إنهم ألفوا آبآءهم ضآلين } [الصافات: 69] عن طلب الحق ومتابعة الهوى، فهم على آثارهم يهرعون، ولقد ضل عن طلب الدنيا بمتابعة الهوى، قبلهم أكثر الأولين، { ولقد أرسلنا فيهم منذرين } [الصافات: 72]، في الظاهرين من المرسلين، وفي الباطن من إلقاء الملهمين؛ { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 73-74]، الذين أخلصوا في العبودية، فخلصهم الله من حبس الوجود بالفضل والجود.
ثم أخبر عن نداء النوح في بضل الروح بقوله: { ولقد نادانا نوح } [الصافات: 75]، يشير إلى نوح الروح لما أصابه الأذى من قومه، وهم النفس وصفاتها في التكذيب، ولم يسمع قومه منه ما كان يقول من حديثنا في دعوتهم إلينا، فرجع إلينا فخاطبنا وخاطبناه، وكلمنا وكلمناه، ونادانا فناديناه، وكان لنا وكنا له، وأجابنا فأجبناه، فلنعم المجيب كان لنا { فلنعم المجيبون } [الصافات: 75] كنا له.
[37.76-82]
{ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين } [الصافات: 76-77] وهم القلب والسر والخفى، وما يتولد منهم من الأعمال الصالحات الباقيات.
{ وتركنا عليه في الآخرين } [الصافات: 78] الثناء الحسن والذكر الجميل، وهو قوله تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء: 85]، وقوله:
ونفخت فيه من روحي
[ص: 72] { سلام على نوح في العالمين } [الصافات: 79]، يشير بهذا أن المستحق بسلام الله في العالمين هو نوح روح الإنسان؛ لأنه ما جاء أن الله تعالى سلم على شيء من العالمين غير الإنسان، كما قاله ليلة المعراج:
" السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين "
، فما قال: وعلى ملائكتك المقربين، وإنما كان اختصاص الإنسان بسلام الله من بين العالمين؛ لأنه حمال حمل ثقيل وهو الأمانة التي عرضها على العالمين،
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما
[الأحزاب: 72] على نفسه الضعيفة يحمل الأمانة الثقيلة،
جهولا
[الأحزاب: 72] عن كمال منافعها عند أدائها إلى أهلها، وكمال مضارها عند الجناية فيها، فكان الإنسان أحوج شيء بسلام الله؛ ليعبر بالأمانة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يكون دعوات الرسل حينئذ: رب سلم سلم "
، وهل سمعت أن يكون لغير الإنسان العبور على الصراط؛ لأنهم يؤدون الأمانة إلى أهلها، وهو الله تبارك وتعالى، فلا بد من العبور على صراط الله للوصول إليه لأداء أمانته إليه، وفي هذا أسرار إفشاؤها كفروع السر تعبر، يكفيك هاهنا ما أشار إليه.
{ إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الآخرين } [الصافات: 80-82] في بحر الوجود، يشير إلى غير الإنسان من الموجودات أنه ما خلص أحد منهم من غرق الوجود إلى ساحل العدم بالجود، ولما سلم من سلم من بحر الوجود إلى ساحل الجود بسلام الله كان مخصوصا في كل حال من حالاته بسلام من الله العزيز الحكيم؛ لعبوره بالسلامة من تلك الحالة، كاحتياجه بالسلام في العرصة؛ لعبوره على الصراط المستقيم بالرحمة، سلم عليه بقوله:
سلام قولا من رب رحيم
[يس: 58] بعد العبور عند الدخول في الجنة بقوله:
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين
[الزمر: 73]، وقال
ادخلوها بسلام آمنين
[الحجر: 46]، وبعد الدخول في الجنة خوطب بقوله:
سلام عليكم بما صبرتم
[الرعد: 24]؛ يعني: تحت ثقل حمل الأمانة
فنعم عقبى الدار
[الرعد: 24].
[37.83-101]
وبقوله: { وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جآء ربه بقلب سليم } [الصافات: 83-84] يشير إلى إبراهيم السر؛ فإنه من شيعة نوح الروح، وجاء ربه بقلب سليم عن تعلقات الكونين؛ { إذ قال لأبيه } [الصافات: 85] آذر: النفس { وقومه } [الصافات: 85]؛ أي: صفاتها، { ماذا تعبدون * أإفكا آلهة } [الصافات: 85-86] من الدنيا والهوى والشيطان { دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين } [الصافات: 86-87] أن يغفل عنكم أو لا يؤاخذكم بما كسبت أيديكم، أو يخالف قوله:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 7-8].
وبقوله: { فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم } [الصافات: 88-89] يشير إلى نجوم شواهد الحق تعالى إذا طلعت من مشرق العناية، فنظر إليها إبراهيم السر فيرى بلمعان نورها أدنى التفاته إلى غير الله، فيتحقق عنده، وإن مزاج محبته وطلبه انحرف بقدر التفاته، { فقال إني سقيم } [الصافات: 89] { فتولوا عنه } [الصافات: 90] آذار النفس وصفاتها، { مدبرين } [الصافات: 90]، { فراغ } [الصافات: 91]؛ أي قال: { إلى آلهتهم } [الصافات: 91] من الدنيا والهوى والشيطان، { فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين } [الصافات: 91-93] المؤيد بتأييد الله تعالى، فكسر الأصنام كلها { فأقبلوا إليه يزفون } [الصافات: 94] النفس وصفاتها، ويعاتبونه في كسر الأصنام، قال: { قال أتعبدون ما تنحتون } [الصافات: 95] من أنواع الشهوات؛ أي: ما تتوهمون منها، { والله خلقكم وما تعملون } [الصافات: 96] من أعمالكم ومتوهماتكم ومتخيلاتكم، { قالوا ابنوا له بنيانا } [الصافات: 97] من الهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية، { فألقوه في الجحيم } [الصافات: 97]؛ جحيم الحرص والشهوة، { فأرادوا به كيدا } [الصافات: 98] بأن يحرقوه بنار الحرص والشهوة، { فجعلناهم الأسفلين } [الصافات: 98] بأن جعلنا نار الحرص والشهوة بردا وسلاما على إبراهيم السر، وقد علاهم بالعفة والقناعة ورد كيدهم.
ثم أخبر عن ذهاب الخليل إلى باب الجليل بقوله تعالى: { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [الصافات: 99]، يشير إلى إبراهيم الروح أن الله لما ابتلاه بنمرود النفس، وقومه من صفات النفس، وقد رآهم على عبادة غير الله من أصنام الهوى، والشيطان ينفر عنهم وعن أذاهم وعن صحبتهم؛ لأنهم كانوا حيواني الصفات شيطاني الأوصاف، وكان هو ملكي الصفات رباني الأوصاف، ولهذا السر رد من أعلى عليين عالم الأرواح إلى أسفل الأشباح؛ ليتعلم السير من الأسفل إلى الأعلى، ويحصل الآن الذهاب إلى الله تعالى، ثم يضطره بإذية النفس وصفاتها إلى الرجوع إلى الحضرة، فلما بلغ سيره الربى وآل أمره إلى الردى، قال: { إني ذاهب إلى ربي } يشير به إلى السير إلى الله تعالى، وبقوله: { سيهدين } يشير إلى السير بالله في الله.
وبقوله تعالى: { رب هب لي من الصالحين } [الصافات: 100] يشير إلى أنك كما وهبت لي نفسا من المفسدين هب لي قلبا من الصالحين، وهو الذي قال:
" إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، ألا وهي القلب ".
{ فبشرناه بغلام حليم } [الصافات: 101]، فهو القلب السليم الحليم.
[37.102-112]
{ فلما بلغ معه السعي } [الصافات: 102]؛ أي: بلغ سعي القلب مع الروح إلى الحضرة. { قال يبني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } [الصافات: 102]، يشير به إلى أن من شرائط السائرين إلى الله قطع الأبوة والبنوة الحيوانية، ومن شرائط السائرين بالله التسليم والتفويض بالكلية في الأمور إلى الله، والخروج عن مستحسنات الطبع ومن مستحسنات العقل إلى مشيئة الله تعالى وما اختاره له، وهذا حقيقة قوله تعالى { يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شآء الله من الصابرين } [الصافات: 102].
ومن شرائط السائرين في الله فداء النفس وبذل الروح في طلب الحق تعالى، وبه يشير إلى قوله تعالى: { فلما أسلما } [الصافات: 103]، وقد أسلم إبراهيم نفسه، وقد فداها حين وضع في المنجنيق، وقد أسلم إسماعيل وبذل روحه حين تله للجبين، ومن دقة النظر في رعاية آداب العبودية، وحفظ حقوق الربوبية في العصمة إلى إسماعيل عليه السلام: أمر أباه بأن يشد يديه ورجليه؛ لئلا يضطرب إذا مسه ألم الذبح فيعاتب، ثم لما هم يذبحه: افتح القيد عني فإني أخشى أن أعاتب، فيقال لي: أمشدود اليدين جئتني؟ وإني لا أتحرك ستشعر.
ولو بيد الحبيب سقيت سما
لكان السم من يديه تطيب
{ وفديناه بذبح عظيم } [الصافات: 107] إنما سمي الذبح عظيما؛ لأنهما نبيين عظيمين أحدهما أعظم من الآخر، وهما إسماعيل ومحمد - عليهما الصلاة - لأنه كان محمد في صلب إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
{ وتركنا عليه في الآخرين } [الصافات: 108]؛ أي: في أمة من الآخرين إلى قيام الساعة؛ أي: من الأمم الآخرين، { سلام على إبراهيم } [الصافات: 109]؛ أي: سلام مما أسلم إبراهيم وسلم من النار وذبح الولد، { كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 110] الذين أحسنوا عبوديتنا، وأسلموا أوامر ربوبيتنا،
إنه من عبادنا المؤمنين
[الصافات: 81] المخلصين، لا من عبادنا للدنيا والهوى.
{ وبشرناه } [الصافات: 111]؛ يعني: إبراهيم { بإسحاق } [الصافات: 111] القلب { نبيا } [الصافات: 111] ملهما من الحق تعالى، كما قال بعضهم: حدثني قلبي عن ربي، { من الصالحين } [الصافات: 111]؛ أي: المستعدين لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة.
[37.113-132]
يقول الله تعالى: { وباركنا عليه وعلى إسحاق } [الصافات: 113] يشير إلى أنه بارك على إبراهيم الروح، وإسحاق القلب، { ومن ذريتهما } [الصافات: 113]؛ أي: ومما يتولد من صفاتهما { محسن } [الصافات : 113] في الطاعة والعبودية بالإخلاص، { وظالم لنفسه مبين } [الصافات: 113]؛ أي: ظالم ظلم على نفسه في طلب الحق تعالى.
ثم أخبر عن أبناء الأنبياء بقوله تعالى: { ولقد مننا على موسى وهارون } [الصافات: 114]، يشير إلى موسى القلب وهارون السر بأن نجاهما من غرق بحر الدنيا وماء شهواتها، كما قال تعالى: { ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم } [الصافات: 115-116]؛ يعني: موسى القلب وهارون السر وصفاتهم، على فرعون النفس وصفاتهما، { فكانوا هم الغلبين * وآتيناهما الكتاب المستبين } [الصافات: 116-117] من العلوم الحقيقية والإلهامات الربانية، { وهديناهما الصراط المستقيم } [الصافات: 118] إلى الحضرة، { وتركنا عليهما في الآخرين } [الصافات: 119] بالثناء الحسن عليهما وبالاقتداء بهما، { سلام على موسى وهارون } [الصافات: 120] سلام الحفظ والرعاية وسلامتها عن الآفات بالكلأة، { إنا كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 121] بالإحسان والتوفيق للإحسان، { إنهما من عبادنا المؤمنين } [الصافات: 122]، يشير إلى أن من توفيقنا إياهما للإحسان وفقناهما ليكونا من عبادنا المؤمنين؛ يشير إلى أن من توفيقنا إياهما للإحسان وفقناهما ليكونا من عبادنا المؤمنين.
{ وإن إلياس } [الصافات: 123] الروح { لمن المرسلين } [الصافات: 123]، فقد أرسل إلى قومه من القلب والنفس وصفاتهما { إذ قال لقومه ألا تتقون } [الصافات: 124]، فتقوى القلب أن تبقى بالله من الله، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
" أعوذ بك منك "
، وتقوى النفس أن يتقي برضاه من سخطه وبما فاته من عقوبته، { أتدعون بعلا } [الصافات: 125]؛ أي: أتدعون بعل الدنيا القبيحة، { وتذرون } [الصافات: 125] عبادة { أحسن الخالقين } [الصافات: 125]، الذي خلقكم وخلق أباءكم الأولين؛ يعني: الأرواح والآباء العلوية، وذلك قوله: { الله ربكم ورب آبآئكم الأولين } [الصافات: 126]، { فكذبوه } [الصافات: 127] أي: النفس وصفاتها { إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 128]، من عبودية غير الحق، وهم القلب والسر وأوصافهما، { وتركنا عليه } [الصافات: 129]؛ أي: الثناء الحسن على إلياس الروح { في الآخرين } [الصافات: 129] من الأنبياء والأمم.
{ سلام على إل ياسين } [الصافات: 130]؛ أي: القلب والسر وأوصافهما من عبودية غير الحق، وهم القلب والسر وأوصافهما، فإنهم إل ياسين الروح، { إنا كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 131]، بأن يحسن معهم بتقديم سلامنا عليهم، سلام السلامة في العبودية على الدارين، والخلاص عن آفات الكونين، وبأن نجعله من عبادنا المؤمنين المخلصين عن عبودية الهوى والدنيا والعقبى.
[37.133-148]
ثم أخبر عن نجاة لوط ودرجاته بقوله: { وإن لوطا لمن المرسلين } [الصافات: 133]، يشير إلى لوط الروح أنه مهبط أنوار الحق ومحط أسراره؛ { إذ نجيناه وأهله } [الصافات: 134]، من القلب والسر وصفاتهما { أجمعين } [الصافات: 134] من سطوات قهرنا، { إلا عجوزا في الغابرين } [الصافات: 135]، وهي عجوز النفس الأمارة؛ فإنها بمثابة الزوجة للوط الروح، { ثم دمرنا الآخرين } [الصافات: 136] من النفس وصفاتها، { وإنكم لتمرون } [الصافات: 137] أيتها الصفات الإنسانية عليهم مصبحين في صباح يوم الدين، يشاهدون آثار سطوات قهرنا باستيلاء صفات النفس وغلبات دواعي الشهوات، { وباليل أفلا تعقلون } [الصافات: 138] فتعتبرون وتؤمنون بوحدانية الحق تعالى، وترجعون إلى أبواب فضله وكرمه ورحمته.
{ وإن يونس } أي: يؤنس القلب { لمن المرسلين } [الصافات: 139]، وهو أيضا مهبط أنوار الحق تعالى؛ { إذ أبق إلى الفلك المشحون } [الصافات: 140]؛ أي: فلك الهوى المشحون من شهوات النفس، { فساهم } مع أهل الهوى؛ { فكان من المدحضين } [الصافات: 141]؛ أي: من المغلوبين المفتونين بشهوات النفس فألقى في بحر الدنيا، { فالتقمه الحوت } [الصافات: 142] حوت النفس، { وهو مليم } [الصافات: 142] بالتفاته إلى بحر الدنيا وركوبه فلك الهوى إذ أبق من عبودية المولى، { فلولا أنه كان من المسبحين } [الصافات: 143] المطيعين الذاكرين لله، الراجعين إليه بالتوبة والاستغفار { للبث في بطنه } [الصافات: 144]؛ يعني: القلب في بطن حوت النفس { إلى يوم يبعثون } [الصافات: 144] والإشارة فيه أن خلاص يونس القلب إذا التقمه حوت النفس لا يكون إلا بملازمة ذكر الله، { فنبذناه بالعرآء وهو سقيم } [الصافات: 145]، يشير بهذا إلى أن القلب إن تخلص من بحر النفس وبحر الدنيا يكون مستقيما؛ بانحراف مزاجه القلبي بمجاورة صحبة النفس وإسراف طبعها، بقوله: { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } [الصافات: 146]، يشير إلى إنبات شجرة العناية عليه؛ ليستظل بظلها إلى أن يزول عنه ضعف البشرية، ويتقي بالسلامة القلبية، ويستعد لتواتر الإلهامات الربانية، ويستحق بالخلافة للسلطنة الروحانية، فينصب لرعاية الرعية.
فذلك قوله: { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } [الصافات: 147] به يشير إلى أن كل قلب تخلص من سجن النفس يصير سلطانا على ولاية الإنسانية، يحكم على مائة ألف صفة من صفات البشرية أو يزيدون، { فآمنوا } هذه الصفات كلها بما يأتيهم من الحق، واقتدوا به وتخلقوا بأخلاقه؛ { فمتعناهم } يعني: بالقلب وأخلاقه { إلى حين } [الصافات: 148] يستعدون للتخلق بأخلاق الله تعالى.
[37.149-157]
وبقوله: { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون } [الصافات: 149]، يشير إلى كمال جهالة الإنسان وضلالته إذا وكل إلى نفسه الخسيسة، وخلى إلى طبيعته الركيكة أنه يظن بربه ورب العالمين نقائص لا يستحقها، إذا عاقل بل غافل من أهل الدنيا؛ إذ يجبلون إليه أنه اصطفى البنات على البنين وأنه خلق الملائكة إناثا، ولا يعلمون أن الخلاق منزه عن أوصاف المخلوقين، فإنه الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وإنه
لغني عن العالمين
[العنكبوت: 6]،
إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا
[مريم: 93]، وأن الملائكة مبرءون من الذكورة والأنوثة، وأنهم من إفك الإنسانية يقولون هذه المحالات، كما قال تعالى: { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون } [الصافات: 150-152]؛ إذ قالوا: { أصطفى البنات على البنين } [الصافات: 153] لأن الملائكة ليسوا بالبنات ولا بالبنين، وأنهم ليسوا من هذا القبيل، وأن الله منزه عما يصفونه به، { ما لكم كيف تحكمون } [الصافات: 154] على الغني عن العالمين، { أفلا تذكرون } [الصافات: 155]؟! أنكم تستنكفون من البنات، وتصفون الإله القديم والرب الكريم بما استنكفتم منه مع كفركم وقبيح فعلكم، { أم لكم سلطان مبين } [الصافات: 156]؟ حجة ظاهرة على ما يقولون، { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } [الصافات: 157] فيما يقولون بأن الله نزل عليكم كتابا ذكر فيه هذا المعنى، وأنه كم ينزل عليكم كتابا يذكره، فلم يفترون على الله الكذب؟
[37.158-170]
ثم أخبر عن غاية جهالتهم ونهاية ضلالتهم بقوله تعالى: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } [الصافات: 158]، يشير إلى أجنية الإنسان وقصور نظر عقله عن كمال أحدية الله وجلال صمديته؛ إذ وكل الإنسان إلى نفسه في معرفة ذات الله وصفاته، فيقيس ذاته على ذاته، وصفاته على صفاته، فيثبت له نسبا كما له نسب، ويثبت له زوجة وولدا كما له زوجة وولد، ويثبت له جوارح كما له جوارح، ويثبت له مكانا كما له مكان، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهو يقول تبارك وتعالى:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى: 11].
وبقوله: { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } [الصافات: 158] يشير إلى أن الجنة قد علمت أن لا نسبة لها مع الله تعالى، وعلمت أن قائلي هذه المقالة لمحضرون في النار، ثم نزه نفسه عما يصفه الواصفون لعقولهم وأرائهم، فقال تعالى: { سبحان الله عما يصفون } [الصافات: 159]؛ يعني: أهل الأهواء أو البدع، { إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 160]؛ يعني: إلا من أخلصه الله عن ضلالة الإنسانية بهداية الربانية فإنهم يعرفون الله بنور الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" عرفت ربي بربي، ولولا فضل ربي ما عرفت ربي ".
وبقوله: { فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بفاتنين } [الصافات: 161-162]، يشير إلى أن أهل الضلالة وما هم يعبدون في ضلالتهم ليسوا على شيء في الإضلال من أحد، إلا من قدر الله أن يكون من أهل النار فحينئذ يضلون بتقدير الله، وذلك قوله: { إلا من هو صال الجحيم } [الصافات: 163].
وبقوله: { وما منآ إلا له مقام معلوم } [الصافات: 164] يشير إلى أن للملك مقاما معلوما لا يتعدى حده، وهو المقام الملك الروحاني أو الكروبي، والكروبي لا يقدم على مقام الروحاني؛ فلا عبور لهم من مقامهم إلى مقام فوق مقامهم، ولا نزول لهم إلى مقام دون مقامهم، ولهم بهذا فضيلة على إنسان يبقى في أسفل السافلين والدرك الأسفل من النار، وللذين عبروا منهم عن أسفل السافلين بالإيمان والعمل الصالح وصعدوا إلى عليين، بل ساروا إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، بل طاروا إلى منزل أو أدنى فضيلة عليهم؛ ولهذا أمروا بسجدة أهل الفضل منهم بقوله:
فقعوا له ساجدين
[ص: 72]، فللإنسان أن ينزل من مقام الإنسانية إلى درك الحيوانية، كقوله تعالى:
أولئك كالأنعام بل هم أضل
[الأعراف: 179] وله أن يترقى بحيث يعبر عن مقام الملكي، ويقال له: تخلقوا بأخلاق الله، ولو كان من مفاخر الملك أن يقول: وإنا لنحن الصادقين؛ يعين: في الصلاة والعبودية، فإن للإنسان معه شركة في هذا، وللإنسان صفة يحبها الله وليس للملك فيه شركة، وذلك قوله تعالى:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص
[الصف: 4]، وأن يقولوا: { وإنا لنحن المسبحون } [الصافات: 166] أيضا للإنسان معهم شركة، ومن مفاخر الإنسان أن يقولوا: وإنا نحن لمحبون وإنا لنحن المحبوبون وهم مخصوصون به في الترقي من مقام المحبية إلى مقام المحبوبية، وبقوله: { وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الأولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون } [الصافات: 167-170] يشير إلى تنزل الإنسان إلى الدرك الأسفل.
[37.171-182]
وبقوله: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } [الصافات: 171] يشير أن توفي الإنسان إلى مقام الإيمان وأن ترقي المؤمن إلى مقام الولاية وأن ترقي الولي إلى مقام قوله النبوة وأن ترقي النبي إلى مقام المرسلين كله بعناية رب العالمين وبتقديره ذلك قوله:
كتب الله
[المجادلة: 21] أي: قدره الله
أنا ورسلي
[المجادلة: 21] { إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 172-173] فمن نصرناه فلا يغلب ومن جدلناه فلا يغلب، وجنده الذين نصبهم لنشر دينه، وأقامهم لنصر الحق وتبيينه فمن أراد إذلالهم فعلى أذقاته يجر وفي حبل هلاكه ينجر.
وبقوله: { فتول عنهم حتى حين } [الصافات: 174] يشير إلى خذلانهم بقوله { فتول عنهم } أي: أعرض عنهم فإني قد أعرضت عنهم حتى حين أقبلوا علينا فيقبل عليهم، كما قال تعالى:
وإن عدتم عدنا
[الإسراء: 8] { وأبصرهم } [الصافات: 175] أحوالهم { فسوف يبصرون } [الصافات: 175] جزاء مما علموا من الخير والشر { أفبعذابنا } [الصافات: 176] وإنما كان ذلك فيما كان يتمنون قيام الساعة وكانوا { يستعجلون } [الصافات: 176] ذلك لفرط جهلهم ثم لقلة تصديقهم { فإذا نزل بساحتهم } [الصافات: 177] وأتاح البلاء لعقولهم { فسآء صباح المنذرين * وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون } [الصافات: 177-179] فعن قريب سيحصل ما منه يحذرون { سبحان ربك رب العزة } [الصافات: 180] تقديسا { عما يصفون } [الصافات: 180] أهل الأهواء والبدع { وسلام على المرسلين } [الصافات: 181] الذين يبلغون رسالات ربهم ليبلغوها بالسلامة { والحمد لله رب العالمين } [الصافات: 182] هو المحمود في كل حال من الحالات ساء أو ستر نفع أم ضر.
[38 - سورة ص]
[38.1-8]
{ ص } [ص: 1]، بقوله: { ص } يشير إلى: القسم بصاد الصمدية في الأزل، وبصاد صانعيته في الأواسط، وبصاد صبوريته في الأبد، وبصاد صدق الذي جاء بالصدق، وبصاد صديقيته الذي صدق به، وبصاد صفاء صفوته في مودته ومحبته، وبقوله: { والقرآن ذي الذكر } [ص: 1]، يشير إلى: القسم بالقرآن الذي هو مخصوص بالذكر؛ وذلك لأن القرآن قانون معالجات القلوب المريضة، وأعظم مرض القلب نسيان الله تعالى، كما قال تعالى:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67]، وأعظم علاج مرض النسيان ذكر الله، كما قال تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]؛ ولأن العلاج بأضدادها.
وبقوله: { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } [ص: 2]، يشير إلى: انحراف مزاج قلوب الكفار لمرض نسيان الله تعالى من اللين والسلامة إلى الغلظة والقساوة، ومن التواضع إلى التكبر، ومن الوفاق إلى الخلاف، ومن الوصلة إلى الفرقة، ومن المحبة إلى العداوة، ومن مطالعة الآيات إلى الإعراض عن البحث للأدلة والسير للشواهد.
{ كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا } [ص: 3] عند هجوم البلاء، { ولات حين مناص } [ص: 3] إذ فات وقت الإشكاء، { وعجبوا أن جآءهم منذر منهم } [ص: 4] ولم يعجبوا أن يكون المنحوتات آلهة، وهذه مناقضة ظاهرة، فلما تحيروا في شأن أنبيائهم رموهم بالسحر، { وقال الكافرون هذا ساحر كذاب } [ص: 4]، والإشارة في هذا أنهم لما كان منحرف مزاج القلوب بمرض نسيان الحق، جاءت النبوة على مذاق عقولهم المتغيرة سحرا، والصديق كذابا، ومن حول نظرهم رأوا الإله الواحد آلهة، وقالوا: { أجعل الآلهة إلها واحدا } [ص: 5] ولم يعلموا أنهم جعلوا الإله الواحد آلهة، { إن هذا لشيء عجاب } [ص: 5]، لم تباشر خلاصة التوحيد قلبهم، وتعدوا عن ذلك تجويزا، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما، فلا عرفوا الله ولا معنى الإلهية، فإن الإلهية؛ هي القدرة على الاختراع، وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجوده المانع بينهما وجوازه، وذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كمالي الوصف لم يكونا إلهين، وكل أمر جر تنويه بسقوطه مطوع باطل بقوله: { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم } [ص: 6]، يشير إلى: إن الكفار إذا تواصلوا فيما بينهم بالصبر على آلهتهم، فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم، والاستقامة في دينهم، بل الطالب الصادق، والعاشق الوامق أولى بالصبر والثبات على قدم الصدق في طلب المعبود المحبوب المعشوق، { إن هذا لشيء يراد } [ص: 6] في الأزل في المقبول والمردود.
وبقوله: { ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } [ص: 7]، يشير إلى أن ركون الجهال إلى البشرية والعادة وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلالة، واستناموا إلى التقليد والهوادة، وبقوله: { أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري } [ص: 8]، يشير إلى أن القرآن قديم؛ لأنه سماه الذكر، ثم أضافه إلى نفسه تعالى بقوله: { من ذكري } [ص: 8]، ولا خفاء بأن ذكره قديم؛ لأن الذكر المحدث يكون مسبوقا بالنسيان، وهو منزه عن النسيان، وبقوله: { بل لما يذوقوا عذاب } [ص: 8]، فيشير إلى أنهم مستغرقون في عذاب الطرد والبعد ونار القطيعة، ولكنهم عن ذوق العذاب بمعزل؛ لغلبة الحواس إلى أن يكون
يوم تبلى السرآئر
[الطارق: 9]، فيغلب السرائر على الصور، والبصائر على البصر، فيقال لهم:
فذوقوا العذاب
[الأحقاف: 34]؛ يعني: كنتم معذبين، وما كنتم ذائقي العذاب؛ فالمعنى: إنهم لو ذاقوا عذابي ووجدوا ألما لما قدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم، وفيه إشارة إلى حال أكثر علماء زماننا وعبادهم أنهم إذا رأوا عالما ربانيا من أرباب الحقائق يخبر عن حقائق لم يفهموها، ويشير إلى دقائق لم يذوقوها، دعتهم النفوس المتمردة إلى تكذيبه، ويقولون: أكوشف هو بهذه الحقائق من بيننا، ويقعون في الشك من أمرهم، لو استبصروا في دينهم لما جحدوهم، واغتنموا أنفاسهم، واقتبسوا من أنوارهم.
[38.9-17]
ثم أخبر عن جهالة الكفار وضلالتهم بقوله تعالى: { أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب } [ص: 9]، يشير إلى أنه هو العزيز الذي له خزائن الرحمة، ومن دونه فهو ذليل له لاحتياجه إليه، وهو الوهاب الذي يهب لمن يشاء ما يشاء، وفيه آل هؤلاء الكفار الذين عارضوا ونازعوا وكابروا واجتمعوا عندهم شيء من هذه الأشياء، فيفعلوا ما أرادوا، أو يعطوا ما شاءوا، ويرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحي على من أرادوا، ويهلكوا من أرادوا.
{ أم لهم ملك السموت والأرض وما بينهما فليرتقوا فى الأسباب } [ص: 10]؛ بل الله يصطفي من يشاء، ويؤتي من يشاء لعزته، وهم { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } [ص: 11]، كلهم عجزة لا يقدرون على ذلك مهزومون، شبههم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين؛ أي: إن هؤلاء الكفار ليس معهم حجة سؤالهم قوة، ولا لأصنامهم أيضا من النفع والضر مكنة، ولا في الدفع والرد عن أنفسهم قوة، وبقوله: { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب لئيكة أولئك الأحزاب } [ص: 12-13]، يشير إلى تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتصفيته عن اهتمام كفار مكة؛ لئلا يفيق قلبه عن تكذيبهم إياه، ولا يحزن عليهم لكفرهم فإن هؤلاء الأحزاب.
{ إن كل إلا كذب الرسل } [ص: 14] كما أن قومك كذبوك، { فحق عقاب } [ص: 14]؛ أي: فوجب عليهم عذابي؛ ليكونوا مظهر قهري، ومطلب نار غضبي، { وما ينظر هؤلآء } [ص: 15] كلهم، { إلا صيحة واحدة } [ص: 15] أثرا من أثار قهرنا، { ما لها من فواق } [ص: 15] راحة وخلاص، وبقوله: { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } [ص: 16]، يشير إلى أن النفوس الخبيثة السفلية تميل بطبعها إلى السفليات؛ وهي في الدنيا لذائذ الشهوات الحيوانية، وفي الآخرة دركات أسفل سافلين جهنم، كما أن القلوب العلوية اللطيفة تميل بطبعها إلى العلويات؛ وهي في الدنيا حلاوة الطاعات ولذاذة القربات، وفي الآخرة درجات أعلى عليين الجنان، وكما أن الأرواح القدسية تشتاق بخصوصيتها إلى شواهد الحق، ومشاهد أنوار الجمال والجلال، ولكل من هؤلاء الأصناف جذبة بالخاصية من جاذبة بلا اختيار: كجذبة المغناطيس للحديد، وميلان طبع الحديد إلى المغناطيس من غير اختيار بل باضطرار، { اصبر على ما يقولون } [ص: 17] فيما يلتمسون من تعجيل العذاب، فعن قريب سينزل الله نصرك يا محمد ويعطيهم سؤلهم.
ثم أخبر عن توبة داود وأوابته بقوله تعالى: { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب } [ص: 17]، يشير إلى كماليته في العبودية بأنه لم يكن عبد الدنيا ولا عبد الآخرة، وإنما كان عبدنا خالصا مخلصا، وله قوة في العبودية ظاهرا وباطنا:
فأما قوته في الظاهر: فبأنه قتل جالوت وجنوده بثلاثة أحجار رميا إليهم.
وأما قوته في الباطن: إنه كان أوابا، وقد سرت أوابيته في الجبال والطير فكانت تأوب معه.
[38.18-23]
وبقوله: { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب } [ص: 18-19]، يشير إلى كمال عناية ربوبيته في حقه بعد إظهار كمال عبوديته، { وشددنا ملكه } [ص: 20] في الظاهر بأن جعلناه أشد ملوك الأرض، وفي الباطن بأن { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } [ص: 20]؛ والحكمة هي: أنواع المعارف من المواهب، وفصل الخطاب: بأن ملك المعارف بأدل دليل وأقل قليل، وبقوله: { وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم } [ص: 21-22]، يشير إلى كمال ضعف البشرية مع أنه كان أقوى الأقوياء إذ فزع منهم، ولعل فزع داود عليه السلام كان لإطلاع درجة، على أنه ذلك تنبيه له وعتاب فيما سلف منه، وبقوله: { قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض } [ص: 22]، يشير إلى أنه لا تخف عن صورة أحوالنا فإنا جئنا لتحكم { بيننا بالحق } [ص: 22]؛ ولكن خف عن حقيقة أحوالنا، فإنها كشف أحوالك التي جرت بينك وبين خصمك أوريا، وبقوله: { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط } [ص: 22]، يشير إلى أن هذه الحكومة هي الحكمة التي بينك وبين خصمك، فاهدنا فيها إلى الصراط المستقيم إلى الله، فإن سير العباد إلى الله على أقدام المعاملات على جادة الشريعة.
وبقوله: { إن هذآ أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } [ص: 23]، يشير إلى أن الظلم في الحقيقة من شيم النفوس، فإن وجدت ذا عفة فلعلة، كما قال يوسف عليه السلام:
ومآ أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53].
[38.24-26]
وبقوله: { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض } [ص: 24]، يشير إلى أن النفوس جبلت على الظلم والبغي وسائر الصفات الذميمة ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام، ثم استثني منهم أهل الإيمان والعمل الصالح بقوله: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ص: 24]؛ يعني: الذين آمنوا وعملوا أعمالا صالحة لتزكية النفس عن صفاتها الذميمة، ثم قال تعالى: { وقليل ما هم } [ص: 24]؛ يعني: وقليل من أهل الإيمان أن يكون أعمالهم صالحة لتزكية النفس، وهم الأنبياء والأولياء، وفيه إشارة أخرى وهي: إن من شأن النبي والولي أن يحكم كل واحد منهم بين الخصوم بالحق، كما ورد الشرع به بتوفيق الله، وإن الواجب عليهم أن يحكموا على أنفسهم بالحق كما يحكمون على غيرهم، كما قال تعالى:
كونوا قومين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم
[النساء: 135]، فلما انتبه داود عليه السلام أنه ما حكم على نفسه بالحق كما حكم على غيره كما أخبر الله تعالى بقوله: { وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } [ص: 24]؛ أي: أناب واستغفر ورجع إلى ربه متضرعا خاشعا، باكيا بقية العمر، معتذرا عما جرى عليه، فتقبل الله منه ورحم عليه وعفا عنه.
وقال: { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى } [ص: 25]؛ أي: لقربة بكل تفرع وخضوع وخشوع، وبكاء وأنين وحنين، وتأوه صدر منه { و } [ص: 25] له بهذه المراجعات، { حسن مآب } [ص: 25] عندنا، وفيه إشارة أخرى وهي أن نعلم أن المعصوم عن عصمة الله عز وجل، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلله
فلا هادي له
[الأعراف: 186].
ثم أخبر عن الهدى أنه مخالفة الهوى بقوله: { يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } [ص: 26]، يشير إلى معان مختلفة:
منها: إن الخلافة الحقيقة ليست بمكتسبة للإنسان؛ إنما هي عطاء وفضل من الله
فضل الله يؤتيه من يشآء
[الحديد: 21]، كما قال تعالى: { إنا جعلناك خليفة } [ص: 26]؛ أي: أعطيناك الخلافة.
ومنها: إن استعداد الخلافة مخصوص بالإنسان، كما قال:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض
[الأنعام: 165].
ومنها: إن الإنسان وإن خلق مستعدا للخلافة، ولكن بالقوة فلا يبلغ درجتها بالكمال إلا الشذاذ منهم.
ومنها: إن [خلافته] تتعلق بعالم المعنى، كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة، ولهذا إنما أخبر الله تعالى عن صورة آدم عليه السلام قال:
إني خالق بشرا من طين
[ص : 71]، ولما أخبر عن معناه قال:
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30]، وقال:
الحمد لله الذي خلق السموت والأرض وجعل الظلمت والنور
[الأنعام: 1]، قال:
الحمد لله فاطر السموت والأرض جاعل الملائكة رسلا
[فاطر: 1].
ومنها: إن الروح الإنساني من الفيض الأول، وهو أول شيء تعلق بأمر " كن " ، ولهذا نسبه إلى أمره، فقال تعالى:
قل الروح من أمر ربي
[الإسراء: 85]، ولما كان هو الفيض الأول إفاضة إلى ذاته تعالى، فقال:
ونفخت فيه من روحي
[ص: 72]، فلما كان الروح هو الفيض الأول كان خليفة الله بذاته وصفاته، إما بذاته؛ فلأنه كان له وجود من وجوده بلا واسطة، فوجوده كان وجود خليفة وجود الله تعالى، وإما بصفاته؛ فلأنه كان له صفات أيضا من وجود صفات الله بلا واسطة، فكل وجود وصفات يكون بعد وجود الخليفة يكون خليفة الله بالذات والصفات،... هلم جرا إلى أن يكون القالب الإنساني وهو أسفل سافلين الموجودات، وآخر شيء لقبول الفيض الإلهي، وأقل حظ من الخلافة، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض خلق لخليفة روحه منزلا صالحا لنزول الخليفة فيه وهو قالبه، وأعد له عرشا فيه ليكون محل استوائه عليه وهو القلب، ونصب له خادما وهو النفس، فلو بقي الإنسان على فطرة الله التي فطر الناس عليها يكون روحه مستفيضا من الله تعالى، فائضا بخلافة الحق تعالى على عرش القلب، فائض بخلافة الروح على خادم النفس، فائض بخلافة القلب على القالب، والقالب فائض بخلافة النفس على الدنيا وهي أرض الله، فتكون الروح بهذه الأسباب والآلات خليفة الله في أرضه بحكمه وأمره بتواقيع الشرائع.
ومنها: إن من خصوصية الخلافة الحكم بين الناس بالحق، والإعراض عن الهوى، وترك متابعته، كما أن من خصوصية أكل الحلال العمل الصالح، قال تعالى:
كلوا من الطيبات واعملوا صالحا
[المؤمنون: 51].
ومنها: إن الله تعالى جعل داود الروح خليفة في أرض الإنسانية، وجعل القلب والسر، والنفس والقالب، والحواس والقوى، والأخلاق والجوارح والأعضاء كلها رعية له، ثم على قضية
" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته "
، أمر بأن يحكم بين رعيته بالحق؛ أي: بأمر الحق تعالى، وقال: { ولا تتبع الهوى } [ص: 26]؛ أي: لا بأمر الهوى، ثم اعلم أن الله تعالى خلق الهوى في الباطل على صفة الضلالة مخالفا للحق تعالى، فإن من صفة الهداية والحكمة في خليفته ليكون هاديا إلى الحضرة بضدية طبعه ومخالفة أمره، كما أن الحق تعالى كان هاديا إلى حضرته بنور ذاته وموافقة أمره؛ ليسير السائر إلى الله على قدمي موافقة أمر الله ومخالفة هواه؛ ولهذا قالت المشايخ: لولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله.
ومنها: إن أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ما عبد إله في الأرض أبغض على الله من الهوى ".
ومنها: إن للهوى كمالية في الإضلال لا توجد في غيره؛ وذلك لأنه يحتمل أن يتصرف في الأنبياء بإضلالهم عن سبيل الله، كما قال لداود عليه السلام في هؤلاء: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } [ص: 26]، يشير إلى أن الضلال الكبير؛ هو الانقطاع عن طلب الحق، ومن ضل عن طريق الطلب مأخوذ بعذاب شديد القطيعة والحرمان من القرب وجوار الحق، وذلك { بما نسوا يوم الحساب } [ص: 26]؛ وهو يوم يجازي فيه كل محق بقدر هدايته، وكل مبطل بحسب ضلالته.
[38.27-29]
وبقوله: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا } [ص: 27]، يشير إلى أنا خلقناهما وما بينهما بالحق؛ ليكون مرآة يشاهد فيها المؤمنون الذين ينظرون بنور الله شواهد صفات جمالنا وجلالنا، مرآة
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
[فصلت: 53]، وقالوا:
ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
[آل عمران: 191]، فظن الذين كفروا أنا خلقناهما باطلا، { فويل للذين كفروا } [ص: 27] بما ظنوا، { من النار } [ص: 27]؛ أي: من عذاب نار القطيعة والبعد.
وبقوله: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } [ص: 28]، يشير إلى أن أهل الإيمان والعمل الصالح وأهل التقوى هم مظهر صفات لطفنا، والمفسدون والفجار هم مظهر صفات قهرنا، فلا تجعل كلتا الطائفتين كل واحدة منهما كالأخرى.
وبقوله: { كتاب أنزلناه إليك مبارك } [ص: 29]، يشير إليه أنه مبارك على من يعمل به، { ليدبروا آياته } [ص: 29] بالفكر السليم، { وليتذكر } [ص: 29]؛ أي: وليتعظ به { أولوا الألباب } [ص: 29]؛ وهم الذين انسلخوا من حلل بشريتهم كما تنسلخ الحية في جلدها.
[38.30-40]
{ ووهبنا لداوود } [ص: 30]؛ أي: لداود الروح { سليمان } [ص: 30] القلب، { نعم العبد إنه أواب } [ص: 30]، رجع إلى الحضرة بإخلاص العبودية بلا علة الدنيوية والأخروية.
{ إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } [ص: 31]؛ وهي مراكب صفات البشرية، وبقوله: { فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب } [ص: 32]، يشير إلى أن حب غير الله شاغل عن الله وموجب للحجاب.
وبقوله: { ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق } [ص: 33]، يشير إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله، وبقوله: { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } [ص: 34]، يشير إلى إلقاء وسوسة شيء من الشهوات الجسدانية على كرسي صدر سليمان القلب، فافتتن به إلى أن تاب منه، ورجع إلى الحضرة.
ثم أخبر عن الإجابة بعد الإنابة بقوله تعالى: { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } [ص: 35]، يشير إلي معان مختلفة:
منها: إنه أراد طلب الملك الذي هو رفعة الدرجة، بني الأمر في ذلك على التواضع الموجب للرفقة؛ وهو قوله: { رب اغفر لي } [ص: 35].
ومنها: إنه قدم طلب المغفرة؛ لأنه لو كان طلب الملك ذلة عن حق الأنبياء - عليهم السلام - تكون مسبوقة بالمغفرة لا يطالب بها.
ومنها: إن الملك مهما يكن في يد مغفور له منظور بنظر العناية ما يصدر منه تصرف في الملك إلا مقرونا بالعدل والنصفة، وهو محفوظ من آفات الملك وتبعاته.
ومنها: قوله: { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } [ص: 35]؛ أي: يكون ذلك موهوبا له، بحيث لا ينزعه منه ويؤتيه من يشاء، كما هي السنة الإلهية جارية فيه .
ومنها: قوله: { لا ينبغي لأحد } [ص: 35]؛ أي: لا يطلبه أحد غيري؛ لئلا يقع في فتنة الملك على مقتضى قوله تعالى:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7]، فإن الملك جالب للفتنة، كما كان جالبا إلى سليمان عليه السلام بقوله: { ولقد فتنا سليمان } [ص: 34]؛ ولئلا يكون هو سبب افتتانهم.
ومنها: قوله: { ملكا لا ينبغي لأحد } [ص: 35]؛ أي ملكا لا يطلع على حقيقته وكماليته أحد حتى يطلبه منك؛ يعني: يكون في جملة
" ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "
ليطلبه.
ومنها: قوله: { لا ينبغي لأحد } [ص: 35]؛ أي: لا يكون هذا الملك ملتمس أحد منك غير للتمتع والانتفاع به، وهو بمعزل عن قصدي ونيتي عن طلب هذا، فإن لي في هذا الملك نية لنفسي، ونية لقلبي، ونية لروحي، ونية للرعايا، ونية للملك.
وأما نيته لنفسه: فتزكيتها عن صفاتها الذميمة وأخلاقها اللئيمة، وذلك في منعها عن استيفاء شهواتها الحيوانية، وترك مستلذاتها النفسانية بالاختيار دون الاضطرار، وإنما يتيسر ذلك بعد القدرة الكاملة عليه بالمالكية والملكية بلا مانع ولا منازع، وكمالية في المملكة بحيث يعوذ فيها مما تحرك داعية من دواعي البشرية المركوزة في جبل الإنسانية؛ ليكون كل واحد من المشتهيات والمستلذات النفسانية محرك لراعية تناسبها عند تملكها، والقدرة عليها عند توقان النفس إليها، وغلبات هواها، فيحرم على النفس مراضعها، ويحرمها عن مشاربها، ونهاها عن هداها خالصا لله وطالبا لمرضاته، فتموت النفس عن صفاتها كما يموت البدن عن إعواز ما هو غذاء يعيش به، فلما ماتت النفس عن صفاتها الذميمة يحييها الله تعالى بالصفات الحميدة، كما قال تعالى:
فلنحيينه حياة طيبة
[النحل: 97]، وقال:
قد أفلح من زكاها
[الشمس: 9]، فلا يبقى لها نظر إلى الدنيا وسائر نعيمها، كما كان حال سليمان لم يكن له نظر إلى الدنيا ونعيمها، إنما كان مع تلك الوسعة في المملكة يأكل كسيرة من كسب يده مع جليس مسكين، ويقول: جالس مسكينا.
وأما نيته لقلبه: فتصفيته عن محبة الدنيا وزينتها وشهواتها، وتوجهه إلى الآخرة بالإعراض عنها عن القدرة عليها والتمكن فيها، ثم صرفها في سبيل الله وقلع أصلها من أرض القلب؛ ليبقى القلب صافيا نقيا من الدنس قابلا للفيض الإلهي، فإنه خلق مرآة لجميع الصفات الإلهية.
وأما نيته لروحه: فلتحليته بالأخلاق الحميدة الربانية، ولا سبيل إليها إلا بعلو الهمة وخلوص النية، فإن المرء يطير بهمته كالطائر
يطير بجناحيه
[الأنعام: 38]، وتزينه الهمة بحسب نيل المقاصد الدنيوية الدنية، وصرفها عن نيل المراتب الدنية الأخروية الباقية، وإن لترك المقاصد الدنيوية وإن كان أثرا لتربية الهمة، ولكن لا يبلغ حد أثر صرفه ما يملك من المقاصد الدنيوية لنيل الدرجات العلية، فلما كان من أخلاق الله تعالى أنه يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها، التمس سليمان عليه السلام أقصى مراتب الدنيا ونهاية مقاصدها؛ لئلا يلتفت إليها ويستعملها في تربية الهمة؛ لتتجلى روحه بحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها متخلقا بأخلاق الله تعالى.
وأما نيته للرعايا: بأن يحسن إليهم ويؤلف قلوبهم ببذل المال والجاه، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، فإنهم إذا أحبوا نبي الله لزمهم حب الله، فيكون حب الله وحب نبيه في قلوبهم محض الإيمان، ومن لم يكن منهم أن يؤمن بالإحسان فيدخلهم في الإيمان بالقهر والغلبة بأن يأتيهم
بجنود لم تروها
[التوبة: 40]، كما أدخل بلقيس وقومها في الإيمان.
وأما نيته للملك: بأن يجعل الممالك الدنيوية الفانية أخروية باقية، بأن يتوسل بها إلى الحضرة بصرفها في إظهار الدين، وإقامة الحق، وإعلاء كلمة الإسلام، فإن قيل قوله: { لا ينبغي لأحد من بعدي } [ص: 35]، هل يتناوله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قلنا:
إما بالصورة: فيتناول، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا بعدم استحقاقه؛ لأنه عرض عليه صلى الله عليه وسلم ملك أعظم من ملكه فلم يقبله، وقال:
" الفقر فخري ".
وإما بالمعنى: فلا يتناول النبي صلى الله عليه وسلم: لأنه قال:
" فضلت على الأنبياء بست "
؛ يعني: على جميع الأنبياء، ولا خفاء بأن سليمان عليه السلام ما بلغ درجة واحدة من أولى العزم من الرسل اختصاصه بصورة الملك منهم، وهم معه مفضلون بست فضائل من النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الملك الحقيقي الذي كان كان ملك سليمان صورته بلا ريب يكون داخلا في الفضائل التي اختصه الله بها، وأخبر عنها بقوله:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113]؛ بل أعطاه الله تعالى ما كان مطلوب سليمان عليه السلام من صورة الملك ومعناه، أو فسر ما أعطى سليمان وفتنه به من غير رحمة مباشرة صورة الملك، والافتتان فلم يقبله به عزة ودلالا.
وبقوله: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخآء حيث أصاب } [ص: 36]، يشير إلى أن سليمان عليه السلام لما فعل بالصافنات الجياد، وما فعل في سبيل الله عوضه الله تعالى مركبا مثل: الريح كان
غدوها شهر ورواحها شهر
[سبأ: 12].
وبقوله: { والشياطين كل بنآء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطآؤنا } [ص: 37-39]، يشير إلى أن الإنسان إذا كمل في إنسانيته يصير قابلا للفيض الإلهي بلا واسطة، فيعطيه الله من آثار الفيض تسخير ما في السماوات من الملائكة، كما سخر لآدم بقوله:
اسجدوا لأدم
[البقرة: 34] وما في الأرض، كما سخر لسليمان الجن والإنس والشياطين والوحوش والطيور؛ وذلك لأن كل ما في السماوات وفي الأرض أجزاء وجود الإنسان الكامل، فإذا أنعم الله عليه بفيض سخر له أجزاء وجوده في المعنى، أما في الصورة فيظهر على بعض الأنبياء تسخير بعضها إعجازا له، كما أظهر على نبينا صلى الله عليه وسلم تسخير القمر عند انشقاقه بإشارة إصبعه؛ ولهذا قال: { هذا عطآؤنا } [ص: 39] ، وبقوله: { فامنن أو أمسك بغير حساب } [ص: 39]، يشير إلى أن الأنبياء بتأييد الفيض الإلهي ولاية إفاضته الفيض على من هو أهله عند استفاضته، ولهم إمساك الفيض عند عدم الاستفاضة من غير أهله، ولا حرج عليهم في الحالتين.
{ وإن له عندنا لزلفى } [ص: 40] في الإفاضة والإمساك، { وحسن مآب } [ص: 40]؛ لأنه كان متقربا إلينا بالعطاء والنعم.
[38.41-44]
ثم أخبر عن رعاية العبودية وعناية الربوبية بقوله تعالى: { واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41]، يشير إلى معان مختلفة:
منها: إن من شرط عبودية خواص عبادنا من الأنبياء والأولياء الصبر عند نزول البلاء، والرضاء بجريان أحكام القضاء.
ومنها: ليعلم أن الله تعالى لو سلط الشيطان على بعض أنبيائه أو أوليائه لا يكون لإهانتهم؛ بل يكون لعزتهم وإعانتهم على البلوغ إلى رتبة نعم العبدية، ودرجة الصابرين المحبوبين.
ومنها: إن العبادات من الأنبياء والأولياء لو لم يكونوا من كنز عصمة الله وحفظه لمستهم الشياطين بنصب وعذاب.
ومنها: إن من آداب العبودية إجلال الربوبية وإعظامها عن إحالة الضرر والبلاء والمحن عليها إلا على الشيطان، كما قال يوسف:
من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي
[يوسف: 100]، وقال يوشع عليه السلام:
ومآ أنسانيه إلا الشيطن
[الكهف: 63]، وقال موسى عليه السلام:
هذا من عمل الشيطان
[القصص: 15].
ومنها: ليعلم ما بلغ من بلغ مقام الرجال البالغة إلا بالصبر على البلوى، وتفويض الأمور إلى المولى، والرضاء بما يجري عليه في القضاء.
وبقوله: { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } [ص: 42]، يشير إلى أن الله تعالى إذا نظر إلى العبد بنظر الرضاء يبدل مرضه بالشفاء، وشدته بالرخاء، وجفاه بالوفاء، ويخرج من تحت قدميه بركضته ينبوعا ينبع منها مغتسل العلل، ومشرب أرباب الملك.
وبقوله: { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب } [ص: 43]، يشير إلى كمال القدرة على الإيجاد والإفناء، والإحياء والإماتة، والإعادة إظهارا للرحمة، وموعظة لأرباب القلوب الحية.
وبقوله: { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } [ص: 44]، يشير إلى معان مختلفة:
منها: إظهارا لبراءة ساحة المرأة من كل ريبة توهمها في حقها أيوب عليه السلام.
ومنها: إن الله تعالى أراد أن يعصم نبيه أيوب عليه السلام عن الذنبين اللازمين أحدهما، إما الظلم، وإما الحنث.
ومنها: إنه تعالى أراد ألا يضيع أجر إحسان المرأة مع زوجها، ولا يكافئها بالخير شرا، وتبقى ببركتها هذه الرخصة في الأمم إلى يوم القيامة.
وبقوله: { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } [ص: 44]، يشير إلى أن أيوب عليه السلام لم يكن ليجد نفسه صابرا، { إنا وجدناه صابرا } [ص: 44]؛ أي: جعلناه صابرا، يدل على هذا المعنى قوله تعالى لنبيه عليه السلام:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127]؛ أي: هو الذي صبرك، وإلا لم تكن تصبر، وقوله: { نعم العبد } [ص: 44] يدل على أنه تعالى جعله صابرا؛ لأنه كان نعم العبد، وإنما كان نعم العبد؛ لأنه كان أوابا راجعا إلى الحضرة في طلب الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء.
[38.45-54]
ثم أخبر عن خلاص أهل الإخلاص بقوله تعالى: { واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } [ص: 45]، يشير إلى أن كمالية العبودية إنما يحصل في عبادنا المخلصين؛ إذا { إنآ أخلصناهم } [ص: 46] من غل بشريتهم، و[شوائب] أنانيتهم { بخالصة ذكرى الدار } [ص: 46]؛ أي: تفصيله خالصة بجعل القلب سليمان من ذكر الدار؛ يعني: بقطع تعلقه عن الدارين؛ إذ لم يعلموا على ملاحظة حظوظها، بل تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكر الدارين.
{ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار * واذكر إسماعيل } [ص: 47-48] واعتبر أو أسلم نفسه للذبح في سبيل الله، { واليسع وذا الكفل } [ص: 48] قيل أنهما كانا أخوين، { وذا الكفل } [ص: 47] تكفل الله تعالى بعمل رجل صالح مات في وقته، { وكل من الأخيار * هذا ذكر } [ص: 48-49]؛ أي: القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء وقصصهم؛ ليعتبر بهم ويقتدي بسيرهم، فإنهم كل من الأخيار للنبوة والرسالة، { وإن للمتقين } [ص: 49] الذين يتقون بالله عما سواه { لحسن مآب } [ص: 49] في الحضرة وعالم الوحدة.
وبقوله: { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هذا ما توعدون ليوم الحساب } [ص: 50-53]، يشير إلى أن هذه الجنات بهذه الصفات مفتوحة الأبواب لهم، وأبواب الجنة بعضها مفتوحة إلى الخلق، وبعضها مفتوحة إلى الخالق، لا يغلق عليهم واحدة منها، فيدخلون من باب الخلق، ويتنعمون بما أعد لهم فيها، ثم يخرجون من باب الخالق وينزلون
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، لا يقيدهم نعيم الجنة ليكونوا من أهل الجنة، كما لم يقيدهم نعيم الدنيا ليكونوا من أهل الدنيا، بل أخلصهم الله من حبس الدار، ومتعهم بنزل المنزلين، وجعلهم من أهل الله وخاصته، { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } [ص: 54]؛ أي: هذا ما رزقناهم من الأزل فلا نفاذ له إلى الأبد.
[38.55-61]
ثم أخبر عن الطاغين الباغين بقوله تعالى: { هذا وإن للطاغين لشر مآب } [ص: 55]، يشير إلى أن لأهل الطغيان الذين أعرضوا عن الحق تعالى لشر مرجع { جهنم } [ص: 56] البعد والطرد { يصلونها } [ص: 56] يوم القيامة، ولكنهم اليوم مهدوا لأنفسهم { فبئس المهاد * هذا } [ص: 56-57]؛ أي: هذا الذي مهدوا اليوم، { فليذوقوه } [ص: 57] يوم القيامة، ولكنهم اليوم مهدوا لأنفسهم؛ يعني: قد حصلوا اليوم معنى صورته، { حميم وغساق } [ص: 57] يوم القيامة، ولكن مذاقهم بخلل يجدون ذوق ألم عذاب ما حصلوه لسوء أعمالهم فليذوقوه يوم القيامة.
{ وآخر من شكله أزواج } [ص: 58]؛ أي: فنون آخر من مثل ذلك العذاب، يشير به إلى: إن لكل نوع من المعاصي نوعا آخر من العذاب، كما أن لكل بذر يزرعون يكون له ثمرة تناسب البذر.
وكما أخبر عن حال الأتباع والمتبوعين { هذا فوج مقتحم معكم } [ص: 59]؛ أي: يسأل الخزنة للمتبوعين، هل دخل الأتباع معكم مرجعكم؟ فإنهم زرعوا ما زرعتم، هل يحصدون معكم ما تحصدون؟ قال المتبوعون: { لا مرحبا بهم } [ص: 59]؛ يعني: بالأتباع لا تعذر بما عملنا، وبما عمل الأتباع باتباعهم إياهم { إنهم صالوا النار } [ص: 59] معنا، { قالوا } [ص: 60] الأتباع، { بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا } [ص: 60] بأمركم ما وافقناكم { فبئس القرار } [ص: 60] قرارنا وقراركم.
وبقوله: { قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار } [ص: 61]، يشير إلى أن للمتبوعين ضعف عذاب الأتباع، عذاب ضلالة أنفسهم، وعذاب إضلال المتابعين لهم، كما قال تعالى:
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم
[النحل: 25].
[38.62-74]
وبقوله: { وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } [ص: 62]، يشير إلى تخاصم أهل النار مع أنفسهم، يسخرون بأنفسهم كما كانوا يسخرون بالمؤمنين، فيقولون: { ما لنا لا نرى } [ص: 62] في جهنم، { رجالا كنا نعدهم من الأشرار } [ص: 62]، وهذا مقام الأشرار.
{ أتخذناهم سخريا } [ص: 63] وما كانوا من الأشرار، { أم زاغت عنهم الأبصار } [ص: 63]، ما لنا لا نراهم معنا هاهنا، { إن ذلك } [ص: 64] التخاصم، { لحق } [ص : 64] مع أنفسهم { تخاصم أهل النار } [ص: 64] من الندامة، حين لا ينفعهم التخاصم ولا الندامة.
وبقوله: { قل إنمآ أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار } [ص: 65]، يشير إلى أنه ليس للعباد ملجأ ولا مفر إلا إله واحد لا شريك له؛ ليعز العباد في الله إلى شريكه، وهو قهار يقهر العباد بذنوبهم ومعاصيهم، وليس النبي صلى الله عليه وسلم إلا مخوفهم ومحذرهم من الكفر والمعاصي، ومبشرهم على الإيمان والطاعة، وإن الله { رب السموت والأرض وما بينهما العزيز } [ص: 66] بالانتقام من المجرمين، { الغفار } [ص: 66] لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
ثم أخبر عن تعظيم النبأ العظيم بقوله تعالى: { قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون } [ص: 67-68]، يشير إلى أن أمر النبوة وما أنبأهم به من أخبار القيامة والحشر، والجنة والنار، هو نبأ عظيم وشأن جسيم، يستدل به على صدقه في دعوى النبوة { أنتم عنه معرضون } [ص: 68]؛ لضلالتكم، وغاية جهالتكم، { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون } [ص: 69] فيما أخبرتكم من اختصامهم لو لم يكن لي نبوة، { إن يوحى إلي } [ص: 70]؛ أي: ما يوحى { إلا أنمآ أنا نذير مبين } [ص: 70]، ظاهر النبوة بالدلائل الواضحة منها: قوله: { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته } [ص: 71-72] تسوية تصلح لنفخ الروح الخاصة المضافة للحضرة، { ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } [ص: 72]؛ لاستحقاقه الخلافة، ومسجود به الملائكة، { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ص: 73]؛ لآدم خلافة عن الحق تعالى؛ إذ كان متجليا فيه فوقعت هيبته على الملائكة فسجدوا له، ولما كان إبليس أعول فلما رأى آثار أنوار التجلي على مشاهدة آدم استكبر، كما قال: { إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين } [ص: 74].
[38.75-81]
وبقوله: { قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75]، يشير إلى استحقاق آدم لمسجوديه الملائكة باختصاصه في الخلقة بيديه من سائر المخلوقات، ويشير بيديه إلى صفتي اللطف والقهر، وهما يشتملان على جميع الصفات، وما من صفة إلا وهي إما من قبيل اللطف، وإما من قبيل القهر، وما من مخلوق من جميع المخلوقات إلا هو إما مظهر صفة اللطف، وإما مظهر صفة القهر، كما أن الملك مظهر صفة لطف الحق تعالى، والشيطان مظهر صفة قهر الحق تعالى إلا الآدمي، فإنه خلق مظهر كلتي صفتي اللطف والقهر، والعالم بما فيه بعضه مرآة صفات لطفه تعالى وبعضه مرآة صفة قهره، والآدمي مرآة ذاته وصفاته تعالى وتقدس كما قال:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53]، وبقوله: { أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين } [ص: 75-78]، يشير إلى عزة آدم وكرامته بأن يكون مستحقا لسجود الملائكة ولم يكن لأحد منهم أن يستكبر من سجوده، وإن استكبر ويدعي الخيرية عليه يلعنه الله، ويخرجه عما يكون فيه من المقام والمنزلة، وحسن الصورة والطرد وإن استكبر عن الحضرة.
وبقوله قال: { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } [ص: 79-81]، يشير إلى أن من أبعده الحق وأطرده، وقلب عليه أحواله حتى تجر إلى نفسه أسباب الشقاوة، كما دعا ربه وسأله الأنظار من كمال شقاوته؛ ليزداد إلى يوم القيامة في سبب عقوبته فأنظره الله وأجابه إذا سأله بربوبيته؛ ليعلم أنه كل من سأله باسمه الرب فإنه يجيب كما أجاب إبليس، وكما أجاب آدم عليه السلام إذا قال:
ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23]، وأجابه وتاب عليه، وهدى إبليس لتمام شقاوته.
[38.82-88]
قال: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } [ص: 82]، ولو عرف عزته تعالى لما أقسم بها على مخالفته عن عجزه وعزة عباده.
قال: { إلا عبادك منهم المخلصين } [ص: 83] في عبوديتك لما كان تجاسره في مخاطبة الحق، حيث أمر على الخلاف وأقسم عليه أقبح وأولى في استحقاقه اللعنة من امتناعه للسجود لآدم.
{ قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ص: 84-85]، وبقوله: { قل مآ أسألكم عليه من أجر } [ص: 86]، يشير إلى أن من شرط العبودية الخالصة أن لا يراد عليها الجزاء ولا الشكور، { ومآ أنآ من المتكلفين } [ص: 86]، من حيث إني ما جئتكم باختياري دون أن أرسلت إليكم، { إن هو إلا ذكر للعالمين } [ص: 87]؛ يعني: الذي جئت به من الرسالة ما هو الأشرف، وذكر باقي لأهل العالم؛ لأني ما أرسلت إلا رحمة للعالمين { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ص: 88]؛ أي: بعدما استمرت سنة بعثتي بالعلماء بالله من أمتي الذين هم ورثتي، والخلفاء الراشدين من بعدي، والأئمة المهديين لأمتي، والمشايخ السالكين لخواص الطالبين في متابعتي، فإن الحق لا يخفى والباطل لا يدوم.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-5]
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } [الزمر: 1]، يشير إلى أنه كتاب عزيز، نزل من رب عزيز على عبد عزيز، بلسان ملك عزيز، في حق أمة عزيزة، في أوقات عزيزة، نزهة قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها في كتب الأحباب عند قراءة فصولها، والعجب منها كيف لا تزهق سرورا بوصولها، وارتياحا بحصولها وكتاب موسى في الألواح! ومنها ما كان يقرأ موسى وغيره، وكتاب نبينا صلى الله عليه وسلم نزل به الروح الأمين على قلبه، وفضل الفصل بين من يكون خطاب ربه مكتوبا في ألواحه، وبين من يكون خطاب ربه محفوظا في قلبه وكذلك أمته،
بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم
[العنكبوت: 49].
{ إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق } [الزمر: 2]؛ أي: من الحق نزل، وبالحق نزل، وعلى الحق نزل، { فاعبد الله مخلصا له الدين } [الزمر: 2] لا لغيره الدنيا، فالعبادة: معانقة الأمر على غاية الخضوع وتكون بالنفس والقلب وبالروح:
فالتي بالنفس والإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص.
والتي بالقلب والإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص.
والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقي عن طلب الاختصاص.
{ ألا لله الدين الخالص } [الزمر: 3]، الدين الخالص ما يكون جملته تعالى وما للعبد نية نصيب، ولا يحصل الدين الخالص إلا من العبد المخلص، والمخلص من خلصه الله من حبس الوجود بجوده لا بجهده، وبقوله: { والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى } [الزمر: 3]، يشير إلى أن الإنسان مجبول على معرفة صانعه وصانع العالم، ومقتضى طبعه عبادة صانعه، والتقرب إليه في خصوصية فطرته
التي فطر الناس عليها
[الروم: 30]، ولكن لا عبرة بالمعرفة الفطرية والعبادة الطبيعية؛ لأنها مشوبة بالشرك لغير الله؛ ولأنها تصدر من نشاط النفس وإتباع هواها، وإنما تعتبر المعرفة الصادرة عن التوحيد الخالص، ومن أماراتها قبول دعوة الأنبياء والإيمان بهم وبما أنزل عليهم من الكتب، ومخالفة الهوى، والعبادة على وفق الشرع لا على وفق الطبع، والتقرب إلى الله بأداء ما افترض الله عليهم، ونافلة قد أسن النبي صلى الله عليه وسلم بها أو بمثلها، فإنه كان من طبع إبليس السجود لله، فلما أمرنا بالسجود على خلاف طبعه
أبى واستكبر وكان من الكفرين
[البقرة: 34] بعد أن كان من الملائكة المقربين، وكذلك حال الفلاسفة من لا يتابع الأنبياء منهم، ويدعي معرفة الله، ويتقرب إلى الله بأنواع العلوم، وأصناف الطاعات والعبادات بالطبع لا بالشرع، ومتابعة الهوى إلا بأمر المولى، فيكون حاصل أمره ما قال تعالى:
وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا
[الفرقان: 23]، وبقوله: { إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون } [الزمر: 3]، يشير إلى أن اليوم كل مدع يدعي حقيقة ما عنده في الدين والمذهب على اختلاف طبقاتهم، فالله تعالى يحكم بينهم في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا: فيحق الله الحق بانشراح صدر أهل الحق بنور الإسلام بكتابة الإيمان في قلوبهم، وتأييدهم بروح منه، وكشف شواهد الحق عن أسرار تجلي صفات جماله وجلاله لأرواحهم،
ويبطل الباطل
[الأنفال: 8] بتضييق صدور أهل الأهواء والبدع، وقسوة قلوبهم، وعمى أسرارهم وبصائرهم وغشاوة أرواحهم بالحجب.
وأما في الآخرة: فتبييض وجوه أهل الحق واعطائهم كتابهم باليمين، وتشغيل موازينهم، وجوازهم على الصراط، ويسعى نورهم بين أيديهم، ودخولهم الجنة، ورفعتهم في الدرجات، وتسويد وجوه أهل الباطل، وإتيان كتابهم بالشمال، ودرأ ظهورهم، وتخفيف موازينهم، وذلة أقدامهم عن الصراط، ودخول النار ونزولهم في الدركات، { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [الزمر: 3]، يشير إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه، ويدعي رتبة ليس بصادق فيها، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده، وعقوبته أنه يحرم تلك الرتبة التي تصدى لها بدعواه قبل تحقيقه بوجودها.
وبقوله: { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء } [الزمر: 4]، يشير إلى أنه تعالى لو أراد اتخاذ الولد مما يخلق لاصطفى من مخلوقا جنسا آخر أعز وأكرم مما خلق، ثم نزه نفسه عن ذلك فقال: { سبحانه هو الله الواحد القهار } [الزمر: 4] ولا ثاني له، والولد يكون ثاني والده وجنسه، وشبهه القهار الذي بقهاريته لا يقبل الجنس، والشبه بنوع ما.
وبقوله: { خلق السموت والأرض بالحق } [الزمر: 5]، يشير إلى أنه تعالى محق، في خلقها { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } [الزمر: 5] بالحكمة البالغة؛ ليكون مظهر آياته لأرباب المعرفة، كما قال تعالى:
إن في خلق السموت والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب
[آل عمران: 190]، وليجعلها دالة على أحوال السائرين إلى الله في القبض والبسط، والجمع والفرق، والصحو والسكر، والستر والتجلي، ونجوم العقل وأثار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالي الشك والجحد ونهار الوصل، وليالي الهجر والفراق، وكيفية أحوال المريدين وترقيهم، وفترتهم وزيادتهم ونقصانهم، كما قال تعالى: { وسخر الشمس والقمر } [الزمر: 5]؛ أي: شمس الروح، وقمر القلب، { كل يجري لأجل مسمى } [الزمر: 5]؛ أي: يسير كل واحد على مقام قدره الله لهم وعينه { ألا هو العزيز } [الزمر: 5] المتعزز على المحبين، { الغفار } [الزمر: 5] للمذنبين.
[39.6-7]
ثم أخبر عن خلق الخلق بقوله تعالى: { خلقكم من نفس واحدة } [الزمر: 6]، يشير إلى أن خلقة الإنسان من نفس واحدة وهي الروح، { ثم جعل منها زوجها } [الزمر: 6]؛ وهو القلب، وإنه خلق من الروح كما خلقت خواص ضلع آدم، { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6]؛ أي: خلق فيكم من صفات الأنعام ثماني صفات؛ وهي الأكل والشرب، والتغوط والبول، والشهوة والحرص، والشره والغضب، وأصل جميع هذه الصفات الصفتان الاثنتان: الشهوة والغضب، فإنه لا بد لكل حيوان من هاتين الصفتين لبقاء وجوده بهما، فبالشهوة تجذب المنافع إلى نفسه، وبالغضب تدفع المضرات، { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا } [الزمر: 6] من النطفة إلى تمام الجسد، { من بعد خلق } [الزمر: 6]، أو بعد خلق الروح في عالم الأرواح { في ظلمات ثلاث } [الزمر: 6]؛ ظلمة الخلقة، وظلمة وجود الروح، وظلمة البشرية بين آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خلقتنا ظاهرا وباطنا من قطرتين أمشاج متشاكلة الأجزاء مختلفة الصور في الأعضاء، مسخرا بعضها لبعض محال للصفات الحميدة: كالعلم والقدرة والحياة، وغير ذلك في أحوال القلوب: كالسمع والبصر والحواس والقوى، وهذه كلها نعم أنعم الله بها علينا، ثم { ذلكم الله ربكم } [الزمر: 6]؛ يعني: الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه وهو ربكم؛ أي: أنا خلقتكم، وأنا رزقتكم، وأنا صورتكم، وأنا الذي أسبغت عليكم أنعامي، وخصصتكم بجميل إكرامي، وغرقتكم في بحار أفضالي، وعرفتكم استحقاق شهود جمالي وجلالي، وهديتكم إلى توحيدي وأدعوكم إلى وحدانيتي، فمالكم لا تنقطعون بالكلية إلي؟ ولا ترجون ما وعدتكم لدي؟ ومالكم تطلبون مني ولا تطلبوني؟ وقد بشرتكم بقولي:
" ألا من طلبني وجدني، ومن كان لي كنت له، ومن كنت له يكون له ما كان لي "
، { له الملك لا إله إلا هو } [الزمر: 6]؛ أي: له ملك القدرة على تبليغ العباد إلى هذه المقامات، وإعطائهم هذه الكرامات، { فأنى تصرفون } [الزمر: 6] عن ملازمة باب العبودية إلى باب عاجز مثلكم من الخلق.
{ إن تكفروا } [الزمر: 7] نعمتي، { فإن الله غني عنكم } [الزمر: 7] وعن العالمين، { ولا يرضى لعباده الكفر } [الزمر: 7] من غاية كرمه ولطفه، فإن أعرضوا عنه يخذلهم من عزته وقهره، وكبريائه وجبروته، { وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر: 7]؛ يعني: لا يرضى لكفركم؛ لأنه موجب للعذاب الشديد، ويرضى لشكركم، لأنه موجب لمزيد النعمة؛ وذلك لأن رحمته سبقت غضبه، يقول:
" يا مسكين، أنا لا أرضى لك أن لا تكون لي، وأنت ترضى بأن تكون لي قليل الوفاء كثير التجني، فإن أطعتني شكرتك، وإن ذكرتني ذكرتك "
، بقوله: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الزمر: 7]، يشير إلى أن الروح والقلب لا يؤاخذان بوزر النفس إن لم يكونا مباشرين [معها] وزرها، ولا يرضيان به، فإن الرضا بالكفر كفر، كما أن النفس لا تثاب على طاعة الروح والقلب ما لم يكن مباشرة لها معهما، ولا ترضى بهما، فإن باشرتها معهما ورضيت بها تثاب بحسبها، { ثم إلى ربكم مرجعكم } [الزمر: 7]؛ للروح والقلب والنفس، { فينبئكم } [الزمر: 7] بجزاء أعمالكم، { بما كنتم تعملون } [الزمر: 7] واحد منكم من الخير والشر، { إنه عليم بذات الصدور } [الزمر: 7] من أعمال الروح والقلب والنفس.
[39.8-10]
وبقوله: { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه } [الزمر: 8]، يشير إلى أن من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته ضر خشع وخضع، وإلى ربه فزع، وتملق بين يديه وتضرع، { ثم إذا خوله نعمة منه } [الزمر: 8] وأزال عنه ضره، وكفى أمره، وأصلح باله وأحسن حاله، { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } [الزمر: 8]، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، وأشرك بمعبوده، وأمر على جحوده، { وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله } [الزمر: 8] وينقطع في طريقه، فإن للإنسان الذي هو طبيعة { تمتع بكفرك قليلا } [الزمر: 8]؛ أي: بقليل عمرك من قليل دنياك، { إنك من أصحاب النار } [الزمر: 8]؛ لأنك صاحبت أهل النار، وسلكت على أقدام مخالفات المولى، ومرافقات الهوى، وطريق الدركات السفلى.
ثم أخبر عن أهل النجاة وأرباب الدرجات بقوله تعالى: { أمن هو قانت آنآء اليل ساجدا وقآئما } [الزمر: 9]، يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير، { يحذر الآخرة } [الزمر: 9] ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها، { ويرجوا رحمة ربه } [الزمر: 9] لا نعمة ربه، { قل هل يستوي الذين يعلمون } [الزمر: 9] قدر جوار الله وقربته وتجارة على الجنة ونعيمها، { والذين لا يعلمون } [الزمر: 9] قدره، { إنما يتذكر } [الزمر: 9] حقيقة هذا المعنى { أولوا الألباب } [الزمر: 9]؛ وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم بالكلية، وقد ماتوا عن أنانيتهم وعاشوا بهويته.
وبقوله: { قل يعباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } [الزمر: 10]، يشير إلى أن من شرط أخص خواص عبادي الذين خلصوا من عبودية غيري من الدنيا والآخرة، وآمنوا بإيمان الطلب شوقا ومحبة أن يتقوا بي عما سواي، ثم قال: { للذين أحسنوا } [الزمر: 10] في طلبي، { في هذه الدنيا } [الزمر: 10] لا يطلبون مني غيري { حسنة } [الزمر: 10]، أي: لهم حسنة وجداني؛ يعني: حسن الوجدان مودع في حسن الطلب، وبقوله: { وأرض الله واسعة } [الزمر: 10]، يشير إلى حضرة جلاله إنه لا نهاية فلا يغتر طالب بما فتح عليه من أبواب المشاهدات والمكاشفات، فيظن أنه قد بلغ المقصد الأعلى والمحل الأقصى، فإنه لا نهاية لمقامات القرب، ولا غاية لمراتب الوصول، { إنما يوفى الصابرون } [الزمر: 10] على صدق الطلب، { أجرهم } [الزمر: 10] من نيل المطلوب { بغير حساب } [الزمر: 10] إلى أبد الآباد.
[39.11-16]
وبقول: { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } [الزمر: 11]، يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يعبد الله خالصا ولا يعبد معه الدنيا والعقبى، { له الدين } [الزمر: 11]؛ أي: يكون مقصده في العباد معبوده.
{ وأمرت لأن أكون أول المسلمين } [الزمر: 12] في طلب الحق تعالى؛ ليعلموا أن ديني ومذهبي طلب الحق من الحق لا غيره، فالمسلم من أسلم وجهه لله في متابعتي بصدق الطلب، { قل إني أخاف إن عصيت ربي } [الزمر: 13] فيما أمرني بطلبه وترك سواه، { عذاب يوم عظيم } [الزمر: 13]؛ وهو يوم ألم الهجران عذاب القطيعة والحرمان، والإشارة فيه: إنكم يا مدعي الإسلام خافوا أيضا إن عصيتم ربكم فيما أمركم أن تطلبوه ولا تطلبوا معه غيره عذاب القطيعة والحرمان.
{ قل الله أعبد } [الزمر: 14] لا الدنيا ولا العقبى، وأطلب بعباده المولى { مخلصا له ديني } [الزمر: 14] وكل له سؤال ودين ومذهب فلي أتم سؤل وديني هواكم، فلما أخبر عن الدين الخالص أنه طلب الحق تعالى وهم على مخالفة دينه، فقال: { فاعبدوا ما شئتم من دونه } [الزمر: 15]؛ يعني: العبادة الحقيقة، { فاعبدوا ما شئتم من دونه } [الزمر: 15]؛ أي: ما طلبوا بعبادتكم ما شئتم بالهوى من دون المولى، ثم بين أن ذلك غاية الخسران ونهاية الخزي والهوان بقوله: { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } [الزمر: 15] بإفساد استعدادهم للوصول والوصال، { وأهليهم } [الزمر: 15] من القلوب والأسرار والأرواح حصلوا آخرتهم بالإعراض عن طلب المولى، والإقبال في متابعة الهوى ليكون { يوم القيامة } [الزمر: 15] لهم في النار المأوى، { ألا ذلك هو الخسران المبين } [الزمر: 15]؛ والخاسر على الحقيقة من خسر دنياه بمتابعة الهوى، وخسر عقباه بارتكاب ما نهي عنه، وخسر مولاه إذا هو بغير مولى.
{ لهم من فوقهم ظلل من النار } [الزمر: 16] نار القطيعة، { ومن تحتهم ظلل } [الزمر: 16] من نار الحيرة
أحاط بهم سرادقها
[الكهف: 29] لا يخرجون منها ولا يفترون عنها، كما أنهم اليوم في جهنم عقائدهم يستديمون مجابهم ولا ينقطع عنهم عقابهم، { ذلك يخوف الله به عباده } [الزمر: 16]، فمن خاف بتخويف الله إياه عن هذه الخسران فهو عبده عبدا حقيقيا، فيستوجب خطابه { يعباد فاتقون } [الزمر: 16]؛ يعني: من خصوصية عبادي أن يتقوا إلي عما سواي.
[39.17-20]
ثم أخبر أن عباد الله قد اجتنبوا طاغوت الهوى بقوله تعالى: { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله } [الزمر: 17]، يشير إلى أن طاغوت كل أحد نفسه، وإنما يجتنب عبادة الطاغوت من خالف هوى نفسه، وعانق رضاء مولاه، ورجع إليه بالخروج عما سواه رجوعا بالكلية، وبقوله: { لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [الزمر: 17-18]، يشير إلى معان كثيرة:
منها: إن أهل البشارة من يكون مخصوصا بخاصية العبدية التي هي فصاحة إلى الله؛ أي: يكون جسدا عما سوى الله.
ومنها: إنهم مبشرون بالوصول والوصال، كما قال تعالى: { أولئك الذين هداهم الله } [الزمر: 18] إلى الحضرة.
ومنها: إن الألف واللام في القول المعموم، فيقتضي أن لهم حسن الاستماع في كل قول من القرآن وغيره، ولهم أن يتبعوا أحسن من يحتمل كل قول إتباع درايته والعمل به، وأحسن كل قول ما كان من الله أو لله، أو يهدي إلى الله، وعلى هذا يكون استماع أتباع قول القوال من هذا القبيل.
ومنها: إن القول يسمع الإنسان والشيطان والنفس والملك والإله عز وجل، فيسمع من الإنسان أن الحق والباطل، ومن الشيطان الباطل، فإنه يشير إلى المعاصي دعوة الشهوات مما لها فيه نصيب، ومن الملك دعوة الطاعات، ومن الحق تعالى الخطاب في حقائق التوحيد والدعوة إلى الحضرة، كما قال تعالى:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، وقال:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8]، فأحسن الأقوال قول الله، وأحسن الاستماع أن يستمعوا من الله، ومن عرف الله لا يسمع إلا بالله ومن الله، ومن أحسن أن يسمع من الله أحسن أن يسمع عباد الله، { أولئك الذين هداهم الله } [الزمر: 18] بجذبات ألطافه إلى أعطافه { وأولئك هم أولوا الألباب } [الزمر: 18] الذين عبروا عن قشرية الأشياء ووصلوا إلى ألباب حقائقها.
وبقوله: { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار } [الزمر: 19]، يشير إلى أن من حق عليه في القسمة الأولى أن يكون مظهرا لصفات قهره إلى الأبد لا ينفعه شفاعة الشافعين، ولا يخرجه من جهنم سخط الله وطرده، وبعده جميع الأنبياء والمرسلين، { لكن الذين اتقوا ربهم } [الزمر: 20] اليوم من الشرك والمعاصي، والزلات والشهوات، وعبادة الهوى والركون إلى غير المولى، فقد أنقذهم الله في القسمة الأولى من أن يحق عليهم كلمة العذاب، وحق عليهم أن يكونوا مظهر صفات لطفه إلى الأبد، { لهم غرف } [الزمر: 20] بحسب مقاماتهم في التقوى، { من فوقها غرف } [الزمر: 20]؛ أي: ما لا نهاية له من غرفات المعارف، والقربات مبينة بأيدي أعمال السالكين وأحوال المجذوبين بعضها فوق بعض { مبنية تجري من تحتها الأنهار } [الزمر: 20] أنهار الحكم والأسرار، { وعد الله } [الزمر: 20] الذي وعد التائبين بالمغفرة، والمطيعين بالجنة، والمشتاقين بالرؤية، والعاشق الصادق بالقربة والوصلة، { لا يخلف الله الميعاد } [الزمر: 20] إذا لم يقع لهم فترة، ولا محالة بصدق وعده.
[39.21-23]
ثم أخبر عن خاصية إنزال الماء من السماء بقوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السمآء } [الزمر: 21] سماء القلب، { مآء فسلكه ينابيع } [الزمر: 21] الحكمة { في الأرض } [الزمر: 21] أرض البشرية، { ثم يخرج به زرعا } [الزمر: 21] من الأعمال البدنية، { مختلفا ألوانه } [الزمر: 21] من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد بقوله: { ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما } [الزمر: 21]، يشير إلى أعمال المرائي تراها مخضرة على وفق الشرع، ثم يجف من آفة العجب والرياء، فتراه مصفرا لا نور له، ثم جعله من رياح القهر إذا هبت عليه مظلما لا حاصل له إلا الحسرة { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } [الزمر: 21]، وذلك المؤمن بقوة عقله يوجب استغلاله له بعمله إلى أن تبدوا منه آثار اجتهاده وكمال تمكينه وقيادة بصيرته، ثم إذا بدت لائحة في سلطان المعارف تصير تلك الأنوار معمورة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلك تلك الجملة، كما قالوا: فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب.
وبقوله: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [الزمر: 22]، يشير إلى أن الإيمان نور ينور الله به مصباح قلوب عباده المؤمنين، والإسلام ضوء نور الإيمان مستضيء به مشكوة صدورهم، ففي الحقيقة من شرح الله صدره بضوء نور الإيمان فهو على نور من نظر عناية ربه، ومن إمارات ذلك النور محو آثار ظلمات صفات الذميمة النفسانية، وفي حب الدنيا وزينتها وشهواتها، وإثبات حب الآخرة والأعمال الصالحة لها، والتحلية بالأخلاق الكريمة الحميدة، كما قال تعالى:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت
[الرعد: 39]، من إماراته أن تلين قلوبهم لذكر الله فتزداد أشواقهم إلى لقاء الله وجواره، فيسأمون من محق الدنيا وحمل أثقال الأوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية، فيفرون إلى الله ويتنورون بأنوار صفاته؛ منها: نور اللوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار جمال الصمدية بحقائق التوحيد، فعند ذلك فلا وجد ولا وجود، ولا قصد ولا مقصود، ولا قرب ولا بعد، ولا وصال ولا هجران،
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]؛ كلا بل هو الله الواحد القهار، { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } [الزمر: 22]، الصلبة الصدئة برين المكاسب التي لم يقترعها خواطر التعريف، فبقيت على نكارة الجحد { أولئك في ضلال مبين } [الزمر: 22]، الضلالة الظلومية الباقية، والجهالية الدائمة.
ثم أخبر عن خطابه وكتابه بقوله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } [الزمر: 23]، يشير إلى معان:
منها: إنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، أحسن حديث مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين.
ومنها: إنه أحسن حديث؛ لأنه كلام الله وهو قديم، وكلام غيره مخلوق محدث.
ومنها: إنه كتاب متشابه في اللفظ، مثاني في المعنى من وجهين: أحدهما لكل لفظ منه معاني مختلفة، بعضها يتعلق بلغة العرب وبعضها يتعلق بأحكام الشرع، وبعضها يتعلق بإشارات الحق تعالى، كمثل الصلاة فإن معناها في اللغة الدعاء، وفي أحكام الشرع؛ هي عبارة عن هيئات وأركان وشرائط وحركات مخصوصة بها، وفي إشارة الحق تعالى هي الرجوع إلى الله تعالى، كما جاء روحه من الحضرة بالنفخة الخاصة إلى الغالب، فإنه عبر على القيام الذي يتعلق بالسماوات، ثم على الركوع الذي يتعلق بالحيوانات، ثم على السجود الذي يتعلق بالنباتات، ثم على التشهد الذي يتعلق بالمعادن، فبالصلاة يشير الله تعالى إلى رجوع الروح إلى حضرة ربه على طريق جاء منها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
" الصلاة معراج المؤمنين "
، وليس هاهنا مقام شرح رجوع الروح إلى حضرة ربه بمعراج الصلاة، وقد شرحنا حقيقة هذا في كتابنا الموسوم ب " منارات السائرين إلى حضرة الله - جل جلاله - ومقامات الطائرين " ، ولكن المعاني والإشارات والأسرار والحقائق مثاني فيها إلى لا متناهي، وإلى هذا أشير بقوله:
لو كان البحر مدادا لكلمات ربي...
[الكهف: 109].
{ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } [الزمر: 23]، إذا قرعت صفة الجلال أبواب قلوبهم من خشية الله وهيبته، { ثم تلين جلودهم وقلوبهم } [الزمر: 23] بتجلي صفات جماله { إلى ذكر الله } [الزمر: 23] بالشوق والطلب، { ذلك } [الزمر: 23]؛ أي: ذلك التجلي { هدى الله } [الزمر: 23] ليس للإنسان إليه سبيل إلا بالطلب رد، والسبيل سد، { يهدي به من يشآء ومن يضلل الله } [الزمر: 23] بأن يكله إلى نفسه وعقله ويحرمه عن الإيمان بالأنبياء ومتابعتهم، { فما له من هاد } [الزمر: 23] من براهين الفلاسفة والدلائل العقلية.
[39.24-28]
{ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } [الزمر: 24] عن نفسه { يوم القيامة } [الزمر: 24]؛ أي: عذاب يوم القيامة كمن لا يتقي ويظلم على نفسه، { وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون } [الزمر: 24]؛ أي: ذوقوا عذاب ما كسبتم بأفعالكم الردية، وأخلاقكم الدنية؛ يعني: كنتم في غير العذاب، ولكن ما كنتم تجدون ذوقه لغلبة نوم الغفلة، فإذا متم أنبئتم، والذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى:
ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
[مريم: 72]، { كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } [الزمر: 25]؛ أي: أتاهم العذاب في صورة الصحة والنعمة والسرور، وهم لا يشعرون أنه العذاب، وأشد العذاب ما يكون بفتنة، كما أن أتم السرور ما يكون صلة، وأوجع تأثير الفراق للقلب ما يكون بغتة غير متوقفة، وفي معناه قيل:
فبتنا بخير والدنيا مطمئنة
وأصبحت يوما والزمان تقلبا
وبقوله: { فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } [الزمر: 26]، يشير إلى أنه تعالى أذاقهم عذاب الخزي والهوان في الدنيا وهو العذاب الأدنى؛ ليعلموا أن عذاب الآخرة أكبر فيتحرزوا عنه، ويرجعوا إلى ربهم بالتوبة والإنابة.
ثم أخبر عن ضرب الأمثال بشرح الأقوال بقوله تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } [الزمر: 27]، يشير إلى أن أحوال العباد واشتغالهم بالدنيا، وتعلقاتهم بها وبالأهالي واحتجابهم عنا، نوضحها لهم بضرب الأمثال المتناسبة في القرآن { لعلهم يتذكرون } [الزمر: 27] أحوالهم لما كانت أرواحهم في جوارنا مفردة عن هذه التعلقات الشاغلات، متوجهه إلى حضرتنا منتفعة بشواهد ألطافنا، فيشتاقون إلى تنسم روائح نفحات ألطافنا، فيتعرضون لها بالتجريد والتفريد؛ ليصلوا إلى حقيقة التوحيد متمسكين بحبل كلامنا.
{ قرآنا عربيا } [الزمر: 28] منزلا من عندنا { غير ذي عوج } [الزمر: 28]؛ أي: صراطا مستقيما إلى حضرتنا،
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[فصلت: 42]، { لعلهم يتقون } [الزمر: 28] به عما سوانا.
[39.29-34]
ثم { ضرب الله مثلا } [الزمر: 29] من تلك الأمثال { رجلا فيه شركآء متشاكسون } [الزمر: 29]؛ أي: الذي يتجاذبه شغل الدنيا وشغل العيال، وغير ذلك من الأشغال المختلفة، والخواطر المتشتتة، { ورجلا سلما لرجل } [الزمر: 29] مؤمنا خالصا ليس للخلق فيه نصيب، ولا للدنيا معه نسيب، وهو عن الآخرة غريب، وإلى الله قريب منيب، { هل يستويان مثلا } [الزمر: 29] البطالون والطالبون، والمنقطعون والواصلون، { الحمد لله } [الزمر: 29] الثناء له وهو مستحق لصفات الجلال { بل أكثرهم لا يعلمون } [الزمر: 29] كمال جماله، ولا يطلعون على أحسن استعدادهم لمرآتية صفات جماله وجلاله، وإلا لعطلوا الأمور الدنيوية بأسرها، وخربت الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، وهلك الباطل والطالب.
وبقوله: { إنك ميت وإنهم ميتون } [الزمر: 30]، يشير إلى نعيه صلى الله عليه وسلم، ونعي المسلمين إليهم؛ ليفرغوا بأجمعهم عن مأتمهم، ولا تعزيه في العادة بعد ثلاث، ومن لم يتفرغ من مأتم نفسه وأنواع همومه فليس له من هذا الحديث [في شيء]، فإذا أفرغ قلبه عن حديث نفسه وعن الكونين بالكلية فحينئذ يجد الخير من ربه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم؛ ولهذا أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال:
" يا داود فرغ لي بيت أسكن فيه قال: يا رب أنت منزه عن البيت كله، قال: فرغ لي قلبك "
، وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم:
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح: 1]؛ يعني: ولي قلبك، وقال:
وثيابك فطهر
[المدثر: 4]؛ أي: قلبك فطهر؛ أي: عن لوث تعلقات الكونين.
{ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [الزمر: 31]، أي: تراجعون الحق تعالى لشفاعة أقربائكم وأهاليكم وأصدقائكم بعد فراغكم عن خويصة أنفسكم.
وبقوله: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه } [الزمر: 32]، يشير إلى بعض مدعي هذا الحديث ممن يدعي ويكذب على الله بأنه أعطاه رتبة لم يذق بعد منها ما يشاء، وإذا وجد صديقا جاءه بالصدق في المقال والأحوال كذبه، وينكره على صدقه، يكون حاصل أمره يوم القيامة قوله تعالى:
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة
[الزمر: 60]؛ ولهذا قال تعالى: { أليس في جهنم مثوى للكافرين } [الزمر: 32]؛ أي: لكافري النعمة.
{ والذي جآء بالصدق } [الزمر: 33]؛ أي: جاء به من الحق تعالى لا من عند نفسه؛ لأن الصدق ليس من المكاسب، بل هو من المواهب، { وصدق به } [الزمر: 33]؛ أي: الذي جاء بالصدق هو الذي صدق بالصدق إذ رآه مع غيره؛ لأن الصدق لا يرى إلا بالصدق، كما أن النور لا يرى إلا بالنور؛ ولهذا قال: { أولئك هم المتقون } [الزمر: 33]؛ أي: بنور الصدق يرون الحق والباطل فيتقون بالحق عن الباطل.
{ لهم ما يشآءون عند ربهم } [الزمر: 34]؛ لأنهم تقربوا إلى الله بالاتقاء به عما سواه، فأوجب الله في إدامة كرمه أن يتقرب إليهم بإعطاء ما يشاءون من عنده، بحسب حسن استعدادهم في الطلب بالتقرب من كمالات القرب والمشاهدة، { ذلك جزآء المحسنين } [الزمر: 34]؛ أي: ذلك للقرب والمشاهدة جزاء من عمل على مشاهدة الحق ؛ لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
[39.35-40]
{ ليكفر الله عنهم } [الزمر: 35]؛ أي: من المحسنين { أسوأ } [الزمر: 35] من الإحسان، { الذي عملوا } [الزمر: 35]؛ أي: من الكبائر { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } [الزمر: 35] من الإحسان، فأحسن ما عملوا أن عبدوا الله كأنهم يرونه؛ أي: عبدوه على المشاهدة وبأحسنها.
{ أليس الله بكاف عبده } [الزمر: 36]؛ أي: أليس الله لعبده بكاف عن غيره وعما سواه، والإشارة فيه: إن الله كاف لعبده عن كل شيء، ولا يكفي له كل شيء عن الله، ولهذا المعنى
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم: 16] من نفائس الملك والملكوت؛ ليكون للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك النفائس كافيا عن رؤية الله،
ما زاغ البصر وما طغى
[النجم: 17] بنظر القبول إليها حتى
رأى من آيات ربه الكبرى
[النجم: 18].
وبقوله: { ويخوفونك بالذين من دونه } [الزمر: 36]، يشير إلى إن رؤية الخير والشر من غير الله ضلالة، وتخويف بمن دون الله غاية الضلالة؛ فلهذا قال تعالى: { ومن يضلل الله فما له من هاد } [الزمر: 36]؛ لأن الهادي على الحقيقة هو الله.
{ ومن يهد الله فما له من مضل } [الزمر: 37] كيف يضله؟! { أليس الله بعزيز } [الزمر: 37] يعز من يعبده { ذي انتقام } [الزمر: 37] ممن يعصيه.
ثم أخبر عن مقال أهل الضلال في ثناء ذي الجلال بقوله: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن الله } [الزمر: 38]، يشير إلى إن الإيمان الفطري مركوز في جبلة الإنسان يوم الميثاق؛ إذ أشهدهم الله على أنفسهم فقال:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]، كما قال:
فطرت الله التي فطر الناس عليها
[الروم: 30]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة "
، فلا يزال يوجد في الإنسان وإن كان كافرا أثر ذلك الإقرار، ولكنه غير نافع إلا مع الإيمان الكسبي بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء به، فلما قرر عليهم علو صفاته وما هو عليه استحقاق جلاله فأقروا بذلك.
ثم طالبهم بذكر صفات الأصنام التي عبدوها من دونه، فقال: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } [الزمر: 38]، فلم يمكنهم في وصفها إلا الجمادية، والبعد في الحياة، والعلم والقدرة، والتمكن من الخلق، فيقول: كيف أشركتم به بهذه الأشياء؟ وهل استحببتم عن إطلاق أمثال هذا في صفة { قل } [الزمر: 38] يا محمد، { حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } [الزمر: 38] كافي الله المتفرد بالجلال، القادر على ما يشاء، المتفضل معي، { قل يقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون } [الزمر: 39]، سوف ينكشف ربحنا وخسرانكم، وسوف يظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف يطالبكم ولا جواب لكم، ويعذبكم ولا شفيع لكم، ويدخر عليكم ولا صريح لكم، وسوف تعلمون { من يأتيه عذاب يخزيه } [الزمر: 40] بسوء أعماله، { ويحل عليه } [الزمر: 40] من أفعاله { عذاب مقيم } [الزمر: 40] إلى الأبد.
[39.41-44]
{ إنآ أنزلنا عليك الكتاب للناس } [الزمر: 41] أو للذين
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67]، ليذكرهم القرآن جواز الحق، وما نالوا من فضل الله، { بالحق فمن اهتدى } [الزمر: 41] بالقرآن { فلنفسه } [الزمر: 41] اهتدى؛ لأن فوائد الهداية راجعة إلى نفسه بأن تنورت بنور الهداية، فتمحوا عنها ظلمات آثار صفاتها الحيوانية السبعية الشيطانية الموجبة لدخول النار، { ومن ضل فإنما يضل عليها } [الزمر: 41]، فإنه توكل إلى نفسه وطبيعتها، فتغلبت عليه الصفات الذميمة، فيكون حطب النار، { ومآ أنت } [الزمر: 41] يا محمد، { عليهم بوكيل } [الزمر: 41] تحفظهم من النار.
وبقوله: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت } [الزمر: 42] عنده، { ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } [الزمر: 42]، يشير إلى أنه تعالى من عواطف إحسانه القديم في شأن العبد ورعاية صلاحه في ليله ونهاره، وحالة نومه ويقظته، وحين وفاته وحياته، وبعد مماته، { إن في ذلك لآيات } [الزمر: 42] لدلالات على كمال عناية الله ونهاية لطفه وكرمه في حق عباده { لقوم يتفكرون } [الزمر: 42] في هذه الإشارات المودعة وفي هذه العبارات.
ثم أخبر عن جهالة العباد وضلالتهم بقوله تعالى: { أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } [الزمر: 43]، يشير إلى أن اتخاذ الأشياء للعبادة أو للشفاعة بالهوى والطبع لا بامر الله ووفق الشرع يكون ضلالة على ضلالة، وإن المقبول في العبادة والشفاعة ما يكون بأمر الله ومتابعة نبيه على وفق الشرع؛ وذلك لأن حجاب العبد هو الطبع والهوى، وإنما أرسل الأنبياء لنفي الهوى؛ ليكون حركات العبادة وسكناتهم بأمر الحق تعالى ومتابعة الأنبياء لا بأمر الهوى ومتابعة النفس؛ لأن النفس وهواها ظلمانية، والأمر ومتابعة الأنبياء نورانية؛ ولهذا قال تعالى:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] ولا تندفع الظلمة إلا بالنور.
ثم اعلم أن العبادات نورانية، والشهوات ظلمانية، ولكن العبد إذا عبد الله بالهوى والطبع تصير عبادته ظلمانية، وإذا جامع زوجته بالأمر على وفق الشرع تصير شهوته نورانية، { قل لله الشفاعة جميعا } [الزمر: 44]؛ أي: هو مالك الشفاعة لا يملكها غيره، إلا في ما ملكه الشفاعة وأذن له فيها، { له ملك السموت والأرض ثم إليه ترجعون } [الزمر: 44]، يشير إلى أن ما في السماوات سماوات القلوب، والأرواح أرض النفوس، والأشباح هو الله مالك ولا يملكه أحد؛ لأنه عبد، ولا ملك لعبد فالعبد وما يملكه لمولاه، وإنما هو عارية عندهم، والعاري مردودة إلى مالكها، ثم كل عبد من العباد يرجع إلى حضرة ربه ويرى أحواله، هل ربح بما أعطي أو خسر عليه؟.
[39.45-47]
وبقوله: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } [الزمر: 45]، يشير إلى إمارة خسرانهم بأنهم تصرفوا في العارية بغير إذن صاحبها على خلاف أوامره، وفي إمارة خسرانهم { وإذا ذكر الذين من دونه } [الزمر: 45]؛ أي: من دون الله، { إذا هم يستبشرون } [الزمر: 45]؛ وذلك لانحراف مزاج توحيدهم بالتفاتهم إلى ملك الله الذي كان عندهم بالعارية بنظر الخيانة من التملك، فوقعوا عن الصراط المستقيم الواحدة في جهنم الشركة،
ذلك هو الخسران المبين
[الزمر: 15].
{ قل اللهم فاطر السموت } [الزمر: 46] سماوات القلوب والأرواح، { والأرض } [الزمر: 46] أرض النفوس والأشباح، { عالم الغيب } [الزمر: 46] غيب ما يجري في الأرواح والقلوب والنفوس، { والشهادة } [الزمر: 46] شهادة ما يجري على الأشباح، { أنت تحكم بين عبادك } [الزمر: 46] من الأرواح والقلوب والنفوس والأشباح فيما جرى عنهم، وفيما بينهم اليوم بالعفو والفضل والكرم، وتوفيق التوبة والإنابة وإصلاح ذات البين، ويوم القيامة بالعدل والنفقة وانتقام بعضهم من بعض { في ما كانوا فيه يختلفون } [الزمر: 46] بالشرع والطبع.
ثم أخبر عن أحوالهم مع أهوال الآخرة بقوله تعالى: { ولو أن } [الزمر: 47]؛ لكن { للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة } [الزمر: 47]، يشير إلى أن هذه الجملة لا تقبل يوم القيامة لدفع العذاب، واليوم هاهنا يقبل ذرة من الخير، ولقمة من الصدقة، وكلمة من التوبة والاستغفار، كما أنهم لو بكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكائهم، وبدمعة واحدة اليوم تمحى كثير من دواوينهم، فقال: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } [الزمر: 47]، وفي سماع هذه الآية حسرة لأصحاب الانتباه، وفي بعض الأخبار أن قوما من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار، فإذا وافوها يقول: مالك من أنتم؟ فإن الذين جاءوا قبلكم من أهل النار وجوههم مسودة وعيونهم زرقاء، وأنتم لستم بتلك الصفة، فيقولون: ونحن لم نتوقع أن نلقاك وإنما ننتظر بأشياء أخرى، قال الله تعالى: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } [الزمر: 47].
[39.48-52]
{ وبدا لهم سيئات ما كسبوا } [الزمر: 48] من كفران النعمة، ونسيان الحضرة بالبعد والطرد والهجران، { والذين ظلموا من هؤلاء } [الزمر: 51]؛ يعني: الغفلة، { سيصيبهم سيئات ما كسبوا } [الزمر: 51] بأعمالهم وأخلاقهم، { وما هم بمعجزين } [الزمر: 51] عن مجازاتهم بالخير والشر.
{ أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء } [الزمر: 52] من نعمة الدنيا والآخرة وسعادتهما، { ويقدر } [الزمر: 52] على من يشاء؛ يعني: أمر الدنيا والآخرة يبنى على مشيئته سبحانه وتعالى لا على مشيئة العباد، { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [الزمر: 52] بأن يخرجهم عن مشيئتهم، ويستسلمون لمشيئة الله تعالى وحكمه وقضائه.
[39.53-56]
ثم أخبر عن إسراف الأشراف بقوله تعالى: { قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [الزمر: 53]، يشير إلى مدح وذم من التسمية ب { يعبادي } [الزمر: 53] مدح، والوصف بأنهم أسرفوا ذم، فلما قال: { قل يعبادي } [الزمر: 53] طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين بالآية، فرفعوا رؤوسهم ونكس العاصي رأسه من أناجي يقول لي: هذا، فقال تعالى: { الذين أسرفوا } [الزمر: 53] فانقلب الحال، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت زلتهم، والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت حولتهم، ثم أزال الأعجوبة عن القصة بما قوى رجاهم بقوله: { على أنفسهم } [الزمر: 53]؛ يعني: إن أسرفت فعلى نفسك أسرفت لا تقطعوا من رحمة الله بعد ما قطعت اختلافك إلى بابنا فلا ترفع قلبك عنا، { إن الله يغفر الذنوب جميعا } [الزمر: 53]، واللام للاستغراق والعموم، والذنوب جمع وجميعا تأكيدا، فكأنه قال: أغفر ولا أترك، وأعفوا ولا أبقي، وفيه إشارة أخرى وهي أنه ب { يعبادي } [الزمر: 53] استخصهم بالمغفرة على الإسراف بالذنوب، فإنه تعالى في الأزل جعلهم من خواص عباده، وقبلهم بلا علة، فلا يردهم بالعلة، ومن كرمه يقول: " إن كانت لكم جناية كثيرة عميمة فلي بشأنكم عناية قديمة " ، { إنه هو الغفور } [الزمر: 53] لكم في الأزل، وأنتم في كتم العدم، { الرحيم } [الزمر: 53] عليكم إلى الأبد.
وبقوله: { وأنيبوا إلى ربكم } [الزمر: 54]، يشير إلى عباده المختصين بالعناية وإن أسرفوا أن ارجعوا إلى ربكم بالكلية، فالتوبة لأهل البداية وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة، والأوبة للمتوسط وهي الرجوع من الدنيا إلى الآخرة، والإنابة لأهل النهاية وهي الرجوع مما سوى الله إلى الله بالقناعة في الله وهو قوله: { وأسلموا له } [الزمر: 54]، أي: أسلموا ببذل ليفنيكم به عنكم، { من قبل أن يأتيكم العذاب } [الزمر: 54] بأن تفسدوا الاستعداد الأصلي فتستوجبوا العذاب، { ثم لا تنصرون } [الزمر: 54] لعدم الاستعداد.
وبقوله: { واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم } [الزمر: 55]، يشير إلى أن ما أنزل من الله منه: ما يكون حسنا، ومنه: ما يكون أحسن، فالذي أنزل وهو حسن فهو ما يدعونه إلى الجنة، والذي أنزل وهو أحسن فهو يدعو به إلى الله عز وجل وهو قوله:
وداعيا إلى الله بإذنه
[الأحزاب: 46]، فالمعنى اتبعوا داعي الله بالسير إلى الله، { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة } [الزمر: 55] عذاب الفرقة والقطيعة بإفساد الاستعداد فلا يمكنكم الإنابة والرجوع، { وأنتم لا تشعرون } [الزمر: 55] إنكم منقطعون.
{ أن تقول نفس يحسرتا على ما فرطت في جنب الله } [الزمر: 56] بإفساد استعداد الوصول إلى الله، { وإن كنت لمن الساخرين } [الزمر: 56] المنكرين المستهزئين بأرباب الطلب، وأصحاب القلوب.
[39.57-62]
{ أو تقول } [الزمر: 57] من وساوس الشيطان، وهواجس النفس، { لو أن الله هداني } [الزمر: 57] إلى صفة جلاله، { لكنت من المتقين } [الزمر: 57] به عما سواه.
{ أو تقول حين ترى العذاب } [الزمر: 58] عذاب الحرمان والهجران، { لو أن لي كرة } [الزمر: 58] رجعة إلى الاستعداد الأصلي، { فأكون من المحسنين } [الزمر: 58] في الطلب، وترك ما سوى الله، فيقول الله: { بلى قد جآءتك آياتي } [الزمر: 59] من الأنبياء، ومعجزاتهم، والكتب وحكمها، ومواعظها وأسرارها، وحقائقها ودقائقها وإشاراتها، { فكذبت بها واستكبرت } [الزمر: 59] عن اتباعها، والقيام بشرائطها، { وكنت من الكافرين } [الزمر: 59]، أي: كافر النعمة بما أنعم الله به عليك من نعمة وجود الأنبياء، وإنزال الكتب وإظهار المعجزات.
وبقوله: { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [الزمر: 60]، يشير إلى أن يوم القيامة تكون الوجوه بلون القلوب، { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } [الزمر: 60] الذين تكبروا على أولياء الله عن قبول النصح والموعظة.
{ وينجي الله الذين اتقوا } [الزمر: 61] بالله عما سواه { بمفازتهم لا يمسهم السوء } [الزمر: 61] سوء القطيعة والهجران، { ولا هم يحزنون } [الزمر: 61] على ما فاتهم من نعيم الدنيا والآخرة فازوا بقربة المولى، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين، اليوم عصمة وغدا رؤية، اليوم عناية وغدا كفاية وولاية.
{ الله خالق كل شيء } [الزمر: 62] دخل أفعال العباد وإكسابهم في هذه الجملة، ولا يدخل كلامه فيه؛ لأن المخاطب لا يخطب تحت الخطاب؛ لأنه تعالى يخلق الأشياء بكلامه، وهو كلمة " كن " ، به يشير إلى أنه تعالى خلق كل شيء بشيء، { وهو على كل شيء وكيل } [الزمر: 62]؛ ليبلغه على ذلك الشيء الذي خلق له.
[39.63-67]
ثم أخبر عن كمال قدرته إظهارا لعزته بقوله تعالى: { له مقاليد السموت والأرض } [الزمر: 63]، يشير إلى أن له مفاتيح خزائن لطفه وهي مكتوبة في سماوات القلوب، وله مفاتيح خزائن قهره وهي مودعة في أرض النفوس؛ يعني: لا يملك لأحد مفاتيح خزائن لطفه وقهره إلا هو، وهو الفتاح وبيده المفتاح يفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فيخرج ينابيع الحكمة منه وجواهر الأخلاق الحسنة، ويفتح على من يشاء أبواب خزائن قهره في نفسه فيخرج عيون المكر والخداع والحيل منها وفنون الأوصاف الذميمة؛ ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلم
" مفتاح القلوب لا إله إلا الله "
، وكما سأله عثمان رضي الله عنه عن تفسير مقاليد السماوات والأرض قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، كما مر ذكره، { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } [الزمر: 63]، يعني: بأنهم فتحوا أبواب نفوسهم بمفتاح الكفر والنفاق.
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } [الزمر: 64] عن فضله في حقي، فإنه بتوحيده رباني، وبتفريده عذاني، وبشراب حبه سقاني.
وبقوله: { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } [الزمر: 65]، يشير إلى أن الإنسان ولو كان نبيا لئن وكل إلى نفسه ليفتحن بمفتاح الشرك والرياء أبواب خزائن قهر الله على نفسه، وليحبطن عمله بأن يلاحظ غير الله بنظر المحبة، ويثبت معه في الإبداع سواه، وليكونن من جملة المشركين الخاسرين، وفيه دقيقة لطيفة وهي أن الله تعالى قال: { لئن أشركت ليحبطن عملك } [الزمر: 65]، أي: من مكاسبك؛ ولكن لا يحبط من مواهبي شيء؛ يعني النبوة والرسالة من مواهبي لا تبطلها مكاسبك كما لا تحصلها { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } [الزمر: 66]، بأنه كونك نبيا مرسلا بفضله وكرمه لا بسعيك وعملك.
{ وما قدروا الله } [الزمر: 67] ما عرفوه حق معرفته، وما وصفوه حق وصفه، وما عظموه حق تعظيمه، فمن وصف بتمثيل أو جنح إلى تعطيل حاد عن السنن المثلى، وانحرف على طريقة الحسنى، ووصفوا الحق بالأعضاء، وتوهموا في نعمته إلا جزاء مما قدروه { حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموت مطويات بيمينه } [الزمر: 67]، فمذهبي في تحقيق هذه الآية أن أجري على ما أراد الله تحقيقها فلا أفسرها ولا أؤلها من المتشابهات فلا مساغ لها إلا الإيمان بها، كما قال تعالى:
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب
[آل عمران: 7] أي: نؤمن به ولا نفسره ولا نؤوله، فأما أرباب الحقائق والإشارات وأن يريهم الله تعالى حقيقة بعض المتشابهات، فالعلاج في هذا الزمان ألا يفشو أسرار الحق تعالى بالكتابة، اللهم إلا أن يجدوا مريدا صادقا مستعدا لقبول هذا الفيض بلا تعصب منزها عن شوائب الهوى؛ لئلا يقع في فتنة؛ ولهذا المعنى نزه الله ذاته وصفاته عن فهم المفسرين ووصف المتأولين فقال: { سبحانه وتعالى عما يشركون } [الزمر: 67]؛ أي: بصفات المخلوقين.
[39.68-72]
ثم أخبر عن نفخ الصور وإشراق النور بقوله تعالى: { ونفخ في الصور فصعق من في السموت ومن في الأرض إلا من شآء الله } [الزمر: 68]، يشير إلى نفخ نفخات ألطاف الحق في صور الأرواح { فصعق } [الزمر: 68]،؛ أي: فتغير عن وصفه في سماوات القلوب من الصفات الإنسانية إلى الصفات الربانية، ومن في الأرض البشرية من الصفات النفسانية إلى الصفات الروحانية { إلا من شآء الله } [الزمر: 68] في بعض الصفات أن لا يغيرها، { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام } [الزمر: 68]؛ أي: قائمون بالله { ينظرون } [الزمر: 68] بنور الله.
{ وأشرقت الأرض } [الزمر: 69] أرض الوجوه، { بنور ربها } [الزمر: 69] إذا تجلى لها، وبقوله: { ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهدآء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون } [الزمر: 69]، يشير إلى أن النبيين والشهداء إذا دعوا للقضاء والحكومة والمحاسبة، فكيف يكون حال الأمم وأهل المعاصي والذنوب؟
{ ووفيت كل نفس ما عملت } [الزمر: 70] من الخير والشر، والطاعة والمعصية، { وهو أعلم بما يفعلون } [الزمر: 70]؛ أي: والله أعلم منهم بأنفسهم بما يفعلون؛ إذ هو يخلق أفعالهم فيهم، وهو يعلم أيها خلق للخير والشر، { وسيق } [الزمر: 71] الذكر، { الذين كفروا } [الزمر: 71] بداعية الكفر على أقدام أفعالهم، { إلى جهنم } [الزمر: 71] البعد والفراق، { زمرا } [الزمر: 71] فرقة فرقة على أقدام أفعال آخر، { حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها } [الزمر: 71] السبعة التي من الأوصاف الذميمة النفسانية؛ وهي: الكبر والبخل، والحرص والشهوة، والحسد والغضب والحقد، فإنها أبواب جهنم، وكل من يدخل فيها لا بد له من أن يدخل من باب من أبوابها.
وبقوله: { وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } [الزمر: 71]، يشير إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إظهارا لصفة القهر أن يخلق نارا ويخلق لها أهلا، كما أنه تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا إظهارا لصفة اللطف، فلهذه الحكمة { قيل } [الزمر: 72] في الأزل قهرا وقسرا { ادخلوا أبواب جهنم } [الزمر: 72]، وهي الصفات الذميمة كما مر شرحها { خالدين فيها } [الزمر: 72]، بحيث لا يمكنه الخروج عن هذه الصفات بتبديلها، كما يخرج المتقون منا { فبئس مثوى المتكبرين } [الزمر: 72]، به يشير إلى أن العصاة صنفان:
صنف منهم: متكبرون وهم المصرون متابعو إبليس فلهم الخلود في النار.
وصنف منهم: متواضعون وهم التائبون متابعو آدم فلهم النجاة، وبهذا الدليل يثبت أنه ليس ذنب أكبر بعد الشرك من الكبر؛ بل الشرك أيضا يتولد من الكبر، كما قال تعالى:
أبى واستكبر وكان من الكفرين
[البقرة: 34]، وهذا تحقيق قوله تعالى:
" الكبرياء دوائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهم ألقيته في النار "
؛ ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم
" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر ".
[39.73-75]
ثم أخبر عن سوق أهل التقى إلى جنة المأوى بقوله تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم } [الزمر: 73]، يشير إلى أنهم سيقوا بداعية الإيمان على أقدام الأعمال الصالحة { إلى الجنة زمرا } [الزمر: 73] فرقة فرقة، كل فرقة على قدم خلق آخر، ولكنه سوق بغير تعب ولا نصب، بل سوق بروح وطرب، هؤلاء عوام أهل الجنة، وفوق هؤلاء قوله:
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد
[ق: 31]، وفوقهم من قال فيهم:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم: 85]، وفرق بين من يساق إلى الجنة وبين من تقربت منه الجنة، وفي الحقيقة أهل السوق الظالمون، وأهل الزلفة المقتصدون، وأهل الوفد السابقون، { حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها } [الزمر: 73]؛ أي: وجدوا أبوابها مفتوحة؛ لئلا يصيبهم وصب الانتظام، { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } [الزمر: 73] هذا لعوام أهل الجنة، ولخواصهم قوله:
سلام قولا من رب رحيم
[يس: 58]، { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } [الزمر: 74]، للعوام بقوله: { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين } [الزمر: 74]، وللخواص صدقهم وعده بقوله:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26]، ولأخص الخواص أصدقهم وعده بقوله:
إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] فنعم أجر العاشقين.
وبقوله: { وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } [الزمر: 75]، يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وخواص متابعيه من أمته إذا كانوا
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] في جوار رب العالمين وكمال قرب أو أدنى ترى يا محمد الملائكة حافين من حول العرش، ولا حول لهم ولا قوة على العبور، والوصول إلى العرش وهم { يسبحون بحمد ربهم } [الزمر: 75]، راضون قائمون بذلك، { وقضي بينهم بالحق } [الزمر: 75]؛ يعني: بين الملائكة وبين الأنبياء والأولياء بما أعطي كل فريق منهم من المراتب والمنازل ما أعطي، { وقيل } [الزمر: 75]؛ يعني: قال كل فريق منهم { الحمد لله رب العالمين } [الزمر: 75] على ما أنعم علينا به.
[40 - سورة غافر]
[40.1-6]
{ حم } [غافر: 1]، يشير إلى القسم بسر بينه وبين حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وذلك أن الحاء والميم هما حرفان من وسط اسم الله وهو رحمان، وحرفان من وسط اسم حبيبه وهو محمد، كما أن الحرفين سر اسميهما، فهما يشيران إلى أن القسم بسر كان بينهما أن { تنزيل الكتاب من الله العزيز } [غافر: 2] الذي معز لأوليائه { العليم } [غافر: 2]، بما صدر منهم إلى أعز أوليائه به، { غافر الذنب } [غافر: 3] لهم ما يتوب عليهم، { وقابل التوب } [غافر: 3] بأن يوفقهم الإخلاص في التوبة؛ لأنهم مظهر صفات لطفه، { شديد العقاب } [غافر: 3] لمن لا يؤمن ولا يتوب؛ لأنهم مظهر صفات قهره، { ذي الطول } [غافر: 3] لعموم خلقه بالإيجاد من العدم، وإعطاء الحياة والرزق بالكرم، وأيضا { غافر الذنب } [غافر: 3] لظالمهم، { وقابل التوب } [غافر: 3] لمقصدهم، { شديد العقاب } [غافر: 3] لمشركهم، { ذي الطول } [غافر: 3] لسابقهم، ولما كانت من سنة كرمه أن سبقت رحمته غضبه، غلبت ها هنا أسامي صفات لطفه على اسم صفة قهره؛ بل من عواطف إحسانه ومراحم طوله وإنعامه جعل صفة اسم قهره بين ثلاثة أسماء من صفات لطفه فصار
مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان
[الرحمن: 19-20]، فإذا هبت رياح العناية من مهب الهداية ويتموج البحرين فيتلاشى البرزخ باصطكاك البحرين، ويصير الكل بحرا واحدا، وهو بحر { لا إله إلا هو إليه المصير } [غافر: 3]، فإذا كان إليه المصير فقد طاب المصير.
وبقوله: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [غافر: 4]، يشير إلى أنه إذا أظهر البرهان واتضح البيان استسلمت الألباب الصافية للاستجابة والإيمان، فأما أهل الكفر والطغيان فلهم على الجحود إصرار، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف، وكذلك أهل الحرمان من كرامات أولياء الله، وذوق مشاربهم ومقاماتهم يصرون على إنكارهم، يخصص الله عباده بالآيات، ويعرضون عليهم بقلوبهم، فيجادلون في جحد الكرامات، وسيفتضحون كثيرا، ولكنهم لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم، { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [غافر: 4] لتحصيل العلوم؛ إذا كان مبنيا على الهوى والميل إلى الدنيا فلا يكون لها نور يهتدي به إلى ما خصص الله تعالى به عباده المخلصين.
{ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } [غافر: 5]، يشير به: إن في كل عصر يكون فيه صاحب ولاية لا بد لهم من أرباب الجحود والإنكار وأهل الإعراض، كما كانوا في عهد كل نبي ورسول، { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } [غافر: 5]؛ ليكون ذلك سببا لشقاوة المنكرين، وسعادة المقربين ثم قال: { فأخذتهم } [غافر: 5]؛ أي: عاقبتهم على ذلك الإنكار بالإصرار عليه، { فكيف كان عقاب } [غافر: 5]؛ أي: كان عقاب الدنيا بالإصرار، وعقاب الآخرة بالنار، وذلك قوله: { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } [غافر: 6].
[40.7-11]
ثم أخبر عن أحوال حملة العرش وأعمالهم بقوله تعالى: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } [غافر: 7]، يشير إلى أن الملائكة كما أمروا بالتسبيح والتحميد والتمجيد لله تعالى فكذلك أمروا بالاستغفار والدعاء لمذنبي المؤمنين؛ لأن الاستغفار للذنب. ويجتهدون في الدعاء لهم فيدعون لهم بالنجاة، ثم برفع الدرجات كما قال تعالى: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } [غافر: 7] فارحمهم وأعف عنهم ما علمت لهم ومنهم، وبقوله: { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [غافر: 7]، يشير إلى أنه الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن إتباع الهوى، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى وبقوله: { وقهم عذاب الجحيم } [غافر: 7]، يشير إلى أن بمجرد التوبة لا تحصل النجاة إلا بالثبات عليها، وتخليص العمل عن شوب الرياء والسمعة، وتصفية القلب عن الأهواء والبدع.
وبقوله: { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبآئهم وأزواجهم وذرياتهم } [غافر: 8]، يشير إلى أن بركة الرجل التائب تصل إلى آبائه وأزواجه وذرياته لينالوا بها الجنة ونعيمها، { إنك أنت العزيز } [غافر: 8] تعز التائبين وتحبهم وإن أذنبوا، { الحكيم } [غافر: 8] فيما لم تعتصم محبتك عن الذنوب، ثم يتوب عليهم.
{ وقهم السيئات } [غافر: 9]؛ يعني: بعد أن تابوا؛ لئلا يرجعوا إلى المعاصي والذنوب، { ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم } [غافر: 9]، يحيلون الأمر فيه إلى رحمته، وبرحمته لئن سلط على المؤمنين أراذل في خلقه وهم الشياطين فقد قيض بشفاعة أفاضل من خلقه وهم الملائكة المقربون.
ثم أخبر عن أراذل الخلق دون الأفاضل بقوله: { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } [غافر: 10]، يشير إلى أن مقت الحق تعالى مودع في محبة العبد نفسه؛ لأنها أعدى عدوه، وقد صرف محبة الله الذي هو أحب محبته إلى أعدى عدوه بدل صفته فمقته الله عز وجل؛ فمعنى الآية: إن العبد لو مقت نفسه في الله لكان أحبه ولم يمقته، فلما أحب نفسه ولم يمقتها في الله ومقت الله له يضره نفسه فمقته الله، فمقت الله للعبد أكبر على العبد من مقته نفسه؛ لأن مقته لنفسه ينفعه وينفع نفسه ومقت الله له يضره نفسه، ولأن أشد العقوبات التي توصل الحق إلى العباد آثار سخطه وغضبه، وأجل النعم التي يفردها بها آثار رضاه عنهم، فإذا عرف الكافر في الآخرة أن ربه عليه غضبان فلا شيء أصعب على قلبه منه على أنه لا بكاء ينفعه، ولا غناء يزيل عنه ما هو فيه ويدفعه، ولا يسمع له تضرع في الآخرة ولا ترجى له حيله، { إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } [غافر: 10].
{ قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } [غافر: 11] إماتة القلوب وإحياء النفوس، إماتة الأبدان وإحياؤها بالبعث { فاعترفنا بذنوبنا } [غافر: 11]، وإن كان تقدير الأعمال والإماتة والإحياء منك { فهل إلى خروج من سبيل } [غافر: 11] اليوم بنوع من الأعمال، ولما لم يحبهم الله؛ لأنه لا سبيل لكم إلى الخروج من النار بنوع من الأعمال فلعله خلى موضع الرجاء بكرمه.
[40.12-16]
ثم قال: { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } [غافر: 12]؛ أي: ذلك العذاب بأنكم إذا دعيتم بوحدانية الله بالخروج عن الإثنينية كفرتم بكفران هذه النعمة على أنفسكم، وأنكرتم قبولها، { وإن يشرك به } [غافر: 12]؛ يعني: ببقاء الوجود والدعوة إلى غير الله من نعيم الدار، { تؤمنوا } [غافر: 12] وتقبلوا، { فالحكم لله العلي الكبير } [غافر: 12]، في ذلك لا لكم، فلمن يشاء يبقيه في مقام الإثنينية، ولمن شاء يخرجه إلى الوحدانية كما قال تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات
[البقرة: 57] إلى نور الوحدانية.
وبقوله: { هو الذي يريكم آياته } [غافر: 13]، يشير إلى أنه ليس للإنسان أن يرى ببصيرته حقائق آيات الحق تعالى إلا بإرادة الحق تعالى إياه كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق
[فصلت: 53]، { وينزل لكم من السمآء } [غافر: 13]؛ أي: سماء الأرواح، { رزقا } [غافر: 13]؛ أي: الواردات والشواهد التي هي رزق القلوب وبها تتربى، { وما يتذكر إلا من ينيب } [غافر: 13]؛ أي: وما يتحقق هذه الحقائق إلا لمن يرجع بكلية إلى الله تعالى فيشاهد في كل مقام ما يناسب ذلك المقام.
وبقوله: { فادعوا الله مخلصين له الدين } [غافر: 14]، يشير إلى أن المدعو من الله ينبغي أن يكون على كراهة كافر النفس فإنها تميل إلى مشاربها.
ثم أخبر عن الدرجات والكرامات بقوله تعالى: { رفيع الدرجات } [غافر: 15]، يشير إلى رفع درجات الطوائف المختلفة، رافع درجات العصاة بالنجاة، والمطيعين بالمثوبات، والأصفياء والأولياء بالكرامات، والعارفين بالارتقاء عن الكونين، والمحبين بالفناء في المجيء وبقاء المحبوبية، { ذو العرش } [غافر: 15]؛ أي: ذو الملك العظيم؛ لأنه تعالى خلقه أرفع الموجودات وأعظمها جنة إظهارا للعظمة، وأيضا بجميع الصفات ذو عرش القلوب فإنها العرش الحقيقي؛ لأنه تعالى استوى على العرش بصفة الرحمانية ولا شعور للعرش به، واستوى على قلوب أوليائه بجميع الصفات وهم العلماء بالله مستغرقين في بحر معرفته، { يلقي الروح من أمره على من يشآء من عباده } [غافر: 15] روح الدراية للمؤمنين، وروح الولاية للعارفين، وروح النبوة للنبيين، { لينذر يوم التلاق } [غافر: 15]؛ أي: لينذر الروح يوم تلتقي مع الله بلا هود، وهو معنى قوله: { يوم هم بارزون } [غافر: 16]؛ أي: خارجون من وجودهم بالفناء، { لا يخفى على الله منهم شيء } [غافر: 16] من وجوده هم عند إفنائه حتى لا يبقى له غير الله، فيقول الله تبارك وتعالى: { لمن الملك اليوم } [غافر: 16]؛ يعني: ملك الوجود، وهذا المقام الذي أشار إليه الجنيد بقوله: ما في الوجود سوى الله فإذا لم يكن لغير الله ملك الوجود يكون هو الداعي والمجيب، فيقول: { لله الواحد القهار } [غافر: 16]؛ لأنه تعالى تجلى بصفات القهارية فما بقي الداعي والمجيب غير الله.
[40.17-20]
{ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } [غافر: 17] في بذل الوجود للمعبود، { لا ظلم اليوم } [غافر: 17]؛ يعني: يوم التجلي يكون بقدر بذل الوجود نيل الجود، فإن الحطب بقدر بذل الوجود المجازي ينال من جود النار بلا ظلم على الحطب من النار، بأن تأخذ وجود شيء من الحطب ولا تجود عليه من النارية بشيء، { إن الله سريع الحساب } [غافر: 17] للعباد عند جريان هذه الأحكام؛ إذ جاء الحق وزهق الباطل بالسرعة.
{ وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين } [غافر: 18]، إن كانت قيامة العوام مؤجلة، فقيامة الخواص معجلة لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب، والبعاد والاقتراب، وما لم يكن لهم في حساب وشهادة الأعضاء فالدمع يشهد، وخفقان القلب ينطق، والتحول يخبر، واللون يفضح، والعبد يستر، ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الخناجر، وعيونهم شرفت بدموعها، { ما للظالمين } [غافر: 18] على أنفسهم بحمل أمانة المحبة { من حميم ولا شفيع يطاع } [غافر: 18]، يستغيثون به فيسقي في حقهم بالمساعدة؛ لخلاصهم من ورطة الهلاك، { يعلم خآئنة الأعين وما تخفي الصدور } [غافر: 19]، فخائنة أعين المحبين استحسانهم شيئا غير المحبوب، والنظر إلى غير المحبوب خائنة أعين القلوب، وفي معناها قيل فقلت: إذا استحسنت غيركم أمرت الدموع بتأديبها { وما تخفي الصدور } [غافر: 19] من متمنيات النفوس، ومستحسنات القلوب، ومرغوبات الأرواح، فالحق تعالى بها خبير، ويكون السالك موقوفا بها حتى يخرج عن تعلقها.
وبقوله تعالى: { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء } [غافر: 20]، يشير إلى أن الحق تعالى هو الذي يخرج السالكين عن تعلقات أوصافهم على ما قضى به وقدر في الأزل، لا عاملين عليها وإن كان بواسطة أعمالهم كقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] وإن كان بواسطة إيمانهم وأعمالهم الصالحة، وكذلك يقضي الأجانب بالبعاد، وبالوصال لأهل الوداد، { إن الله هو السميع } [غافر: 20] في الأزل قد سمع سؤال أهل الحوائج وهم بعد في العدم بلا وجود، وكذلك سمع أنين نفوس المذنبين، وحنين قلوب المحبين وهم مسبوقون بالعدم، { البصير } [غافر: 20] بحاجاتهم وبقضاء حوائجهم.
[40.21-22]
{ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم } [غافر: 21]؛ أي: فينظروا كيف خلق السماوات والأرض وما بينهما على قضية حوائجهم وهم صنفان: أهل السعادة، وأهل الشقاوة:
فأهل السعادة: شكروا الله على نعمة الوجود فزادهم نعمة الإيمان، فشكروا نعمة الإيمان فزادهم نعمة الولاية، فشكروا نعمة الولاية فزادهم نعمة القرب والمعرفة في الدنيا، ونعمة الجوار في الآخرة.
وأهل الشقاوة: قد كفروا نعمة الوجود فعذبهم الله بالكفر والبعاد، والطرد واللعن في الدنيا، وعذبهم في الآخرة بالنار وأنواع التعذيبات، وقوله: { كانوا هم أشد منهم قوة } [غافر: 21] فيعتبروا بمن كانوا هم منهم أشد قوة في الجهل والاعتداء، { وآثارا في الأرض } [غافر: 21] بالفساد، { فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله } [غافر: 21] من قهر الله وبطشه، { من واق } [غافر: 21]، أو لم يسيروا بنفوسهم في أقطار الأرض ويطوفوا مشارقها ومغاربها؛ ليعتبروا بها فيزهدوا فيها، ولم يسيروا بقلوبهم في الملكوت بجولان قطع التعلقات فيشهدوا أنوار التجلي فيستبصروا بها، أو لم يسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية؛ ليهلكوا في سلطان الحقائق، ويتخلصوا من حبس المخلوقات ملكها وملكوتها.
وبقوله: { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله } [غافر: 22]، يشير إلى بعض السالكين والقاصدين إلى الله إن لم يصل إلى مقصوده؛ ليعلم أن موجب حجبيته وحرمانه اعتراض خامر قلبه على شيخه أو على غيره من المشايخ بعض أوقاته، ولم يتداركه بالتوبة والإنابة، فإن الشيوخ بمحل الأنبياء للمريدين وفي الخبر " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " ، { إنه قوي } [غافر: 22] على انتقام الأعداء للأولياء، { شديد العقاب } [غافر: 22] في الانتقام من الأعداء.
[40.23-27]
ثم أخبر عن أهل الإعراض والاعتراض بقوله: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب } [غافر: 23-24]، يشير إلى أنه تعالى من عواطف إحسانه يرسل أفضل خلقه في وقته إلى من أرذل خلقه، ويبعث أخص عباده إلى أحسن عباده؛ ليدعوه إلى حضرة جلاله لإصلاح حاله بفضله ونواله، والبعد عن خسة طبعه وركاكة عقله يقابله بالتكذيب وينسبه إلى السحر، والله سبحانه وتعالى إظهارا لحلمه وكرمه لم يعجل عقوبته ويمهل إلى أوانه ظهور شقوته، فيجعله مظهر صفة قهره، وليبلغ موسى عليه السلام كمال سعادته فيجعله مظهر صفة لطفه.
{ فلما جآءهم بالحق من عندنا } [غافر: 25]؛ يعني: موسى عليه السلام ومعه التوراة والمعجزات، قالوا: لاستكمال شقاوتهم؛ يعني: فرعون وقومه، { قالوا اقتلوا أبنآء الذين آمنوا معه واستحيوا نسآءهم } [غافر: 25]، عزم على إهلاك موسى وقومه، واستعان على ذلك بجهده وحيله ورجاله إتماما لاستحقاقهم العذاب وللرد من حفظ الحق تعالى كان كما قال: { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } [غافر: 25] في ازدياد ناقدا لهم به، يشير إلى أن من حفر بئرا لولي من أولياء الله ما يقع فيه إلا حافره، بذلك أجرى الحق تعالى سنته.
{ وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه } [غافر: 26]، فمن عمي قلبه ظن أن الله يذره أن يقتل موسى بحوله وقوته أن تذره وقومه، ولم يعلم أن الله يهلكه وقومه، وينجي موسى وقومه وهو يقول: { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } [غافر: 26] ولم يخف هلاك نفسه، وهلاك قومه وفساد حالهم في الدارين، { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } [غافر: 27]، فأعاذه الله من شرهم وأمنهم من كيدهم.
[40.28-33]
وبقوله: { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } [غافر: 28] إلى قوله: { ومن يضلل الله فما له من هاد } [غافر: 33]، ويشير إلى أن الله تعالى إذا شاء بكمال قدرته إظهارا لفضله وقدرته يخرج الحي من الميت، كما أخرج مؤمن من آل فرعون مؤمنا حيا قلبه بالإيمان من بين قوم كفار أموات قلوبهم بالكفر فيتحقق قوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
[السجدة: 13]، وإذا شاء إظهارا لعزته وجبروته يعمي ويصم الملوك والعقلاء مثل فرعون وقومه؛ لئلا يبصروا آيات الله الظاهرة، ولا يسمعوا الحجج الباهرة مثل ما نصحهم بها مؤمن أنهم بتحقق قوله: { ومن يضلل الله فما له من هاد } [غافر: 33] وتحقيقا لقوله:
ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[السجدة: 13].
[40.34-37]
ثم أخبر عن أسباب الارتياب بقوله تعالى: { ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جآءكم به حتى إذا هلك } [غافر: 34]، يشير إلى أن الإنسان من ظلوميته وجهوليته لو خلى إلى طبيعته لا يؤمن بنبي من الأنبياء، ولا بمعجزاتهم أنها آيات الحق تعالى، وهذا طبيعة المتقدمين والمتأخرين منهم، وأن المهتدي منهم من يهده الله بفضله وكرمه، ومن إنكارهم الطبيعي أنهم ما آمنوا بنبوة يوسف عليه السلام فلما هلك أنكروا أن يكون بعده رسولا.
كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله } [غافر: 34]؛ أي: يكله إلى إنكاره الطبيعي { من هو مسرف } [غافر: 34] في طلب الدنيا وشهواتها، { مرتاب } [غافر: 34] في دعوى الإيمان والطلب.
{ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } [غافر: 35]؛ أي: بغير شاهد من شواهد الحق تعالى أتاهم من الله بوادة الحق { كبر مقتا عند الله } [غافر: 35]، أن يقولوا على الله ما لا تعلمون، { وعند الذين آمنوا } [غافر: 35] أن يجادلوهم بالباطل { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [غافر: 35]؛ أي: كذلك بطريق تكبر المتكبر، وتمرد الجبار والجدال بالباطل يختم الله تعالى بخاتم المقت على كل قلب متصف بالكبر والجبروت.
وبقوله: { وقال فرعون يهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } [غافر: 36]، { أسباب السموت فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } [غافر: 37] يشير إلى أن من ظن الله سبحانه في السماء كما ظن فرعون فإنه فرعون وقته، ولو لم يكن من المضاهاة بين من يعتقد أن الله تعالى في السماء وبين الكافر إلا هذا لكفى به خزيا لمذهبهم وغلط اعتقادهم، فإن فرعون غلط إذ توهم أن الله في السماء، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيبا في طلبه من السماء، وقوله: { وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } [غافر: 37] دل على أن اعتقاده أن الله في السماء خطأ، وأنه بذلك مصدود عن سبيل الله، { وما كيد فرعون } [غافر: 37] في طلب الله عن السماء، { إلا في تباب } [غافر: 37] خسران وضلالة.
[40.38-42]
وبقوله: { وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } [غافر: 38]، يشير إلى أن الهداية مودعة في أتباع الأنبياء والأولياء، وللولي أن يهدي سبيل الرشاد كما يهدي النبي إليه بتبعية النبي، ومن الهداية قوله: { يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار } [غافر: 39]، { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } [غافر: 40] إظهارا للعدل { ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } [غافر: 40] إظهارا للفضل مما لم يكن وحساب العبد أن يرزق مثله.
ثم أخبر عن الداعي إلى الخير والداعي إلى الشر بقوله تعالى: { ويقوم } [غافر: 41]، يشير إلى قول مؤخر الروح: { ما لي أدعوكم إلى النجاة } [غافر: 41] بمتابعة المصطفى ومخالفة الهوى من نار الأخلاق الذميمة، والأوصاف السبعية والبهيمية والسفلية، { وتدعونني إلى النار } [غافر: 41] نار الشهوات وهي دركات الجحيم.
{ تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم } [غافر: 42]؛ أي: رغبة وذوق منه، { وأنا أدعوكم إلى العزيز } [غافر: 42] الذي
ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 4] ولا يوجد له شبيه، { الغفار } [غافر: 42] لمن تاب ورجع إليه من متابعة الهوى بمتابعة المصطفى.
[40.43-46]
{ لا جرم أنما تدعونني إليه } [غافر: 43] من عبادة الهوى، { ليس له دعوة } [غافر: 43]؛ أي: استجابة دعوة في الدنيا؛ أي: ببقاء، { في الدنيا ولا في الآخرة } [غافر: 43]؛ أي: بنجاة ورفعة درجات في الآخرة، { وأن مردنآ } [غافر: 43] مرجعنا، { إلى الله } [غافر: 43]، لا بد بالموت ومفارقة الأرواح الأجساد، { وأن المسرفين } [غافر: 43] بالتصرف في الدنيا وزينتها وشهواتها على وفق هوى أنفسهم، { هم أصحاب النار } [غافر: 43] نار القطيعة والبعد والطرد.
{ فستذكرون مآ أقول لكم } [غافر: 44] يا آل فرعون النفس عند معاينة عذاب أخلاقكم، { وأفوض أمري إلى الله } [غافر: 44] بقطع التعلق عنكم، وترك التخلق بأخلاقكم وطلب التخلق بأخلاق الله، { إن الله بصير بالعباد } [غافر: 44] فيتقرب بكرمه إلى من تقرب إليه، ويطرد من تقرب إلى الدنيا وشهواتها، { فوقاه الله } [غافر: 45]؛ أي: الروح { سيئات ما مكروا } [غافر: 45]؛ أي: من شر النفس وصفاتها، { وحاق بآل فرعون } [غافر: 45]؛ أي: بالنفس وصفاتها { سوء العذاب } [غافر: 45]؛ أي: النفس وصفاتها في استغراقهم في بحر شهوات الدنيا ملابسة الخلاق الذميمة يزداد كل ساعة بعد وطرد عن الحضرة، وذلك معنى قوله: { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } [غافر: 46]؛ أي: نار القطيعة، وعن نعيم جنان العرفان بقوله: { ويوم تقوم الساعة } [غافر: 46]، يشير إلى ساعة مفارقة الروح البدن بالموت فإن من مات فقد قامت قيامته، { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 46]؛ وذلك إن اشد عذاب فرعون النفس بساعة المفارقة؛ لأنه يعظم عن جميع مألوفات الطبع دفعة واحدة، والعظام عن المألوف شديد، فاعلم أن بحسب كل شيء تعلق به قلبه من المال والجاه والأولاد والأهالي يكون للميت عند انقطاعه عنه ضربة يجد ألمها كما يجد ألم قطع كل عضو منه، وقد يكون الألم بقدر شدة التعلق به.
[40.47-51]
وبقوله: { وإذ يتحآجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا } [غافر: 47] في الدنيا، { فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد } [غافر: 47-48]، يشير إلى أن محاجة بعضهم لبعض بأن يقول الضعفاء للمستكبرين: أنتم أضللتمونا، والمستكبرون يقولون لهم: بل أنتم وافقتمونا باختياركم يزيد في غيظ قلوبكم، فكما يعذبون بنفوسهم يعذبون بضيق صدورهم، ويفيض بعضهم من بعض.
{ وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } [غافر: 49]، وهذه أيضا من إمارات الأجنبية يدخلون واسطة بينهم وبين ربهم، ثم إن الله تعالى ينزع الرحمة عن قلوبهم حتى لا يشفعوهم.
{ قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } [غافر: 50] إذلالهم واستهزائهم وتقريعا، وهذا أيضا نوع من العذاب حتى أجابوهم بالتذلل والهوان، { قالوا بلى قالوا فادعوا } [غافر: 50] وهذا أيضا من نوع الإيذاء ونوع من العذاب، ثم يقولون لهم مستخفين بهم: { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } [غافر: 50]؛ يعني: من القبول.
ثم أخبر عن نصرة الأنبياء والأولياء بقوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } [غافر: 51]، يشير إلى الظفر بنفوسهم، فإن كمال النصرة في الظفر على أعدى عدوك وهو نفسك التي بين جنبيك وهو الجهاد الأكبر، ولا يمكن الظفر على النفس ألا ينصره الحق تعالى ينصر القلب على النفس، { في الحياة الدنيا } [غافر: 51] بالتوفيق لتزكيتها بالمجاهدات والرياضات الظاهرة، { ويوم يقوم الأشهاد } [غافر: 51] عند طلوع شواهد الحق بنصره عليها بكيد خفي ولطف غير مرئي من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وغاية النصرة أن يقبل الناصر عدو من ينصره، فإذا أراه وحققه أنه لا عدو في الحقيقة وان الخلق أشباح يجري عليهم أحكام القدرة، فالولي لا عدو له ولا صديق ليس له إلا الله تعالى، قال الله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا
[البقرة: 257].
[40.52-59]
ثم قال: { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } [غافر: 52] به يشير إلى حاصل أمر النفس وظلمها على القلب، ودليل الخطاب أن المؤمنين ينفعهم معذرتهم، ولهم من الله الرحمة ولهم حسن الدار.
قوله: { ولقد آتينا موسى الهدى } [غافر: 52]، يشير إلى موسى القلب أنه يهديه الله إلى حضرته بجذبات ألطافه وتجلى صفات جلاله وجماله، ولا هادي له غيره، { وأورثنا } [غافر: 53] من بعد موسى؛ أي: من بعد إصلاح حال موسى القلب بالهداية والوصول، { بني إسرائيل } [غافر: 53]؛ أي: أرباب الطلب، { الكتاب } [غافر: 53]، { هدى وذكرى } [غافر: 54]؛ أي: ما يكتب وينقل من أحوال كمالات القلب ورفعة درجات يكون سبب هدايتهم، وتذكيرا { لأولي الألباب } [غافر: 54]؛ وهم أرباب القلوب المستعدة لقبول الفيض الإلهي.
وبقوله: { فاصبر } [غافر: 55] على أذاهم يشير إلى قلب الطالب الصادق بالصبر على ذي النفس، والهوى، والشيطان، { إن وعد الله حق } [غافر: 55] في نصرة القلب المجاهد مع كافر النفس وظفره عليها، { واستغفر لذنبك } [غافر: 55]؛ أي: مما سرى إليك من صفات النفس في تخلقه بأخلاقها فاستغفره لهذا الذنب فإنه صدأ مرآة القلب، { وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } [غافر: 55]؛ أي: بدوام الطاعات وملازمة الأذكار تصفوا مرآة القلب من صدأ الأخلاق الذميمة.
وبقوله: { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان } [غافر: 56]، يشير إلى مدعي أهل الطلب ومجادلتهم مع أرباب الحقائق فيما { أتاهم } [غافر: 56] الله من فضله بغير حجة وبرهان بل
حسدا من عند أنفسهم
[البقرة: 109]، { إن في صدورهم إلا كبر } [غافر: 56]؛ أي: ليس مانعهم في قبول الحق، وتصديق الصديقين، وتسليمهم فيما يبشرون إليه في الحقائق والمعاني أكبر مما كان وصف إبليس إذ
أبى واستكبر
[البقرة: 34]، و
قال أنا خير منه
[الأعراف: 12] وهذه الصفة مركوزة في النفوس كلها؛ ولهذا المعنى بعض الجهلة المغترين بالعلوم ينكرون على بعض مقالات المشايخ الراسخين في العلم.
وبقوله: { ما هم ببالغيه } [غافر: 56]، يشير إلى أن المدعين الكذابين لهذا الحديث المنكرين على أرباب الحقائق لا يصلون إلى مرادهم ولا يدركون مرتبتهم؛ ولهذا قال بعض المشايخ: لا تنكر فإن الإنكار شؤم، والمنكر من هذا الحديث محروم ثم قال: { فاستعذ بالله } [غافر: 56] أيها الطالب المحق من شر نفسك، والنفوس المتمردة، وجميع آفات تعوقك عن الحق، وتقطع عليك طريق الحق تعالى: { إنه هو السميع } [غافر: 56] للحاجات، { البصير } [غافر: 56] العليم بقضائها.
وبقوله: { لخلق السموت والأرض أكبر من خلق الناس } [غافر: 57]، يشير إلى منكري البعث أنهم يقرون أن الله خلق السماوات والأرض، وينكرون مرة أخرى يوم البعث، فخلق السماوات والأرض ابتدءا وابتداعا أعظم من خلق الناس، وبعثهم وخلقهم مرة أخرى { ولكن أكثر الناس } [غافر: 57] من أهل الغفلة، { لا يعلمون } [غافر: 57] أن الإعادة أهون من البداية في خلق من لم يكن شيئا.
[40.60-64]
ثم أخبر عن استدعاء الدعاء عن أهل الولاء بقوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } [غافر: 60]، يشير إلى أن معنى ادعوني؛ أي: لا تطلبوا مني غيري فإن من كنت له يكون له ما كان لي، وإن من يطلبني يجدني كما قال
" إلا من طلبني وجدني "
، ويقال: { ادعوني } [غافر: 60] بشرط الدعاء، وشرط الدعاء الأكل من الحلال، وقيل الدعاء مفتاح الحاجة وأسنانه لقم الحلال، ويقال: كل من دعاه استجاب له إما بما سأله أو شيء آخر هو خير له منه، ويقال، الكافر ليس يدعوه؛ لأنه إنما يدعو من له شريك وهو لا شريك له، وكذلك المبتدع من المعطلة أو المشبهة لا يعبدون الله؛ لأنهم إنما يعبدون إلها لا صفات له من الحياة والسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة والإرادة بزعمهم، إنما يدعون إلها له جوارح وأعضاء من اليد والأصابع والأرجل والساق والعين، والله تعالى منزه عن ذلك فإنه
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
[الشورى: 11]، فأما أهل السنة فيثبتون له ذلك بالصفات لا بالأعضاء والجوارح، ولا يفسرونه ولا يؤدونه ويقرؤونه على ما أراد الله به ويؤمنون به، ويقولون: إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعوا الله ويسأله شيئا إلا أعطاه إما في الدنيا وإما في الآخرة يقول له: هذا ما طلبته في الدنيا وقد ادخرتها لك إلى هذا اليوم، حتى يتمنى العبد انه ليته لم يعط شيئا في الدنيا ويقال: ادعوني - بالسؤال - استجب لكم بالفضل والنوال، { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [غافر: 60]؛ أي: عن دعائي وطلبي، { سيدخلون جهنم } [غافر: 60] الحرمان والبعد مني، { داخرين } [غافر: 60]؛ أي: ذليلين مهينين مردودين.
وبقوله: { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } [غافر: 61]، يشير إلى ليل البشرية يسكنون أهل الرياضات والمجاهدات فيه إلى استرواح القلوب ساعة فساعة؛ لئلا يمل عن مداومة الذكر والتعبد وحمل أعباء الأمانة، { والنهار مبصرا } [غافر: 61]؛ أي: نهار الروحانية مظهرا للجد والاجتهاد في الطلب، والتصبر على التعب، وسكون الناس في الليل على أقسام:
أهل اللغة: يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان.
وأهل الشهوة: يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم في الرجال والنسوان.
وأهل الطاعة: يسكنون إلى حلاوة أعمالهم لبسطهم واستقلالهم.
وأهل المحبة: يسكنون إلى حنين النفوس، وحنين القلوب، وضراعة الأسرار، واشتغال الأرواح بنار الأشواق، وهم يقدمون القرار في ليلهم ونهارهم أولئك أصحاب الاشتياق أبدا في الاحتراق، { ذلكم الله ربكم خلق كل شيء } [غافر: 62] الذي جعل سكونكم معه، وأنزع حكم له عن غيره، واشتياقكم إليه، ومحبتكم فيه، وانقطاعكم إليه، { لا إله إلا هو } [غافر: 62] الذي يقلبكم في جميع الأحوال من حال إلى حال، ويستعملكم بجميع الأعمال والأقوال، { فأنى تؤفكون } [غافر: 62] مع رؤية هذه الآيات وكشف البينات إلا بقهر دامغ، وحكم بالغ.
{ كذلك يؤفك } [غافر: 63] كما يؤفكون قهر وحكمة، { الذين كانوا بآيات الله يجحدون } [غافر: 63]، وبقوله: { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا } [غافر: 64]، يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح، { والسمآء بنآء } [غافر: 64]؛ أي: سماء الروحانية مبنية عليها، { وصوركم فأحسن صوركم } [غافر: 64] بأن جميع أرض البشرية وسماء الروحانية في عالم صوركم، ولم يجمعها في صورة شيء آخر من الملائكة، والجن، والشياطين، والحيوانات، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4]، وفيه إشارة أخرى إلى: إن الله تعالى خلق الأرض لكم استقلالا ولغيركم طفيلا وتبعا؛ لتكون مقركم، والسماء أيضا خلقها لكم؛ لتكون سقفكم مستقلين به وغيركم تبعا لكم فيه، { وصوركم فأحسن صوركم } [غافر: 64] إذ جعلها مرآة جماله كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كل جميل من جمال الله وإنما جعل لكم جميلا ليحبكم "
، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله جميل يحب الجمال "
، فيه إشارة إلى: تخطئة الملائكة فيما قبحوكم و
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30]، فإن الحسن ليس ما يستحسنه الناس، فإن الحسن ما يستحسنه الحبيب ما حطك الواشون عن رتبة عندي، ولا ضرك مغتاب كأنهم أسنوا، أو لم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا خلق الشموس في ضيائها والأقمار في أنوارها، ولم يقل لهما { وصوركم فأحسن صوركم } [غافر: 64]، وفيه أن الواشين قبحوا صورتكم عندنا؛ بل الملائكة كتبوا صحيفتكم بقبيح ما ارتكبتم، ومولاكم أحسن صوركم عنده بأن محاسن ديوانكم الزلات، وأثبت في ذلك الحسنات كما قال تعالى
يمحوا الله ما يشآء ويثبت
[الرعد: 39] وقال:
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70].
{ ورزقكم من الطيبات } [غافر: 64]، ليس الطيب ما يستطيبه الخلق، الطيب ما يستطيبه الرب، فإنه طيب لا يقبل إلا طيبا، فالطيب الذي يقبله الله من العبد إذ هو من مكاسب كلام الطيب؛ وهو كلمة " لا إله إلا الله " ، كما قال تعالى:
إليه يصعد الكلم الطيب
[فاطر: 10]، والطيب الذي هو مواهب الحق تعالى هو تجلي صفات جماله وجلاله، وبها أشار بقوله: { ورزقكم من الطيبات } [غافر: 64]، ثم قال: { ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين } [فاطر: 64].
[40.65-67]
ثم قال: { هو الحي } [غافر: 65]؛ أي: له الحياة الحقيقة الأزلية الأبدية، ومن هو حي بإحيائه من نور صفاته، كما قال تعالى:
فأحيينه وجعلنا له نورا
[الأنعام: 122]، ويشير بقوله: { لا إله إلا هو } [غافر: 65] بعد قوله: { هو الحي } [غافر: 65]، إلى أن الذي يحيي بحياته ونور صفاته لما يبلغ رتبة الإلهية، { فادعوه } [غافر: 65] بالإلهية { مخلصين } [غافر: 65] عن حبس الوجود، { له الدين } [غافر: 65]؛ أي: المقرين له بالعبودية من غير دعوى بالربوبية كمن ادعى بها بقوله: أنا الحق، وقول من قال: سبحاني ما أعظم شأني، { الحمد لله رب العالمين } [غافر: 65]؛ يعني: فيما أنزلكم وبلغكم مقام الوحدة بفضله ورحمته لأنه مقام لا وسع للإنسان في بلوغه بمجرد سعيه من دون فضل ربه.
ثم قال: { قل } [غافر: 66] يا محمد { إني نهيت } [غافر: 66]، مع جلال قدري واختصاصي بالحبيبية { أن أعبد الذين تدعون من دون الله } [غافر: 66]؛ أي: يثبتون له الإلهية في مقام الواحد عن غلبات السكر من الذات الشراب الطهور الذي سقاكم ربكم في أقداح تجلي صفاته بقوله:
" أنا الحق سبحاني "
وما يعد له { لما جآءني البينت من ربي } [غافر: 66]؛ أي: من تجلي ذاته وصفاته إذا اكتال علي بأوفى الكيل أصفى الشراب { وأمرت أن أسلم لرب العلمين } [غافر: 66].
ثم يشير به إلى أنه صلى الله عليه وسلم مع كمال نبوته ورسالته وقربه بربه وعظم قدره عنده لو لم يسلم لرب العالمين بالعبودية لم يكن مسلما.
ثم أخبر عن أطوار خلقة الإنسان بالشرح والبيان بقوله تعالى: { هو الذي خلقكم من تراب } [غافر: 67]، يشير إلى خلق قالب الإنسان وبدء أمره من الذرة الترابية، استخراجها من صلب آدم { ثم من نطفة } [غافر: 67]؛ أي: أودعها في قطرة نطفة أبيه { ثم من علقة } [غافر: 67] خلقها علقة في بطن أمه { ثم يخرجكم طفلا } [غافر: 67] من بطون أمهاتكم { ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا } [غافر: 67] ففي كل طور من هذه الأطوار اختصكم بخاصية لم توجد في غيركم، وكل واحد منها خزانة الله تعالى فيها لطفه وقهره مودع، فمنكم المجذوبون ومنكم المخذولون:
فالمجذوبون: هم المسلكون المصعدون الطائرون بجناحي لطفه وقهره إلى أعلى مراتب القرب.
والمخذولون: هم المهبطون المخسفون السائرون بقدمي لطفه وقهره إلى أسفل مدارج البعد.
وذلك قوله: { ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى } [غافر: 67]؛ أي: من القرب والبعد { ولعلكم تعقلون } [غافر: 67] تفهمون طريق القرب فتسعون فيه، وتلهمون طريق البعد فتعرضون عنه.
[40.68-77]
{ هو الذي يحيي } [غافر: 68] القلوب الميتة بنور ربوبيته ولطفه.
{ ويميت فإذا قضى أمرا } [غافر: 68]؛ أي: في الأزل { فإنما يقول له كن } [غافر: 68] في حال القضاء { فيكون } [غافر: 68] إلى الأبد، { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } [غافر: 69] يشير به: إلى أهل الأهواء والبدع، أنهم يصرفون معاني القرآن إلى أرائهم وأهوائهم، { الذين كذبوا بالكتاب } [غافر: 70]؛ أي: بالقرآن إذا بدلوا معانيه بآرائهم { وبمآ أرسلنا به رسلنا } [غافر: 70]؛ أي: بما هو حقيقة رسالة الرسل في إرشاد الخلق إلى الصراط المستقيم في طلب الحق تعالى، فكذبوا به فسروه برأيهم وبدلوا السنة بالبدعة، فوقعوا عن الصراط المستقيم والدين القويم { فسوف يعلمون } [غافر: 70]، { إذ } [غافر: 71] أراد { الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [غافر : 71] التي بدواعي الهوى ابتدعوها في أعناق أرواحهم، { يسحبون } ، { في الحميم } [غافر: 72]، أي: نار القطيعة { ثم في النار يسجرون } [غافر: 72]؛ { ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون } [غافر: 73] من الهوى والدنيا { من دون الله قالوا ضلوا عنا } [غافر: 74] إذ لم يكن له أضل { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا } [غافر: 74]؛ لأنه كان مجازا لا حقيقة، فيضلون به عن الصراط المستقيم { كذلك يضل الله الكافرين } [غافر: 74] بأن يريهم شيئا مجازيا في زينة وجود شيء حقيقي، فيضلون به عن الصراط المستقيم، { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض } [غافر: 75] بزينتها { بغير الحق } [غافر: 75]؛ يعني: في طلب الباطل { وبما كنتم تمرحون } [غافر: 75] بزينة الدنيا وشهواتها، { ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } [غافر: 76]؛ وهي شهوات الدنيا، كل شهوة منها باب من أبواب جهنم النفس في الدنيا، وباب من أبواب جهنم النار في الآخرة { فبئس مثوى المتكبرين } [غافر: 76] دركات النار، { فاصبر } [غافر: 77] على طلب الحق وترك الباطل أيها الطالب الصادق { إن وعد الله حق } [غافر: 77] لكلا الفريقين، { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } [غافر: 77] عين اليقين كشفا وعيانا { أو نتوفينك } [غافر: 77] بجذبات الألوهية ليكون فارغا عنهم { فإلينا يرجعون } [غافر: 77] فنكافئهم بحسب أعمالهم وأحوالهم.
[40.78-81]
ثم أخبر عن إرسال الرسل، وإيضاح السبل بقوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك } [غافر: 78] يشير إلى أن الحكمة البالغة الأزلية اقتضت أنا نبعث قبلك رسلا، ونجري عليهم وعلى أممهم أحوالا، ثم
نقص عليك من
[هود: 120] أنبائهم
ما نثبت به فؤادك
[هود: 120] ونؤدبك بتأديبهم؛ لتتعظ بهم، ولا نقدمك بالرسالة عليهم؛ ليتعظوا بك، فإن السعيد من يتعظ بغيره { ومنهم من لم نقصص عليك } [غافر: 78]؛ لاستغنائك عن ذلك، تحفيفا لك عما لا يعنيك، وهذه أمارة كمال العناية فيما قص عليه وفيما لم نقصص عليه، وفيه جواب من التمس منه صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآية، فقال: كما أن ذكر الرسل وقصصهم ما كان بالتماس النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإرادة الله، كذلك { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله } [غافر: 78] على ما اقتضت الحكمة والإرادة في إتيان الآية { قضي بالحق } [غافر: 78] بإتيانها في وقتها وإظهارها على يده كما التمسوها، { وخسر هنالك المبطلون } [غافر: 78] الذين أرادوا إبطال الحق بتكذيب الآيات.
ثم أخبر أنه تعالى أظهر من الآيات لمصلحة عباده، وما لم يظهر أيضا لم يظهر لمصلحتهم بقوله: { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع } [غافر: 79-80]؛ أي: خلقها لمنافعكم، ولو كان لكم فيها مفاز لم يخلقها ومنافعها { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون } [غافر: 80]؛ يعني: خلق الفلك أيضا لمصلحتكم ومنفعتكم.
وفيه إشارة أخرى: { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها } [غافر: 79]؛ أي: خلق النفس البهيمية الحيوانية؛ ليكون مركبا لروحكم العليا { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } [غافر: 80] من مشاهدة الحق ومقامات القرب { ولكم فيها منافع } [غافر: 80]؛ أي: في صفاتها، وهي الشهوة الحيوانية، ومنفعتها أنها مركب العشق والغضب، وأنها مركب الصلابة في الدين، والحرص مركب الهمة، وبهذه المراكب يصل إلى المراتب العلوية، كما قال: { وعليها وعلى الفلك }؛ أي: صفات القلب { تحملون }؛ أي: جوار الحق تعالى، { ويريكم آياته } [غافر: 81] بتجلي صفاته { فأي آيات الله } [غافر: 81]؛ أي: صفاته { تنكرون } [غافر: 81] إذا تجلى بها؛ أي: لا يبقي معها الإنكار والجحود.
[40.82-85]
{ أفلم يسيروا في الأرض } [غافر: 82] أرض البشرية { فينظروا } [غافر: 82] ببصيرة القلوب { كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [غافر: 82] من النفوس المتمردة { كانوا أكثر منهم } [غافر: 82] استعدادا في طلب الدنيا، واستيفاء الشهوات { وأشد قوة } [غافر: 82] في الحرص على المال وطلب الجاه { وآثارا في الأرض } [غافر: 82] بطول أعمال الأعمار { فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } [غافر: 82] أمرهم بالاعتبار بمن كانوا قبلهم؛ كانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأطول أعمارا، فانجروا في حبال آمالهم، فوقعوا في وهدة غرورهم، وما للحق عن مراده فيهم، واغتروا بسلامتهم في مدة ما أرخينا لهم عنان آمالهم، ثم فاجأناهم بالعقوبة، فلم يعجزوا الله في مراده منهم.
وهذا تحقيق قوله: { فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } [غافر: 83]؛ أي: من شبهات المعقولات والمخيلات والموهومات، ثم عاجلناهم بالعقوبة { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [غافر: 83] فلم يعجزوا الله في مراده منهم { فلما رأوا بأسنا } [غافر: 84] ووقعوا في مذلة الخيبة وشدة البأس { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } [غافر: 84] تمنوا أن لو أعيدوا إلى الدنيا من البأس، وما قابلهم الله في الخيبة { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [غافر: 85] وتخرطهم في سلك من أبائهم من أهل الشرك والسخطة، { سنت الله التي قد خلت في عباده } [غافر: 85] الذين أشركوا في عبودية غيره { وخسر هنالك الكافرون } [غافر: 85]؛ أي: كافري النعمة خسروا على أنفسهم مزيد النعمة.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-8]
{ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } [فصلت: 1-2] يشير: بالحاء إلى الحكمة، وبالميم إلى المنة؛ أي: من على عباده بتنزيل حكمة من الرحمن الأزلي، الذي سبقت رحمته غضبه، فخلق الموجودات برحمانيته الرحيم الأبدي، الذي وسعت رحمته كل شيء إلى الأبد { كتاب فصلت آياته } [فصلت: 3] بين الحق والباطل، والسعيد والشقي، وبقوله: { قرآنا عربيا } [فصلت: 3] يشير إلى أن القرآن قديم من حيث أنه كلام الله وصفته، والعربية كسوة مخلوقة، كساه الله { لقوم يعلمون } [فصلت: 3] العربية، والعربية بحروفها مخلوقة والقرآن منزه عنها، { بشيرا } [فصلت: 4] لمن يعرف قدره ويؤدي حقه بالوصول والوصال { ونذيرا } [فصلت: 4] لمن لم يعرف قدره، ولا يؤدي حقه بالانقطاع والانفصال، { فأعرض أكثرهم } [فصلت: 4] عن أداء حقه { فهم لا يسمعون } [فصلت: 4] بسمع القبول والانقياد.
{ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } [فصلت: 5] في التوحيد { وفي آذاننا وقر } [فصلت: 5] ما يفهم كلامك قالوه حقا، وإن قالوا على الاستهانة والاستهزاء؛ لأن قلوبهم في أكنة حب الدنيا وزينتها، مقفولة بقفل الشهوات والأوصاف البشرية، ولو قالوا ذلك عن بصيرة لكان ذلك منهم توحيد، فتعرضوا للمقت لما فقدوا من صدق القلب؟! قالوا: { ومن بيننا وبينك حجاب } [فصلت: 5] من الأنانية { فاعمل } [فصلت: 5] بالله فانيا عن وجودك موحدا { إننا عاملون } [فصلت: 5] ببقاء وجودنا مشركين، وبقوله: { قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد } [فصلت: 6] يشير إلى أن البشر كلهم متساو، وفي البشرية مسدود بهم باب معرفة الله بالوحدانية بالآلات البشرية من العقل وغيره، وإنما فتح هذا الباب على قلوب الأنبياء بالوحي، وقلوب الأولياء بالشواهد والكشوف، وعلى قلوب المؤمنين بالإلهام والشرح، كما قال تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، وبقوله: { فاستقيموا إليه } [فصلت: 6] يشير إلى أن استقامة المرء في دينه موقوف على استقامته في المتابعة ظاهرا وباطنا، { واستغفروه } [فصلت: 6]؛ ليرفع بقوة النبوة الحجب التي بينكم وبينه { وويل للمشركين } [فصلت: 6] الذين بقوا في شرك الوجود { الذين لا يؤتون الزكاة } [فصلت: 7]؛ أي: لا يزكون نفوسهم عن خبث الحديث { وهم بالآخرة } [فصلت: 7] وهى وجودهم الباقي { هم كافرون } [فصلت: 7] بكفر السر والحجاب.
ثم أخبر عن عرفان الإيمان بقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } [فصلت: 8] يشير إلى أن من آمن ولم يعمل صالحا لم يؤجر إلا ممنونا؛ أي: ناقصا، وهو أجر الإيمان، ونقصان من ترك العمل، ثم بترك العمل الصالح يدخل النار ويخرج منها بأجر الإيمان، فأجر العمل الصالح الذي يصدر من النفس الجنة، وهو الأعمال البدنية: كالصلاة والصوم والحج وما أشبهها، وأجر الأعمال القلبية: كالرضاء واليقين والتوكل وما أشبهن من الأخلاق الحسنة، الشوق والمحبة وصدق الطلب، وأجر الأعمال الروحانية: كالتوجه إلى الله بالكلية، وترك التلذذ بكشف الأسرار، وشهود المعاني والكرامات، والاستئناس بالله، والاستيحاش من الخلق، والقلق في المحبة، وأجر أعمال الأسرار: كالإعراض عما سوى الله، وترك الركون إلى مقامات القرب، والفطام عن الالتذاذ بالمعارف، ودوام التجلي، وكشوف الحقائق بالدقائق.
[41.9-14]
{ قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } [فصلت: 9]؛ أي: أرض البشرية في يومي الهوى والطبيعة، { وتجعلون له أندادا } [فصلت: 9] من الهوى والطبيعة إذا تحركت أرض البشرية، { ذلك } [فصلت: 9] من ابتلاء { رب العالمين } [فصلت: 9] الذي خلق عالمي العقل والهوى، { وجعل فيها } [فصلت: 10] في أرض البشرية { رواسي } [فصلت: 10] من العقل؛ لتسكين أرض البشرية لا يستقر إلا برواسخ العقل { من فوقها وبارك فيها } [فصلت: 10] بالحواس الخمس، { وقدر فيهآ أقواتها } [فصلت: 10] بستة من قوى البشرية { في أربعة أيام } [فصلت: 10]؛ أي: مع يومي خلق الأرض؛ يعني: في يومي الروح الحيواني والروح الطبيعي { سوآء للسآئلين } [فصلت: 10] لهذه القضية، { ثم استوى إلى السمآء } [فصلت: 11] سماء القلب { وهي دخان } [فصلت: 11] نار الروحانية، وبقوله: { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } لتجيبا { قالتآ أتينا طآئعين } [فصلت: 11] وإنما ذكرهما بلفظ التأنيث في البداية، كأنهما كانتا ميتة وهي مؤنثتان، وإنما ذكرهما في النهاية بلفظ التذكير؛ لأنه أحياهما وأعقلهما وهما في العدم، فأجابا بقولهما: أتينا طائعين جواب العقلاء، وفي قوله: { فقضهن سبع سموت } [فصلت: 12] إشارة إلى أن لسماء القلب سبعة أطوار، كما قال تعالى:
وقد خلقكم أطوارا
[نوح: 14] فالطور الأول من القلب يسمى: الكركر وهو محل الوسوسة.
والثاني: الشغاف وهو مظهر الهواجس.
والثالث: الفؤاد وهو معدن الرؤية كما قال تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم: 11]، والرابع: القلب وهو منبع الحكمة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ظهرت ينابيع الحكمة في قلبه على لسانه "
، والخامس: السويداء وهو مرآة الغيب.
والسادس: الشغاف وهو مثوى المحبة كما قال تعالى:
قد شغفها حبا
[يوسف: 30]، والسابع: محبة القلب وهي مودة التجلي وموضوع الكشوف، ومركز الأسرار ومهبط الأنوار، { في يومين } [فصلت: 12]؛ أي: يومي الروح الإنساني، والإلهام الرباني { وأوحى في كل سمآء أمرها } [فصلت: 12]؛ أي: ما هو أهله ومحله، { وزينا السمآء الدنيا بمصبيح } [فصلت: 12] وهي أنوار الأذكار والطاعات والعبادات { وحفظا } [فصلت: 12] من الشياطين، { ذلك تقدير العزيز } [فصلت: 12] الذي لإظهار عزته وعظمة قدر هذه الكمالات ودبرها في نطفة قدرة { العليم } [فصلت: 12] الذي أحاط علمه بمصالح الدارين وأهلها، { فإن أعرضوا } [فصلت: 13] أرباب النفوس المتمردة عن الله، وطلبه وطلب رضاه { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [فصلت: 13]؛ أي: أخبر المكذبين لك أن لكم سلفا سلكتم طريقهم في العناد والجحود، فإن أبيتم إلا الإصرار ألحقناكم بهم بالهلاك فتكونوا كأمثالهم { إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون } [فصلت: 14].
[41.15-20]
{ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق } [فصلت: 15] وركنوا إلى قوة نفوسهم { وقالوا من أشد منا قوة } [فصلت: 15] فهابهم قواهم لما استكمن منهم بلواهم، { أولم يروا أن الله الذي خلقهم } [فصلت: 15] وخلق الأشياء كلها { هو أشد منهم قوة } [فصلت: 15] في إهلاكهم، { وكانوا بآياتنا يجحدون } [فصلت: 15] مع إحاطة علمهم بالآيات والقدرة، قال الله تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا } [فصلت: 16]؛ ليقلعهم من أصولهم، ولما يغادر منهم أحدا { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون } [فصلت: 17] قيل: إنهم في الابتداء آمنوا وكانوا يتقون وصدقوا، ثم ارتدوا وكذبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال، { ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } [فصلت: 18] فمنهم من نجاهم من غير أن يروا النار عبروا القنطرة ولم يعلموا، وقوم كالبرق الخاطف: وهم أعلاهم، وقوم كالراكض: وهم أيضا الأكابر، وقوم على الصراط: يسقطون وتردهم الملائكة على الصراط فبعد وبعد، وقوم بعد ما دخلوا النار: فمنهم من تأخذه إلى كعبيه، ثم إلى ركبتيه، ثم إلى حقويه، فإذا بلغت القلب قال الحق تعالى للنار:
" لا تحرقي قلبه فإنه محترق في "
، وقوم يخرجون من النار: بعد ما امتحشوا وصاروا حمما.
ثم أخبر عن حشر الأعداء مع القرناء بقوله تعالى: { ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون } [فصلت: 19] يشير إلى أن من لم يمتثل أوامر الله تعالى ونواهيه ولم يتابع رسوله، فهو عدوا لله وإن كان منافقا بالله مقرا بوحدانيته، وإن ولي الله: من كان يؤمن بالله ورسله، ويمتثل أوامر الله ونواهيه، ومتابعة الرسول، ويحشر الأولياء إلى الله وجنته، كما يحشر الأعداء إلى نار القطيعة والبعد وجحيمه { حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } [فصلت: 20]؛ لأنهم كانوا يستعملوها في معاصي الله بغير اختيارهم.
[41.21-24]
{ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } [فصلت: 21] بهذا يشير إلى أن الجماد في الآخرة يكون حيوانا ناطقا، كما قال تعالى:
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
[العنكبوت: 64].
وبقوله: { قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } [فصلت: 21] يشير إلى: إن الأرواح والأجسام متساوية، وفي قدرة الله إن شاء جعل الأرواح بوصف الأجسام
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171]، وإن شاء جعل الأجسام بوصف الأرواح تنطق وتسمع، وتبصر وتعقل؛ ولهذا قال: { وهو خلقكم أول مرة } [فصلت: 21]؛ يعني: خلق الأرواح بوصفها حين خلقها { وإليه ترجعون } [فصلت: 21] كما يشاء بوصف الأرواح أم بوصف الأجسام، { وما كنتم تستترون } [فصلت: 22]؛ لأنه لم يكن في حسابكم ما استقبلتم { أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } [فصلت: 22]؛ لأنها كانت أجساما صامتة غير ناطقة، وبقوله: { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون } [فصلت: 22] يشير إلى معتقد الفلاسفة الزنادقة أنهم يعتقدون أن الله لا يكون عالم الجزيئات، فرد عليهم بقوله: { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } [فصلت: 23] أهلككم { فأصبحتم من الخاسرين } [فصلت: 23] الذين خسروا على بذرا لأرواحهم في أرض أجسادهم بأن لم يصل إليه ماء الإيمان والعمل الصالح، ففسد حتى صار بوصف الأجساد
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171]، كما قال:
والعصر * إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[العصر: 1-3] { فإن يصبروا } [فصلت: 24] على ما هم فيه من الخسران { فالنار مثوى لهم } [فصلت: 24] نار الطرد والقطيعة والبعد، { وإن يستعتبوا } [فصلت: 24] فعلى ما قال: { فما هم من المعتبين } [فصلت: 24].
[41.25-29]
وبقوله: { وقيضنا لهم قرنآء } [فصلت: 25] يشير إلى أنه تعالى إذا أراد بعبد سوء قيض له إخوان وقرناء شرهم الأضداد لهم فيما رموا، وإذا أراد بعبد خيرا قيض له قرناء خيرا يعينونه على الطاعة، ويحملونه عليها، ويدعونه إليها، وإذا كان إخوان سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها ومن ذلك الشيطان، فإنه مقيض على الإنسان مسلط يوسوس إليه بالمخالفات، وشر من ذلك النفس الأمارة بالسوء، وبئس القرين النفس تدعو اليوم إلى ما فيه هلاكها وهلاك العبد، وتشهد غدا عليه بما دعته إليه، وشر قرين للمرء نفسه، ثم الشياطين، ثم شياطين الإنس { فزينوا لهم ما بين أيديهم } [فصلت: 25] من طول الأمل { وما خلفهم } [فصلت: 25] من نسيان الزلل، والتسويف في التوبة، والتقصير في الطاعة { وحق عليهم القول } [فصلت: 25] بالتقدير الأزلي { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } [فصلت: 25] بالشقاوة، { إنهم كانوا خاسرين } [فصلت: 25] بإفساد استعدادهم الفطري.
ثم أخبر عن أحوال أهل الكفر ومقالهم بقوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [فصلت: 26] يشير إلى طبيعة النفوس المتمردة الأمارة بالسوء إن من شأنها: انتشار الهواجس النفسانية، وإلقاء الخواطر المنتسبة من الأوصاف الحيوانية، وإثارة الوساوس الشيطانية والهجو من الكلام، وإنشاء اللغو والباطل، وحديث النفس على الدوام اشتغالا للقلوب بها عن استماع الإلهامات الربانية والإشارات الوحدانية؛ لعلها تغلب على القلوب والأرواح، وتسلب العقول والأفهام، ولم تعلم أن القلوب التي نورت بالإيمان وأبدت بعواطف الإحسان، والأرواح التي كوشفت بعوارف الحرمان ولطائف العيان؛ فهي التي شرفت بسماع أسرار الغيب المبرأة عن الريب، والقلوب التي هي في ظلمات جهلها لا يدخل الإيمان فيها، ولا يباشر السماع سرها.
وبقوله: { فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا } [فصلت: 27] يشير إلى أنه تعالى إذا تجلى على النفوس الكافرة المتمردة يعذبها بها عذابا شديدا يؤدي إلى إفنائها، ثم قال: { ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون } [فصلت: 27]؛ أي: نجزي النفوس بسطوة نار نور التجلي عند احتراق صفاتها وإفناء ذواتها، { أسوأ } ما كانت تعمل في شغل القلوب عن استماع كلام الحق، { ذلك جزآء أعدآء الله } [فصلت: 28]؛ أي: النفوس المتمردة، { النار } [فصلت: 28] نار أنوار التجلي { لهم فيها } [فصلت: 28] ما يشاءون، { دار الخلد } [فصلت: 28]؛ أي: بدوام التجلي في مقام التمكن { جزآء بما كانوا بآياتنا } [فصلت: 28] من شواهد الحق { يجحدون } [فصلت: 28] ينكرونها لئلا يصل إلى القلوب.
وبقوله: { وقال الذين كفروا ربنآ أرنا الذين أضلانا } [فصلت: 29] يشير إلى أن النفوس إذا فنيت عن أوصافها بنار أنوار التجلي، وذاقت حلاوة الشرب تلتمس من ربها اطلاعها على بقايا الأوصاف الشيطانية والحيوانية التي جبلت النفوس عليها؛ ليمكنها منها، فتجعلها تحت أقدام جهة إفنائها فيعلوا بها إلى مقامات القرب، كما قال تعالى:
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] وذلك قوله: { أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } [فصلت: 29]؛ أي: ليكونا من الأعلين إذا كانا تحت أقدامنا.
[41.30-35]
ثم أخبر عن القلوب المستقيمة والأرواح الكريمة بقوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله } [فصلت: 30] يشير إلى يوم الميثاق لما خوطبوا بقوله:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]؛ أي: ربنا الله، وهم الذرات المستخرجة من ظهر آدم عليه السلام أقروا بربوبيته { ثم استقاموا } [فصلت: 30] على إقرارهم بالربوبية، تائبين على أقدام العبودية لما خرجوا إلى عالم الصورة، ولهذا ذكر بلفظه { ثم }؛ لأنه للتراخي فأقروا في عالم الأرواح، ثم استقاموا في عالم الأشباح، وهم المؤمنون بخلاف المنافقين والكافرين، فإنهم أقروا ولم يستقيموا على ذلك:
فاستقامة العوام: في الظاهر بالأوامر والنواهي، وفي الباطن بالإيمان والتصديق.
واستقامة الخواص: في الظاهر بالتجريد عن الدنيا وترك زينتها أو شهواتها، وفي الباطن بالتفريد عن نعيم الجنان شوقا إلى لقاء الرحمن، وطلب العرفان.
واستقامة الأخص: في الظاهر برعاية حقوق المتابعة على وفق المبايعة بتسليم النفس والمال، وفي الباطن بالتوحيد في استهلاك الناسوتية؛ ليستقم بالله مع الله، فانيا عن الأنانية باقيا بالهوية بلا أرب من المحبوب، مكتفيا من عطائه ببقائه، ومن مقتضى جوده بدوام فنائه في وجوده، { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا } [فصلت: 30] الخوف إنما يكون في المستقبل من الوقت؛ وهو بحلول مكروه أو فوات محبوب، والملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون وكل محذور لهم لا يكون، هذا تحقيق قوله تعالى: { ألا تخافوا } ، والحزن من حزونة الوقت، والذي هو راض بجميع ما يجري مستسلم للأحكام الأزلية فلا حزونة في عيشه؛ بل من يكون قائما بالله، هائما في الله، دائما مع الله، لا يدركه الخوف والحزن، فالملائكة يبشرونهم ألا تخافوا من سوء الخاتمة، ولا تحزنوا على فوات العناية في السابقة، { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [فصلت: 30]؛ أي: جنة الوصلة، فإن الوعد صار نقدا فما بقي الوعد والوعيد، وما هو إلا عبد في العبد، فأوعد الله للعوام من جميل الثواب، وللخواص من حسن المآب نقد لأخص الخواص من أولي الألباب، ويقال: لا تخافوا من عزل الولاية، ولا تحزنوا عن منع الهداية، وابشروا بحسن العناية في البداية والنهاية، ولا تخافوا ذلة المذلة، ولا تحزنوا مما أسلفتم من الذلة، وابشروا بدوام الوصلة، وبقوله: { نحن أوليآؤكم } [فصلت: 31] يشير إلى ولاية الرحمة للعوام، وولاية النصرة للخواص، وولاية المحبة لأخص الخواص، فبولاية الرحمة للعوام { في الحياة الدنيا } [فصلت: 31] يوفقهم لإقامة الشريعة، { وفي الآخرة } [فصلت: 31] يجازيهم بالجنة، وبولاية النصرة للخواص في الحياة الدنيا يسلطهم على أعدى عدوهم وهو أنفسهم الأمارة بالسوء؛ ليجعلوها مزكاة من أخلاقها الذميمة وأوصافها الدنية، وفي الآخرة جذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] وبولاية المحبة لأخص الخواص في الحياة الدنيا يفتح عليهم أبواب المشاهدات والمكاشفات، وفي الآخرة يجعلهم من أهل القربات والمعاينات، { ولكم فيها } [فصلت: 31] في الآخرة { ما تشتهي أنفسكم } [فصلت: 31] من نعيم الجنة بحسب علو همتكم فيها، { ولكم فيها ما تدعون } [فصلت: 31] بدواعي القلوب والأرواح، من الوصول والوصال بحسب صدق الطلب، وحسن السؤال من حضرة الجلال ذي الفضل والأفضال، والكرم والنوال، { نزلا } [فصلت: 32] فضلا وعطاء، وتقدمه لما يستديم إلى الأبد من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف { من غفور رحيم } [فصلت: 32] يبدل السيئات بالحسنات، ويزيد لأهل الطاعات في الدرجات والقربات.
ثم أخبر عن أحسن الأقوال لأرباب الأحوال بقوله تعالى: { ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله } [فصلت: 33] يشير إلى أن أحسن قول قاله الأنبياء والأولياء قولهم: بدعوة الخلق إلى الله، وهو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان مخصوصا بهذه الدعوة قال تعالى:
إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه
[الأحزاب: 45-46] وهو أن يكتفي بالله في الله لا يطلب منه غيره، قال: { وعمل صالحا } [فصلت: 33] أي: كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه؛ يعني: سلكوا طريق الله إلى أن يصلوا إلى الله وصولا بلا اتصال ولا انفصال، فبسلوكهم ومنازلتهم عرفوا الطريق إلى الله، ثم دعوا بعد ما عرفوا الطريق إليه الخلق إلى الله، { وقال إنني من المسلمين } [فصلت: 33] لحكمة الراضين بقضائه وتقديره { ولا تستوي الحسنة } [فصلت: 34]؛ وهي التوجه إلى الله بصدق الطلب وخلوص المحبة، { ولا السيئة } [فصلت: 34]؛ وهي طلب ما سواه منه والرضاء عنه بما دونه، ولهذا قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وبقوله: { ادفع بالتي هي أحسن } [فصلت : 34] يشير إلى دفع طلب ما سوى الله بطلب الله فإنه أحسن مما سواه، فإذا فعلت ذلك وتقربت إلى الله بطلبه والله يتقرب إليك بتجلي صفاته لك { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } [فصلت: 34]؛ يعني: النفس الأمارة بالسوء { كأنه ولي حميم } [فصلت: 34]؛ لتزكيتها عن صفاتها الذميمة بإفاضة أنوار التجلي عليها، وهذا هو الإكسير الأعظم بأن صار العدو صديقا والبعيد قريبا، { وما يلقاها إلا الذين صبروا } [فصلت: 35] لا يقوم باستفادة هذه الأحوال إلا من أكرم بتوفيق الصبر، ورقى عن سفاسف الشيم الإنسانية إلى معالي الأخلاق الربانية، { وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم } [فصلت: 35] من فناء نفسه والبقاء بربه.
[41.36-40]
وبقوله: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله } [فصلت: 36] يشير إلى أن النبي والولي لا ينبغي أن يكون أمنا من مكر الله، وإن الشيطان صورة مكر الحق تعالى يكون على حذر من نزغاته مستعيذا بالله من همزاته، فلا يذرها أن تصل إلى القلب بل يرجع إلى الله في أول الخطرة، فإنه إن لم يخالف أول الخطرة صار فكرة، ثم بعد ذلك يحصل العزم على ما يدعو إليه الشيطان، ثم إن لم يتدارك ذلك تجري الذلة، فإن لم يتدارك بحسن الرجعة صار قسوة ويتمادى به الوقت فهو يخطر كل آفة، ولا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة بالله والإخلاص في العبودية، قال الله تعالى:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الحجر: 42] فكلما زاد العبد في تبريه من حوله وقوته، وأخلص بين يدي الله تضرعه واستعانته، زاد الله في حفظه ورفع الشيطان عنه؛ بل يسلطه عليه ليسلم على يديه، { إنه هو السميع } [فصلت: 36] لدعائك { العليم } [فصلت: 36] بقضاء حوائجكم.
ثم أخبر عن آياته وتكرماته بقوله تعالى: { ومن آياته اليل والنهار } [فصلت: 37] يشير إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، { والشمس والقمر } [فصلت: 37] إذا تجلت شمس الروح وقمر القلب { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } [فصلت: 37]؛ أي: لا تتخذوا ما كشف لكم عند تجلي شمس الروح من المعقولات، وأنواع العلوم الدقيقة مقصدا ومعبدا كما اتخذت الفلاسفة، { ولا للقمر } [فصلت: 37]؛ أي : لا تتخذوا أيضا ما شاهدتم عند تجلي شواهد الحق في قمر القلب من المشاهدات، ومكاشفات العلوم الدينية مقصدا ومعبدا كما اتخذ بعض أرباب السلوك، ووقفوا عند عقبات العرفان والكرامات، فشغلوا بالمعرفة عن المعروف، وبالكرامة عن المكرم { واسجدوا لله الذي خلقهن } [فصلت: 37]؛ أي: اتخذوا المقصود والمعبود حضرة حضرت جلال الله، الذي خلق ما سواه منازل السائرين به إليه { إن كنتم } [فصلت: 37] من جملة المحبين الصادقين الذين { إياه تعبدون } [فصلت: 37] طمعا بوصاله والوصول إليه، لا من الذين يعبدونه خوفا من النار وطمعا إلى الجنة، { فإن استكبروا } [فصلت: 38] أهل الأهواء والبدع، ولا يوفقون للسجود بجميع الوجود لله، { فالذين عند ربك } [فصلت: 38] من أرواح الأنبياء والأولياء { يسبحون له باليل والنهار } [فصلت: 38] ينزهونه عن احتياج سجدة أحد من العالمين على أنه
ولله يسجد من في السموت والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
[الرعد: 15]، { وهم لا يسئمون } [فصلت: 38] على التسبيح والتنزيه، { ومن آياته أنك ترى الأرض } [فصلت: 39] أرض البشرية { خاشعة } [فصلت: 39] يابسة عند إعواز ما الهوى، وإشراق شمس العناية لم ينبت منها نبات داعية من دواعي البشرية، { فإذآ أنزلنا عليها المآء } [فصلت: 39] ماء الخذلان والابتلاء { اهتزت } [فصلت: 39] بنبات الدواعي { وربت } [فصلت: 39] منها أشجار المعاصي والمناهي، { إن الذي أحياها } [فصلت: 39]؛ أي: أحيا النفوس الميتة { لمحى الموتى } [فصلت: 39]؛ أي: القلوب الميتة يحييها بنور الإيمان، وصدق الطلب، وغلبات الشوق، وكذلك إذا وقع للعبد فترة في معاملة وغيبة من نشاط طلبه، فإذا تغمده الحق سبحانه بما يدخل على قلبه من ماء التذكير نبت في قلبه نبات الوفاق، فيعود إلى مألوف مقام هو تعود عود تعداده غضا طريا، وشجر وفاقه بعد ما أصابته الجذوبة بماء العناية مستقيا، وكذلك إذا حصل لأهل العرفان وقفة، أو بدا لهم من جراء سوء أدب حجبة، نظر الحق سبحانه وتعالى إليهم بالرعاية فاهتزت رياض أنسهم، واخضرت مشاهد قربهم، وانهزمت وفود وقفتهم { إنه على كل شيء قدير } [فصلت: 39] من إظهار اللطف والقهر.
وبقوله: { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينآ } [فصلت: 40] يشير إلى إن إلحادهم عن الحق إنما كان من نتيجة خذلاننا فلا يخفى علينا سبب إلحادهم، فإن كل إنسان نكل إلى نفسه لا يصدر منه إلا إلحاد عن الحق؛ لأنها جبلت على الأمارية بالسوء، { أفمن يلقى في النار } [فصلت: 40] وهي: الطبيعة الإنسانية النفسانية الحيوانية التي هي منشأ دركات جهنم { خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة } [فصلت: 40] وهو منظور بنظر عنايتنا، محفوظ من شر نفسه بفضل رعايتنا، وفي قوله تعالى: { اعملوا ما شئتم } [فصلت: 40] إشارة إلى أن وكالتهم إلى هوى أنفسهم، فإنه بالطبع يهوون إلى الدرك الأسفل، { إنه بما تعملون بصير } [فصلت: 40] بأن يكون مصيركم إلى النار.
[41.41-46]
وبقوله: { إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم } [فصلت: 41] يشير إلى
إن الذين يلحدون في آياتنا
[فصلت: 40] وفي القرآن إنما ألحدوا فيه؛ لأنهم كفروا به لما جاءهم وإنما كفروا؛ لأنهم كانوا لأهل الخذلان، { وإنه لكتاب عزيز } [فصلت: 41]؛ يعني: القرآن وإن من عزته أن { لا يأتيه الباطل } [فصلت: 42]؛ يعني: أهل الخذلان { من بين يديه } [فصلت: 42]؛ يعني: بالإيمان به { ولا من خلفه } [فصلت: 42] بالعمل به { تنزيل من حكيم } [فصلت: 42] ينزل بحكمته على من يشاء من عباده لمن يشاء أن يعمل به { حميد } [فصلت: 42] في أحكامه وأفعاله؛ لأنها صادرة منه بالحكمة، وبقوله: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } [فصلت: 43] يشير إلى تسلية أرباب الطلب المعرضين عن الخلق المقبلين على الله؛ يعني: أيها الطالب الصادق، إن أطلق الخلق لسان اللوم فيك، ويقال: إنه مجنون أو ساحر، فإنه قد قيل للرسل أكثر من ذلك
فاصبر على ما يقولون
[ق: 39]، { إن ربك لذو مغفرة } [فصلت: 43] لك { وذو عقاب أليم } [فصلت: 43] لأعدائك وحسادك.
ثم أخبر عن نعمة القرآن وإنكار أهل الكفران بقوله تعالى: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ءاعجمي وعربي } [فصلت: 44] يشير إلى إزاحة العلة لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة وصحة الشريعة، فإنه لا نهاية للتعلل بمثل هذه المعللات؛ لأنه تعالى لو جعل القرآن أعجميا وعربيا، لقالوا: لولا جعله عبرانيا وسريانيا، ثم وصف القرآن بأنه شفاء للمؤمنين وسبب شقاء للكافرين بقوله: { قل هو للذين آمنوا هدى وشفآء } [فصلت: 44] فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا به عن حد الفكرة وتحير الخواطر، وشفاء لصدق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته والتلذذ بالتكفر فيه، وشفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق لما فيه من لطف المواعيد، وشفاء لقلوب العارفين لما يتوالى عليها من أنوار التحقيق، وآثار خطاب الرب العزيز: { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } [فصلت: 44] لا يسمعون بقلوبهم من الحق فلا يستجيبون، ويقول: في ظلمات الجحد والجهل { وهو عليهم عمى } [فصلت: 44] لا يزدادون على مر الأيام إلا الضلال { أولئك ينادون من مكان بعيد } [فصلت: 44]؛ لأن النداء إنما يجيئ من فوق أعلى عليين، وهم في أسفل السافلين في الطبيعة الإنسانية وهم أبعد البعد.
وبقوله: { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } [فصلت: 45] يشير إلى أن الإلهامات الربانية التي يلهم بها موسى الروح، فاختلف فيها فالقلب يؤمر بها، والنفس تكفر بها ولا تعمل بها { ولولا كلمة سبقت من ربك } [فصلت: 45] في تأخير عذاب النفس بتكاليف الشريعة ومخالفة هواها إلى أجل مسمى، وهو حد البلوغ { لقضي بينهم } [فصلت: 45] بتزكية النفس بأحكام الشرع { وإنهم } [فصلت: 45]؛ يعني: النفوس وصفاتها { لفي شك منه مريب } [فصلت: 45]؛ يعني: من إلهامات الحق، هل هي من الله أم لا؟ { من عمل صلحا } [فصلت: 46] في تزكية نفسه { فلنفسه } [فصلت: 46]؛ لأن فلاحها في صلاحها بالتزكية { ومن أسآء } [فصلت: 46] بمخالفات الشريعة { فعليها } [فصلت: 46]؛ أي: فعليها راجعة إساءتها؛ لأنها تقاسي ضرها وتلافي شرها، { وما ربك بظلم للعبيد } [فصلت: 46] بل هم يظلمون على أنفسهم بالإساءة.
[41.47-50]
وبقوله: { إليه يرد علم الساعة } [فصلت: 47] يشير إلى علم جزاء أعمال العباد يوم القيامة، فإنه لا يعلمه إلا هو؛ لأنه { وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } [فصلت: 47]؛ أي: لا تخرج من ثمرة عمل من أعمال العباد من أحكام التقدير الإلهي، ولا تحمل أنثى نفس بحمل صفة من صفاتها، ولا تضع من عمل هو من نتائج تلك الصفة إلا بعلمه وتقديره الأزلي، { ويوم يناديهم أين شركآئي } [فصلت: 47]؛ يعني: الذين كانوا يرون أنهم يخلقوا أفعالهم وأعمالهم { قالوا آذناك ما منا من شهيد } [فصلت: 47] يشهد أنه خالق فعله، وكوشفوا بأنه لا خالق إلا الله ولا وجود في الحقيقة إلا الله، { وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } [فصلت: 48] له وجود { وظنوا } [فصلت: 48] وأيقنوا { ما لهم من محيص } [فصلت: 48] مهرب إلا الله عند قيام الساعة بتجلي صفة القهارية.
ثم أخبر عن اللوم الإنساني والكرم الرباني بقوله تعالى: { لا يسأم الإنسان من دعآء الخير } [فصلت: 49] يشير إلى أن الإنسان مجبول على طلب الخير بحيث لا تتطرق إليه الساعة، فبهذه الخصلة بلغ من بلغ رتبة خير البرية، وبها بلغ من بلغ دركة شر البرية وذلك؛ لأنه لما خلق لحمل الأمانة التي أشفق منها البرية
فأبين أن يحملنها
[الأحزاب: 72]، وهي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وذلك فيض لا نهاية له، فلحملها احتاج الإنسان إلى طلب غير متناه، فصرف بعضهم هذا الطلب في قبول الفيض الإلهي وأعرض عن غيره متأخر البرية، ومن صرف هذا الطلب في تحصيل الدنيا وزينتها وشهواتها واستيفاء لذاتها فما شئتم من الطلب، وصار شر البرية، { وإن مسه الشر } [فصلت: 49] وهو فطامه عن مألوفات نفسه وهواه { فيئوس قنوط } [فصلت: 49] لا يرجو زوال البلايا والمحن لعدم علمه بربه وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى الله؛ ليدفع عنه ذلك، { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته } [فصلت: 50]؛ أي: لئن كشفنا عنه البلاء وأوحينا إليه الرضاء لدعاه استحقاقا واتفاقا، ولا يعتقد ذلك هنا فضلا وإنعاما؛ لأنه محجوب بأنانيته عن هويتنا؛ بل يرى ذلك من جلادته وكفايته أو من طالعه وجده { ليقولن هذا لي } [فصلت: 50] من حسن استعدادي وسعادة طالعي.
وبقوله: { ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربي } [فصلت: 50] بالحشر والنشر { إن لي عنده للحسنى } [فصلت: 50] بحسب قسمي وسعد طالعي، { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } [فصلت: 50]؛ أي: فلينجزينهم بجزاء ما عملوا { ولنذيقنهم من عذاب غليظ } [فصلت: 50] وهو عذاب الطرد والبعد، وإفساد استعداد الروح لقبول الفيض وحرمة حرمانه، وقد كان معذبا بهذا العذاب ولكنه لم يجد ذوق العذاب وألمه، فلنذيقنه الآن بعد انتباهه من نومة غفلته.
[41.51-54]
{ وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } [فصلت: 51]؛ لأنه إذا خليناه إلى طبيعة الإنسانية وهي الظلومية الجهولية لا يميز بين البلاء والعطاء، فكثير مما يتوهمه عطاء هو مكر واستدراج وهو يستديمه، وكثير مما هو فضل ونعمة وصرف عطاء وهو يظنه بلاء فيعافه ويكرهه؛ بل إذا أنعمنا عليه صاحبه بالبطر، وإذا أبليناه قابله بالضجر؛ بل وإذا أنعمنا عليه عجب بنفسه فتكبر مختالا في زهوة لا يشكر ربه ولا يذكر فضله، ويشتغل بالنعمة عن المنعم ويتباعد عن نشاط طاعة، وكالمستغني عنا يهيم على وجهه، { وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض } [فصلت: 51] وتضرع شديد بالاظطرار بخصوصية الجوهر الإنسانية فإن له إلى ربه الرجعى عند الاضطرار لحاجته الأصلية الكلية اليد.
وبقوله: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد } [فصلت: 52] يشير إلى أن كل بلاء وعناء، ونعمة ورحمة، ومهانة ومسرة تنزل بالعبد، فهو من عند الله فإن استقبله بالتسليم والرضاء صابرا شاكرا للمولى في الشدة والرخاء والسراء والضراء، فهو من المهتدين المقربين، وإن استقبله بالكفران والجزاع بالخذلان فهو من الأشقياء والمبعدين المضلين، وبقوله: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [فصلت: 53] يشير إلى معان كثيرة منها: أن الخلق لا يرون آياتنا إلا بإراءة الله إياهم.
ومنها: أن الله خلق الآفاق مظهر آياته، وكذلك نفس الإنسان مظهر آياته.
ومنها: أنه ليس للآفاق شعور على الآيات، ولا على مظهريتها للآيات.
ومنها: أن الإنسان هو الذي له شعور على الآيات، وعلى مظهريته للآيات.
ومنها: أن نفس الإنسان مرآة مستعدة لمظهرية جميع آيات الله، ومظهريتها بإرادة الحق تعالى بحيث تبين له أنه الحق، ويتبين لغيره أنه الحق، وفي قوله: { حتى يتبين لهم أنه الحق } [فصلت: 53] إشارة إلى: العوام والخواص وأخص الخواص:
فأما العوام: فتبين لهم باختلاف الليل والنهار والأحداث التي تجري في أحوال العالم، واختلاف الأحوال التي تجري عليهم في الطفولية إلى الشيخوخة، واختلاف أحكام الأعيان مع اتفاق جواهرها في التجانس، وهذه هي آيات حدوث العالم، واقتضاء المحدث بصفاته.
وأما الخواص: فيتبين لهم ببصائر قلوبهم من شواهد الحق واختلاف الأحوال في القبض والبسط، والجمع والفرق، والحجب والجذب، والستر والتجلي، والكشوف والبراهين، وأنوار الغيب وما يجدونه من حقائق معاملاتهم ومنازلاتهم بإراءة الحق تعالى.
وأما أخص الخواص: فيتبين بالخروج عن ظلمات حجب الإنسانية إلى نور الحضرة الربانية بتجلي صفات الجمال والجلال كشف القناع الحقيقي عن العين والعيان.
ولهذا قال: { أولم يكف بربك } [فصلت: 53] بإراءة آياته وتعريف ذاته وصفاته بكشف القناع ورفع الأستار، { أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 53] لا يغيب عن قدرته شيء، وبقوله: { ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم } [فصلت: 54] يشير إلى أن أهل الصورة لفي شك من تجويز ما يكاشف به أهل الحقيقة من أنواع المشاهدات والمعاينات، { ألا إنه بكل شيء محيط } [فصلت: 54] وهو قادر على التجلي لكل شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا تجلى الله لشيء خضع له ".
[42 - سورة الشورى]
[42.1-6]
{ حم * عسق } [الشورى: 1-2] يشير إلى القسم بحاء حبه، وميم محبوبه محمد، وعين عشقه على سيده، وقاف قربه إلى سيده بكمال لم يبلغه أحد في خلقه، أقسم بأنه: { كذلك يوحي إليك } [الشورى: 3] أنك محبوبه الأزلي وبحبك خلق الموجودات بتبعيتك { وإلى الذين من قبلك } [الشورى: 3]؛ أي: وكذلك أوحى إلى الأنبياء من قبلك أنك محبوبه الأزلي، { الله العزيز } [الشورى: 3]؛ أي: أوحى الله العزيز الذي لا يحتاج إلى وجودك ووجود غيرك، { الحكيم } [الشورى: 3] الذي لحكمة بالغة اتخذك حبيبا في الأزل وخلقك للأبد وخلق الموجودات بتبعيتك، { له ما في السموت وما في الأرض } [الشورى: 4] ملكا وملكا { وهو العلي العظيم } [الشورى: 4] أعلى رتبة وأعظم عزة في الألوهية، في أن استحقاقه لأوصاف المجد والجلال بمالكية ما في السماوات وما في الأرض، وبملكية من فيهما.
وبقوله: { تكاد السموت يتفطرن من فوقهن } [الشورى: 5] يشير إلى قبيح أقوال المشركين من بني آدم وأفعالهم وجراءتهم على الله تعالى، ولعظم كفرهم كادت السماوات تنشق إلى أسفلهن؛ أي: تنفطر جملتها، فالمعنى أن أولاد آدم بهذه الصفة { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } [الشورى: 5] لا يفترون، ومع هذا عناية الله تعالى في حق أولاد آدم أن الملائكة مأمورون بترك التسبيح { ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور } [الشورى: 5] فيه إشارة إلى أن استغفار الملائكة لهم ليس من اختيارهم؛ بل أن الله هو الغفور لبني آدم { الرحيم } [الشورى: 5] بهم، وبرحمته يأمر الملائكة بالاستغفار لهم وهو يغفر مع كثرة عصيانهم، والكفار الذين يرتكبون عظيم هذا الجرم من الشرك والذنوب العظائم لا يقطع رزقهم ولا صحبتهم ولا تمتعاتهم في الدنيا، وإن كان يريد أن يعذبهم في الآخرة، وبقوله: { والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم } [الشورى: 6] يشير إلى أن كل من عمل بمتابعة هواه وترك الله حدا ونقض له عهدا، فهو متخذ الشياطين أولياء؛ لأنه من يعمل بأوامرهم وأفعاله موافقة لطباعهم، { الله حفيظ عليهم } [الشورى: 6] بأعمال سرهم وعلانيتهم، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم، { ومآ أنت عليهم بوكيل } [الشورى: 6]؛ لتمنعهم عن معاملاتهم.
[42.7]
ثم أخبر عما أوحى الله لإنذار أم القرى بقوله تعالى: { وكذلك أوحينآ إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى } [الشورى: 7] يشير إلى إنذار نفسه الشريفة؛ لأنها أم القرى نفوس آدم وأولاده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي تعلقت القدرة بإيجاده قبل كل شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أول ما خلق الله روحي ومنه تنشأ الأوراح والنفوس "
، ولهذا المعنى قال آدم: " ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة "؛ فالمعنى: أنه: كما يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم والأمم، { وكذلك أوحينآ إليك قرآنا عربيا } [الشورى: 7]؛ لتنذر نفسك الشريفة بالقرآن العربي؛ لأن نفسك عربية { ومن حولها } [الشورى: 7] من نفوس أهل العالم؛ لأنها محدثة بنفسك الشريفة، ولذلك قال تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعتث إلى الخلق كافة "
، { وتنذر يوم الجمع } [الشورى: 7] يوم يجمع بين الأرواح والأجساد، { لا ريب فيه } [الشورى: 7] لا شك في كونه، { فريق في الجنة وفريق في السعير } [الشورى: 7]، كما أنهم اليوم فريقان فريق في جنة القلوب وراحات الطاعات وحلاوات العبادات وتنعمات القربات، وفريق في سعير النفوس وظلمات المعاصي وعقوبات الشرك والجحود، فكذلك غدا فريق من أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء والبلاء.
[42.8-12]
{ ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة } [الشورى: 8] كالملائكة المقربين
لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم: 6]، أو جعلهم كالشياطين المبعدين المطرودين المتمردين، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يجعلهم مركبين من جوهري الملكي والشيطاني؛ ليكونوا مختلفين بعضهم الغالب عليه الوصف الملكي مطيعا لله تعالى، وبعضهم الغالب عليه الوصف الشيطاني متمردا على الله تعالى؛ ليكونوا مظاهر صفات لطفه وقهره، مستعدين لمرآة صفات جماله وجلاله، متخلقين بأخلاقه، وهذا سر قوله:
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] ومن هنا قالت الملائكة:
سبحنك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ
[البقرة: 32] ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: { ولكن يدخل من يشآء في رحمته } [الشورى: 8]؛ ليكون مظهرا لصفات لطفه { والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } [الشورى: 8]؛ ليكونوا مظهرا لصفات قهره.
وبقوله: { أم اتخذوا من دونه أوليآء فالله هو الولي } [الشورى: 9] يشير إلى أنه لا ولاية لأحد دونه، فالله هو متولي الأمور في الخير والشر والنفع والضر، { وهو } [الشورى: 9] الذي { يحيي الموتى } [الشورى: 9]؛ أي: النفوس والقلوب، اليوم وغدا، { وهو على كل شيء قدير } [الشورى: 9] من الإيجاد والإعدام، وبقوله: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [الشورى: 10] يشير إلى اختلاف العلماء في شيء من الشرعيات والمعارف الإلهية، فالحكم في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسول الله، وإجماع الأمة وشواهد القياس، أو إلى أهل الذكر، كما قال تعالى:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
[النحل: 43] ولا ترجعون إلى العقول المشوبة بآفة الوهم والخيال، فإن فيها للنفس والشيطان مدخلا بإلقاء الشبهات، وأدنى الشبهة في التوحيد كفر، وقد زلت أقدام جميع أهل الأهواء والبدع والفلاسفة عن الصراط المستقيم والدين القويم بهذه المذلة، وبقوله: { ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } [الشورى: 10] يشير إلى أنه إذا اشتغلت قلوبكم بحديث نفوسكم لا تدرون أبالسعادة جرى حكمكم، أم بالشقاوة مضى أسمكم؟ فكلوا الأمر إلى الله واشتغلوا في الوقت بأمر الله دون التفكير فيما ليس لعقولكم سبيل إلى معرفته وعلمه من عواقبكم.
{ فاطر السموت } [الشورى: 11] سماوات القلوب عن معالم الغيوب، { والأرض } [الشورى: 11] أرض النفوس عن عوالم الغيوب، { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } [الشورى: 11] أي: خلق حواء النفس من ضلع آدم الروح لتسكن إليها، { ومن الأنعام أزواجا } [الشورى: 11]؛ أي: خمر في طينتكم صفات الأنعام بأضعاف ما فيها، { يذرؤكم فيه } [الشورى: 11] يخلقكم في وصف الأنعام لاستعداد حمل الأمانة التي ما حملها الملائكة؛ لكونهم أرواحا مفردة، ولا الحيوانات؛ لأنها عرية في الأرواح الروحانية، وحملها الإنسان؛ لكونه مركبا من الروح الملكي والجسد الحيواني، ثم قال في هذا المعرض: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]؛ يعني: شيئا من هذه الأشياء التي ركب منها الإنسان من جميع الموجودات، فإنه نسخة العالم بما فيه من العناصر الأربعة: النبات والحيوان، والأجرام، والنفوس، والأرواح، ثم قال: { وهو السميع البصير } [الشورى: 11]؛ أي: مع أنه تعالى سميع بصير والحيوان أيضا سميع بصير ولكن لا شبه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أحكامه، على أن قوما وقعوا في تشبيه ذاته بذات المخلوقين فوصفوه بالحد والنهاية والكون في المكان، وأقبح قولا منهم من وصفه بالجوارح والآلات، وقوم وصفوه بما هو تشبيه في الصفات فظنوا أن بصره في حدقة، وسمعه في عضو، وقدرته في يد إلى غير ذلك، وقوم قاسوا حكمه على حكم عباده فقالوا: ما يكون من الخلق حسنا فمنه حسن فؤلاء كلهم أصحاب التشبيه، والحق تعالى مستحق التنزيه دون التشبيه، محقق بالتحصيل دون التعطيل والتمثيل، مستحق التوحيد دون التحديد، موصوف بصفات الكمال، مسلوب عن العيوب والنقصان، { له مقاليد السموت والأرض } [الشورى: 12]؛ أي: مفاتيح سماوات القلوب وفيها خزائن لطفه ورحمته، وأرض النفوس وفيها خزائن قهره وعزته، فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه فبعضها مخزن المعرفة، وبعضها مخزن المحبة، وبعضها مخزن الشوق، وبعضها مخزن الإرادة، وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والأنس والرضا وغير ذلك، وكل نفس مخزن لنوع من أوصاف قهره، فبعضها مخزن النكرة، وبعضها مخزن الجحود، وبعضها مخزن الإنكار، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة كالشرك والنفاق، والحرص والكبر، والبخل والشره، والغضب والشهوة، وغير ذلك، وفائدة التعريف أن المقاليد له قطع أفكار العباد من الخلق إليه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه، فإنه { يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شيء عليم } [الشورى: 12] يوسع ويضيق رزق النفوس ورزق القلوب، والخلق بمعزل عن هذا الوصف.
[42.13-15]
ثم أخبر عن تبيين الدين بقوله تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين } [الشورى: 13] يشير إلى أصول الدين أنها لم تختلف في جميع الشرائع، فأما الفروع فمختلفة فالآية تدل على أن مسائل أحكامها في جميع الشرائع واحدة، ثم بين بقوله: { أن أقيموا الدين } [الشورى: 13]؛ أي: في الأصول؛ وهي التوجه إلى الله بالكلية في صدق الطلب بتزكية النفس عن الصفات الذميمة، وتصفية القلب عن تعلقات الكونين، وتحلية الروح بالأخلاق الربانية، ومراقبة السر بكشف الحقائق وشواهد الحق، { ولا تتفرقوا فيه } [الشورى: 13]؛ أي: في الدين تفرق أهل الأهواء بالبدع بحسبان المعرفة والبراهين المعقولة، { كبر على المشركين } [الشورى: 13] مشرك أهل الأهواء والسمعة والرياء { ما تدعوهم إليه } [الشورى: 13] من التوحيد والوحدة.
وبقوله: { الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب } [الشورى: 13] يشير إلى مقامي المجذوب والسالك، فإن المجذوب من الخواص اجتباه في الأزل وسلكه في سلك من يحبهم واصطنعه لنفسه تعالى، وجذبه به عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55]، والسالك من العوام الذين سلكهم في سلك من يحبونه موفقين للهداية على قدمي الجهد والإنابة، إلى سبيل الرشاد في طريق العناد، { وما تفرقوا } [الشورى: 14]؛ يعني: أهل الأهواء والبدع { إلا من بعد ما جآءهم العلم } [الشورى: 14] من الكتاب والسنة { بغيا بينهم } [الشورى: 14]؛ أي: حسد بعضهم على بعض طلبا للرئاسة والقدرة والشهرة، { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى } [الشورى: 14] بافتراقهم ثلاثة وسبعين فرقة افتراق كل فرقة في زمان معين، { لقضي بينهم } [الشورى: 14] بالهداية.
وبقوله : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } [الشورى: 14] يشير إلى الذين أورثهم الكتاب، الذين اصطفيناهم من العباد بعد أهل الأهواء والبدع، { لفي شك منه } [الشورى: 14] من افتراق المبتدعين { مريب } [الشورى: 14] لباطليتهم، { فلذلك } [الشورى: 15]؛ أي: لبطلان مذاهب الأهواء والنوع { فادع } [الشورى: 15] إلى صراط مستقيم السنة { واستقم كمآ أمرت } [الشورى: 15] بالكتاب في الدعاء والطاعة، أمر الكل بالاستقامة وأقره الداعي بذكر الاستقامة واختصمه به لاستقامة تبعية، ثم قال: { ولا تتبع أهوآءهم وقل آمنت بمآ أنزل الله من كتاب } [الشورى: 15]؛ ليعلم أن إتباع الأهواء ضلالة وإن كان مقرونا بشبه المعقول، والإيمان بما أنزل الله في التوحيد والمعرفة، وإثبات الصفات ونفي التشبيه والتعطيل هداية، { وأمرت لأعدل بينكم } [الشورى: 15]؛ أي: لأستوي بين أهل الأهواء وبين أهل السنة بترك البدعة ولزوم الكتاب والسنة؛ ليندفع الافتراق ويكون الاجتماع، { الله ربنا وربكم } [الشورى: 15] لا الهوى { لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم } [الشورى: 15] مقبولا للسنة لا علينا وعليكم، مردودا للبدعة، { لا حجة بيننا وبينكم } [الشورى: 15]؛ أي: خصومة بالأهواء والعصبية، { الله يجمع بيننا } [الشورى: 15] في المرافقة بالسير إلى الله، { وإليه المصير } [الشورى: 15] بانتهاء السير إلى الله كقوله:
وأن إلى ربك المنتهى
[النجم: 42].
[42.16-19]
وبقوله: { والذين يحآجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة } [الشورى: 16] يشير إلى الذين يجادلون في معرفة الله بشبه المعقول مع صاحب المعرفة الذي استجيب له بالوصول إلى الحضرة، فحجتهم من بعد استجابته صعبة باطلة { عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } [الشورى: 16]؛ لأنهم يحجبون بالباطل، فهم مستوجبون اللعنة والطرد والإبعاد.
ثم أخبر عن إنزال القرآن والميزان بقوله تعالى: { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } [الشورى: 17] يشير إلى كتاب الإيمان الذي كتب الله في القلوب، وميزان العقل الذي يوزن به أحكام الشرع، والخير والشر، والحسن والقبح، فإنهما قرينان متلازمان لابد لأحدهما من الآخر، وسماها البصيرة فقال:
قد جآءكم بصآئر من ربكم
[الأنعام: 104] فمن صبر فلنفسه ومن عمى فعليها، ففي انتفاء أحدهما انتفاء الآخر، كما قال تعالى:
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
[البقرة: 171] فنفي العقل والبصيرة بانتفاء الإيمان.
وبقوله: { وما يدريك لعل الساعة قريب } [الشورى: 17] يشير إلى زجرهم عن طول الأمل وينبئهم على انتظار الأجل وهجومه، { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [الشورى: 18] إنكارا وجحودا واستهزاءا وتكذيبا بها، { والذين آمنوا } [الشورى: 18] بالغيب { مشفقون منها } [الشورى: 18] من أحكام الآخرة، ويكلون أمرهم إلى الله فلا يتمنون الموت حذار الابتلاء، ولكن إذا أراد الموت لم يكرهوه { ويعلمون أنها الحق } [الشورى: 18] فيستعدون له { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } [الشورى: 18]؛ أي: ضلالة بعيدة لأنه أزلي، { الله لطيف بعباده } [الشورى: 19] فلطفه من وجهين: أحدهما لطف الفطرة التي فطر الناس عليها في أحسن تقويم مستعدا لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة، ولطف الجذبة للوصلة، وأيضا لطيف بعباده بأن جعلهم عباده لا عباد الدنيا ولا عباد النفس والهوى والشيطان، { يرزق من يشآء } [الشورى: 19] بلطفه الوصول والوصال، { وهو القوي } [الشورى: 19] في إيصال العباد إلى الحضرة، { العزيز } [الشورى: 19]، بأنهم
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255] وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه في الإحسان بالأمور الدينية، خاطب العابدين بقوله: { لطيف بعباده } [الشورى: 19]؛ أي: بعمل غوامض أحوالكم من وفيق الرياء والتصنع لئلا يعجبوا بأحوالهم وأعمالهم، وخاطب العصاة بقوله: { لطيف } لئلا ييأسوا من إحسانه، وخاطب الفقراء بقوله: { يرزق من يشآء } [الشورى: 19]؛ أي: أنه يحسن بكم، وخاطب الأغنياء بقوله: { لطيف }؛ ليعلموا أنه يعلم دقائق معاملاتهم في جمع المال من غير وجهة بنوع تأويل، ومن لطفه بعباده: أنه جعلهم مظهر صفات لطفه، أنه عرفهم أنه لطيف ولولا لطفه ما عرفوه، أنه زين أسرارهم بأنوار العرفان وكاشفهم بالعين والعيان.
[42.20-22]
{ من كان يريد حرث الآخرة } [الشورى: 20] بحمده وسعيه { نزد له في حرثه } [الشورى: 20] بهدايتنا، وتوفيق مزيد طاعتنا، وصفاء الأحوال في المعارف بعنايتنا اليوم، ونزيده في الآخرة قربة ومكانة ورفعة في الدرجات، وشفاعة الأصدقاء والقرابات، { ومن كان يريد حرث الدنيا } [الشورى: 20] مكتفيا به { نؤته منها } [الشورى: 20]؛ أي: من آفات حب الدنيا من عمى القلب وبكمه وصمه وسفهه، والحجب التي يتولد منها من الأخلاق الذميمة النفسانية، والأوصاف الردية الشيطانية السبعية، والبهيمية الحيوانية، { وما له في الآخرة من نصيب } [الشورى: 20]؛ أي: في الأوصاف الروحانية والأخلاق الربانية.
ثم أخبر عن جفاء الشركاء بقوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21] يشير إلى كفار النفوس أنهم شرعوا عند استيلائهم من الدين بالهوى للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة، { ولولا كلمة الفصل } [الشورى: 21]؛ يعني: ما سبق من الحكم بالحكمة في تأخير تكاليف الشرع لقمع الطبع تربية لقالب بحمل أعباء الشريعة، { لقضي بينهم } [الشورى: 21] بالتكاليف والمجاهدات قبل البلوغ، { وإن الظالمين } [الشورى: 21]؛ يعني: في ظلم نفسه بمتابعة الهوى، { لهم عذاب أليم } [الشورى: 21] بعد البلوغ في العظام من مألوفات الطبيعة بالأحكام الشرعية، { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } [الشورى: 22] بمتابعة الهوى في الأوصاف الذميمة، { وهو واقع بهم } [الشورى: 22]؛ يعني: عذاب ما كسبوا ما في الدنيا بكثرة الرياضات وأنواع المجاهدات؛ لتزكية النفوس من أوصافها وتحليتها بأضدادها، وأما في الآخرة بورودها النار لتنقيتها، { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الشورى: 22] استعملوا تكاليف الشرع؛ لقمع الطبع، وكسر الهوى، وتزكية النفس، وتصفية القلب، وتحلية الروح، { في روضات الجنات } [الشورى: 22] في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة، وفي الآخرة في روضات الجنة، { لهم ما يشآءون عند ربهم } [الشورى: 22]؛ أي: مراتبهم في القربات والوصلات، والمكاشفات والمشاهدات، ونيل الدرجات على قدر همتهم ووفق مشيئتهم، { ذلك هو الفضل الكبير } [الشورى: 22] في حق الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بالفضل العظيم كما قال تعالى:
وكان فضل الله عليك عظيما
[النساء: 113].
[42.23-26]
{ ذلك } [الشورى: 23] الفضل الكبير { الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الشور ى: 23] به فضل من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم مبشر به بأن الله يبشرهم على لسانه، { قل } يا محمد { لا أسألكم عليه } [الشورى: 23]؛ أي: على التبشير { أجرا } [الشورى: 23]؛ لأن الله ليس يطلب منكم على الفضل عوضا، فأنا أيضا لا أسألكم على التبشير أجرا، فإن المؤمن أخذ من الله خلقا حسنا، فكما أن الله تعالى بفضله يوفق العبد للإيمان ويعطي الثواب لمن آمن به وليس يرضى بأن يعطيك فضله مجانا؛ بل يعطيك عليه أجرا، كذلك ليس يرضى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يطلب أجرا على التبليغ والتبشير؛ بل يشفع ذلك.
وقوله: { إلا المودة في القربى } [الشورى: 23] ذلك أيضا ليثبت الله قلبك على المحبة في الله، وهو أن تود من يتقرب إلى الله بالطاعة، { ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا } [الشورى: 23] بالتضعيف والتوفيق لمثلها والإخلاص فيها، وبزيادة لا يصل العبد إليها بوسعه مما يدخل تحت طوف البشر، { إن الله غفور } [الشورى: 23] للمقصرين على الطاعة برحمته، { شكور } [الشورى: 23] للموفرين في الطاعة فوق استطاعتهم فيها، { أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك } [الشورى: 24]؛ أي: أنك إن افتريته ختم الله على قلبك ولكنك لم تكذب على ربك، ولو كنت تكذب على ربك لختم على قلبك، { ويمح الله الباطل } [الشورى: 24]؛ أي: الكذب { ويحق الحق بكلماته } [الشورى: 24]؛ أي: الصدق، { إنه عليم بذات الصدور } [الشورى: 24] ومعنى الآية: إن الله يتصرف في عباده بما يشاء من إبعاد قريب وإدناء بعيد.
ثم أخبر عن قبول التوبة وعفو السيئة بقوله تعالى: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [الشورى: 25] يشير إلى أن الله تعالى إذا أراد أن يتوب على عبد من عباده ليرجع من أسفل سافلين البعد إلى أعلى عليين القرب يخلصه عن رق عبودية ما سواه بتصرف جذبات العناية، ثم يوفقه للرجوع إلى الحضرة، ويقبل منه الرجوع بالتقرب إليه كما قال:
" من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا "
؛ أي: من تقرب إلي شبرا بالتوبة تقربت إليه ذراعا بالقبول، ولو لم يكن القبول سابقا على التوبة لما تاب، كما قال بعضهم لبعض المشايخ: أن أتوب إلى الله هل يقبلني، قال: إن يقبلك الله تتوب إليه، { ويعفوا عن السيئات } [الشورى: 25]؛ أي: يعفو عن كثير من الذنوب التي لا يطلع العبد عليها ليتوب عنها، وأيضا يعفو عن كثير من الذنوب قبل التوبة ليصير العبد به قابلا للتوبة وإلا لما تاب، { ويعلم ما تفعلون } [الشورى: 25] من السيئات والحسنات مما لا يعلمون إنها من السيئات والحسنات، فبتلك الحسنات يعفو عن السيئات، { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الشورى: 26]؛ يعني: ويعطيهم الثواب في الآخرة ويجيبهم ما سألوه { ويزيدهم من فضله } [الشورى: 26] بهذه الزيادة يشير إلى الرؤية، فإن الجنات ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق مثلها، وهو عمل العبد والرؤية مما يتعلق بالقديم فلا تقع إلا في مقابلة القديم، وهو الفضل الرباني كقوله تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26]؛ أي: للذين أحسنوا بالإيمان والعمل الصالح لهم الجنان ونعيمها، والزيادة هي الرؤية التي من فضل الله يؤتيها من يشاء، ولما ذكر أنه تعالى يقبل توبة التائبين ومن لم يتب يغفر ذلتهم، والمطيعون يدخلهم الجنة، فلعل يخطر ببال أحدهم أن هذه النار فلمن هي؟ قال تعالى: { والكافرون لهم عذاب شديد } [الشورى: 26] فلعل خطر ببالهم أن العصاة من المؤمنين لا عذاب لهم فقال الله: { والكافرون لهم عذاب شديد } [الشورى: 26] فدليل الخطاب: إن المؤمنين لهم عذاب ولكن ليس بشديد، ثم إن العبد لم يتب خوفا من النار ولا طمعا في الجنة، لكان في حقه أن يتوب ليقبل الحق سبحانه، ثم إن العاصي يكون أبدا منكسر القلب فإذا علم أن الله يقبل الطاعة من المطيعين يتمنى أن له طاعة يسيرة ليقبلها الله فيقول الحق: عبدي، إذ لم تكن لك طاعة تصلح للقبول فلك توبة إن أتيت بها تصلح لقبولنا.
[42.27-31]
وبقوله: { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } [الشورى: 27] يشير إلى تسلية الفقير كأنه يقول: إنما لم أبسط أيها الفقير، عليك الدنيا لما كان لي من العلوم إن وسعت عليك لطغوت وسعيت في الأرض بالفساد، ويشير أيضا إلى وعيد الحريص على الدنيا لئلا ينتبه عن نومة الغفلة ويتحقق له أن لو بسط الله له الرزق بحسب حرصه على الطلب؛ لكان سبب بغيه وطغيانه وفساد حاله فيكن فائزة حرصه على الدنيا، ثم قال: { ولكن } وهي كلمة استدراك، إن لم أوسع عليك الرزق لصلاح حالك لم أضع عنك الكل، { ولكن ينزل بقدر ما يشآء } [الشورى: 27]؛ لعلمه بصلاح حالك، { إنه بعباده خبير بصير } [الشورى: 27].
وبقوله: { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } [الشورى: 28] يشير إلى أن العبد إذا ذبل غصن وقته، وتكدر صفو ورده، وكسف شمس أنسه، وبعد بالحضرة وساحات القرب عهده، فربما ينظر الحق بنظر رحمته فينزل على سره أمطار الرحمة ويعود عوده طريا وينبت من مشاهد أنسه وردا جنيا، وأنشدوا:
أقبل فقد
أعيى الصدود
ولعل أي
امي تعود
ولعل عهدك باللو
ى يحيي العهود
والغصن ينشد تارة
وتراه مخضر تميد
{ وهو الولي } [الشورى: 28] لطالبيه، { الحميد } [الشورى: 28] في توليتهم، وبقوله: { ومن آياته خلق السموت والأرض وما بث فيهما من دآبة } [الشورى: 29] يشير إلى سماوات الأرواح وأرض الأجساد { وما بث فيهما من دآبة } النفوس والقلوب فلا مناسبة بين كل واحد منهم، فإن بين الأرواح والأجساد بونا بعيدا في المعنى؛ لأن الجسد من أسفل سافلين والروح من أعلى عليين، والنفس تميل إلى الشهوات الحيوانية الدنياوية، والقلب يميل إلى الشواهد الروحانية الأخروية الربانية، { وهو على جمعهم } [الشورى: 29] على طلب الدنيا وزينتها، وعلى طلب الآخرة ودرجاتها، وعلى طلب الحضرة وقرباتها { إذا يشآء قدير } [الشورى: 29]، { ومآ أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [الشورى: 30] يسلى به قلوب العباد وأهل المصائب؛ يعني: إذا أصابتكم مصيبة الذنوب والمعاصي موجبة للعقوبة الأخروية الأبدية تداركنا بإصابة المصيبة الدنيوية الفانية؛ ليكون جزاء لما يذر منكم من سوء الأدب، وتطهيرا لما تلوثتم به من المعاصي، ثم إذا كثرت الأسباب من البلايا على عبد وتوالت عليه ذلك فليكفر في أفعاله المذمومة، كم يحصل منه حتى يبلغ جزاء ما يفعل مع العفو الكثير بقوله: { ويعفوا عن كثير } [الشورى: 30] هذا المبلغ، فعند هذا يزداد حزنه وأسفه وخجله لعلمه بكثرة ذنوبه وعصيانه وغاية كرم الله، { ومآ أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي } [الشورى: 31] يمنعكم مني { ولا نصير } [الشورى: 31] ينصركم على أو على أنفسكم أو على غيركم.
[42.32-38]
ثم أخبر عن آياته البينات بقوله تعالى: { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } [الشورى: 32] يحثهم على الفكرة المنبهة لهم في السفن التي تجري في البحار، فيرسل الله تعالى الرياح مرة ويسكنها أخرى وما يريهم من السلامة والهلاك، والإشارة في هذا إلى مسلك الناس في خلال فتن الوقت من الأنواع المختلفة، ثم حفظ العبد في إيواء السلامة، وذلك يوجب خلوص الشكر الموجب له جزيل المزيد فيه إشارة أخرى، { ومن آياته الجوار } جواري سنن هممهم العالية في بحر الدنيا، جارية بريح العناية الأزلية إلى ساحل الحضرة الربوبية بغير سكون والتفات إلى ما في بحر الدنيا، { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره } [الشورى: 33]؛ أي: على ظهر البحر بفضله وكرمه، { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } [الشورى: 33] يشير إلى كل من صبره بالله وشكره بالله، فإنه تعالى هو الصبور الشكور، { أو يوبقهن } [الشورى: 34] بعدله وقسطه { بما كسبوا } [الشورى: 34] من موجبات الهلاك، { ويعف عن كثير } [الشورى: 34]؛ أي: وإنه يعفو عن كثير من الذنوب المهلكات، { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } [الشورى: 35] بالهوى والطبيعة من غير بينة { ما لهم من محيص } [الشورى: 35] خلاص من الله وعذابه، ثم قال: { فمآ أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } [الشورى: 36]؛ يعني: إن الراحات في الدنيا لا تصفو من المشائب ولا تخلو، وإن أنفق البعض منها من الأجانين فإنها سريعة الزوال وشبكة الارتحال، { وما عند الله } [الشورى: 36] من الثواب الموعود { خير وأبقى } [الشورى: 36] من هذا القليل الموجود؛ بل ما عند الله من الألطاف الخفية، والمقامات العلية، والمواهب السنية خير وأبقى مما في الدنيا والآخرة، { للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } [الشورى: 36] لا على الدنيا ولا على الآخرة، { والذين يجتنبون كبائر الإثم } [الشورى: 37] وهو حب الدنيا ومتابعة الهوى، فإنهما رأس كل خطيئة ومنشؤها، { والفواحش } [الشورى: 37] وهي الاشتغال بطلب الدنيا وصرفها في اتباع الهوى، { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } [الشورى: 37]؛ أي: يتجرعون كاسات الغضب النفسانية بأفواه القلوب الروحانية، ويسكنون سورة الصفة الشيطانية، { والذين استجابوا لربهم } [الشورى: 38] فيما دعاهم إليه بخطاب
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28]، { وأقاموا الصلاة } [الشورى: 38]؛ أي: أداموا بالحضور والمراقبة والسير، وبقوله: { وأمرهم شورى بينهم } [الشورى: 38] يشير إلى التمسك بذيل إرادة المشايخ في السلوك إلى الحضرة؛ ليتسلكوا بمشاورتهم وإرشادهم لا باسترسال النفس والهوى وتلقين الشيطان، كما قال الجنيد: " من لم يكن له أستاذ فأستاذه الشيطان " ، { ومما رزقناهم } [الشورى: 38] من الولاية والهداية { ينفقون } [الشورى: 38] على طالبي أرباب طلب الله بصدق الإرادة.
[42.39-44]
ثم أخبر عن انتصار ذوي الأبصار بقوله تعالى: { والذين إذآ أصابهم البغي } [الشورى: 39] يشير إلى أرباب القلوب الذين أصابهم الظلم من قبل أنفسهم، { هم ينتصرون } [الشورى: 39] من الظالم، وهو نفسهم بكبح عنانها عن الركض في ميدان المخالفة، { وجزآء سيئة } [الشورى: 40] صدرت من النفس من قبل الحرص والشهوة، أو الغضب، أو البخل، أو الجبن، أو الحسد، أو الكبر والغل { سيئة } [الشورى: 40] تصدر من القلب { مثلها } [الشورى: 40]؛ أي: مثل ما يصادف علاجها؛ أي: بصد تلك الأوصاف فإن العلاج بأضدادها، ولا يجاوز عن حد المعالجة في رياضة النفس وجهادها، فإن لنفسك عليك حقا، { فمن عفا وأصلح } [الشورى: 40]؛ أي: عفا عن المبالغة في رياضة النفس وجهادها بعد أن تصلح النفس بعلاج أضداد أوصافها، { فأجره على الله } [الشورى: 40] بأن يتصف بصفاته فإن من صفاته العفو، وهو عفو يحب العفو فيكن العبد العفو محبوبا لله تعالى، { إنه لا يحب الظالمين } [الشورى: 40] الذين يضعون شدة الرياضة على النفس موضع العفو، { ولمن انتصر } [الشورى: 41] من القلوب على النفوس { بعد ظلمه } [الشورى: 41]؛ أي: بعد أن ظلم النفس عليه، { فأولئك } [الشورى: 41]؛ يعني: النفوس { ما عليهم من سبيل } [الشورى: 41]؛ يعني: من القلوب على النفوس المرتاضة المطمئنة بذكر الله، { إنما السبيل } [الشورى: 42] للقلوب على النفوس، { الذين يظلمون الناس } [الشورى: 42]؛ أي: القلوب { ويبغون } [الشورى: 42] ويظلمون { في الأرض } [الشورى: 42] أرض القلوب { بغير الحق } [الشورى: 42] أي: أتوا بغير المأذون لهم من الأفعال الخبيثة والأوصاف الذميمة، { أولئك } [الشورى: 42]؛ أي: النفوس { لهم عذاب أليم } [الشورى: 42] هي الرياضات الشديدة الأليمة على خلاف هواها، { ولمن صبر } [الشورى: 43] على الرياضة { وغفر } [الشورى: 43]؛ أي: لمن غفر من القلوب؛ أي: عفا عن النفوس المرتاضة { إن ذلك } [الشورى: 43]؛ أي: ذلك الصبر والمغفرة { لمن عزم الأمور } [الشورى: 43]؛ يعني: الأمور المحمودة عند الله، { ومن يضلل الله } [الشورى: 44] من النفوس الأمارة بالسوء { فما له من ولي } [الشورى: 44] من القلوب والأرواح بأن يخرجه من الأمارية، { من بعده } [الشورى: 44]؛ أي: من بعد الله فله أن يخرجه من الصفة الأمارية كما قال:
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53]؛ أي: إلا ما يخرجها برحمته عن الصفة الأمارية ولهذا المعنى قال:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257]، { وترى الظالمين } [الشورى: 44] من النفوس التي لم تقبل الصلاح بالعلاج في الدنيا، { لما رأوا العذاب } [الشورى: 44] يوم القيامة { يقولون هل إلى مرد من سبيل } [الشورى: 44]؛ لنقبل الصلاح بعلاج الرياضات الشرعية والمجاهدات الطريفة.
[42.45-47]
{ وتراهم يعرضون عليها } [الشورى: 45] على النار { خاشعين من الذل } [الشورى: 45] إذ لم يخشعوا في الدنيا من عزة العناية لا ينفعهم ندامة ولا يسمع منهم دعوة، { ينظرون من طرف خفي } [الشورى: 45] من خجالة المؤمنين إذ يعيرونهم بما ذكروهم فلم يسمعوا، وذكروا أنه لا ناصر لهم لينصرهم ولا راحم يرحمهم، { وقال الذين آمنوا } [الشورى: 45]،
وجاهدوا في الله حق جهاده
[الحج: 78] الذين ربحوا على ربهم، { إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } [الشورى: 45] بإبطال استعدادهم، إذ صرفوه في طلب الدنيا وزخارفها والالتذاذ بها { وأهليهم } [الشورى: 45]؛ أي: وخسروا أهليهم { يوم القيامة } [الشورى: 45] إذا لم يقوا أنفسهم وأهليهم نارا بقبول الإيمان وأداء الشرائع
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصحبته وبنيه
[عبس: 34-36]، { ألا إن الظالمين } [الشورى: 45] الذين كانوا في جهنم شهوات النفس جنيا في الدنيا { في عذاب مقيم } [الشورى: 45] في الآخرة، { وما كان لهم من أوليآء } [الشورى: 46] من المؤمنين { ينصرونهم } [الشورى: 46] بالشفاعة، ولا الذين اتخذوا { من دون الله } [الشورى: 46] من دون أن ينصرونهم بالنجاة من أولياء الله، { ومن يضلل الله } [الشورى: 46] بأن يشغلهم بغيره { فما له من سبيل } [الشورى: 46] يصل به إلى الله.
ثم أخبر عن الاستجابة بالعبودية للربوبية بقوله تعالى: { استجيبوا لربكم } [الشورى: 47] للعوام: إلى الوفاء بعهده والقيام بحقه والرجوع من مخالفته إلى موافقته، وللخواص: إلى الاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها؛ إجابة لقوله تعالى:
والله يدعوا إلى دار السلام
[يونس: 25].
ولأخص الخواص: من أهل المحبة إلى صدق الطلب بالإعراض عن الدارين متوجها بحضرة الجلال، ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال مجيبا لقوله:
وداعيا إلى الله بإذنه
[الأحزاب: 46]، والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح وعن قريب سيغلق الباب على القلوب بغتة ويؤخذ قلبه وذلك قوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير } [الشورى: 47].
[42.48-51]
{ فإن أعرضوا } [الشورى: 48] عن الله بالإقبال على الدارين ولم يجيبوا { فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } [الشورى: 48] يحفظهم عن الالتفات إلى الدارين لأن الحفظ من شأني لا من شأنك فإني حفيظ، { إن عليك إلا البلاغ } [الشورى: 48] فليس عليك إلا بتبليغ الرسالة، ثم نحن نعلم بما نعاملهم بالتوفيق أو بالخذلان.
وبقوله: { وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها } [الشورى: 48] يشير إلى ما يفتح الله تعالى به على القلوب من رحمته الخاصة؛ يعني: المواهب الإلهية، وفتوحات الغيب، وأنواع الكرامات التي تربى بها أطفال الطريقة، ثم من ضيق سخطات البشرية استمالت الطبيعة إلى البطر بها فيجيبه، والعجب أنها تداخله وتغلق أبواب الفتوحات بعد فتحها وذلك قوله: { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } [الشورى: 48]؛ يعني: إذ لم يشكر على ما فتح الله عليه من المواهب ليزيده؛ بل نظر إلى نفسه بالعجب، وأفشى سره على الخلق وإراءته شمعة من خصوصيته للإنسانية، إذ وكله الله إلى نفسه، ثم قال: { لله ملك السموت } [الشورى: 49]؛ أي: سماوات القلوب { والأرض } [الشورى: 49] أرض النفوس { يخلق ما يشآء } [الشورى: 49] فيهما، وبقوله: { يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور } [الشورى: 49] يشير إلى أرباب الولاية من المشايخ المسلكين، يهب لبعضهم من المريدين الصادقين الأتقياء الصلحاء وهم بمثابة الإناث لا تصرف لهم في غيرهم بالتخريج والتسليك، ويهب لبعضهم من المريدين والصديقين المحبين الواصلين، الكاملين المسلكين المخرجين وهم بمثابة الذكور لاستعداد تصرفهم في الطالبين، { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } [الشورى: 50]؛ يعني: يهب لبعضهم من الجنسين المذكورين متصرفين في الغير وغير المتصرف، { ويجعل من يشآء } [الشورى: 50] لبعضهم من المشايخ { عقيما } [الشورى : 50] لا يقوم منهم المريدون، { إنه عليم } [الشورى: 50] لمن يجعله متصرفا وغير متصرف في المريد، { قدير } [الشورى: 50] على من يشاء أن يجعله متصرفا أو غير متصرف.
ثم أخبر عن معاملة أهل المكالمة بقوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } [الشورى: 51] يشير إلى أن البشر متى كان محجوبا بصفات البشرية، موصوفا بأوصاف الخلقية الظلمانية الإنسانية لا يكون مستعدا أن يكلمه الله إلا بالإلهام والوحي في النوم أو اليقظة، { أو من ورآء حجاب } [الشورى: 51] بالكلام الصريح { أو يرسل رسولا } [الشورى: 51] من الملائكة، { فيوحي بإذنه ما يشآء إنه علي } [الشورى: 51] إنه علي بعلو القدم لا يجانسه محدث، { حكيم } [الشورى: 51] فيما يساعد البشر بإفناء أنانيته بهويته، فإذا فنيت البشرية وارتفعت الحجب وتبدلت كينونيته بكينونية الحق حتى به يسمع وبه يبصر وبه ينطق، فيكلمه الحق به شفاها، وبه يسمع العبد كلام كفاحا كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم في سر
فأوحى إلى عبده مآ أوحى
[النجم: 10].
[42.52-53]
وقال: { وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا } [الشورى: 52] وهو نور ينعكس في مرآة كينونيتك بتجلي كينونيتنا لمرآة كينونيتك؛ ليكون بنا حبيبا فتحب جمالنا بمحبتنا، ونحب جمالك بمحبتك التي هي عكس محبتنا في مرآتك فإذا أمعنت النظر وجدت الناظر والمنظور، والمحب والمحبوب واحدا كما قيل:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
وقوله: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [الشورى: 52]؛ أي: حقيقتهما إذ كنت في ظلمة كينونيتك، فلما أخرجناك منها بتجلي كينونتنا جعلناك نورا دربت به نور الكتاب ونور الإيمان، فإن حقيقتهما نور واحد كما قال: { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشآء من عبادنا } [الشورى: 52] إلى حضرة جلالنا بالوصول والوصال، { وإنك لتهدي } [الشورى: 52] أيضا { إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52]، { صراط الله الذي له ما في السموت وما في الأرض } [الشورى: 53] ملكا وملكا؛ لأنك نور تهدي إلى حضرة جلالنا، ولمناسبة نوره مع نور الإيمان والقرآن قيل:
" كان خلقه القرآن "
، وقال تعالى فيه:
وإنك لعلى خلق عظيم
[القلم: 4]، { ألا إلى الله تصير الأمور } [الشورى : 53]؛ لأنه تعالى مبدأ كل شيء ومرجع كل شيء ومصيره.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-8]
{ حم * والكتاب المبين } [الزخرف: 1-2] يشير إلى القسم بحاء حياته وميم ملكه معناه وحياتي وملكي، وهذا القرآن المبين الذي أبان طريق وصول السالكين إلى الله والمعتصمين بالله، إن الذي أخرت من رحمتي لعبادي المؤمنين حق وصدق، { إنا جعلناه قرآنا عربيا } [الزخرف: 3] بعد أن كان القرآن كلامي وصفتي قائمة بذاتي، عرية عن كسوة العربية، منزهة عنها وعن توابعها، وإنما كسوناها العربية ليتيسر عليكم فهم معناه، وذلك قوله: { لعلكم تعقلون } [الزخرف: 3]؛ أي: تفهمون معناه، { وإنه }؛ يعني: القرآن { في أم الكتاب } وهو علم الحق تعالى فإنه أصل كل كتاب، ولهذا المعنى قال في أم الكتاب { لدينا } [الزخرف: 4] نظيره قوله:
يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب
[الرعد: 39]، وقوله: { لعلي } [الزخرف: 4] قدره { حكيم } [الزخرف: 4] محكم الوصف لا تبديل له ولا تحويل، { أفنضرب عنكم الذكر صفحا } [الزخرف: 5]؛ أي: أفنترككم ولا نذكركم ونقطع عنكم خطابنا وتعريفنا؛ أي: لا تفعل ذلك، { أن كنتم قوما مسرفين } [الزخرف: 5] بأن أسرفتم في خلافكم؛ أي: لا ندفع عنكم التكليف بأن خالفتم، ولا نهجركم بقطع الكلام عنكم وإن أسرفتم، وفي هذا إشارة لطيفة وهي ألا يقطع الخطاب اليوم عمن تمادى في عصيانه، وأسرف أكثر شأنه فأحرى من لم يقصر في إيمانه وإن تلطخ بعصيانه، ولم يدخل خلل في عرفانه لا يمنع عنه لطائف غفرانه وعواطف إحسانه، وبقوله: { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } [الزخرف: 6]، { وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون } [الزخرف: 7] يشير إلى كمال ظلومية نفس الإنسان وجهوليتها، وكمال حكم الله وكرمه وفضل ربوبيته بأنهم وإن بالغوا في إظهار أوصافهم الذميمة وأخلاقهم اللئيمة، بالاستهزاء مع الأنبياء والمرسلين والاستخفاف بهم، إلى أن كذبوهم وسعوا في قتلهم من أهل الأولين والآخرين، وكذلك يفعلون أهل كل زمان مع ورثة الأنبياء من العلماء المتقين، والمشايخ السالكين الناصحين لهم، الداعين إلى الله والهادين لهم، وإن الله تعالى لم يقطع عنهم مراحم فضله وكرمه، وكان يبعث إليهم الأنبياء، وينزل عليهم الكتب، ويدعوهم إلى جناته، وينعم عليهم بعفوه وغفرانه، ومن غاية أفضاله وإحسانه تأديبا وترهيبا لعباده أهلك بعض المتمردين المتمادين في الباطل؛ ليعتبر المتأخرون من المتقدمين وذلك قوله: { فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين } [الزخرف: 8].
[43.9-16]
ثم أخبر عن فضله مع الكفار بتوفيقهم للإقرار بقوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } [الزخرف: 9] يشير إلى أن جبلة الإنسان معرفة الله مركوزة وذلك؛ لأن الله تعالى أخذ ذرات ذريات بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم بخطاب:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، فاسمعهم خطابه وعرفهم بربوبيته ووفقهم لإجابته حتى قالوا: بلى، فصار ذلك الإقرار بذر ثمرة إقرارهم بخالقية الله تعالى في هذا العالم الذي هو العزيز، فلعزته لا يهتدي إلى سرادقات عزته إلا من أعزه بجذبات عناية العليم الذي يعلم
حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124]،
وهو أعلم بالمهتدين
[الأنعام: 117] بكمال حكمته، وبقوله: { الذي جعل لكم الأرض مهدا } [الزخرف: 10] يشير إلى أرض النفس إنه جعلها قرارا للروح { وجعل لكم } [الزخرف: 10]؛ أي: للأرواح { فيها سبلا لعلكم تهتدون } [الزخرف: 10] إلى حضرة الربوبية إذا جاءتهم في الله كما قال تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69]، { والذي نزل من السمآء } [الزخرف: 11] سماء الروح { مآء } [الزخرف: 11] ماء الهداية { بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا } [الزخرف: 11]؛ أي: فأحيينا به بلدة القلب الميت { كذلك تخرجون } [الزخرف: 11] من ظلمات أرض الوجود بإحياء الأرواح إلى نور الله؛ ليحيا به كما قال:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمت ليس بخارج منها
[الأنعام: 122]، { والذي خلق الأزواج كلها } [الزخرف: 12]؛ أي: أصناف الخلق وأنواع المخلوقات كما قال:
مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون
[يس: 36]، { وجعل لكم من الفلك والأنعام } [الزخرف: 12]؛ أي: فلك القلوب وأنعام النفوس { ما تركبون }.
{ لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم } [الزخرف: 13] بتسخيرها لركوبكم { إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا } [الزخرف: 13] ولو لم ينعم علينا بتسخيرها { وما كنا له مقرنين } [الزخرف: 13] مطيعين لتسخيرها، { وإنآ إلى ربنا لمنقلبون } [الزخرف: 14] كما جئت أول مرة كما قال:
كما بدأنآ أول خلق نعيده
[الأنبياء: 104] فكان بدء خلقنا بإشارة أمركن أخرج أرواحنا من كتم العدم إلى عالم الملكوت، ثم بنفخة الخاصة رددنا أسفل سافلين القالب وهو عالم الملك، ثم بجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] أعادنا على مركب النفوس من عالم الملك إلى ساحل بحر الملكوت، ثم سخر لنا فلك القلوب وسيرنا في بحر الملكوت إلى عالم الربوبية.
وبقوله: { وجعلوا له من عباده جزءا } [الزخرف: 15] يشير إلى خصوصية الإنسان بكفران النعمة لله تعالى؛ لأنه عز وجل بعد أن أنعم على الإنسان باستعداد الرجوع إلى الحضرة وهيأ أسبابه للرجوع، جعلوا الملائكة وهم عباده جزء منه بأنهم قالوا هم بنات الله، والبنت تكون جزء من والدها ولهذا قال: { إن الإنسان لكفور مبين } [الزخرف: 15]، { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } [الزخرف: 16].
[43.17-25]
{ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم } [الزخرف: 17] إلى قوله: { إنا بمآ أرسلتم به كافرون } [الزخرف: 24] بذلك كله يشير إلى كفورية الإنسان وسوء أدبه مع الله وأوصاف ظلوميته وجهوليته، ومن جهالته تقليد آياته في الضلالة عن عمى قلبه واتباع هوى نفسه، فإن وكل إلى نفسه وطبيعتها لا يخرج من ظلمات نفسه أبدا ويكون
كالأنعام بل هم أضل
[الفرقان: 44] إلى أن أدركته العناية الأزلية فتخرجه من ظلمات الأوصاف الإنسانية بجذبات الولاية إلى نور الهداية وإلا من لم يجعل الله له نورا فماله من نور، وبقوله تعالى: { فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } [الزخرف: 25] يشير إلى أن من خذله الله ووكله إلى خصوصية نفسه المتمردة الأمارة بالسوء فإنه ينتقم منه بالهلاك والعذاب، ويجعله مرآة صفات قهره؛ ليعلم أن الحكمة البالغة مقتضية بأن يجعل المكذبين من أهل الكفران مرآة صفات قهره، كما اقتضت أن يجعل للمصدقين من أهل الإيمان مرآة صفات لطفه.
[43.26-32]
ثم أخبر عن طريق كل فريق منهم بقوله تعلى: { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه } [الزخرف: 26] يشير إلى إبراهيم القلب إذ قال لأبيه: وهو الروح، وقومه: وهم النفس وصفاتها وهواها { إنني برآء مما تعبدون } [الزخرف : 26] من الروحانيات والمعقولات والنفسانيات وشهوات الدنيا وزخارفها، { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [الزخرف: 27] به يشير إلى أن ليس لشيء من المخلوقات الهداية إلى الله إلا بالله كما قال صلى الله عليه وسلم:
" والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بعثني الله مبلغا وليس لي من الهداية شيء "
، فبهذا المعنى يتحقق لك أن كل من ادعى معرفة الله والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء، وإرشاد الله من الفلاسفة والبراهمة والرهابنة، فدعواه باطلة ومتمناه كاسدة.
وفيه إشارة أخرى وهي: إن الله تعالى إذا أرشد عبدا من عباده هداه إلى صراط مستقيم معرفته، وإن لم يبلغه دعوة نبي، أو إرشاد ولي، أو نصح ناصح، ولا يتقيد بتقليد آياته وأهل بلده من أهل الضلالة والأهواء والبدع، ولا يؤثر فيهم شبههم ودلائلهم المعقولة المشوبة بالوهم والخيال ولا يخاف في الله لومة لائم، كما كان حال إبراهيم عليه السلام فإنه لم يبلغه دعوة نبي، ولا إرشاد ولي، ولا نصح ناصح، فلما آتاه الله رشده قال: { لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [الزخرف: 26-27]، وفي زماننا هذا أهل الأهواء والبدع ممن لم يرشدهم الله، فإنهم متقيدون بتقليد آبائهم المبتدعة بحيث لا يؤثر فيهم آيات القرآن والأحاديث الصحيحة، والبراهين القاطعة مع دعوى الإسلام والإيمان، ويقولون كما قال الأولون من الكفار:
إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون
[الزخرف: 23] ولعمري أن هذه المصيبة قد عمت بحيث لا يمكن تداركها إلا ما شاء الله، والمعصوم من عصمه الله من هذه الفتنة والبلاء وهم الذين قال تعالى فيهم: { وجعلها كلمة باقية } [الزخرف: 28] وهي لا إله إلا الله { في عقبه لعلهم يرجعون } [الزخرف: 28] إلى الله على قدمي اعتقاد أهل السنة والجماعة والأعمال الصالحة على قانون المتابعة بنور هذه الكلمة الباقية، ثم قال في حق أهل الأهواء والبدع والضلالة: { بل متعت هؤلاء وآبآءهم } [الزخرف: 29] من الدنيا وشهواتها فأسكرهم حب الدنيا وأصمهم وأعمى أبصارهم { حتى جآءهم الحق } [الزخرف: 29] من دلائل القرآن، { ورسول مبين } [الزخرف: 29] قد بين الحق والباطل بالأحاديث الصحيحة، { ولما جآءهم الحق } [الزخرف: 30] من أرباب الدين وأهل الحق { قالوا هذا سحر } [الزخرف: 30]؛ أي: ينظرون إلى الحق وأهله كمن ينظر إلى السحر وساحره، ويقولون بلسان الحال: { وإنا به كافرون } [الزخرف: 30].
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن } [الزخرف: 31]؛ أي: حكم القرآن وأسراره وحقائقه التي ينطق بها فقير لا يؤثر به { على رجل من القريتين عظيم } [الزخرف: 31]؛ أي: من علماء البلاد وأفاضلهم، { أهم يقسمون رحمت ربك } [الزخرف: 32]؛ أي: الولاية، { نحن قسمنا بينهم } [الزخرف: 32] ولايتهم، { معيشتهم في الحياة الدنيا } [الزخرف: 32] وذلك في قسمة المحبة الأزلية من المحبين بإشارة يحبهم ويحبونه، { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } [الزخرف: 32] كاتخاذ المشايخ المحققين المريدين الصادقين سخريا بالتربية، { ورحمت ربك } [الزخرف: 32] من الولاية، { خير } [الزخرف: 32] لأهلها { مما يجمعون } [الزخرف: 32] أهل الدنيا.
[43.33-37]
وبقوله: { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } [الزخرف: 33] يشير إلى الجبلة الإنسانية التي طبعت على حب الدنيا وزخارفها واستيفاء شهواتها؛ لأن الإنسان خلق منها، وله نفس حيوانية مائلة إلى مراتع الدنيا وزخارفها، فإن الكفر والجهل والظلم مركوز في طبيعتها؛ لأنها منشأ الأوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية، فلو خليت إلى طبعها ووافق لها مقتضاها ومنتهى هواها من الدنيا وزخارفها لمالت إليها، واستغرقت في بحر غفلاتها، ولم تتضرع إلى طاعة ربها، وعبودية خالقها، وطلب معرفته، وإن الله تعالى بكمال حكمته لم يخلق الإنسان على طبيعة واحدة في الطاعة والعبودية؛ لأنه تعالى خلق الملائكة عل هذه الطبيعة لتكون مظهرا لصفات لطفه، كذلك لم يخلقهم على طبيعة واحدة في الكفر والتمرد؛ لأنه تعالى خلق الشياطين على هذه الطبيعة؛ ليكونوا مظهرا لصفات قهره، وإنما خلق الإنسان أطوارا مختلفة، ليكون بعضهم مظهرا لصفات لطفه كالملائكة، وبعضهم مظهرا لصفات قهره كالشياطين، وبعضهم مظهرا لصفات لطفه وقهره جميعا في سر
وعلم ءادم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] وخصوصيتهم بهذه الكرامة من بين سائر المخلوقات وهم خلفاء الله في أرضه وهم زبدة العالم وخلاصته، وهم الذين خلقوا لإظهار الكنز المخفي ومعرفته، والعالم بما فيه تبع لوجودهم، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض و
هم خير البرية
[البينة: 7]، وهم الذين يحبهم ويحبونه، ولولا أن الله تعالى أخرجهم من ظلمات طبيعتهم، وهداهم إلى نور ذاته وصفاته بجذبات عنايته لا يجذعوا بزخارف الدنيا إذ جعل الله لهم من الزخرف بيوتا { ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون } [الزخرف: 34]، { وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [الزخرف: 35] لا دوام له ولا حاصل الدائمة والقربة اللازمة عند ربك؛ أي:
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55] للمتقين الذين اتقوا ربهم عما سواه.
ثم أخبر عن تارك الذكر والفكر بقوله تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن } [الزخرف: 36] يشير إلى من أعرض عن الله بالإقبال على الدنيا { نقيض له شيطانا } [الزخرف: 36] وإن أصعب الشياطين نفسك الأمارة بالسوء، { فهو له قرين } [الزخرف: 36] ملازم لا تفارقه في الدنيا والآخرة، فهذا جزاء من ترك المجالسة مع الله بالإعراض عن الذكر فإنه يقول:
" أنا جليس من ذكرني "
فمن لم يعرف قدر خلوته مع الله، وحاد عن ذكره، وأخلد إلى الخواطر النفسانية الشيطانية سلط الله عليه من يشغله عن ربه وصرفته سطوات الأنوار الإلهية عنه، ومن لم يعرف قدر فراغ قلبه، واتبع شهوته وفتح بابها على نفسه بقى في يد هواه أسيرا غالبا عليه أوصاف شيطنة النفس وهذا تحقيق قوله: { وإنهم ليصدونهم عن السبيل } [الزخرف: 37]؛ أي: عن سبيل الله بالشبهات التي توقعهم في ضلالات البدع والأهواء، { ويحسبون أنهم مهتدون } [الزخرف: 37] الذي سولت له نفسه أمرا فيتوهم أنه على صواب، ثم يحمل قرينة السوء على موافقته في باطله ويدعي أنه حق فقد أضر بنفسه وبغيره.
[43.38-45]
{ حتى إذا جآءنا } [الزخرف: 38] حين انكشف غطاء الحجب عن بصره بهبوب نفحات ألطافه بين خيانة قرينه وندم على صحبته، { قال يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } [الزخرف: 38] وهذه الندامة لا تنفع لمن فاته الوقت وأدركه المقت بشؤم قرينه السوء، كما قال تعالى: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } [الزخرف: 39] التابع والمتبوع من أهل الأهواء والبدع.
وبقوله: { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } [الزخرف: 40] يشير إلى أن من شددنا بصيرته ولبسنا عليه رشده، ومن صببنا في مسامع قلبه رصاص الشقاء والحرمان لا يمكنك يا محمد مع كمال نبوتك هدايته، وإسماعه في عين عنايتنا السابقة ورعايتنا اللاحقة، وبقوله: { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } [الزخرف: 41]، { أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [الزخرف: 42] يشير إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إنه تعالى ينتقم من أعدائه ومنكريه إما في حال حياته وإما بعد وفاته، وإنه لقادر على الانتقام منهم بواسطة كما كان يوم بدر، وبغير واسطة كما كان في زمان أبي بكر رضي الله عنه وغيره، فبذلك أشبه على حد الخوف والرجاء ووفقه على وصف التجريد لاستبداده على الغيب، وكذلك المقصود في أمر كل أحد أن يكون من جملة نظارة التقدير ويفعل الله ما يريد، ثم قال: { فاستمسك بالذي أوحي إليك } [الزخرف: 43]؛ أي: فاعتصم بالقرآن فإنه حبل الله المتين بأن تتخلق بخلقه، وتدور معه حيث يدور، وتقف حيث ما أمرت، وثق { إنك على صراط مستقيم } [الزخرف: 43] تصل به إلى حضرة جلالنا، { وإنه } [الزخرف: 44]؛ أي: القرآن { لذكر لك ولقومك } [الزخرف: 44] به شرف الوصول لك وبمتابعتك، { وسوف تسألون } [الزخرف: 44] عن هذا الشرف والكرامة هل أديتم حقه وقمتم بأداء شكره سعيا في طلب الوصال والوصول، أم ضيعتم حقه وجعلتموه وسيلة الاستنزال إلى الدرك الأسفل، بصرفه في تحصيل المنافع الدنياوية والمطالب النفسانية؟ وبقوله: { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } [الزخرف: 45] يشير إلى أن بعثة جميع الرسل كانت على
ألا تعبدوا
[يوسف: 40] مع الله إلها آخر من النفس والهوى والشيطان، أو شيء من الدنيا والآخرة كقوله:
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
[البينة: 5]؛ أي: ليقصدوه فإنه المقصود، ويطلبوه فإنه المطلوب والمحبوب والمعبود.
[43.46-50]
ثم أخبر عن حالة رسالة موسى عليه السلام بقوله: { ولقد أرسلنا موسى بآيتنآ إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العلمين } [الزخرف: 46] يشير إلى ظلومية الإنسان وجهولية كفران نعمة ربه، إذ يرسل إليهم رسولا كريما بدلائله وحجته الظاهرة الباهرة، وهي معجزاته إلى فرعون، وهو فرعون النفس { وملإيه }؛ أي: صفاتها، { فلما جآءهم بآياتنآ } [الزخرف: 47]؛ ليسعدوا وينتبهوا وينتفعوا بها { إذا هم منها يضحكون } [الزخرف: 47] فقوبل بالهزأ والضحك والتكذيب، { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } [الزخرف: 48] والله تعالى لم يتبع تلك الآيات والدلالات بشيء إلا كان أوضح مما قبله، ولم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله من ظلومية طبع الإنسان وكفوريته، وبقوله: { وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون } [الزخرف: 48] يشير إلى أن من جهولية نفس الإنسان ألا يرجع إلى الله على أقدام العبودية إلا إن تجرد بسلاسل البأساء والضراء إلى الحضرة، كما قال تعالى:
وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض
[فصلت: 51]، ولهذا لما عظم الأمر وضاق نطاق بشريتهم { وقالوا يأيه الساحر } [الزخرف: 49] وما قالوا مع هذا الاضطرار بها يا أيها الرسول، { ادع لنا ربك } [الزخرف: 49]؛ لأنهم ما رجعوا إلى الله بصدق النية وخلوص العقيدة ليروه بنور الإيمان رسولا ويرون الله ربهم، وإنما رجعوا بالاضطرار لخلاص أنفسهم لا لإخلاص قلوبهم قالوا: { ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } [الزخرف: 49]؛ أي: لنؤمنن بك وبربك، فدعا موسى عليه السلام وأجابه ربه فكشف عنهم فعادوا إلى كفرهم ونقضوا عهدهم وذلك قوله تعالى: { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } [الزخرف: 50].
[43.51-56]
وبقوله: { ونادى فرعون في قومه قال يقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون } [الزخرف: 51] يشير إلى أن من تعزز بشيء من دون الله فحتفه وهلاكه في ذلك الشيء، فلما تعزز فرعون بملك مصر وجري النيل بأمره فكان فيه هلاكه، وكذلك من استصغر أحدا سلطه الله عليه، كما أن فرعون استصغر موسى عليه السلام وحديثه وعابه بالفقر واللكنة، فقال: { أم أنآ خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } [الزخرف: 52]، { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين } [الزخرف: 53] فسلام الله عليه وكان هلاكه في يديه.
وفيه إشارة أخرى وهي: إن قوله: { أم أنآ خير } هو من خصوصية صفة إبليس فكانت هذه الصفة توجد في فرعون وكان في صفة فرعون قوله:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24] ولم توجد هذه الصفة في إبليس؛ ليعلم أن الله أكرم الإنسان باستعداد يختص به، وهو قوله:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4] فإذا افسد استعداده واستنزله دركة لا يبلغه فيها إبليس وغيره وهي أسفل سافلين فيكون شر البرية، ولو استكمل استعداده ينال رتبة في القربة لا يسعه فيها ملك مقرب فيكون خير البرية. وبقوله: { فاستخف قومه فأطاعوه } [الزخرف: 54] يشير إلى أن كل من استولى على قوم فاستخفهم فأطاعوه رهبة منه وإن آمنوا من سطوته فخالفوه أمنا منه، فإذا استولى سلطان القلب على قومه وهم النفس وصفاتها وهواها، فاستخفهم بالرياضة والمجاهدة على وفق الشريعة وقانون الطريقة أطاعوه رهبة منه، بأن يزيد في جهادهم ورياضتهم ومخالفة طباعهم، وإن استولت على قومها وهم القلب والروح وصفاتهما فاستخفهم بمخالفات الشريعة، وموافقات الهوى والطبيعة فأطاعوها رهبة إلى أن يتخلقوا بأخلاقها فأطاعوها رغبة، وبقوله: { فلمآ آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } [الزخرف: 55] يشير إلى أن إغضاب أوليائه إغضابه، وإنه ينتقم لأوليائه من أعدائه كما أخبر في حديث رباني:
" من عاد لي وليا فقد بارزني بالحرب، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الجرو لجروه "
، وهذا أصل في باب الجمع أضاف أسلافهم أولياءه إلى نفسه، وفي الخبر أنه يقول:
" مرضت فلم تعدني "
، وقال في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80] فجعلناهم سلفا متقدمين، ومثلا يتعظ بهم من خلفهم من المتأخرين.
[43.57-62]
ثم أخبر عن مشكلهم في ضرب مثلهم بقوله تعالى: { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } [الزخرف: 57] يشير إلى صدود نفس الإنسان وإعراضه عن الحق وجداله في الباطل، كما أن كفار مكة بهذا الاختصاص ضربوا للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا بعيسى ابن مريم أنه كان يزعمك رسول الله، وقد قلت:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء: 98] وهو عزير والملائكة قد عبدوا من دون الله فنحن نرضى بأن نكون نحن وألهتنا معهم في النار، وليس لهم في الآية موضع الحجة؛ لأنه تعالى قال:
إنكم وما تعبدون
[الأنبياء: 98] ولم يقل إنكم ومن تعبدون، { وقالوا ءأ لهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا } [الزخرف: 58] وذلك إنهم قالوا: إن قال ألهتكم خير فقد أقر بأنها معبودة، وإن قال: عيسى خير من ألهتكم فقد أقر بأن عيسى يصلح لأن يعبد، وإن قال: ليس واحد منهم خيرا فد نفي عيسى خير من ألهتكم فقد أقر بأن عيسى يصلح لأن يعبد، وإن قال: فراموا بهذا السؤال أن يجادلوه ولم يسألوه للاستفادة، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم عنه أن عيسى خير من آلهتهم ولكن ليس يستحق أن يعبد، وليس ما هو خير في الأصنام استحق أن يكون معبودا من دون الله، فبين الله تعالى أن جدالهم ليس لفائدة إنما هو في خصوصية نفس الإنسان فقال: { بل هم قوم خصمون } [الزخرف: 58]؛ أي: خلقوا على المخاصمة والمخالفة والمجادلة كما قال تعالى:
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
[الكهف: 54]. وبقوله: { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } [الزخرف: 59] يشير إلى أن كل عبد ينعم عليه إما بجعله نبيا أو بجعله وليا، { وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [الزخرف: 59]؛ أي: عبرة يعتبرون به بأن يسارعوا في عبوديتنا طمعا في أنعامنا عليهم، { ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة } [الزخرف: 60]؛ أي: إن أطعتمونا ننعم عليكم بأن نجعلكم متخلقين بأخلاق الملائكة، { في الأرض يخلفون } [الزخرف: 60]؛ أي: ليكونوا خلفائي في الأرض بهذه الأخلاق لتستعدوا بها، أن تتخلقوا بأخلاقي فإنها حقيقة الخلافة، { وإنه لعلم للساعة } [الزخرف: 61] في نزول عيسى عليه السلام { فلا تمترن بها } [الزخرف: 61]؛ أي: فلا تشكوا بالساعة وقيامها { واتبعون } [الزخرف: 61] فإن في اتباعي قيام الساعة الحقيقة، { هذا صراط مستقيم } [الزخرف: 61]؛ أي: من اتبعني في الحقيقة فقد قامت قيامته، وقد عبر عن الصراط الحقيقي، { ولا يصدنكم الشيطان } [الزخرف: 62] متابعتي { إنه لكم عدو مبين } [الزخرف: 62] ولما كانت العداوة في الضد عن صراط المتابعة فكان أعدى الأعداء النفس؛ لأن تصرفها في الصد عن المتابعة أقوى من الشيطان.
[43.63-69]
وبقوله: { ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة } [الزخرف: 63] يشير إلى أن الأنبياء عليهم السلام كما يجيئون بالكتاب من عند الله يجيئون بالحكمة مما آتاهم الله كما قال تعالى:
ويعلمكم الكتاب والحكمة
[البقرة: 151]، وقال:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة: 269]؛ ولهذا قال: { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } [الزخرف: 63]؛ لأن البيان عما تختلفون هو الحكمة، { فاتقوا الله وأطيعون } [الزخرف: 63] فإن طاعتي الحق كما قال:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80]، { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه } [الزخرف: 64]؛ أي: لا تعبدوني فإن بالعبودية شريك معكم، وإنه متفرد في ربوبيته إيانا، { هذا صراط مستقيم } [الزخرف: 64] أن نعبده جميعا { فاختلف الأحزاب من بينهم } [الزخرف: 65]؛ يعني: قومه تحزبوا عليه حزب آمنوا بأنه عبد الله ورسوله، وحزب آمنوا بأنه
ثالث ثلاثة
[المائدة: 73] فعبدوه بالإلهية، وحزب اتخذوه ولدا لله وابنا له
تعالى الله عما
[النمل: 63] يقول الظالمون، وحزب كفروا به وجحدوا نبوته، وظلموا عليه وأرادوا قتله، فقال تعالى فيهم: { فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } [الزخرف: 65]؛ أي: أليم عذابه، { هل ينظرون } [الزخرف: 66]؛ أي: الذين تحزبوا عليه، { إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون } [الزخرف: 66] بإتيانها، فيجازي كل حزب بحسب أختلافهم فيه.
ثم أخبر عن وصف الأخلاء والأصدقاء على المعصية في الدنيا بقوله تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [الزخرف: 67] يشير إلى أن كل خلة وصداقة تكون في الدنيا مبنية على الهوى، والطبيعة الإنسانية تكون في الآخرة عداوة يتبرأ بعضهم من بعض وبعض، والأخلاء في الله خلتهم باقية إلى الأبد وينتفع بعضهم عن بعض، ويشفع بعضهم في بعض، ويتكلم بعضهم في شأن بعض، وهم المتقون الذين استثناهم الله تعالى، وشرائط الخلة في الله أن يكونوا متحابين في الله، خالصة لوجه الله من غير شوب بعلة دنيوية هوائية متعاونين في طلب الله ولا يجري بينهم مداهنة، فبقدر ما يرى بعضهم في بعض صدق الطلب والجد في الاجتهاد ليساعده ويرافقه ويعاونه، فإذا علم منه شيئا لا يرضاه الله لا يرضى من صاحبه ولا يدار به، فقد قيل: المداراة في الطريقة كفر؛ بل ينصحه بالرفق والموعظة الحسنة، فإذا عاد إلى ما كان عليه وترك ما [لا يرضي ربه] يعود إلى صدق مودته وحسن صحبته كما قال تعالى:
وإن عدتم عدنا
[الإسراء: 8]، وبقوله: { يعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } [الزخرف: 68] يشير إلى أن من أعتقه الله من رق المخلوقات، واختصه بشرف عبوديته في الدنيا لا خوف عليه يوم القيامة من شيء يحجبه عن الله، ولا يحزن على ما فاته من نعيم الدنيا والآخرة مع استغراقه في لجي بحر المعارف والعواطف، ثم وصفهم وشرح سيرتهم فقال: { الذين آمنوا بآياتنا } [الزخرف: 69]؛ أي: بأنوار شواهد تجلي آثار صفاتنا آمنوا إيمانا عيانيا { وكانوا مسلمين } [الزخرف: 69] في البداية لأوامرنا ونواهينا في الظاهر، وفي الوسط مسلمين لآداب الطريقة على وفق الشرع بتأديب أرباب الحقيقة في تبديل الأخلاق والتزكية في الباطن، وفي النهاية مسلمين للأحكام الأزلية والتقديرات الإلهية، وجريان الحكم ظاهرا وباطنا في الإخراج عن ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي.
[43.70-76]
ثم أخبر عن منازل أرباب الوصول بقوله: { ادخلوا الجنة } [الزخرف: 70] جنة الوصال { أنتم وأزواجكم } [الزخرف: 70]؛ أي: أمثالكم في الطلب { تحبرون } [الزخرف: 70] في رياض الأنس { يطاف عليهم بصحاف من ذهب } [الزخرف: 71] من طعام المشاهدات { وأكواب } من شراب المكاشفات، { وفيها ما تشتهيه الأنفس } [الزخرف: 71] أرباب المجاهدات لما قاسوه في الدنيا من الجوع والعطش، وتحملوا وجوه المشاق فيجازون في الجنة بوجوه من الثواب، وأما أرباب القلوب من أهل المعرفة والمحبين فلهم { وتلذ الأعين } [الزخرف: 71] من النظر إلى الله لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم، وبذل الأرواح في الطلب لما عالجوا من أحزانهم لشدة غلبهم، { وأنتم فيها خالدون } [الزخرف: 71]؛ أي: دائمون في لذة الاستغراق، { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } [الزخرف: 72]؛ أي: بما أورثتم بيوتكم في النار لأهل النار، وأورثتم بيوت أهل النار في الجنة، { لكم فيها فاكهة كثيرة } [الزخرف: 73] من أثمار أشجار المعارف { منها تأكلون } [الزخرف: 73] وفي رياض الأنس ينقلبون في يوم، { إن المجرمين } [الزخرف: 74] الذين أبطلوا حسن استعدادتهم الروحانية باستيفاء اللذات وشهواتهم النفسانية الحيوانية { في عذاب جهنم } [الزخرف: 74] صفات النفس { خالدون } [الزخرف: 74] إذ لم يخرجوا منها لحسن الاستعداد حتى أبطلوه.
وبقوله: { لا يفتر عنهم } [الزخرف: 75]؛ يعني: عن الكافرين العذاب يشير إلى أن أهل التوحيد وكان بعضهم في النار ولكن لا يخلدون فيها ويفتر عنهم العذاب بدليل الخطاب، وقد ورد في الخبر أنه يميتهم الحق أمانة أن يخرجهم من النار، والميت لا يحس ولا يألم، وذكر في الآية { وهم فيه مبلسون } [الزخرف: 75]؛ أي: خائبون وهذه صفة الكفار والمؤمنون وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم يعدون أيامهم إلى أن تنتهي أشجانهم، وقال بعض الشيوخ: " إن حال المؤمن في النار من وجه أرواح لقلوبهم من حالهم في الدنيا؛ لأن اليوم خوف الهلاك وغدا يقين النجاة ". ولقد أنشدوا:
غيب السلامة إن صاحبها
متوقع لقواهم الظهر
وفضيلة البلوى ترقب أهلها
عقب الرجاء ودورة الدهر
{ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } [الزخرف: 76] يشير إلى نوع عذر من صفات قهره إلى صفات لطفه كرما منه ورحمة.
[43.77-84]
وبقوله: { ونادوا يمالك ليقض علينا ربك } [الزخرف: 77] يشير إلى أنهم لو قالوا في الدنيا يا مالك بدل قولهم: { يمالك } يسمعوا أنتم تخرجون بدل { قال إنكم ماكثون } [الزخرف: 77]، { لقد جئناكم بالحق } [الزخرف: 78] بالدين القويم فلم تقبلوا إلا من الطبيعة الإنسانية، أن أكثرهم يميلون إلى الباطل وذلك قوله: { ولكن أكثركم للحق كارهون } [الزخرف: 78]، وبقوله: { أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون } [الزخرف: 79] يشير إلى أن أمور الخلق منتقضة عليهم فلما يتمشى لهم ما دبروه وقلما يرتفع لهم من الأمور شيء على ما قدروه، وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع، وبقوله: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [الزخرف: 80] خوفهم بسماع أحوالهم وكتابة الملك أعمالهم عليهم لغفلتهم عن الله، ولو كان لهم خبر عن الله لما كان خوفهم لغير الله ومن علم أن أعماله تكتب علبه ويطالب بمقتضاها قل إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه.
ثم أخبر عن تنزيه ذاته وصفاته بقوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } [الزخرف: 81] يشير إلى نوع من الاستهزاء بهم وبمقالهم والاستخفاف بعقولهم؛ يعني: قل إن كان للرحمن ولد كما تزعمون وتعبدون عيسى بأنه ولده فأنا كنت أول العابدين له، ثم نزه ذاته وصفاته عما نسبوه إليه بقوله: { سبحان رب السموت والأرض رب العرش عما يصفون } [الزخرف: 82] يعني: ذاته وصفاته منزهة عن كل وصف تدركه العقول والظنون، وما ينسبونه إلى العرش في معنى الاستواء بظنونهم في طلب التأويل
وما يعلم تأويله إلا الله
[آل عمران: 7]، وبقوله: { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون } [الزخرف: 83] يشير إلى: أن الله تعالى خلق الخلق أطوارا مختلفة، فمنهم من خلقه فيستعده للجنة بالإيمان والعمل الصالح وانقياد الشريعة ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من خلقه للنار فيستعده للنار برد الدعوة والإنكار والجحود والخذلان، بأن وكل إلى الطبيعة النفسانية الحيوانية التي تميل إلى اللهو واللعب والخوض فيما لا يعنيه.
ومنهم من خلقه للقربة والمعرفة فيستعده لها بالمحبة والصدق، والتوكل واليقين، والمشاهدات والمكاشفات والمراقبات، وبذل الوجود بترك الشهوات وأنواع المجاهدات، وتسليم تصرفات أرباب الولات؛ ليتحقق له أنه تعالى { وهو الذي في السمآء إله } [الزخرف: 84]؛ أي: هو معبود أهل السماء وبه تقوم السماء، { وفي الأرض إله } [الزخرف: 84]؛ أي: هو الذي معبود أهل الأرض وإله الآلهة، ولا قاضي لحوائج أهل الأرض إلا هو، وبه تقوم الأرض، { وهو الحكيم } [الزخرف: 84] في تدبير العالم وأهله، { العليم } [الزخرف: 84] بجميع الأحوال في الأزل إلى الأبد.
[43.85-89]
{ وتبارك الذي له ملك السموت والأرض } [الزخرف: 85] تعالى وتقدر وتنزه وتكبر { الذي له ملك } سماوات الأرواح الأشباح { وما بينهما } [الزخرف: 85] من القلوب والأسرار والنفوس { وعنده علم الساعة } [الزخرف: 85] لا يعلمها إلا هو { وإليه ترجعون } [الزخرف: 85] بالاختيار والاضطرار يرجعون بالموت في السلاسل والأغلال
يسحبون في النار على وجوههم
[القمر: 48]، { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86]؛ أي: من شهد الحق وشاهده بفضل الحق وفيضه، فيثب له الحق حق الشفاعة؛ لأن الشفاعة لأهل الحضور في المشاهدة لا لأهل الغيبة في البعد، { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } [الزخرف: 87]؛ لأن الإنسان خلق للمعرفة وطبع عليها وبهذا أكرمه الله، فأما الإنسان في معرفة الأنبياء وقبول دعوتهم، والتوفيق لمتابعتهم، والتدين بأديانهم، { فأنى يؤفكون } [الزخرف: 87] بتكذيب الأنبياء ورد دعوتهم إلا لكمال عزة الله وجلاله وعظمته، { وقيله يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } [الزخرف: 88] بأنبيائك وكتبك مع إيمانهم بخالقيتك، فأجاب الله لأهل هذا القيل بقوله: { فاصفح عنهم وقل سلام } [الزخرف: 89]؛ لأن الأمر ليس إليهم ولا إليك ولكنه بمشيئتنا منوط، { فسوف يعلمون } [الزخرف: 89] إذا كشف الغطاء وظهر اللقاء؛ لأن كل من خلق لما خلق وما عمل، وإلى ما رجع، رجع، والله أعلم.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-10]
{ حم * والكتاب المبين } [الدخان آية 1-2]، يشير بالحاء إلى حاء حقيقته، بالميم إلى ميم محبته ومعناه: بحقي ومحبتي لعبادي، وكتابي العزيز إليهم المبين لهم، أن لا أعذب أهل محبتي بفرقتي، { إنآ أنزلناه في ليلة مباركة } [الدخان: 3] ليلة ذات بركة وقدر؛ لأنها ليلة افتتاح الوصلة، وأشد الليالي بركة وقدرا ليلة يكون العبد فيها حاضرا ببقائه، مشاهدا لربه، يتنعم بأنوار الوصلة ويجد فيها نسيم القربة، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة كما قالوا:
لا أظلم الليل ولا أدعي
إن نجوم الليل ليست تغور
ليلي كما شأت فإن لم تجد
طال وإن جادت فليلي قصير
{ إنا كنا منذرين } [الدخان: 3] للطالبين المشتاقين؛ لئلا يقطع عليهم طريق الوصلة قواطع الكونين، { فيها يفرق كل أمر حكيم } [الدخان: 4]؛ أي: يفصل في هذه الليلة كل أمر صادر بالحكمة من السماء في السنة من أقسام الحوادث في الخير والشر، والمحن والمنن، والنصرة والهزيمة، والخصب والقحط، ولهؤلاء القوم من الحجب والجذب، والوصل والفصل، والوفاق والخلاف، والتوفيق والخذلان، والقبض والبسط، والستر والتجلي منكم، بين عبد ينزل له الحكم والقضاء بالشقاء والبعد، وآخر نزل حكمه بالوفاء والدقة، { أمرا من عندنآ } [الدخان: 5] نازلا بالحكمة البالغة منا، { إنا كنا مرسلين } [الدخان: 5] محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة { رحمة من ربك } [الدخان: 6]؛ ليخرج المشتاقين من ظلمات المفارقة إلى نور المواصلة، وأيضا { إنا كنا مرسلين } رحمة لنفوس أوليائنا بالتوفيق، ولقلوبهم بالتحقيق، { إنه هو السميع } [الدخان: 6] لأنين المشتاقين، { العليم } [الدخان: 6] بحنين المحبين، { رب السموت } [الدخان: 7] سماوات الأرواح، { والأرض } [الدخان: 7] أرض الأشباح، { وما بينهمآ } [الدخان: 7] من القلوب والأسرار والنفوس، ويدخل فيه مكاسب العباد فإنه يملكها بمعنى قدرته عليها، وإذا حصل مقدوره في الوجود دل على أنه مفعوله؛ لأن معنى الفعل مقدور وجد من فاعل، { إن كنتم موقنين } [الدخان: 7]، { لا إله إلا هو } [الدخان: 8]؛ أي: لا يتصرف في الإيجاد والتغيير في حال إلى حال إلا هو، { يحيي } [الدخان: 8] قلوب أوليائه بنور محبته وتجلي صفات جماله، { ويميت } [الدخان: 8] نفوسهم بتجلي صفات جلاله، { ربكم } [الدخان: 8] أو رب آدم وأولاده، { ورب آبآئكم الأولين } [الدخان: 8]؛ أي: رب آباء العلوية، { بل هم } [الدخان: 9] هذا خطاب الغائبين؛ أي: أهل الغيبة { في شك } [الدخان: 9]؛ لغيبتهم عن الحق، { يلعبون } [الدخان: 9] وصف أهل الشك والنفاق باللعب وذلك لترددهم وتجرئهم في أمر الدين، واشتغالهم بالدنيا، واغترارهم بزينتهما.
وبقوله: { فارتقب يوم تأتي السمآء بدخان مبين } [الدخان: 10]، يشير إلى مراقبة سماء القلب عن تصاعد دخان أوصاف البشرية.
[44.11-18]
{ يغشى الناس } [الدخان: 11]عن شواهد الحق { هذا عذاب أليم } [الدخان: 11]، لأرباب المشاهدة.
كما قال السري: اللهم مهما عذبتني فلا تعذبني بذل الحجاب، { ربنا اكشف عنا العذاب } [الدخان: 12]، عذاب الحجاب { إنا مؤمنون } [الدخان: 12]، بأنك قادر على رفع الحجاب وإرجائه، ومن أمارات إرخاء الحجاب بدخان البشرية: مخالفة سفراء قلوبهم من الخواطر التي ترد من الحق عليهم، حتى عوقبوا في الوقت بما لا يتبع له وسعهم، فإذا اخذوا في الاستغاثة يقال لهم: { أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول } [الدخان: 13]، من يوأده الحق { مبين } [الدخان: 13]، بإلهام تقواهم وفجورهم، { ثم تولوا عنه } [الدخان: 14]، وخالفوه { وقالوا معلم مجنون } [الدخان: 14]؛ أي: خاطر شيطاني، { إنا كاشفوا العذاب } [الدخان: 15]، عن صورتهم في الدنيا { قليلا إنكم عآئدون } [الدخان: 15]؛ لأن جميع الدنيا عندنا قليل، ولكن { يوم نبطش البطشة الكبرى } [الدخان: 16]، تورثهم حزما طويلا، ولا يجدون في ظلال انتقامنا مقبلا، { إنا منتقمون } [الدخان: 16].
ثم أخبر عن فتن أرباب المحن بقوله تعالى: { ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم رسول كريم } [الدخان: 17]، يشير إلى أنه تعالى جعل فرعون وقومه فيما فتنهم فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتعتبر هذه الأمة بهم فلا يصرون في جحودهم كما أصروا، ويرجعوا إلى طريق الرشد، ويقبلوا دعوة رسولهم ويؤمنون بما جاء؛ لئلا يصيبهم ما أصابهم بعد أن جاءهم رسول كريم طالبهم بإزالة الظلم عن نبي إسرائيل، واستنصر بالله وأظهر الحجة من قبل الله، ثم أمرهم: { أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين } [الدخان: 18].
[44.19-28]
وهم أمانة الله ردوهم إلى: { وأن لا تعلوا على الله } [الدخان: 19]، بإهانة عباد الله واستحقاقهم، { إني آتيكم بسلطان مبين } [الدخان: 19]، من المعجزات الظاهرة الباهرة القاهرة، { وإني عذت بربي } [الدخان: 20]، من شر نفسي { وربكم } [الدخان: 20]، من شر نفوسكم { أن ترجمون } [الدخان: 20]، لشيء من الفتن.
وفيه إشارة أخرى، وهي: أن الله فتن فرعون وقومه، وهم صفات النفس وجاءهم رسول كريم من الخواطر الرحمانية:
أن أدوا إلي عباد الله
[الدخان: 18]؛ أي: بني إسرائيل صفات القلب
إني لكم رسول أمين
[الدخان: 18] عند الحق أؤديهم إليه، { وأن لا تعلوا على الله } بالاعتداء والاستكبار أنى أتيكم من الله سلطان مبين، بدلائل وحجج واضحة وبراهين قاطعة من واردات ترد على القلوب؛ فتعجز النفوس عن تكذيبها.
وبقوله: { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } [الدخان: 21]، يشير إلى مداهنة الروح المسلم مع النفس الكافر؛ وذلك بأن الروح العلوي يدعو النفس السفلية إلى عالم عبودية الله ومراتب قربه، ومن طبيعة النفس الأمارة بالسوء أن تدعو الروح العلوي إلى العالم السفلي، وتدارك البعد عن الحضرة؛ فمن دأب أهل البدايات والمداهنة بين الروح والنفس على شرط أن الروح يقول مع النفس وصفاتها:
قل يأيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون مآ أعبد * ولا أنآ عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون مآ أعبد * لكم دينكم ولي دين
[الكافرون: 1-6]، إلى أوان غلبة الروح وصفاته على النفس وصفاتها، فينزل فيه آية القتال جاهدا الكفار والمنافقين، وأغلظ عليهم { فدعا ربه } [الدخان: 22]، بعد اليأس عن إيمان النفس وإصرارها على متابعة هواها { أن هؤلاء } [الدخان: 22]؛ يعني: النفس وصفاتها { قوم مجرمون } [الدخان: 22]، مصرون على كفرهم ومتابعة هواهم، فيلهم الله الروح أن أسر بعبادي؛ فيمده بالسير من عالم البشرية إلى عالم الروحانية، ومن عالم الروحانية إلى عالم الربانبة إلى أن يتخلق الروح بأخلاق الحق، فلا بد للنفس بالتأييد الإلهي أن يتبع الروح عند استيلاء سلطان الحق عليه، وهذا تحقيق قوله: { فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون } [الدخان: 23].
{ واترك البحر } [الدخان: 24] بحر فضل الحق تعالى { رهوا } [الدخان: 24]، مشقوقا بعصا الذكر، { إنهم } [الدخان: 24]؛ يعني فرعون النفس وصفاتها { جند مغرقون } [الدخان: 24] فانين في بحر الوحدة، { كم تركوا من جنات } [الدخان: 25]؛ أي: جنات الشهوات، { وعيون } [الدخان: 25] من مستلذات الحيوانية، { وزروع } [الدخان: 26] في الآمال الفاسدة { ومقام كريم } [الدخان: 26] من المقامات الروحانية بعبورها عليها، { ونعمة } [الدخان: 27] من تنعمات الدنيا والآخرة بالسير والإعراض عنها، { كانوا فيها فاكهين } متنعمين.
وبقوله: { كذلك وأورثناها قوما آخرين } [الدخان: 28]، يشير إلى أنه الصفات النفسانية وإن فنيت بتجلي الصفات الربانية، فمهما يكون القالب باقيا بالحياة يتولد من الصفات النفسانية والحيوانية، فيكون وارث تلك الصفات الفانية إلى أن تفنى هذه الصفات المتولدة بالتجلي أيضا، ولو لم تكن هذه المتولدات ما كان السائر الترقي؛ فافهم جدا، وبهذا الترقي يبرأ السائر على المقام الملكي؛ لأنه ليس للملك ترقيا من مقامه، كما قال:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات: 164].
[44.29-39]
وبقوله: { فما بكت عليهم السمآء والأرض } [الدخان: 29]، يشير إلى أن سماء الأرواح وأرض الأشباح إنما تبكي على النفس وصفاتها؛ إذ لم تستعد بتبدل الأخلاق، ولم تفن في صفاته، { وما كانوا منظرين } [الدخان: 29] لنيل هذه السعادة العظمى.
{ ولقد نجينا بني إسرائيل } [الدخان: 30]؛ أي: القلب وصفاته { من العذاب المهين } [الدخان: 30]، الذي يصل إليهم { من فرعون } النفس، { إنه كان عاليا } [الدخان: 31]؛ أي: مرتبة علية { من المسرفين } [الدخان: 31]، الذين أسرفوا على أنفسهم بالظلم والعدوان، { ولقد اخترناهم على علم } [الدخان: 32] من التقديرات الأزلية { على العالمين } [الدخان: 32]، ولو لم يخترهم ما كان لهم الخيرة أن يكونوا غالبين على فرعون النفس وصفاتها، { وآتيناهم } [الدخان: 33]؛ يعني: للقلب وصفاته { من الآيات } [الدخان: 33]؛ أي: التجليات { ما فيه بلاء مبين } [الدخان: 33] لهلاك فرعون النفس وصفاتها في الإفناء.
ثم أخبر عن مقالة منكري الحشر والنشر بقوله تعالى: { إن هؤلاء ليقولون * إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين } [الدخان: 34-35]، يشير إلى أن من غلب عليه الحس، ولم يكن له عين القلب مفتوحة؛ ليطالع ببصر بصيرته عالم الغيب وهو الآخرة لا يؤمن إلا بما يريه بصر الجسد؛ ولهذا أنكروا البعث والنشور؛ إذ لم يكن لهم مشاهد إلا نظر حسهم، وقال: { فأتوا بآبآئنا } [الدخان: 36]؛ أي: أحيوهم حتى نراهم بنظر الحس ونستخبر عنهم أحوالهم بعد الموت، { إن كنتم صادقين } [الدخان: 36] فيما تدعون من البعث.
ثم هددهم بالهلاك فقال: { أهم خير أم قوم تبع } [الدخان: 37]، وهو ملك اليمن، وكانوا قوم فيهم كثرة وتبع كان مسلما، فأهلك الله قومه على كثرة عددهم وكمال قوتهم، { والذين من قبلهم } [الدخان: 38] من الأمم { أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين } [الدخان: 38] مستحقين للهلاك.
وبقوله: { وما خلقنا السموت والأرض وما بينهما لعبين } [الدخان: 38]، يشير إلى السماوات والأرض الأشباح، وما بينهما من القلوب والأسرار والنفوس، وإنها صدق درة المعرفة، دليله قوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] أي ليعرفون وهذا تحقيق قوله: { ما خلقناهمآ إلا بالحق } [الدخان: 39]؛ أي: ما خلقناهما إلا مرآة قابلة لظهور صفات الحق، كما قال:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53].
وبقوله: { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الدخان: 39]، يشير إلى أن مرآة قلب أكثرهم مكدرة بصدأ صفات البشرية، وهم لا يعلمون أنهم مرآة لظهور صفاتها فيها.
[44.40-50]
{ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } [الدخان: 40]؛ أي: يفصل بين أرباب الصفاء وأصحاب الصداء، { يوم لا يغني مولى عن مولى } [الدخان: 41]، ولا ناصر، ولا حميم عن حميم، ولا نسيب عن نسيب، ولا شيخ عن مريد { شيئا } [الدخان: 41]، من الصفاء إذا لم يحصلوا هاهنا في دار العمل، { ولا هم ينصرون } [الدخان: 41]، في تحصيل الصفاء ورفع الضراء، { إلا من رحم الله } [الدخان: 42]، عليه بتوفيق تصفية القلب في الدنيا، كما قال تعالى:
إلا من أتى الله بقلب سليم
[الشعراء: 89]، { إنه هو العزيز } [الدخان: 42] يعز من يشاء بصفاء القلب، { الرحيم } [الدخان: 42]، يرحم من يشاء بالتجلي لمرآة قلبه.
وبقوله: { إن شجرت الزقوم } [الدخان: 43]، { طعام الأثيم } [الدخان: 44]، يشير إلى أن الأثيم وهو الذي عبد صنم الهوى وغرس شجرة الحرص؛ فأثمرت الشهوات النفسانية اللذيذة على مذاق النفس في الدنيا، يكون طعامه في الآخرة الزقوم الذي { كالمهل يغلي في البطون } [الدخان: 45]، { كغلي الحميم } [الدخان: 46]، { خذوه } [الدخان: 47]، أيتها الزبانية الطبائع الحيوانية، { فاعتلوه } [الدخان: 47]، اسحبوه { إلى سوآء الجحيم } [الدخان: 47]، جحيم البعد والقطيعة، { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } [الدخان: 48]، وهو عذاب الحسرة والحرمان، وحرقة الهجران في قعر النيران.
وبقوله: { ذق } [الدخان: 49]، يشير إلى أنه كان معذبا بهذا العذاب في الدنيا، ولكن كان في نوم الغفلة لم يكن ليذوق ألم العذاب، فلما مات انتبه فذاق ألم ما ظهر به على نفسه، { إنك أنت العزيز } [الدخان: 49]، في نظرك { الكريم } [الدخان: 49]، عند قومك؛ فذق ألم عذاب الذلة والإهانة؛ { إن هذا ما كنتم به تمترون } [الدخان: 50] بوساوس الشيطان وهواجس النفس.
[44.51-59]
ثم أخبر عن أرباب اليقين من المتقين بقوله: { إن المتقين في مقام أمين } [الدخان: 51]، يشير إلى أن من اتقى بالله عما سواه يكون مقام الوحدة آمن خوف الإثنينية، وأن يكون بالصورة { في جنات وعيون } [الدخان: 52]، { يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين } [الدخان: 53]، بالقلوب متوجهين إلى الحضرة، { كذلك } [الدخان: 54] متوجهين بالقلوب إلى الحضرة، { وزوجناهم بحور عين } ، في الصورة، { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } [الدخان: 55]، يشتهون آمنين من أن يتولد عنها الحجب للقلوب، كما يكون في الدنيا، { لا يذوقون فيها الموت } [الدخان: 56]؛ أي: موت النفس سبقت بسيف المجاهدة وقمع الهوى وترك الشهوات، { إلا الموتة الأولى } [الدخان: 56] في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر، { ووقاهم عذاب الجحيم } [الدخان: 56]؛ أي: عذاب البعد وجحيم الهجران، { فضلا من ربك } [الدخان: 57]، لا استحقاقا لهم، { ذلك } [الدخان: 57]؛ أي: ذلك المقام الوحداني { هو الفوز العظيم } [الدخان: 57]؛ أي: الخلاص من حبس الوجود، { فإنما يسرناه بلسانك } [الدخان: 58]؛ يعني: تقرير هذا المقام في الوحدة { لعلهم } [الدخان: 58]؛ يعني: خواص أمتك { يتذكرون } [الدخان: 58] أن هذا المقام بعد لهم، { فارتقب } [الدخان: 59] ظهور هذه الطائفة { إنهم مرتقبون } [الدخان: 59]، وإن طلبهم وظهورهم.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-8]
{ حم } [الجاثية: 1]، يشير بالحاء إلى حياته وبالميم إلى مودته، كأنه قال: بحياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أحب علي من لقاء أحبائي، ولا أعز وأحب على أحبائي من لقائي، { تنزيل الكتاب } [الجاثية: 2]؛ أي: هذا الكتاب تنزيل { من الله العزيز الحكيم } [الجاثية: 2]، على أوليائه وأحبائه.
ثم أخبر: { إن في السموت والأرض } [الجاثية: 3] الصورية والمعنوية { لأيت } [الجاثية: 3]، شواهد الربوبية لائحة، وأدلة الإلهية واضحة { للمؤمنين } [الجاثية: 3] المحبين الذين صحا فكرتهم عن سكر الغفلة وجبت سيرهم في محال العبرة، وصفاء قلبهم عن دنس البشرية، وتجلي روحهم بإطلاق الربوبية؛ فحظوا بحقائق الوصلة.
وبقوله: { وفي خلقكم وما يبث من دآبة ءايت لقوم يوقنون } [الجاثية: 4]، يشير إلى أن العبد إذا أمعن نظره في حسن استعداده ظاهرا وباطنا، وأنه خلق في أحسن تقويم يرى استواء قده وقامته وحسن صورته وسيرته واستكمال عقله وتمام تميزه، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه، ثم فكر فيما عداه من الدواب في أجزائها وأعضائها وأوصافها وطبائعها والتمييز والعلم، ثم وقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البرية من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم ثم في الإيمان، ومن الملائكة في حمل الأمانة، وتعلم علم الأسماء، ووجوه لخصائص أهل الصفوة من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات والمخافيات وأنواع التجليات، وما صار به الإنسان خليفة الله ومسجود ملائكته المقربين، عرف تخصيصهم بمناقبهم وانفرادهم بفضائلهم؛ فاستيقن أن الله كرمهم، وعلى كثير من المخلوقات فضلهم، وإنهم محمولو العناية في بر الملك وبحر الملكوت.
وبقوله: { واختلاف الليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق } [الجاثية: 5]، يشير إلى اختلاف ليل البشرية ونهار الروحانية، وما أنزل الله تعالى من الواردات الربانية من سماء الأرواح، ومن غيث الرحمة رزقا للقلوب؛ { فأحيا به الأرض } [الجاثية: 5] أرض القلوب { بعد موتها } [الجاثية: 5]، عند استيلاء أوصاف البشرية عليها في أوان الولادة إلى حد البلاغة، إذا كانت محرومة عن غداء تعيش به، وهو أوامر الشريعة ونواهيها المودع فيها نور الإيمان، الذي هو حياة القلوب، { وتصريف الرياح } [الجاثية: 5]، وهي رياح نفحات الحق تعالى { ءايت لقوم يعقلون } [الجاثية: 5]، التعرض لنفحات ألطاف الحق.
وفيه إشارة أخرى: أن الله تعالى جعل العلوم الدينية كسبية مصححة بالدلائل، وموهبية محققة بالشواهد؛ فمن لم يستبصر بهما زلت قدمه عن الصراط، ووقع في عذاب الجحيم، فاليوم في ظلمة الحيرة والتقليد وفي الآخرة في الوعيد بالتخليد.
وبقوله: { تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وءايته يؤمنون } [الجاثية: 6]، يشير إلى أن الإيمان الحقيقي لا يمكن حصوله في القلوب إلا بالله وكتابته في القلوب، وبإراءته المؤمنين آياته، وإلا فلا يحصل بالدلائل المنطقية ولا بالبراهين العقلية؛ فافهم جدا.
{ ويل لكل أفاك } [الجاثية: 7] مكذب { أثيم } [الجاثية: 7] معرض عن الحق، { يسمع ءايت الله } [الجاثية: 8]، في الظاهر؛ إذ { تتلى عليه ثم يصر } [الجاثية: 8]، على الإنكار والجحود { مستكبرا } [الجاثية: 8]، عن قبول الحق، يسمع الباطن { كأن لم يسمعها } [الجاثية: 8]، فمن استمع باستماع الحق والفهم، واستبصر بنور التوحيد فاز بذخر الدارين، وتصدى لعز المنزلين، ومن تصامم بحكم الخذلان والغفلة؛ { فبشره بعذاب أليم } [الجاثية: 8] بوقوعه في وهدة الجهل.
[45.9-13]
وقد وسم بكي الهجران والقطيعة، فآل أمره إلى أنه { وإذا علم من ءايتنا شيئا } [الجاثية: 9]، من عالم رباني { اتخذها هزوا } [الجاثية: 9]، قليل العناد وتأوله على ما نفع له من وجود المراد من دون تصحيح بإسناد، فهؤلاء: { أولئك لهم عذاب مهين } [الجاثية: 9] مذل، وقد يكاشف حاله من بواطن قلبه بتعريفات من الغيب، لا يبدو فيها ريب ولا يتخالجه منها شك فيما هو به في حاله، فإذا استهان بها وقع في ذل الحجة وهوان الفرقة.
{ من ورآئهم جهنم } [الجاثية: 10] جهنم الحرص والأمل، { ولا يغني عنهم ما كسبوا } [الجاثية: 10] بالسوء وبالحرص { شيئا } [الجاثية: 10]، القلوب { ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء } [الجاثية: 10] من الدنيا وأهلها، { ولهم عذاب عظيم } [الجاثية: 10]، وهو هجران إله عظيم { هذا هدى } [الجاثية: 11]؛ أي: هذا الذي ذكرنا من الآيات والدلالات والإشارات وأسباب الهداية لمن أراد الله به خيرا يسمعهم، { والذين كفروا بآيت ربهم } [الجاثية: 11] أن أعرضوا عنها وأنكروا عليها، { لهم عذاب من رجز } [الجاثية: 11]، وهو نظر قهر الحق بالقطيعة، وهو { أليم } [الجاثية: 11] مؤلم حقا.
ثم أخبر عن كرمه مع العبد بأنواع نعمه بقوله تعالى: { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره } [الجاثية: 12]، يشير إلى أنه تعالى مسخر بحر العدم؛ لتجري فيه فلك الوجود بأمره، وهو أمر
كن
[البقرة: 117]، والحكمة في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك، سخر البحر والفلك له وسخره لنفسه؛ ليكون خليفة مظهرا لذاته وصفاته تبارك وتعالى نعمة منه وفضلا؛ لإظهار الكنز المخفي، فبحسب كل مسخر من الجزيئات والكليات يجب على العبد شكر، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره ولا يستعمله في هوى نفسه، وله أن يعتبر من البحر الصوري، والذين يركبون البحر فربما تسلم سفينتهم وربما تغرق، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي بهم رياح المشيئة، مرفوع لهم شراع التوكل من شيء في البحر بمجرى اليقين، فإن هبت رياح العناية تحث السفينة إلى ساحل السعادة، وإن هبت نكباء الفتنة لم يبق بيد الملاح شيء غرقت في لجة الشقاوة، فعلى العبد أن يكون ابتغاؤه فضل الله، ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم، وذلك قوله: { ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [الجاثية: 12].
وبقوله: { وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا منه } [الجاثية: 13]، يشير إلى أن السماوات والأرض وما فيهن خلقت للإنسان، ووجودها تبع لوجوده، وناهيك عن هذا المعنى إن الله تعالى أسجد ملائكته لآدم عليه السلام، وهذا غاية التسخير وهم أكرم وأعز مما في السماوات والأرض، ومثال هذا أنه لما أراد أن يخلق ثمرة خلق شجرة، وسخرها للثمرة لتحمل، فالعالم بما فيه شجرة وثمرتها الإنسان؛ ولعظم هذا المعنى قال: { إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون } [الجاثية: 13]؛ أي: في هذا المعنى دلالات على شرف الإنسان، وكماليته { لقوم } لهم قلوب منورة بنور الإيمان والعرفان، { يتفكرون } بفكر سليم.
[45.14-18]
وبقوله: { قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [الجاثية: 14]، يشير إلى أن المؤمنين إذا غفروا لأهل الجرائم، وإن لم يكونوا أهل المغفرة لإصرارهم على الكفر والإيذاء يصير متخلقا بأخلاق الحق، ثم الله تعالى يجزي كل قوم جزاء عملهم، كما قال: { ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } [الجاثية: 14] من الخير والشر.
{ من عمل صلحا } [الجاثية: 15]، من العفو للجرم { فلنفسه } [الجاثية: 15]؛ يعني: نفسه تتصف بصفة العفو والمغفرة وهي من صفات الله، { ومن أسآء } [الجاثية: 15]، من المعصية والظلم { فعليها } [الجاثية: 15]؛ أي: تصير نفسه متصفة بالعصيان والظلم، وهو من صفات الشيطان، { ثم إلى ربكم ترجعون } [الجاثية: 15] على حسب صفاتكم وأعمالكم، إن كنتم من الأبرار فإن الأبرار لفي نعيم، وإن كنتم فجارا فإن الفجار لفي جحيم.
وبقوله: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } [الجاثية: 16]، يشير إلى القلب وصفاته؛ لأنه محل تنزيل الكتاب، وهو الإلهامات الربانية والإشارات والخواطر الرحمانية، وكشف المعاني الحكمية، وشواهد الأسرار [الربانية]؛ إنما هو القلب وصفاته، { ورزقناهم من الطيبات } [الجاثية: 16]؛ وهي الواردات الرحمانية الطيبة من حيث صفات النفس والشيطان، { وفضلناهم } [الجاثية: 16]؛ أي: القلوب { على العالمين } [الجاثية: 16]؛ أي: على أهل عالم قالبهم من الروح والسر والخفى، وإن كان الروح في بدء الأمر أشرف من القلب؛ لإفاضة فيضه عليه، ولما صار عرش القلب استواء صفة رحمانية الحق تعالى فضله الله على الروح بهذه الخاصية.
{ وآتيناهم بينات من الأمر } [الجاثية: 17]، وهو بيان كشف العيان، { فما اختلفوا } [الجاثية: 17]؛ يعني: النفس والقلب في الإعراض والإقبال على الله، { إلا من بعد ما جآءهم العلم } [الجاثية: 17]، العياني والبياني { بغيا بينهم } [الجاثية: 17]، من طبيعة النفس وهواها { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة } [الجاثية: 17]؛ أي: يوم إحياء القلوب بنور الصدق والمحبة { فيما كانوا فيه يختلفون } [الجاثية: 17]، من الإعراض النفساني والإقبال القلبي.
ثم أخبر عن الشريعة النبوية المصطفية بقوله تعالى: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها } [الجاثية: 18]، يشير إلى أنا أفردناك من جملة الأنبياء بلطائف فاعرفها، وخصصناك بحقائق فأدركها، وسننا لك طريق فاسلكها، وأثبتنا لك الشرائع فاتبعها، ولا تتجاوز عنها ولا يحتاج إلى متابعة غيرك ، ولو كان موسى وعيسى حيا لما وسعهما إلا إتباعك.
ثم قال: { ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } [الجاثية: 18-19].
[45.19-22]
{ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } [الجاثية: 19]؛ يعني: إن أراد الله بك نعمة فلا يقدر أحد على منعها، وإن أراد بك فتنة فلا يقدر أحد أن يصرفها عنك، فلا تعلق لمخلوق فكرك، ولا تتوجه بضميرك إلى غيرنا، وثق وتوكل علينا.
{ وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض } [الجاثية: 19]؛ لمناسبة فيما بينهم يتعلق بعضهم ببعض لقضاء حوائجهم، سماهم: الظالمين؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وسمي المؤمنين: المتقين؛ لأنهم اتقوا عن هذا المعنى، فاتخذوا الله الولي في الأمور كلها، وذلك قوله: { والله ولي المتقين } [الجاثية: 19]؛ لأنهم اتقوا به عما سواه { هذا بصائر للناس } ، يعني: اتخاذ الله الولي والاتقاء به عما سواه للناسين الغافلين عن الله موجب البصيرة، { وهدى ورحمة لقوم يوقنون } [الجاثية: 20]؛ أي: المستعدين للوصول إلى مقام اليقين بأنوار البصيرة، إذا تلألأت انكشف بها الحق والباطل، فنظر الناس على مراتب، فمن ناظر بنور العقل، ومن ناظر بنور الفراسة، ومن ناظر بنور الإيمان، ومن ناظر بنور العرفان، ومن ناظر بنور العيان، ومن ناظر بنور العين؛ فهو على بصيرة شمسها طالعة وسماؤها على السحاب مصبحة.
وبقوله: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الجاثية: 21]، يشير إلى أن من حفظناه بالخذلان في حضيض الضعة لمن رفعناه في هواء المنعة، ومن أخذناه بيده فنعتناه كمن رأسه الخذلان فرحمناه، ومن بعد بذل جهله واستفراغ وسع وإسبال دمع وإحراق قلب عذرناه فرحمناه، كمن يبسط وقت أنس حال وروح لطف حففناه فرفعناه وسكرناه، ثم قربناه وأدنيناه، ثم أفنيناه عن أنانيته، ثم أبقيناه ببقائنا، وذلك حقيقة قوله: { سوآء محياهم ومماتهم } [الجاثية: 21]؛ أي: سواء قوم محياهم ومماتهم بهواهم وطبعهم، وقوم محياهم بنا ومماتهم فينا { سآء ما يحكمون } [الجاثية: 21].
{ وخلق الله السموت } [الجاثية: 22] سماوات القلوب، { والأرض } [الجاثية: 22]، أرض النفوس { بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت } [الجاثية: 22]، بترك الهوى، { وهم لا يظلمون } [الجاثية: 22] في المجازات بغير الاستحقاق.
[45.23-27]
ثم أخبر عن جزاء أهل الأهواء؛ أي: بقوله تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [الجاثية: 23]، يشير إلى الفلاسفة والدهرية والطائفية، من لم يسلك سبيل الإتباع، ولم يستوف أحكام الرياضة بتأديب الطريقة على قانون الشريعة، ولم ينسلخ هواه بالكلية، ولم يؤدبه، ولم يسلكه إمام مقتدى في هذا الشأن من أرباب الوصال والوصول، بل اقتدى بأئمة الكفر والضلالة، وانتفى آثارهم بالشبهات العقلية وحسبان البراهين القطعية؛ فوقع في شبكة الشيطان، فأخذه بزمام هواه، وأضله في نبه هواه، وربما دعاه إلى الرياضة وترك الشهوات؛ لتصفية العقل وسلامة الفكر، فيمينه إدراك الحقائق حتى أوبقه في وهدات الشبهات فيهم في كل ضلالة، ويضل في كل فج عميق، وأصبح خسرانه أكثر من ربحه، ونقصانه أوفر من رجحانه، { وختم على سمعه } [الجاثية: 23]؛ لئلا يسمع الحق، { وقلبه } [الجاثية: 23]؛ لئلا يفهم الحق، { وجعل على بصره غشاوة } [الجاثية: 23]، لئلا يرى الحق { فمن يهديه من بعد الله } [الجاثية: 23]؛ أي: لا يقدر على هدايته إلا الله، { أفلا تذكرون } [الجاثية: 23]، أرباب العقول السليمة أنهم في ضلالة بعيد يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم زمامهم بيد هواهم، أولئك أهل المكر استدرجوا من حيث لا يشعرون.
{ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر } [الجاثية: 24]، يشير إلى أن من ختم الله على قلبه انحسم مادة نظره إلى عالم الآخرة، كالأنعام لا ترى إلا عالم الحس، فلا يؤمن بما في الغيب من البعث وتنكره، { وما لهم بذلك من علم } [الجاثية: 24]؛ أي: بإنكار البعث { إن هم إلا يظنون } [الجاثية: 24] الظنون الكاذبة.
{ وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينات } [الجاثية: 25] لا يسمعون؛ لأن سمعهم مختوم عليه { ما كان حجتهم } [الجاثية: 25] عند عقولهم السخيفة في انتفاء السمع، { إلا أن قالوا ائتوا بآبآئنآ } [الجاثية: 25]؛ أي: أحيوهم { إن كنتم صادقين } [الجاثية: 25] في الإحياء بعد الموت؛ فأجابهم الله تعالى بقوله: { قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة } [الجاثية: 26]؛ يعني: بالأحياء يوم القيامة لا في الدنيا، وفيه إشارة إلى أهل الإشارة { قل الله يحييكم } بالحياة الإنسانية، { ثم يميتكم } عن صفاتكم الإنسانية الحيوانية، { ثم يجمعكم } بالحياة الربانية إلى يوم القيامة، وهي النشأة الأخرى { لا ريب فيه } [الجاثية: 26] عند أرباب النظر، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [الجاثية: 26]؛ لأنهم أهل النسيان والغفلة.
{ ولله ملك السماوات } [الجاثية: 27]، سماوات القلوب يحي منها ما يشاء بنوره، ويميت ما شاء بظلمة النفوس، { والأرض } [الجاثية: 27] أرض النفوس، يحيي منها ما شاء بنوره، ويميت منها ما شاء بالحرص والشهوة، ويميت منها ما شاء بنور الإيمان والإخلاص، { ويوم تقوم الساعة } [الجاثية: 27]، وهو يوم نشور القلوب عن قبور الصدور بقيام المحبة، { يومئذ يخسر المبطلون } [الجاثية: 27]، الذين أبطلوا الاستعداد الفطري.
[45.28-32]
ثم أخبر عن أحوال القيامة وأهوالها بقوله تعالى: { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها } [الجاثية: 28]، يشير إلى عجز العباد، وألا قوة لهم فيما كتب الله عليهم في الأزل، وألا يصيبهم في الدنيا والآخرة إلا ما كتب الله لهم، وهذا حقيقة قوله: { كل أمة تدعى } في أعمالهم، { كتابها } الذي كتب الله لهم في الأزل فيعلمون به، ثم يوم القيامة يقال لهم: { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } [الجاثية: 28]، { هذا كتابنا }؛ يعني: الذي كتبنا عليكم في الأزل بما تعملون، إلى الأبد ينطق عليكم بالحق أنكم عملتم ما كتبنا لكم، { إنا كنا نستنسخ } [الجاثية: 29]، بقلم أفعالكم على صحيفة أعمالكم من كتابنا، الذي كتبنا لكم { ما كنتم تعملون } على وفق مشيئتنا ومقتضى حكمتنا.
{ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته } [الجاثية: 30]، التي سبقت غضبه في حقهم ليكونوا مظهرا لصفات لطفه، { ذلك هو الفوز المبين } [الجاثية: 30] بالعناية السابقة لهم، { وأما الذين كفروا } [الجاثية: 31] بالحكمة الأزلية والإرادة القديمة؛ ليكونوا مظهرا لصفات قهره، يقال لهم: { أفلم تكن ءايتى تتلى عليكم فاستكبرتم } [الجاثية: 31] أن تقولوا: لا إله إلا الله؛ لأنكم ما كنتم أهلا لها، { وكنتم قوما مجرمين } [الجاثية: 31] مستعدين للإباء والاستكبار؛ ولهذا المعنى { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } [الجاثية: 32]، لعدم نور اليقين.
[45.33-37]
{ وبدا لهم سيئات ما عملوا } [الجاثية: 33]؛ أي: أثمر لهم في الآخرة ما زرعوا في مزرعة الدنيا بأعمالهم السيئة، { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [الجاثية: 33]، أهل الحق { وقيل اليوم ننساكم } [الجاثية: 34]، من الرحمة { كما نسيتم لقآء يومكم هذا } [الجاثية: 34]؛ أي: كما زرعتم في مزرعة الدنيا بذر النسيان أثمركم في الآخرة ثمرة النسيان، { ومأواكم النار } [الجاثية: 34]؛ لأنها مأوى من نسينا، كما أن الجنة مأوى من ذكرنا، { وما لكم من ناصرين } [الجاثية: 34]؛ ليخلصوكم منها، { ذلكم } [الجاثية: 35]؛ أي: أصابكم ذلكم { بأنكم اتخذتم ءايت الله } [الجاثية: 35]، التي رأيتم على مخلص عبادنا، { هزوا وغرتكم الحياة الدنيا } [الجاثية: 35]؛ إذ ما قبلتم وصيتنا إذ قلنا؛ فلا تغرنك بالحياة، { فاليوم لا يخرجون منها } [الجاثية: 35]؛ من نار قهرنا؛ لأنكم دخلتم فيها على قدمي الحرص والشهوة فيها، { ولا هم يستعتبون } [الجاثية: 35] في الرجوع إلى الجنة على قدمي الإيمان والعمل الصالح.
{ فلله الحمد رب السموت } [الجاثية: 36]؛ أي: رب سماوات القلوب يربيها بين إصبعي اللطف والقهر، إن شاء أقامها ليكون مظهرا لصفات اللطف، وإن شاء أزاغها ليكون مظهرا لصفات القهر، { ورب الأرض } [الجاثية: 36]؛ أي: رب أرض النفوس ينبت فيه ما يشاء من شجرة الكفر والإيمان ونبات السعادة والشقاوة، كما هو { رب العالمين } [الجاثية: 36]، يخلق فيها ما يشاء من أصناف المخلوقات.
{ وله الكبريآء في السماوات والأرض } [الجاثية: 37]، بأنهما مظهر صفات عظمته وجلاله وعزته وكبريائه؛ يعني: إذا تجلى الحق - عز وعلا - بصفة من صفاته لمرآة قلب عبد من عباده، إنما يتجلى بحسب استعداد مرآة قلب العبد لا بحسب كمالية صفاته؛ فإن له تعالى بكل صفة كبرياء وعظمة لا نهاية لها، وإنه لو تجلى بصفة من صفاته بعظمتها وكبريائها؛ لاضمحلت الموجودات وتلاشت المكونات، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج أنملة إبهامه فوضعه على نصف أنملة خنصره، وقال:
" تجلى نور الربوبية هذا المقدار للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا "
، وكبرياء كل صفة من صفاته بأنه لا أول لها ولا مبدأ لها، بل هي أبدية صمدية وسرمدية؛ ولهذا قال:
" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها ألقيته في جهنم "
؛ فلهذه [الخصوصية] للعبد أن يخلق بكل خلق من أخلاق الحق تعالى، ولكنه محال أن يتخلق بهذين الخلقين؛ لأنهما أزلي أبدي لا يتطرق إليهما التغير وفي خلق العبد تغير، وله بداية ونهاية وله مبدئ ومعيد، { وهو العزيز الحكيم } [الجاثية: 37].
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-5]
{ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } [الأحقاف: 1-2]، يشير إلى أن حميت قلوب أهل عنايتي عن آفات صفات النفس الأمارة بالسوء، فصرفت عنها خواطر النظر إلى الدنيا وما فيها، ووجهتها للحضرة الربانية، وثبتها على مشاهدة اليقين بنور التحقيق؛ فلاح فيها شواهد برهانهم، فأضفنا بها لطائف إحساننا، فكمل منالها من عين الوصلة، وغديناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة، وربيناهم ب { تنزيل الكتاب } للتأدب بآدبه والتخلق بأخلاقه { من الله العزيز }؛ المعز للمؤمنين بإنزال الكتب عليهم، { الحكيم } لكتابه عند التبديل والتغير والنسخ. وبقوله: { ما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق } [الأحقاف: 3]، يشير إلى أن المخلوقات كلها ما خلقت إلا لمعرفة الحق تعالى، قال تعالى:
" فخلقت الخلق لأعرف "
، { وأجل مسمى } [الأحقاف: 3]، لمعرفة كل عارف، { والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون } [الأحقاف: 3]؛ ليكونوا مظهر صفات قهره ليعرف أنه تعالى قهار، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عما انذروا به كفر.
بقوله: { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } [الأحقاف: 4]، يشير إلى كل ما يعبد من دون الله من الهوى والشيطان والدنيا والأصنام، { أروني ماذا خلقوا من الأرض }؛ أي: من أرض النفوس، كما خلقتها { أم لهم شرك في السموت } [الأحقاف: 4]؛ أي: في سماوات القلوب؛ ليخلقوا فيها من الحق والباطل، كما أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء؛ فإن شاء أقامه للحق وإن شاء أزاغه للباطل.
{ ائتوني بكتاب } [الأحقاف: 4] من عند الله يا عبدة غير الله، هل لكم فيه دليل على عبادة غير الله، { من قبل هذآ أو أثارة من علم } [الأحقاف: 4] من المعقول والمنقول والمكاشف والمشاهد بتجويز العبادة لغير الله، { إن كنتم صادقين } [الأحقاف: 4] فيما يعبدون من دون الله.
{ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له } [الأحقاف: 5]؛ أي: من لا قدرة له على الاستجابة { إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5]، ويدعو دعاء الذي يقول:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60]، { وهم عن دعآئهم غافلون } [الأحقاف: 5]؛ أي: عن استجابة دعائهم عاطلون.
[46.6-10]
{ وإذا حشر الناس } [الأحقاف: 6]؛ أي: إذا نشر عن نوم غفلتهم، بل أحيوا بحياة الله { كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 6]، كما كان حال إبراهيم عليه السلام إذ قال:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
[الشعراء: 77]، وقال:
وإنني بريء مما تشركون
[الأنعام: 19].
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هذا سحر مبين } [الأحقاف: 7]؛ ذلك لأنهم عموا عن رؤية الحق وصموا عن سماع الحق، فرموا رسلنا بالسحر وكلامنا بالافتراء، كما قال: { أم يقولون افتراه قل } [الأحقاف: 8]، يا محمد { إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } [الأحقاف: 8]، أن يدفعوا عني عذابه { هو أعلم بما تفيضون فيه } [الأحقاف: 8]، في حقي وفيما تظنون { كفى به } [الأحقاف: 8]؛ أي: بالله { شهيدا بيني وبينكم } [الأحقاف: 8]؛ أي: هو يجازيني إن كنت ساحرا أو مفتريا، وإن كنت صادقا فيما جئت به منه فهو يكافئني، { وهو الغفور } [الأحقاف: 8]، المخلص مع عباده { الرحيم } [الأحقاف: 8] بهم.
ثم أخبر عن حال الرسالة بقوله تعالى: { قل ما كنت بدعا من الرسل } [الأحقاف: 9]، يشير إلى أني لست بأول رسول أرسلت، ولا بغير ما جاءوا في أصول التوحيد، حيث إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد والتصديق في العبودية،
" وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
،
وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب: 46] بنور الفيض الإلهي؛ لتكونوا مستفيضين من نور سراجي بمصباح قلوبكم فتضيء بنار النور الإلهية،
نور على نور يهدي الله لنوره من يشآء
[النور: 35].
وبقوله: { ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم } [الأحقاف: 9]، يشير إلى فساد أهل القدر والبدع، حيث قالوا إيلام البريء قبيح في العقل فلا يجوز؛ لأنه لو لم يجوز ذلك لكان يقول: اعلم قطعا أني رسول الله معصوم؛ فلا محالة يغفر لي، ولكنه قال: { ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم } ليعلم أن الأمر أمره، والحكم حكمه، له أن يفعل بعباده ما يريد، ولا يسأل عما يفعل، { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } [الأحقاف: 9]؛ بخاصة نفسي مستسلما لأحكامه الأزلية، { ومآ أنا إلا نذير مبين } [الأحقاف: 9]، لكم أرسلت إليكم مبلغا، وليس إلي من الهداية شيء، ولكن الله يهدي من يشاء.
وبقوله: { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } [الأحقاف: 10]، يشير إلى أنه لا عذر له بحال ولا أمان لهم من عقوبة الله، وما يستروحون إليه من حججهم عند أنفسهم كلها في التحقيق باطل، إذا شهد على مثله شاهد { فآمن واستكبرتم } [الأحقاف: 10]، استكبار إبليس جحودا وعنادا { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [الأحقاف: 10]، الذين يضعون الجحد والعناد موضع الإقرار والتسليم.
[46.11-14]
{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا } [الأحقاف: 11]؛ يعني: الذين { ما سبقونآ إليه } [الأحقاف: 11]، مثل هؤلاء الأراذل، هذا نوع من أنواع مكر النفس ليتوهم بها براءة ذمتها عن إنكار الحق، والتمادي في الباطل، { وإذ لم يهتدوا به } [الأحقاف: 11]؛ أي: بما ليس من مشاربهم، وما هم من أهل ذوق الإيمان بالقرآن به وبالمواهب الربانية، { فسيقولون هذآ إفك قديم } [الأحقاف: 11].
وبقوله: { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة } [الأحقاف: 12]، يشير إلى أن التوراة إنما أنزلت على موسى قبل القرآن؛ لتكون إماما لمن آمن بها في الإيمان بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم إذ مشروح فيها أحوال حقيقتها، وتكون رحمة بأن يؤمنوا بهما، { وهذا } [الأحقاف: 12]؛ يعني: القرآن { كتاب مصدق } [الأحقاف: 12]؛ يعني: للكتب المنزلة المشروحة فيها الوصية بالإيمان بمحمد، وأخذ الميثاق من النبيين وجميع الأمم على الإيمان والنصرة لدينه، { لسانا عربيا } [الأحقاف: 12]، أي: بلسان عربي؛ لأن قومه عرب { لينذر } [الأحقاف: 12] اليهود والنصارى، { الذين ظلموا } [الأحقاف: 12]، ظلموا أنفسهم بأن قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وغيروا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في التوراة والإنجيل، و
يحرفون الكلم عن مواضعه
[النساء: 46]، { وبشرى للمحسنين } [الأحقاف: 12]، الذين آمنوا بجميع الأنبياء والكتب المنزلة، (وهدوا إلى الصراط المستقيم)، وثبتوا على الدين القويم.
ثم أخبر عن سلامة أهل الاستقامة قوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [الأحقاف: 13]، يشير إلى أنهم قالوا: { ربنا الله } من بعد استقامة الإيمان في قلوبهم، { ثم استقاموا } بجوارحهم على أركان الشريعة، وبأخلاق نفوسهم على آداب الطريقة بالتزكية، وبأوصاف القلوب على التصفية، وبتوجيه الأرواح على التحلية بالتخلق بأخلاق الحق؛ فقالوا: { ربنا الله } باستقامة الإيمان، { ثم استقاموا } بالنفوس على أداء الأركان، وبالقلوب على الإبقاء، وبالأسرار على العرفان، وبالأرواح على الإحسان، وبالإخفاء على العيان، وبالحق على الفناء بأنانيتهم والبقاء بهويته؛ { فلا خوف عليهم } [الأحقاف: 13] بالانقطاع، { ولا هم يحزنون } [الأحقاف: 13] على ما فات لهم من خطاب الدارين، { أولئك أصحاب الجنة } [الأحقاف: 14] جنة الوحدة { خالدين فيها } [الأحقاف: 14]، فانين عن الاثنينية باقين بالوحدة { جزآء بما كانوا يعملون } [الأحقاف: 14] في استقامة الأعمال مع الأقوال.
[46.15-18]
وبقوله: { ووصينا الإنسان بولديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها } [الأحقاف: 15]، يشير إلى رعاية الحق الوالدين على جهة الاحترام، لما عليه لهما من حق التربية والإنعام؛ ليعلم أن رعاية حق الله تعالى على جهة التعظيم، لما عليه له في حق الربوبية، وأنعام الوجود أحق وأولى وفي إثبات حق الوالدين، قال: { وحمله وفصله ثلثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } [الأحقاف: 15]، فحق من كان في شأنه بالتقدير والقسمة والخلق والخلق والرزق والأجل، حتى إذا بلغ أشده في النبوة في الولاية والإيمان والإسلام من الأزل إلى الأبد أثبت وأعظم، كما أشار إلى هذا المعنى.
بقوله: { قال رب أوزعني } [الأحقاف: 15]، وفقني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صلحا ترضه } [الأحقاف: 15]، فيه إشارة إلى ألا يمكن للعبد أن يعمل عملا يرضى به ربه إلا بتوفيقه وإرشاده.
وبقوله: { وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين } [الأحقاف: 15]، يشير إلى أن صلاحية الآباء تورث الصلاحية للأبناء.
وبقوله: { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } [الأحقاف: 16]؛ يعني: الأبناء على جزاء ما أحسنوا مع الآباء، يشير إلى أن بر الوالدين إذا كان مشروطا بقبول الطاعة ، والتجاوز عن السيئات موعود بنعيم الجنات، فكيف لمن يؤدي حقوق الربوبية بالقيام بحق العبودية؛ فيفني ناسوتيته في لاهوتية ربه - تبارك وتعالى - فهل له جزاء إلا ما وعده ربه جل جلاله بقوله:
" كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا.... "
الحديث.
وبقوله: { والذي قال لوالديه أف لكمآ.... } [الأحقاف: 17] الآية، يشير إلى ذم الذين اتصفوا في حقهما بالتأفيف، وفي ذلك تنبيه على ما وراءها من التأفيف، فحكم أن صاحبه من أهل الخسران، والخسران نقصان في الإيمان؛ فكيف بمن خالف مولاه، وبالعصيان أداء كما قال: { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [الأحقاف: 18].
[46.19-23]
وبقوله: { ولكل درجت مما عملوا وليوفيهم أعملهم وهم لا يظلمون } [الأحقاف: 19]، يشير إلى أن من منة الله أن يجازي على حسب أعمالهم من الخير والشر، ولكل واحد من السعادة والشقاوة، وبحسب أعمالهم ونياتهم فيها منازل يبلغونها، وهم لا يظلمون في التوفية.
ثم أخبر عن آثار أهل النار بقوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } [الأحقاف: 20]، يشير إلى أن للنفس طيبات من الدنيا الفانية، وللروح طيبات من الآخرة الباقية، من اشتغل باستيفاء طيبات نفسه في الدنيا يحرم في الآخرة من استيفاء طيبات روحه؛ لأن في طلب استيفاء طيبات النفس إبطال استعداد الروح في استيفاء طيباته في الآخرة مودعة، وفي ترك استيفاء طيبات النفس في الدنيا كمالية استعداد الروح في استيفاء طيبات في الآخرة مودعة؛ فلهذا يقال لأرباب النفوس: { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق } [الأحقاف: 20]، بأنكم استكبرتم في قبول دعوة الأنبياء في ترك شهوات النفس واستيفاء طيباتها؛ لئلا تضيع طيبات أرواحكم، { وبما كنتم تفسقون } [الأحقاف: 20] تخرجون من أوامر الحق ونواهيه، ويقال للروح وأرباب القلوب:
كلوا واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم
[الحاقة: 24] في الأيام الخالية، ولما كانت نفوسهم تاركة لشهواتها بتبعية الروح، يقال لهم:
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم
[فصلت: 31]؛ أي: من نعيم الجنة فإنها من طيباتها وتلذ الأعين، وهو مشاهدة الجمال والجلال وهي طيبات الروح.
وبقوله: { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الأحقاف: 21]، يشير إلى أن كل نبي بعث لإنذار قومه: { ألا تعبدوا إلا الله }؛ أي: لا تعبدوا النفس وهواها وشهواتها الدنيوية؛ لكي لا يذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا، فإن فيها عذابا عظيما عظيما، وهو: فوت الدرجات والقربات، ونيل الدركات بإتباع الشهوات.
وبقوله: { قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا } [الأحقاف: 22]، يشير إلى طباع النفوس المتمردة، التي اتخذت هواء نفسها وشهوات الدنيا، وزينتها آلهة يعبدونها، فمن تدعوهم منها إلى الله وقربه ومعرفته يجيبونه من غاية جهلهم، وكمال شقاوتهم: أجئتنا لتعرضنا بالإفك عن ألهتنا، { فأتنا بما تعدنآ } [الأحقاف: 22] من العقاب والثواب، { إن كنت من الصادقين } [الأحقاف: 22]، إن عبادة الهوى تورث العذاب العظيم، وإن عبادة الإله تورث الثواب العظيم.
{ قال } [الأحقاف: 23] أرباب القلوب: { إنما العلم عند الله } [الأحقاف: 23]، من يكون أهلا للثواب ومن يكون أهلا للعقاب، وكما أن الطبيب الحاذق يعلم بنبض المريض أنه فيم علاجه، ومتى ما يصلح للمريض من الأشربة والمغامن الموافقة له في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال، وإنما أنا مبلغ { وأبلغكم مآ أرسلت به } [الأحقاف: 23] من الأنوار، { ولكني أراكم قوما تجهلون } [الأحقاف: 23] الصواب من الخطأ والصلاح من الفساد خير أدلكم على الرشاد.
[46.24-26]
{ فلما رأوه عارضا } ، فيه إشارة إلى أنه تعرض في سماء القلوب تارة عارض يعرض { مستقبل أوديتهم } [الأحقاف: 24]، فيمطر مطر الرحمة يحي به الله أرض البشرية، فينبت منها الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة، وتارة يعرض عارض { قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به } [الأحقاف: 24] بسوء أخلاقكم وفساد أعمالكم، { ريح فيها عذاب أليم } [الأحقاف: 24].
{ تدمر كل شيء } [الأحقاف: 25]، تدمر كل شيء من الأخلاق الحميدة { بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } [الأحقاف: 25]؛ أي: أشخاصهم خالية عن الأخلاق والآداب والأعمال الصالحة، وقلوبهم فارغة من الصدق والإخلاص والرضاء والتسليم، { كذلك نجزي القوم المجرمين } [الأحقاف: 25]، المعرضين عن الحق المقبلين على الباطل.
ثم أخبر عن تبيين أهل التمكن بقوله تعالى: { ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } [الأحقاف: 26]، يشير إلى أن هذه الآلات أسباب تحصيل التوحيد، ولكن لمن يشأ الله به خيرا، { فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } [الأحقاف: 26]؛ أي: من التوحيد؛ إذ لم يشأ الله بهم خيرا ما جحدوا وما استهزءوا.
[46.27-31]
{ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات } [الأحقاف: 27]، التي تعتبر بها { لعلهم يرجعون } [الأحقاف: 27] عن كفرهم إلى التوحيد بهذه الدلالات والعبارات؛ لأنها أسباب الرجوع إلى الحق والتوحيد لم يرجع واحد منهم؛ ليعلم أن الهداية بيد الله يؤتيها من يشاء كما قال:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها
[السجدة: 13].
بقوله: { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة } [الأحقاف: 28]، يشير إلى الأسباب التي اتخذوها من دون الله من التعبد؛ أي: المختلفة التي تقربوا بها هل نصرهم في الاهتداء، { بل ضلوا عنهم } [الأحقاف: 28]؛ أي: بل ضلت الأسباب عنهم عند الاهتداء فلم ينفعوهم، { وذلك إفكهم } [الأحقاف: 28]؛ أي: ظنهم الذي أفترته نفوسهم إفكا، { وما كانوا يفترون } [الأحقاف: 28]، أن الأسباب والمعاملات شركاء الله في الهداية.
ثم أخبر عن اهتداء الحق بهداية الله، مع أنهم أبعد عن قبول الهدى من الإنسان بقوله تعالى: { وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن } [الأحقاف: 29]، يشير إلى صرف نفر الجن الصفات الذميمة النفسانية الظلمانية إلى الروح النوراني وهي سبعة، كما أن نفر الجن سبعة: الكبر والبخل والغضب والشهوة والحرص والحسد والحقد، { يستمعون القرآن } [الأحقاف: 29]؛ أي: يستمعون إلهام الحق تعالى الذي يلهم به الروح، { فلما حضروه } [الأحقاف: 29] بإحضار الله وصرفهم إليه، { قالوا أنصتوا } [الأحقاف: 29]، فلما انعكس نور حضور الروح، ألهمهم بإلهام الحق على الصفات الذميمة أسكنهم عن إظهارها؛ فإن أهل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار والنوران، والهيجان والانزعاج يدل على غيبة أو قلة بقضاء، ونقصان من الإطلاع، { فلما قضي } [الأحقاف: 29]؛ أي: فرغ من تصرفات الإلهام الرباني، { ولوا إلى قومهم } [الأحقاف: 29] وهم المتولدات من الصفات الذميمة، وهي الأخلاق السنية { منذرين } [الأحقاف: 29]؛ أي: مجزين الأخلاق بلسان التصرف.
{ قالوا يقومنآ إنا سمعنا كتابا } [الأحقاف: 30]؛ أي: إلهاما ربانيا { أنزل من بعد موسى } [الأحقاف: 30] بعد إنزاله على موسى الروح أنزل على محمد القلب { مصدقا لما بين يديه } [الأحقاف: 30] من الكتب المنزلة، { يهدي إلى الحق } [الأحقاف: 30]، ويخرج من الباطل { وإلى طريق مستقيم } [الأحقاف: 30] إلى مقعد صدق
عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
{ يقومنآ أجيبوا داعي الله } [الأحقاف: 31] باستعمال الأعضاء والجوارح في الأعمال الصالحة الشرعية، وتهذيب الأخلاق وتزكية الأوصاف { وآمنوا به } [الأحقاف: 31]؛ أي: بالإلهام الداعي إلى الله { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } [الأحقاف: 31]؛ أي: بتبديل الأخلاق من السيئة إلى الحسنة.
[46.32-35]
{ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض } [الأحقاف: 32]؛ أي: ومن لم يبدل أخلاقه بترك الدنيا والرغبة في الآخرة والتوجه إلى الله، فليس الله بعاجز في إخراجه من الدنيا { وليس له من دونه أوليآء } [الأحقاف: 32] لينقذوه من النار، { أولئك في ضلال مبين } [الأحقاف: 32]، ومأوى أهل الضلال السعير.
ثم أخبر عن قدرة إحياء الموتى هدى لأهل النهي بقوله تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلق السموت } [الأحقاف: 33]، يشير إلى سماوات القلوب { والأرض } [الأحقاف: 33]، أرض النفوس، { ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } [الأحقاف: 33]، فيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق سماوات القلوب حية بحياة روحانية، لكنها ميتة من حياة ربانية، وليس لشيء غير الإنسان هذه الكرامة أن يحيه الله بالنور الرباني، كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
[الأنعام: 122]، { بلى إنه على كل شيء قدير * ويوم يعرض الذين كفروا على النار } [الأحقاف: 33-34]، يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة { أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب } [الأحقاف: 34]؛ أي: العذاب الذي كنتم به معذبين في البعد والقطيعة وإفساد الاستعداد الأصلي لقبول الكمالات وبلوغ القرب، ولكن ما كنتم تذوقون مرارة ذلك العذاب وحرقته؛ لغلبة الحواس الظاهرة وكلالة الحواس الباطنة { بما كنتم تكفرون } [الأحقاف: 34]، تسترون الحق بالباطل.
وبقوله: { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [الأحقاف: 35]، يشير إلى صبر من كان قصده وعزمه إلى الله، فيصبر عما سواه ما يحجبه عن الله، ويصير على مقاساة ما يوصله إلى الله كما قيل لبعضهم بما وجدت ما وجدت قال: بعزيمة كعزيمة الرجال، وأولوا العزم من لا يكون في عزمه مسخ ولا في طلبه نسخ، ثم قال: { ولا تستعجل لهم } [الأحقاف: 35]؛ أي: العذاب ومهلهم؛ لتستعدوا بالتمتعات الحيوانية للعذاب العظيم، فإني أمهلهم رويدا { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } [الأحقاف: 35] من ذوق العذاب { لم يلبثوا } [الأحقاف: 35] في التمتع بنعيم الدنيا { إلا ساعة من نهار } [الأحقاف: 35]؛ لشدة ألم العذاب الروحاني بالنسبة إلى التنعم الجسماني، ثم قال: { بلاغ } [الأحقاف: 35]، إن هذه الإشارة بلاغ من الله إلى أهل الله وطالبيه، فإن العبد يضرب بالعصا والحر تكفيه الإشارة { فهل يهلك } [الأحقاف: 35] على الله { إلا القوم الفاسقون } [الأحقاف: 35]، الذين خرجوا من عزم طلبه إلى طلب ما سواه.
[47 - سورة محمد]
[47.1-4]
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } [محمد: 1]، يشير إلى كفر النفوس المجبولة عليه وضد القلوب المجبولة على طلب الحق عن السير في سبيل الله، بالهواجس النفسانية ودواعي البشرية والشهوات الحيوانية { أضل أعملهم } [محمد: 1]؛ أي: أضل الله أعمالهم ليكون في طلب الحق تعالى، ويجعلها في إتباع الهوى وطلب الدنيا وزينتها وشهواتها.
{ والذين آمنوا } [محمد: 2] بالله، { وعملوا الصالحات } [محمد: 2] في طلب الله، { وآمنوا بما نزل على محمد } [محمد: 2] من بيان السير إلى الله والدلالات إلى الحق، { وهو الحق من ربهم } [محمد: 2]؛ أي: أمنوا بأنه الحق وعملوا به في طلب الحق، { كفر عنهم سيئاتهم } [محمد: 2]؛ أي: محا وصقل عن مرآة قلوبهم صدأ الكفر والإنكار، { وأصلح بالهم } [محمد: 2]؛ أي: أصلح قلبهم؛ ليكون قابلا للفيض الإلهي بلا واسطة.
{ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } [محمد: 3] وهو الهوى والدنيا، { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } [محمد: 3]، وهو صدق الطلب بجهاد النفس ومخالفة الهوى بجذبة الحق تعالى، { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } [محمد: 3]؛ ليهتدوا بالمثال المطابق في الصورة إلى حقائق عالم المعالي.
وبقوله: { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } [محمد: 4]، يشير إلى كافر النفس حيثما وجدتموه، وهو يمد رأسه إلى مشرب من مشارب الدنيا ونعيمها، فضرب الرقاب؛ أي: فاضربوا عن ذلك الرأس، وادفعوه عن ذلك المشرب، { حتى إذآ أثخنتموهم } [محمد: 4]؛ أي: غلبتموهم وسخرتموهم، { فشدوا الوثاق } [محمد: 4]؛ أي: شدوهم بوثاق أركان الشريعة وآداب الطريقة، فإن بهذين الجناحين يطير صاحب الهمم العلية إلى عالم الحقيقة، { فإما منا } [محمد: 4] على النفوس { بعد } [محمد: 4] الوصول بترك المجاهدة، { وإما فدآء } [محمد: 4] بكثرة العبادة؛ عوضا عن ترك بعد الظفر بالنفوس؛ ولتأمل النفوس بسيف المخالفة، فإن في مذهب أرباب الطلب يجوز كل ذلك بحسب نظر كل مجتهد، فإن كل مجتهد منهم نصيب { حتى تضع الحرب أوزارها } [محمد: 4] إلى أن يقصد القاصد المقصود، ويجد الطالب المطلوب، ويصل العاشق المعشوق، فإن جرى على النفس بعد الظفر بها مسامحة في إعفاء ساعة وإفطار يوم؛ ترويحا للنفس من الكد وإحماءها للحواس، قوة لها على الجهد فيما يستقبل من الأمر، فذلك على ما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد، أو فتوى لسان القوم أو فراسة صاحب الوقت، { ذلك } [محمد: 4] الذي ذكرت من طرف العبد، { ولو يشآء الله لانتصر منهم } [محمد: 4]؛ يعني: بقهر النفس يتجلى صفات الجلال بغير سعي المجاهدة في القتال، { ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا } [محمد: 4]؛ يعني: في النفوس { في سبيل الله } [محمد: 4] في طلب الحق تعالى، { فلن يضل أعمالهم } [محمد: 4] من بذل الوجود في طلب المعبود.
[47.5-11]
{ سيهديهم } [محمد: 5] إلى حضرة الربوبية بجذبة
ارجعي إلى ربك
[الفجر: 28] { ويصلح بالهم } [محمد: 5] أي: يجعلهم قابضي فيض الإلوهية { ويدخلهم الجنة عرفها لهم } [محمد: 6]؛ أي: بالجذبة عرف النفوس قبول الفيض الإلهي.
ثم أخبر أن النصر في النصرة بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [محمد: 7]، يشير إلى أنكم إن وجدتم في أنفسكم شيئا يحرضكم على نصرة الله، فذلك من أثر نصرة الله إياك، فإنه قد نصركم بالتوفيق لنصرة الحق، فأما نصرة الله من العبد على وجهين: صورة ومعنى.
أما نصرته في الصورة: نصرة دينه بإيضاح الدليل وتبينه، وشرح فرائضه وسننه وإظهار معانيه وأسراره وحقائقه، ثم بالجهاد والغزو لإعلاء كلمته وقمع أعداء الدين.
وأما نصرته في المعنى: فبإفناء ناسوتيته في لاهوتيته؛ ليبقى بعد فناء خلقه.
وأما نصرة الله للعبد أيضا على وجهين: صورة ومعنى.
أما نصرته للعبد في الصورة: فبإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإظهار الإعجاز والآيات، وبتبيين السبل إلى النعيم والجحيم وحضرة الكريم، ثم بالأمر؛ أي: وأمر في الجهاد الأصغر والأكبر، وتوفيق المسعى فيهما طلب الرضاء لا تبعا لهواه، وبإظهاره على أعداء الدين وقهرهم في إعلاء كلمة الله العليا.
وأما نصرته للعبد في المعنى: فيأتيه أو يشده في إفناء وجوده الفاني في وجوده الباقي، بتجلي صفات جماله وجلاله، { ويثبت أقدامكم } [محمد: 7] في الجهاد الأصغر والأكبر؛ لئلا تزول عن التوحيد والوحدة، { والذين كفروا } [محمد: 8] من النفوس السائرة بالحق يقيم صفاتها الذميمة، { فتعسا لهم } [محمد: 8] طردا وبعدا من جوار الحق، { وأضل أعمالهم } [محمد: 8] عن طريق الحق والصواب، { ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله } [محمد: 9] من موجبات مخالفات النفس والهوى وموافقات الشرع ومتابعة الأنبياء، { فأحبط أعملهم } [محمد: 9]؛ لشوبها ما بالشرك والرياء والتصنيع والهوى.
{ أفلم يسيروا في الأرض } [محمد: 10] تسلكوا في أرض البشرية، { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [محمد: 10] من القلوب والأرواح، لما تابعوا الهوى وتأولوا بحب الدنيا { دمر الله عليهم } [محمد: 10]، وأهلكهم في أودية الرياء وبوادي البدعة والضلالة، { وللكافرين } [محمد: 10] النفوس اللئام في طلب المرام { أمثالها } [محمد: 10] من الضلال والهلاك.
{ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا } [محمد: 11]؛ أي: ناصرهم على طلب الحق ومؤيدهم بالوصول والوصال، { وأن الكافرين لا مولى لهم } [محمد: 11]؛ أي: ما هو بناصر لهم، فصاروا أهل الخذلان والخسران.
[47.12-15]
{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [محمد: 12]؛ إذ هو مولى لهم بنصرهم، { جنات } [محمد: 12] وهي جنات القلوب، { تجري من تحتها الأنهار } [محمد: 12] والفضائل والمناقب والمواهب، { والذين كفروا } [محمد: 12]؛ أي: النفوس المتمردة { يتمتعون } [محمد: 12] بمتاع الدنيا، { ويأكلون كما تأكل الأنعام } [محمد: 12]؛ للحظوظ النفسانية لا للحقوق الربانية، { والنار } [محمد: 12] نار القطيعة { مثوى لهم } [محمد: 12] مقام لهم.
{ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } [محمد: 13]، يشير به إلى روح الإنسان وقرية قالبه؛ أي: كم من قالب هو أقوى وأعظم من قالبك، الذي يخرج منه، { أهلكناهم } [محمد: 13] بالموت، { فلا ناصر لهم } [محمد: 13] في دفع الموت عنهم؛ فانتبه واعتبر.
{ أفمن كان على بينة من ربه } [محمد: 14] بإراءته آياته في الآفاق وفي نفسه، عند تصفية مرآة قلبه عن صدأ أخلاقه الذميمة النفسانية، فيكاشفه شواهد الحق معانيه، { كمن زين له } [محمد: 14] بتسويلات النفس، وإلقاء الشيطان وتزينه { سوء عمله } [محمد: 14] بالبدعة ومخالفة الشرع، { واتبعوا أهواءهم } [محمد: 14] في العقائد القلبية والأعمال القالبية.
وبقوله: { مثل الجنة التي وعد المتقون فيهآ أنهار } [محمد: 15]، يشير إلى جنة قلوب أرباب الحقائق، الذين هم على بينة من ربهم، التي وعد من اتقى بربه عما سواه فيها أنهار { من مآء غير ءاسن } [محمد: 15]، وهو ماء حياة القلوب؛ فإنه لم يأسن بطول المكث، بل يزداد طيبه، { وأنهار من لبن } [محمد: 15]، وهو لبن الفطرة التي فطر الناس عليها، { لم يتغير طعمه } [محمد: 15] بحموضة الأهواء والبدع، { وأنهار من خمر لذة للشاربين } [محمد: 15]، وهي خمر الشوق والمحبة، كما قال شاربها:
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
{ وأنهار من عسل } [محمد: 15]، وهو عسل الوصال { مصفى } [محمد: 15]، عن كدر الملال بمشاهدة الجمال، منزهة عن المثل والمثال بلا زوال ولا انتقال، فمن الحس عسل اللقاء أنس على الدوام ببقائه، ولم يطلب مع بقائه شيئا آخر لا من عطائه ولا من لقائه؛ لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه، { ولهم فيها } [محمد: 15] في جنة القلوب { من كل الثمرات } [محمد: 15]، التي جنت أرباب الحقائق من شجرة الكلمة الطيبة، { ومغفرة من ربهم } [محمد: 15]، يغفر عنهم ذنب وجودهم، { كمن هو خالد في النار } [محمد: 15]؛ أي: مثل أرباب اللقاء - كما مر ذكرهم - كمثل أصحاب الشقاء وخلودهم في نار الجفاء، { وسقوا مآء حميما } [محمد: 15] من عين الهجران بكأس الخذلان { فقطع أمعآءهم } [محمد: 15] من الحرمان.
[47.16-19]
ثم أخبر عن وفاق أهل النفاق بقوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا } [محمد: 16]، يشير إلى أهل الأهواء، الذين هم بمعزل عن السمع الروحاني، إذا طبع الله على قلوبهم بكفرهم، فأصمهم الله وأعمى أبصارهم، فلا يسمعون دعوة الحق ولا يفهمون، لو يستمعون إليه بسمع الظاهر؛ لأنهم كما قال تعالى: { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوآءهم } [محمد: 16]، فضلوا عن سبيل الله.
{ والذين اهتدوا } [محمد: 17] إلى طريق الحق، فاستمعوا إلى دعوة الحق { زادهم هدى } [محمد: 17] في طلب الحق، { وآتاهم } [محمد: 17] ربهم { تقواهم } [محمد: 17]، وهو الاتقاء بالله عما سواه، بل اهتدوا بأنواع المجاهدات، فزادهم هدى بأنوار المشاهدات { فهل ينظرون إلا الساعة } [محمد: 18]؛ أي ساعة الوصال { أن تأتيهم بغتة فقد جآء أشراطها } [محمد: 18]، وهي غلبات الشوق وصدق الطلب؛ فإنه من شرط الوصال كما قال:
" ألا من طلبني وجدني "
، { فأنى لهم إذا جآءتهم } [محمد: 18]، ساعة الوصال { ذكرهم } [محمد: 18] ببقاء الوجود؛ لأنه من كمال كشف الحقيقة.
{ فاعلم أنه لا إله إلا الله } [محمد: 19]؛ أي: فاعلم بعلم اليقين ألا إله بغير اليقين إلا الله بحق اليقين، فإذا تجلى بصفة علمه الذاتي للجهولية الذاتية للعبد تفنى ظلمة جهوليته بنور علمه، فيعلم بعلم الله ألا موجود إلا الله، فهذا مظنة حسبان العبد أن العالم بعلم الله أنه لا إله إلا الله، كما قال الله
وما قدروا الله حق قدره
[الأنعام: 91]؛ لعلمه، فقيل: { واستغفر لذنبك } [محمد: 19]؛ إذ حسبت أنك العالم بوحدانية الله؛ لأن من وصفه تعالى أنه لا يعلمه إلا هو، كما أنه لا إله إلا هو، واستغفر لذنبك { وللمؤمنين والمؤمنات } [محمد: 19] بأنهم يحسبون أنهم يحسنوا علم لا إله إلا الله، فإن من وصفه ما قدروا الله حق قدره.
{ والله يعلم متقلبكم } [محمد: 19]؛ أي: متقلب كل روح في العدم بوصف خاص إلى عالم الأرواح في مقام مخصوص، { ومثواكم } [محمد: 19]؛ أي: مثوى كل روح إلى أسفل سافلين، والقالب بوصف خاص إلى عالم الأرواح، ثم متقلبه من أسفل السافلين القالب بالإيمان والعمل الصالح، أو بالكفر والعمل الصالح إلى الدرجات الروحانية والدركات النفسانية، ثم مثواه إلى عليين القرب المخصوص به، أو إلى سجين البعد المخصوص به مثاله، كما أن لكل حجر ومدد وشجر وحصب يبنى به دارا متقلبا مخصوصا، وموضعا من الدار مخصوصا به لا يشارك شيئا آخر متقلب؛ ليوضع فيه شيء أخر، كذلك لكل روح متقلب مخصوص به ومثوى مخصوص به، لا يشارك فيه أحدا.
[47.20-25]
ثم أخبر عن أمارة أهل الوفاق وأهل النفاق بقوله تعالى: { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } [محمد: 20]؛ يعني: نأمر بالجهاد، يشير إلى أن من أمارات الإيمان تمني الجهاد؛ شوقا إلى لقاء الله عز وجل.
وبقوله: { فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } [محمد: 20]، يشير إلى أن من أمارات الكفر والنفاق كراهية الجهاد كراهة للموت، كما أن من أمارات الإيمان تمني الموت، كما قال تعالى:
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[الجمعة: 6]، وقال الكفار ولا يتمنوه أبدا، { فأولى لهم } [محمد: 20]؛ أي: فأولى بهم { طاعة } [محمد: 21] منهم لله ولرسوله { وقول معروف } [محمد: 21]، بالإجابة لما أمروا بالجهاد، { فإذا عزم الأمر } [محمد: 21]؛ أي: جد الأمر وافترض القتال في الجهادين.
وبقوله: { فهل عسيتم إن توليتم } [محمد: 22]، يشير إلى أرباب الطلب وأصحاب المجاهدة، إن أعرضتم عن طلب الحق تعالى: { أن تفسدوا في الأرض } [محمد: 22]، أرض قلوبكم بإفساد استعدادها لقبول الفيض الإلهي، { وتقطعوا أرحامكم } [محمد: 22] مع أهل الحب في الله؛ فتكونوا في سلك { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } [محمد: 23].
وهذا كما قال الجنيد: لو أقبل صديق على الله ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله، { أفلا يتدبرون القرآن } [محمد: 24]، فإن فيه شفاء من كل داء؛ ليقضي بهم إلى حسن العرفان، ويخلصهم من سجن الهجران، { أم على قلوب أقفالهآ } [محمد: 24]، أقفل الحق على قلوب أهل الهوى، فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، ولا يحصل لهم فهم الخطاب، وإذا كان الباب مقفلا فلا الشك والإنكار الذي فيها يخرج، ولا الصدق واليقين الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم.
وبقوله تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } [محمد: 25]، يشير إلى الذي يطلع فجر طلبه، ويتلألأ نور التوحيد في قلبه، ثم قبل سوغ نهار إيمانه تغيم سماء قلبه من منشأ نزعات الشيطان وتسويلاته، وانكسف شمس طلبه، وأظلم نهار عرفانه، ودجى ليل سكره، وغابت نجوم عقله؛ فحدث عن بحر ظلماتهم ولا حرج.
[47.26-29]
{ ذلك } [محمد: 26]؛ أي: ذلك التراجع { بأنهم } [محمد: 26]؛ أي: بأن القلوب لما مالت إلى النفوس وذاقت من مشاربها، { قالوا للذين كرهوا ما نزل الله } [محمد: 26]، من الواردات وهم النفوس، { سنطيعكم } [محمد: 26] نوافقكم { في بعض الأمر } [محمد: 26] من حب الرئاسة وقبول الخلق، { والله يعلم إسرارهم } [محمد: 26] عاملهم بحب تغير أحوالهم وزيغ قلوبهم، كما قال الله تعالى:
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
[الصف: 5] فسدت بصائرهم وغطت أسرارهم، وليس عليهم وجه التحقيق.
{ فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [محمد: 27]، يقلبون وجوههم عن الحق، ويقلبونها عن السفليات ويديرونها عن العلويات، { ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله } [محمد: 28]، وهو الإعراض عن الحق تعالى والإقبال على الباطل في الدنيا وشهواتها، { وكرهوا رضونه } [محمد: 28] وهو مخالفات النفس والهوى، وترك الدنيا وموافقات الشرع ومتابعة الأنبياء؛ { فأحبط أعملهم } [محمد: 28]، إذا تغيرت أحوالهم.
ثم أخبر عن مرض أصحاب الغرض بقوله تعالى: { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم } [محمد: 29]، يشير إلى أن من مرض القلوب الحسبان الفاسد والظنون الكاذبة، فظنوا أن الله لا يطلع على خبث عقائدهم ولا يظهره على رسوله، ليس الأمر كما توهموه؛ بل الله تعالى فضحهم وكشف تلبيسهم، ولقد أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وعرفه أعيانهم.
[47.30-34]
وقال: { ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم } [محمد: 30]، بإراءته الحق تعالى إياه، وقال: { ولتعرفنهم في لحن القول } [محمد: 30]؛ أي: في معنى الخطاب؛ لأنك تنظر بنور الله فترى منشأ كلامهم، فيخبرك سرائرهم عن ضمائرهم، وأن الأسرة لتدل على السريرة؛ فالمؤمن ينظر بنور الفراسة، والعارف ينظر بنور التحقيق، والنبي ينظر بالله فلا يستتر عليه شيء، { والله يعلم أعمالكم } [محمد: 30] إنها صادرة بخباثة نياتكم.
وبقوله: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم } [محمد : 31]، يشير إلى أن البلاء مخلص إبريز الولاء، كما قيل: البلاء للولاء كاللهب للذهب، فإن بالابتلاء والامتحان يتبين جواهر الرجال؛ فيظهر المخلص، ويفضح المارق، وينكشف المنافق، ويتميز الموافق، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان.
وفي قوله تعالى: { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } [محمد: 31]، إشارة إلى أننا نعلمكم، ونكشف لكم من المجاهد الصابر منكم، وبالابتلاء نخبركم عن جواهركم أنها من السعداء والأشقياء، وإلا نحن عالمون بخالص جواهركم من الأزل إلى الأبد؛ لأنا خلقناها على أوصافها،
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
[الملك: 14]، فيتغير أحوال جواهركم في الأمة، فإن المختلفة لا تظنوا تغير علمنا، فإذا يراكم في حالة واحدة، وتغيرات أحوالكم كلها كما هي؛ بحيث لا يشغلنا حالة عن حالة.
{ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } [محمد: 32]؛ أي: أنكروا بعد أن أقروا، وقطعوا الطريق على الطالبين، { وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى } [محمد: 32] بشواهد الحق، فلم يعرفوا قدرها ولم يؤدوا حقها، أخذوا بكفران النعمة وأمهلوا بالخذلان فتقاعدوا عن الخدمة، { لن يضروا الله شيئا } [محمد: 32]، وإنما أضروا بأنفسهم { وسيحبط أعمالهم } [محمد: 32]، لا ينتفعون بها في الدارين.
ثم أخبر عن الطاعة بقدر الاستطاعة بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } [محمد: 33]، يشير إلى أن عمل وطاعة لم يكن بأمر الله وسنة رسوله، فهو باطل لم يكن له ثمرة؛ لأنه صدر عن الطبع والطبع ظلماني، وإنما جاء الشرع وهو نوراني؛ ليزيل ظلمة الطبع بنور الشرع، فيكون ثمرا وثمرته أن يخرجكم من الظلمات إلى النور؛ أي: من ظلمات الطبع إلى نور الحق.
{ إن الذين كفروا } [محمد: 34] من النفوس المتمردة، { وصدوا } [محمد: 34]، القلوب { عن سبيل الله } [محمد: 34] وطلبه، { ثم ماتوا وهم كفار } [محمد: 34] على طبيعتهم، { فلن يغفر الله لهم } [محمد: 34] في الآخرة؛ لأنهم ماتوا على الكفر؛ فيحشرون على ما ماتوا عليه.
[47.35-38]
{ فلا تهنوا } [محمد: 35] في جهاد النفس، { وتدعوا إلى السلم } [محمد: 35]؛ أي: تدعوا النفس إلى الصلح، فإن من صالح نفسه وترك جهاده لن يفلح أبدا، { وأنتم الأعلون } [محمد: 35]، يخاطب القلوب والأرواح العلوية، ولكم القوة الروحانية، { والله معكم } [محمد: 35] بالنصر؛ إذ تجاهدون النفس السفلية الضعيفة في الله، { ولن يتركم أعمالكم } [محمد: 35] لن ينقصكم أجوركم؛ لأنه لا يظلم مثقال ذرة،
وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء: 40]، بالغوا في العبودية وسارعوا في طلب الحق تعالى.
ولا تغتروا بالدنيا وزينتها، { إنما الحيوة الدنيا } [محمد: 36] عند أرباب النظر وأصحاب الطلب { لعب ولهو } [محمد: 36]، مخصوصة بالفناء، مجبولة على التعب والنصب والبلاء والعناء، { وإن تؤمنوا } [محمد: 36] بطلب الحق، { وتتقوا } [محمد: 36] بالحق عما سواه، { يؤتكم أجوركم } [محمد: 36] بالتقرب إليكم على حسب تقربكم إليه؛ فإن تقربتم إليه شبرا يتقرب إليكم ذراعا، وإن جئتم إليه وأنتم تمشون يجئ إليكم وهو يهرول كما يليق بذاته وصفاته، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وبقوله: { ولا يسألكم أمولكم } [محمد: 36]، يشير إلى المؤمنين من أهل الجنة أنه تعالى لا يسألكم جميع أموالكم ليدخلكم الجنة، بل بأداء الزكاة الواجبة يرضى عنكم لدخول الجنة، وهذا لمن يوق شح نفسه، فأما الأحرار عن ذوق الكونين ومن علت رتبتهم في طلب الحق تعالى؛ فلا يسامحون في استيفاء ذرة، ويطالبون ببذل الروح والتزام الغرامات، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، بل يقال لهم: { إن يسألكموها فيحفكم } [محمد: 37]، به يشير إلى الطالب الصادق، والعاشق الوامق الذي لا ترضى عنه الآية؛ فيخفى في السؤال كذلك أن يسأل الله، فيحفي لا يرضى منه إلا ببذل الوجود إفناء الناسوتية في لاهوتية، وهذا مقام أخص الخواص، وقال للعوام: أن يسألكموها { فيحفكم تبخلو } [محمد: 37] ببذل الوجود؛ لقصور همتكم في طلب المقصود ولجهلكم عن كمال المفقود.
ثم قال لأرباب الهمم العلية في طلب المواهب السنية: { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا } [محمد: 38] في حقيقة الوجود الكلي لنيل المقصود الكلي، فمنكم من يتجلى { في سبيل الله } [محمد: 38] ببذل الوجود، { فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } [محمد: 38]؛ لأنه بخل بوجود مجازي، فإنه حرم عن وجود حقيقي باق، { والله الغني } [محمد: 38] لذاته بذاته، ومن غناه تمكنه من تنفيذ مراده ، واستغناؤه عن سواه، { وأنتم الفقرآء } [محمد: 38] إلى الله في الابتداء؛ ليخلقكم في الوسط ليربيكم في الانتهاء ليغنيكم عن أنانيتكم، ويبقيكم بهويته، والله غني عنكم من الأزل إلى الأبد، وأنتم الفقراء يحتاجون إليه من الأزل إلى الأبد.
وبقوله تعالى: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } [محمد: 38]، يشير إلى أن الإنسان خلق ملولا غير ثابت في طلب الحق تعالى، وإن من خواصهم: من يرغب في طلب الحق تعالى بالجد والاجتهاد من حسن استعداده الروحاني، ثم في أثناء السلوك بمجاهدة النفس ومخالفة هواها بظمأ النهار وسهر الليل تمل النفس من مكايدة الشيطان وطلب الرحمن، فيتولى عن الطلب بالخذلان وابتلي بالكفران؛ إذ لم يكن مستعانا بجذبة العناية، فما أمكنه حسن الرعاية، فالله تعالى قادر على أن يستبدل به قوما آخرين في الطلب صادقين، وعلى قدم العبودية ثابتين، وقد أدركتهم جذبات العناية موفقين للهداية، وهم أشد رغبة وأعز رهبة منكم، { ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد: 38] في الإعراض بعد الإقبال، والإنكار بعد الإقرار، وترك الشكر والوفاء بأن يكونوا خيرا منكم من جميع الأحوال؛ إظهارا للقدرة على ما يشاء والحكمة فيما يشاء.
[48 - سورة الفتح]
[48.1-5]
{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } [الفتح: 1]، يشير إلى فتح باب قلبه صلى الله عليه وسلم إلى حضرة ربوبيته بتجلي صفات جماله وجلاله، وفتح ما انغلق على جميع القلوب، وتفصيل شرائع الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه؛ { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } [الفتح: 2]؛ أي: ليستر لك بأنوار جلاله ما تقدم من ذنب وجودك من بدء خلق روحك، وهو أول شيء تعلقت به القدرة، كما قال:
" أول ما خلق الله روحي "
، وفي رواية:
" نوري ".
{ وما تأخر } [الفتح: 2]؛ أي: من ذنب وجودك إلى الأبد، وذنب الوجود هو إلى الأبد، وذنب الوجود هو الشركة في الوجود وغفره ستره بنور الوحدة؛ لمحو آثار ظلمة الاثنينية، { ويتم نعمته عليك } [الفتح: 2]، وهي نور وحدانيته كما قال تعالى:
والله متم نوره
[الصف: 8]؛ ولهذا سماه الله نورا بقوله:
قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين
[المائدة: 15].
{ ويهديك صراطا مستقيما } [الفتح: 2]؛ أي : يهديك بجذبات ألطافه على صراط مستقيم عنايته إلى ذاته وصفاته، { وينصرك الله نصرا عزيزا } [الفتح: 3]؛ أي: ينصرك ببذل وجودك المجازي في وجوده العزيز الحقيقي.
{ هو الذي أنزل السكينة } [الفتح: 4] من أنوار ولاية نبوته { في قلوب المؤمنين } [الفتح: 4] بتوجه قلوبهم إلى الإيمان بنبوته؛ { ليزدادوا إيمنا } [الفتح: 4]؛ أي: إيمانا بنبوته { مع إيمنهم } [الفتح: 4] بالله، والسكينة: ما يسكن إليه القلب من أنوار الإيمان والإيقان والعرفان بالدلائل والبرهان والعرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين { ولله جنود السموت والأرض } [الفتح: 4]؛ أي: كلها دالة على وحدانيته، وهي جنود الله بالنصرة لعباده بالظفر بمعرفته، { وكان الله عليما } [الفتح: 4] بمن هو أهل النصرة للمعرفة { حكيما } [الفتح: 4] فيما حكم في الأزل لهم.
{ ليدخل المؤمنين والمؤمنات } [الفتح: 5]؛ أي: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } [الفتح: 1]؛ ليغفر لك الله وليدخل المؤمنين والمؤمنات بتبعيتك { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم } [الفتح: 5] بستر ذنوبهم وبحطها عنهم، ويزكيهم عن أخلاقهم الذميمة كما فعل بك، { وكان ذلك عند الله } [الفتح: 5]، لهم { فوزا عظيما } [الفتح: 5]؛ إذ فازوا بالنعيم المقيم وجوار الله العظيم.
[48.6-9]
{ ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } [الفتح: 6] بذل الحجاب وسوء العقاب في الدارين، { الظآنين بالله ظن السوء } [الفتح: 6] في ذاته وصفاته بالأهواء والبدع، وفي أفعاله وأحكامه بالظلم والبعث، { عليهم دآئرة السوء } [الفتح: 6]؛ أي: عاقبه بالمساءة فيما اعتقده { وغضب الله عليهم } [الفتح: 6]؛ وغضبه: إرادته العقوبة لهم في الآخرة، وكون الشرك والنفاق في الدنيا، { ولعنهم } [الفتح: 6]، بعدهم من فضله حق فيهم كلمته، وسبقت من الله بالشقاوة قسمة، كما قال: { وأعد لهم جهنم وسآءت مصيرا } [الفتح: 6].
{ ولله جنود السموت والأرض } [الفتح: 7]، به يشير إلى ما أعد الله من عظائم فضله، وعجائب صنعه في سماوات القلوب وأرض النفوس، يمد بها أولياءه وينصرهم بها على أنفسهم؛ ليفوزوا بكمال قربه، ويخذل به أعداءه ويهلكهم في أودية الأهوية؛ ليصيروا إلى كمال بعده، { وكان الله عزيزا } [الفتح: 7] بذل أعدائه، { حكيما } [الفتح: 7] فيما يعز أولياءه.
ثم أخبر عن سر الرسالة إلى أهل الضلالة بقوله تعالى: { إنآ أرسلنك شهدا } [الفتح: 8]، يشير إلى أنه لما كان أول مخلوق خلقه الله تعالى كان شاهدا بوحدانية الحق تعالى وربوبيته، وشاهدا بما أخرج من العدم إلى الوجود من الأرواح والنفوس والأجرام والأركان والأجسام والمعادن والنبات والحيوان والملك والجن والشيطان والإنسان، وكل ما دب فيه روح؛ لئلا يشذ عنه مما يمكن للمخلوق دركه من أسرار أفعاله، وعجائب صنعه، وغرائب قدره بحيث لا يشاركه فيه غيره؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" علمت ما كان وما سيكون "
؛ لأنه شاهد الكل وما غاب لحظة، وشاهد خلق آدم عليه السلام ولأجله قال صلى الله عليه وسلم:
" كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد، أو كنت مخلوقا وعالما بأني نبي وحكم لي بالنبوة وآدم بين أن يخلق له روح ثم يخلق له جسد ولم يخلق بعد ".
واحد منهما شاهد: وأما ما جرى عليه في امتناع السجود لآدم من: الإكرام، والإخراج من الجنة بسبب المخالفة، وما تاب الله عليه... إلى آخر ما جرى عليه.
وشاهد: خلق إبليس، وما جرى عليه من: امتناع السجود لآدم، والطرد واللعن بعد طول عبادته ووفور علمه بمخالفة أمر واحد، فحصل له بكل حادثة جرت على الأنبياء والرسل والأمم فهوم وعلوم، فلما تحصل لروحه ما أمكنه حصوله من كمال العلم، والحال لكمال الربوبية الإلهية في عالم الأرواح، أراد أن يزداد نورا على نور، وأن يحصل كمالا على كمال إنزال روحه في قالبه على وجه المعروف، بعدما شرفه وفضله أقصى ما يمكن من الإكرام، ثم رباه بلبان العناية في حجر الهداية، إلى أن أرسله إلى الأحمر والأسود { شهدا ومبشرا } [الفتح: 8]، يبشر أمته أن لهم في متابعة الرتبة المحجوبة، التي هي مخصوصة به من بين سائر الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام - { ونذيرا } [الفتح: 8] لهم؛ لئلا ينقطعوا عنا شيئا من الدارين.
{ لتؤمنوا بالله } [الفتح: 9] إيمانا حقيقيا يوجب صدق الطلب { ورسوله } [الفتح: 9]، إيمانا يوجب متابعته بالشرط، { وتعزروه } [الفتح: 9] وتعينوه بصدق الطلب في المتابعة؛ لتبلغوا مقام المحبوبية، { وتوقروه } [الفتح: 9]؛ أي: تعظموه؛ فإن بالتعبد أن يصل العبد إلى الجنة، وبالتعظيم يصل إلى الله، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره بإتباع سنته في الظاهر والباطن، والعلم بأنه زبدة الوجودات وخلاصتها، وهو المحبوب الأزلي وما سواه تبع له.
وبقوله: { وتسبحوه بكرة وأصيلا } [الفتح: 9]، يشير إلى استغراق جميع الأوقات بالعبودية على وصف تنزيه الحق تعالى وغناه عن العالمين، ويرى العبد كل خير وطاعة يصدر منه أنه نعمة من نعيم ربه أنعم به عليه.
[48.10-11]
وبقوله: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [الفتح: 10]، يشير إلى كمال فناء وجوده صلى الله عليه وسلم في الله وبقائه بالله، فوقع بهذا المعنى بقوله: { يد الله فوق أيديهم فمن نكث } [الفتح: 10]؛ أي: عقد هذه البيعة مع الله، { فإنما ينكث على نفسه } [الفتح: 10] بالحرمان من هذه السعادة العظمى، { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } [الفتح: 10]، فكذلك صرح بهذا أنه جرت البيعة والمعاهدة مع الله، { فسيؤتيه أجرا عظيما } [الفتح: 10]، بأن يرزقه عند الثبات على المتابعة.
ثم أخبر عن قول أهل اللسان بما ليس لهم في الجنان بقوله تعالى: { سيقول لك المخلفون من الأعراب.. } [الفتح: 11] الآية، يشير إلى أن القلوب الغافلة عن الله يقولون أهلها بألسنتهم ما ليس له حقيقة ولا شعور لقلوبهم على حقيقة ما يقولون، فإنهم يقولون بالمجاز ويرون به معنى آخر كقوله: { شغلتنآ أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } [الفتح: 11]، ويريدون به اعتذارا لتخلفهم؛ ولقولهم شغلتنا حقيقة، وذلك أن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن ذكر الله والائتمار بأوامره، وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم المأمورون، { قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا } [الفتح: 11] وهو التخلف، { أو أراد بكم نفعا } [الفتح: 11] وهو الإتباع، { بل كان الله } [الفتح: 11] في الأزل { بما تعملون } [الفتح: 11] اليوم، ولماذا تعملون بالصدق أو بالرياء، { خبيرا } [الفتح: 11] لا يخفى عليه شيء من الأزل إلى الأبد.
[48.12-15]
وبقوله: { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا } [الفتح: 12]، يشير إلى أن كل من خلق أن يصيبه في الغزو قتلا وجراحة أو ما يكره من المصائب، ثم يتخلف عن الغزو فإنه من الهالكين، وقد استولى الشيطان على قلبه فزين في قلبه الحياة الدنيا؛ ليؤثرها على الحياة الأخروية، التي وعدت الشهداء الدرجات العلا في الجنة والقربات في جوار الحق تعالى.
وبقوله: { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنآ أعتدنا للكافرين سعيرا } [الفتح: 13]، يشير إلى أن سعير النفوس ونوران شعلة صفاتها اعتدناها مستولية على قلوب من لم يؤمن بالله ورسوله، فمن أطفأ سعير نفسه وشعلة صفاتها بماء الذكر وترك الشهوات يؤمن قلبه وينجو من سعير نفسه.
{ ولله ملك السموت والأرض } [الفتح: 14]؛ أي: ملك سماوات القلوب وأرض النفوس، { يغفر } [الفتح: 14] نفس { لمن يشآء } [الفتح: 14]، ويزكيها عن الصفات الذميمة، ويجعلها مطمئنة قابلة لجذبة:
ارجعي
[الفجر: 28]، { ويعذب من يشآء } [الفتح: 14] باستيلاء صفات النفس عليها وبقلبه، كما لم يؤمن به أبدا { وكان الله غفورا } [الفتح: 14] القلب من يشاء، { رحيما } [الفتح: 14] لنفس من يشاء، يؤتي ملك نفس من يشاء لقلبه، وينزع ملك قلب من يشاء ويؤتي لنفسه.
{ سيقول المخلفون } [الفتح: 15]؛ أي: النفس المتمردة { إذا انطلقتم } [الفتح: 15]؛ أي: إذا انطلقت القلوب المجذوبة إلى حضرة الربوبية { إلى مغانم } [الفتح: 15] مواهب الحق تعالى إلى مغانم؛ { لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله } [الفتح: 15]؛ أي: في حقهم، وهو قوله:
إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53]، { قل } [الفتح: 15]، يا قلب السليم للنفس المتمردة، { لن تتبعونا } [الفتح: 15] في طلب الحق تعالى، { كذلكم قال الله من قبل فسيقولون } [الفتح: 15] النفوس، { بل تحسدوننا } [الفتح: 15] أيها القلوب، { بل كانوا لا يفقهون } [الفتح: 15]؛ يعني: النفوس { إلا قليلا } [الفتح: 15]، وهو المتاع الدنيا؛ يعني: لا يتجاوز ميمة النفوس عن المتاع الدنيوي القليل.
[48.16-19]
ثم أخبر عن قتال ناس أولي بأس بقوله تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } [الفتح: 16]، يشير إلى أن النفوس المتخلفة عن الطاعات والعبادات من الفرائض والنوافل لو دعيت إلى الجهاد في سبيل الله، والجهاد الأكبر وهو جهاد النفس والشيطان والدنيا، { تقاتلونهم } بنهي النفس عن الهوى وترك الدنيا وزينتها، فإذا أجابوا أو أطاعوا فقد استوجبوا الأجر الحسن، وذلك قوله: { فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل } [الفتح: 16]؛ أي: إن أعرضتم عن الجهاد كما أعرضتم عن الطاعات والعبادات، { يعذبكم عذابا أليما } [الفتح: 16]، يتألمون به في الدنيا والآخرة.
وبقوله: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } [الفتح: 17]، يشير إلى أن أصحاب الأعذار من أرباب الطلب، فمن عرض له مانع يعجزه عن السير بلا عزيمة منه، وهمته في الطلب ورغبته في السير وتوجهه إلى الحق باق فلا حرج عليه فيما يعتريه، فيكون أجره على الله، وذلك قوله: { ومن يطع الله ورسوله } [الفتح: 17]؛ يعني: بقدر الاستطاعة { يدخله جنت تجري من تحتها الأنهر ومن يتول } [الفتح: 17]؛ يعني: يعرض عن الله وينقض عهد الطلب، { يعذبه عذابا أليما } [الفتح: 17].
وبقوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } [الفتح: 18]، يشير إلى أن الله تعالى بفضله وكرمه رضي عنهم أولا؛ ليكونوا مؤمنين، ويبايعونك ثانيا، ولولا سبقت رضاه لم يؤمنوا ولم يبايعوك، { فعلم ما في قلوبهم } [الفتح: 18] من الضعف والعجز الإنساني؛ { فأنزل السكينة عليهم } [الفتح: 18]، إذا نظر إلى قلوبهم بنظر الرضاء، { وأثابهم فتحا قريبا } [الفتح: 18] من مغانم الدنيا والآخرة، وذلك قوله: { ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما } [الفتح: 19]، أعزهم بالمغانم في الدنيا والآخرة حكيما في جميع أفعاله مع عباده.
[48.20-23]
ثم أخبر عن وعد المغانم ونيل الغنائم بقوله تعالى: { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } [الفتح: 20]، يشير إلى ما وعد الله عباده من المغانم الكثيرة بقوله:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60]، يأخذونها كل واحد بحسب مطرح نظره وعلو همته، فمن كانت همته الدنيا تعجل لكم هذه، ومن كانت همته الآخرة، { فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم } [الفتح: 20]؛ أي: أيدي دواعي شهوات النفس عنكم؛ لتكونوا من أهل الجنة لقوله:
ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى
[النازعات: 40-41]، ولو وكلكم إلى أنفسكم لاتبعتم الشهوات؛ وهي: دركات الجحيم إذ حفت النار بالشهوات، { ولتكون } [الفتح: 20] في ترك الدنيا وشهوات النفس { آية للمؤمنين } [الفتح: 20]، يهتدون بهديكم ، { ويهديكم صراطا مستقيما } [الفتح: 20] إلى حضرة الربوبية.
وذلك قوله: { وأخرى لم تقدروا عليها } [الفتح: 21]؛ أي: أنتم تقدرون سلوك طريق الجنة على قدمي الإيمان والعمل الصالح، ولا يقدرون على سلوك طريق الوصول إلى الحضرة، { قد أحاط الله بها } [الفتح: 21] بتجلي صفات جماله وجلاله، { وكان الله على كل شيء } [الفتح: 21] من أنواع التجلي بحسب استعداد كل طالب له، { قديرا } [الفتح: 21] بأن يتجلى له، وهي المغانم الكثيرة على الحقيقة.
{ ولو قتلكم الذين كفروا } [الفتح: 22] من نفوسكم المتمردة { لولوا الأدبار } [الفتح: 22]؛ لأني ناصركم على قتال نفوسكم، { ثم لا يجدون } [الفتح: 22] من دوني { وليا ولا نصيرا } [الفتح: 22] ينصرهم.
{ سنة الله التي قد خلت من قبل } [الفتح: 23]؛ يعني: في التقدير الأزلي { ولن تجد لسنة الله تبديلا } [الفتح: 23] إلى الأبد، فإن المنصور من نصره الله وإن المقهور من قهره الله.
[48.24-25]
{ وهو الذي كف أيديهم } [الفتح: 24]؛ أي: أيدي النفوس بالاستيلاء { عنكم } [الفتح: 24]؛ أي: عن قلوبكم { وأيديكم عنهم ببطن مكة } [الفتح: 24]، وهي مكة الروح في بطنه كعبة القلب، { وأيديكم }؛ أي: أيدي قلوبكم، { عنهم } عن النفوس من أن تهلكها بالمجاهدة والرياضة، { من بعد أن أظفركم عليهم } [الفتح: 24]؛ لأن الحكمة في جهاد النفس تزكيتها، والظفر بها لإهلاكها، فإنها مطية الروح ومشقها، بها يبلغ كعبة الوصال؛ ولهذا قيل لبعضهم: إلى متى ينتهي طلب الطالبين؟ قال: إلى الظفر بنفوسهم { وكان الله بما تعملون بصيرا } [الفتح: 24]؛ أي: بما تعلمون في طلبه بالصدق بصيرا بأن يهديكم إلى الحضرة، ويكف أيدي النفوس عنكم؛ لئلا يقطع الطريق عليكم.
{ هم الذين كفروا } [الفتح: 25]؛ أي: النفوس المتمردة، { وصدوكم عن المسجد الحرام } [الفتح: 25]، وهي كعبة القلب، { والهدي معكوفا } [الفتح: 25]، وهو كل ما يتقرب به إلى الله من النفس والمال { أن يبلغ محله } [الفتح: 25]، ومحله الصدق والإخلاص يعني: من خاصة النفس أن تصد وجه الطالب عن الله، وبنشوب الخيرات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله بالرياء والسمعة والعجب؛ لئلا يبلغ محل الإخلاص والقبول.
وبقوله: { ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم } [الفتح: 25]، يشير إلى بعض صفات النفس أنها قابلة للفيض الإلهي لم تعرفوا أحوالها، أن تقهروها لو سلطناكم عليها؛ { فتصيبكم منهم معرة } [الفتح: 25]، بإفساد استعدادها لقبول الفيض الإلهي، { بغير علم } [الفتح: 25] منكم بما يفوتكم من إعوازها؛ { ليدخل الله في رحمته } [الفتح: 25] بالوصول إلى حضرته، { من يشآء } [الفتح: 25] من عباده على مطية النفس المطمئنة المظفرة بها، كما قال تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة *ارجعي إلى ربك
[الفجر: 27-28]، فحقيقة معنى الآية: لولا هذه المصالح في استيفاء النفس بعد اطمئنانها وتزكية صفاتها، { لو تزيلوا } [الفتح: 25] تميزوا عند التزكية، ما منها صفة لا تصلح في استيفاء النفس بعد اطمئنانها إلا قلعها، كالكبر والشدة والحسد والحقد، ومنها ما تصلح للتبديل: كالبخل بالسخاوة، والحرص بالقناعة، والغضب بالحلم، والجبانة بالشجاعة، والشهوة بالمحبة؛ { لعذبنا الذين كفروا منهم } [الفتح: 25] من النفوس المتمردة { عذابا أليما } [الفتح: 25] للهلاك.
[48.26-27]
ثم أخبر عن الحمية الجاهلية بقوله تعالى: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } [الفتح: 26]، يشير إلى أن خاصية أهل الخذلان، فإنه تعالى إذا أخذل أحد وكله إلى نفسه، فنفسه الأمارة بالسوء تأمره بالفواحش والأخلاق الذميمة إلى أن يتعدى إلى قلبه، والقلب يتصف بصفات النفس، فالحمية الجاهلية هي: أنفة النفس تعدت إلى قلوب أهل الخذلان.
ثم أخبر عن أهل العناية بقوله: { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [الفتح: 26]، وهي نور نظر العناية إلى قلوب أهل العناية، ومن نتائج النظر { وألزمهم كلمة التقوى } [الفتح: 26]، وهي كلمة لا إله إلا الله إلزام إكرام، ولطف بأن حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم حتى اتقوا بوحدانيته عما سواه، { وكانوا أحق بها وأهلها } [الفتح: 26] مع جميع الأمم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلاصة الموجودات وأصلها، وهو الحبيب الذي خلقت الموجودات بتبعيته، والكلمة هي صورة الجذبة التي توصل الحبيب بالحبيب والمحب بالمحبوب، فهي بالنبي أحب؛ لأنه هو الحبيب لتوسله إلى حبيبه، وأمته أحق بها من الأمم؛ لأنهم المحبون لتوصل المحب بالمحبوب، وهم أهلها لأن أهل هذه الكلمة من يفدي بذاته وصفاته من حقيقة الكلمة، فينتفي بنفيها عن ذاته وصفاته، ويبقى بإثباتها معها بلا أنانية ، وما بلغ هذا المبلغ بالكمال إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:
" أما أنا فلا أقول أنا وأمتي "
؛ لقوله تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران: 110]، { وكان الله بكل شيء عليما } [الفتح: 26] في الأزل فينا وجود كل إنسان على ما هو أهله، فمنهم: أهل الدنيا، ومنهم: أهل الآخرة، ومنهم: أهل الله وخاصته.
وبقوله: { لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون } [الفتح: 27]، امتحن المؤمن والمنافق بهذه الرؤيا؛ إذ لم يتعين وقت دخولهم فيه، فأخر الدخول تلك السنة، فهلك المنافقون بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم بدخول المسجد الحرام، وازداد كفرهم ونفاقهم، وازداد إيمان المؤمنين بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم مع إيمانهم، وانتظروا صدق رؤياه فصدق الله ورسوله الرؤيا بالحق، فهلك من هلك عن بينة وحيي من حيي عن بينة ولذلك قال تعالى: { فعلم ما لم تعلموا } يعني: من تربية نفاق أهل النفاق وتقوية إيمان أهل الإيمان { فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } من فتوح الظاهر والباطن.
[48.28-29]
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } [الفتح: 28] أي: بما يهدي إلى الله { ودين الحق } أي: دينا كاملا وغلا كل دين حق فأما الدين الكامل في الحقيقة فدين أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وهو دعوته إلى الله كما قال تعالى:
وداعيا إلى الله بإذنه
[الأحزاب: 46].
وقوله: { ليظهره على الدين كله } [الفتح: 28]، يشير إلى هذا المعنى أي: كان دعوة كل نبي إلى الجنة وبهذا يقدمون أممهم فأظهره بالدعوة إلى الله على الدين كله { وكفى بالله شهيدا } [الفتح: 28]، على حقيقة هذا المعنى؛ لأن العقول تحير عن إدراك هذا المعنى.
ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه بالتدين بهذا الدين لنيل هذه الرتبة العظمى بقوله: { محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار } [الفتح: 29]، كفار النفوس في إفنائها أشد مما كانت الأمم عليها { رحمآء بينهم } [الفتح: 29]، في التودد والتحاب في الله والتعاون في طلب الله، كما هو سنة مشايخ هذه الأمة خلفا عن سلف في تسليك المريدين الذين يريدون وجهه { تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } [الفتح: 29]؛ أي: قصدهم في الطاعة والعبادة الوصول والوصال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء { سيماهم في وجوههم } [الفتح: 29]، سيمات المحبين { من أثر السجود } [الفتح: 29]، فإنهم لا يسجدون لشيء من الدنيا والعقبى إلا الله مخلصين له الدين { ذلك مثلهم في التوراة } أي: ضرب الله المعنى مثلهم في التوراة { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } أي: مثل طلاب الحق تعالى كمثل زرع أي: كنبات مثمرة أخرج فراخه { فآزره فاستغلظ } حتى استعد لحمل الثمرة { فاستوى على سوقه } أي: أثمر { يعجب الزراع } أي: الطلاب ثمرة شجرة وجوده وهي قول بعضهم أنا الحق وقول بعضهم سبحاني ما أعظم شأني { ليغيظ بهم الكفار } كفار النفوس لأن شجرتهم غير مثمرة معدة لنار جحيم القطيعة { وعد الله الذين آمنوا } [الفتح: 29]، إيمان الطلب { وعملوا الصالحات } [الفتح: 29] في السلوك والسير إلى الله { منهم مغفرة } [الفتح: 29] وهي ستر أوصافهم بتجلي صفاته، { وأجرا عظيما } [الفتح: 29]، وهو يتجلى لهم بذاته وصفاته العظمى؛ فإن العظيم الحقيقي هو الله، وقوله: { منهم }؛ لأن كل مؤمن ليس موعودا بهذا الوعد إلا خواص أهل الجنة.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-4]
{ يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } [الحجرات: 1]، يشير إلى شهادة المنادي بالشرف: لا تقدموا أمر عمل المكلف قدم الإكرام بالشرف على إلزام الكلف؛ أي: لا تقدموا حكمكم برأيكم وعقلكم بين يدي الله ورسوله؛ أي: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله، ولا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئا، وقفوا حيثما وقفتم، وافعلوا ما به أمرتم؛ أي: اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق، وكونوا أصحاب الاقتداء والاتباع لا أرباب الابتداء والابتداع.
وبقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } [الحجرات: 2]، يشير إلى أنه من شرط المؤمن ألا يرى رأيه وعقله واختياره فوق رأي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخ، ويكون مستسلما لما فيه مصلحته، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته، { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } [الحجرات: 2]؛ أي: لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم، وأنه بحسن خلقه يلاينكم، ولا تنبسطوا معه متجاسرين بما يعاشركم به من تخلقه، ولا تبدؤه بحديث حتى يفاتحكم، { أن تحبط أعمالكم } [الحجرات: 2] بسوء الأدب وترك الحرمة، { وأنتم لا تشعرون } [الحجرات: 2] لا تقفون عليه.
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } [الحجرات: 3] وعند شيخه، وهم الذين تقع عليهم السكينة من هيبة حضرته وولايته، { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } [الحجرات: 3]، انتزع عنها حب الشهوات وصفاتها عن دنس سوء الأخلاق وتحليها بمكارمها، حتى انسلخوا عن عادات البشرية { لهم مغفرة } [الحجرات: 3]، بأنوار صفات الحق تعالى، { وأجر عظيم } [الحجرات: 3] بتجلي صفة العظمة.
ثم أخبر عن سوء أدب بعض العرب بقوله تعالى: { إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات } [الحجرات: 4]، يشير إلى أنهم إنما ينادونك؛ لأنهم من وراء الحجبات يرونك فلا يعرفون قدرك، { أكثرهم لا يعقلون } [الحجرات: 4]؛ أي: مالهم به عقل يعرفون قدرك، ولو عرفوا قدرك لما تركوا حرمتك ولا التزموا هيبتك.
[49.5-8]
{ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } [الحجرات: 5] من استعجالهم بالمنارات حتى أيقظوك وقت القيلولة من سوء أدبهم، فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا قدره، فكانوا كما في الخبر " يقرعون بابه بالأظافير ".
وبقوله: { يأيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ } [الحجرات: 6]، يشير إلى تسويلات النفس الفاسقة الأمارة بالسوء، ومجيئها كل ساعة بنبأ شهوات الدنيا؛ { فتبينوا } [الحجرات: 6] ربحها وخسرانها من قبل { أن تصيبوا قوما } [الحجرات: 6]، من القلوب وصفاتها { بجهالة } [الحجرات: 6]؛ فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها، { فتصبحوا } [الحجرات: 6] صباح القيامة، وأنتم { على ما فعلتم نادمين } [الحجرات: 6]، وفيه أيضا إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والتمام والمغتاب للناس، والآية تدل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، والفاسق الخارج من طريق الحق وصراط الطلب.
وبقوله: { واعلموا أن فيكم رسول الله } [الحجرات: 7]، يشير إلى رسول الإلهام الرباني جل جلاله في أنفسكم يلهمكم فجور نفسكم وتقواها، { لو يطيعكم في كثير من الأمر } [الحجرات: 7]، أمر النفس الأمارة؛ { لعنتم } [الحجرات: 7] لوقعتم في الهلاك، { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } [الحجرات: 7] بالإلهامات الربانية، { وزينه في قلوبكم } [الحجرات: 7] بقلم الكرم، { وكره } [الحجرات: 7] بنور نظر العناية { إليكم الكفر والفسوق } [الحجرات: 7]، وهو ستر الحق والخروج إلى الباطل، { والعصيان } [الحجرات: 7] هو الإعراض عن طلب الحق، { أولئك هم الراشدون } [الحجرات: 7] إلى الحق بإرشاد الحق.
{ فضلا من الله ونعمة } [الحجرات: 8]، منه وينعم به على من يشاء من عباده { والله عليم } [الحجرات: 8] بأحوال عباده، { حكيم } [الحجرات: 8] فيما يفعل بهم.
[49.9-13]
ثم أخبر عن أحوال أهل القتال بقوله: { وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } [الحجرات: 9]، يشير إلى أن المؤمن لا يخرج بالفسق عن الإيمان؛ لأن إحدى الطائفتين لا محالة فاسق إذا اقتتلتا وسماهما مؤمنين.
ويشير أيضا إلى: أن الإصلاح بين المسلمين إذا تفاسدوا من أعظم الطلبات، وأتم القربات.
ويشير أيضا إلى: وجود نصرة المظلوم؛ حيث قال: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } [الحجرات: 9].
ويشير أيضا إلى: أن النفس إذا أظلمت على القلب باستيفاء شهواتها واستعلائها في فسادها، يجب أن يقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة، فإن استجابت بالطاعة فيعفي عنها؛ لأنها هي المطية إلى باب الله، { وأقسطوا } [الحجرات: 9] بين القلب والنفس؛ لئلا يظلم القلب على النفس، كما لا تظلم النفس على القلب؛ لأن لنفسك عليك حقا، { إن الله يحب المقسطين } [الحجرات: 9]؛ أي: يؤدون إلى كل ذي حق حقه.
{ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } [الحجرات: 10]، اعلم أن أخوة النسب إنما تثبت إذا كان منشأ النطف صلبا واحدا، فكذلك أخوة الدين منشأ نطفها صلب النبوة، وحقيقة نطفها نور الله فإصلاح ذات بينهم يرفع حجب أستار البشرية عن وجود القلوب؛ ليتصل النور بالنور من روزنة القلب؛ ليصيروا كنفس واحدة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمنون كنفس واحدة إذا اشتكى عضو واحد تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر "
، فأما شرط الأخوة فمن حق الأخوة في الدين أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وسترك ما ستره، وألا يحوجه إلى الاستعانة بك والاستعانة تعيده، وتنصره ظالما ومظلوما، فمنعك إياه عن الظلم فذلك نصرك إياه، وألا تقصر في تفقد أحواله؛ بحيث يشكل عليك موضع حاجته، فيحتاج إلى مسألتك، ومن حقه ألا تلجئه إلى الاعتذار بل تبسط عذره، فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره، وتتوب عنه إذا أذنب وتعوده إذا مرض، وإذا أشار إليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة، كما قالوا:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهمو
لأية حرب أم لأي مكانا
{ واتقوا الله } [الحجرات: 10] في إخوتكم في الدين، بحفظ عهودهم ورعاية حقوقهم في المشهد والمغيب والحياة والممات، { لعلكم ترحمون } [الحجرات: 10]، كما ترحمون.
ثم أخبر عن قوم يسخرون بمن يسخرون بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم } [الحجرات: 11]، يشير إلى أنه لا عبرة بظاهر الخلق، فلا ينظرون إلى أحد بنظر الازدراء والاستهانة والاستخفاف والاستحقار؛ ولأن في استحقار أخيك عجب نفسك مودع، كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام، فأعجب بنفسه فقال:
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
[الأعراف: 12]، فلعن إلى الأبد لهذا المعنى فمن حقر أخاه المسلم، أو ظن أنه خير منه يكون إبليس وفيه، وفيه إشارة إلى أهل المحبة وأرباب السلوك، فإنهم مخصوصون بهذا الاسم، كما قال تعالى:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]؛ يعني: لا ينظر المنتهى من أرباب الطلب بنظر الحقارة إلى المبتدئ والمتوسط، { عسى أن يكونوا خيرا منهم } ، فإن الأمور بخواتيمها؛ ولهذا قال:
" أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" رب أشعت أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره "
، وبالنساء يشير إلى عوام المسلمين؛ لأنه تعالى يعبره عن الخواص بالرجال لقوله تعالى:
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37].
{ اجتنبوا كثيرا من الظن } [الحجرات: 12]، { ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن } [الحجرات: 11] إلى هذا المعنى يشير.
ثم يقول: كان للملائكة شركة مع إبليس في قولهم لآدم:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء...
[البقرة: 30]، كان في نظرهم إليه بالحقارة إعجاب أنفسهم مودعا، ولكن الملائكة لم يصروا على ذلك الإعجاب، وتابوا إلى الله ورجعوا مما قالوا، فعالجهم الله بإسجادهم لآدم عليه السلام؛ لأن في السجود غاية الهوان والذلة للساجد، وغاية العظمة والعزة للمسجود، فلما كان في تحقير آدم هوانه وذله وعزة الملائكة وعظمتهم فأمرهم بالسجود؛ لأن العلاج بأضدادها فزال عنهم علة العجب، وقد أصر إبليس على قوله وفعله، ولم يتب فأهلكه الله بالطرد واللعنة، فكذلك حال من ينظر إلى أخيه المسلم بنظر الحقارة، ولا ينتهي عما نهاه الله تعالى بقوله: { ولا تلمزوا أنفسكم } [الحجرات: 11]، وإنما قال: { أنفسكم }؛ لأن المؤمنين أنفسهم واحدة إن عملوا شرا إلى أحد؛ فقد عملوا إلى أنفسهم، كما قال تعالى:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم...
[الإسراء: 7] الآية.
{ ولا تنابزوا بالألقاب } [الحجرات: 11]؛ أي: بألقاب فيها شين لدينهم، { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [الحجرات: 11]؛ أي: اسم يخرجهم من الإيمان، { ومن لم يتب } [الحجرات: 11]؛ يعني: من مقالة إبليس وفعاله بأن ينظر إلى نفسه بالعجب وإلى غيره بالحقارة، { فأولئك هم الظالمون } [الحجرات: 11]، فيكونوا منخرطين في سلك اللعنة والطرد مع إبليس، كما قال:
ألا لعنة الله على الظالمين
[هود: 18].
ثم أخبر عن الاجتناب عن قومه من الظن بقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } [الحجرات: 12]، وتمامها { إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } [الحجرات: 12].
قوله تعالى: { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [الحجرات: 13]، يشير إلى خلق القلوب إنها خلقت من: ذكر وهو الروح، وأنثى وهي النفس، { وجعلناكم شعوبا وقبآئل } [الحجرات: 13]؛ أي: جعلناها صنفين: صنف منها شعوبا وهي التي تميل إلى أمها، وهي النفس والغالب عليهما صفات النفس، وصنف منها قبائل وهي التي تميل إلى أبيها، وهو الروح والغالب عليها صفات الروح؛ { لتعارفوا } [الحجرات: 13] أصحاب القلوب وأرباب النفوس، لا ليتكاثروا ويتنافسوا ويتشابهوا بالعقول والأخلاق الروحانية الطبيعية، فإنها ظلمانية لا يصلح شيء منها للتفاخر به ما لم يقرن به الإيمان والتقوى، فإن تنورت الأفعال والأخلاق والأحوال بنور الإيمان والتقوى، ولم تكن الأفعال منسوبة بالرياء، ولا الأخلاق مصحوبة بالأهواء، ولا الأحوال منسوبة إلى الإعجاب؛ فعند ذلك تصلح للتفاخر والمباهات بها، كما قال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } [الحجرات: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" الكرم التقوى "
، وأتقاهم من يكون أبعدهم من الأخلاق الإنسانية وأقربهم إلى الأخلاق الربانية والتقوى التحرز، والمتقي من يتحرز عن نفسه بربه، وهو الذي أكرم على الله من غيره.
[49.14-15]
وبقوله: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [الحجرات: 14]، يشير إلى أن حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان بل هو نور يدخل القلب إذا شرح صدر العبد للإسلام، كما قال تعالى:
فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]، وقال صلى الله عليه وسلم في صفة ذلك النور:
" " إن النور إذا وقع في القلب انفسح له واتسع " قالوا: يا رسول الله هل لذكرك النور من علامة يعرف بها؟ قال: " بلى التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " "
، ولهذا قال تعالى: { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [الحجرات: 14]، فهذا دليل على أن محل الإيمان القلب.
واعلم أن الإيمان حياة القلب ولهذا سمى الله تعالى من لا إيمان له بالميت بقوله تعالى:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، والقلب لا يحيا إلا بعد ذبح النفوس.
{ وإن تطيعوا الله ورسوله } [الحجرات: 14] في الأوامر والنواهي، فقد ذبحتم النفوس بسيف الصدق، { لا يلتكم من أعمالكم شيئا } [الحجرات: 14] في ذبح النفوس { إن الله غفور } [الحجرات: 14]، لمن يهادن النفس في أثناء السلوك؛ لترعى في بعض مراتعها لئلا تزاحم القلب في طلب مقاصده، { رحيم } [الحجرات: 14] به.
ثم أخبر عن المؤمن الحقيقي بقوله: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } [الحجرات: 15]؛ أي: شاهدوا الله بنور الله فأمنوا برسوله، { ثم لم يرتابوا } [الحجرات: 15]، لم يشكوا فيما شاهدوا بنور الله؛ إذ لم تحجبهم أنفسهم وأموالهم عن نور الله؛ لأنهم خرجوا من حجب النفس والمال، { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } [الحجرات: 15] ببذلها في طلب الله، { أولئك هم الصادقون } [الحجرات: 15]، الذين صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، فلما جعل الإيمان مشروطا ببذل المال والنفس، فذكر بلفظ إنما وهي التحقيق يقتضي الطرد والعكس، فمن أفرد الإيمان عن الشرائط التي جعلها له فمردود عليه قوله.
[49.16-18]
وبقوله: { قل أتعلمون الله بدينكم } [الحجرات: 16]، يشير إلى أن التوفيق في الأمور الدنيا وحقيقتها معتبر واجب وموكولة إلى الله؛ فالأسامي منه توجد والأحكام منه تطلب وأمره يتبع، { والله يعلم ما في السماوات } [الحجرات: 16] سماوات القلوب من استعدادها في العبودية، { وما في الأرض } [الحجرات: 16] أرض النفوس من تمردها عن العبودية، { والله بكل شيء } [الحجرات: 16] جبلت القلوب والنفوس عليه { عليم } [الحجرات: 16]؛ لأنه تعالى أودعه فيها عند تخمير طينة آدم بيده.
{ يمنون عليك أن أسلموا } [الحجرات: 17]؛ أي: استسلم لك ظاهرهم، { قل لا تمنوا علي إسلامكم } [الحجرات: 17]؛ أي: تسليم ظاهركم لي؛ لأنه ليس هذا من طبيعة نفوسكم المتمردة، { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17]، إذا كتب في قلوبكم الإيمان؛ فانعكس نور الإيمان من مصباح قلوبكم إلى مشكاة نفوسكم، فتنورت واستضاءت بنور الإسلام، فإسلامكم في الظاهر من فرع الإيمان الذي أودعت في باطنكم { إن كنتم صادقين } [الحجرات: 17] في دعوى الإيمان.
{ إن الله يعلم غيب السموت } [الحجرات: 18]؛ أي: ما غاب عن سماوات القلوب وما حضرها، { والأرض } [الحجرات: 18] ما غاب عن أرض النفوس وما حضرها، { والله بصير بما تعملون } [الحجرات: 18] في الظاهر أنه من نتائج ما أودعته في باطنهم، فمن لاحظ شيئا من أعماله وأحواله، فإن رآها من نفسه كان شركا، وإن رآها لنفسه كان مكرا، وإن رآها من ربه لربه كان توحيدا، وفقنا الله لذلك بمنه وكرمه وجوده.
[50 - سورة ق]
[50.1-7]
{ ق } [ق: 1]، يشير إلى أن لكل سالك من السائرين إلى الله عز وجل إلى الله مقامات في القرب، لما بلغ كل سالك إلى مقامه المقدر له يشار إليه بقوله: قاف، أو قف مكانك ولا تجاوز حدك؛ وهي: جواب القسم لقوله: { والقرآن المجيد } [ق: 1]، مجازه قف، فإن هذا مقامك والقرآن المجيد فلا تجاوز عنه.
{ بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون } [ق: 2]، الذين حرموا عن رشاش النور يوم رش عليهم من نور ربهم، فإنهم كانوا ممن أخطأهم النور، { هذا شيء عجيب } [ق: 2]؛ وذلك لأنهم لم يكونوا من السالكين السائرين إلى الله، فيعجبون من مجيء المنذر لينذرهم يوم الرشاش، ولم يتعجب من مجيء المنذر من كان له شركة معه في إصابة الرشاش؛ لأنهم عرفوه بنور الرشاش، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن ينظر بنور الله "
، فلما كان الكفار بمعزل من ذلك النور، فمن عمى قلوبهم ما رأوا الآخرة وما آمنوا بالبعث، وقالوا: { أءذا متنا وكنا ترابا } [ق: 3]، فبعث { ذلك رجع بعيد } [ق: 3] عن العقول.
وبقوله: { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ق: 4]، يشير إلى أن علمنا الأزلي محيط بما يجري من الأزل إلى الأبد، وبما ينقص من أجزاء كل إنسان بعد موته من الأركان الأربعة، فجزء كل عنصر منه يرجع إلى كله بإذن الله، فإذا أراد الله أن يحيي شخصا يأمر كل عنصر ليرد جزء أحد منه إلى شخص هو منه، { وعندنا كتاب حفيظ } [ق: 4]، يحفظ كل ذرة من ذرات الموجودات؛ لئلا يضيع إلى أن خاطبناه بردها إلى مكانها.
{ بل } [ق: 5] الكافرين الذين بمعزل عن نور الإيمان، { كذبوا بالحق لما جآءهم } [ق: 5] من عمى قلوبهم، { فهم في أمر مريج } [ق: 5] من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم؛ فلا يهتدون إلى الحق، ولو لم نعم قلوبهم.
{ أفلم ينظروا إلى السمآء } [ق: 6]، سماء قلوبهم { فوقهم } [ق: 6]، فوق نفوسهم { كيف بنيناها } [ق: 6] طبقات مختلفة، { وزيناها } [ق: 6] بكواكب المعارف، { وما لها من فروج } [ق: 6] بين أطباقها.
{ والأرض } [ق: 7] أرض النفوس، { مددناها وألقينا فيها رواسي } [ق: 7] من أوصاف البشرية، { وأنبتنا فيها من كل زوج } [ق: 7] من الذكور والإناث، { بهيج } [ق: 7] به أولو الألباب.
[50.8-15]
{ تبصرة وذكرى } [ق: 8]؛ أي: مبصرا ومذكرا { لكل عبد } [ق: 8] لا يعبد إلا ربه، { منيب } [ق: 8] لا يرجع إلا إليه.
{ ونزلنا من السمآء } [ق: 9] سماء الأرواح، { مآء مبركا } [ق: 9] ماء الفيض الإلهي؛ { فأنبتنا به جنت } [ق: 9] القلوب، { وحب الحصيد } [ق: 9]؛ وهو: حب المحبة يحصد محبة ما سوى إليه من القلوب.
{ والنخل باسقات } [ق: 10] وهي شجرة التوحيد، { لها طلع نضيد } [ق: 10] من أنواع المعارف؛ { رزقا للعباد } [ق: 11] الذين يبيتون عند ربهم يطعمهم ويسقيهم، { وأحيينا به } [ق: 11]؛ أي: بماء الفيض { بلدة } [ق: 11]؛ أي: بلدة القلب { ميتا } [ق: 11] من نور الله، كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا...
[الأنعام: 122] الآية، { كذلك الخروج } [ق: 11] من ظلمات الوجود إلى نور واجب الوجود؛ فافهم جدا.
ثم أخبر عن المكذبين للأنبياء والمرسلين بقوله تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود } [ق: 12]، { وعاد وفرعون وإخوان لوط } [ق: 13]، { وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد } [ق: 14]، يشير إلى أن عموم أهل كل زمان الغالب عليهم الهوى والطبيعة الحيوانية أهل الحس، نفوسهم المتمردة بعيدة عن الحق قريبة إلى الباطل، كلما جاء إليهم رسول كذبوه وعلى ما جاء به قاتلوه؛ فحق عليهم عذاب ربهم لما كفروا بأنعم الله، فما أعياه إهلاكهم.
ثم قال: { أفعيينا بالخلق الأول } [ق: 15]، أو اعتياض علينا فعل كل شيء حتى نعي بالبعث أو يشق علينا البعث؛ أي: ليس كذلك، { بل هم في لبس من خلق جديد } [ق: 15]، ومن كمال قدرتنا على قانون حكمتنا ووفق إرادتنا.
[50.16-23]
{ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم } [ق: 16] قبل خلقه، مثل بعد خلقه { ما توسوس به نفسه } [ق: 16] من شهوات بطلب استيفائها، وتصنع مع الخلق، أو سوء خلق، أو اعتقاد فاسد، وغير ذلك من أوصاف النفس، يوسوس بذلك ليشوش عليه قلبه ووقته، وكيف لا يعلم وكل ذلك مما خلقناه فيه وقدرنا له فعله؟! { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ق: 16]، أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه، يشير به إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد، فكما أنه كل وقت يطلب نفسه يجدها؛ لأنها قريبة منه، فكذلك كل وقت طلب الله وجده؛ لأنه قريب منه، كما قال:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب
[البقرة: 186]، وقال:
" ألا من طلبني وجدني ".
وبقوله: { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ق: 17]، يشير إلى أن من لم يعرف قدر قربي إليه، ويكون بعيدا مني بخصاله الذميمة وأفعاله الردية، ولم يرض بأني أكون رقيبه.
وأوكل عليه رقيبين { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ق: 18]، يكتب بقلم حركاته ومداد لدنيته على صحيفة قلبه، فإن كانت حركاته شرعية ملكية ونيته خالصة ربانية؛ فتجيء كتابته نورانية روحانية، وإن كانت حركاته طبيعية حيوانية ونيته هوائية شهوانية؛ فتجيء كتابته ظلمانية نفسانية، فمن هاهنا تبيض وجوه وتسود وجوه.
وفيه أيضا إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده؛ إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة المقربين؛ ليحفظوه بالليل والنهار إذا كان ماشيا فواحد بين يديه وواحد خلفه، ويقال: هما اثنان بالليل لكل أحد واثنان بالنهار، ويقال: بل الذي يكتب الخيرات كل يوم آخر، والذي يكتب الشر والذلة كل يوم هو الذي كان بالأمس؛ لتكثر شهود الطاعة غدا ويقل شهود المعصية، وبقاء الذي يكتب المعصية كل يوم اثنان آخران وكل ليلة اثنان آخران؛ لئلا يعلم في مساوئك إلا القليل منهم، فيكون علم المعاصي متفرقا فيهم.
{ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } [ق: 19]، إذا أشرقت النفس على الخروج من الدنيا، فأحوالهم تختلف؛ فمنهم: من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا تتبين إلا عند ذهاب الروح حاله، ومنهم: من يكاشف قبل خروجه، فيسكن روعه ويحفظ عليه قلبه، ويتم له حضوره وتميزه؛ فيسلم الروح على مهل من غير استكراه وعبوس، ومنهم: وفي معناه يقول بعضهم:
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي
وبداء الهوى يموت الكرام
ثم قال: { ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد } [ق: 20]، لكل نفس أوعدها الله بحسب سيرها من أول الفطرة إلى يوم البعث، { وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد } [ق: 21]؛ أي: الذي ساقها من مبدأ الوجود أما سوقا باللطف وأما سوقا بالبيت قوله:
" هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ولا أبالي "
شهيد من شواهد الحق؛ ليجري عليها من الأحكام الأزلية.
وبقوله: { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22].
يشير إلى أن الإنسان وإن خلق من عالمي الغيب والشهادة، فالغالب عليه في البداية الشهادة وهي العالم الحسي، فيرى بالحواس الظاهرة عالم المحسوس مع اختلاف أجناسه، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب، فمن الناس: من يكشف الله غطاءه عن بصر بصيرته؛ فيجعل بصره حديدا، يبصر رشده ويحذر شره لهم المؤمنون من أهل السعادة.
ومنهم: من يكشف الله غطاءه عن بصر بصيرته يوم القيامة، يوم
لا ينفع نفسا إيمنها لم تكن ءامنت من قبل...
[الأنعام: 158] الآية، وهم الكفار من أهل الشقاوة { وقال قرينه } [ق: 23] وهو سائقه، { هذا ما لدي عتيد } [ق: 23]، معد لك في الأزل.
[50.24-31]
{ ألقيا في جهنم } [ق: 24] يا سائق ويا شهيد، { كل كفار عنيد } [ق: 24]، كل من طبع على الكفر والعناد، { مناع للخير } [ق: 25]؛ إذ طبع على الشر، { معتد } [ق: 25] في الظلم، { مريب } [ق: 25] في الدين، { الذي جعل مع الله إلها آخر } [ق: 26] من الهوى والدنيا، { فألقياه في العذاب الشديد } [ق: 26]، وهو طلب الدنيا بالحرص والغفلة.
{ قال قرينه } [ق: 27]، وهو الروح العلوي، فإنه قرين نفسي السفلية: { ربنا مآ أطغيته } [ق: 27]، فإنه ليس إلا طغاء وإلا غواء من شأني، { ولكن كان في ضلال بعيد } [ق: 27]؛ أي: طبعت النفس على الضلالة، كما قال:
إلا ما رحم ربي
[يوسف: 53].
{ قال } [ق: 28] الله تعالى: { لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد } [ق: 28]، { ما يبدل القول لدي } [ق: 29]؛ إذ قلت:
" هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي "
، { ومآ أنا بظلام للعبيد } [ق: 29]، بأن أرسل أهل الجنة إلى النار أو أرسل أهل النار إلى الجنة؛ لأنه ظلم والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
وبقوله: { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } [ق: 30]، يشير إلى جهنم نفس الإنسان، وحرصها على الدنيا وشهواتها كلما ألقى نوع منها، ويقال لها: { هل امتلأت وتقول هل من مزيد } من أنواع الشهوات، فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
وفيه إشارة أخرى، وهي: أن الحرص الإنساني قشر محبة الله تعالى، بل هو عين المحبة، إذا كان متوجها إلى الدنيا وشهواتها يسمى الحرص، وإذا كان متوجها إلى الله تعالى وقرباته يسمى محبة؛ فاعلم أن ما زاد في الحرص نقص من المحبة، وما نقص من الحرص زاد في المحبة، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا يسكن نائرتها بما يلقى فيها من محبوبات الدنيا والآخرة، بل يكون من حطبها ويزيد في اشتعالها، حتى:
" يضع رب العزة فيها قدمه فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، فتقول: قط.. قط ".
ثم أخبر عن حال المؤمنين المتقين بقوله: { وأزلفت الجنة للمتقين } [ق: 31]، يشير إلى جنة قلوب خواص المتقين أنها أزلفت وقربت لهم في الدنيا، بل هم في الدنيا بالأجساد وهم في الآخرة بالقلوب.
ويقال: إن الجنة تقرب من المتقين، كما أن النار تجر بالسلاسل إلى المحشر المجرمين.
ويقال: بل يقرب الجنة بأن يسهل على المتقين مسيرهم إليها، ويراد بهم الخواص من المتقين، ويقال: هم ثلاثة أصناف: قوم: يحشرون إلى الجنة مشاة، وهم الذين قال فيهم:
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا
[الزمر: 71]، وهم عوام المؤمنين، وقوم: يحشرون إلى الجنة
ركبانا
[البقرة: 239] على طاعاتهم المصورة لهم بصورة حيوان، فهؤلاء هم الخواص، وأما خاص الخاص فهم: الذين قال لهم: { وأزلفت الجنة للمتقين } تقرب الجنة منهم، { غير بعيد } [ق: 31]؛ أي: الجنة غير بعيد عنهم، وهم البعداء عن الجنة
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 55].
[50.32-38]
ويقال لهم: { هذا ما توعدون } [ق: 32]؛ { هذا } إشارة إلى مقعد صدق، ولو كانت الإشارة إلى الجنة لقال: هذه.
وفي الحقيقة أن موعود المتقين الموصوفين { لكل أواب حفيظ } [ق: 32]، هو الراجع إلى الله في جميع أحواله لا إلى ما سواه، حافظا لأنفاسه مع الله لا يصرفها إلا في طلب الله، وما يؤكد هذا المعنى قوله:
إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر
[القمر: 54-55].
وأيضا يدل عليه قوله: { من خشي الرحمن بالغيب } [ق: 33]؛ أي: بنور الغيب يشاهد شواهد الحق، فتخشى من خشيته، منه ما قال: لجباريته بل قال: لرحمانيته، والخشية من الرحمن خشية الفراق؛ ولهذا قال: { وجآء بقلب منيب } [ق: 33] إلى ربه معرض عما سواه، مقبل عليه بكلية { ادخلوها } [ق: 34]، يعني الجنة { بسلام } [ق: 34]؛ أي: بسلامة القلب منها، { ذلك يوم الخلود } [ق: 34] لم يسكن إليها، بل يعبر عنها.
وبقوله: { لهم ما يشآءون فيها ولدينا مزيد } [ق: 35]، يشير إلى أن من يريدنا، ويعبر عن نعيم الجنة للوصول إلينا فيصل إلينا، ولدينا يجدنا لمزيد ما يشاءون أهل الجنة منها، وهذا كما قال:
" من كان لي كنت له ومن كنت له كان له ما كان لي "
، وقال تعالى:
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه
[الشورى: 20].
ثم أخبر عن تهديد أهل الوعيد بقوله: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص } [ق: 36]، يشير إلى إهلاك النفوس المتمردة في القرون الماضية؛ إظهارا لكمال القدرة والحكمة البالغة؛ لتتأدب به النفوس القابلة للخير، وتتعظ به القلوب السليمة.
كما قال تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ق: 37]؛ أي: قلب سليم من تعلقات الكونين، فالقلوب أربعة: قلب قاس وهو قلب الكافر، وقلب مقفول وهو قلب المنافق، وقلب مطمئن وهو قلب المؤمن، وقلب سليم وهو قلب المحبين المحبوبين، الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله، كما قال:
" لا يسعني أرضي ولا سمائي، وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن ".
وقوله: { أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق: 37]؛ يعني: من لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع بالله وهو حاضر مع الله، فيعبر عما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر.
ثم قال: { ولقد خلقنا السموت } [ق: 38]؛ أي: سماوات الأرواح { والأرض } [ق: 38]؛ أي: أرض الأشباح، { وما بينهما } [ق: 38] من النفوس والقلوب في الأسرار وسر الأسرار { في ستة أيام } [ق: 38]؛ أي: في ستة أنواع من المخلوقات، وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح والأشباح والنفوس والقلوب والأسرار وسر الأسرار، فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها؛ فافهم جدا.
{ وما مسنا من لغوب } [ق: 38]؛ لأنها خلقت بإشارة أمر: { كن } ، كما قال تعالى:
ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر
[القمر: 50]، فأنى يمسه اللغوب، وأنه صمد لا يحدث في ذاته حادث.
[50.39-45]
وبقوله: { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك } [ق: 39]، يشير إلى تربية النفوس بالصبر على ما يقول الجاهلون، من كل نوع من المكروهات وتزكيتها عن الصفات المذمومات، بملازمة الذكر والتسبيحات والتحميدات { قبل طلوع الشمس } [ق: 39]؛ يعني: من أول النهار، { وقبل الغروب } [ق: 39]؛ يعني: آخر النهار، { ومن الليل } [ق: 40]؛ أي: من جميع الليل بقدر الوسع والطاقة، { فسبحه وأدبار السجود } [ق: 40]؛ يعني: بعد الصلاة.
وبقوله: { واستمع يوم يناد المناد } [ق: 41]، يشير إلى مراقبة القلوب بعد انقضاء أوقات الذكر؛ لاستماع نداء الهواتف الغيبية والإلهامات الربانية والإشارات الإلهية { من مكان قريب } [ق: 41].
{ يوم يسمعون } [ق: 42]، وهو قلب النفوس { الصيحة بالحق } [ق: 42]، من جناب الحق بتجلي صفاته، { ذلك يوم الخروج } [ق: 42] عن ظلمات البشرية إلى نور الروحانية والربانية.
{ إنا نحن نحيي } [ق: 43] القلوب الميتة، { ونميت } [ق: 43] النفوس المحبة، { وإلينا المصير } [ق: 43] لمن ماتت نفسه وحيي قلبه، وذلك { يوم تشقق الأرض } [ق: 44]؛ أي: أرض الوجود { عنهم سراعا } [ق: 44] بجذبة الحق تعالى، { ذلك حشر علينا يسير } [ق: 44]، بإفناء وجودكم وإبقائكم بوجودنا.
{ نحن أعلم بما يقولون ومآ أنت عليهم بجبار } [ق: 45]، هذا خطاب لمع القلب؛ يعني: ما أنت على النفس وصفاتها بمسلط، { فذكر بالقرآن } [ق: 45]؛ أي: بدقائق معانيه وحقائق أسراره { من يخاف وعيد } [ق: 45]؛ يعني: بعض النفوس القابلة لتذكر القرآن ووعيده، فإنه ليس من نفس قابلة له.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-15]
{ والذاريات ذروا } [الذاريات: 1]، يشير إلى الرياح [السحابية] بحمل أنين المشتاقين المتعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام أسرار أهل المحبة، فيجدون راحة من غلبات اللوعة، وفي معناه أنشدوا:
وإني لأستهدي الرياح سلامكم
إذا أقبلت من نحوكم بهبوب
وأسألها حمل السلام إليكم
فإن هي يوما بلغت فأجيبي
بقوله: { فالحاملات وقرا } [الذاريات: 2]، يشير إلى سحاب ألطاف الربوبية بحمل أمطار مراحم الألوهية، فيمطر على قلوب الصديقين.
وبقوله: { فالجاريات يسرا } [الذاريات: 3]، يشير إلى سفن وجود المحبين المحبوبين شراعها مرفوعة إلى مهب رياح العناية؛ فتجري بها في بحر التوحيد على أيسر حال.
وبقوله: { فالمقسمات أمرا } [الذاريات: 4]، يشير إلى من ينزل من الملائكة المقربين؛ لتفقد أهل الوصلة وللقيام بأنواع من الأمور لأهل هذه القصة، فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم هل عندهم خبر من فراقهم ووصالهم، ويقولون:
بربكما يا صاحبي قفا ليا
أسائلكم عن حالكم فسألانيا
{ إنما توعدون } [الذاريات: 5]، أيها الطالبون الصادقون في خطاب:
" ألا من طلبني وجدني "
{ لصادق } [الذاريات: 5]، { وإن الدين } [الذاريات: 6]؛ أي: حقيقة الدين { لواقع } [الذاريات: 6] في جدر قلوب المجاهدين فينا وأسرار المجتهدين لنا، أن الله تعالى وعد المطيعين بالجنة، والتائبين بالمحبة، والأولياء بالقربة، والعارفين بالوصلة، والطالبين بالوجدان.
ثم جدد القسم فقال: { والسمآء ذات الحبك } [الذاريات: 7]، أشار إلى سماء القلب ذات الطرائق إلى الله عز وجل، { إنكم } [الذاريات: 8] أيها الطالبون الصادقون { لفي قول مختلف } [الذاريات: 8] في الطلب؛ فمنكم من يطلب منا ما قلنا من الدرجات في جنان النعيم، ومنكم من يطلب منا ما عندنا من كمالات القربات، ومنكم من يطلب منا بالدنيا من العلوم والمعارف، ومنكم من يطلبنا بجميع صفاتنا، فمن استقام على الطريقة وثبت ملازما في طلبه لبلغ كل قاصد مقصده.
وبقوله: { يؤفك عنه من أفك } [الذاريات: 9]، يشير إلى أن في قطاع الطريق على أرباب الطلب للكثرة، فمن يصرفه طلبه قاطع من القطاع من النفس والهوى والدنيا وزينتها وشهواتها وجاهها ونعيمها فصرف؛ فقد حرم عن متمناه وأهلكه هواه، كما قيل نعوذ بالله من الحور بعد الكور، وينادي عليه منادي العزة: وكم مثلها فارقتها وهي تصغر.
وبقوله: { قتل الخراصون * الذين هم في غمرة ساهون } [الذاريات: 10-11]، يشير إلى مدعي هذا الحدث الكذابين الذين هم في غمرة الحسبان والغرور لاهون، ومن استبطاء حصول المرام { يسألون أيان يوم الدين } [الذاريات: 12]؟ وهم في ضلالة ظلمة ليل الدنيا يستعجلون في استصباح نهار الدين، فأجابتهم عزة الجبروت عن تنق الكبرياء والعظموت، { يوم هم على النار } [الذاريات: 13]؛ أي: على نار الشهوات { يفتنون } [الذاريات: 13]؛ أي: بعذاب البعد والقطيعة يعذبون.
{ ذوقوا فتنتكم }؛ أي: عذاب فتنتكم التي قطعت عليكم طريق الطلب، { هذا الذي كنتم به } [الذاريات: 14] تملون عن الطلب، { تستعجلون } [الذاريات: 14] الظفر بالمقصود.
ثم أخبر عن المتقين التائبين بقوله تعالى: { إن المتقين في جنات وعيون } [الذاريات: 15]، يشير إلى أنهم في جنات قلوبهم، وعيون الحكمة في عاجلهم، بل في جنات الوصل وفي أجلهم في جنات الفضل، فغدا نجاة ودرجات واليوم مناجاة وقربات.
[51.16-23]
{ آخذين مآ آتاهم ربهم } [الذاريات: 16] اليوم بقلوب فارغة من الله من أصناف ألطافه، وغدا يأخذون ما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرغد، { إنهم كانوا قبل ذلك } [الذاريات: 16]؛ أي: قبل أن كانوا في الوجود وكانوا في العدم { محسنين } [الذاريات: 16]، وإحسانهم أنهم كانوا محبين الله بالله، كما قال تعالى:
ويحبونه
[المائدة: 54] وهم بعد في العدم.
ولما حصلوا في الوجود { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } [الذاريات: 17]؛ أي: كانوا قليلا، وكانوا لا ينامون بالليل كقوله:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، وكقوله صلى الله عليه وسلم:
" نوم العالم عبادة "
، فمن يكون في العبادة نائما؟
{ وبالأسحار هم يستغفرون } [الذاريات: 18]؛ أي: يستغفرون عن رؤية عبادات يعلمونها في سهرهم إلى الأسحار بمنزلة العاصين، يستغفرون استصغارا لقدرهم واستحقارا لفعلهم، والليل إما للأحباب في أنس المناجاة وإما للعصاة في طلب النجاة، والسهر لهم في لياليهم دائم؛ لفرط أسف أو لشدة لهف، وإما للاشتياق أو للفراق، كما قال:
وأكم ليلة فيك لا صباح لها
أفنيتها قابضا على كبدي
قد عضت العين بالدموع وقد
وضعت خدي على بنان يدي
وإما لكمال أنس وطيب روح، كما قالوا:
سقى الله عيشا نضيرا مضى
زمان الهوى في الصبا والمجون
لياليه تحكي انسداد اللحاظ
للعين عند ارتداد الجنون
وبقوله: { وفي أموالهم حق للسآئل والمحروم } [الذاريات: 19]، يشير إلى ما آتاهم الله من فضله من المقامات والكمالات، أنه فيها حق للطالبين الصادقين إذا قصدوهم من أطراف العالم في طلبها إذ عرفوا قدرها، والمحروم من لم يعرف قدر تلك المقامات والكمالات، فاقصدوهم في طلبها فلهم في ذمة هؤلاء الكرام حق التفقد والنصح،
" فإن الدين النصيحة "
؛ فإنهم بمنزلة الطبيب، والمحروم بمنزلة المريض، فعلى الطبيب أن يأتي إلى المريض، ويرى نبضه ويعرف علته ويعرفه خطرها، ويأمره بالاحتماء عن كل ما يضره، ويعالجه بأدوية تنفعه إلى أن يزول مرضه وتظهر صحته.
{ وفي الأرض آيات للموقنين } [الذاريات: 20]، منها أنها تحمل كل شيء، فكذلك الموقن العارف يحمل كل حمل من كل أحد، ومن استثقل حملا وتبرم برؤية أحد؛ ساقه الله إليه فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومنها أنه يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وورد، كذلك المعارف يتشرف ما يسقي من الجفاء، ولا يترشح إلا بكل خلق على شيمة زكية، ومنها أن ما كان منها سبخا يترك ولا يعمر؛ لأنه لا يتحمل العمارة كذلك من الإيمان له بهذه الطريقة يهمل؛ فإن مقابلته بهذه القصة كإلقاء البذر في الأرض السبخة.
وبقوله: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات: 21]، يشير إلى أن نفس الإنسان مرآة جميع صفات الحق تعالى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" من عرف نفسه فقد عرف ربه "
، فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها، وكمالها في أن تصير مرآة تامة مصقولة قابلة لتجلي صفات الحق لها؛ فيعرف نفسه بالمرآتية ويعرف ربه بالتجلي فيها، كما قال تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت: 53].
وبقوله: { وفي السمآء رزقكم وما توعدون } [الذاريات: 22]، يشير إلى سماء الأرواح، كما ينزل ما هو سبب رزق الأبدان من سماء الصورة كذلك ينزل ما هو سبب رزق القلوب وحياتها من سماء الأرواح من الطوالع واللوامع والشواهد والتجليات الروحانية والتجليات الربانية، { وما توعدون } [الذاريات: 22]،
" ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
{ فورب السمآء والأرض إنه لحق } [الذاريات: 23]؛ أي: فكما قولكم أن الله خالق السماء والأرض حق؛ كذلك القول فإنه الرازق حق ووعده حق لكم، { مثل مآ أنكم تنطقون } [الذاريات: 23]؛ يعني: كما أنطقكم الله فينطقون بقدرته بلا شك حق من الله أن يرزقكم ما وعدكم، وإنما اختص التمثل بالنطق؛ لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته.
[51.24-30]
ثم أخبر عن ضيف المكرمين غيره للمؤمنين بقوله تعالى: { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } [الذاريات: 24]، يشير إلى إبراهيم الروح وضيفه المكرمين تجليات صفات الجمال والجلال؛ { فراغ } [الذاريات: 26]؛ أي: إبراهيم الروح { إلى أهله } [الذاريات: 26]؛ أي: إلى أوصاف بشريته، { فجآء بعجل سمين } [الذاريات: 26]؛ أي: بالصفة البهيمية مشوبة بنار التجلي؛ { فقربه إليهم } [الذاريات: 27] تقربا إلى الله يبذلها، { قال ألا تأكلون } [الذاريات: 27]، طلب الفناء من هذه الصفة بالكلية فما أفنوها، وما كان القصد فناؤها بالكلية؛ إنما كان القصد إزالة قوتها وشوكتها المضرة للروح.
{ فأوجس منهم } [الذاريات: 28]؛ أي من سطوات التجلي { خيفة } [الذاريات: 28] على نفسه، { قالوا لا تخف } [الذاريات: 28]؛ أي: إنا ما أرسلنا إلا لإصلاح ذلك وإهلاك أعدائك، { وبشروه بغلام } [الذاريات: 28] وهو إسحاق قلبه { عليم } [الذاريات: 28] بالعلم اللدني يولد له بعد هلاك أعدائه، وهم النفس وصفاتها.
{ فأقبلت امرأته } [الذاريات: 29] وهي الروح الطبيعي { في صرة فصكت وجهها } [الذاريات: 29]؛ تعجبا من أن يلد عجوزا مثلها غلاما مثل القلب الحقيقي، { وقالت عجوز عقيم } [الذاريات: 29] لم تلد قط كيف تلد الآن مثله، { قالوا } [الذاريات: 30] التجليات بلسان الحال: { كذلك قال ربك } [الذاريات: 30]، إنه عليه هين { إنه هو الحكيم } [الذاريات: 30] يحكم بمثل هذا المقتضي حكمته، { العليم } [الذاريات: 30] بفعل أمثاله.
[51.31-40]
{ قال } [الذاريات: 31]؛ يعني إبراهيم الروح: { فما خطبكم أيها المرسلون } [الذاريات: 31]؛ يعني: التجليات { قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين } [الذاريات: 32] وهم النفس وصفاتها الذميمة؛ { لنرسل عليهم حجارة من طين * مسومة عند ربك } [الذاريات: 33-34]، هلاك { للمسرفين } [الذاريات: 34]، وهي الأذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات والمعاملات المهلكة للنفس وأوصافها؛ { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } [الذاريات: 35] سالمين من الهلاك، { فما وجدنا فيها } [الذاريات: 36]؛ أي: في مدينة الشخص الإنساني { غير بيت من المسلمين } [الذاريات: 36]؛ أي: القلب السليم وأوصافة الحميدة، { وتركنا فيهآ آية } [الذاريات: 37] من تزكية النفس وتهذيب أخلاقها، عبرة { للذين يخافون العذاب الأليم } [الذاريات: 37]، بوعيد قوله:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 9-10].
ثم أخبر عن عذاب أهل العقاب بقوله تعالى: { وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } [الذاريات: 38]، يشير إلى موسى القلب إذ أرسله إلى فرعون النفس بسلطان وهو عصا لا إله إلا الله مبين إعجازها بأن يتلقف ما تؤفكون من سحر تمويهات سحرة فرعون النفس، { فتولى بركنه } [الذاريات: 39]؛ أي: أعرض رؤية الإعجاز والإيمان به بجميع صفاته، { وقال } [الذاريات: 39] فرعون النفس لموسى القلب: { ساحر أو مجنون * فأخذناه وجنوده } [الذاريات: 39-40]؛ يعني: فرعون النفس وصفاتها، { فنبذناهم في اليم } [الذاريات: 40]؛ أي: يم الدنيا ليهلكوا فيها، { وهو مليم } [الذاريات: 40]؛ أي: مستحق اللوم إنما هو فرعون النفس؛ لأنها هي الأمارة بالسوء والصفات تبع لها.
[51.41-48]
وبقوله: { وفي عاد } [الذاريات: 41] إلى قوله: { والسمآء بنينها } [الذاريات: 47]، يشير إلى النفس وصفاتها وأسباب هلاكها من غضب ربها.
وبقوله: { والسمآء بنينها بأييد } [الذاريات: 47]، يشير إلى سماء القلوب؛ إذ بناها بحكمة بالغة قابلة للفيض الإلهي، { وإنا لموسعون } [الذاريات: 47]؛ يعني: القلوب لقبول الفيض، كما قال:
" وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن "
؛ يعني: إذا وسعته لهذا القبول { والأرض فرشناها } [الذاريات: 48]؛ أي: أرض النفوس فرشناها لسماء القلوب؛ ليمطر عليها مطر الحكمة من سماء القلوب؛ فتنبت منها أشجار العبودية التي تثمر أثمار مواهب الربوبية، ثم أثنى على نفسه تعالى عزة لكمال صنيعه فقال: { فنعم الماهدون } [الذاريات: 48].
[51.49-54]
وبقوله: { ومن كل شيء خلقنا زوجين } [الذاريات: 49]، يشير إلى أنه تعالى خلق لكل شيء من عالم الملك وهو عالم الأجسام زوجا بيد القدرة الإلهية، كما قال تعالى:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون
[يس: 83]، بهذا الطريق للوصول والوصال.
{ لعلكم تذكرون } [الذاريات: 49] أنكم بهذا الطريق جئتم من الحضرة ويد القدرة إلى الملكوت، ومن الملكوت إلى الملك فبهذا الطريق ترجعون إلى الله، وهو قوله: { ففروا إلى الله } [الذاريات: 50]؛ أي: يا أيها الذين فررتم من الله بتعلقات الكونين ففروا إليه بقطع التعلقات عما سواه { إني لكم منه نذير } [الذاريات: 50]، بهذا القطع { مبين } [الذاريات: 50] بالبراهين القاطعة.
{ ولا تجعلوا مع الله } [الذاريات: 51] في المعرفة بوحدانية { إلها آخر } [الذاريات: 51] من النفس والهوى والدنيا والآخرة، فتعبدوها بالميل إليها والرغبة بها، فإن التوحيد في الإعراض عنها وقطع تعلقاتها والفرار إلى الله منها؛ لأن من صح قرآن إلى الله صح قرآن مع الله وهذا إكمال فإنه التوحيد، لا يغفر أن يشرك به.
ثم أخبر عن عادة ساداتهم في الكفر بقوله تعالى: { كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } [الذاريات: 52]، يشير إلى أرباب النفوس المتمردة من الأولين والآخرين، مركوزة في جبلتهم طبيعة الشيطانية من التمرد والإباء والاستكبار، فما أتاهم رسول من الأنبياء في الظاهر، ومن الإلهامات الربانية في الباطن إلا أنكروا عليه، وقالوا: { ساحر } [الذاريات: 52] يريد أن يسحرنا، { أو مجنون } [الذاريات: 52] لا عبرة بقوله: { أتواصوا به } [الذاريات: 53]، كأن بعضهم بالتمرد والإنكار والجحود؛ لأنهم خلقوا على طبيعة واحدة،، { بل هم قوم طاغون } [الذاريات: 53] بأنهم وجدوا أسباب الطغيان، وهي: السعة والتنعم والبطر والغنى.
{ فتول عنهم } [الذاريات: 54]، فإنك لا تهدي من أحببت منهم، { فمآ أنت بملوم } [الذاريات: 54]، في العجز عن هدايتهم؛ لأنك تبلغ وليس إليك من الهداية شيء.
[51.55-60]
{ وذكر } [الذاريات: 55]، فإن حرفتك أن تكون مذكرا، كما قال تعالى:
فذكر إنمآ أنت مذكر
[الغاشية: 21]، { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } [الذاريات: 55]، الذين من الله عليهم أن هداهم للإيمان، فذكر العاصين منهم عقوبتي؛ ليرجعوا عن مخالفة أمري، وذكر المطيعين جزيل نوالي؛ ليزدادوا طاعة وعبادة لي، وذكر المحبين ما شاهدوا من أنوار جمالي وجلالي في الغيب وغيب الغيب؛ ليزيدوا في بذل الوجود وطلب المفقود.
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]؛ لأن ذرة معرفتي مودعة في صدق عبوديتي، وإن معرفتي تنقسم قسمين: معرفة صفات جمالي ومعرفة صفات جلالي، ولكل واحدة منهما مظهر، والعبودية مشتملة على المظهرين بالانقياد لها والتمرد عنها، فمن انقاد لها بالتسليم والرضاء كما أمر به، فهو مظهر صفات جمالي ولطفي، ومن تمرد عنها بالإباء والاستكبار، فهو مظهر صفات جلالي وقهري، فحقيقة قوله: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]؛ أي: خلقت المقبولين منهم؛ ليعبدوا الله فيكونوا مظهر صفات لطفه، وخلقت المردودين منهم؛ ليعبدوا الهوى فيكونوا مظهر صفات قهره، هذا المعنى الذي أردت من خلقهم { مآ أريد منهم من رزق } [الذاريات: 57] يحصلونه بكسبهم { ومآ أريد } [الذاريات: 57] منهم { أن يطعمون } [الذاريات: 57]؛ يعني: ما خلقتهم لمصلحة من مصالح الدنيا يختص بها؛ وإنما خلقتهم مختصين بأن يكونوا مظاهر صفات لطفي وقهري ومظهرهما.
{ إن الله هو الرزاق } [الذاريات: 58] بجميع الخلائق، { ذو القوة المتين } [الذاريات: 58] في خلق الأرزاق والمرزوقين، { فإن للذين ظلموا } [الذاريات: 59]، من أهل القلوب على قلوبهم، بأن جعلوها ملوثة بحب الدنيا بعد أن كانت معدن محبة الله مع { ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم } [الذاريات: 59] من أرباب النفوس بجميع صفاتها؛ لأن القلب إن صلح صلح به سائر الجسد، وإذا فسد فسد به سائر الجسد { فلا يستعجلون } [الذاريات: 59] في إفساد القلب { فويل للذين كفروا } [الذاريات: 60] بنعمة ربهم في إفساد القلب، { من يومهم الذي يوعدون } [الذاريات: 60] بإفساد سائر صفات الجسد.
[52 - سورة الطور]
[52.1-15]
{ والطور * وكتاب مسطور } [الطور: 1-2]، يشير إلى طور النفس الذي كلم الله عليه موسى القلب؛ لشرف استماع كلام الحق عليه صار محل القسم، فأقسم الله به وبكتاب كتبه الله تعالى { في رق منشور } [الطور: 3]؛ أي: في قلوب منسوبة إلى الرقة يدل عليه قوله:
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة: 22].
{ والبيت المعمور } [الطور: 4]، وهو سر قلوب العارفين معمور بأسرار الحق تعالى، { والسقف المرفوع } [الطور: 5]، وهو الروح المرفوع درجاته إلى الحضرة، وهو سقف بيت الغلبة.
{ والبحر المسجور } [الطور: 6]؛ أي: بحر قلب سجر بنار المحبة ما قسم لعزة هذه الأشياء، { إن عذاب ربك لواقع } [الطور: 7]؛ أي: العذاب لأهل العذاب واقع بالنقد؛ لأن أشد العذاب ذل الحجاب كان من دعاء سري السقطى: اللهم مهما عذبتني فلا تعذبني بذل الحجاب والحجاب واقع؛ فإن أعظم الحجاب حجاب النفس { ما له من دافع } [الطور: 8] من قبل العبد؛ بل دافع حجاب النفس وهو رحمة الله تعالى، كما قال تعالى:
النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي
[يوسف: 53].
وبقوله: { يوم تمور السمآء مورا } [الطور: 9]، يشير إلى سماء القلب ومورة توجهه للحق تعالى بصدق الطلب، { وتسير الجبال } [الطور: 10] جبال النفس { سيرا } [الطور: 10] إلى عالم القلب، ومنه إلى عالم الأرواح، ومنه بجذبة:
ارجعي
[الفجر: 28] إلى حضرة الربوبية، { فويل يومئذ } [الطور: 11] حين ظفر الطالب بالمطلوب، ووصل المحب إلى المحبوب، { للمكذبين } [الطور: 11] بهذا الحديث، من ينزل الحسرات الموقدة التي قطعت على الأفئدة من فوات هذه السعادة العظمى، والحرمان عن ما وعدناكم من عذاب خوضكم في الدنيا، ولعبكم بها من الغفلة ونيران الحسرات [والزفرات] { الذين هم في خوض } [الطور: 12] الدنيا وشهواتها وزخارفها { يلعبون } [الطور: 12].
{ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا } [الطور: 13] دعاء لا خلاص منها ولا رجوع، يناديهم عزة الحق تعالى: { هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا } [الطور: 14-15]؛ يعني الذي { أم أنتم لا تبصرون } [الطور: 15] حقائق هذه المعاني.
تفسير عين الحياة.
اعلم يا طالب النور على الطور والعلم في الكتاب المسطور، والحكمة على الرق المنشور، والحقيقة في البيت المعمور، والحق على السقف المرفوع، وسر الباطن في البحر المسجور، أن هذه لطائف أودعها الله في وجودك؛ لتعرف أسرارها، ويحصل لك بها السرور والحبور في القبور، ويتنعم بتلك اللطائف بعد النشور في مرر الحور، المنكبة على أريكة المعرفة فوق القصور، ويتقن بأن قالبك هو الطور، وسرك هو الكتاب المسطور، وقلبك هو الرق المنشور، وروحك هو البيت المعمور، وصفتك هي السقف المرفوع، ونفسك هي البحر المسجور في عالم الأنفس.
والله تعالى أقسم بما في الآفاق، كما فسره المفسرون بقوله تعالى: { والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور } [الطور: 1-6]، وعالم الآفاق ملك عالم الأنفس مظهر لصفة باطنية الحق، كما أن عالم الآفاق مظهر لصفة ظاهرية الحق تعالى، وهو تعالى عالم الغيب والشهادة، ويجوز أن يقسم بمظاهر ظاهريته وباطنيته، ولكن الطور الآفاقي لا يتعلق بك، وكل ما هو كائن في الآفاق إذا أخرجت من عالم بذلك الآفاقي بقي في عالمه، ويكون بينك وبين ما فيه بعد المشرقين؛ فاطلب طورا يكون معك بعد خروجك من عالم الآفاق، وهو طور قالبك الباقي بعد الحشر معك إما متنعما في الجنة وإما متألما في النار، واجتهد اليوم أن تجعله نورا لا ظلمانيا؛ ليكون قبرك منورا لا مظلما مكدرا في البرزخ، ويكون مأواك الجنة لا جهنم بعد خلاصك من البرزخ، وإن لم تنور طورك اليوم، ولم تسكن البحر المسجور الذي سجر بنيران الشهوة والغضب والكبر، بماء الذكر وثلج الرياضة وبرد الأخلاق الحميدة.
{ إن عذاب ربك لواقع } [الطور: 7]، ولكل لطيفة عذاب يختص بما دون غيرها، وأشد العذاب ذل الحجاب وهو أن ليس له واقع بعد الوقوع، كما يقول: { ما له من دافع } [الطور: 8]، ولا حيلة للسالك في دفعة خاصته.
{ يوم تمور السمآء } [الطور: 9]، سماء الصدر { مورا } ، { وتسير الجبال } [الطور: 10]، جبال قوى معدنيته { سيرا } [الطور: 10]، عند مشاهدته قوته القابضة النازعة، التي هي عزرائيل تقبض قوى روحانيته السارية في عودته، وينزع من ذرات وجوده اللطيفة الحيوانية، التي هي من خصائص صفات روحانيته.
{ فويل يومئذ للمكذبين * الذين هم في خوض يلعبون } [الطور: 11-12]؛ أي: يخوضون في غمرات البحر اللجي الدنيوي، ويلعبون فيها يزيدها الباطل ومتاعها القليل، ويكذبون اللطائف المستخلصة عن الأكدار المتحلية بالأنوار المرسلة إليهم بالإنذار والإيثار؛ لاشتغالهم بالدنيا الفانية، ومتاع الغرور وغفلتهم عن الآخرة الباقية، التي هي دار السرور.
{ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون } [الطور: 13-14]؛ أي: تكذبون اللطائف المرسلة إليكم الداعية لكم إلى الحق، فهذه النار التي كانت فيكم، وأنتم أشعلتموها في وجودكم، وأوقدتموها بنيران الحسد والحقد والكبر والغضب والبغض، وجمعتم لها حطب الحطام الدنيوي من الدراهم والدنانير والأموال والأملاك والمواشي، فصار المجموع حطمتكم مما تكوي جباهكم وجنوبكم.
{ أفسحر هذا } [الطور: 15]، الذي يدفعكم خزية نيرانكم إليها دفعا، ويقولون معكم: { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } [الطور: 14] دار الكسب خلف الأستار، وتنكرون اللطائف المنذرة غاية الإنكار، ويستهزئون بالإنذار، فسحر هذا الذي تبصرونه اليوم، الذي كشفنا عنكم فيه الغطاء ورفعنا الأستار، أتظنون أن الذي تشاهدونه ليس حقيقة أم سحر أعينكم، { أم أنتم لا تبصرون } [الطور: 15]، حقيقة.
[52.16-23]
{ اصلوها } [الطور: 16] أدخلوها لتذوقوا عذابها، { فاصبروا } [الطور: 16] في هذا البلاء { أو لا تصبروا } [الطور: 16] حين لا ينفعهم الصبر؛ إذ لم تصبروا حين ينفعكم الصبر، { سوآء عليكم } [الطور: 16] أجزعتم أم صبرتم؛ { إنما تجزون ما كنتم تعملون } [الطور: 16] في الدنيا من الخير والشر الذي تعملون في الآخرة من الصبر والخضوع والخشوع والتضرع والدعاء، فإنه لا ينفع شيء منها، والحاصل أن يقال:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون: 108].
ثم أخبر عن التقى وأرباب هذه الدرجات العلا بقوله تعالى: { إن المتقين في جنات ونعيم } [الطور: 17]، يشير إلى أنهم في جنات القرب ونعيم المشاهدة في العاجل والآجل؛ إذ اتقوا بالله سواه.
{ فاكهين } [الطور: 18]، متعجبين { بمآ آتاهم ربهم } [الطور: 18] من أصناف ألطافه، { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } [الطور: 18] جحيم نفوسهم وعذابها وشهواتها.
{ كلوا } [الطور: 19] من طعام المشاهدات، { واشربوا } [الطور: 19]، من شراب المكاشفات، { هنيئا بما كنتم تعملون } [الطور: 19] من أنواع المجاهدات ورعاية آداب الرياضات، فإن المجاهدات تورث المشاهدات:
فاشرب على وجهها كغرتها
مدامة في الكؤوس كالشرر
{ متكئين على سرر مصفوفة } [الطور: 20]، سرر الدرجات والقربات المفيضة في العبودية، { وزوجناهم بحور عين } [الطور: 20]، من إنكار الحقائق الغيبية { والذين آمنوا } [الطور: 21] بهذا الحديث في طلب الحق تعالى من القلب والروح، { واتبعتهم ذريتهم } [الطور: 21] من النفس وصفاتها { بإيمان } [الطور: 21] بهذا الحديث { ألحقنا بهم ذريتهم } [الطور: 21]، وإن لم يكونوا مستعدين لنيل هذه الكمالات من الوصول والوصال بالاستقلال، { ومآ ألتناهم من عملهم } [الطور: 21]؛ أي: ما ينقص من جزاء عمل القلب والروح { من شيء } [الطور: 21]، بسبب إلحاق النفس وصفاتها بهم في المقام.
{ كل امرىء بما كسب رهين * وأمددناهم } [الطور: 21-22]؛ يعني: القلب والروح { بفاكهة ولحم مما يشتهون } [الطور: 22]؛ يعني: بما هو من مشارب النفس الحيوانية؛ تقوية للروحانية وإمدادا للسير في الصفات الربانية.
{ يتنازعون } [الطور: 23]؛ يعني: يتعاطون القلب والروح والنفس وصفاتها، { فيها } [الطور: 23]؛ أي: في مقامات السير { كأسا } [الطور: 23] من مشارب الروح والقلب للنفس، وكأسا من مشارب النفس للروح والقلب، { لا لغو } [الطور: 23] من أوصاف البشرية { فيها } [الطور: 23] في الكاسات؛ لينزله إلى مقام النفس { ولا تأثيم } [الطور: 23] من أوصاف الروحانية؛ لعده بطبع الروحانية في الروحانية.
تفسير عين الحياة
{ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [الطور: 16]؛ يعني: صلوا الستار التي أنتم أوقدتموها، وأشعلتم حطب الحطام بنيرانها، { فاصبروا } وهو أمر على طريق الظن والاستهزاء بهم، { أو لا تصبروا } وهو كلام يتكلم المتكلم به على طريق عدم الالتفات إلى حال المجرمين، { سوآء عليكم } أن تصبروا على هذه النار { أو لا تصبروا }؛ لأن إخراجكم من هذه النار التي أنتم أشعلتموها في دار الكسب محال غير ممكن، هذا جزاؤكم على ما كسبتم من حطب الحطام، واجتهدتم في إيقاد النار، وبالغتم في اشتعالها بريح القوى.
{ إن المتقين } [الطور: 17] الذين اتقوا متاع الدنيا، وهو ما عده الله تعالى في كلامه؛ حيث بين ما زينه الشيطان للإنسان بقوله عز وجل:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب
[آل عمران: 14]،
قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا
[آل عمران: 15] عن هذه الأمتعة التي ذكرناها، وعن نيران الشهوة والغضب والكبر والحسد عند ربهم جنات، كما يقول في هذه السورة { إن المتقين في جنات ونعيم * فاكهين بمآ آتاهم ربهم } [الطور: 17-18]، من العلم النافع، الذي حملهم على التقوى من متابعة الهوى والاشتغال باللعب واللهو في جميع أمتعة الدنيا، التي هي الحطمة في العقبى.
{ ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } [الطور: 18]؛ يعني: بعد أن يلهيهم الله بالعلم النافع وقاهم من العذاب بالتوفيق الذي أعطاهم الله؛ ليجتهدوا في إطفاء نيران الشهوة والغضب والكبر، وإخمادها بالماء والثلج والبرد.
{ كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } [الطور: 19]؛ يعني: { كلوا } من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية، { واشربوا } من العيون المختصة باللطيفة القلبية، { هنيئا بما كنتم تعملون } من الأعمال الصالحة الظاهرة على الجوارح، والإخلاص والصدق الباطن المختص بالقلب.
{ متكئين على سرر مصفوفة } [الطور: 20] بما صفوا أسرارهم مستريحين بمشاهدة أنوارهم، { وزوجناهم بحور عين } [الطور: 20]، بما تركوا في البحر المسجور وهو النفوس، زوجنا لطيفة حورية روحانيتهم بمعاينة صورة الذكر الخالص عن الخواطر الودية.
{ والذين آمنوا } [الطور: 21]، من قوى لطائفهم باللطيفة المرسلة الخفية، وما مضى عليهم من الأمور الغيبية، { واتبعتهم ذريتهم } [الطور: 21]؛ أي: قوى قالبيتهم ونفسيتهم { بإيمان } [الطور: 21]؛ يعني: ما عملوا بالجوارح الظاهرة والقوى الباطنة شيئا ينقص حقيقة إيمانهم، من ارتكاب المناهي والاشتغال بالملاهي، والاجتراء على المعاصي مما يؤخذ صاحبه وقت كشف الغطاء بالنواهي، { ألحقنا بهم ذريتهم } [الطور: 21]؛ يعني: ألحقنا باللطائف قواهم المزكاة في التمتع بالأكل والشرب وما تشتهي أنفسهم، { ومآ ألتناهم من عملهم من شيء } [الطور: 21]؛ أي: ما نقصنا من آبائهم بما أعطينا ذرياتهم، { كل امرىء بما كسب رهين } [الطور: 21]، هذه إشارة إلى أن اللطائف أجور خاصة مما يليق بحالها من معارف الحقيقة الإلهية، وللقوة المذكورة أجورا خاصة من المعارف الحقيقية والروحية والسرية والقلبية، وللجوارح أجورا خاصة مما يليق بها من التنعم بالنعيم المقيم، والحور العين، وما اشتهت أنفسهم في الجنة، فكل جارحة من الجوارح أو قوة من القوى أو لطيفة من اللطائف بحسب سعيها في طاعة الله تعالى في دار الكسب، يجزيها الله في دار الجزاء بمثل ما كسبت وسعت وادخرت لنفسها، كما يقول تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم: 39]،
وأن سعيه سوف يرى
[النجم: 40] خيرا كان أو شرا.
{ وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون } [الطور: 22]، هذه أيضا لقوى نفوسهم الباطنة، وجوارحهم الظاهرة المتحلية بالطاعة، { يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم } [الطور: 23]؛ يعني: يكون كؤوس استعدادات اللطائف مملوءة من شراب المشاهدة، منزها من كل باطل من كل شيء يأثم به شاربه، وهذه مدخرة لهم في دار الجزاء، ينظرهم كؤوس استعداداتهم من اللغو والتأثيم والرفث والكذب والغيبة والكبر والحسد وأمثالها في دار الكسب، يتناولون في دار الجزاء كؤوس استعداداتهم المطهرة المملوءة من شراب المعرفة.
[52.24-31]
{ ويطوف عليهم غلمان لهم } [الطور: 24] من واردات الحق تعالى، { كأنهم لؤلؤ مكنون } [الطور: 24]، لا كدورة فيهم من نقوش الدارين، والقوم عن الدار وعمن في الدارين مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم من تتابع الكاسات في بحر الحياة.
{ وأقبل بعضهم } [الطور: 25]؛ يعني: القلب والروح { على بعض } [الطور: 25]؛ يعني: على النفس { يتسآءلون * قالوا إنا كنا قبل } [الطور: 25-26]؛ أي: قبل السير والسلوك { في أهلنا } [الطور: 26]؛ أي: في عالم الإنسانية { مشفقين } [الطور: 26]، خائفين من سموم صفات البهيمية والسبعية والشيطانية والشهوات الدنياوية؛ فإنها مهب سموم قهر الحق تعالى، { فمن الله } [الطور: 27] تعالى { علينا ووقانا عذاب السموم } [الطور: 27] سموم قهره، ولولا فضله ما تخلصنا منه بجهدنا وسعينا، بل { إنا كنا من قبل ندعوه } [الطور: 28]، ونتضرع إليه بتوفيقه في طلب النجاة وتحصيل الدرجات، { إنه هو البر } [الطور: 28] لمن يدعوه، { الرحيم } [الطور: 28] لمن ينيب إليه.
ثم أخبر عن التذكير لدفع التقصير بقوله تعالى: { فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } [الطور: 29-30]، يشير إلى أن طبيعة الإنسان متنفرة في حقيقة الدين، مجبولة على حب الدنيا وزينتها وشهواتها، والجوهر الروحاني الذي جبل على فطرة الإسلام في الإنسان موزع بالقوة كالجوهر في المعدن، فلا نستخرج إلى الفعل إلا بجهد جهيد، وسعي تام على قانون الشريعة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده، وبعده بإرشاد ورثة علمه وهم العلماء الربانيون الراسخون في العلم من المشايخ المسلكين، وفي زمان كل واحد منهم.
والخلق مع دعوى إسلامهم ينكرون على سواهم في الأغلب، ويستعدون ترك الدنيا والعزلة والانقطاع عن الخلق، والتبتل إلى الله، وطلب الحق تعالى إلا من كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهو الصدق في الطلب وحسن الإرادة المنتجة في بذر،
يحبهم ويحبونه
[المائدة: 54]، و
ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء
[المائدة: 54]، وإلا من خصوصية طبيعة الإنسان أن يمرق من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، وإن كانوا يصلون ويصومون، ويزعمون أنهم مسلمون ولكن بالتقليد لا بالتحقيق، اللهم إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه.
وفي قوله: { فذكر } إشارة أيضا إلى أن التذكير على النبي والشيخ واجب في كل حال والعظة للخلق؛ ليحيي من حيي عن بينة وهلك من هلك عن بينة، ومن طبيعة الإنسان أن ينسب أهل التحقيق من الإنسان والمشايخ إلى الكهانة والجنون والسحر والشعر.
وبقوله: { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } [الطور: 31]، يشير إلى النصير في الأمور ودعوة الخلق، والتوكل على الله فيما يجري على عباده والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين.
تفسير عين الحياة
{ ويطوف عليهم غلمان لهم } [الطور: 24]؛ أي: غلمان أخلاقهم الكريمة الشريفة، { كأنهم لؤلؤ مكنون } [الطور: 24] في اللطافة مصورة عن أن يصل إليه غبار عالم الحدوث، وكدورة دخان الهوى.
{ وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون } [الطور: 25] من هذا النعيم كيف يستحقها، { قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } [الطور: 26]؛ يعني: كنا نشفق على قوانا وجوارحنا المستعملة في دار الكسب، ونمنعها عن التورط في غمرة، والاشتغال باللهو واللعب، والاشتغال بنيران الشهوة والغضب، { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } [الطور: 27]، يعني من الله علينا بالتوفيق في دار الكسب للإشفاق على الأهل والتوخي عن متاع الزور وادخار هذه النعمة في دار الجزاء، بأعمالنا الصالحة التي عملناها بتوفيقه، ووقانا أيضا من عذاب السموم، الذي هو نتيجة ريح الهوى ونار الشهوة بمنه وتوفيقه، الذي أعطاناه لتسكين ريح الهوى وإخماد نار الشهوة في الدنيا.
{ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } [الطور: 28]؛ يعني: أنبأتنا اللطيفة المرسلة بأنه هو البر الرحيم، إننا بلطائفنا دعوناه بأسمائه الحسنى وعرفناه بصفاته المثلى، وعلمناه بأنه كان تاب علينا حين أوجدنا وأبدعنا أولا، ثم رحيما علينا بإرساله اللطائف المرسلة إلينا، وتنبيهها إيانا بأن فيها النيران وقتل الحيات والعقارب، وتعليمها لنا كيفية إخماد النيران وقتل الحيات والعقارب، وكيفية تبديل هذه الصفات الذميمة بالصفات الكريمة، التي هي الغلمان والولدان، التي نحن نتنعم بمشاهدتهم اليوم صورها؛ { فذكر } [الطور: 29]؛ يعني: ذكري أيتها اللطيفة الخفية قواك وأمتك ما علمناك بالوارد، وبصرناك بكشف الغطاء ليشاهد ما في الغيب، ولا تخافي من أسن القوى المنكرة المنافقة المشركة بأنهم يقولون: إنك كاهن يلقي إليه الشيطان هذه المعاني، أو مجنون خلط عقله من كثرة المجاهدة، وضعف دماغه من خشونة الرياضة؛ { فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } [الطور: 29]، والذي دعاني إلى كتب هذه الإشارات أو الرموز، وهداني إلى إبراز هذه الجواهر النفيسة من الكنوز هو أمره الجازم المطاع، ولست ممن يخاف لومة لائم، ولا ممن يبالي بأن يقال له: إنك كاهن أو مجنون.
وأقول حقا وأعرف صدقا بأن
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
[الأنعام: 125]،
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه
[البقرة: 26-27].
{ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } [الطور: 30]؛ يعني: تقول القوة المنكرة المنافقة: إنه شاعر مثل الشعراء الماضين، فعن قريب يموت ولا يبقى له تبعا؛ فينبغي ألا يلتفت إلى قوله، ولا نترك هوانا ومشهياتنا ودين آبائنا، وهو متابعة الهوى على وفق مراد النفس.
قولي أيتها النفس اللطيفة الخفية { قل تربصوا } [الطور: 31]؛ أي: انتظروا الموت، { فإني معكم من المتربصين } [الطور: 31]؛ يعني: إني أيضا منتظر، حتى يأتيكم الموت بغتة والأمر فجاءة، ويكشف عنكم الأغطية، يقولون:
ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا...
[السجدة: 12] الآية، ويجيبكم القدر بقوله:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون: 108].
[52.32-41]
وبقوله: { أم تأمرهم أحلامهم بهذآ... } [الطور: 32]، إلى قوله: { أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون } [الطور: 43]، يشير إلى سفه أحلامهم، وركاكة عقولهم، وخسة نفوسهم، وقصر نظرهم، وغلبة حسهم، واستغراقهم في الغفلة إلى غاية.
تفسير عين الحياة
{ أم تأمرهم أحلامهم بهذآ } [الطور: 32]؛ يعني: أيتها القوى المنكرة المكذبة، أتأمركم عقولكم بالإنكار على أهل الحق والتكذيب؛ لما يقولون صدقا حقا، { أم هم قوم طاغون } [الطور: 32]، أم هذه القوى المنكرة الطاغية قوم طردهم الله عن حضرته؛ لما عرف من طغيان قواهم المكدرة بالهوى، المتلوثة بالحظوظ الباطلة.
{ أم يقولون تقوله } [الطور: 33]؛ يعني: أم تقول هذه القوى المنكرة: إنك تنشدت بفصاحتك، ويختلف هذا الوارد من عند نفسك، وتسحر قلوب المستمعين ببيانك؛ ليكونوا تبعا لك، { بل لا يؤمنون } [الطور: 33]، بما يقول أهل الحق من الحق بحكم الوارد الخفي الجلي.
قل لهم: { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } [الطور: 34]، يعني: أيتها القوى القالبية والنفسية الغير مزكاة: إن كنتم تدعون أن اللطيفة الخفية تقول من عند نفسها مما تخير من حقيقة الطور، وبقاء النقش المسطور في الرق المنشور، والتنعم في البيت المعمور والسقف المرفوع، والمعالم في البحر المسجور بعد البعث من القبور، فلتأتوا أنتم أيضا من عند أنفسكم { بحديث مثله إن كانوا صادقين } في هذا الحديث.
{ أم خلقوا من غير شيء } [الطور: 35]، يعني: أيتها القوى المنكرة أنتم تظنون أنكم خلقتم من غير خالق، { أم هم الخالقون } [الطور: 35]؛ يعني: أم أنتم خلقتم أنفسكم، { أم خلقوا السماوات والأرض } [الطور: 36]؛ يعني: أأنتم خلقتم سماوات روحانيتكم وأرض بشريتكم، وأنتم عاجزون عن جذب نفع أنفسكم، ودفع ضر عن أنفسكم، فكيف تقدرون على خلق أنفسكم وخلق سماوات روحانيتكم وأرض بشريتكم؟! { بل لا يوقنون } [الطور: 36]، بهذه المعارف لغلظة غلظاء غفلتهم، وكثافة حجاب جهلهم، ولا تعلمون أن هذه المعارف من مواهب الحق، لا يمكن لأحد من المخلوقين أن يتكلم بها إلا بإلهامه.
{ أم عندهم خزآئن } [الطور: 37] رحمة { ربك } [الطور: 37]، يعطونها لمن يشاءون ويمنعونها ممن يشاءون، { أم هم المصيطرون } [الطور: 37]، أم هم المسلطون على خزائن مواهب الرب ودفائن معارفه، يعملون بها ما يشاءون، ويتصرفون فيها كما يريدون.
{ أم لهم سلم يستمعون فيه } [الطور: 38]؛ يعني: أم لهم استعداد الإشراف على [الوحي] { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } [الطور: 38]؛ يعني: لم يكن لأحد أن يجعل من استعداده سلما باختياره وقوته، ويسمع من الحق تعالى الحقيقة أو من أهل الغيب اللطائف الغيبية، وبقدر إتيان مثل هذه الحكمة التي نحن نلهم اللطيفة الخفية.
{ أم له البنات ولكم البنون } [الطور: 39]؛ يعني: تقول القوى الروحية الأنسية بالهوى المدنية بالنفس أن القوى الفاعلة منهم والقوى القابلة من اللطائف، لا يعرفون أن جميع القوى من اللطيفة الفائضية من الحق طارت، ووصلت إلى كل ذرة من ذرات الموجودات وقت مد بحرها في عالم التفرقة، ثم جمعتها عند الحرز في عالم الجمع، فالقوى التي أنتم تجدون في نفوسكم، هي: القوى المودعة فيكم وقت المد الذي أنتم بها قائمون باقون.
{ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } [الطور: 40]؛ أي: تسألهم اللطيفة المرسلة أجرا بإرسالها إليكم المعاني الواردة الهادية لكم إلى الصراط المستقيم، فيثقل عنكم من الأجر، فأنتم تنكرونها ولا تقبلون هديها.
{ أم عندهم الغيب فهم يكتبون } [الطور: 41]، يعني: أم تعلم القوى الروحية المدنسة بشهوات النفس، المستأنسة بطبيعة الهوى علم الغيب؛ فيكتبون ما يجري في الغيب بأن يحكموا على أن اللطيفة المرسلة تحتهم على هذا الطريق من تلقاء نفسها، وتهديكم إلى سبيل الرشاد؛ ليكثر أتباعها.
[52.42-49]
{ وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا يقولوا } [الطور: 44] من غباوتهم وسفههم إنه { سحاب مركوم } [الطور: 44]؛ يعني: أنهم وإن رأوا كل آية لا يؤمنون، كما قال تعالى:
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء
[الحجر: 14]، حتى شاهدوا باليقين
لقالوا إنما سكرت أبصارنا
[الحجر: 15]، وليس هذا عيانا ولا مشاهدة { فذرهم حتى يلقوا يومهم الذي فيه يصعقون } [الطور: 45]؛ أي: فأعرض عنهم حتى يلاقوا يومهم الذي يتجلى لهم الحق، فيصعقون عن أنانيتهم كما صعق موسى إذ تجلى ربه للجبل { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا } [الطور: 46]؛ لأنه من صفات النفس، وقد ماتت النفس عن صفاتها بصعقة التجلي، { ولا هم ينصرون } [الطور: 46]، بشيء من الأوصاف البشرية.
{ وإن للذين ظلموا } [الطور: 47] أنفسهم بإفساد الاستعداد الأصلي في قابلية الفيض الإلهي، { عذابا دون ذلك } [الطور: 47]؛ أي: من صفات القهر دون صفات اللطف، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الطور: 47]، اللطف من القهر ولا القهر من اللطف.
ثم أخبر عن الصبر أنه دافع للقهر بقوله تعالى: { واصبر لحكم ربك } [الطور: 48]؛ أي: فاصبر لما حكم به لك في الأزل؛ فإنه لا يتغير حكمنا الأزلي إن صبرت وإن لم تصبر، ولكن إن صبرت على قضائه؛ فقد جزيت ثواب الصابرين بغير حساب.
وفيه إشارة أخرى فاصبر لحكم ربك، { فإنك بأعيننا } [الطور: 48] نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية، كما قال تعالى:
واصبر وما صبرك إلا بالله
[النحل: 127]، { وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم } [الطور: 48-49]، به يشير إلى مداومته على الذكر وملازمته بالليل والنهار.
تفسير عين الحياة.
{ أم يريدون كيدا } [الطور: 42]، يعني: بكيد القوى الروحية الدنسية الأنسية لغاية حسدها للطيفة الفائضة من الحق، وجهلها باشتقاق اللطيفة عليه؛ لقصور علمهم على شهواتهم العاجلة وينكرون اللطيفة، { فالذين كفروا هم المكيدون } [الطور: 42]؛ يعني: إذا خرجوا من عالم الخيال وعاينوا ما وعدتهم اللطيفة، وأوعدتهم في الغيب تحسروا من إنكارهم وكفرهم، ولا ينفعهم إلا العذاب الأليم الدائم؛ فكانوا في الحقيقة مكيدين بإعطاء اختيارهم وقوتهم التي بها كادوا اللطيفة وبإمهالهم زمان الإنكار.
{ أم لهم إله غير الله } [الطور: 43]؛ أي: هم يقولون: إن إله اللطيفة إله آخر، وإلهنا إله آخر يأمرنا إلهنا بما نحن فيه، { سبحان الله عما يشركون } [الطور: 43]، إن الله منزه عن الشرك مقدس عن النظير والتشبيه، متعال عن أن يكون له ضد ولا ند في الملك والملكوت، وله فيهما ملكا وطلقا وملكا حقا من الشقائق والدقائق المتصلة بدقائق الجبروت، المربوطة بحقائق اللاهوت.
{ وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا } [الطور: 44]؛ أي: عذابا من سماء الصدر، نازلا عن القوى الروحية المنوطة في النفس والقالب، يقولون قبل أن يصل إليهم أنهم { يقولوا سحاب مركوم } [الطور: 44] بعضه ببعض؛ لتسقينا من مطر الرحمة.
{ فذرهم حتى يلقوا يومهم الذي فيه يصعقون } [الطور: 45]؛ يعني: اتركهم حتى يلاقوا، ويعاينوا يوم كشف الغطاء العذاب الواصل إليهم بعين العيان، ويصعقون من هيبة العذاب ولا صراخ لهم { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون } [الطور: 46]؛ لأنهم ضيعوا الاستعدادات التي أعطيناهم من الآلات والأدوات الجسمانية والروحانية عارية؛ ليكتسبوا بها في دار الكسب النعيم الأخروي الباقي، واستعملوها في تحصيل نعيمهم الدنيوي الفاني، وحصلوا بتلك الآلات والأوقات والإنكار والأغلال والعذاب الأليم الدائم، فليس لهم صريخ، ولا نصير.
{ وإن للذين ظلموا } [الطور: 47]؛ أي: القوى التي ظلمت على اللطيفة الخفيفة، يمنعها عنها حقها من الحظوظ النفسانية المزكاة، { عذابا دون ذلك } [الطور: 47]، وهو عذاب يحصل لهم من عملهم بأن اللطيفة كانت معهم في جميع الأحوال، رقيبة لهم مطلعة عليهم، وهم قصروا في خدمتها وكادوا بها كيدا عظيما، وظلموا عليها بمنع الخلق الحظي عنها، وهذا من أشد العذاب، وفي دار المقام للقوى الظالمة الكافرة الباقية العارفة بما ضيعت وقصرت، ولا سبيل لها إلى الرجوع للتدارك، ولا تنسى أبد الدهر تقصيرها.
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الطور: 47]؛ يعني: لا يعلم أكثر الخلق اليوم ما يدخر لهم من مكتسباتهم غدا في دار المقامة؛ لكثافة حجب جهلهم بأجر الآخرة، وقصور نظرهم عن اللذات الآجلة، مقصورة همتهم على الشهوة العاجلة، وغلظ أستار ظلمهم من ظلام وجودهم.
{ واصبر لحكم ربك } [الطور: 48] يا صاحب اللطيفة الخفية، { فإنك بأعيننا } [الطور: 48]؛ أي: بحفظنا [وأمننا] وأنت عزيز عندنا، { وسبح بحمد ربك } [الطور: 48]؛ أي: نزهه عن الشريك، وتيقن أن تنزيهك وتسبيحك له من توفيقه، واحمده حمد العاجز عن أداء حق حمده؛ ليكون هذا العجز منك محمودا عند ربك { حين تقوم } [الطور: 48]، مقام العبودية على عتبة العبدية.
{ ومن الليل فسبحه } [الطور: 49]، يعني: فسبحه عند نزول السكينة عليك؛ ليدخلك في دار الحرية ويجلسك على سرير الكرامة، { وإدبار النجوم } [الطور: 49]؛ أي: إدبار نجوم اللطائف عند ظهور نجم اللطيفة الخفية، وأيضا وقت هلاك النجوم عند ظهور قوى شمس الوجه، كما بقوله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88].
فينبغي أن يسبح السالك له عند ظهور نور الوجه بلسانه، ويتحرز عن إثبات وجود غير وجوده؛ لأنه شرك مطلق في ذلك المقام، وبدو نجوم القوى الروحانية أيضا دليل قاطع على طلوع شمس الوجه على سبيل الجذبة والسر، الذي به صارت اللطائف القالبية والنفسية والقلبية والسرية والروحية والخفية محلا للقسم.
وذكر البحر المسجور بعد ذكر اللطائف القالبية والقلبية والسرية والروحية والخفية في القسم الملكوتي والسر، الذي سلك القلب في سلك السر في القسم، وإن القسم بقاف القلب مدرج في قاف والقرآن، والخصوصية التي بها ما أقسم بين قسمه باللطائف الخمسة، باللطيفة القلبية والخفية، وأقسم منهما منفردا في سورة قاف والنجم، وسورة النجم مكية وهي اثنا وثلاثون آية من حدود القرآن، ولا يمكن لأحد أن يفسر حد القرآن برأيه الملكوتي؛ لأنه يتعلق بأسرار عالم الجبروت، ومطلع القرآن يتعلق بأسرار عالم اللاهوت، فأما بطن القرآن من أسرار عالم الملكوت، والذي أشرت إليه في تفسير هذه السورة كان من بطن القرين مما ينبغي للسالك أن يعرفه؛ ليمكن له السلوك ويصح له التوجه إلى مالك الملوك، فالواجب على مفسر ظاهر القرآن ألا يفسر إلا بالسماع، وعلى المحقق ألا يفسر البطن إلا بإلهام، وعلى الموحد ألا يفسر الحد إلا بإذن، وعلى المطلع على سر الذات أن يصير ألكن، وأبكم في مطلع القرآن؛ ليكون هو المبين، والله المستعان وعليه التكلان.
[53 - سورة النجم]
[53.1-15]
أيها المسبح بأعداد النجوم سبح عند نزول النجم الحقيقي الذي صار محلا للقسم، حيث قال في كتابه المحكم: { والنجم إذا هوى } [النجم: 1]؛ يعني: بحق اللطيفة الخفية النازلة على محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، { ما ضل صاحبكم وما غوى } [النجم: 2]؛ يعني: ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم فيما اختار طاعة الله وعبادته، وما غوى فيما يأمركم به وينهاكم عنه، { وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3]، وما يتكلم عن هوى نفسه أبدا، { إن هو إلا وحي يوحى } [النجم: 4]؛ يعني: ليس نطقه وكلامه إلا وحيا من الله تعالى يوحي إليه، { علمه شديد القوى } [النجم: 5]؛ يعني: علمه جبرائيل الذي هو أمين الوحي، وحظك منه أيها السالك في عالم الأنفس أن تعلم أن الله أودع فيك اللطيفة الخفية؛ وهي داعية إلى الحق اللطائف القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية، وقواها والوارد الذي يرد عليك عند التصفية والتزكية كان من عند الله، علمتك القوة الروحانية الشديدة على الشيطان.
{ ذو مرة فاستوى } [النجم: 6]؛ يعني: ذي قوة معتدلة بأمر الحق عند اللطيفة الخفية، { وهو بالأفق الأعلى } [النجم: 7]؛ يعني: محمد كان بالأفق الأعلى حين ذي قوة استواء جبرائيل والأفق الأعلى كان لمحمد ولروحانيته؛ لأن أفقه كان أعلى الأفق، ولكل لطيفة أفق إلى ما فوقه وأفق إلى ما تحته، فلمحمد أفقان:
أفق الفوق إلى الحق: وهو الأفق المبين.
وأفق التحت إلى الخلق، والأفق الأعلى؛ أي: أفقه أعلى الأفق ومنتهى وصول اللطائف إليه، فكذلك للطيفتك الخفية أفقان فاطلب أفقها، واجتهد أن تأخذ من الحق في الأفق المبين؛ يعني: بلا واسطة ولا تقنع بالستور؛ لئلا تكون ممن أكل من تحته، وكن عالي الهمة لتأكل من الفوق والتحت ومن جميع الجهات، ثم لا تقنع بهذا حتى تصل إلى مقام تأكل منه، ولا يمكن لأحد أن يأكل من ذاته إلا بعد وصوله إلى الذات الواحدة وهلاكه فيها، وبيان سر الهلاك في الذات يقرع باب الطلع، وأما مأمور شدة فأعبر وأعتبر.
{ ثم دنا فتدلى } [النجم: 8]؛ يعني: نزل شديد القوة على اللطيفة ودنا منها فكان دنوه، { فكان قاب قوسين أو أدنى } [النجم: 9] مقدار قوسين أو أدنى، افهم يا سالك أن اللطيفة الخفية دنت من الحق، فتدلت بنزولها من أفق الأزل إلى أفق الأبد حتى تصل أفق الأزل بالأبد، وهو عبارة عن { قاب قوسين أو أدنى } [النجم: 9]، إشارة إلى: اتصال طرفي القوس عند غاية النزع، وهذه العبارة والإشارة يدلان على وصول اللطيفة الخفية إلى الحق على حد ما كان لأحد أن يتجاوز ذلك الحد، والذي أشار إليه المفسرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبرائيل بحيث سد الأفق قول صدق وكلام حق، ولكن ينبغي أن يعرف اللطيفة الجبرائيلية والأفق، ويعلم أن صورته كيف سرقت الأفق وما يعني سد الأفق، وحقائق هذه الأشياء متعلقة بحد القرآن مما لا يؤذن تفسيره، خذ من تفسير بطنه نصيب باطنك، وخذ من ظهره حظ ظاهرك؛ وهو الإيمان والإقرار مما قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرادوا أراد رسول الله بذلك القول.
{ فأوحى إلى عبده مآ أوحى } [النجم: 10]؛ يعني: أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام أعلى مقام الزلفى والقربى جهرا، ما أوحى إلى سره قبل ذلك الوقت سرا، وهذا السر كشوفي ثم شهودي؛ يعني: ألهم الرب سر السالك من حيث الكشف في البداية سرا، ثم يلهمه بعد إيصاله إلى حضرة المشاهدة جهرا؛ ليتفق بالإلهام الكشفي أنه كان من الحق سبب الوحي الجهري حالة الشهود، وهذه طريقة مبناه واضحة عند أصحاب الوصول في السير والسلوك.
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } [النجم: 11]؛ يعني: في الوحي الشهودي لا يمكن للقوة المدركة أن تكذب ما رأى فؤادها، غير أنها في عالم الكشف كانت دخيلة نظرا عليها الشبهة بإلقاء الشيطان في روعها، { أفتمارونه على ما يرى } [النجم: 12] في المشاهدة؛ يعني: خاطبي قواك ، أتنكرون على اللطيفة ما رأت في عالم الشهود؟ ويجادلها { ولقد رآه نزلة أخرى } [النجم: 13]؛ يعني: اللطيفة الخفية، رأى الحق بعد نزوله من الأفق الأعلى إلى سدرة المنتهى وسدرة المنتهى ووحيه، كما أن الأفق الأعلى خفي، فيها جنة المأوى كما قال تعالى: { عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى } [النجم: 14-15]، وكل ما ذكره أهل الظاهر في تفسير سدرة المنتهى حق، فينبغي أن يشاهد السالك في معراجه مثل ما ذكروه، وجنة المأوى اليوم موجودة بل هي معك، فإن كنت عمرتها وزرعت فيها البذور والطيبة صارت جنة المأوى، والنار موجودة وهي معك، فإن كنت عمرتها وزرعت فيها البذور الفاسدة صارت جهنم وهي أيضا معك، وكلاهما في المنتهى، ولكل أحد من الناس سدرة المنتهى حاصلة؛ لأن منتهى سره يكون إليها ولا يمكن التجاوز عنها، فأما المخصوصون المجذوبون فإنهم جذبوا عنها بجذبات اللطف، كما أخبرنا الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله:
" جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين "
لأن العامل يصل بعمله إلى سدرة منتهاه، ولا يمكن التجاوز عنها بعمله؛ لأن العمل يتعلق بالعامل، ولا يصل أحد إلى الله بعمله إلا بتوفيقه وجذبته، ولكن يصل بعمله المخلوق إلى سدرة منتهاه؛ وهي أيضا مخلوقة، فاجتهد في أن تصل إلى سدرة منتهى استعدادك اليوم، وتشاهد ما هيئت نفسك في سدرتك، ولا تلتفت إليه وتوجه بالكلية شطر جناب الجبروت؛ لأن السدرة وما فيها ملكوتية.
[53.16-26]
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } [النجم: 16] من نور العزة تهتدي إلى جناب الجبروت، فإذا كنت ملتفتا على نعيم السدرة وتفرجاتها، مشتغلا بمتنزهاتها، تحرم عما في عالم الجبروت مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فارفع الهمة كما رفع نبيك حين وصل إليها، { ما زاغ البصر وما طغى } [النجم: 17]؛ أي: ما زاغ بصر النبي صلى الله عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها، ولا إلى الجحيم وتبعاتها شاخصا بصره إلى الحق وما طغى قدمه عن الصراط المستقيم، ومازال في سيره إلى الله تعالى حتى صادقته الجذبة وأوصلته إلى عالم الجبروت .
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم: 18]، روى علقمة عن عبد الله؛ يعني: رأى رفرفا خضرا أفق السماء، وهذا أقرب إلى مرادنا؛ لأن قرب يتلون بالجذبة، واللون الأخضر أخص الألوان بسر غيب الغيوب، وأشار به إلى أنه سد الأفق صحيحة في عالم المشاهدة، ومن تشرف بالجذبة يعلم صحة قول عبد الله رضي الله عنه: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [النجم: 19-20]؛ يعني: أفرأيتم أيتها القوى اللات القالبية، والعزى النفسية، ومناة المنى الهوائية، إنها بنات الله؛ يعني: تظنون أن هذه اللطائف الغير المستخلصة، روائع حقيقية ونتائج إلهية وتنسبونها إلى الله بالبنية؛ لأنكم تشاهدونها بأنها لطائف، وتنظرون إلى صورتها وتظنون من حيث الصور بأنها آيات؛ لقصور علمكم بذات الحق.
{ ألكم الذكر وله الأنثى } [النجم: 21] أيتها الغفلة الجاهلة، وإذ قد نسبتم اللطائف إلى الله، فكيف لبستم نسبته البنات؟ { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } [النجم: 21-22]؛ أي: قسمة جائرة ناقصة غير معتدلة، أن تنسبوا إلى خالقكم ما تكرهون لأنفسكم.
{ إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } [النجم: 23] ليس هذه { اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [النجم: 19-20] من اللطائف الخفية، بل هي أباطيل أنتم كسبتموها في دار الكسب وسميتموها بهذه الأسماء، وآباؤكم كسبوا هذه الاستعدادات الباطلة؛ يعني: أنفسكم الأمارة وأرواحكم المتدنسة بتربية القالب الغير المزكى عن الأخلاق الردية، كسبوا هذه اللطائف الباطلة وسموها آلهة { مآ أنزل الله بها من سلطان } [النجم: 23] ما أنزل بهذه الاستعدادات من قوة حقيقة يكون لكم حجة وبرهانا على أنها ذات حظ من القوى الخفية، { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } [النجم: 23]؛ يعني: القوى القالبية والنفسية الكاذبة الفاجرة الأمارة بالسوء، لا يقولون هذا القول إلا بالظن وليس لهم برهان على ما يزعمون إلا هوى أنفسهم، { ولقد جآءهم من ربهم الهدى } [النجم: 23]؛ يعني: بيان طريق الحق على لسان اللطيفة الخفية، واللطائف الخفية وأخواتها المستخلصة عن الأباطيل المزكاة عن الأضاليل.
{ أم للإنسان ما تمنى } [النجم: 24]؛ يعني: أيظن الإنسان الغافل الجاهل أن ينفعه التوجه إلى آلهة هواه غدا عنده مولاه، { فلله الآخرة والأولى } [النجم: 25]؛ أي: ليس كما نطق الغافل الجاهل أن عبادة آلهة هواه تنفعه في الآخرة بنعيم الباقي، وفي الأولى يذوق ثمرات المعرفة؛ التي هي
لا مقطوعة ولا ممنوعة
[الواقعة: 33]؛ لأن الآخرة والأولى ملكا وملكا، { وكم من ملك في السموت } [النجم: 26]؛ أي: كم قوى في سماوات أطوار القلب { لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله } [النجم: 26] في الشفاعة، { لمن يشآء ويرضى } [النجم: 26] في العلم القديم به خير، ويرضى عن عمله الصالح في الدنيا، فما ظنكم بالقوى القالبية والنفسية أنها مع كدوراتها يقدر على شفاعتكم من غير الإذن من الله، وحصول الإذن لا يمكن لأحد إلا لمن يشاء ويرضى.
[53.27-31]
{ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } [النجم: 27]، لكن نظرهم مقصورا على صورها وقلة عقلهم بمعناها، يزعمون أن القوى واللطائف بنات الله، { وما لهم به من علم } [النجم؛ 28]؛ أي غير متيقن بما يزعمون { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } [النجم: 28]؛ يعني: لا يصل الظن إلى حد يحكم عليه بخفية الشيء المظنون؛ لأن فوق الظن العلم، وفوق العلم الصحيح السماعي علم اليقين المكاشفي، وفوق علم اليقين المكاشفي عين اليقين وهو العلم المشاهدي، وفوق عين اليقين المشاهدي حق اليقين مما يتعلق بالوصول، وفوقه حقيقة حق اليقين مما يتعلق بالذوق، ومثاله في عالم الشهادة علمك بأن هذه الشجرة تحمل رمانا فيه حياة مثل العسل، ولكل حبة نبت خاص وطعم حلو كأنه سكر معقود وشراب مروق، والشجرة كانت شجرة رمان، فاعتقادك بما يخرج عن هذه كما سمعت عن الدهقان؛ هو اعتقاد صحيح علمي، فإذا أخضرت الشجرة وأزهرت فشاهدتها زاد علمك السماعي وتبدل بعلم اليقين، وإذا انتشرت الزهرات خرج منها درج الرمان، وشاهدته تبدل علمك علم اليقين الكشفي بعين اليقين، كمال حده واقتطفته وشققته وشاهدت حباته، والبيوت التي وصفها الدهقان لكل حبة صار عين اليقين، فإذا أكلته وذقته ووصل إلى حلقك حلاوته، واختلط بوجودك شرابه، وصار هو أنت ولطيفتك المدركة هو، فصار حق اليقين في هذا المقام حقيقة حق اليقين.
{ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } [النجم: 29]؛ يعني: لا يصل إلى مرتبة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وحقيقة حق اليقين أحد إلا بذكرنا، فمن كان معرضا عن ذكرنا فهو صاحب ظن وتخمين، فأعرض عنه ولا تسمع كلامه؛ لأنه لا يقول إلا ظنا و
الظن لا يغني من الحق شيئا
[يونس: 36]، وإعراضه عن ذكرها فأعرض عن قولي: { عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم } [النجم: 29-30]؛ لأنهم ما وصلوا إلى حقيقة العلم لكون نظرهم مقصورا على ظاهر الحياة الدنيا؛ التي هي متاع قليل من الحياة الأخروية التي هي الحياة بالحقيقة؛ لأنها دائمة ليس لحالها ماض ولا مستقبل، { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } [النجم: 30]؛ يعني: هو أعلم بالقوة الضالة عن سبيل الهدى، وأعلم بالقوة المهتدية إلى الصراط المستقيم، وهو يجازيهم بما عملوا في دار الكسب، { ولله ما في السموت وما في الأرض } [النجم: 31] من القوى القالبية والنفسية، والقلبية والروحية، { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا } [النجم: 31]، يعني: بالقوة السفلية العاجزة القالبية والنفسية، والقلبية والروحية يجزيهم الله بالقوى الأرضية الدركات وما فيها، { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } [النجم: 31]؛ أي: يجزي القوى العلوية بما أحسنوا من الإيمان بالله ورسوله وبآياته البينات بالحسنى؛ التي هي جزاء أعمالهم الحسنة، التي هم كسبوها.
[53.32-39]
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } [النجم: 32] يحذرون من الكفر بالله والشرك به؛ لأنها من الكبائر، وترك طاعته كسالة ورجاء المغفرة وهو من الفواحش، إلا اللمم إذ الإنسان خلق من الأضداد فلا يمكن له الاحتراز عن اللمم، وهو لمة تلم به من تلك الأضداد عند انبعاث قوتها، ونرجو من الله أن يعفو عنا كل ما يطرأ علينا من غير انخرام النية على إباحته خاصة على ما ندم صاحبه من الملامة به، ومن ارتكابه تلك اللمة، وهو الغفور العفو الرءوف يغفر ويعفو ويرأف على عبده المبتلي بالأضداد في دار الابتلاء، النادم بقلبه على ذنبه المستغفر من ربه، { إن ربك واسع المغفرة } [النجم: 32]، واسمه الغفور يدل على أنه واسع المغفرة، وبه يغفر الذنوب الذاتية جميعها، كما يغفر باسم غافريته الذنوب الصفاتية، وبغفاريته الذنوب الأفعالية، وبعفويته الذنوب الآثارية، وإن لم يتب من نسيان وغفلة منها فباسم غفوريته يغفر إذا تاب من الفواحش، وشرح غفوريته بما يتعلق بمطلع القرآن، ومما يطوي سره لا مما يروي حقيقة، { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } [النجم: 32]؛ يعني: بما حصل لكم من القوى المعدنية السفلية الخبيثة، { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } [النجم: 32]؛ يعني: بما لكم من القوى النباتية والحيوانية الفاسدة التابعة للهوى، المقبلة على الرديء المعرضة عن المولى، { فلا تزكوا أنفسكم } [النجم: 32]، إذ نفسكم غير زكية بما حصل لها من القوى المعدنية الأرضية، والقوى النباتية والحيوانية، { هو أعلم بمن اتقى } [النجم: 32]؛ يعني: الله أعلم بمن وفق؛ لأن يبقى في القوى التابعة للهوى، ويجتهد في تزكية نفسه من الأخلاق الردية الحاصلة له من السفليات.
{ أفرأيت الذي تولى } [النجم: 33] عن الحق، { وأعطى } [النجم: 34] الحظ للقوى السفلية، { قليلا وأكدى } [النجم: 34] على القوى العلوية حقها؛ يعني: منع الحق عنها، { أعنده علم الغيب فهو يرى } [النجم: 35]؛ أي: عنده علم ما أودعناه يوم الجزاء لمن يعطي الحظ للقوى السفلية، ويمنع الحق عن القوى العلوية، فهو يرى ذلك الجزاء.
{ أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى } [النجم: 36-37]؛ أي: أم لم يخبر بما في الصحف اللطيفة السرية والقلبية المبلغة لطائفها إلى أمم القوى بالتمام والكمال، { ألا تزر وازرة وزر أخرى } [النجم: 38]؛ يعني: لا يحمل وزر قوة نفسية على قوة قالبية، { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [النجم: 39]؛ يعني: أبلغي أيتها اللطيفة الخفية إليهم أن ليس في الدار الآخرة لأحد إلا ما سعى في دار دنياه خيرا كان أم شرا.
[53.40-46]
{ وأن سعيه سوف يرى } [النجم: 40]؛ أي: إن كل أحد سوف يرى ما سعى؛ لأن الدنيا مزرعة الآخرة، وهو يزرع اليوم فلا بد أن يحصد ما يزرع غدا، { ثم يجزاه الجزآء الأوفى } [النجم: 41]؛ وهو جزاء يتفضل عليهم بفضله فوق ما يكسبونه من الوصول إلى حضرته ، وقرارة عيونهم بمشاهدته، { وأن إلى ربك المنتهى } [النجم: 42]؛ يعني: نهاية الأمر رجوعه إلى ربه، { وأنه هو أضحك وأبكى } [النجم: 43]؛ يعني: إنه خلق فيك موجبات البسط والقبض، والسرور والحزن، والآثار الناسوتية التي هي الضحك والبكاء اللذان هما من أفعاله الملكوتية التي هي متصلة بالصفات الجبروتية مجتمعة في الذات اللاهوتية، وبعبارة أخرى أنه أضحك القوى الأرضية بإنبات أشجار المعرفة، وأبكى سماء الصدور بمطر الرحمة، وفي حقيقة هذا البيان رمز يتعلق بحد القرآن { وأنه هو أمات وأحيا } [النجم: 44]؛ يعني: أمات القوى السماوية العاجزة عن الحياة الحقيقة الطيبة، وأحيى القوى الصالحة الأرضية بمطر الرحمة النازلة من سماء الربوبية، المنبتة أشجار المعرفة الآمنة على شوك الشك والوهم والقلق.
{ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } [النجم: 45]؛ أي: القوى الفاعلية الروحانية السماوية، والقوى القابلة النفسية الأرضية { من نطفة إذا تمنى } [النجم: 46]؛ أي: من نطفة العلم إذا تمنى بأمر المولى.
[53.47-62]
{ وأن عليه النشأة الأخرى } [النجم: 47]؛ يعني: النشأة الثانية الإرادية وهي بأن يقذف نور الإرادة في قلبها، فإذا شاء انشربا من قبر قالبها.
{ وأنه هو أغنى وأقنى } [النجم: 48]؛ يعني: هو المغني أحياه بأموال المعرفة، والمقني أولياءه بالأحوال السنية والأخلاق الرضية، { وأنه هو رب الشعرى } [النجم: 49]؛ يعني: هو رب الشعور الذي يحصل للإنسان على أطوار القلب من القوى الكوكبية، وعلى ما في أطباق وأرض القالب من القوى العنصرية.
{ وأنه أهلك عادا الأولى } [النجم: 50]؛ يعني: هو أهلك قوى العادية المعتدلة، { وثمود فمآ أبقى } [النجم: 51]؛ يعني: القوى الباغية الذين هم عقروا ناقة الشوق، { وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } [النجم: 52]؛ لأنهم من قوى النفس أخذوا قوة أوفى من هؤلاء القوى القالبية، { والمؤتفكة أهوى } [النجم: 53]؛ وهم قوم لوط؛ أي: القوى النجسة الغير المطهرة، التي أهواهم ربهم في هاوية الهوى، { فغشاها ما غشى } [النجم: 54]؛ أي: ألبسها الله ما ألبس؛ ليكونوا محجوبين ف { أهوى } [النجم: 53]؛ أي: أسقطت القوة الشديدة الجبرائيلية بلذة قالبها وقلبها بما فيها من القوى النجسة المنتنة، { فبأي آلاء ربك تتمارى } [النجم: 55] أيتها القوى الإنسانية الباقية، بأي نعمة ربك تشك؟ أما تعلمي أن هذه القوى المعاونة لك هو من آثار فعله؟
{ هذا نذير من النذر الأولى } [النجم: 56]؛ يعني: هذا الذي قرأناه عليك هي آيات الله الواردة على لطيفتك الخفية بالحق واللطيفة المنذرة لك، كما كانت اللطائف المنذرة من قبل، { أزفت الآزفة } [النجم: 57]؛ أي: دنت القيامة الخفية، والآزفة هي القيامة الخفية، { ليس لها من دون الله كاشفة } [النجم: 58]؛ يعني: ليس لهذه القيامة الخفية كاشفة غير الله عن أهوالها وشدائدها، وهي أقرب القيامات إلى حضرة الله، وأقرب إليك منك، حتى أنت لفرط قربها إليك لم تقدر على مشاهدتها وأنت في وسطها، بل هي محيطة بجميع أجزاء وجودك، وشرها يتعلق بحد القرآن.
{ أفمن هذا الحديث تعجبون } [النجم: 59]؛ أي: من الوارد الجديد، { وتضحكون } [النجم: 60]؛ يعني: يستهزئون، ويقولون العجب كيف تكون هذه الآزفة محيطة بنا ونحن لا نشاهدها؟ { ولا تبكون } [النجم: 60] مما تسمعون من اللطيفة المبلغة ما يخبركم عن أحوال الآزفة، { وأنتم سامدون } [النجم: 61]؛ أي: غافلون لاهون مشتغلون بسماع اللهو، مستهزئون بالوارد باللطيفة المبلغة، { فاسجدوا لله } [النجم: 62] أيتها القوى المتكبرة في مقام المذلة؛ ليقربكم الله إلى نفسه، { واعبدوا } [النجم: 62]، أيتها القوى العابدة لآلهة هواكم الله المعبود الحق
الذي لا إله إلا هو
[الحشر: 22]؛ لأن رؤيتك وجودك ذنب لا يقاس به ذنب، فيا أيها السالك: أقى وطرك من هذه السورة، وخذ حظك من معراجك، وأعط حق في رجوعك، وهذا الذي كتبت بتوفيق الله وإلهامه مما ورد على قلبه دفعة واحدة من تفسير بطن القرآن، وأما تفسير جهره لا يمكن كتابته ولو صارت الأشجار أقلاما، والسماوات قرطاسا، والبحار مدادا، اللهم ثبت قلبي على دينك، وقوتي على استعمال سنة نبيك الموصل إلى حضرتك، ووفقني لما تحب وترضى من القول والعمل والنسبة، وأعذني من الخطأ والخبل، والسهو والذل بحق محمد المبعوث إلى أهل السهل والجبل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبته والتابعين لهم وسلم تسليما.
[54 - سورة القمر]
[54.1-9]
أيتها القوى العلوية الساجدة، وأيتها القوة السفلية العابدة اعلما أن الساعة قد قربت، وافهما ما يقول الله تعالى في كلامه حيث يقول : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [القمر: 1] يعني: قيامة القلب دنت، وعلامة دونها انشقاق قمر القلب، كما يقول بعده: { وانشق القمر } [القمر: 1] الهيبة الوارد القهري.
{ وإن يروا آية } [القمر: 2]؛ يعني: القوى الكافرة القالبية والمشركة والمنافقة النفسية، آية انشقاق قمر القلب أو غيرهما من الآيات البينات الأنفسية { يعرضوا } [القمر: 2] عن الآيات لبينة، { ويقولوا سحر مستمر } [القمر: 2]؛ يعني: سحر بأعيننا واستمر فينا، وليست لهذه الآيات حقيقة، واستدلوا بعلمهم الحاصل من قبيل العقل أن الخرق والالتئام محال في الفلكيات، وما فطنوا أنه إن لم يكن هذا الأمر محالا عند العقل، فكيف يكون إظهاره على يد البشر؟ ومعنى المعجزة أن الأناسي يعجزون عن إتيان مثل ما يأتي به صاحب المعجزة الذي هو إنس من الأناسي، فحملتهم شقاوتهم على إنكار المعجزة، وقدرهم إنكارهم سلاسل الاستكبار حتى لا يقبلوا الحق فأوردتهم شقاوتهم النار.
{ وكذبوا } [القمر: 3] اللطيفة الخفية المرسلة إلى جميع قوى اللطائف؛ ليدعوهم إلى الحق بالمعجزات القاطعة والآيات الساطعة، { واتبعوا أهوآءهم } [القمر: 3] المردية { وكل أمر مستقر } [القمر: 3] بأهله من الخير والشر، فالخير مستقر بأهله في الجنة، كما يقول تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى
[يونس: 26]، والشر مستقر بأهله في النار، كما يقول تعالى للذين أساءوا السوء؛ لأن كل أحد من الناس يعمل على شاكلته، ويختم له في نهايته على ما قدره الله له في بدايته من سعادته وشقاوته.
{ ولقد جآءهم } [القمر: 4]؛ يعني: أهل مكة، وجودهم الكافرة بالواد الخفي والبيان الجلي { من الأنبآء } [القمر: 4]؛ يعني: من أخبار القوى المكذبة للطائف السالفة، ومما حان معهم من العذاب { ما فيه مزدجر } [القمر: 4] من الزجر والوعظ؛ ليزدجروا عن التكذيب والإنكار.
{ حكمة بالغة } [القمر: 5]، تامة بلغت منتهاها في الوعظ والزجر، { فما تغن النذر } [القمر: 5]؛ يعني: ليست موعظة النذر بالحكمة البالغة الواردة للقوى الكافرة المشركة المستكبرة الناطقة، { فتول عنهم } [القمر: 6] أيتها اللطيفة الخفية؛ لأنهم جبلوا على الشقاوة { يوم يدع الداع إلى شيء نكر } [القمر: 6]؛ يعني: يوم يدعو داعي الأماني لقطع الأمنية وهو أنكر الأشياء؛ لأن قطع الرجاء عن المستغيث والبلاء أشد من البلاء، وأنكر العناء نريهم ، { خشعا أبصرهم } [القمر: 7]، في تلك الأشياء؛ لأن قطع الحالة المنكرة؛ أي: دليله خاضعة ناظرة إلى كل من يمر عليهم بالذل والمسكنة ليرحم عليهم المار، { يخرجون من الأجداث } [القمر: 7]؛ يعني: حين يدعوهم الداعي خرجوا من قبور قوالبهم شاءوا أو أبوا، { كأنهم جراد منتشر } [القمر: 7] فتفرق، ويكون صور قواهم المكتسبة في البدن المجعول مثل الجراد المتفرق حيارى متفرقين، { مهطعين } [القمر: 8] مسرعين مقبلين { إلى الداع } [القمر: 8]؛ وهو قواه أسرا قبليتهم المسلطة عليهم، { يقول الكافرون } [القمر: 8] بالحق المنكرون آياته، المكذبون لطائفه المرسلة إليهم بالمعجزات الواضحة الآيات البينة، { هذا يوم عسر } [القمر: 8] صعب شديد، لا قدرة لنا على دفع الداعي المسلط علينا، ولا يسمع منا عذر ولا تنفعنا شفاعة، والله ما ذلك اليوم إلا يوم عسر عبوس، فالسعيد من أيقظ بهذه المواعظ وأقبل على الحق وأدبر عن الباطل، وترك الهوى واشتغل بعبادة المولى، وعلم أن الخروج من الدنيا والدخول في العقبى حتى كتبه الله على اللطيفة الإنسانية وتنعمها وتأملها أبد الآباد، سبب كسب البدن المكسب الباقي في هذا البدن المجعول الفاني من جواهر المفردات السفلية، ولطائف المفردات العلوية الحقيقة فيها وقت الإيجاد صدق لا شك فيه، كما أن الفرخ المستكن في البيضة إذا تمت مودته الفرخية كيف يقشر قشر البيضة، والمجعول بتربية دجاجة الروح الإنسية ويطير في هوى الهوية، ويسرح في رياض الجنة القلبية، ويأكل من ثمار معرفة الربوبية، ويشرب من شراب الألوهية، وكل هذا يحصل للسالك في الدنيا بالموت الاختياري، كما يقول الحكيم السني السيد المسمى بالسمناني - رحمه الله - بالفارسية بيت شريف:
بمير؛ أي: روست يبش أزمرك اكرمي نزندكي خواهي كه ادريس ازجنين مردن بهشتي كشت بيش أزماه.
وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" موتوا قبل أن تموتوا "
، كانت إلى هذه الحقيقة { كذبت قبلهم قوم نوح } [القمر: 9]؛ يعني: القوى القالبية والنفسية كذبت اللطيفة النفسية المستخلصة عن الكدورات المطهرة عن القاذورات، المرسلة بالآيات البينات، { فكذبوا عبدنا } [القمر: 9]؛ يعني: تلك القوى كذبوا اللطيفة المأمورة المطهرة النفسية بما بلغت إليهم من الآيات البينات الأنفسية في بداية السلوك، { وقالوا مجنون وازدجر } [القمر: 9]؛ يعني: ازدجر بين عشيرته القريبة؛ وهي القوى النفسية، فصار مجنونا، وشاهدت هذا الحال في بداية أمري؛ إذ نسبني إلى الجنون والدي وعمي وجميع أقربائي وأحبائي، فلما اشتغلت بالذكر الخفي القوي ظهرت لي في الليلة الأولى شرارات نيران منورة من صدري حتى لحقت بالسماء، فلما فتحت العين وأبصرتها معاينة قلت في نفسي: إن الذين يقولون في حقي صدق، ما هذه المعاينة للشرارات في ظلمة الليل في جوف البيت المظلم إلا من فساد جذب في الدماغ؟ والقوى المكذبة النفسية يخوفوني ويمنعونني عن الذكر، والقوى الشيطانية يشككونني في مشاهدة الآية البينة وقلبي كان غير ملتفت إلى أقوالهم، مشتغلا بالذكر حتى طلع الصبح، فلما خرجت من البيت ودخلت المسجد لصلاة الجماعة ظهر فوق سجادتي وعن يميني، وعن قبلتي كواكب درية لا تحصى، فخفت عنها في الظاهر وأنست بها في الباطن، والقوى المشكلة الشيطانية والقوى المكذبة النفسية أيضا يشوشونني ويأمرونني بترك الذكر، وأنا روعان من ألسن الناس أن أقفوه بما أشهده وأعاينه، وهذه المشاهدة حصلت لي أول ليلة اشتغالي بالذكر الخفي القوي، على وفق مذهب مشايخنا - قدس الله أرواحهم - وكنت قبل هذه الليلة مشتغلا بكثرة الأوراد المأثورة، والأذكار اللسانية من أنواع التسبيحات والتهليلات، والتكبيرات والتحميدات، والصلاة والسلام، وكثرة الركعات والسجدات في الصلاة، وبالمجاهدات والرياضات، على وفق ما يعجبني مما حكي من المشايخ المتقدمة، ففي هذه الآية أخذت هذا الذكر القوي الخفي بشرط النفي والإثبات من أخ لي في الدين - رحمه الله - وكان من مريدي شيخنا - أطال الله بقاءه - فلما اشتغلت بالذكر ظهرت لي هذه الحالات، وما قلت له معه لخوفي عما يقولون، فلما ظننت الإشراق وظهرت لي الكواكب الدرية، بحيث لا يحصى عددها ولا يوصف ضياؤها، قلت مع أخي شرف الدين: هذه الأقوال، فاستبشر وتبسم وقال: الحمد الله الذي هداك إلى هذه المشاهدة الغيبية والآيات الأنفسية، وإنا قد سلكنا سنة واحدة في حرم بيت الله الحرام، فبعد ذلك حصلت لنا هذه الشرارات على جبل عرفات، فأحسن الله إليك ووفقك لمشاهدة هذه الآيات في مدة قريبة، فالواجب عليك القيام بشكر الحق، والقيام بشكره هو أن تعتزل الناس وتشتغل بهذا الذكر على هذه الشريطة، فيفتح عليك باب القلب إن شاء الله تعالى، فاسترحت من القوى المكذبة والمتفككة.
واشتغلت بعد ذلك بالذكر، واخترت العزلة والخلوة سنتين متتابعتين حتى جلت بعد هذه المدة في خلق الأربعين الموسوية، وفتح الله بلفظ على قلبي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وسلكت الطريق على الترتيب من العبور على قوى القالبية على وفق دعوة اللطيفة الآدمية، ثم على القوى النفسية على وفق دعوة اللطيفة النوحية، ثم على القوى القلبية على وفق اللطيفة الإبراهيمية، ثم على القوى السرية على وفق دعوة اللطيفة الموسوية، ثم على القوى الروحية على وفق دعوة اللطيفة الداودية، ثم على القوى الخفية على وفق دعوة اللطيفة العيسوية، ثم على القوة الخفية المودعة في جميع القوى على وفق دعوة اللطيفة الخفية، وهي الدعوة المحمدية، دعا الناس بها صلى الله عليه وسلم وسمعت من جميع القوى من التكذيب والتشكيك في أمر اللطائف وإنكارهم دعوتهم وكفرهم بربهم ما لا يمكن كتابة عشر عشره في المجلدات.
ومقصودي من كتابة هذه الحالة الواحدة التي تظهر في البداية للسالك؛ هو أن يعلم الرجل المطالع هذا الكتاب المسمى ب " نجم القرآن "؛ وهو المزيل للتفسير النجمي الذي كتبه الموفق نجم الدين داية الأسدي الرازي - شكر الله سعيه - من أول القرآن إلى سورة النجم، فلما وصل إلى سورة النجم قال: يكون عجب أن يأذن الله لي في الشروع في النجم وإتمامه، فإذا وصل إلى النجم وشرع ومرض وعرج بنجمه المنير من أرض البشرية إلى سماء الربوبية وألهمنا الله تعالى إتمام تفسيره، والتفسير المكتوب بخطه الشريف تسع مجلدات، وهذا المزيل مجلد واحد؛ ليكون معشرة كاملة خفية، ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" إن للقرآن ظهرا وبطنا... "
، ويؤمن ببطنه كما آمن بظهره، ولا يشك فيما أشرنا إلى تكذيب القوى للآيات الأنفسية وإنكارهم اللطائف المرسلة وآياتهم الخفية ؛ لئلا يشقى عند مطالعة هذا الكتاب بإنكاره الآيات البينات التي شاهدها كاتبها مرارا، غير معدودة من بداية اشتغاله بالسلوك إلى هذا الوقت الذي ألهم كتابة هذه الآيات ومقدار زمان اشتغاله بالذكر، هذا الذي وصفته لك، فقس بواقي الآيات عليها؛ لأن الخبير يقنعه القليل من الكثير، ولا يزيد للبليد إظهار الآيات إلا الإنكار بالتقليد.
[54.10-18]
{ فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } [القمر: 10]؛ يعني اللطيفة النفسية دعت ربه: إني مغلوب من غلبة القوى المكذبة والمنكرة، فانصرني بالوارد القهري، { ففتحنآ أبواب السمآء } [القمر: 11] الصدر { بماء منهمر } [القمر: 11] بماء الوارد القهري منصبا على أرض البشرية، { وفجرنا الأرض عيونا فالتقى المآء على أمر } [القمر: 12]؛ يعني: غلب ماء سماء الصدر على ماء عنصرية أرض البشرية { على أمر قد قدر } [القمر: 12] على حد قدرناه وأمرناه { وحملناه على ذات ألواح ودسر } [القمر: 13]؛ يعني: حملنا اللطيفة النوحية على سفينة شريعتها، التي هي ذات ألواح سرية ودسر خفية؛ والدسر المسامير، { تجري بأعيننا } [القمر: 14]؛ أي: بحفظنا ومراء منا على وجه الماء، وأغرقنا القوى المكذبة المنكرة لآياتنا في ماء الوارد الظاهر { جزآء لمن كان كفر } [القمر: 14]، وهو الاستعداد المخصوص بالنفس كفر باللطيفة النفسية، النفس قدر جوهرها،؛ وهي نعمة من الله تعالى كفر بها وبآياتنا وكذب اللطيفة المرسلة.
{ ولقد تركناها آية } [القمر: 15]؛ يعني: هذه الحالة تركناها في النفوس علامة بعينه للسالكين طريقتنا، { فهل من مدكر } [القمر: 15]؛ أي: متعظ متذكر في نفسه بأن هذه الحالة كيف وقعت لي؟ وما معنى هذه الواقعة، وكنت في بداية وصولي إلى هذه الواقعة؟
حكيت لأحد من خلاني: إني رأيت اليوم واقعة مثل واقعة نوح عليه السلام، ورأيت أيضا قيام القيامة، فضحك وقال: القيامة الموعودة المستقبلة، والواقعة النوحية الماضية كيف يجتمعان في حالة واحدة؟ فلما تفرست منه قلة علمه بالطريق وإنكاره للآية سكت، وقلت في نفسي: كما يقول: أين المدكر { فكيف كان عذابي ونذر } [القمر: 16]؛ يعني: أين من يتذكر كيفية العذاب الواقع؟ ويتفكر في إنزال النذر والمواعظ ويتعظ به.
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } [القمر: 17]؛ يعني: سهلنا لمن لم يكن أهلا لورود عليه قراءة القرآن على اللطيفة المرسلة المبلغة؛ ليذكروا الآيات التي بينا فيه ويتعظوا بها وينتفعوا بها، { فهل من مدكر } [القمر: 17]؛ أي: من متعظ بآيات القرآن الذي سيرنا عليها قراءته، { كذبت عاد } [القمر: 18]؛ يعني: قوى العادية الفانية القالبية كذبت اللطيفة المستخلصة من كدورات الهوى المرسلة، { فكيف كان عذابي ونذر } [القمر: 18] انظر كيف وصل إليهم عذابي وإنذاري.
[54.19-27]
{ إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا } [القمر: 19] شديدة الهبوب من ريح هواهم المكدرة { في يوم نحس } [القمر: 19] ريحية من أيام عنصره { مستمر } [القمر: 19] دائم بنحوسيته، { تنزع الناس } [القمر: 20]؛ أي: تقلع القوى الريحية الهوائية شجرة القوى الناسية التناسية مع أغصان إنسانيتها، وترمي بها على رقبة روحانيتهم { كأنهم أعجاز نخل منقعر } [القمر: 20]، منقطع من مكانه ساقط أرض البشرية لميلانه إلى الهوى، وإشارته إلى النخل في هذا المقام كانت لحكمه؛ وهي أن النخل أفق النباتات القريبة إلى حد الحيوان.
واعلم أن الأيام سبعة، فبإزاء كل مفردة سفلية وعلوية، فالسبت يوم التراب، والأحد يوم الماء، والاثنين يوم الهواء، والثلاثاء يوم النار، والأربعاء يوم النور، والخميس يوم الحياة، والجمعة يوم الوجود، وبياضية جوهرية صور هذه المفردات يومها، وسوادية مادية قابلية هذه المفردات إليها، وكشف سر أيامها ولياليها بتعلق بحد القرآن.
واعلم لطيفة أخرى في خصوصية كل يوم من الأيام بلطيفة من اللطائف السبع، فالسبت مختص باللطيفة القالبية الآدمية، والأحد مختص باللطيفة النفسية النوحية، والاثنين مخصوص باللطيفة القلبية الإبراهيمية، والثلاثاء مخصوص باللطيفة السرية الموسوية، والأربعاء مخصوص باللطيفة الروحية الداودية، والخميس مخصوص باللطيفة الخفية العيسوية، والجمعة مخصوص باللطيفة الخفية المحمدية؛ ولأجل هذا استوى الرحمن على عرش الجمعة، واستوت الأيام الستة على عرش الجمعة.
كما أشار إلى هذا السر في كلامه المجيد، حيث قال:
الله الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
[الأعراف: 54]، واعلم أن عرش حكمته القالب الشهادي، وعرش قدرته اللطيفة القالبية، وعرش إرادته اللطيفة النفسية، وعرش علمه اللطيفة القلبية، وعرش كلامه اللطيفة السرية، وعرش بصره اللطيفة الروحية، وعرش علمه اللطيفة الخفية، وعرش حياته اللطيفة الخفية التي كانت اللطائف بها قائمة، { فكيف كان عذابي ونذر } [القمر: 21]؛ يعني: تفكر أيها القارئ في كيفية عذابي وتذكر أيها المتذكر إجابة دعاء النذر، { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [القمر: 22]؛ يعني: سهلنا قراءة كلامنا على الألسنة، فهل من يتذكر بالقلب من الآيات التي يقرأها باللسان.
{ كذبت ثمود بالنذر } [القمر: 23]؛ يعني: القوى القالبية المكذبة، كذبت اللطيفة المطهرة المرسلة إليها، وإنذارها بالآيات البينة القهرية المنزلة على القوى القالبية المكذبة السالفة، { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفي ضلال وسعر } [القمر: 24]؛ يعني: هذا المنذر بشر مثلنا واحد منا، كيف نتبعه ونترك آلهة هدانا؟ ولو نترك دين طبيعتنا المستقيمة التي صارت عادتنا، إنما إذا ألقي خطأ وبعد عن الحق، ولا يكون هذا إلا من قلة عقلنا وهيماننا في أمرنا، { أءلقي الذكر عليه من بيننا } [القمر: 25] وحده مع أن فينا من كان أحسن منه وجها، وأنظف ثيابا وأكثر أموالا وتبعا، { بل هو كذاب أشر } [القمر: 25] متكبر بطر يريد أن يتفوق علينا ويتخذنا هزوا، ويستخدمنا فيما يشاء.
{ سيعلمون غدا من الكذاب الأشر } [القمر: 26]؛ يعني: سوف يعلم القوي المكذب إذا نزل عذابنا من الكذاب الأشر البطر المتكبر، { إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم } [القمر: 27]؛ يعني: أرسلنا ناقة الشوق والواردات الوجدية فتنة واختبارا وابتلاء للقوى القالبية المكذبة للطيفة المستخلصة عن الكدورات، { فارتقبهم } [القمر: 27] أيتها اللطيفة المرسلة، { واصطبر } [القمر: 27] على إيذائهم لك عند ورود الواردات الوجدية حالة السماع على القوى القالبية المكذبة، بحيث يقولون: إنه مرائي يريد بإظهارها منه حالة أن يسخر قلوب الحاضرين.
[54.28-37]
{ ونبئهم } [القمر: 28]؛ أي: أخبرهم { أن المآء } [القمر: 28]؛ أي: ماء الحياة { قسمة بينهم } [القمر: 28] وبين الناقة الشوقية، { كل شرب محتضر } [القمر: 28]؛ يعني: كل نصيب محضرة من كان يشرب الماء نصيبه، وحظ السالك من هذه الآية أن يجعل شرب حياته نصيب الناقة شوقه عند ورود واردات الوجد، وهو الحضور المطلق، وترك الأعمال البدنية عند ورود واردات الوجدية، ونصيب الجوارح الظاهرة لاستعمالها في الأعمال البدنية، ولو أهمل هذا الشرط عذب لعقره ناقة شوقه بالمنع لها عن شرب الوارد الوجدي، { فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } [القمر: 29]؛ يعني: نادت القوى المكذبة القالبية قوتهم الجاهلية الطالبة للرئاسة، المحبة للدنيا، العابدة للهوى، فتناولت الناقة الشوقية بسيف استعدادها الحاصلة من القوى العلوية، فعسرت ناقة الشوق، { فكيف كان عذابي ونذر } [القمر: 30] بالقوى القالبية المانعة لناقة الشوق عن استيفاء الحظ عن مشرب السماع، { إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة } [القمر: 31] من صيحات قولهم الجبرائيلية المسلطة عليهم، { فكانوا كهشيم المحتظر } [القمر: 31]؛ يعني: صارت القوى التي جمعتها قوة النفسية لاحتضار غنم الأخلاق الحميدة القالبية المكتسبة الغير المزكاة بنور اللطيفة، مثل الشجرة البالية التي ذرتها الريح العاصفة.
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } [القمر: 32]؛ يعني: سهلنا قراءة القرآن الذي فيه آيات وموعظة وأخبار، وعن حال من ظلم على القوة النفسية المزكاة القهرية إلى اللطيفة النفسية بعقر الناقة الشوقية التي فيها الاستعداد الموصل له إلى كعبة قلبه، { فهل من مدكر } [القمر: 32]؛ أي: هل من قارئ يذكر هذه الآيات ويتعظ بها؟ ويتفكر في نفسه ليعرف ناقته ومشربها ونصيبها، ويعرف القوى الظالمة المانعة لناقته عن الشرب العاقرة لها بسيف الاستعداد العلوي، ويخاف من الصيحة الجبرائيلية التي هي مسلطة عليه من بدء فطرته إلى حين رحلته من محلة هذا البدن المجعول؛ لينزل ناقته ويتعهدها عند الشرب، ويركبها وينتفع بها في السلوك في بيداء النفس؛ ليصل إلى كعبة القلب ويشرف بمعاهدة رب البيت.
{ كذبت قوم لوط بالنذر } [القمر: 33]؛ يعني: كذبت القوى المتلونة بالهوى اللطيفة المطهرة المرسلة، وإنذارها بالنذر السالفة { إنآ أرسلنا عليهم حاصبا } [القمر: 34] حاصلا من كدورات أفعالهم الخبيثة الأرضية، والبخارات الهوائية الصاعدة إلى الهوى، المنجدة تحت سماء الصدر، الممطرة عليهم من الفوق، المدبرة لهم تدبيرا، { إلا آل لوط } [القمر: 34]؛ يعني: إلا القوى المؤمنة المطهرة المصدقة باللطيفة المطهرة المرسلة الآمنة عن الحاصب، { نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا } [القمر: 34-35]؛ يعني: أنجيناهم بتسحرهم في التطهر وقت المناجاة، وكان بسحرهم { نعمة من عندنا } [القمر: 35]، وشكرهم على نعمتنا أنجيناهم، { كذلك نجزي من شكر } [القمر: 35] نعمتنا.
{ ولقد أنذرهم بطشتنا } [القمر: 36] البطشة ثلاثة بطشات، مثل: الطامة، والنار كبرى ووسطى وصغرى، فالبطشة الكبرى، والطامة الكبرى، والنار الكبرى، إذا أخذت المرء فلا يمكن الخلاص منها، وأما الوسطى فيمكن بالشفاعة وبعض الأعمال الصالحة وإن كانت مغلوبة، وأما الصغرى فإذا ظهرت للسالك يزيد إيقانه ويظهر له نشاطا في سلوك الطريقة، وتحرضه على التوجه الكلي إلى الله يشرف بالتجليات بعد هذه الحالات، ولله بطشة خفية في كل لمحة، وطامة جلية في كل بطشة، ونار مضيئة مشرقة في كل طامة، وساعة وقائمة في كل نار، وواقعة خافضة في كل ساعة لا يشاهدها إلا الأقطاب الأربعة؛ وهم: العالم العلوي والسفلي، { فتماروا بالنذر } [القمر: 36]؛ يعني: أنذرت اللطيفة المتطهرة للقوى الملونة عذابنا وبطشنا لهم بأفعالهم الخبيثة، فشكوا بالنذر؛ أي: بالإنذار، وكذبوها ولم يصدقوا إرسال الحاصب عليهم.
{ ولقد راودوه عن ضيفه } [القمر: 37]؛ يعني: طالب القوى المتلونة القربان بضيف الوارد القهري النازل على اللطيفة المتطهرة؛ ليعذب القوى المتلونة في صور اللطف، { فطمسنآ أعينهم } [القمر: 37]؛ يعني: صيرنا أعينهم مطموسة من كدورات أفعالهم الخبيثة، وأرسلنا عليهم صاحب أفعالهم، وقلنا: { فذوقوا عذابي ونذر } [القمر: 37]؛ أي: هذا العذاب الذي كنتم به تكذبون، وحظ السالك من هذه الآية أن لا يأذن للقوى المشككة المكذبة بالدخول على ضيف الوارد القدسي بحال البتة.
[54.38-45]
{ ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر } [القمر: 38]؛ يعني: عند طلوع صبح النفس اللوامة في بكرة الملهمة، استقر العذاب بالقوى المشككة والمتلونة { فذوقوا عذابي ونذر } [القمر: 39]؛ يعني: عذاب الحاصب الحاصل من أعمالكم الخبيثة ونياتكم المتلونة، مما أنذركم به اللطيفة المتطهرة المرسلة.
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } [القمر: 40]؛ يعني: سهلنا على الألسنة قراءة القرآن الذي فيه هذه الآيات المذكرة لهم من العذاب الواقع بالأعمال الخبيثة على القوى المتلونة العامل للخبائث: { فهل من مدكر } [القمر: 40]؛ يعني: هل أحد يتعظ بهذه المواعظ بقلبه مما يتلوه بلسانه؛ والمراد من إنزال القرآن وتيسير قراءته على اللسان وكشفه بالبيان؛ تذكرة آياته والاتعاظ بمواعظه، والتفكر في عجائبه بالجنان، لا قراءته بصوت حسن؛ طلبا للدراهم والدنيا من الأعوان ووعظ العوام والارتفاق بالنسوان، وهذا القارئ يكون داعيا من دعاة الشيطان، والاحتراز من قراءته ووعظه واجب على أهل الإسلام والإيمان.
{ ولقد جآء آل فرعون النذر * كذبوا بئاياتنا كلها } [القمر: 41-42]؛ يعني: كذب القوى الفرعونية من القوى القالبية اللطائف السرية والعقلية المنزلة بالآيات الأنفسية والآفاقية لهم، فما أظهرت اللطيفة السرية الموسوية بالآيات الأنفسية والعقلية الهارونية الآفاقية، ما زادهم المنذرين إلا طغيانا، واللطيفة السرية أنفسية، واللطيفة العقلية آفاقية، كما شرحناها في حمل الصنايع المعاينة، { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [القمر: 42]؛ يعني: أخذناهم بالعذاب أخذ من يكون غالبا على أمره، قادرا على شوق ما في علمه على حسب إرادته.
{ أكفركم خير من أولئكم } [القمر: 43]؛ يعني: أيتها القوى الملائكية الوجودية الغير المستخلصة، قواكم الكافرة خير واجب إلى الله من قوى الأمم التي كفرت باللطائف المرسلة السالفة؛ لئلا يعذبكم بما عذبهم بكفرهم، { أم لكم برآءة في الزبر } [القمر: 43]؛ يعني: لكم براءة في كتاب الله تعالى بأنكم تسلمون ولا تعذبون بكفركم، { أم يقولون نحن جميع منتصر } [القمر: 44]؛ يعني: يظنون أن بجمعية قواكم تغلبون على حكم الحق والوارد القاهر، { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [القمر: 45] سوف يهزم جمعكم بالوارد الذكري القهري، ويفرون مدبرين وعليهم الدمار والرماد؛ لإدبارهم عن الواقع وإقبالهم على الهوى.
[54.46-51]
{ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } [القمر: 46]؛ يعني: إذا دخلت قيمة القلب يكون أعظم هيبة وأشد مرارة للقوى المدبرة من عذاب أرسلنا عليهم بالوارد الذكري القهري، { إن المجرمين في ضلال وسعر } [القمر: 47] عند حلول الساعة تسعر على المجرمين نيرانهم المشتعلة في جهنم قالبهم من نيران الحسد والحقد، والبغض والغضب، والكبر والشهوة، { يوم يسحبون في النار على وجوههم } [القمر: 48]؛ لاستنكافهم عن وضع الوجه لله على أرض التواضع، واستكبارهم على الحق بالقوة الباطلة، يقول لهم: { ذوقوا مس سقر } [القمر: 48]؛ يعني: ذوقوا مساس سقر قالبكم بأخذكم المعارف من الوارد، واشترائكم متاع الحياة الدنيا بها في دار الكسب، هذه { سقر } [القمر: 48] جزاءكم اليوم في دار الجزاء.
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } [القمر: 49]؛ يعني: لكل شيء قدر معين وأجل معلوم مكتوب في اللوح المحفوظ، كما كان في أم الكتاب لا يتأخر ولا يتقدم مما قدر.
{ ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر } [القمر: 50]؛ يعني: لشيء إذا أردنا وقوعه حين انقضاء أجله المعلوم، ودخول وقته المقدر أن
يقول له كن فيكون
[البقرة: 117] في الحال من غير تأخير، ويشبه سرعة نفاذ الأجر بالكلمة الواحدة بلمح البصر، وهو أقرب عند أهل البصيرة؛ لأنهم يسمعون الكلمة في كل ساعة، ويشاهدون الساعة في كل نفس، ويتنعمون بمعارف الآيات في كل حال، وكشف سر هذا الحال من حد القرآن مما يجب إخفاؤه ويحرم إفشاؤه، { ولقد أهلكنآ أشياعكم } [القمر: 51] أيتها القوى الكاذبة المكذبة المستكبرة، { فهل من مدكر } [القمر: 51]؛ أي: هل أحد يتذكر من قراءة القرآن واستماع الآيات ويتعظ بهذه المواعظ، ويعرض عن قواه الكافرة المكذبة ويقبل على قواه المؤمنة المصدقة، ويؤمن بلطائف القالبية الحسية، والقلبية والسرية والروحية والخفية.
[54.52-55]
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } [القمر: 52]؛ يعني: مكتوب في كتبنا كل ما عمل شخص من الأشخاص، وتلك الكتب الموجودة مع كل أحد من بني آدم؛ ولكنهم لكثافة حجبهم الظلمانية لا يستطيعون قراءتها، أما ترى أيها الجاهل الغافل إذا صريع مصروع، عامي أمي كيف يقرأ القرآن، والزبور، والتوراة، والإنجيل؟ وكيف يتكلم المصروع العجمي بالعربي، والعربي بالعجمي، والمغولي بالهندي، والهندي بالمغولي؟ فلولا أن تلك الكتب المكتوبة على الألواح موجودة فكيف يقدر بعد الإغماء عليه لخرق حجابه على قراءة تلك الكتب؟ ولأجل هذا ضرب به المثل ابن الفارض وهو من محققي هذه الأمة في قصيدته التائية، غير أنه رجع القهقرى حتى مال إلى الإيجاد، قال رحمه الله تعالى:
مثال محق والحقيقة عمدتي
وأثبت بالبرهان قولي ضاربا
على فمها في مسها حيث جنت
بمتبوعة ينبيك في الصرع غيرها
عليه براهين الأدلة صحت
ومن لغة تبدو بغير لسانها
وهذا شيء شاهدناه مرارا ثم شاهدنا في سلوك الطريقة أن السالك الأمي يقرأ جميع القرآن في طرفة عين وإلى هذه الحقيقة أشار ابن الفارض حيث قال رحمه الله:
وقل لي من ألقى إليك علومه
وقد ركدت منك الحواس بغفوة
وما كنت تدري قبل يومك ما جرى
بأمسك أو ما سوف يجري بغدوة
فأصبحت ذا علم بأخبار من مضى
وأسرار من يأتي مدلا بخبرة
أتحسب من جاراك في سنة الكرى
سواك بأنواع العلوم الجليلة
وما هي إلا النفس عند اشتغالها
بعالمها عن مظهر البشرية
تجلت لها بالغيب في شكل عالم
هداها إلى فهم المعاني الغريبة
وقد طبعت فيها العلوم وأعلنت
بأسمائها قداما بوحي الأبوة
فاجتهدوا أيها الغافلون في تطهير لوح الباطن عن الغبار الواقع على وجهه من عالم الجذب، سبب ريح الهوى بالذكر الكريم؛ ليقرؤوا جميع الكتب المنزلة وغير المنزلة، وتطلعوا على أم الكتاب الذي هو مخزون في عالم الجبروت عند الرب، وفصيح لسانك بجميع اللغات وقت الغدر عن مشاهدة الصغائر والكبائر المكتوبة على ألواحكم، كما يقول الله تعالى: { وكل صغير وكبير مستطر } [القمر: 53]؛ يعني: صغائر أعمالكم وكبائرها من الخير والشر، مكتوبة على ألواحكم.
{ إن المتقين في جنات ونهر } [القمر: 54]؛ يعني: الذين اتقوا عن غبار تراب الطبيعة، وريح الهوى في جنات قلوبهم ونهر معارفهم الجبروتية، مستريحون { في مقعد صدق } [القمر: 55] وهو موضع الحكمة { عند مليك مقتدر } [القمر: 55]؛ يعني: موضع الحكمة عند القدرة وفيه أسرار رحمته، أشرح لك نبذة نستفيد منها ما يهز به عطف إرادتك للطلب.
اعلم أن مفاتيح الغيب، ومقعد الصدق، وأم الكتاب عنده في عالم الجبروت، وهي مظاهر جبروتية لصفات لاهوتية؛ وهي: الحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة، والإرادة، والحكمة، وجواهر الملائكة الأربع، والعناصر الأربعة في الملكوت، مظاهر لمظاهر الصفات الجبروتية، وقال الإنسان المنفوخ فيه الروح مظهر لمظاهر الصفات الملكوتية؛ التي هي مظهر لمظاهر الصفات الجبروتية؛ التي هي مظاهر الصفات اللاهوتية، وقال الإنسان ناسوتي، وبه يتم أمر الحكمة وهو أنت، فانظر إلى نفسك لترى آيات أفعال الحق، وادخل في نفسك تشاهد آيات صفات الحق، واصقل مرآة نفسك لتشرف بمشاهدة جمال الحق، وارحم نفسك بنفسك في نفسك ولا تضع قدمك خارجا من حرم نفسك؛ لأنها البيت الحرام وكعبة الأمان ودار السلام، وفيها الجنة والرضوان والروح والريحان؛ لئلا تضل في بادية الجريان بالخيبة والخسران، فالعالم بأسره ملكه وملكوته، وغيبته وشهادته، وأنفسه وآفاقه إنسان صغير، والإنسان عالم كبير، فالويل لمن ترك الكبير للصغير، وحقير من يقنع بالقليل من الكثير.
اللهم ارفع همتنا بطلب الملك القدير، ووفقنا لمتابعة حبيبك المنير، البشير النذير للخير والشر به صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-13]
قدسية رحمانية إسلام أبادية مختومة بختام المسك مما ينافسه المتنافسون وفيه يرغب الراغبون، وله يزهد الزاهدون، وإليه يتوجه المتوجهون، وبه يسلك السالكون، ومعه يطرب المطربون ويرقص الراقصون، ومنه يستريح المستريحون، طوبى لمن نظر فيها بعين العبرة وانتفع منه الخير، وحمل على جند النفس حمله أهل الغيرة؛ ليخلص من بيداء الحساب ويخرج من نية الحيرة، ويخلص نفسه من رق الشيطان ويدخله في زمرة عباد الرحمن، ويقرأ سورة الرحمن ويتدبر في هذا البيان الذي جاء من حضرة القرآن، ونقش على صحيفة الجنان؛ ليشاهد حقيقة بعين العيان، ويعرف حقيقة بحق الإيقان، والله المستعان وعليه التكلان.
يا طالب علم الرحمن في القرآن: اعلم أن الله تعالى يقول: { الرحمن * علم القرآن } [الرحمن: 1-2]؛ يعني: الرحمن إذا استوى على عرش الروحانية علم القرآن للأرواح الطيبة بما نقش بالقلم الخفي على ألواحهم الساذجة من علم القديم، فلما تصاعد غبار عالم الحدوث ووقع على ألواحهم خفي النقش، وما هم بقادرين على بقي الغبار ولا على غسل الألواح.
{ خلق الإنسان } [الرحمن: 3] الجامع، وجمع فيه المفردات العلوية والسفلية؛ ليحصل له استعداد يزيل الغبار عن وجه ألواح، ويغسل الصور المنقوشة ليلوح فيها المعاني، كما يقول تعالى بعد ذكر خلق الإنسان: { علمه البيان } [الرحمن: 4]؛ ولهذا السر قال الله تعالى مع حبيبه:
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه
[القيامة: 18-19]؛ لأن البيان تفصيلي والقرآن إجمالي، وليس للمخلوقات في تفاصيل المعرفة حظ إلا للإنسان، لقوة لها حصلت من امتزاج مفردات العلويات والسفليات، واختلاط الأنوار والظلمات، وهو مزاج معتدل في اللطافة والكثافة؛ ولأجل هذا صار مظهر صفات الذات.
{ الشمس والقمر بحسبان } [الرحمن: 5]؛ يعني: شمس النبوة وقمر الولاية على فلك وجود الإنسان، يدور بالحساب في الدائرة الأزلية والأبدية على قطب نقطة نون الرحمن، ولا يكشف هذا السر حتى يفهم قوسيته صورة في البياض والسواد، وإيصال دائرة الأزل إلى الأبد عند نزعة بواسطة وتروا، والولاية القائمة بألف الاسم الأعظم، وسر سين السهم الأسمى الذي لأجله ظهر قوس النون، ووتر الواو، وألف الاسم؛ وهو آخر حروف القوس وبه تتصل دائرة الأزل بالأبد، وبه يتم التدبير وحكمه الرجوع وحصول الصيد المقصود من إيجاد وجود كل موجود، والشروع في تحقيقه يلزم الشروع في بيان حد القرآن مما لست مأذونا في إفشائه.
{ والنجم والشجر يسجدان } [الرحمن: 6]؛ يعني: نجم أمر التدبير، وشجر سر التدبير عند عروجها على مدبرها يسجدان له ويتذللان بين يديه بالرجوع عليه، والنجم استعداد علوي نزل وقت التدبير لتربية الشجر، وهو القوة السفلية ليظهر فيعرج ثم يعرج إلى ربه، { والسمآء رفعها } [الرحمن: 7]؛ يعني: سماء الصدر رفعها فوق البشرية { ووضع الميزان } [الرحمن: 7]؛ يعني: وضع القوة المميزة العاقلة بين القوى السمائية وإعطاء الحقوق العلوية، { وأقيموا الوزن بالقسط } [الرحمن: 9]؛ يعني: لسان الميزان عند البيان، ينبغي أن يكون قائما بالعدل لا يميل على جانب الإفراط والتفريط بالهوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم "
، { ولا تخسروا الميزان } [الرحمن: 9]، إشارة إلى التفريط، كما أن قوله: { ألا تطغوا في الميزان } [الرحمن: 8] كان إشارة إلى الإفراط.
{ والأرض وضعها للأنام } [الرحمن: 10]؛ يعني: أرض البشرية وضعها وفرشها وبسطها للقوى الإنسانية، { فيها فاكهة } [الرحمن: 11] من فواكه معرفة الصفات الفعلية، { والنخل ذات الأكمام } [الرحمن: 11]، إشارة إلى الشجرة التي هي مظهر لمعارف الصفات الذاتية؛ ولأجل هذا قال: { ذات الأكمام } [الرحمن: 11]؛ لأن شجرة الإنسان ذات الأطوار، كما أن النخل ذات الأكمام كل طورها مستور بطور آخر؛ ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم:
" النخلة عمتكم "
، وهي أفق النباتات { والحب ذو العصف والريحان } [الرحمن: 12]؛ يعني: حب الحب المزروع في أرض البشرية؛ يعني: ذو أوراق من المكاشفات، { ذو العصف والريحان } [الرحمن: 12] من المشاهدات؛ وهو الورق الحسن الذي يخرج من الحب، والعصف هو الورق الذي يحفظه، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 13]، إشارة إلى القوتين: العلوية والسفلية؛ يعني: بأي نعم ربكما أيها القوتان تكذبان، أبنعمة رفع السماء، أم بنعمة وضع الأرض تكذبان؟ أبإنزال النجم التدبيري، أم بتفريج الشجر الحكمي تكذبان؟
[55.14-25]
{ خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجآن من مارج من نار } [الرحمن: 14-15]، خلق القوة الإنسانية من العناصر السفلية المتأثرة بالعناصر العلوية، وخلق القوة الجنية من العناصر العلوية المكتسبة بسبب الهوى ألوان العناصر السفلية، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 16]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة استعداد قبول الأثر من العناصر العلوية، أم بنعمة قوة الاكتساب من العناصر السفلية تكذبان؟
{ رب المشرقين ورب المغربين } [الرحمن: 17]؛ يعني: رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني، ورب مغرب شمس النبوة ومغرب قمر الولاية في العلم الروحاني، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 18]؛ يعني: أبنعمة إشراقها لأجل الكسب، أم بنعمة إغرابهما لأجل الاستراحة تكذبان أيتها القوتان؟
{ مرج البحرين يلتقيان *بينهما برزخ لا يبغيان } [الرحمن: 19-20]؛ يعني: مرج البحرين: الروحاني، والجسماني { يلتقيان * بينهما برزخ } [الرحمن:19-20] الإنسان؛ أي: حاجز يمنعهما أن يتغيرا؛ يعني: إن لم يكن حاجز القلب بين القوى العلوية والسفلية لتغير مزاج القوى النورانية العلوية من دخان القوى الظلمانية السفلية، ويصل أيضا حاصبات القوى السفلية من غلبات أنوار القوى العلوية؛ لأن القوى السفلية ضعيفة عاجزة عن حمل الأنوار العلوية إن لم يكن بينهما واسطة اللطف من القوى السفلية وأكثر من القوى العلوية، كما أن - القصرون - ألين من العظم وأخشن من اللحم، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 21] أيتها القوتان، أبنعمة مرج البحرين، أم بنعمة الحاجز الذي إن لم يكن هو بطل ومتغير استعدادكما تكذبان؟
{ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [الرحمن: 22]؛ يعني: من البحر العلوي يخرج لؤلؤ أنوار الأسرار السري، ومن البحر السفلي يخرج مرجان نيران العشق القلبي، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 23] أيتها القوتان تكذبان؟
{ وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام } [الرحمن: 24]؛ يعني: له بيض الخواطر المسخرة في بحر الإنسان الذي فيه البحران يلتقيان، { كالأعلام } [الرحمن: 24]؛ ليقطع بعلامتها ويميز الخاطر العلوي من السفلي وإلا شيء من الجني، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 25]، أفبنعمة تسخير السفن، أم بنعمة الأعلام أيها القوتان تكذبان؟
[55.26-34]
{ كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 26-27]؛ يعني: من يكون على أرض البشرية فان، والفناء إشارة إلى فناء المركبات، كما أن الهلاك إشارة إلى هلاك المفردات، ولأجل هذا إشارة في الفناء إلى تجلي الصفات، وفي الهلاك إلى تجلي الذات، وأطلق الهلاك على كل شيء حيث قال:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]، وأضاف الوجه إلى هويته، وأطلق الفناء على من على وجه الأرض البشرية من المركبات بقوله تعالى: { كل من عليها فان } [الرحمن: 26]، وأضاف الوجه إلى الصفة حيث قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [الرحمن: 27]؛ يعني: صاحب تجلي الجمال والجلال؛ يعني: بتجلي الجلال الصور الكثيفة، ويبقى بتجلي الجمال المعاني المكتسبة اللطيفة من الصورة الكثيفة، والفرق بين الهلاك والفناء بين فناء نور القمر عند حجاب الأرض له عند أخذ النور من الشمس وهلاك أنوار الكواكب عند طلوع الشمس، وأبين لك فرق أظهر من هذا في صورة النبات، إذا وضعته في قدح فيه ماء يفني تركيب الصورة النباتية القائمة ثلاثة قوائم، ويهلك معنى حلاوة في الماء؛ لغلبة الماء عليه، وفي الهلاك والفناء أسرار سوى هذا يتعلق بعضها تجد القرآن وبعضها بمطلع القرآن، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 28]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة إفناء الصور الكثيفة، أم بنعمة إبقاء المعاني اللطيفة المكتسبة من الصور الكثيفة في دار الكسب تكذبان؟
{ يسأله من في السموت والأرض } [الرحمن: 29]؛ يعني: القوة العلوية والسفلية تسأله حظوظهم وحقوقهم، { كل يوم هو في شأن } [الرحمن: 29]؛ يعني: يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع لحكمته وقدرته على وفق إرادته، يمحو ما يشاء عن الألواح، ويثبت ما يشاء على الألواح في يوم الحال الحاجز بين الأزل والأبد، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 30]، أبنعمة محو السيئات، أم بنعمة إثبات الجنان أيتها القوتان تكذبان؟
{ سنفرغ لكم أيه الثقلان } [الرحمن: 31]؛ يعني: سوف نفرغ من استعمالكم في دار الكسب أيها القربان الثقيلان العظيمان برفعان قدر، كما لأنكما ثقلان الأرض البشرية والسماء الروحانية، ويشتغل بالإعطاء جزاء أعمالكم في دار الجزاء، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 32]، أبنعمة الاستعمال في دار الكسب في الأعمال الصالحة، أم بنعمة إعطاء الجزاء في دار الجزاء أيتها القوتان تكذبان؟
{ يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموت والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } [الرحمن: 33]؛ يعني: أيتها القوى العلوية والسفلية، إن كنتم تستطيعون أن تتفرقوا أو ترجعوا إلى سماء الروحانية وأرض الجسمانية فتفرقوا، وما كنتم على التفرق والرجوع إلى كلياتكم إلا بسلطاننا وحكمنا وبياننا، وبعبارة أخرى إن كنتم تستطيعون على تحصيل المعارف العلوية والسفلية بغير سلطان الوارد فاسعوا في الطلب، ولا يمكن تحصيل المعارف بسعيكم إلا عند نزول سلطان الوارد، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 34]؛ يعني: أيتها القوتان العلوية والسفلية، أبنعمة اجتماعكما لكسب الحسنات الباقيات في دار الكسب، أم بنعمة تفريقكما وإدخالكما في دار الجزاء لاستراحتكما عن الشغل، وتنعمكما بالأعمال الصالحة المكتسبة تكذبان؟
[55.35-45]
{ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران } [الرحمن: 35]؛ يعني: يرسل عليكما أيتها القوتان شواظ من نار علوية، وهو لهب النار الأخضر واستعداد النحاسية من العناصر السفلية، فلا يمنعان صاحبهما عن العذاب إن يشأ عذابهما، وفي هذا أسرار رحمة أشير إلى بعضها لك يفطن له الخبير.
اعلم أن الله تعالى خلق قالب الإنسان مستعدا مثل النحاس المستعد للتربية والتصعيد إلى حد يطرح عليه الكيمياء ويقلبه عينا روحانيا، وخلق فيه من نار القوة الفاعلية قوة إذا زكى النحاس من الظلمة المنطبعة فيه من أركان الأرضيات، وظهر النار من لهب الهوى، وقيل صاحب التزكية والتطهير كثير الإيمان وطرح على نحاس القالب واشتعل فيه النار المطهرة عن لهب الهوى، فجعل قالبية الظلماني نورانيا، ويصير نحاسية الجسماني عينا باقيا روحانيا، وإن لم تزك النحاس من ظلمات الطبيعة ولم تظهر النار نورانيا من لهب الهوى، تذيب النار التي هي ذات لهب هوائية نحاس استعداد القوة المكدرة الجسمانية في جحيم قالبه التي عمرها في دار الكسب، وتغذيه أبد الآباد تارة بالإذابة والإحراق في جحيم اغتراره بنور النار، وتارة بإدخاله النحاس المذاب في زمهرير إنكاره؛ ليخمد ويصلح للإذابة تارة أخرى في دار القرار؛ لإعراضه عن طاعة الملك الواحد القهار، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 36]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة إعطاء آثار الخضراء العلوية، أم بنعمة إعطاء الاستعداد النحاسي السفلي تكذبان؟
{ فإذا انشقت السمآء فكانت وردة كالدهان } [الرحمن: 37]؛ يعني: إذا فرجت سماء الصدور، وتنزلت القوى الملكية على القالب، ويكون لون السماء المنشقة مثل دهق الزيت إذا وصل إليه حرارة النارية، لون كل ساعة بلون آخر، فكذلك سماء الصدر تتلون من حرارة شموس القوى الملكية بلون آخر على حسب قوى ملك من الملائكة المنزلة، كما قيل: لون ماء لون إنائه من ينصركما أيتها القوتان؟ { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 38]، أبنعمة انشقاق السماء، أم بنعمة إنزال القوى الملكية تكذبان؟
{ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن * فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 39-40]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة الخلاص من الذنب في دار الكسب، أم بنعمة غفران ذنبكما تكذبان؟
واعلم أن الملائكة النازلة يعرفونهم بسيماهم، فتؤخذ بنواصي نياتهم السيئة وأقدام أعمالهم الفاسدة، ويلقون في جهنم قالبهم الذي عمروها في دار الكسب يطوف من نار عنصرهم الغير المستخلصة عن لهب الهوى، وحميم عنصرية مائهم المكدرة بتراب الطبيعة، كما { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن } [الرحمن: 41-44]، والآن واد من أودية جهنم مثل الويل، فأما الويل حصل من شره، والآن من الهوى إلا من ستره الله بستر ستاريته فإن الملائكة لا يعرفونه، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 45] أيتها القوتان، أبنعمة الخلاص عن الجزاء لستره، أم بنعمة المغفرة عن الذنب بغفرانه تكذبان؟
[55.46-56]
وهذه المواعظ جاءت لتتعظ بها القوتان من آلاء الرب ونعمائه؛ ولأجل هذا يقول: { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [الرحمن: 46] جنة عن يمين لقوة روحانيتهم فيها المعارف، وجنة عن شمال لقوى جسمانيتهم فيها فيما اشتهت أنفسهم، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 47]؛ يعني: أيتها القوتان الخائفتان من مقامكما عند ربكما يوم الحساب، المشتغلتان بكسب الأعمال الصالحة المدخر لكم جزاءها في يوم المآب، أبنعمة جنة اليمين ، أم بنعمة جنة الشمال تكذبان؟ { ذواتآ أفنان } [الرحمن: 48]؛ يعني: جنتكما ذواتا أغصان من المعارف الجلالية والجمالية، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 49]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة المعارف الجلالية، أم بنعمة المعارف الجمالية تكذبان؟ { فيهما عينان تجريان } [الرحمن: 50]؛ يعني: في جنتكما تجريان عين المكاشفة وعين المشاهدة، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 51] أيتها القوتان؟ { فيهما من كل فاكهة زوجان } [الرحمن: 52]؛ يعني: من كل فاكهة معرفة صورتان خالدتان من صورة الأعمال الروحانية والجسمانية، التي عملها في دار الكسب صاحبها { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 53]؛ يعني: أيتها القوتان، بنعمة أي صورة من الصورتين الخالدتين تكذبان؟
{ متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان * فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 54-55]؛ يعني: الصورة الخالدة متكئين على بساط البسط المفروش؛ الذي بطائن الفرش من إستبرق اللطف، وظواهرها من نور الفضل مما ليس له نظير في الدنيا، كما قال في وصفه النبي صلى الله عليه وسلم:
" جزاء عن الملك العلام، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "
، { وجنى الجنتين } [الرحمن: 54]؛ يعني: اجتناء ما يجتني صاحب الجنتين يكون عليه سهلا قريبا على أية حالة شاء يجتني ثمارها من غير تحول عن مقام إلى مقام آخر، ومن غير حركة بالقيام والقعود، { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } [الرحمن: 56]؛ يعني: في هذه الجنان صور حسنة خالدة من صور الأعمال الصالحة، يقصر طرفهن على صاحبها ولا يقدر أن ينظرن إلى غير صاحبها، وكل ما ينظر إلى صاحبها يريد في عينها جمال صاحبها، لم يمسهن يد قوة علوية ولا سفلية قبل يد صاحبها، وحسنهن من حسن الأعمال، وزيادة حسنهن في كل نظرة من حسن النية والصدق والإخلاص في العمل.
[55.57-70]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 57]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة قصر طرفهن عليكما، أم بنعمة حفظهن عن مسام يد غيركما تكذبان؟ { كأنهن الياقوت والمرجان } [الرحمن: 58]؛ يعني: قوة قلبها كالياقوت وقوة نفسها كالمرجان؛ وهو أفق المعارف، وللياقوت القوة القلبية، أم بنعمة خاصة تفريج القلب وتقويته؟ { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 59]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة ياقوت القوة القلبية، أم بنعمة مرجان القوة النفسية تكذبان؟
{ هل جزآء الإحسان إلا الإحسان } [الرحمن: 60]؛ يعني: هل جزاء الأعمال الحسنة التي عملها صاحبها في دار الكسب إلا الإحسان في دار الجزاء؟ وهل يخرج من الشجرة الطيبة إلا الثمرة الطيبة؟ { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 61]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة التوفيق التي أعطيتكم في دار الكسب، أم بنعمة الجزاء التي ادخرت لكم في دار الجزاء، بأي هذين الإحسانين تكذبان؟
{ ومن دونهما جنتان } [الرحمن: 62]؛ يعني: أيتها القوتان أبالجنة السرية، أم بالجنة الخفية تكذبان؟ { مدهآمتان } [الرحمن: 64]؛ يعني: سوداوان مثل سواد العين التي فيها عين الإنسان، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 65]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة سواد العين في عين الإنسان، أم بنعمة عين الإنسان في سواد العين تكذبان؟ ولهذا السواد من يتعلق بحد القرآن، وقد أشرنا إلى بعض أسراره في موارد الشوارد، ومدارج المعارج، وسواطع القواطع.
{ فيهما عينان نضاختان } [الرحمن: 66]؛ يعني: نوارتان بماء المعارف الذي إذا شربه صاحب تقر عينه بمشاهدة جمال محبوبه لا ينقطعان أبد الآباد، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 67]؛ أي: بأية عين من هاتين العينين تكذبان؟ { فيهما فاكهة ونخل ورمان } [الرحمن: 68] يعني: في هذه الجنتين فاكهة الإرادة، ونخل الولاية، ورمان النبوة، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 69]؛ يعني: أيتها القوتان، بأية جنتين من هذه الجنان الأربع تكذبان؟ { فيهن خيرات حسان } [الرحمن: 70]؛ يعني: في الجنان الأربع ضوء الأخلاق الحسنة والأعمال الخيرة، { خيرات } [الرحمن: 70] وجوهها { حسان } [الرحمن: 70] أخلاقها.
[55.71-78]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 71]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة الأعمال الصالحة، أم بنعمة الأخلاق الحسنة تكذبان؟ { حور مقصورات في الخيام } [الرحمن: 72]؛ يعني: صورة عمل روحي محبوسة في خيام لطيفة جسمانية، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 73]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة صورة العمل الروحي، أم بنعمة حبسها في خيام القوة الجسمانية تكذبان؟ { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } [الرحمن: 74]؛ لأنهن محبوسات في الخيام الجسمانية، مأمونات عن ملامسة يد قوة علوية مكدرة بدخان الهوى، وسفلية ملوثة بقاذورات الطبع، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 75]؛ يعني : أيتها القوتان، أبنعمة حفظ هذه الأمور الخالدة عن مساس يد قوة مكدرة علوية، أم بنعمة صوتها عن ملامسة يد قوة ملوثة سفلية تكذبان؟
{ متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } [الرحمن: 76]؛ يعني: تلك الصورة الحسنة الخيرة الخالدة، متكئين على بسط الرفرف الخضر الذي يوصلها الجذبة إليها، ولحاف الألحاف الخفية المنقوشة عليها معارف سر الربوبية المودع في تراب الطبيعة، وشر الخلافة المدرج في نار الروحانية، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 77]؛ يعني: أيتها القوتان، أبنعمة بسط الرفرف الخضر، أم بنعمة لحاف العبقري المنقوش عليه أسرار الربوبية والخلافية تكذبان؟
{ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } [الرحمن: 78]؛ يعني: تبارك وتعالى اسم ربك الذي لجلالته وإكرامه، وكمال قدرته وإعظامه يحصل لقائله هذه الجنان التي وصفناها في سورة الرحمن، فأبشروا يا صعاليك الذاكرين أن جميع الحسنات والطيبات مدرجات في الكلمة الطيبة الحسنة؛ وهي
لا إله إلا الله
[الصافات: 35].
هل جزآء الإحسان
[الرحمن: 60]؛ يعني: هل جزاء من يقول: لا إله إلا الله من صدق القلب إلى الجنة المضافة إلى الرب، والجنان التي فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين هي صور الأعمال الحسنة، فاجتهدوا في تطهير مجاري ذكركم الكريم، وفي نفي الخواطر عند اشتغالكم بالذكر لتدخلوا جناتكم، وتجالسوا رضوانكم، وتشاهدوا رحمانكم، وتعرفوا إنسانكم، وتطلعوا على سر ما قال نبيكم صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى خلق الإنسان على صورة الرحمن "
، ومن قرأ سورة الرحمن وعرفها حق المعرفة اطلع على كمال معرفته صلى الله عليه وسلم، وإشاراته اللطيفة المدرجة في كلماته الشريفة، وعلم أنه صدوق فيما قال:
" أوتيت جوامع الكلام "
صلى الله عليه وسلم.
اللهم ثبتنا على متابعته، وعرفنا إشاراته، ولا تحرمنا من بركاته، ووفقنا للصلاة عليه، وأشركنا في تحياته وصلاته بحقه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يفرق بين المسيء والمحسن، يسوق المسيء على جهنم بسوط سيئاته، ويسوق المحسن إلى الجنة بسوط حسناته.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-16]
يا طالب معرفة الواقعة الرافعة، اعلم أن الواقعة اسم لقيامة الروح، كما أن الآزفة اسم لقيامة الخفي ، والحاقة لقيامة السر، والساعة لقيامة القلب، والواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفض طورا، وتسير من هواها
الجبال سيرا
[الطور: 10]، وتمور الأرض مورا، وتفور نيران الشوق والعشق من هبوب رياح اللطف من شمال الجمال فورا، وتشتعل نيران الشدة والغيرة من نفخ ريح سموم الجلال اشتعالا، وتفجر حينا أنهار المعرفة تفجيرا، وتجعل ماء الحكمة غورا.
واقرأ سورة الواقعة من كتاب الحق حيث يقول: { إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة } [الواقعة: 1-2] متدبرا؛ لتفهم أن الواقعة أمر جزم لا شك في وقوعها، والسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح يشاهد الواقعة وهي في البداية، مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر، وكلما تدبر في النزول يقع على الذكر هيبة وسكينة، وربما في البداية يغمى عليه، فأما في الوسط فإذا نزل برأسه حتى يقع على عينيه يشاهد عوالم الغيب وما فيه كما شاء الله أن يريه في تلك الواقعة، ويكشف عليه العلوم الروحانية في تلك الواقعة، ويرى السالك عجائب وغرائب ما لا يعد ولا يحصى، فإذا أفاق من واقعته يكون كالحيوان يحكها السلكة، ويرشده مسلكه إلى ما فيه مصلحة وقته، ويصير ما هو مناسب لحوصلته، ويقوى قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا، فكلما ينزل يجد السالك منها طمأنينة وذوقا، وربما يصل إلى حد حتى أن السالك بعد نزولها يفتح عينه في عالم الشهادة ويشاهد مآله في الواقعة؛ وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك.
{ ليس لوقعتها كاذبة } [الواقعة: 2]، بل هي صادقة؛ لأن الشيطان يفر من ظل الواقعة، ولا تقدر النفس أن تشكل صاحب الواقعة أصلا؛ لأنها أظهر من أن يمكن للنفس والشيطان أن يلبسا حالها على السالك، وعندي أنها حالة حقيقة؛ وهي النقطة الحقيقية، والذي تشاهده في عالم الشهادة بالنسبة إليها حالة النوم، وفي الحقيقة كل ما يشاهده في العالم الخيالي لا حقيقة له؛ ولأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا "
، فكن أيها النائم في نومك على حذر من حقائق الحيات والعقارب المنبثة بصور أفلاكك لكن تنتبه فتشكر الله على أنك خلصت من النوم، ولا تتنعم بصورها المزينة المزخرفة الدنيوية، لكن تنتبه بحزنك الانتباه لما رأيت الصور المزينة الملتبسة في النوم، ولا بد من الانتباه من مشاهدة حقائق الصور المكتسبة بالأخلاق والصفات، فاجتهد في أن تجد بصرك وتكشف غطاءك في اليوم لتشاهد حقائق الصور؛ لئلا تلتفت إلى الصور المزخرفة، وتشاهد وراء الصور حقائق المعاني العقربية والنارية، والحطمة في صورة مزينة بالشهوات؛ ليتيقن بها أطفال الطبيعة وجهال قوى القالبية والنفسية، ويعاين في الصور الهائلة المزخرفة الدنيوية حقائق الحورية والخلدية والنعم الباقية، لكن يتنبه بشكر الله على خلاصك من الصور الهائلة، ووصولك إلى حقائقها وتنعمك بها أبد الآباد؛ ولأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات "
، والذي يقول الله تعالى في صفة الواقعة: { خافضة رافعة } [الواقعة: 3] تدل على هذه المعاني؛ لأنها تخفض أهل الشهوات وترفع درجات الذين تركوا الشهوات، ونظروا بعين التحقيق إلى معاني الصمد المزخرفة لا إلى صورتها، وأعرضوا عن الباطل وأقبلوا على الحق.
{ إذا رجت الأرض رجا } [الواقعة: 4]؛ يعني: زلزلت أرض البشرية من غلبة ريح الذكر الروحي، { وبست الجبال بسا } [الواقعة: 5]؛ يعني: فتت القوى المعدنية فتا من صدمات سلطان الذكر الروحي، { فكانت هبآء منبثا } [الواقعة: 6]؛ يعني: غبارا متفرقا بقوة النفي بالذكر الروحي، { وكنتم أزواجا ثلاثة } [الواقعة: 7]، أيتها القوى القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية: إنكم في تلك الحالة تتفرقون على ثلاثة فرق: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون كما يصفهم الله تعالى: { فأصحاب الميمنة } [الواقعة: 8]، هم أصحاب اليمن والبركة من المتيقظين في نومة الدنيا، المشاهدين حقائق الصور بعين الإيمان، { مآ أصحاب الميمنة } [الواقعة: 8] ما أحسن حال أصحاب الميمنة بعد الخلاص من النوم، { وأصحاب المشأمة } [الواقعة: 9]، وهم أصحاب الشؤم والمنقصة من الجاهلين النائمين بنومة الغفلة في الدنيا، القاصرين نظرهم على الصور المزخرفة المزينة العاجلة، الغافلين عن حقائقها ومعانيها، { مآ أصحاب المشأمة } [الواقعة: 9]؛ يعني: ما أقبح حال أصحاب المشأمة بعد الانتباه من نومة الدنيا، { والسابقون السابقون } [الواقعة: 10]؛ يعني: السابقون الذين سبقت لهم منا الحسنى، ما زاغ بصرهم وما طغى، قدمهم عن الصراط يمينا وشمالا؛ هم السابقون بتوجههم الصادق إلى الله تعالى، { أولئك المقربون } [الواقعة: 11] من الله، { في جنات النعيم } [الواقعة: 12]؛ أي: في حقائق ما يشاهدونها في صور الكراهة في الدنيا من المجاهدة والرياضة وترك الشهوات وما شكلها.
{ ثلة من الأولين } [الواقعة: 13]؛ يعني: يكون السابق قليلا من القوى القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية، { وقليل من الآخرين } [الواقعة: 14]؛ يعني: أيضا هم قليلون من القوى الخفية، كما يقول تعالى في موضع آخر:
وقليل ما هم
[ص: 24] { على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين } [الواقعة: 15-16]؛ يعني: سرر السر متواصلة من الصفات منسوجة بجوهر الوفاء وذهب الرضاء.
[56.17-29]
{ يطوف عليهم ولدان مخلدون } [الواقعة: 17]؛ يعني: يطوف عليهم صور أعمالهم القلبية وأخلاقهم الروحية الحميدة، { بأكواب } [الواقعة: 18]؛ أي: باستعدادات علوية، { وأباريق } [الواقعة: 18]؛ أي: باستعدادات سفلية، { وكأس من معين } [الواقعة: 18]؛ أي: باستعداد معتدل من امتزاج الاستعدادات العلوية والسفلية المطهرة مملوءا من خمر المعاينة، { لا يصدعون عنها } [الواقعة: 19]؛ يعني: لا يؤلم دماغهم الروحاني عن شربها، { ولا ينزفون } [الواقعة: 19]؛ أي: لا يغني شرابهم، ولا ينفذ ذوقهم، وهم لا يسأمون من شربها، وكلما يشربون كأسا تزيد رغبتهم في شرب كأس أخرى، بذوق يحصل لهم من الشرب الأول إلى ما لا يتناهى، وهم خالدون في هذه الأذواق الحاصلة من الذوق الروحي، { وفاكهة مما يتخيرون } [الواقعة: 20]؛ يعني: لهم الفواكه المطرفة مما يختارون، ولهم { ولحم طير مما يشتهون } [الواقعة: 21]؛ يعني: لهم قوة طرية حاصلة من الذكر الروحي يطيرون بها إلى حيث يشتهونه، { وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون } [الواقعة: 22-23] يعني: لهم حور عين من القوى القابلة القالبية والنفسية المزكاة المطهرة تفنيهم على أفعالهم كما يريدون، وهذه القوى المزكاة كانت أمثال اللؤلؤ المخزون في أصداف القالب والنفس في بحر الدنيا، لا يصل إلى تلك القوى غبار الهوى { جزآء بما كانوا يعملون } [الواقعة: 24] في دار الكسب من محافظة القوى الحقوقية المستكنة في أصداف القالب والنفس عن غبار الحظوظ الباطلة العاجلة.
{ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } [الواقعة: 25]؛ يعني: في جنتهم النباتية والمعدنية، المزكاة عن غطاء الكذب وشوك الشرك، لا يسمعون من صور أعمالهم الصالحة { إلا قيلا سلاما سلاما } [الواقعة: 26]؛ يعني: سلامة عن اللغو وسلامة عن التأثيم في دار النعيم، { وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين } [الواقعة: 27]؛ يعني: أحسن أحوالهم { في سدر مخضود } [الواقعة: 28]؛ يعني: ثمرة تعلقه منقاة من الشوك من الثمار، معرفة الصفات الفعلية الحاصلة من بذر الذكر القالبي والنفس في طلح { وطلح منضود } [الواقعة: 29]؛ يعني: من أصلها إلى فرعها ثمرة لطيفة من غير أن يكون لها قشر يجب طرحه، وهذه ثمرة حاصلة من بذر الذكر القلبي.
[56.30-44]
{ وظل ممدود } [الواقعة: 30]؛ أي: في راحة ممدودة غير متناهية حاصلة من ظل الذكر السري، { ومآء مسكوب } [الواقعة: 31]؛ أي: مصبوب على أرض جنتهم وتراب طبيعتهم الكافورية من ماء الذكر الدائم الروحي، { وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة } [الواقعة: 32-33]؛ يعني: معارف متناهية وغير ممتنعة عنهم يأكلونها متى شاءوا، حاصلة من بذور أذكار القوى العلوية والسفلية، { وفرش مرفوعة } [الواقعة: 34]؛ يعني: بسط مبسوطة على بساط البسط في العالم الخفي، مرفوعة فرش استعداداتهم المزكاة السفلية بالقوة الخفية من أثر الذكر الخفي.
{ إنآ أنشأناهن إنشآء } [الواقعة: 35]؛ يعني: جددنا لهم كل ساعة صور أذكارهم القالبية والنفسية، { فجعلناهن أبكارا * عربا } [الواقعة: 36-37] لا يمسها أحد قبلهم { عربا } [الواقعة: 37]؛ يعني: يعرب تلك الصور المحببة إلى القوة الفاعلية العلوية، لهم المعاني بأحسن كلام، وأبين نظام، وأفصح بيان، وأوضع برهان بلا ترجمان، { أترابا } [الواقعة: 37]؛ يعني: مستويات في القدر والرفعة { لأصحاب اليمين } [الواقعة: 38]: يعني: هذا الذي ذكرناه مدخر { لأصحاب اليمين } [الواقعة: 38] في دار الإقامة بما عملوا من الصالحات في دار الكسب، وأصحاب اليمين أيضا يقولون قليلون، كما يقولون: { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين * وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال } [الواقعة: 39-41]؛ يعني: ما أقبح حال أصحاب الشمال { في سموم } [الواقعة: 42]؛ وهي ريح حارة هوائية ممزوجة بنيران الشيطانية، { وحميم } [الواقعة: 42]؛ وهو ماء عنصريتهم الحار مما أسخن بنيران الشهوية، { وظل من يحموم } [الواقعة: 43]؛ وهو نار عنصريتهم المدنسة بتراب الطبيعية، كثيرة الدخان من الحظوظ الباطلة الطبيعية، وأشار به إلى الظل؛ لأن نارهم دست في تراب طبيعتهم وارتفعت عن وجه أرض البشرية، وصعدت إلى دماغ روحانيتهم، وصارت مثل الظلمة، { لا بارد } [الواقعة: 44] ظلال الظلمة المتصاعدة من أبخرة الهوى يمنع صاحبه عن الحرارة المفرطة الشيطانية والشهوانية، { ولا كريم } [الواقعة: 44] حر نارها بحيث يدفع ما يجد من برودة الجهل والظلم الترابي.
[56.45-56]
{ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } [الواقعة: 45]؛ يعني: في دار الفرار بالصور المزينة المزخرفة، المتلبسة في أكيسة عناصرهم متنعمين، { وكانوا } [الواقعة: 46] قبل { يصرون على الحنث العظيم } [الواقعة: 46]؛ لكثافة حجبهم وغلظ أستارهم يصرون على تكذيب اللطائف، والشرك بالله والكفر بذاته، { وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون * أو آبآؤنا الأولون } [الواقعة: 47-48] على سبيل الاستهزاء إنكارا بالبعث لقلة علمهم بالله، يبعثهم كل ساعة كما يقول:
فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون
[الروم: 56]؛ لكثافة حجبكم، { قل } [الواقعة: 49] يا أيتها اللطيفة الخفية { إن الأولين والآخرين } [الواقعة: 49]؛ يعني: القوى البسيطة والمركبة { لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } [الواقعة: 50]؛ يعني: صور قواكم المتحللة من المفردات الأولى والمركبات الأخيرة، لمجموعون في يوم البعث من قبل القالب، { ثم إنكم أيها الضآلون } [الواقعة: 51] في نية الظنون { المكذبون } [الواقعة: 51] بالوارد، وتقولون لصاحب الوارد: إنك لمجنون.
{ لأكلون من شجر من زقوم } [الواقعة: 52]؛ يعني: نثرتم بالقوة الخبيثة بذر الكلمة الخبيثة في أرض بشريتكم الخبيثة، { فمالئون منها البطون } [الواقعة: 53] لغلظتها، { فشاربون عليه من الحميم } [الواقعة: 54]، وهو ماء عنصريتكم المسخن بنار الشهوات، { فشاربون شرب الهيم } [الواقعة: 55] لهيمان إبل قوة حيواناتكم في بيداء الشكوك، وشدة عطشكم لحرمانكم عن ينابيع الذكر ومصانع الوارد، { هذا نزلهم يوم الدين } [الواقعة: 56]؛ يعني: هذا ما قدمتم في دار الكسب لأنفسكم، فجعلنا منه نزلكم في دار الجزاء.
[56.57-64]
{ نحن خلقناكم فلولا تصدقون } [الواقعة: 57] بالبعث بعد الخلق، فانظروا إلى مبدأ خلقكم لتعلموا أنا خلقناكم بالوسائط، ولا تحسبوا أن الوسائط مختارة بنفسها؛ لئلا تشركوا بالخالق؟
{ أفرأيتم ما تمنون * ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } [الواقعة: 58-59]؛ يعني: في عالم الأنفس، { أفرأيتم } [الواقعة: 58] أيها السالكون إلا مني الإرادة، أنتم تخلقونه أم نحن خلقناه في ظهر القوة الفاعلة؟ ونحن صببناه في رحم القوة القابلة.
{ نحن قدرنا بينكم الموت } [الواقعة: 60]؛ يعني: موت الجهل في بداية الأمر؛ ليكسب القوة الفاعلة العلوية من القوى القابلة السفلية استعدادا؛ فإما كاملا لتستعمله في التزود لدار المعاد، ويجعل له مطية ليركبها يوم الرجوع إلى رب الأرباب، وبعبارة أخرى؛ يعني: نحن قدرنا الموت اللطيفة الحاصلة مني الارادة بأنها تبلغ مبلغ الرجال، أو تموت صبية، { وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثلكم } [الواقعة: 60-61]؛ يعني: ما نحن بمغلوبين عاجزين عن إفناء مركباتكم وإهلاك مفرداتكم وإبدال قوى أمثال قواكم المتحللة الفانية الهالكة { وننشئكم في ما لا تعلمون } [الواقعة: 61] من تبديل قواكم، وصفاتكم الحاصلة من تلك القوى، كما يشاهد الرجل أنه يتورط في أمر الدنيا تورطا عظيما، بحيث لا يذكر الله تعالى طرفة عين مشتغلا بهواه مقبلا على شهواته مربيا قوى سبعية وبهيمية، فيبدل الله قواه وصفاته بحيث لا يفتر عن ذكر الله ساعة، ولا يشتغل بالدنيا ولو يضربونه ضربا شديدا، ويترك هواه ويقبل على مولاه ويعرض عن شهواته، ويستمر في مجاهداته ورياضاته، أليس هذه نشأة معينة وتبديلا مبينا ظاهرا؟ فمالكم أيها العمي لا تؤمنون بخالقكم، ومنشئكم وباعثكم من قبول أقوالكم؟ { ولقد علمتم النشأة الأولى } [الواقعة: 62] التي هي من مني النطفة المودعة في ظهر القوة الفاعلة، المصبوب في قبورهم رحم القوة القابلة، { فلولا تذكرون } [الواقعة: 62] إني قادر على بعثكم من قبور قوالبكم، وأنشئكم النشأة الثانية بصب نطفة العناية؛ وهي ماء الحياة في ظهر قوة الولاية في رحم الإرادة، وإبدال قوتكم الفاسدة بالقوة الصالحة، وتغيير صفاتكم القبيحة بصفاتكم الحسنة.
{ أفرأيتم ما تحرثون } [الواقعة: 63] من بذور الأعمال في أرض البشرية، { ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } [الواقعة: 64]؛ أي: أنتم تنبتون، أم نحن المربون؟.
[56.65-76]
{ لو نشآء لجعلناه حطاما } [الواقعة: 65]؛ يعني: لو نشأ لجعلنا بذور أعمالكم حطمة ليعذبوا بها { فظلتم تفكهون } [الواقعة: 65]؛ أي: تتعجبون مما ينبت من بذوركم لا حب فيه، وهذا يكون من شؤم الغفلة عن الإخلاص في النية وقت العمل، فاحذروا أيها السالكون من الأذكار المصحوبة بالغفلة والأعمال الغير الخالصة؛ لئلا تكون أعمالكم وأذكاركم حطمتكم في دار الجزاء - نعوذ بالله من تلك الحالة - بل نحن محرومون من كسبنا وزرعنا.
{ أفرءيتم المآء الذي تشربون * ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } [الواقعة: 68-69]؛ يعني: أفرأيتم ماء الوارد العرفاني الذي تشربون؟ أيتها القوى الذاكرة { ءأنتم أنزلتموه من المزن } [الواقعة: 69] الخفي { أم نحن المنزلون * لو نشآء جعلناه أجاجا } [الواقعة: 69-70]؛ يعني: جعلنا ماء الوارد نكرانيا، { فلولا تشكرون } [الواقعة: 70] نعمتنا وتؤمنون بقدرتنا بأنا قادرون على بعثكم في النشأة الأخرى، كما كنا قادرين على خلقكم في النشأة الأولى.
{ أفرأيتم النار التي تورون } [الواقعة: 71] في نداء الذكر وحجر القلب من نار العشق، { أأنتم أنشأتم شجرتهآ } [الواقعة: 72]؛ يعني: شجرة نار العشق، { أم نحن المنشئون * نحن جعلناها } [الواقعة: 72-73]؛ يعني: شجرة نار العشق، { تذكرة } [الواقعة: 73] لنار الحق، { ومتاعا للمقوين } [الواقعة: 73]؛ يعني: استعدادا للمسافرين الذين دخلوا دار القربة؛ ليتاجروا برأس مالهم ويربحوا أضعاف ما في أيديهم، لكن يأخذ صاحب المال منهم ماله، فيبقى لهم ما اكتسبوا برأس مالهم وتنعموا بمكاسبهم إذا رجعوا إلى مواطنهم الأصلية، فمن خسر برأس ماله فقط أورى من زند ذكره الدنيوي نار الشهوة؛ التي هي تذكرة للنار الكبرى، التي هي الموقدة في صدور أهل الهوى، وإذا رجع إلى وطنه يأخذ صاحب المال رأس ماله ويبقي معه مكتسباته، وتكون مكتسباته حطمه تتصرف فيها النار الموقدة المطلعة على الأفئدة، ويحرق الحطمة ويشتعل النار الكبرى من إحراق الحطمة، وتعذب صاحبها في دار الجزاء أبد الآباد بالنار الموقدة، وحطمته المجتمعة في دار الكسب نعوذ بالله منه.
{ فسبح باسم ربك العظيم } [الواقعة: 74]؛ يعني: نزه مجاري ذكر الحق الباطل باسم ربك العظيم؛ وهو الله الحق، ثم سبح ذاته عن الشريك والنظير المعين، وتيقن أنه الفاعل المختار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ونحن المستعملون المضطرون المخزون الفقراء، { فلا أقسم بمواقع النجوم } [الواقعة: 75]؛ يعني: أقسم باللطائف الحقوقية المطهرة عن الأباطيل، هي مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء، الجبروتية اللاهوتية، { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } [الواقعة: 76]؛ لأنه يعظم اللطائف التي هي مظاهر ذاته وصفاته بالقسم، وفي العظيم سر عظيم يتعلق بمطلع القرآن.
[56.77-85]
{ إنه لقرآن كريم } [الواقعة: 77]؛ يعني: كلام رب كريم؛ وهي صفة ذاتية له فانظر فيه وافتكر، وبشر وجودك بأنه صار مظهر الصفات الذاتية، { في كتاب مكنون } [الواقعة: 78]؛ أي: محفوظ مصون عند الله أن يمسه محدث؛ لأنه صفة قديمة، { لا يمسه إلا المطهرون } [الواقعة: 79]؛ يعني: لا يمس ذلك الكتاب إلا الذين طهرهم الله عن قاذورات الحدث، وصيرهم ربانيين إلهين، { تنزيل من رب العالمين } [الواقعة: 80]؛ يعني: ينزل من عند رب العالمين نزول الفعل الصادر عن الصفة الفاعلية لظهر الأثر لا من قبيل نزول الشيء من الأعلى إلى الأسفل، تعالت حضرة الملك المتعال من أن ينزل منها شيء أو يصعد إليها شيء، كنزول الجسمانيات وصعودها، وكشف هذا السر يتعلق بحد القرآن.
{ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } [الواقعة: 81]؛ يعني: بهذا الذي ذكرناه أيها القوى القالبية والنفسية الكاذبة المكذبة تكذبون { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [الواقعة: 82]؛ يعني: تجعلون شكر رزقكم وحظكم من الوارد التكذيب.
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم } [الواقعة: 83]؛ يعني: الحياة التي هي رأس مالكم، { وأنتم حينئذ تنظرون } [الواقعة: 84] إليها مشاهدون ما ينزع عنكم، { ونحن أقرب إليه منكم } [الواقعة: 85]، وهذا سر عظيم كشفه الله في ظاهر القرآن، أعرضوا عنه ما زين عليه كل يوم مرارا كثيرة، فلولا غيرتي على هذه الحكمة المدرجة في هذه الآية، وخوفي من أن يسبك قلوب الغفلة لبسطت هذا السر؛ لأنه من بطن القرآن، وأذكره - إن شاء الله - في قدسية أخرى، بحيث يكون تمام القدسية مشحونا ببيانها { ولكن لا تبصرون } [الواقعة: 85]؛ أي: لا تشاهدون إلا قريبة وتظنون بالله القريب الظنون الكاذبة.
[56.86-96]
{ فلولا إن كنتم غير مدينين } [الواقعة: 86]؛ يعني: هلا إن كنتم غير مملوكين مسخرين، { ترجعونهآ } [الواقعة: 87]؛ يعني: تردون الروح التي بلغت الحلقوم { إن كنتم صادقين } [الواقعة: 87] بأنكم قادرون غير عاجزين، مالكون غير مملوكين، فإذا أعلمتم عجزكم فاعلموا أن الله الذي خلقكم بقدرته وأحياكم بإرادته وأماتكم بحكمته، قادر على أن يبعثكم من قبر قالبكم بعد موتكم، محط للسالك أن يتعين في حالة القبض، أن الله هو القابض لا يقدر على ترديد حياة البسط إذا نزعها الله عنه وتفوض أمره إلى مالكه الذي في قبضته متردد، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أماته بالقبض، وإن شاء أحياه بالبسط، وإن شاء أماته بالنكرة، وإن شاء أحياه بالمعرفة "
، بترك اختيار نفسه إلى مسلكه ليوصله إلى مرتبة، بترك اختياره للحق ويكون كالميت بين يدي الغسال في الحضرة يمشون على وجه الأرض مقصورين، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الآخرة يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى هذا "
، وأشار إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه شاهد في هذا اليوم أن الأمر لله، كما يشاهد الآخرون في الآخرة، ويقولون:
والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 19]، ولو لم يترك السالك اختياره بالتفويض جميع أموره إليه لم يصل إلى مطلوبه البتة.
{ فأمآ إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنت نعيم } [الواقعة: 88-89]؛ يعني: روح من روح الذكر الروحي، وريحان من نسيم الذكر السري، وجنة نعيم من ذوق الذكر القلبي، { وأمآ إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين } [الواقعة: 90-91]؛ يعني: سلامة لك من شؤم العقوبة والعذاب الدائم؛ لسلامة جوارحك وأعضائك عن ارتكاب المنهيات، وسلامة صدرك عن الغل والحقد والحسد، إنك من أصحاب اليمين، { وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين } [الواقعة: 92]؛ يعني: المكذبين باللطيفة الضالين في بيداء الشبه، فهم أصحاب المشأمة لشؤم تكذيبهم وتضليلهم مما كسبوه في دار الكسب من الحميم والجحيم؛ ولأجل هذا يجزيهم الله في الآخرة بمثل ما كسبوه لأنفسهم في دار الكسب، وبقوله تعالى: { فنزل من حميم * وتصلية جحيم } [الواقعة: 93-94]؛ يعني: حميم عنصر مائية المستحق بنار الشهوات وجحيم عنصر نارية المشتعلة بريح الهوى المحملة بتراب الطبيعة المكدرة، { إن هذا لهو حق اليقين } [الواقعة: 95]؛ يعني: إن هذا البيان لهو الحق؛ لأنه كلام الحق وبيانه عن عالم اليقين، وإما تخرب قواك بثلاثة أخراب، وجزاءهم بما كسبوا في دار الكسب من الأعمال الصالحة والفاسدة المدخرة لهم في دار الجزاء، فاعلم أن اللطائف المرسلة والحقائق الحقوقية المسكنة في جميع القوى العلوية والسفلية؛ هم المقربون السابقون، والقوى المؤمنة باللطائف المرسلة من القوى القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية والحقية؛ هي من أصحاب اليمين السالمين من العقاب يوم المآب، المتنعمين بأعمالهم الصالحة الباقية لهم في دار الثواب، والقوى الكافرة القالبية والمشركة النفسية والمنافقة والقلبية والجاحدة السرية والمستكبرة الروحية والضالة الخفية ممن لم يؤمنوا باللطيفة الخفية؛ هي من أصحاب المشأمة المشئومين المكذبون الضالون، فأبشر أيها المحمدي إنك لست من أصحاب المشأمة إن كنت دخلت في دار التصديق وهو شهادتك بأن " لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ومن وفق لهذه الشهادة من إخلاص وتصديق يكون من أصحاب اليمين ويكون رفيقه التوفيق، ولا يمكن للشيطان أن يقطع عليه الطريق، وإلى هذا أشار النبي الصادق الصدوق:
" من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة "
، وهذا التشريف يصل إلى أمة الحبيب الشريف صاحب الخلق اللطيف، والخلق الظريف، والقلب النظيف - عليه أفضل التحية والسلام - لشرفه فطوبى لمن تبعه في الشريعة، وطوبى ثم طوبى لمن تبعه في الشريعة والطريقة، وطوبى ثم طوبى لم تبعه في الشريعة ووصل إلى عالم اليقين بصورة الذكر، ثم تبعه في الطريقة ووصل إلى عين اليقين؛ يعني: الذكر، ثم تبعه في الحقيقة ووصل إلى حق اليقين بحقيقة الذكر، ثم نزه مجاري الذكر الخفي عن صورة الذكر ومعناه وحقيقته؛ ليستحق أن يجري عليه الذكر الخفي ويكون محلا للقسم، كما قال الله تعالى:
فلا أقسم بمواقع النجوم
[الواقعة: 75] بعد وصول الذاكر بصورة الذكر إلى علم اليقين، فأمره أن ينزه مجاري ذكره من صورة الذكر؛ ليستحق أن يجري عليه الذكر المعنوي بقول { فسبح باسم ربك العظيم } [الواقعة: 96] مجاري الذكر الخفي عن صورة الذكر الموصل، فهكذا يقول بعد وصوله إلى عين اليقين وحق اليقين: { فسبح باسم ربك العظيم } [الواقعة: 96]؛ يعني: نزه باسم ربك العظيم مجاري الذكر الخفي عن صورة الذكر الموصل إلى علم اليقين؛ ومعنى الذكر الموصل إلى عين اليقين وحقيقة الذكر الموصل إلى الحق اليقين؛ ليستحق أن يجري عليه الذكر الخفي الموصل للذاكر إلى حقيقة حق اليقين؛ ليصير الذاكر مذكورا ويصل القاصد إلى المقصود، ويكون الشاهد هو المشهود، وسر هذه اللطيفة في حد القرآن فاقتصر على رمز رمز به إليه واجتهد في الذكر الصوري برعاية شرائطه، وهو أن يذكر الله بالقوة الخفية بالشرط والإثبات؛ ليصل إلى الذكر المعنوي، ثم اجتهد في الذكر المعنوي برعاية المتحد في الذكر مع الذاكر؛ لتصل إلى الذكر الحقيقي، ثم اجتهد في الذكر الحقيقي بنفي قوة ذاكرتك وإثبات القوة المذكورية؛ لتصل إلى الذكر الخفي، فإذا وصلت إليه وقت ما في ذاتك بذاتك لذاتك، وصرت ملكا حيا باقيا، ويكون عنوان منشور ملكيتك في دار البقاء من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت، فاجتهد في ألا تفوت هذه المرتبة في الحال ولا تغرنك الآمال الصادقة لك عن الاجتهاد بالإرجاء بأنك تصل إليها في المال؛ لأن ترك النقد بالوعد للوصل إلى الفقد المتروك لا يكون إلا في قلة العقل وهي من أقبح الخصال.
اللهم ارزقنا الوصال في الحال وأذقنا بكأس مشاهدة الجمال زلال رحيق الجلال بحق صاحب الكمال صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه خير صحب وآل التابعين لهم بإحسان من أهل اللطف والنوال.
[57 - سورة الحديد]
[57.1-4]
يا أيها السباح، في بحر التسبيح بالاستعداد الظاهر الكامل اللطائف الظاهرة والباطنة، القلبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية، اعلم أن الله ذكر المسبحين في كتابه المبين وكلامه المتين على فواتح السور ثلاث مرات بصيغة الماضي، ومرتين بصيغة المستقبل، ومرة واحدة بصيغة الأمر؛ ليطلع السالك على أن تسبيح اللطائف الظاهرة بلسان النبوة في بحر الأزل كان لصفات ذاته، وتسبيح اللطائف المطهرة الباطنة بلسان الولاية في بحر الأبد كان لصفات فعله، وتسبيح اللطيفة الخفية بلسان اللطيفة الأنانية في بحر الجمال كان لذاته بذاته؛ ليتوجه السالك المحقق إلى كعبة الحال لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل؛ لأن التوجه إلى الماضي في توبة اللطيفة يكدر وجه الجمال، والتوجه إلى المستقبل بعد طلوع شمس الحال يشق قلب الحال، والسر الذي ذكر بصيغة الماضي ثلاث مرات إشارة إلى نور النبوة؛ لأنها قائمة بواو الولاية، وواو الولاية قائمة بألف الألوهية، فما له مرتبتان وله ثلاث مراتب، والسر الذي ذكر بصيغة المستقبل مرتين؛ لأن واو الولاية قائمة بألف الألوهية وله مرتبتان، والحكمة في أنه ذكر بصيغة الأمر مرة واحدة؛ لأن اللطيفة الأنانية ظهرت في مرتبة الألف، وكشف هذه الأسرار زيادة على ما ذكرته بفرع باب مطلع القرآن، فارجع من المطلع إلى الحد، ومن الحد إلى البطن، ومن البطن إلى الظهر.
وافهم ما يقول الله تعالى في كلامه حيث يقول { سبح لله ما في السموت والأرض وهو العزيز الحكيم } [الحديد: 1]؛ يعني: نزه له أهل السماوات الروحانية وأهل الأرض البشرية عن معرفتهم له؛ لأن جناب عزته له أعلى من أن يصل فهم المخلوق إلى أفق معرفته، وسرادقات حكمته أرفع من أن يقدر رفعها المخلوق المحدث بقوله: { له ملك السموت والأرض } [الحديد: 2] ملكا مطلقا، { يحيي ويميت } [الحديد: 2] يحيي المفردات عند التركيب بحكمته، ويمت المركبات بإفناء صورها بعد التركيب بعزته، { وهو على كل شيء قدير } [الحديد: 2]؛ يعني: على إحياء الموتى وإماتة الإحياء، { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } [الحديد: 3]؛ يعني: هو الأول في عالم لاهوته، والآخر في عالم ملكوته، والظاهر في عالم ناسوته، والباطن في عالم جبروته، وهو إشارة إلى وحدانية ذاته المحيط بالكل؛ ولأجل هذا يبدأ به ويختم عليه في قوله: { وهو بكل شيء عليم } [الحديد: 3] من الحقائق اللاهوتية، والحقائق الجبروتية، والدقائق الملكوتية، والشقائق الناسوتية عليم.
{ هو الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام } [الحديد: 4]؛ يعني: هو الذي خلق السماوات الروحانية والأرض البشرية في ستة أيام، النقطات البياضية والسوادية المدرجة في الحظ الإلهي { ثم استوى على العرش } [الحديد: 4]؛ أي: على عرش النقطة الحكمية في الجمعة المباركة الألفية؛ لأنها مجمع النقطات العلمية والإرادية، والقدرية والحكمية، وبها تمت الأسبوع وعليه مدار أشهر الحروف وأباجاد السنين، وأعياد الكلمات الكاملات التامات الباقيات، وفهم هذه الأسرار ليس يفسرها الأعجمي فأدرج، فاعلم أنه تعالى { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } [الحديد: 4]؛ لأنه أودع فيها قوة الولوج واستعداد الإخراج وقت التخمير، { وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها } [الحديد: 4]؛ لأنه أدرج فيها سر النزول وحكمة العروج وقت التدبير، { وهو معكم أين ما كنتم } [الحديد: 4]؛ يعني: وجودكم مستفاد من نظر وجوديته، وكيف نيتكم موجودة به؟ { والله بما تعملون بصير } [الحديد: 4]؛ لأنه مستعملكم.
[57.5-9]
{ له ملك السموت والأرض } [الحديد: 5] الآفاقي والأنفسي، { وإلى الله ترجع الأمور } [الحديد: 5] الروحانية بعد النزول إلى الأرض وجذب اللطائف الأمرية المستكنة في الأرض، وعروجه سماء الروحانية ليكتسب المعارف العلوية بالاستعداد الحاصل من جذب اللطائف الأرضية، ويرجع إلى حضرة ربه مع حصول المعارف التفصيلية من العلوية والسفلية والصفاتية.
{ يولج الليل في النهار } [الحديد: 6] بتجلي صفة جلاله، { ويولج النهار في الليل } [الحديد: 6] بتجلي صفة جماله، { وهو عليم بذات الصدور } [الحديد: 6] يعلم ما يليق بحال السالك يرتبه طورا في القبض وطورا في البسط، وطورا في النكرة وطورا في المعرفة.
{ آمنوا بالله ورسوله } [الحديد: 7] أيتها القوى القالبية النفسية، { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } [الحديد: 7] من الاستعدادات العلوية والسفلية والاختيار العاري؛ ليمكن لكم العروج في درجات جناتكم والخلاص من أسفل دركاتكم، { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } [الحديد: 7]؛ يعني: من آمن باللطيفة الخفية، وأنفق من استعداداتها الحاصلة في عالم الكسب وقت تدبير الأمر العلوي من السماء الروحانية إلى الأرض البشرية في طاعة الله له أجر كبير من إعطاء الاستعدادات الباقية الوهبية المتنعمة أبد الآباد بما كسبوا من إنفاق استعداداتهم من الأعمال الصالحة.
{ وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } [الحديد: 8]؛ يعني: أيتها القوى القالبية والنفسية ما لكم لا تؤمنون بالله بعد أن اللطيفة الخفية دعتكم إلى الحق وأطلعتكم على الآيات البينات النفسية، بحيث أنكم شاهدتموها وأخذتم ميثاقكم وقت مشاهدة الآيات البينات بأن لا تنكروا الحق بعد ظهور الآيات البينات { إن كنتم مؤمنين } [الحديد: 8] بالحق يجب عليكم ألا ترتدوا على أعقابكم، ولا تنقضوا ميثاقكم، { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } [الحديد: 9]؛ يعني: على اللطيفة الخفية المستحقة لاسم العبدية آيات أنفسية بينة بحيث شاهدتموها، { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } [الحديد: 9]؛ يعني: ليخرجكم من ظلمات القالب إلى النور الروحاني من ظلمات الحجب الروحانية المكتسبة من ظلمات القالب إلى النور الروحاني، { وإن الله بكم لرءوف رحيم } [الحديد: 9]؛ أي: بإرسال اللطيفة الخفية إليكم؛ ليخرجكم من ظلمات الكفر والشرك والظنون إلى نور الإيمان والإيقان والعرفان.
[57.10-12]
{ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } [الحديد: 10]؛ أي: استعدادكم في طاعته، { ولله ميراث السموت والأرض } [الحديد: 10]؛ أي: تعلمون أن لله ميراث السماوات الروحانية والأرض البشرية، يتحلون باستعدادكم الذي هو أعطاكم من القوى العلوية والسفلية، ولا تنفقون في طاعة من يرث الاستعدادات بعد إفنائكم ونفديكم بتركتكم المكدرة، وإن تنفقوا يرث هو أيضا استعداداتكم العلوية ويدخلكم في جنات تركاتكم المطهرة المزكاة عن الكدورات بالنفقة، فيما يغركم إلى خالق الأرض ووارث التركات والمعذب لتارك التركات المزكاة بنعيم الجنان الموصل له إلى أعلى الدرجات، { لا يستوي منكم } [الحديد: 10]، أيتها القوى المؤمنة: { من أنفق من قبل الفتح } [الحديد: 10]؛ يعني: جاهد في سبيل الله قبل اطلاعه على الآيات البينات، وفتح مكة وجوده بجند الذكر وحزب الخواطر وحزب الروحانية، { وقاتل } [الحديد: 10] الأعداء من القوى القالبية والنفسية والشيطانية مع من يجاهد في السلوك، بعد طلوع شمس الحقيقة ووصل نور الجذبة، { أولئك أعظم درجة } [الحديد: 10] لمجاهدتكم من غير المشاهدة { من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [الحديد: 10] بقوة نور الجذبة، { وكلا وعد الله الحسنى } [الحديد: 10] الباقية بحسنى أعمالهم باستعداداتهم الفانية في دار الكسب.
أبشر أيها السالك المجاهد؛ لأن الله تعالى عظم أجرك ودرجتك على المجذوب، ولا تبال بالمشاهدة وبالغ في المجاهدة في الكسب؛ لأن المشاهدة أخروية موعودة في دار الجزاء على قدر هممكم، فمن كان همته الأكل والشرب والجماع مشتهيات النفس فيعطي له ما اشتهت نفسه من النعيم المقيم، ومن كان همته عبودية الحق خالصا مخلصا يريد وجهه بنور وجهه العظيم، وتقر عينه بمشاهدة جماله الكريم، { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له } [الحديد: 11] أضعافا مضاعفة بواحدة عشرا وبواحدة سبعمائة، ويزيد عليه لمن يشاء، { وله أجر كريم } [الحديد: 11] من مشاهدة وجهه الكريم { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } [الحديد: 12]؛ يعني: يوم يكشف الغطاء الظلماني ترى القوى المؤمنة من القوى الفاعلة والقابلة نور ذكرهم ونور عناصرهم المطهرة بنور الذكر، ونور روحانيتهم المنورة بنور اللطيفة الخفية بين أيديهم بتوجههم الخالص إلى الحق، { وبأيمانهم } [الحديد: 12]؛ أي: بأعمالهم الصالحة للحق يسعى ويهديه إلى حضرة الحق، { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } [الحديد: 12]، أيها السالكون بشرناكم يوم كشف الغطاء بجنات قربنا نيتكم المطهرة، وأنهار المعرفة الجارية غير المنقطعة الخالدة تتنعمون بإثمار أعمالكم الصالحة، وتشربون من أنهار معرفتكم الجارية أبد الآباد { ذلك هو الفوز العظيم * يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم } [الحديد: 12-13]؛ يعني: يوم كشف الغطاء تقول القوى المنافقة الفاعلة والقابلة للقوى المؤمنة: أمهلونا نقتبس من ضياء نوركم نور نهتدي به في ظلمات وجودنا.
[57.13-16]
{ قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا } [الحديد: 13]؛ يعني: ارجعوا إلى عالم الكسب واكسبوا النور باستعدادكم، ولا يمكن لكم الرجوع؛ لأنكم أقبلتم على ظلمات الطبيعة وأعرضتم عن نور اللطيفة الخفية، خلفتم النور وراءكم وقدمتم الظلمات أمامكم، { فضرب بينهم بسور له } [الحديد: 13]؛ يعني: بين القوى المؤمنة والمنافقة، يضرب الله بسور قوى القالبية الظلماني له باب من رابطة كانت بين القالب والروح { باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } [الحديد: 13]؛ يعني: باطن قوى القالب المطهرة رحمة للمؤمنين، وظاهر قوى القالب المكدرة عذاب للمنافقين.
{ ينادونهم ألم نكن معكم } [الحديد: 14] في دار الكسب، { قالوا } [الحديد: 14]؛ يعني: القوى المؤمنة { بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } [الحديد: 14] بالشهوات العاجلة واتباع الهوى، وإنكار الحق والإقبال على الباطل، والغفلة عن ذكر المولى، { وتربصتم } [الحديد: 14] بهلاك اللطيفة بالخفية، { وارتبتم } [الحديد: 14]؛ أي: شككتم بالسرائر، { وغرتكم الأماني } [الحديد: 14] والآمال الكاذبة، { حتى جآء أمر الله } [الحديد: 14]؛ يعني: حتى جاء أمر الحق بكشف الغطاء وشاهدتم وتيقنتم، ولا سبيل لكم إلى الرجوع إلى دار الكسب، { وغركم بالله الغرور } [الحديد: 14]؛ يعني : غركم الشيطان بتسويله وتسويفه وخداعه ومكره حتى أوردكم النار.
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } [الحديد: 15]؛ لأن الأمر بيد غيركم، والآلات والأدوات بها يمكن الكسب متنزعة عنكم، وهي كانت عادية عنكم والعادية مردودة لا محالة، وما كسبتم بتلك الآلات لأنفسكم قالوا ما لكم بتضييع الأوقات ونزع الآلات والأدوات، ثم ويل بعد ويل بكسب الشقاوة الأبدية بتلك الاستعدادات، { مأواكم النار } [الحديد: 15] التي أنتم أشعلتموها في دار الكسب، { هي مولاكم } في دار الجزاء، { وبئس المصير } [الحديد: 15]؛ يعني: بئس مرجعكم وبئس مولاكم.
[57.17-20]
{ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } [الحديد: 17]؛ لئلا يقنطوا من رحمته وبترك الاشتغال بمداومة القلب الميت؛ لأن الله يحيي الأرض البشرية بعد موتها بداء الغفلة عن الذكر بمطر ذكر الحق، { قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } [الحديد: 17]؛ كما أريكم في أنفسكم آيات الأحياء { لعلكم تعقلون } [الحديد: 17] أنه هو المحيي، فترجعوا إلى حضرته وتشتغلوا بذكره حتى يحيي بمطر الذكر أرضكم الميتة، ويخرج منها نباتات المعارف لتتمتعوا بها.
{ إن المصدقين والمصدقات } [الحديد: 18]؛ يعني: القوى الفاعلة والقابلة المؤمنة المصدقة اللطيفة الخفية، { وأقرضوا الله قرضا حسنا } [الحديد: 18] من استعداداتهم وتصديقهم على القوى القالبية والنفسية بأوقاتهم الشريفة؛ ليتمتعوا من الذكر اللساني، { يضاعف لهم } [الحديد: 18]؛ يعني: يضاعف الله لهم المعرفة بإنفاقهم وقتهم على القوى القالبية والنفسية المؤمنة المبتدئة في السلوك، وحظ المسلك أن يؤثر أوقاته على مريديه، والقوى القالبية والسرية، والروحية والخفية، أن يختاروا ذكر اللسان على أذكارهم للقوى المبتدئة في السلوك من القوى القالبية والنفسية، وأن يدفعوا بهم ويداووهم ولا يأمرهم بالمجاهدة فوق طاقتهم، { ولهم أجر كريم } [الحديد: 18] من النظر إلى جمال الرب الرءوف الرحيم.
{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهدآء عند ربهم } [الحديد: 19]؛ يعني: من آمن بالله وبلطيفته الخفية أولئك من الصديقين الذين مرتبتهم قريبة من النبيين والشهداء؛ يعني: المقربين إلى الحضرة شهداء الله على جميع الأمم، { لهم أجرهم } [الحديد: 19]؛ يعني: أجر أعمالهم، { ونورهم } [الحديد: 19]؛ يعني: نور ذكرهم، به يعبرون الصراط، { والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ } [الحديد: 19]، يعني من القوى القالبية والنفسية الكافرة بالله المكذبة باللطيفة الخفية والآيات الأنفسية { أولئك أصحاب الجحيم } [الحديد: 19]؛ لأنهم عمروا في دار الكسب جحيم أنفسهم بإشعال نيران الحقد والحسد والكبر والشهوة { اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأمول والأولد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتره مصفرا ثم يكون حطما وفي الآخرة عذاب شديد } [الحديد: 20] لمن اشتغل بمتاع الحياة الدنيا الدنية الفانية التي هي لعب ولهو لا حقيقة لها، وزينة عاجلة وتفاخر بينكم بالجهل، وتكاثر في الاستعدادات أو النتائج الفكرية؛ { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [الحديد: 20]؛ ليربي النبات فترى النبات { مصفرا ثم يكون حطما } [الحديد: 20] يعني: منكسرا وحصول الحطمة من هذا الحكم؛ فلأجل هذا يكون للقوى الكافرة المنافقة { وفي الآخرة عذاب شديد } [الحديد: 20] من جميع الحطام الذي هو حطمته في دار البقاء { ومغفرة من الله ورضون } [الحديد: 20] للقوى المؤمنة في دار البقاء لإعراضها عن الحياة الدنيوية التي هي اللعب واللهو بترك الاشتغال بالشهوات العاجلة على وفق الهوى، ويعلمها أن الدنيا مرحلة لا دار إقامة { وما الحيوة الدنيآ إلا متع الغرور } [الحديد: 20] يعني: حياة الدنيا مدرجة في إناء الماضي والمستقبل مثل: متاع الذي يبقى على حواشي الإناء بعد أكل صاحبه وإضافته إلى الغرور.
إشارة إلى سرعة نفادها لا يتوقف نفس إلا وقد يخرج، فالنفس الذي يخرج ولا يرجع؛ فهو ميت، والنفس الداخل لو لم يخرج؛ فهو ميت فليس له حظ في الحياة إلا القليل الذي يصحب النفس الداخل والخارج
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان
[العنكبوت: 64] لأنه حال مجرد عارض لباس الماضي والمستقبل.
[57.21-24]
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم } [الحديد: 21] أيتها القوى المؤمنة { وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض } [الحديد: 21] وهي جنة طور من أطوار قلبكم { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } [الحديد: 21] يعني: القوى المؤمنة بجميع اللطائف { ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم } [الحديد: 21] فحظ السالك أن يعرف هذه الآية أن الجنة موجودة اليوم، وهي لا في السماء في كتابه بعين اليقين إن شاء الله { مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأهآ } [الحديد: 22] يعني: ينبغي للسالك أن يعلم أن كل شيء يصيبه في الشهادة والغيب في الآفاق والأنفس كان في كتابه المبين في عالم الجبروت من قبل خلق الآفاق والأنفس { إن ذلك على الله يسير } [الحديد: 22] { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم } [الحديد: 23] يعني: لكيلا تأسى على الماضي ولا تفرح بالمستقبل على ما يأتيك، ويكون أين الوقت مراتب النفس صاحب الحال ليكون من أولياء الله
ولا خوف عليهم
[البقرة: 277] من المستقبل
ولا هم يحزنون
[البقرة: 277] على الماضي للتمتع بالحياة الأخروية الطيبة، ويطلع على حقيقة الحياة الدنيوية بأنها
متع الغرور
[الحديد: 20] { والله لا يحب كل مختال فخور } [الحديد: 23] فسبيل السالك ألا يفرح بالبسط ولا يحزن على القبض ولا يكون مختالا متكبرا بالمعارف الوهبية مفتخرا بها متفوقا على الأقران { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } [الحديد: 24] يعني: يأمرون القوى الخفية والسرية والروحية والقلبية ببخل المعارف والأذكار للقوى المبتدئة المؤمنة المسترشدة النفسية والقالبية، والقوى القالبية والنفسية بالبخل بالأعمال الصالحة الظاهرة إن الله غني عن أعمالهم وأذكارهم { ومن يتول } [الحديد: 24] يعني: عن الحق وعن ذكر الحق { فإن الله هو الغني الحميد } [الحديد: 24] يعني: غني عن أعمال الخلق حميد في ذاته من غير أن يحمده أحد.
[57.25-26]
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } [الحديد: 25] يعني: لطائفها بالآيات البينات الأنفسية { وأنزلنا معهم الكتاب } [الحديد: 25] يعني: وارد الذي فيه أمر العبادة { والميزان } [الحديد: 25] يعني: القوة المميزة العاقلة وفيه سر الطهارة { ليقوم الناس بالقسط } [الحديد: 25] لتقوم القوى القالبية والنفسية والقلبية والسرية والروحية والخفية بالعدل، لا يظلم بعضهم بعضا { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [الحديد: 25] لأجل السياسة أنزلنا حديد الذكر اللساني، ولأجل الطهارة أنزلنا الميزان، وهو الذكر السري ولأجل العبادة أنزلنا الكتاب، وهو الذكر الخفي { ومنافع للناس } [الحديد: 25] أي: في ذكر اللسان ينتفعون به في العاجل والآجل بأن يدعوا منه بالبيان البرهاني الميزاني وبالبيان الجدلي الحديدي { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } [الحديد: 25] يعني: أنزلنا هذه الأشياء؛ لنعلم من يؤمن بالغيب وينصر الله اللطائف { إن الله قوي عزيز } [الحديد: 25] يعني: قوي في حكمته متميز في ذاته { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم } [الحديد: 26] يعني: أرسلنا اللطيفة النفسية المزكاة، واللطيفة القلبية المطهرة { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } [الحديد: 26] يعني: في القوى المتولدة من هذه اللطائف جعلنا الحكمة والحكم { فمنهم مهتد } [الحديد: 26] يعني: من القوى النفسية والقلبية { وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 26] بتكذيبهم اللطائف المطهرة المزكاة.
[57.27]
{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا } [الحديد: 27] من اللطائف النفسية والقلبية المطهرة المزكاة عند نسيان القوى المؤمنة ذكر الله وأحكامه، وغفلتهم عن الحق، وإقبالهم على الباطل، واتخاذهم العبادة عادة { وقفينا بعيسى ابن مريم } [الحديد: 27] يعني: اتبعنا اللطائف المرسلة باللطيفة الخفية المؤيدة بروح القدس لمجيء اللطيفة الخفية { وآتيناه الإنجيل } [الحديد: 27] يعني: الوارد القدسي { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها } [الحديد: 27] يعني: جعلنا في القوى التابعة للطيفة الخفية رأفة بقواهم ورحمة على استعدادهم ورهبانية يعني: زهدا في الدنيا وخشية من المولى، وتركا للهوى ابتدعوها من أنفسهم محبة الله مجاهدة أنفسهم ما كتبناها عليهم يعني: هذه الرهبانية { ما كتبناها عليهم } [الحديد: 27] بل هم اختاروها ابتغاء رضوان الله عليهم؛ لعلمهم بأن رضى المولى في تركهم الهوى، وما اختاروها { إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } [الحديد: 27] بعد اختيارها لوجه الله { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } [الحديد: 27] برعايتهم رهبانيتهم التي ابتدعوها؛ ابتغاء لوجه الله { وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 27] بترك رعايتهم ما ابتدعوها من الرهبانية؛ ابتغاء لوجهه، فحفظ السالك من هذه الآيات [واجب] على نفسه، ويرعى حق الرعاية كل شيء أوجب على نفسه في البداية من المجاهدات أو العبادات النافلة، ولا يرخص لنفسه أن يترك شيئا مما باشرته في بداية أمره وعنفوان حاله وشرح إراداته؛ ليكون من المحفوظين.
[57.28-29]
{ يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله } [الحديد: 28] يا أيتها القوى المؤمنة اتقوا الله عن التكاسل في الذكر، ومحافظة الأوقات ومراقبة الأنفاس { وءامنوا برسوله } [الحديد: 28] يعني: آمنوا باللطيفة الخفية بعد أن آمنتم باللطائف المرسلة من قبيل أن { يؤتكم كفلين من رحمته } [الحديد: 28] يعني: نصيبين: نصيبا من معارف الصفات الفعلية، ونصيبا من معارف الصفات الذاتية { ويجعل لكم نورا } [الحديد: 28] من نور ذاته { تمشون به } [الحديد: 28] بين القوى القالبية والنفسية والقلبية والسرية والروحية والخفية والحقية { ويغفر لكم } [الحديد: 28] مما سلف من عصيانكم { والله غفور رحيم } [الحديد: 28] { لئلا يعلم أهل الكتاب } [الحديد: 29] من القوى السرية والخفية المجاهدة اللطيفة الخفية { ألا يقدرون على شيء من فضل الله } [الحديد: 29] وهو النور الذاتية الذي يعطى للمؤمن باللطيفة الخفية بعد إيمانه باللطائف المرسلة { وأن الفضل بيد الله } [الحديد: 29] يعني: الفضل على الأجر المستحق به على عمله بيد لطف الله { يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم } [الحديد: 29] لأنه خلقنا من لا شيء، وهدانا إلى الإيمان وأرسل إلينا اللطائف وعلمنا سلوك سبيل الرشاد، وقوانا على السلوك في طريق السلوك، ثم يؤتينا أجر العمل التي يقومه علمنا وبهدايته علمنا الحق من الباطل، ثم يؤتينا نور ذاته فضلا على الأجور لنمشي بنوره بين الخلق، وليس هذا الأفضل عظيم اللهم لا تحرمنا من فضلك العظيم ولطفك العميم وثبتنا على متابعة حبيبك الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان الثابتين على الصراط المستقيم.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-3]
أيتها القوى القابلة المجادلة مع القوة الفاعلة المماثلة بشكل العلم أن الله يسمع تحاوركما في وجود المحارث على وفق ما يعلم بعلم القدم، والعلم يظهر ما في القدم على القدم من الحكم ولا تحسبي أن ما يقول الله تعالى في كتابه المحكم { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير } [المجادلة: 1] يكون سمعه مثل سمعك، وتجدد له العلم في استماع تحاوركما مما لم يكن به عالم، أو لم يكن لتحاوركما سميعا لئلا تكفري بذات الله وصفاته تعالى وتقدس عما يصفه الكافرون والمشتهون والمعطلون.
واعلم أيها السالك أن القوة الفاعلة الروحانية ربما تسأم من القوة القابلة الجسمانية عند إيصال الذكر إلى وجوده باشتغالها بالوارد الجديد وضبطه، وجعل القوة القابلة كظهر أمها وهي اللوح فتشكو القوة القابلة إلى ربها من القوة الفاعلة المعرضة عنها، فيرحم الله على شدة حرصها على ذوق الذكر، وأوحى اللطيفة الخفية بأني سمعت تحاوركما يعني: مراجعتكما الكلام في مراجعة القوة القابلة، وإني سميع بصير أسمع مناجاة من يناجني، ويتضرع إلي وأبصر أحوال المشتكي والمشتكى عنه، وأقول { الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } [المجادلة: 2] يعني: ليس الظاهرة في حساب؛ لأنه كلام كذب تكلم به الرجل على وفق هواه من غير أن يكون له حقيقة، وليست القوة القابلة الجسمية مثل القوة القابلة الروحية في المرتبة، فكيف يكون حراما على القوى الفاعلة الروحية، والقوى الفاعلة الروحية ليست مثل قوة العلم الفاعل؛ لأنه في قبضته تعالى وتقدس، فالواجب للقوة الفاعلة المراجعة للقوة القابلة والاشتغال بالذكر اللساني؛ ليوصل الحرارة إلى القلب الصنبوري الشكل؛ لأن هذا القلب الصنبوري الشكل مثل الفرج للقوة القابلة، واللسان مثل الذكر للقوة الفاعلة وحرارته وريحه مثل القوة التي تظهر للذكر عند النهوض في العالم الجسماني، فإن في العالم الروحاني يكون صورة الذكر التلقيني مثل الذكر والقلب الحقيقي الذي هو معدن الفقه مثل الفرج، وهلم جرا إلى أن يصل إلى اللوح والقلم ومعرفة مماثلة اللسان والذكر والقلم والألف وآدم من حد القرآن مما لايؤذن إفشاؤه.
فاعلم أن المظاهر ليست بشيء والمراجعة واجبة للقوة الفعلية؛ لأن الله تعالى يقول: { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } [المجادلة: 2] يعني: منكرا لإيمان القابل في مقام النكرة اضطر إلى هذا القول المنكر لا في مقام المعرفة؛ لأن المعرفة تمنعه عن ترك الذكر اللساني ولو كان واصلا كاملا؛ لأن القوة ما دامت المرابطة واصلة بين الروح والبدن الاشتغال بالعبادة البدنية واجب، وتركها لصار متروكا نعوذ بالله منه وزورا؛ لأن القوة القابلة تحت القلم وبعبارة أخرى يسمونه العقل { وإن الله لعفو غفور } [المجادلة: 2] يعني: يعفو ويغفر ذنب الجاهل تحقيقه فعله إثر الذنب ويتوب بعد علمه بأن تلك الفعلة كانت ذنبا، ويكفر عن قوله كما أوجب عليه الحق كفارة لذلك القول الزور عقوبة لقائله؛ لئلا يكلم بتلك الكلمة بعد.
ثم يقول تعالى: { والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا } [المجادلة: 3] فالواجب على السالك أن يرجع إلى الذكر اللساني ولا يلتفت إلى ما قال وقت اشتغاله بالوارد القدسي، وعليه أن يعتق رقبة مما أسر من القوى النفسية وأسلمت على يده.
والإشارة إلى تحرير الرقبة هي أن تركه الذكر اللساني كان من أثر تلك القوة النفسية المسلمة على يد القوة الفاعلة الروحية، ولا يعرف هذه الإشارة إلا سالك واصل إلى حقائق القوى النفسية بالذكر اللساني، وإن لم يستطع السالك تحرير الرقبة.
[58.4-6]
{ فإطعام ستين مسكينا } [المجادلة: 4] يعني: إطعام الخواطر دخلت عليه من السكينة بطعام الذكر القالبي والنفسي والقلبي والسري والروحي والخفي عشرا عشرا عدد السنين، والمراد من العشر في كل مقام أن الحواس الظاهرة والباطنة ينبغي أن تكون حاضرة وقت الذكر، فإن كانت [متغافلة] لا يحاسب به، ولا يقبل منه ولا يخرج من عهده الكفارة { ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير } [المجادلة: 3] يعني: هذا الحكم أوجب عليكم ليكون لكم موعظة وعبرة وتذكرة؛ لئلا ترجعوا إلى قول الزور والمنكر الذي يلوث مجاري الذكر ويظهر فيه الضعف حتى يترك الذكر اللسان، وهذا الضعف من شؤم ما يجري على لسان السالك من الفحش، ومما لا يعنيه في دينه ودنياه { فمن لم يجد } [المجادلة: 4] الرقبة والطعام لفاقته { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا } [المجادلة: 4] وهو السكوت عن غير الذكر القالبي والنفسي والقلبي والسري والروحي والخفي في شهرين الجسماني والروحاني من غير فترة ليظهر بذلك مجاري الذكر الكريم { فمن لم يستطع } [المجادلة: 4] الصوم والإطعام لمساكين خواطر السكينة بأذكار اللطائف الستة مع حضور الحواس العشرة الظاهرة والباطنة وتحرير الرقبة { فإطعام ستين مسكينا } [المجادلة: 4] من مساكين حرم [الصدر] وهم أهل الصفة من نزاع القبائل اجتمعوا للذكر من قبائل قوى العناصر الأربعة والصورة والمادة الجامعة في مسجد [قبالة] الدماغ، فيجب على السالك أن يطعمهم من طعام الذكر اللساني حتى يشبعوا { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } [المجادلة: 4] يعني: ذلك الحكم حكمنا به ليصدقوا أمر الحق، واللطيفة الخفية { وتلك حدود الله } [المجادلة: 4] يعني: تحرير الرقبة وإطعام المساكين والقوم ولا تحسب أيها السالك أن تكرار لفظ إطعام المساكين في عالم الأنفس بلا معنى؛ لأن الله لا يكرر لفظا إلا وله في تكراره حكمة خاصة، وأشرنا إلى بعض تلك الحكمة من قبل فاجتهد أن تفهمها { وللكافرين عذاب أليم } [المجادلة: 4] يعني: من يكفر بحدودنا ولم يصدق نبينا، ولم يؤمن بواردنا من القوى القالبية والنفسية المعاندة الكافرة يعذب بها عذابا أليما وقت كشف الغطاء بأن يطلع على حكمتنا المودعة في تلك الأحكام المنتجة للمؤتمر بها تعم المعارف وتجعلها سبب إنزاع الآلات والأدوات عنها بالائتمار بها عذاب خسرة الفوت، وهو أشد العذاب { إن الذين يحآدون الله ورسوله } [المجادلة: 5] يعني: الكافرة والمشركة القالبية والنفسية يحادون الله واللطيفة المرسلة الخفية، ويخالفون أمر الوارد ويتعدون حدود الله { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } [المجادلة: 5] يعني: أذلوا وأهلكوا وكبوا على وجوههم لاستكبارهم وإبائهم الحق، كما أذل وأهلك من القوى المستكبرة على اللطائف المرسلة { وقد أنزلنآ آيات بينات } [المجادلة: 5] أنفسية على السالك، فإذا لم يؤمن بها، ويكفر بنعمة الآيات النعمة الأنفسية
وله عذاب مهين
[النساء: 14].
كما يقول تعالى: { وللكافرين عذاب مهين } [المجادلة: 5] والعذاب المهين: هو أن يكون السالك في أعين أهل الحق مهينا ذليلا [كثيف] على قلوبهم ثقيلا وللقوى الكافرة أن تكون مدركة بعد اطلاعها على إهانتها على تضييع أوقات كسبها لعزة الدائمة لنفسها { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه } [المجادلة: 6] يوم يكشف الغطاء ويبعثهم من قبور القوالب المظلمة؛ فيجزيهم الله بأعمالهم التي أحصاها وحفظها حين نسيها عاملوها { والله على كل شيء شهيد } [المجادلة: 6] يعني: عليم مطلع على جميع ما يصدر منهم حاضر معهم، ولكنهم لكثافة حجبهم وظلام وجودهم كانوا غافلين عنه، جاهلين بحضوره وسر معانيه، كافرين بأحكامه.
[58.7-8]
{ ألم تر أن الله يعلم ما في السموت وما في الأرض } [المجادلة: 7] يعني: يعلم ما في قوى الروحانية والجسمانية والاستعدادات العلوية والسفلية التي هي ودائعه، وهو بيده خمرها في طينة، ونفخ فيها من روحه { ما يكون من نجوى ثلاثة } [المجادلة: 7] أي: نجوى قوة معدنية ونباتية وحيوانية وسفلية أرضية، ومن نجوى قوة جنية وملكية وعقلية علوية سماوية { إلا هو رابعهم } [المجادلة: 7] يعني: بالنقطة الحكمية المتفننة يتم أمر نجوى النقطات الثلاث العلمية والإرادية والقدرية { ولا خمسة إلا هو سادسهم } [المجادلة: 7] يعني: ولا نجوى حواسهم الخمسة إلا هو سادسهم بالإظهار، وهذا سر عظيم أشير إليه إن كنت حديد السمع شهيد القلب تفطن له إن شاء الله تعالى.
اعلم أن الله خلق الحواس الخمسة؛ لأن تكون آلات الإدراك ونفس الإدراك يتعلق به فكيف يمكن المستعملة حركة من غير شعور المستعمل لها بها، والمبالغة في الكشف في هذا المقام يقرع باب مطلع القرآن فسددناه { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا } [المجادلة: 7] هذه إشارة إلى: نظرة وجودية إلى الأشياء إن كانت الوسائط أكثر والروابط أدنى من الثلاثة والخمسة هو معهم أينما كانوا، وسر هذا لا يعرف إلا بعد معرفة الذات الواحد، ثم معرفة الواحدة في الكثرة مقدسة عن الحلول والاتحاد والأثقال من حيث الصورة والانفعال من حيث الحقيقة منزهة عن أن يكون لها مثل وشريك بل أقول: ولا أخاف من جحود الأوداء وإنكار الأخلاء، قول الحق هو: الحق وما تدعون من دونه هو: الباطل، والباطل معدوم، والمعدوم ليس شيء، وحق ما قال جنيد البغدادي - قدس الله سره - ليس في الوجود إلا الله، وهو الوجود المحض تعالى الله عما يصفه الظالمون علوا كبيرا { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } [المجادلة: 7] يعني: يوم يكشف الغطاء عنهم الغطاء القالبي يجرهم، ولكنهم موتى في قبور قوالبهم لا يسمعون، كما يقول اللطيفة الخفية: و
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]
ومآ أنت بمسمع من في القبور
[فاطر: 22] دعهم حتى أجزهم يوم النشور يعلمون في ذلك اليوم { إن الله بكل شيء عليم } [المجادلة: 7] ويستحيون من أعمالهم من اطلاعنا على أحوالهم حتى يعرفوا في عرف خجالتهم، ولا ينفعهم الخجالة بعد كشف الحجاب، وانتزاع الآلات، والأدوات وسد باب التوبة، والإنابة إلى رب الأرباب { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } [المجادلة: 8] النجوى يعني: ألم تر إلى القوة السرية الجاحدة، والقوة النفسية المنافقة الذين يتناجون، ويستهزئون بالقوى المؤمنة ويتغامزون بأعينهم، فأمرناهم بترك النجوى بما تركوا { ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم } [المجادلة: 8] أي: بالكفر الوارد { والعدوان } [المجادلة: 8] أي: معاداة القوى المؤمنة { ومعصيت الرسول } [المجادلة: 8] أي: معصية أمر اللطيفة الخفية { وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله } [المجادلة: 8] يعني: القوى السرية الجاحدة والنفسية المنافقة يسلمون عليك من حيث باطنهم وإضمارهم إن رعاهم لك نصرك { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } [المجادلة: 8] يعني: يمنحونك بهذا الدعاء عليك لو كنت مرسلا من عند ربك للحقهم العذاب، ولا يعلمون أن الله يمهلهم؛ ليزدادوا في جميع حطب الخواطر الردية وإشعال نيران الحسد والحقد والبغض والكبر؛ ليعذبهم عذابا شديدا { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } [المجادلة: 8] يعني: حسبهم جهنم قالبهم.
[58.9-11]
{ يأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول } [المجادلة: 9] يعني: أيتها القوة المؤمنة إذا تناجيتم لا تتناجوا بالشك في الواردات ومعاداة بعضكم بعضا ومعصية أمر اللطيفة الخفية وحظ السالك من هذه الآية ألا يتناجى في مجلس شيخه، لا في الظاهر ولا في الباطن بالشك في المعرفة التي ترد على الشيخ أهي مثل ما ترد علينا من سبيل الفكر والنتائج العقلية؟ ولا في معاداة الأصحاب حسدا عليهم، وعلى أحوالهم، وعلى قلوبهم ومكانتهم عند الشيخ، ولا في العصيان ما يأمره الشيخ به وحظ القوى المؤمنة ألا تأذن للنفس أن يناجي الشيطان في الخلوة، ولا وارد النفس أن يدخل عليها الشيطان، ويلقي في روعها من الشك في الذات والصفات، وفي أنها صارت واصلا غير محتاجة إلى أمر اللطيفة في الترقي بنفي الخواطر بالذكر والقوى الخفي، ولاشتغل السالك في خلوته بتميز الخواطر بل يشتغل بنفي جميع الخواطر شرا كان أو خيرا { وتناجوا بالبر والتقوى } [المجادلة: 9] يعني: يجوز للقوى المؤمنة أن تناجي القوة القلبية والسرية والروحية والخفية بالبر، وهو ترك محبة الدنيا والتقوى، وهو الاجتناب عن الهوى { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } [المجادلة: 9] يعني: اتقوا من الذي يحشر إليه أعمالكم الظاهرة والباطنة ولا تضمروا خلاف ما تظهرونه { إنما النجوى من الشيطان } [المجادلة: 10] يعني: من تزيين الشيطان في قلوبكم { ليحزن الذين آمنوا } [المجادلة: 10] يعني: ليحزن القوى المؤمنة { وليس بضآرهم شيئا } [المجادلة: 10] يعني: لا يضر القوى المؤمنة بنجواكم { إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [المجادلة: 10] لأن القوى المؤمنة آمنوا بأن الضار والنافع هو الله توكلوا عليه، وتيقنوا بأن لا مانع ولا معطي إلا هو، لا يلتفتون إلى نجوى الشياطين، والنفس المنافقة، والقوى السرية الجاحدة { يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا } [المجادلة: 11] يعني: أيتها القوة المؤمنة؛ إذ قيل لكم بالخاطر الإلهامي: أن أفسحوا في خلوتكم على قواكم بترك المجاهدة الشاقة فافسحوا، يفسح الله لكم بالمشاهدات والمكاشفات الوهبية، وإذا قيل لكم: انهضوا من مقامكم بدخولكم على أحوالكم للترقي من مقام، فانهضوا ولا تعسروا بما وجدتم في ذلك المقام؛ لأن في ذلك المقام لا في مقام أعلى منه تجدون معارف أفضل مما وجدتم في مقامكم هذا { يرفع الله الذين آمنوا منكم } [المجادلة: 11] يعني: يرفع الله ذكر القوة المؤمنة القائمة بأمر اللطيفة الخفية عن مقام السر، ودخولها في حظ الأحوال التي تتعلق بالروح الخفي { والذين أوتوا العلم درجات } [المجادلة: 11] يعني: لمن وصل إلى عالم الحق وشرف العلم اللدني درجات غير متناهية { والله بما تعملون خبير } [المجادلة: 11] من القيام عن حظوظكم وترك شهواتكم، واختياركم أمر اللطيفة الخفية، وحظ هذا السالك من هذه الآية أن يترك جميع معارفه بأمر مسلكه، وينفي الكرامات العيانية والبيانية باشتغاله بذكر حقه، ولا يطلب من الحق شيئا غيره.
[58.12-14]
{ يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } [المجادلة: 12] يعني: أيتها القوى المؤمنة إذا أردتم أن تذكروا الذكر الخفي وتناجوا اللطيفة الخفية، فقدموا الذكر القلبي والسري والروحي والخفي تصدقا عن الأيتام والمساكين والفقراء { ذلك } [المجادلة: 12] يعني: هذه الأذكار التي تتصدق بها عن القوى القلبية والسرية والروحية والخفية { خير لكم وأطهر } [المجادلة: 12] لقلوبكم ولمجاري ذكركم ليذكروا الذكر الخفي وتناجوا اللطيفة الخفية بطهارة تامة قلبية ولسانية: { فإن لم تجدوا } [المجادلة: 12] الفرصة والاستطاعة لنزول سلطان الذكر الخفي ودنو اللطيفة الخفية { فإن الله غفور رحيم } [المجادلة: 12] يعني: يغفر لكم ترك التصدق بالذكر؛ لضيق الوقت، ويرحم على عجزكم { ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } [المجادلة: 13] يعني: خفتم من الفقر بالتصدق على القوى القلبية والسرية والروحية والخفية؛ لترككم الاكتساب بالأعمال الظاهرة { فإذ لم تفعلوا } [المجادلة: 13] ما أمرتم به لخوفكم على ترك أعمالكم الظاهرة، فأنتم معفوون؛ لأنه تعالى { وتاب الله عليكم } [المجادلة: 13]؛ لقلة عملكم بالتصدق، وبأن الاشتغال بالذكر القلبي والسري والروحي والخفي أفضل من اشتغالكم بالأعمال الظاهرة { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله } [المجادلة: 13] يعني: اشتغلوا بالطاعات الظاهرة وأطيعوا أمر الله الحق واللطيفة في مراعاة أحوالكم وأعمالكم في الظاهر والباطن إن لم تكونوا من أولي العلم اللدني ومن أصحاب الذكر القلبي والسري والروحي والخفي، وهذه آية مبشرة للضعفة والعجزة من القوى المؤمنة النفسية إذا آمنت باللطيفة، وما قدرت على التجاوز عن مقاماتهم، وأذكارهم القالبية والنفسية إن الله يرحمهم، ويتوب عليهم، ويدخلهم في زمرتهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" المرء مع من أحب "
بشرطين: لا تكون منكرا للواصلين أهل القوة والعزيمة لقصورهم عن مرتبتهم حسدا وجهلا؛ بل يتواضعون لهم ويتقربون إليهم ويذرون همهم لئلا يحرمهم الله عما رزقهم، ولا يحرم إن شاء الله الصادقين من المستضعفين { والله خبير بما تعملون } [المجادلة: 13] يعني: مطلع على الاستعدادات المودعة فيكم، وعلى قواكم المعطية لكم مما بها تطيقون العمل { ألم تر إلى الذين تولوا قوما } [المجادلة: 14] يعني: تولت القوى النفسية المنافقة عن اللطيفة الخفية، وعصوا أمرها بأن اتخذت القوى السرية الجاحدة أولياء { غضب الله عليهم } [المجادلة: 14] يعني: اتفاقهم وإظهارهم خلاف ما في ضمائرهم { ما هم منكم } [المجادلة: 14] لأنهم تولوا عن اللطيفة وأتوا أمره في الظاهر والباطن { ولا منهم } [المجادلة: 14] يعني: لا من القوى الكافرة القالبية أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ لزيادة شعور حصل لهم من نفاقهم في مقام التلوين { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } [المجادلة: 14] أنهم يكذبون في حلفهم.
[58.15-19]
{ أعد الله لهم عذابا شديدا } [المجادلة: 15] لشتمهم اللطيفة الخفية بأنها جاءت، وشوشت معارفنا، وسدت علينا باب مشاهدة هذه الأنوار الملوثة { إنهم سآء ما كانوا يعملون } [المجادلة: 15] يعني: الشتم أولا ثم أطلع الله اللطيفة الخفية على ضمائرهم وأخبرتهم حلفهم بالكذب وتورية الحال على اللطيفة، وجهلهم بالوارد المخبر للطيفة الخفية { اتخذوا أيمانهم جنة } [المجادلة: 16] يعني: إيمانهم الكاذب شرا لأنفسهم لئلا ينقطع اللطيفة الخفية حقوقهم من الذكر السري { فصدوا عن سبيل الله } [المجادلة: 16] بالإعراض عن أمر اللطيفة الخفية والإقبال على الهوى { فلهم عذاب مهين } [المجادلة: 16] وقت كشف الغطاء أجلا وهوائهم على قلوب المشايخ عاجلا نعوذ بالله { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } [المجادلة: 17] يعني: لن تغني عنهم يوم كشف الغطاء عن قهر الله استعداداتهم العارية ولا نتائج أفكارهم الردية { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [المجادلة: 17] لأنهم ما كسبوا في دار الكسب بالاستعدادات العارية الآثار الحسد والحقد والبغض والغضب والكبر واللطيفة الباقية المكدرة القالبية.
{ يوم يبعثهم الله جميعا } [المجادلة: 18] بعد كشف الغطاء لرسوخ نقش يمين الكذب { فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء } [المجادلة: 18] يعني: يحلفون لله وقت كشف الغطاء، كما يحلفون للمؤمنين بظنهم أنهم نجوا كما كانوا نجوا منكم في الدنيا، وتعطى لهم الحقوق كما يعطيهم اللطيفة الخفية قبل كشف الغطاء { ألا إنهم هم الكاذبون } [المجادلة: 18] رسخ الكذب والاعوجاج في صور لطيفتهم الباقية الخالدة المكدرة المظلمة المعوجة { استحوذ عليهم الشيطان } [المجادلة: 19] يعني: غلب واستولى لاتباع محاربه في وجود لطيفتهم المدركة الباقية { فأنساهم ذكر الله } [المجادلة: 19] لغلبة ذكر الدنيا عليهم وكثر محبة متاعها في عروقهم مثل: سريان الماء في عروق الأشجار { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [المجادلة: 19] اعتبروا أيها السالكون بهذه الآية، ولا تفضلوا عن ذكر الله، ولو لم يقدروا على السلوك كما هو حقه، لئلا تكونوا من حزب الشيطان؛ لأن حزب الشيطان هم الغافلون عن ذكر الرحمن ولهم الخسران ، وأي خسران خسارة رأس مالهم بلا ربح وخسارة كسب العذاب الملكي الباقي برأس مالهم العاري الفاني.
[58.20-22]
{ إن الذين يحآدون الله ورسوله } [المجادلة: 20] يعني: يخالفون أمر الحق واللطيفة الخفية في هذه الأحكام التي ذكرناها { أولئك في الأذلين } [المجادلة: 20] ذل الدنيا بمذلتهم عند العارفين، وذل العقبى بإدراكهم مذلتهم، وعدم الاستعداد للتدارك لها { كتب الله } [المجادلة: 21] أي: أوجب الله بكتابته بالقلم الخفي على لوح العقل { لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21] على أمري وعلى تعذيب من يخالف اللطيفة الخفية { إن الله قوي عزيز } [المجادلة: 21] يعني: قوي على حجته غالب على أمره؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة.
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } [المجادلة: 22] يعني: القوى المؤمنة بالله وباللطيفة الخفية، وبيوم يكشف فيه الغطاء ينبغي ألا يلتفتوا إلى القوى العلوية التي هي بمنزلة آبائهم ولا إلى المعارف التي كانت نتائج أفكارهم وعقولهم التي هي بمنزلة أبنائهم ولا إلى القوى القلبية المكدرة بالهوى التي هي بمنزلة إخوانهم، ولا إلى القوى العنصرية التي هي بمنزلة عشائرهم التفات المودة والمحبة { أولئك } [المجادلة: 22] يعني: القوى المؤمنة التي لا يلتفتون إليهم يعني: المودة { كتب في قلوبهم الإيمان } [المجادلة: 22] أي: أثبت بحيث رسخ الإيمان في قلوبهم وبما يشاهد السالك في بداية تصفية القلب في الواقعة أن لوح قلبه مسود من نقوش مختلفة ثم تشاهده أنه قد محي، وظهر عن التقوى ثم تشاهده أنه منقوش من كلمة الله الله من الأول إلى الآخر، ثم تشاهده أنه مقل عن النقوش، وبقي فيه الله وحده، ثم تشاهده بأن هذا الاسم مكتوب بمداد النور الأحمر، ثم بالنور الأبيض، ثم بالنور الأخضر، ثم تشاهده لوحا نورانيا لا لون له، ولا نقش عليه، وعند هذا يظهر عليه نقوش العلم اللدني { وأيدهم بروح منه } [المجادلة: 22] يعني: أيد كتابته بمداد الروح القدسي ليظهر فيه العلم الذاتي بحيث لا يبقى وجود اللوح والقلم والكتابة والمداد والنقش وهذا كشف العلم مقام لمجهول مما أشار إليه المشايخ في مقاماتهم { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } [المجادلة: 22] يعني: بعد رجوعهم عن غلبة تلك الحال يدخلهم في المساكن الطيبة المعدنية المطهرة وجنات القوى النباتية المزكاة المرباة بماء الإيمان بحيث تجري من تحتهم أنهار المعارف التصيلية بحكم التصرف لهم على تلك المعارف خالدا مخلدا { رضي الله عنهم } [المجادلة: 22] باشتغالهم بالذكر بعد إيمانهم باللطيفة الخفية { ورضوا عنه } [المجادلة: 22] بإنجاز الوعد، وهو وعد لقاء الحق { أولئك حزب الله } [المجادلة: 22] يعني: القوة المؤمنة الذاكرة الراضية بقضاء الله وقدره أولئك حزب الله { ألا إن حزب الله هم المفلحون } [المجادلة: 22] من الحجاب الرافع بينهم وبين ربهم، اللهم اجعلنا من حزبك الراضي بقضائك وقدرك المفلح بحبيبك بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-3]
أيها المسبح المفلح المجمح: اسبح في بحر التسبيح؛ كالحوت تسمع تسبيح أهل السماوات والأرض للحي الذي لا يموت، ومتى مادمت تتعلق بكل حشيش وتخاف من الفرق، وتدور حول السواحل فما أنت من المسبحين، فإذا دخلت البحر وصرت بحريا تأمن من الفرق وتستريح من الحرق، فافهم ما يقول الله تعالى في سورة الحشر { سبح لله ما في السموت } [الحشر: 1] أي: في سماوات دماغك { وما في الأرض } [الحشر: 1] بعزته أي: في أرض بدنك من القوى المخزونة في الدماغ، ومن القوى المدفونة في البدن { وهو العزيز الحكيم } [الحشر: 1] بعزته حذف القوة الحافظة والذاكرة والمتفكرة والمتخلية وأخواتها في سماوات الدماغ لئلا يصل إليها أبخرة المعدة وقاذوراتها وبحكمه أودع القوى الجارية والعارية والهاضمة والدافعة، وأخواتها من أرض البدن لبريتها ويدفع منها ما يضرها ويجذب إليها ما ينفعها؛ ليصل كل جزء إلى كلها، ويلحق كل فرع بأصلها في السفل والترقي وكشف هذا السر من حد القرآن { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } [الحشر: 2] يعني: هو الحق الذي سبحه أهل السماوات والأرض بالحق وأخرج القوة الكافرة من أهل الكتاب السري من ديارهم القالبية لأول حشر في وادي المقدس الخفي حشر الخواطر الخفية { ما ظننتم أن يخرجوا } [الحشر: 2] من حصون إيمانهم الذين تحصنوا بها وقت ظهور اللطيفة السرية { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } [الحشر: 2] يعني: أن حصون إيمانهم باللطيفة السرية يمنعهم من جند خواطر اللطيفة الخفية، وإن لم يؤمنوا باللطيفة الخفية، ولم يخرجوا من حصون إيمانهم التقليدي الذي صار لهم عادة، وورثوا عن آبائهم تقليدا لا تحقيقا عادة لا عبادة { فأتاهم الله من حيث } [الحشر: 2] يعني: أتى حزب الله، وهو الخواطر الخفية من حيث { لم يحتسبوا } [الحشر: 2] يعني: من حقوقهم التي كانت مدفونة مستكنة فيهم وقت التخمير { وقذف في قلوبهم الرعب } [الحشر: 2] بقتل خواطر الهوى وهو سيد خواطرهم { يخربون بيوتهم بأيديهم } [الحشر: 2] يعني: أي يخربون القوى الكافرة الجاحدة باستعدادهم الحاصل من إيمانهم باللطيفة السرية حيث أبدانهم بالمجاهدة { وأيدي المؤمنين } [المؤمنين: 2] أي: باستعداد الخواطر الخفية، وهذه حالة نظر أعلى السالك عند اشتغاله بالمنكر الخفي واشتغال القوى الثابتة للطيفة السرية بالذكر السري؛ ليصد السالك عن الذكر الخفي، فلا يلتفت السالك إلى ذكركم، ويشتغل بذكره، فهم بالذكر السري يخربون بيوت البدن، والسالك يخرب بيت البدن بمعول الذكر الخفي؛ لينقض جدار البيت المظلم، وينور بنور الشمس الطالعة الحقيقية { فاعتبروا يأولي الأبصار } [الحشر: 2] حكمة الملك الغفار، وعزة الواحد القهار، كيف هدى اللطيفة الخفية وقواها على الثبات على ذكرها بحكمته وكيف قذف الرعب والخوف في قلوب القوى الثابتة اللطيفة السرية الجاحدة اللطيفة الخفية من حقوقهم التي كانت مستكنة فيهم بعزته { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } [الحشر: 3] يعني: الخروج من حصونهم بما قذف في قلوبهم { لعذبهم في الدنيا } [الحشر: 3] بالعذاب العاجل، وهو سد المعرفة السرية والأنوار النفسية { ولهم في الآخرة عذاب النار } [الحشر: 3] التي أوقدتها القوى الجاحدة من نيران الحسد والبغض في قوالبها.
[59.4-6]
{ ذلك } الحشر: 4] العذاب { بأنهم شآقوا الله ورسوله } ، يعني: خالفوا أمر الحق وأمر الوارد الذي ورد على اللطيفة الخفية { ومن يشآق الله } [الحشر: 4] أي: يخالف أمر الله { فإن الله شديد العقاب } [الحشر: 4] ومن شدة عقابه تخريب بيوتهم بأيديهم { ما قطعتم من لينة } [الحشر: 5] يعني: ما قطعتم من محلة وجودهم التي وصلت إلى أفق مرتبة النباتية { أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } [الحشر: 5] بإخراجهم عن أوطانهم، وتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وقطع محلاتهم التي وصلت إلى حد الأفقية { ومآ أفآء الله على رسوله منهم } [الحشر: 6] أي: على اللطيفة الخفية في هذا الجهاد من استعدادات القوى السرية { فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } [الحشر: 6] يعني: أيتها القوى المؤمنة المتابعة للطيفة الخفية ما أوجفتم على القوى السرية خيل هممكم، ولا ركاب أشواقكم { ولكن الله يسلط رسله على من يشآء } [الحشر: 6] من القوى { والله على كل شيء قدير } [الحشر: 6] فجعلنا استعدادات القوى السرية خاصة للطيفة الخفية؛ ليتصرف فيها كيف يشاء، وما لكم فيها حصة وحق.
[59.7-9]
{ مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى } [الحشر: 7] يعني: ما أعطى الله من الفيء في هذا الجهاد من أهل القرى وغنائم معارفهم السرية للطيفة الخفية { فلله } [الحشر: 7] يعني: أسرار منها خاصة لله لا نصيب لأحد فيها { وللرسول } [الحشر: 7] أي: للطيفة الخفية من غنائم معارف الصفات الذاتية { ولذي القربى } [الحشر: 7] يعني: للقوى اللطيفة الخفية مما كانت مستكنة في الوجود وقت التخمير من غنائم معارف الصفات الفعلية { واليتامى } [الحشر: 7] يعني: للقوى القلبية من معارف الآثار وهي الآيات البينات الأنفسية { والمساكين } [الحشر: 7] يعني: لخواطر السكينة من لطائف الذكر السري { وابن السبيل } [الحشر: 7] يعني: للخواطر الواردة من الروح الخفي من شراب المحبة، وطعام الذكر، وثمرات المعارف القالبية والنفسية والعنصرية والمعدنية والنباتية { كي لا يكون دولة بين الأغنيآء منكم } [الحشر: 7] يعني: لا يكون عليه لأغنيائكم العارفين على الفقراء والضعفاء والسالكين المبتدئين { ومآ آتاكم الرسول فخذوه } [الحشر: 7] من المعارف والاستعدادات الحاصلة في الجهاد { وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر: 7] يعني: انتهوا من الغلول والسرقة ولا تسرقوا الأسرار بغير إذن المسلك { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } [الحشر: 7] فحظ السالك من هذه الآيات ألا يشتغل بالمعارف الحاصلة له في الجهاد إلا بإذن مسلكه ولو أمره المسلك بنفي تلك المعارف يجب عليها تركها، وهذه مجاهدة من أشد المجاهدات جربناها كثيرا، ولو لم ينفها السالك وأخفى في نفسه معناها سرقة ينسد عليه الباب ويعاقبه بأشد العقاب وهو أن يسقط من عين الشيخ نعوذ بالله منه؛ لأن اللحم إذا فسد صلح بالملح، فكيف فسد.
{ للفقرآء المهاجرين } [الحشر: 8] يعني: للحقوق التي كانت مستكنة في القوى القالبية والنفسية وقت التخمير، فإن انبعثت اللطيفة الخفية وهاجرت أوطان أبدانها، وخرجت من ديار هواها وأموال استعداداتها القالبية والنفسية والشهوية اتبعت بها فضل الله ورضوانه، ونصرة الله واللطيفة الخفية، وهي الصادقة كما يقول الله تعالى: { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } [الحشر: 8] { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } [الحشر: 9] يعني: القوة الناصرة السرية المؤمنة للطيفة الخفية في مدينة السر توطنت القوة المهاجرة الحقوقية، وآمنت باللطيفة الخفية قبل دخولها في مدينة السر بنور الحق { يحبون من هاجر إليهم } [الحشر: 9] من القوى الحقوقية المستكنة في القالب وقت التخمير { ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا } [الحشر: 9] يعني: القوى الناصرة السرية يحبون المهاجرين ويوطنونهم في مدينتهم من غير حرارة وتبطؤ ولا طلب مكافأة ولا مجازاة { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [الحشر: 9] يعني: يختارون الحقوق المهاجرة على أنفسهم بطعام الذكر السري وشرابه وثمرات المعارف الآثارية والفعلية، ولو كانوا محتاجين إليها مفترقين إلى طعام الذكر السري وشرابه { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [الحشر: 9] يعني: يتصدق ويؤثر على إخوانه وأصحابه من القوى الحقوقية، وهو محتاج إليها ويمنع له شيخ نفسه أن يتصدق، وهو على خلاف هوى نفسه يتصدق، فهو المفلح لتزكيته عن رذيلة صفة البخل والشح.
[59.10-12]
{ والذين جآءوا من بعدهم } [الحشر: 10] من القوى المؤمنة النفسية والقالبية، وإن لم يدركهم في المرتبة والمنزلة، ولكن { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنآ إنك رءوف رحيم } [الحشر: 10] هم أيضا يكونون من المفلحين لدعائهم لإخوانهم السابقين ومسألتهم من الله ألا يجعل في قلوبهم غلا وحسدا على ما آتاهم الله بفضله وسعة رحمته، فحظ العامة من الأمة المحمدية ألا يظنوا من أصحاب الرسول رضي الله عنهم، ويدعوا لهم بالخير؛ فيرفعوا قدرهم على أنفسهم ولا يفتروا بكثرة مجاهداتهم التي يشتغلون بها؛ لأن السابقين جاهدوا مجاهدة، لو أنا جاهدنا بأموالنا وأنفسنا وقاتلنا في معركة العدو أشد مقاتلة حتى قتلنا لا نصل بأدنى مجاهدة السابقين، وينبغي أن يفضلوهم على أنفسهم، وحظ السالك من هذه الآية أن يتواضع لأصحاب شيخه المتقدمين عليه، ويفضلهم على نفسه، ويدعو لهم بالخير، وحظ القوى النفسية والغالبية المؤمنة أن يؤثروا خواطر السرية وحظوظ القوى الحقوقية على أنفسهم، ويزكون الأعمال البدنية والذكر اللساني إذا أراد القوى الحقوقية والسرية أن يتنعموا بالوارد والذكر السري والقلبي أو الروحي أو الخفي، ويصبروا على ترك حظه من الأعمال البدنية، والأذكار اللسانية؛ لأن الله يرأف ويرحم بهم ويوصلهم إلى مرتبة لا يمكن الوصول إليها بالأعمال البدنية، والأذكار اللسانية بجذبته { ألم تر إلى الذين نافقوا } [الحشر: 11] من القوى النفسية { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } [الحشر: 11] أي: من القوى السرية الجاحدة { لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون } [الحشر: 11] لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وإذا قذف الله الرعب من الحقوق التي كانت مستكنة في طينتهم؛ ليخرجوا بيوتهم بأيديهم صاروا متملقين { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } [الحشر: 12] لإدبارهم واشتغالهم بشهواتهم وضعف نياتهم خلاف أهل الكتاب؛ لأنهم كسبوا قوة من إيمانهم باللطيفة السرية من قبل إرسال اللطيفة الخفية.
[59.13-17]
{ لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } [الحشر: 13] يعني: أيتها القوة المؤمنة هم يرهبون منكم أشد رهبة من الله لجهلهم بالله وقصور نظرهم عن الحق { ذلك } [الحشر: 13] بنظرهم إلى الباطن { بأنهم قوم لا يفقهون } [الحشر: 13] أي: ليس لهم قلب يعرف صفات الله من بطشه وقهره { لا يقاتلونكم } [الحشر: 14] القوى السرية الجاحدة { جميعا إلا في قرى محصنة } [الحشر: 14] يعني: لا يبرزون ليحاربوكم مواجهة؛ بل يدخلون في حصون إيمانهم الحاصلة باللطيفة السرية ولا تمنعهم من جنود اللطيفة الخفية؛ لأن هذه الجنود تجيء من أعلاها والحصن تمنع من يكون أسفلها مثل جند الشيطان والهوى { أو من ورآء جدر } [الحشر: 14] يعني: وراء الخواطر السرية { بأسهم بينهم شديد } [الحشر: 14] يعني: ما داموا في حصونهم يكون بأسهم شديدا، ولكن ليس الحصول بما نعتهم عن جنود الخواطر الخفية { تحسبهم جميعا } [الحشر: 14] في حصن واحد في الصورة { وقلوبهم شتى } [الحشر: 14] لأنهم متفرقون في طلب شهواتهم لا يتحصنوا بهذا الحصن من تحقيق ولأجل الله، بل لعادتهم ولاستيفاء حظوظهم من القوى السرية الضعيفة الجاهلة الجاحدة { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } [الحشر: 14] حقيقة التحصن بإيمانهم مثلهم { كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم } [الحشر: 15] بظنهم حصونهم مانعتهم عن ضرب الرحمن، ومثل المنافقين { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } [الحشر: 16] يعني: إذا قالت القوة المستكبرة الشيطانية للقوة المستعجلة الإنسانية بعد طول مجاهدتها في طريق الكشف، واطلاعها على بعض أسرار المكاشفات اكفري بنعمة الله التي أنعم في حقك، وهو بأن تباشر مع القوة النفسية على وفق الهوى بالشهوة الحظية بقول القوة الشيطانية، ويطلعها على أسرار مكاشفاتها، ثم يقتلها بالمجاهدات لحظها الهوى، فلما فعلت هذه الفعلة القبيحة لشؤم عجبها قالت لها القوة الشيطانية { إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهمآ أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزآء الظالمين } [الحشر: 16-17] لأن القوة المستكبرة أبت من أخذ الحق والقوة المعجبة أعجبت بنفسها ونسيت توفيق ربها، وغفلت عن ذكره الحق، وكفرت بنعمة المكاشفة، وقبلت كلام العدو.
[59.18-21]
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } [الحشر: 18] يعني: أيتها القوة المؤمنة اعتبري من هذه الآيات، ومما جرى على القوة المستكبرة والمعجبة، واكتسبي لنفسك اليوم ما ينفعك غدا بعد كشف الغطاء وطي عالم الكسب { واتقوا الله } [الحشر: 18] يعني: اتقوا عن الله عن عبادتكم، وتمسكوا بأذيال رحمته بأيدي عجزكم ومسكنكم.
{ إن الله خبير بما تعملون } [الحشر: 18] سرا وجهرا نية أو عملا، فأخلصوا نياتكم؛ لأن الله لا ينظر إلى أعمالكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم وانظروا بعين المنقصة إلى نفوسكم وبعين الفضيلة إلى إخوانكم ولا تطاولوا على القوة النفسية والقالبية المؤمنة بعدكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره "
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } [الحشر: 19] يعني: مثل القوى التي آمنت باللطائف، ثم نسوا ذكر الله واشتغلوا بمشتهيات أنفسهم، وجعلوا دين الله عادة وميراثا، وغفلوا عن حقيقة الدين { أولئك هم الفاسقون } [الحشر: 19] لا يشادهم حظوظ أنفسهم على الحقوق، ووقفوهم على صور الأعمال العارية غير الدخول في معناها { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [الحشر: 20] يعني: لا يستوي من زكى قوى نباتية لتكون له بستانا كمن يشعل نيران الحقد والحسد { لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } [الحشر: 21] يعني: لو أنزلنا الوارد على جبل القوة المعدنية لرأيتها خاشعة متصدعة من قوة الوارد وخشية ما أودع الله في الوارد، ولا تخشع هذه القلوب، فيدل على أن قلوب المنافقين والكافرين والاستعدادات المميزة للقوة الكافرة المنافقة النفسية والقلبية أشد وأصلب من جبل قوى معدنيته، ولأجل هذا السر يتمنى مقام الترابية بعد حصول الاستعدادات { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } [الحشر: 21] فينبغي أن يتفكر القارئ في هذه الآية لئلا يشتغل طول عمره بتصحيح مخرجه بلا تفكر يوما واحدا في عجائب أمثاله وحكمه ويفهم الظاهري؛ أن الله يضرب الأمثال؛ ليتفكروا فيها ويفهموا ما في ضمن هذه الأمثال ولا يفقهون على ظاهر الجبل الذي ضرب به المثل، ويعلم أن مراد الله من إرسال الرسل، وإنزال الكتب تطهير القلب، وتزكية النفس، والتوجه إلى كعبة الوحدة لا حفظ الكتب، والغلبة على الأمم وجمع الدراهم والدنانير والأملاك والعقار والدواب والأنعام والجارية والأزواج والأولاد والتنعم بالنعم والتفوق على الأنام والارتكاب على الآثام أيها الغفلة الجهلة العجزة عن أيدي الشهوة والقوى تظنون أن قراءة الكلام وعلم الحلال والحرام مع الاشتغال بالشهوة على وفق الهوى يجتمعان لا والله لو لم يتصدع قلبك من القراءة، ولم يخشع من الوعظ، ولم يخرج منه حب الرئاسة والجاه؛ لا ينفعك قراءة الكلام، وعملك بالحلال والحرام بل يكون عليك حجة ووبالا، ويزيد عليك عذابا ونكالا وسلاسلا وأغلالا.
[59.22-24]
{ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة } [الحشر: 22] يعلم ما في ضميركم بعلمه الغيبي، ويعلم ما تكسب جوارحكم بعمله الشهاوي { هو الرحمن الرحيم } [الحشر: 22] بصفة رحمانيته استوى على العرش وسوى عليه أمور عالم الغيب الروحاني { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [الحشر: 23] يعني: هو الله الملك لا ملك إلا هو ولا ملك إلا له، ولا ملك إلا بيده ولا الملك إلا خلقه القدوس بمعنى مقدس منزه عما تخط به الأفكار والعقول { السلام } [الحشر: 23] يعني: مسلم عن صفات العجز والنقص { المؤمن } [الحشر: 23] يعني: يأمن من عذابه من يؤمن به وبرسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره منه { المهيمن } [الحشر: 23] يعني: شهيد على الكل حفيظ للكل { العزيز } [الحشر: 23] يعني: غالب على أمره في لطفه وقهره الجبار؛ يعني: يجبر قلوب المجاهدين له والمهاجرين إليه بإطلاعهم على معارف عالم جبروته المتكبر يعني: الممتنع جنابه عن أن يلج عليه متكبر من خلقه مستكبر على اللطيفة المبلغة { سبحان الله عما يشركون } [الحشر: 23] يعني: هو منزه عن أن يشرك به أحد بالنظر إلى اختيار نفسه والالتجاء إلى غير ربه وقت القبض والابتلاء والنكرة { هو الله الخالق البارىء المصور له الأسمآء الحسنى } [الحشر: 24] يعني: هو القدر المقلب للشيء كما يريده طورا فطورا، وهو البارئ المنشئ بعد التقدير، والتقليب أعيان المقدور، والقلوب وهو المصور بعد الخلق والإنشاء في أي صورة يشاء.
الأسماء الحسنى يعني: أسماء لأفعاله الحسنة وافهم أنه ابتداء بالاسم الذاتي، ثم بأسمائه الحسنى الناسوتية مطلقا مجملا مفصلا، ثم ذكر تفصيله على سبيل الإجمال في قوله تعالى: { يسبح له ما في السموت والأرض وهو العزيز الحكيم } [الحشر: 24] يعني: بعزته سر أسماء شقائق ناسوتية، وبحكمته أودع سره في بحر تسبيحه، وإشارته إلى ما في السماوات والأرض لتفطن لها الخبير، ويطلع على أسراره المودعة في الشقائق الناسوتية المقصودة من الكل التي هي آخر العمل، وكل ما تقدم عليه مطلوب لظهور الشقيقة الكاملة المستحقة للمرائية، وهي مطلوبة لذات الله تعالى، ولهذا السر رجع في نهاية هذه السورة إلى بدايتها، وختم على قوله: { يسبح له ما في السموت والأرض وهو العزيز الحكيم } [الحشر: 24] وهذا السر مخصوص بحد القرآن، وأما السر الذي افتتح السورة بصيغة الماضي واختتمها بصيغة المستقبل من مطلع القرآن كلاهما منتهي إفشاؤهما، فاطلب في صفة العزة سر الابتداء، وفي صفة الحكمة سر الانتهاء، واعلم أن عين العزة عين العلم وحاء الحكمة حاء الحياة المحيطة بالكل يحيي بأوليته، ويتقن الأمر المحكم بآخريته، وهو الحي الحكيم، والله أتى في تفسير بطن هذه السورة لقد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن أنادي اللهم اجعلنا عارفين بأسمائك الحسنى بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعلى آله المجتبين وأصحابه المرتضين.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1-3]
يا أيها المتخذون أعداء الله أولياء أنفسكم، أما تقرءون كلام رب العالمين، ولا تفهمون ما يقول تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة } [الممتحنة: 1] يعني: يا أيتها القوى المؤمنة لا تتخذوا القوة الكافرة القالبية والمشركة المنافقة النفسية، وإن كانت عشائركم أولياء؛ لأنهم يريدون أن تشتغلوا بالشهوات العاجلة ليتمتعوا بحظوظهم من اشتغالكم بالشهوات العاجلة، ويعذبكم ربكم في الآخرة، ولا تلقوا لهم من أسرار الوارد، وأخبار اللطيفة الخفية بمودة أصلية كانت بينكم وبينهم؛ لأن السالك يريد أن يعارضهم ويدخلهم في ميدان الخلوة، ويجاهدهم ولو ألقت القوة المؤمنة إلى القوة الكافرة خير إدخالهم في الخلوة أبوا واعتدوا وجعلوا يمكرون مكرا ويكيدون كيدا ليضروا اللطيفة الخفية إلى حد شاهدنا أنها تمرض الوجود وتظهر الآلام الشديدة والأوجاع المؤلمة في وجود السالك، لئلا يدخل في الخلوة ولا يشتغل بالعزلة، فإن كان السالك صادقا لا يضره كيدهم، بل يحرضه ويبالغ في المجاهدة مع وجود الآلام والأوجاع، وهذا الابتلاء يتقن كثيرا عنه غيبة السالك عن حضرة مسلكه إني أردت في بداية أمري أن أدخل الخلوة في أربعين [موسوية] ففطنت القوى القالبية والنفسية الكافرة المشركة لأخيارهم القوى المؤمنة اللائمة فأمرضوني، وكان لي أخ في الدين من سلاك الطريقة رحمه الله قال لي: اترك الخلق في العشر الأول وداو نفسك حتى تصح، ثم ادخل في الخلوة على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتمم ثلاثين يوما، فأطعت أمره فلما دخل ليلة أول أربعين وهيئوا لي مشروبا سهلا لأشرب صبيحة تلك الليلة، فجاء الخادم، وقال: إن أحدا من المفنين جاء مسافرا من جانب خراسان، ويستأذن أن يدخل عليك، ويزمزم لكم فقلت: ائذنوا فدخل وقعد وزمزم، وقال في أول اشتغاله بالزمزمة: هذه الفارسية المهيجة، وهي هذه شعر [....] فغلب علي الوقت لأني سمعت هذا الكلام من الحق ذرفت ورقصت، وهيج في باطني أشواقا عظيمة، فلما فرغت من السماع دخلت الخلوة، وجلست وما ضرني المرض، وفتح الله علي في تلك الخلوة فتوحات عظيمة لا حرمنا الله من أمثالها، فالمقصود من إيراد هذه الحكاية أن يعرف السالك كيد القوى ومكرها، ولا يلتفت إليها، ولو تمرض يقول لها: الدخول في الخلوة وقت المرض، وكثرة الطاعة في هذه الحالة أجود والمرض مبشر رسول الموت، فينبغي أن تدخل الخلوة، وتشتغل بذكر الحق لتموت فيها مستريحا، فإذا رأت القوة الكافرة صدق السالك خافت من صدقه وهربت عنه { وقد كفروا بما جآءكم من الحق } [الممتحنة: 1] الواو واو الحال يعني: القوى الكافرة كفروا بالوارد الذي جاءكم من الحق أيتها القوى المؤمنة { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } [الممتحنة: 1] يعني: يخرجون اللطيفة المرسلة من بلدة الوجود القالبي إل مدينة السر فبعد إخراجكم عن بلدة قالبهم فلا تتخذوها أولياء لأنفسكم { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغآء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة } [الممتحنة: 1] مهاجرين إلى الله وإلى رسوله.
واعلم أن في بداية الأمر للقوى المؤمنة نزاعا إلى بلدة قالبها واشتياقها إلى عشيرتها، وهي القوى الكافرة والمشركة النفسية والقالبية، ويجهلون أمر الحق وأحكام الوارد، ولكنهم متبعون اللطيفة باذلين جهدهم في خدمتها مع هذا يجزون القوى القالبية والنفسية بالنصيحة لهم أن الأمر على خلاف ما أضمرتم، وقوة حزب الخواطر الخفية غالبة أطيعوا أمر ربكم والقوى الكافرة العاصية لا يلتفتون إلى نصائحهم ويجهزون جيوشهم، ويمدون من الشيطان جنود خواطره؛ ليحاربوا اللطيفة فأعلمهم الله تعالى بأن القوى الكافرة لا يقبلون نصيحتكم، فأخرجوا مودتهم عن القلوب ولا تجزوهم بأسرار الحق وأخبار اللطيفة، ويقول { وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم } [الممتحنة: 1] من النزاع إلى عشائركم ومن النصيحة التي تنصحهم، ومن استقامتكم في متابعة اللطيفة الخفية، فمن بعد ذلك لا تنصحوا القوى الكافرة؛ لأنهم مردودون عن الحضرة لا ينفعهم نصحكم { ومن يفعله منكم } [الممتحنة: 1] بعد إعلامكم { فقد ضل سوآء السبيل } [الممتحنة: 1] يعني: أخطاء الطريقة النقية الصفية المنسوبة إلى الصوفية { إن يثقفوكم } [الممتحنة: 2] ويظفروا بكم { يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم } [الممتحنة: 2] بالضرب والقتل والأسر { وألسنتهم بالسوء } [الممتحنة: 2] يبسطوا ألسنتهم بالشتم والفحش { وودوا لو تكفرون } [الممتحنة: 2] كما كفروا حتى يقتلوكم { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة } [الممتحنة: 3] يعني: القوى القالبية والنفسية والخواطر الردية التي هي نتائج قواكم لن تنفعكم يوم القيامة؛ بل يفرون منكم وأنتم تفرون منهم، ويقولون فبئس القرين يمنعونا عن ذكر الله وطاعته، فلا تلتفتوا إلى أرحامكم ولا أولادكم وأعرضوا عنهم وأقبلوا على اللطيفة الخفية لتنجوا من العذاب الأليم { يفصل بينكم } [الممتحنة: 3] بقوله: فريق: في الجنة المزكاة قوة نباتية من الأباطيل والخبائث، وفريق: في السعير المشتعلة فيها نيران الحقد والحسد والشهوة والغضب { والله بما تعملون بصير } [الممتحنة: 3] يعني: إن يشتغلوا بتزكية جنتكم أو باشتعال نيرانكم في سعير قالبكم يبصر الله أعمالكم، ويعلم نياتكم وضمائركم.
[60.4-6]
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } [الممتحنة: 4] لأن اللطيفة القلبية { إذ قالوا } [الممتحنة: 4] لآبائهم { لقومهم } [الممتحنة: 4] بعد أن ظهر لهم شركهم { إنا برءآؤا منكم } [الممتحنة: 4] فينبغي أن يتبعوا أثر اللطيفة القلبية، وإنا أمرنا اللطيفة الخفية بأن تتبع ملة أبيها إبراهيم، وهو اللطيفة القلبية، وهذا سر عظيم أشير إليه؛ لئلا تغلظ في نسبة الأبوة.
اعلم أن الله تعالى أودع اللطيفة الخفية في جميع الأشياء، ولكنها مستكنة مستورة بأستار وحجب مما لا يجب ردها ورباها في أطوار التراكيب حتى وصلت إلى تركيب هو أعدل التراكيب، وهو القلب فصارت نطفة اللطيفة الخفية في طهر اللطيفة القلبية مستعدة، إذا وجدت لطيفة قابلة لها يدع فيها؛ فأرسل الله الإرادية لتكون قابلة لتلك النطفة، فإذا شاهدت اللطيفة القلبية استعداد قابليتها أودعت فيها النطفة ورباها الله في رحم الإرادة مدة مديدة ورقاها برقاها حتى وصلت إلى حضرة الحق فأمرها بالرجوع إلى العوالم التي عبرت عليها لتنذر أهلها وتبشر أممها فهو خاتم اللطائف والمقصود من إيجاد الكل ولأجل هذا أشار إليه أن
واتبع ملة إبرهيم حنيفا
[النساء: 125]
وما كان من المشركين
[البقرة: 135] والزيادة على هذا الكشف منتهي لأن سره من أسرار مطلع القرآن { إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم } يعني: أنتم إذا دخلتم في متابعة اللطيفة ينبغي ألا تلتفتوا إلى أرحامكم وأولادكم ويقولوا ألقوا ما قالت اللطيفة القلبية وقواها لآبائهم { ومما تعبدون من دون الله } [الممتحنة: 4] يعني: يقولون إنا براء منكم ومن آلهة هواكم { كفرنا بكم } [الممتحنة: 4] وبآلهتكم { وبدا بيننا وبينكم العداوة } [الممتحنة: 4] الخفية { والبغضآء } [الممتحنة: 4] لله تعالى { أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } [الممتحنة: 4] وتتركوا آلهتكم وترجعوا عن شركائكم وتتبعوا أسوة إبراهيم { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [الممتحنة: 4] قبل أن جاءه الوارد وأعلمه أن أباه لم يدخل دين الحق يعني: يجب عليكم متابعة اللطيفة القلبية إلا في قولها قبل وقوفها على أمر اللطيفة الروحية المستكبرة المرساة في تراب الطبيعة التابعة للقوى القالبية { لأستغفرن لك } فلما تبين للطيفة القلبية مردوديتها بتراب منها وقالت: { ومآ أملك لك من الله من شيء } [الممتحنة: 4] يعني: لا أقدر أن أدفع عنك عذاب الله إن عصيت الرب وأشركت به { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } [الممتحنة: 4] بإعراضنا عن آبائنا وأمهاتنا وعشائرنا وأرحامنا وأولادنا وإليك أنبنا من [راعيتنا] القوى القالبية والنفسية ومودتنا لها وإليك المصير يعني: إليك مرجعنا ومالنا ملجأ وملاذ غير ذكرك الكريم { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } [الممتحنة: 5] يعني: لا تجعلهم غالبين علينا ولا منصورين بل اجعل كيدهم في تضليل واجعلهم مغلوبين مقهورين { واغفر لنا ربنآ } [الممتحنة: 5] صدر عنا من الجهل بإخبارنا إياهم الأخبار والأسرار نصيحة لهم ومودة ونزعة رحيمية { إنك أنت العزيز الحكيم } [الممتحنة: 5] يعني: أنت غالب على أمرك حكيم في جميع أفعالك أن تغفر لنا فنحن عبادك وإن تعذبنا فأنت أعلم وأحكم ونحن مستحقون العذاب { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة } [الممتحنة: 6] أيتها القوة المؤمنة المتابعة اللطيفة الخفية في القوى القلبية التابعة للطيفة القلبية { أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } [الممتحنة: 6] يعني: تبرأ مما تبرى، ويقولون ما قالوا { ومن يتول } [الممتحنة: 6] أي: يعرض عن أسوتهم الحسنة { فإن الله هو الغني الحميد } [الممتحنة: 6] يعني: الحق مستغن عن عبادتكم حميد في ذاته إن لم يحمده ويعبده أحد ولا تقنطوا أيتها القوى المؤمنة عن إيمان القوى القالبية والنفسية القريبة لكم.
[60.7-9]
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم } [الممتحنة: 7] لأجل الله { منهم } [الممتحنة: 7] أي: من القوى الكافرة والمشركة { مودة } [الممتحنة: 7] إيمانية بأن يدخلهم الله في دائرة الإيمان ويخالطهم مخالطة الإخوان { والله قدير } [الممتحنة: 7] على ما يشاء لو شاء لهدى الناس جميعا { والله غفور رحيم } [الممتحنة: 7] يغفر عما سلف ويرحم على القوة القالبية والنفسية ويدخلها في رحمته بهدايته إلى الإيمان { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } [الممتحنة: 8] وهذه حالة مخصوصة بالمقتصدين والحال التي بينا من قبل حال الظاهر لنفسه وهو السالك المبتدئ فإذا أخرج السالك المبتدئ محبة القوة القالبية والنفسية لأجل الحق وبأمر الحق من باطنه ورسخ قدميه في الطريقة لا يضره الاشتغال بنصيحة القوى القالبية والنفسية التي لا يقاتلونه لأجل الدين بل يطلبون منه حظوظهم المباحة بشرط أن يكونوا مغلوبين مقهورين لا يقدرون على إخراج القوى المؤمنة عن ديارهم ولكن ينبغي أن { وتقسطوا إليهم } [الممتحنة: 8] يعني: تعدلوا فيهم بالإحسان والبر وإعطاء الحظوظ ولا يتجاوزوا عن حد الاعتدال { إن الله يحب المقسطين } [الممتحنة: 8] الذين اجتنبوا عن الإفراط والتفريط في جميع الأمور وهذا حال المقتصد وهو السالك المتوسط { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } [الممتحنة: 9] يعني: لا ينهاكم الله عن أن تعطوا حظوظ القوى القالبية والنفسية الذين قاتلوكم عداوة للحق لأن يخرجوكم من دين الحق ويدخلوكم في دين الباطل وأخرجوكم من ديار القالب وغلبوا على إخراجكم أن تتخذوهم أولياء { ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [الممتحنة: 9] يعني: من يتخذهم أولياء نفسه كان ظالما يضع الولاية في غير موضعها.
[60.10-11]
{ يأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } [الممتحنة: 10] يعني: أيتها القوى المؤمنة إذا جاءتكم القوى القابلة مهاجرات من القوى الكافرة المشركة القالبية والنفسية والروحية المستكبرة المرساة بتراب الطبيعة فامتحنوهن بالبيعة فإن بايعنكم على ألا يشتغلن بالهوى والشهوات العاجلة النفسانية الردية فأقبلوهن { الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } [الممتحنة: 10] يعني: إذا علمتم أنهن يؤمن بالله ورسوله ولا يشركن فلا تعطوهن إلى القوى الكافرة والمشركة { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } [الممتحنة: 10] يعني: لا القوى القابلة المؤمنة تجعل للقوى الفاعلة الكافرة ولا القوى الفاعلة الكافرة تجعل للقوى القابلة المؤمنة { وآتوهم مآ أنفقوا } [الممتحنة: 10] عليهن يعني: حظوظهن { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن } [الممتحنة: 10] يعني: لا جناح على القوى المؤمنة الروحيتان أن تنكح القوى القالبية المؤمنة بعد أداء حظوظهن والقالبية والنفسية من العلو والسفل بالقسط { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [الممتحنة: 10] يعني: أن لا تمسك القوى الفاعلة الروحية بالقوى القابلة القالبية الكافرة { واسألوا } [الممتحنة: 10] أيتها القوى الفاعلة المؤمنة { مآ أنفقتم } [الممتحنة: 10] على القوة القابلة بعد أن لحقت بالقوة الكافرة والشركة يعني: المعارف التي أعطيتموها من المعارف الروحية وسئلوا يعني: القوى الفاعلة الكافرة والمشركة ما أنفقوا على القوى القابلة التي لحقت بالقوى المؤمنة ما أعطوها من المنكرة والحيل التي يسهل عليها جذب الحظوظ العاجلة على وفق الهوى ومعرفة كيفية اتباع الشهوات { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } [الممتحنة: 10] عليم بالاستعدادات حكيم فيما يحكم ويأمركم به لأن معرفة الحيل ينبغي أن ترد إلى القوى الكافرة لئلا يشكوكم بها والمعرفة الروحانية ينبغي أن يردوا إليكم لئلا يخبروا بها القوى المؤمنة وفيه أسرار جمة تتعلق بحد القرآن { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } [الممتحنة: 11] يعني: أيتها القوى المؤمنة الفاعلة إن فاتكم شيء من أزواجكم أي: القوى القابلة اللاحقة إلى الكفار مرتدة راجعة إليها { فعاقبتم } [الممتحنة: 11] يعني: المرتدة بالقتل بأن لا تعطى حقها حتى تموت بالمجاهدة { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا } [الممتحنة: 11] يعني: أن أزمة القوى الفاعلة تعتد إن أمنوا وبقيت القوى القابلة التي في حيالتها عندكم فآتوهن من عنائهم استعدادات قابلية ونفسية بعد غلبتكم على القوى القابلة التي بقيت عندكم { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } [الممتحنة: 11] يعني: اتقوا الله من أن يبقى معكم من الأخلاق الردية التي حصلت للقوة القابلة من القوى الكافرة والمشركة أو تبقى مع القوى القابلة المرتدة من الأخلاق الشريفة التي حصلت لها من القوى الفاعلة المؤمنة لئلا يكون لهم ملك الأخلاق استعدادا للإغواء ولأجل هذا السر من المشايخ بأن لا يؤذن لسالك خرج من حبال شيخه أن يدخل في دائرة الصوفية لأنه سارق يسرق المعارف والوقائع ويدعو الخلق إلى نفسه بتلك الاستعدادات.
[60.12-13]
{ يأيها النبي إذا جآءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتن يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن } [الممتحنة: 12] يعني: أيتها القوى اللطيفة الخفية إذا جاءك المؤمنة القابلة يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا في الاختيار ويضعن الاختيار إلى الله بالكلية ولا يسرقن الموتة القلبية والسرية والروحية والخفية ولا يزينن بالهوى يعني: لا تأذن لخاطر الهوى أن يدخل فيهن ولا يقتلن الوارد الذي يرد عليهن والخاطر الإلهامي الذي يخطر بهن بدس الوارد والخاطر الإلهامي تحت تراب الطبيعة ولا يأتين بهتان يفترينه على القوى الفاعلة المؤمنة واللطيفة الخفية ويزعم أن الخاطر السري خاطر الروح أو خاطر الروح خاطر الحق وأمثاله ولا يعصينك في معرفة الله وفيما تأمرهم بأمر الوارد مع ترك الضجارة والملالة عند مصيبة وبلاء التشنيع على { واستغفر لهن } [الممتحنة: 12] مما سلف عليهن { إن الله غفور رحيم } [الممتحنة: 12] يغفر الذنوب ويرحم على من يتوب { يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } [الممتحنة: 13] يعني: أيتها القوى المؤمنة التابعة للطيفة الخفية لا تتخذوا القوى المؤمنة المتابعة للطيفة السرية المنكرة للطيفة الروحية والخفية { قد يئسوا من الآخرة } [الممتحنة: 13] بإنكارهم اللطائف الروحية والخفية { كما يئس الكفار من أصحاب القبور } [الممتحنة: 13] يعني: كما يئس القوى النفسية التي هي من أصحاب القوى القالبية وفي هذه الآية أظهر نسبة القوالب إلى القبور لمن كان له قلب شهيد أو سمع حديد اللهم أرزقني قلبا شهيدا أو سمعا حديدا بحق محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين.
[61 - سورة الصف]
[61.1-5]
أيها الصافون في مصاف الأعداء المصفون من أهل الصفاء القائمون في صفوف الصوفية بشرط الوفاء القاعدون في صفة أصحاب الصفة بالتوكل والرضاء سبحوا الله بالنسبة الأرض والسماء ونزهوه من أن يحاط بالأفكار والعقول وافهموا ما يقول في كتابه الكريم حيث يقول { سبح لله ما في السموت وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } [الصف: 1] بحكمة خلق الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما لتسبحه في السماوات الروحانية القوى العلوية وفي أرض البشرية القوى السفلية وبعزته حجب الكل عن مشاهدته وسخرهم بقدرته ليمتزجوا ويختلطوا بالفعل والانفعال [ليتولد] من الآباء العلوية والأمهات السفلية اللطيفة الأنانية المسبحة بلسان الحق لذات الرب سبحانه وتعالى أن يقدر أحد أن يذكره أو يسبح له غيره واللطيفة الأنانية الكاملة هي مرآة وجهه الكريم والمسبح لذاته عكس ذاته المنطبع في المرآة فإن لم يسبح الناظر في المرآة نفسه فكيف تقدر المرآة أن تسبحه فالمسبح عكس ذاته فتسبيحه بتسبيحه إياه فإن ظهر المسبح والمنظور هو المسبح وهو الناظر والمنظور والذاكر والمذكور { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } [الصف: 2] يا أيتها القوى المؤمنة النفسية لم تقولون إنا نجاهد العدو إذا واجهتموه وافقتموه وأعصيتم شهواته على وفق هواه ما علمتم أن الله يقول: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [الصف: 3] { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } [الصف : 4] يعني: إذا غلب في أثناء المجاهدة والخلوة جند خواطر الشيطان والقوى القالبية والنفسية لغير المزكاة على القلب فينبغي أن يكون السالك المجاهد وقواه القلبية لا يزالون عن مكانهم مواجهة العدو في صف الجهاد كأنهم قد رص بعضهم ببعض لأن كيد الشيطان ضعيف إذا رأى من السالك والقوى القلبية ثبات القدم وصدقهم في المجاهدات ينهزم سيما إذا شاهد حزب الرحمن وهو أنوار الجذبة وأنوار الخواطر السرية والخفية يتولى مدبرا ويقول إني أرى ما لا ترون ويقوى السالك على حزب الشيطان بعد ذلك بحيث كلما واجهه انهزم إلا ما شاء الله لو ابتلي السالك بإيقاع الشهوات على وفق الهوى وترك الذكر فإنه يجيء كرة أخرى ويجلب بخيله ورجله للقتال فالسالك الموفق لا يخاف من كثرتهم ويعتصم بحبل الذكر ويتقلد بسيف الثقلين ويحمل عليهم ويهزمهم بقوة الولاية عند استحضاره الشيخ فبعد ذلك يضعف الشيطان والقوى القالبية والنفسية التي هي حزبه ويجب على السالك بعد ذلك رعاية القوى القلبية بحقوق الذكر ومحاسبة القوى النفسية والقالبية من الحظوظ حتى لا يلقمهم لقمة من غير حساب { وإذ قال موسى لقومه يقوم } [الصف: 5] يعني: اللطيفة السرية لقواها { لم تؤذونني } [الصف: 5] بالافتراء علي بأن ذكري معلول بريح الهوى { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } [الصف: 5] فربما يذكر السالك الذكر السري ولا يصل ذوق إلى القوى النفسية المؤمنة فيفترون على اللطيفة السرية أن ذوق ذكرك لا يصل إلينا ولم نجد ذوق فعله حدثت من ريح الهوى إلى ذكرك وإن لم يكن السالك محفوظا أو تحت ولاية الشيخ ينغصون العيش عليه فسبيل السالك في هذا المقام أن يقول إني أذكر الله لله لا للذوق وإن لم يصل إلى الذوق في الدنيا يصل في العقبى وإن لم يصل فالحكم للمولى إن ما عشت أذكر مولاي وولي وإلهي من غير طمع وأجرة ولا يكون كأجير سوء في سلوكه خاصة عند هجوم ظلمات النكرة وخمود نيران الشوق وجمود الاستعداد وركود ريح الذكر القلبي ويجتهد في الطاعات والرياضات والذكر وإن لم يجد منه راحة بل يكون في تلك الساعة كان إعطاؤه ترض بالحجارة فيجب أن يبالغ في الذكر على وجه التعظيم والهيبة حتى يفتح الله عليه باب المعرفة فيجد حينئذ أضعاف ما يجده من الذوق قبل هذه الحالة { فلما زاغوا أزاغ الله } [الصف: 5] يعني: القوى النفسية والقالبية عن الحق بافترائهم على اللطيفة السرية { أزاغ الله قلوبهم } [الصف: 5] يعني: أمالها الله بوجوههم عن الحق { والله لا يهدي القوم الفاسقين } [الصف: 5] الذين يفترون على نبيهم.
[61.6-9]
{ وإذ قال عيسى ابن مريم } [الصف: 6] يعني: اللطيفة الخفية { يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات } [الصف: 6] الخفية التي شاهدتها القوى النفسية والقالبية المؤمنة باللطيفة السرية { قالوا هذا سحر مبين } [الصف: 6] أنكرتها وقالت: هذا يسحر بأعيننا وليس لهذه الآيات حقيقة وهذه الأحوال تظهر للسالك بعد عبوره على الحجبات القالبية والنفسية والقلبية والروحية ووقوفه في تلك المواطن حتى يرسل الله اللطيفة الخفية لترقيها من ذلك المقام، ويدخلها في عالم الخفي ودعتها اللطيفة الخفية إلى الحق بالصحيفة الخفية التي هي مصدقة للصحف الروحية والسرية والقلبية والنفسية والقالبية، ويبشرهم باللطيفة الخفية التي هي أحمد اللطائف لحقها، وأشكرهم على نعم الحق، وأعظمهم قدرا، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم على الله وأحبهم عنده، وهي اللطيفة المقصودة التي لولاها لما خلق الدنيا والعقبى، فأنكرت القوى النفسية والقالبية اللطيفة الخفية؛ لوقوفهم على ترك شهواتهم التي هي صارت عادتهم إذا صدقوا اللطيفة الخفية، واستدلوا بالسلوك؛ لأن العبادة ترك العادة، فالواجب على السالك في هذا المقام أن يترك جميع عباداته النافلة بأمر مسلكه؛ ليسهل عليه التجاوز عن هذه المرتبة { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام } [الصف: 7] يعني: من أظلم ممن ادعى التسليم لأوامر اللطيفة المرسلة، وترك عاداته للترقي من مقامه، يفتري علي الكذب، ويقول للطيفة المرسلة ما أنت برسول صادق؛ بل أنت ساحر كذاب تريد أن تصدنا عن طريقتنا، وتخرجنا عن ملتنا، وملة آبائنا وأمهاتنا السفليات { والله لا يهدي القوم الظالمين } [الصف : 7] الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء على رسلهم والاستهزاء بالوارد الذي ورد على اللطيفة المرسلة { يريدون ليطفئوا نور الله } [الصف: 8] يعني: القوى التابعة للشهوات على وفق الهوى يريدون أن يطفئوا نور الله اللطيفة الخفية لئلا يظهر { بأفوههم } [الصف: 8] يعني: بافترائهم وكذبهم وأكلهم الشهوات على وفق هواهم { والله متم نوره } [الصف: 8] يعني: مظهر نور اللطيفة الخفية { ولو كره الكفرون } [الصف: 8] من القوى التابعة للطائف ثم الهادية عن الجهاد البالغة للشهوات المشتغلة بالحظوظ العاجلة الغافلة عن ذكر الرب الكافرة نعم مشاهدة الآيات الأنفسية { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [الصف: 9] يعني: هو الذي خلقكم وهداكم إلى السلوك بأمر اللطائف المرسلة إليكم يرسل رسوله الكريم، وهو اللطيفة الخفية الداعية إلى الحق المعلمة أمر التقويم والتصقيل والتوجيه للمرأة التي هي منظورة الحق على وجه يمكن إكمال المرأة به، ويجعلها مستحقة لأن ينظر إليها الله تعالى بنظر جلاله وجماله ويشاهد فيها ذاته وصفاته وأفعاله وآثاره على وجه التفضيل؛ ولهذا السر أظهر هذا الدين على الأديان كلها، وسنحت الشرائع بشريعتها الزهري، ولو كره المشركون الذين أشركوا بالله بإثباتهم اللطائف بالنبوة والقوى القابلة والفاعلة بالشركاء لله، تعالى عما يقول المشركون والكافرون علوا كبيرا هو الله الواحد الأحد الصمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا خلق القوى القابلة بنظر ربوبيته، وخلق القوى الفاعلة بنظر ألوهيته وأزوج بينهما بحكمته، وأخرج من بينهما ذريته ليكونوا مظاهر لطفه وقهره، وهو الغالب على أمره بفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد في ملكوته.
[61.10-12]
{ يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [الصف: 10] يعني: أيتها القوى المؤمنة باللطائف هل أدلكم على كسب إن اشتغلتم به ينجيكم من عذاب الآخرة، وهو أسهل مما تواظبون عليه من الأوزار والأغلال؛ لأني بعثت بالملة الحنيفية السمحة السهلة، وهو أن { تؤمنون بالله } [الصف: 11] يعني: وحدانيته { ورسوله } ، يعني: اللطيفة الخفية المرسلة التي هي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [الصف: 11] يعني: باستعدادكم الحاصل من سلوككم بأمر اللطائف المرسلة من قبيل ترك اختيار أنفسكم وعادتكم { ذلكم خير لكم } [الصف: 11] من كثرة مجاهدتكم وتعبكم ورياضتكم الشاقة على أنفسكم { إن كنتم تعلمون } [الصف: 11] أن حقيقة العبادة ترك الهوى، والائتمار بما يأمر به المولى، والانتهاء عما ينهى عنه لا تعذيب النفس، وقلة الأكل والنوم على وفق الهوى؛ ولأجل هذا السر قال المشايخ: لو يأكل المريد بأمر شيخه كل يوم دجاجة مسمنة، وحلوى من سكر خير له من أن يأكل في كل أسبوع قرصا من شعير على وفق أمر نفسه وهواه، وإن شاهدنا وجربنا في أنفسنا، وفيمن سلكناه أن الإفطار على وفق أمر الشيخ خير له من الصوم باختيار نفسه، وإن ترك العبادات النافلة من الصلاة والحج والصدقة والتلاوة بأمر شيخه؛ أنفع له من الإتيان بها على وفق اختيار نفسه، وفي هذا السر لطيفة إفشاؤها حرام على المسلك من قبل أن يطلع الله السالك عليها، فإذا أطلع الله السالك عليها، ويحكيها السالك للمسلك، فيجوز للمسلك أن يخبره عن هذه اللطيفة، فمن يؤمن بالله أيتها القوى المؤمنة باللطائف المرسلة من قبل باللطيفة الخفية منكم { يغفر لكم ذنوبكم } [الصف: 12] بإثبات الولد والصاحبة لله، وبإثبات الشركاء له { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [الصف: 12] يعني: جنات القلب تجري من تحتها أنهار المعرفة تكون تحت تصرفكم متى شئتم شربتم منها { ومساكن طيبة في جنات عدن } [الصف: 12]، وهي مساكن قوى معدنية السالك إذا صارت طيبة يكون بعد خراب البدن لصاحبه مساكن طيبة في جنات عدن، وهو القوى النباتية المزكية عن الخبائث المطهرة عن الأباطيل، وإذا خرج صاحب هذه القوى من دار الكسب؛ يكون له في دار الجزاء مساكن طيبة بتطهير قوى معدنية، وجنات عدن بتزكية قوى نباتية { ذلك الفوز العظيم } [الصف: 12].
[61.13-14]
{ وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } [الصف: 13] يعني: لكم شيء آخر في العاجل مما تحبونه، وهو النصر على الأعادي، وفتح البلاد من الأداني والأقاصي غير ما ادخر لكم في الأجل، كما يقول نصر من الله، وفتح قريب { وبشر المؤمنين } [الصف: 13] أيتها اللطيفة الخفية بالنصر والفتح في العاجل والخلود في الجنة مع الرضوان في الآجل { يأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } [الصف: 14] يعني: أيتها القوى المؤمنة التابعة للطائف المرسلة من قبل إذا آمنتم باللطيفة الخفية كونوا أنصار الله { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } [الصف: 14] يعني: كما قالت اللطيفة الخفية للقوى الصافية التابعة لها { من أنصاري إلى الله } [الصف: 14] في الجهاد مع الأعادي { قال الحواريون نحن أنصار الله } [الصف: 14] يعني: قالت القوى الصافية: نحن أعوان الله ننصرك ونغنيك عن مقابلة العدو { فآمنت طآئفة من بني إسرائيل } [الصف: 14] ممن آمنوا باللطيفة السرية قبل إرسال اللطيفة الخفية باللطيفة الحنيفية إذا أرسلت { وكفرت طآئفة فأيدنا الذين آمنوا } [الصف: 14] باللطيفة الخفية { على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } [الصف: 14] يعني: إذا شرفوا بالتجلي الجمالي صاروا غالبين على من كفر من أمة مؤمنة باللطيفة السرية كافرة باللطيفة الخفية، فهكذا أيتها القوى المؤمنة باللطيفة الخفية إن كنتم تؤمنون باللطيفة الخفية تردكم بتجليات الجمال، بحيث تصبحون ظاهرين غالبين على عدوكم من القوى الكافرة والمشركة القالبية والنفسية، اللهم اجعلنا ظاهرين على عدونا ثابتين على متابعة سيدنا وحبيبك محمد وآله وصحبه وسلم صلاة وتسليما دائما أبدا.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-4]
يا من تدعي أنك تسبح لله ما فهمت من قوله تعالى حيث قال: { يسبح لله ما في السموت وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } [الجمعة: 1] وإن لم تكن من أهل الفهم من عند نفسك بالكشف فألق سمعك إلي وكن شهيدا حتى أفسره لك بإذن الله تعالى.
واعلم أن التسبيح لا يصدق من أحد من رؤية وجوده، فينبغي للمسبح أن يعرف الله بصفة الملكية والقدوسية والعزيزية والحكيمية، ومعرفته صفة ملكه لا يصدق ما دام يتلجئ إلى أحد غيره، ويرى الملك لغيره متصرفا، ولا يأتمر بأمره، ولا ينتهي من نهيه، ويشتغل بنهر طبعه، ومعرفة صفة قدسه لا يحصل إلا بعد علمه بأن كل ما يخطر بباله وحسه وذكره، فالله خالق تلك الخواطر وكل ما رأى من صور صفاته في الغيب والشهادة يتيقن بأن الله مصورها، ومعرفته صفة عزيزية منوطة بأنه يعرف أنه غالب على أمره، خلق الشيطان لعزته، وخلق النفس قرينة لغيرته على أن يعرفه غيره، ومعرفته حكيمية متعلقة بمعرفته النقطة المتقنة الواهية صور الأشياء بعد ظهور [الصفات] الثلاثة: العلمية والإدارية والقدرية؛ ليعلم حقيقة ظهور القالب الإنساني على شكل قامة الألف، ويعلم قواها السوادية، وقواها البيانية، وكيفية تداخل الحروف بعضها في البعض، وأخذ النقطات البيانية حظوظها من النقطات السوادية، وأخذ النقطات السوادية حقوقها من النقطات البياضية؛ ليظهر عليه حكمة صدور هذا الفعل من ذات سبب صفاته الملكية والقدسية والعزيزية والحكيمية، وإن الملك اسم للسر الذي أودعه الله في النقطة العلمية، والقدوس اسم للذي أودعه الله في النقطة الإرادية، والعزيز اسم للسر الذي أودعه الله في النقطة القدرية، ويطلع على ينبوع الحياة في النقطة العلمية، وعلى نهر السمع في النقطة الإرادية، وعلى بحر البصر في النقطة القدرية، وعلى مد الكلام وجوزه في النقطة المتقنة الحكمية ليجتني من شجرة روحانيته المغروسة في أرض بشريته إثمار الكلمات الطيبات في بستان بلدته الطيبة، ويضعها على طبق اللطائف ويتحف بها على يدي اللطيفة الأنانية إلى حضرة ربه الغيور، والمبالغة في هذا التقرير في هذه الآية فرعت باب مطلع القرآن، فعطفت عنان البيان عنه { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } [الجمعة: 2] يعني: بعث اللطائف المرسلة إلى كل الأمم منهم، وبعث اللطيفة الخفية إلى جميع الحقوق المودعة في القوى السفلية والعلوية، وهي أمة أمية؛ لأنها وهبية لا كسبية { يتلوا عليهم آياته } [الجمعة: 2] يعني: يقرأ عليهم آيات الحق في أنفسهم { ويزكيهم } [الجمعة: 2] من غبار الأخلاق الرذيلة التي علقت بأذيال القوى الحقوقية في أرض البشرية من تراب الطبيعة { ويعلمهم الكتاب } [الجمعة: 2] بالوارد الوهبي الخفي لا من العلم الكسبي الخلقي العسكري { والحكمة } [الجمعة: 2] بالنور الحكمي المخصوص بالخفي، والمراد من الكتاب: الأحكام التي تتعلق بملك السالك، وبالحكمة الأحكام التي بملكوت السالك يعني: تزكي بالكتاب قوى سفليته، وبالحكمة تزكي علويته { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [الجمعة: 2] بعبادتهم أوثان الهوى، ومتابعتهم القوى الجاهلية القالبية، والظالمة النفسية { وآخرين منهم } [الجمعة: 3] يعني: يعلمهم ويعلم آخرين منهم من القوى التي تحدث من [.
....] بعد المخللات { لما يلحقوا بهم } [الجمعة: 3] يعني: القوى الحادثة للقوى التابعة الزكية العارفة بالكتاب والحكمة لم يدركوهم، ولكنهم يحدثونهم بعدهم { وهو العزيز الحكيم } [الجمعة: 3] بقدرته أرسل اللطيفة الخفية إلى الأميين من القوى الحقوقية الأمية الأصلية؛ ليعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن غابوا عن الحضرة من وقت التخمير، وصاروا ضالين في أودية البشرية، ويبدأوا الشكوك والظنون مشتغلين بعمارة وكر قالبهم وتربية بيضتهم غافلين عن ذكر الله بالحكمة البالغة؛ ليتم الوكر وتنتج البيضة الفرخ، ولولا غفلتهم عن الذكر ما اشتغلوا بعمارة الوكر وتربية البيضة، والمراد من إيجاد الذكر والأنثى والعلو والسفل، وعمارة الوكر وتربية البيضة هو: الفرخ الذي يحصل فيه؛ فيطير في سواء المحبة، وبأخذ طيور المعرفة ليفرح السلطان في طيرانه، وعلمه بكيفية الأخذ ورجوعه إلى يد السلطان { ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء } [الجمعة: 4] يعني: من ذلك العلم والطيران والرجوع من فضل الله ووجهه لا من كسب أحد وتعلمه يؤتيه من يشاءه { والله ذو الفضل العظيم } [الجمعة: 4]؛ ليعطيهم الاستعداد ويهب لهم العلم اللدني، ويرسل إليهم الوارد القدسي، ويدعوهم بلطيفة إليه، ثم يجزيهم الجزاء الأوفى، ويثني عليهم ويشكر سعيهم ويجعلهم المقربين.
[62.5-7]
{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } [الجمعة: 5] مثل القوى النفسية المؤمنة باللطيفة السرية، وقبولهم الوارد السري من حيث الظاهر، ولم يحملوا حقيقة الوارد من حيث المعنى، وترك العمل بما في ضمن الوارد { كمثل الحمار يحمل أسفارا } [الجمعة: 5] يعني: يحملون الأسفار من حيث الظاهر، وهم جاهلون في باطنه غافلون عن حقيقة وروده، فيجب التعزية لنفسهم على حفظ كلمات القرآن المقتصرين على حفظه وقراءته والتاركين لفهمه، والعمل به، وعلى السالك الذي يرد عليه الوارد، وهو يتكلم بالوارد ولا يعمل به، وعلى اللطيفة المبلغة التي تأمر القوى عن الاجتناب عن الهوى، ويلقي الشيطان في أمنيته أن يتكلم بشرب نفسه، وهو طبعه ويظن أن نفسه مطمئنة لا يضرها الاشتغال بصحبة الخلق، والتوسع في المعيشة، ولا يذكر حال أشرف الخلق وأحبهم إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه صلى حتى تورمت قدماه بعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وما شبع في مدة حياته من خبز الشعير إلا مرتين، وبعده حال سيد الأولين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على مدين ونصف من السويق الشعير، الغير متحول في رمضان الذي استشهد فيه حتى وزنوا ما في جرابه بعده، وهو رضي الله عنه استشهد صبيحة يوم الثالث والعشرين من رمضان كان منا، ونصف من قالوا يجب على السالك ما دامه في قيد الحياة الدنيوية؛ الاحتراز عن الطعام والكلام والمنام { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } [الجمعة: 5] من القوى المكذبة القالبية والنفسية { والله لا يهدي القوم الظالمين } [الجمعة: 5] الذين ظلموا أنفسهم بكسبهم السيئات، وتكذيبهم اللطائف المنذرة { قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [الجمعة: 6] في هذه الدعوى يعني: أيتها القوى المؤمنة باللطيفة السرية من حيث الظاهر، وهي القوى التي إذا اشتغل صاحبها بالسلوك، وشاهد أنوار السر والمعارف السرية آمنت بالآيات السرية، واطمأنت بأنوارها، وظنت أن ليس وراء العبادات قربة، ورجعت إلى عالمها واشتغلت بشهواتها التي تركتها وقت سلوكها وقالت: إني وصلت فيما يضرني الاشتغال بشهوات النفس يعتريها العجب والغرور من المعارف السرية والأنوار التي تشاهدها حتى يستدرجها الحق من حيث لا يعلم، ويجعل تلك المعارف والأنوار
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفه حسابه
[النور: 39] وناقشها في المحاسبة وليس لأحد من أهل الآخرة عذاب أشد من عذابها نعوذ بالله منه، ونسأل الله العافية، وحسن المنقلب والمآب والثبات على طاعة الله، وعبوديته على وفق متابعة نبيه محمد سيد الأحباب صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
وإذا أودعتها الخفية إلى الترقي إلى عالم الخفي والحق أبت دعوتها خوضا على تركها الشهوات بعد أن قاستها في السلوك السري ورجوعها إلى مألوفات طبعها، وقالت: أنا وصلت إلى حضرة الله ولينا وهو حسبنا لا يحتاج إلى دليل غيره في طريقنا ، فيقول الله تعالى في كتابه لحبيبه: قل لهم { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [الجمعة: 6] في محبتنا عاشقين جمالنا يعني: اشتغلوا بالمجاهدة ليحصل لكم الموت الاختياري { ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم } [الجمعة: 7] يعني: لا يشتغلون بالمجاهدة ولا يجتهدون في تضعيف النفس، ولا يشتهون أن يكشف غطاؤهم بما كسبت أيديهم من الاشتغال بملاذهم العاجلة وشهواتهم الهودية { والله عليم بالظالمين } [الجمعة: 7] الذين ظلموا على قواهم بعد اشتغالهم بذكر الله، وتحصيل الاستعداد السري بالرجوع إلى مألوفات طبعهم، وتركهم السلوك والذكر.
[62.8-11]
{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } [الجمعة: 8] يعني: أنتم تفرون من الموت الاختياري، والموت الاضطراري الذي هو ملاقيكم لا محالة { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } [الجمعة: 8] في الشهادة باستيفاء حظوظهم على وفق الهوى وفي الغيبة باستعداد الوارد السري والمعارف التي حصلت لكم في سلوككم في الباطل، وكسب الشهوات النفسانية العاجلة { يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [الجمعة: 9] يعني: أيتها القوى المؤمنة إذا نوديتم للتقرب إلى حضرة الرب، والرجوع إليه من يوم الجمعة في مقام الجمع في مسجد جامع القلب بالوارد الخفي؛ فاسعوا إلى ذكر الله القلبي السري الخفي وذروا كسبكم في سوق القالب بمتاع الحياة الدنيوية النفسية بالاشتغال بالذكر القلبي والسري والخفي في تلك الساعة، وترك الأعمال البدنية والذكر اللساني، { خير لكم إن كنتم تعلمون } [الجمعة: 9] حقيقة هذا الحال؛ لأن الأعمال البدنية كانت معبرة لاستجلاب هذا الوقت، فإذا دخل الوقت المطلوب واشتغالك بأسباب وإعراضك عن المقصود يكون من ركاكة العقل، ودناءة الهمة، وخساسة النفس، ويكون مثلك مثل شخص يطلبه السلطان لتقربه إليه، ويجعله نديمه، ويشيره وهو يقول: دعوني لأن أغرس للسلطان شجرة في البستان، وأجتني ثمراتها، وآتي بها إلى السلطان، كيف يضحك أولو الألباب من قلة عقله؟ وكيف يسقط من عين السلطان لدناءة همته؟ والذي نقل عن المشايخ أنهم قالوا: صاحب الورد ملعون لأجل هذا السر، قالوا: لأن الورد معتبر ليحصل منه الوارد، فإذا جاء الوارد وهو يدفعه بورده لا يكون إلا من المبعدين من حضرة الرب، وهم أيضا قالوا: لا وارد لمن لا ورد له، فالورد مستجلب الوارد وهو المقصود من الورد { فإذا قضيت الصلاة } [الجمعة: 10] في مسجد جامع القلب بيد الوارد القدسي { فانتشروا } [الجمعة: 10] أيتها القوى المؤمنة { في الأرض } [الجمعة: 10] يعني: أرض البشرية { وابتغوا من فضل الله } [الجمعة: 10] بالكسب في سوق القالب من الأعمال الصالحة البدنية { واذكروا الله كثيرا } [الجمعة: 10] باللسان بعد الفراغ عن التوجه في مقام الجمع بالذكر القلبي والسري والخفي { لعلكم تفلحون } [الجمعة: 10] أي: تنجون من الكدورات الحاصلة في دار الكسب، وسوق القالب، والذكر اللساني يدفع الكدورات الحاصلة عند الاشتغال بالكسب في عالم الكون والفساد من غبار الطبيعة والفلاح منوط بالتزكية لا تحصل إلا بالذكر اللساني القوي الخفي على وفق قانون أهل الطريقة بشرط النفي والإثبات { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما } [الجمعة: 11] في جامع القلب وقت الحضور مع الرب، إذا رأت القوى المؤمنة عملا بدنيا أو ذوقا سمعيا يتركون اللطيفة الخفية في مقام الجمع قائما في الإمامة، وتركوا الاقتداء وخرجوا من جامع القلب إلى سوق القالب للكسب والسماع { قل ما عند الله خير } [الجمعة: 11] من المعارف الوهبية والأذواق الحاصلة من العلم اللدني في مقعد صدق { خير من اللهو } [الجمعة: 11] من الذوق السمعي { ومن التجارة } [الجمعة: 11] أي: من الأعمال البدنية والمعارف الكسبية { والله خير الرازقين } [الجمعة: 11] يرزق القوى القالبية والنفسية والقلبية والسرية والروحية والخفية والحقية بالوسائط والأسباب، ويرزقهم أيضا غير الوسائط والأسباب من عنده بلطفه وكرمه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فالواجب على السالك أن يعتبر بهذه السورة، ولا يلتفت عند ورود الوارد ونزور الواقعة بالأعمال البدنية ولا بالسماع الصورية البتة حتى يسكن سلطان الوارد ويقضي بالواقعة وطرد من السالك، ثم يرجع إلى عالم الكسب وذكر اللسان ولا يترك العقل والذكر بعد انقضاء مدة الوارد والواقعة، ولو يترك لترك وصار متروكا نعوذ بالله منه.
..
اللهم اجعلني من المحفوظين المقبولين المقبلين إليك بالكلية في جميع الأحوال بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه خير صحبة وآل.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-4]
يا أيتها اللطيفة الخفية المرسلة لا يغرنك القوى المنافقة النفسية بلين كلامهم وأيمانهم الكاذبة، وافهمي ما قال الله تعالى في كتابه الكريم لحبيبه صاحب الخلق العظيم حيث جاءه المنافقون، وقالوا له إنك لرسول الله وأضمروا خلاف ما أظهروه، وجعلوا { أيمانهم جنة } [المنافقون: 2] وسترا لأنفسهم ليغتر الرسول بكلامهم وإيمانهم، وبترك مقاتلتهم بقوله { إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون } [المنافقون: 1-2] شهد الله على رسالة الرسول أولا ثم يشهد على كذب المنافقين فيما يظهرون؛ لأن الله مطلع على ضمائرهم على أنهم أضمروا خلاف ما أظهروا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يغتر بشهادتهم وإيمانهم، فكذلك أيتها اللطيفة المرسلة ينبغي ألا يغتر بالقوى المنافقة؛ لأنهم إذا علموا منك الصدق في المجاهدة، وثبات القدم في ترك الهوى، وجاءوك ونافقوك وداهنوك والتمسوا منك أن تلقنهم الذكر، ويأخذوا منك تلقين الذكر، وكل ذلك لشعورهم بصدقك في المجاهدة لكي توافقهم وتواسيهم بأن النفس قد صارت مؤمنة، فالواجب عليك إعطاء حقها؛ لأن الله تعالى بين للسالك ثلاث مقامات في قوله:
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله
[فاطر: 32] فالسالك المبتدئ ينبغي أن يكون ظالما لنفسه يأخذ منها حقها وحظها إلا مقدار ما يبقى رمقها، ويتقوى به على الطاعة وإلى هذه النفس أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" أعدى أعدائك عدوك نفسك التي بين جنبيك "
والمقتصد هو السالك المتوسط ينبغي أن يقصد في المجاهدة ويرفق بالنفس؛ لأنها صارت في هذه المرتبة مركب للسالك وأشار إلى هذه النفس النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" نفسك مطيتك، فارفق بها "
، والسابق هو السالك المنتهي يجب عليه أن يعطي حق النفس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها صاحبة للحق حيث قال: إن لنفسك عليك حقا، فيا أيتها اللطيفة تيقني أن النفس جبلت على النفاق فما دام فيها عرق من القوى السفلية الغير المستخلصة من رذائل الأخلاق باقيا، فاحذري منها، ولا تغتري بها، وكذلك كلما وصل إليها شرب من عالم الطبيعة جدد نشاطها إلى الرجوع إلى طبيعتها، وهي كمثل القصب المقطوع إذا وجد الماء يخرج أحسن فما كان قبل القطع وقلعه لا يمكن إلا بالموت الكبير الأخير، ولأجل هذا السر أمر الله نبيه في كلامه بالعبادة حتى الموت بقوله:
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99] يعني: الموت الأخير الاضطراري لا الموت الاختياري، ولكن يكسر قوتها بالموت الاختياري بحيث يسكن سلطانها، ودخلت تحت أمر اللطيفة المرسلة، فكوني على حذر منها متى دامت متصرفة في أرض البشرية، ولا تغتروا بإيمانهم لأنهم اتخذوه جنة وسترا وصدوا وأعرضوا عن سبيل الحق بالأعمال السيئة والأخلاق الردية { ذلك بأنهم آمنوا } [المنافقون: 3] بألسنتهم { ثم كفروا } [المنافقون: 3] إذا خلوا بالقوى المشركة النفسية والقوى الكافرة القالبية؛ ليجتذبوا منهم حظوظهم اليوم والشهوات العاجلة { فطبع على قلوبهم } [المنافقون: 3] أي: ختم بالكفر حتى يسمعون منك الوارد الغض الطري { فهم لا يفقهون } [المنافقون: 3] ويقولون أنه أساطير الأولين، ونتائج طبعه المستقيم، وأنه شاعر عظيم، وساحر عليهم يسحر قلوب الخلق بكلامه الرائق، وأن فقهه علامة حياة القلب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جواب من سأله عن الخيار بقوله:
" خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا "
يعني: كل من كان له استعداد كامل في الجاهلية إذا دخل في الإسلام بشرط حياة القلب، وعلامتها فقه القلب أحكام الوارد والتذاذه به، ومعه ذلك الاستعداد، فهو يكون خيرا ممن لم يكن له استعداد مثل استعداده، وهذا أمر بين، إذا كان رجل قوي المشي وهو يقصد [السومنات] لزيادة بيت الأوثان يرجع من الكفر ويسلم ويقبل على زيارة الكعبة، ويمشي كل يوم فرسخا هو يصل إلى الكعبة قبل الرجل الذي كان ضعيف المشي، وهو مسلم عازم إلى زيارة البيت الحرام، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم
" المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف "
، فأما هؤلاء المنافقون طبع على قلوبهم لنفاقهم فهم لا يفقهون حقيقة الوارد { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } [المنافقون: 4] يعني: للقوى المنافقة النفسانية مناظر حسنة، وقوة عظيمة، وكلام رائق، وتملق تام تعجبك حسن صورتهم، ولنعوذ كلامهم { وإن يقولوا تسمع لقولهم } [المنافقون: 4] أي: الفصاحة ظاهرهم، وتشدقهم ولكنهم خشب مسندة أشباح بلا أرواح صور بلا معاني، أسندهم الله على جدار القالب، فلما خرب الجدار، سقطوا كما يقول الله تعالى { كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو } [المنافقون: 4] ويخافون من المجاهدة والمحاربة والهجرة عن مألوفات الطبع، وإذا سمعوا من قوى القلب صيحة عند الذكر يكادوا أن يموتوا من الخوف؛ لشعورهم بوصول جنود الخواطر السرية والخفية التي أي: حزب الرحمن { فاحذرهم } [المنافقون: 4] واحذر عن صحبتهم وعن استماع كلامهم، وعن مجالستهم { قاتلهم الله أنى يؤفكون } [المنافقون: 4] يعني: لعنهم الله بإفكهم كيف يؤفكون الكلام، ويصرفون الناس عن الحق.
[63.5-7]
{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم } [المنافقون: 5] عطفوا رؤوسهم، وأعرضوا وجوههم كراهية للاستغفار؛ خوفا من حرمانهم المشتهيات العاجلة، واللذات الهوائية، وإنكار يوم الجزاء.
{ ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } [المنافقون: 5] أي: معرضون وهم مستكبرون لاستكبارهم على اللطيفة المرسلة، وإبائهم الحق بالتكبر الذي حصل للقوى النفسية في الطبيعة النازية المستكنة فيها وقت تخمير طينتها، وما زكيتهم على وفق الحكمة الواردة على اللطيفة المرسلة { سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفسقين } [المنافقون: 6] يعني: أيتها اللطيفة المرسلة إن الله يعلم باستعدادهم الخبيث وفسقهم لا تستغفري لهم أن يداهنوك، ويقولوا: نحن من عشائرك ومتبعيك ومقويك؛ لأنهم فاسقون إذا واجهت العدو مالوا إلى جانب العدو،
وتركوك قآئما
[الجمعة: 11] وحيدا لن يغفر الله لهم ولن يهديهم؛ لأن الله يعلم ضمائرهم { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } [المنافقون: 7] يعني: هذه القوى المنافقة يقولون للقوى المؤمنة النفسية: لا تعطين القوى العلوية التابعة للطيفة المرسلة حظوظهم مما لا بد لهم من العالم السفلي حتى يتفرقوا، أو إذا لم يجدوا حظوظهم في ظاهركم مثل الذكر اللساني، والأعمال الصالحة التي تتعلق بالجوارح يعرضون عنكم، ويقبلون على عالمهم، ويصعدون على عالمهم، وتسترحن منهم، ولا يعلمون أن خزائن السماوات والأرض لله يرزقهم من خزائن السماوات معارف الأفعال، ومن خزائن الأرض معارف الآثار بحيث يتقوين بها، ويستغنين عن المعارف المكتسبة بواسطة القوى القالبية والنفسية، كما يقول الله { ولله خزآئن السموت والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون } [المنافقون: 7] لجهلهم بأمر الله وقدرته.
[63.8-11]
{ يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [المنافقون: 8] يعني: القوى المنافقة العزيزة في وجودهم من حيث يشاءوا { يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة } [المنافقون: 8] من هذه العزوة، وهي التي غزاها السالك في خلوته الأولى مع النفس، والنفس إلى مدينتنا القالبية.
{ ليخرجن } [المنافقون: 8] الخواطر القلبية التي آويناها في مدينتنا، وهم غرباء أذلاء، ولا يعلمون أن الغزوة لله ولرسوله وللمؤمنين، كما يقول الله تعالى: { ولله العزة ولرسوله } [المنافقون: 8] يعز رسول الله بعد هذا الغزو، ولا يقهر الأعداء ولرسوله لإعزاز الله إياه وتسلطه على القوى القالبية والنفسية، وتسخير المدينة وأهلها شاءوا أم أبوا { وللمؤمنين } [المنافقون: 8] بنصر الله إياهم على أعدائهم، وثباتهم في الجهاد، وصبرهم على الشدائد الدنيوية الفانية { ولكن المنافقين لا يعلمون } [المنافقون: 8] لأن الله تعالى طبع على قلوبهم بعزته وحكمته { يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } [المنافقون: 9] يعني: يا أيتها القوى المؤمنة لا يشغلكم استعدادكم الحاصل في هذه الغزوة في ميدان هذه الخلوة، ولا نتائج خواطركم العارفة المطلعة على بعض أسرار الآثار والأفعال عن ذكر الله؛ لأنكم إن تشتغلوا باستعدادكم ومعارفكم، وتتركوا ذكر الله بلسانكم وقلبكم بعد خروجكم عن الخلوة، وتضيعون أوقاتكم بمجالسة الأقران الذين هاجرتموهم عند دخول الخلوة، وبمدارات الخلوة بان لنا قوة الاختلاط حاصل الاستعداد حصل بنا في هذه الخلوة شغلتم عن ذكر الله { ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } [المنافقون: 9] لخسرانهم رأس مالهم بلا ربح؛ لأنك مطالب في كل نفس بعمل صالح، فلو طوعت ذلك النفس وما كسبت بذلك النفس، وهو رأس مالك في سوق الدنيا خسرت رأس مالك بلا ربح، فكما أنك تشاهد أن من أكل في الأمس طعاما لذيذا وشرابا عذبا، واليوم عطش وجاع لا ينفعه طعام الأمس وشرابه حتى يكسب طعاما وشرابا، ويأكل ويشرب ليسكن عطشه وجوعه اليومي، فكذلك كل ما حصل لك في الخلق، فإذا خرجت من الخلق، وتركت الكسب رجعت وعطشت اليوم ما ينفعك ما وجدت من قبل هذا اليوم في الخلق، فالواجب على السالك أن يجتهد في حفظ الأنفاس، ومراعاة الأوقات لئلا يضيع نفسا من الأنفاس، ولا يمشي عليه وقت من الأوقات إلا وهو ذاكر كاسب معرفة جديدة لنفسه الجديدة؛ لأن كل نفس عليه حقا كما أن له من كل نفس حظا فحظه من النفس الحياة، ومن النفس عليه ذكر الله ليكتسب به معرفة من معارف الصفات والذات، ولو غفل عن الذكر في بعض الأوقات ينبغي أن يتداركه في الغدو والآصال، ولا يجوز للسالك أن يمضي عليه يوم ولا يشتغل بالذكر على شرط النفي والإثبات بعد صلاة الصبح إلى وقت الإشراق، وعند الغروب إلى سقوط الشفق الأحمر ومن غفل في هذين الوقتين عن الذكر فهو مدع كذاب ليس من أهل السلوك، ولو كان خلا ألف خلق، { وأنفقوا من ما رزقناكم } [المنافقون: 10] من الاستعدادات القوى السفلية والعلوية { من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } [المنافقون: 10] يعني: يجب على السالك أن ينفق قواه واستعداده الحاصل في عالم البشرية على وفق أمر الوارد من قبيل أن يدخل وقت انتزاع الاستعدادات، ويكشف غطاؤه فيقول: رب لولا أخرتني لأني علمت حتى أصدق وأعمل صالحا { ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ } [المنافقون: 11] يعني: لا يمكن بعد حلول الأجل المعلوم أن يؤخر لأحد { والله خبير بما تعملون } [المنافقون: 11] يعني: عليهم بأعمالهم وضمائرهم لو ردوا لما نهوا عنه، وأنهم خلقوا مظاهر لقهره ولا يعملون صالحا، ولا ينفقون نفقة إلا رياء وسمعة، ولا يجتهدون في تزكية قواهم وتصفية نفوسهم؛ لأنهم قوم لا يعلمون حكمة إرسال اللطيفة إليهم، ولا يفقهون أحكام الوارد على اللطيفة المرسلة.
فيا أيها السالك اعتبر بهذه الآيات، واغتنم هذا التفسير، ولا تغتر بخلوتك ومعرفتك واستعدادك الحاصل في هذا الغزو، وكن ذاكرا لله على كل حال، وراقب نفسك لئلا تشتغل بالهوى، وحاسبها في كل يوم وليلة خمس مرات، وناقشها في المحاسبة، وحافظ على وقت الصبح إلى الإشراق، ومن المغرب إلى العشاء خاصة؛ لئلا تكون غافلا عن ذكر الله في هذين الوقتين؛ لتكتب في جريدة السالكين المجاهدين الذاكرين، ولا تكتب من القاعدين المتكاسلين الغافلين.
ويا أيتها اللطيفة افهمي ما كتبت هذه الأسرار إلا عن مشاهدة فثقي بقولي؛ لأنك على الخبير بها سقطت، واليوم الذي كنت مشغولا بكتابة هذه القدسية أرسل الله القوى المنافقة بعد الإشراق إلى [دعايتهم] وسمعت كلامهم، فلما رجعت عن الغيبة خرجت من الخلوة وصليت شكرا وكتبت هذه على هذه الأوراق.
اللهم وفقنا لحفظ الأوقات وعد الأنفاس، والاشتغال بذكرك الكريم بجميع الحواس، وقونا على دفع الوسواس وهي خواطر الناس بحق محمد المبعوث إلى الجنة والناس صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ذوي البأس، والتابعين لهم بإحسان صلاة لا تدخل تحت القياس.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-5]
يا طالب معرفة تسبيح أهل السماوات والأرض: اعلم أنهم يسبحون الله بألسنة أحوالهم كلهم على قدرهم مما وصل إليه [من] رشاشة نور جوده الذي صار به موجودا، وظهر من كتم العدم إلى صحراء الشهادة، وبه قائما، وبه حيا، وبه باقيا، وبه عارفا، واقرأ ما يقول الله تعالى في كلامه القديم، وكتابه الكريم - متدبرا مرتلا لتفهم حقيقة تسبيح ما في السماوات وما في الأرض حيث يقول -:
{ يسبح لله ما في السموت وما في الأرض } [التغابن: 1]، يعني: ينزهونه عن أن يكون في السماوات والأرض؛ لأنه كان قبل خلق السماوات والأرض، وينزهونه عن أن يعزب عنه مثقال ذرة في الأرضين السفلى والسماوات العلى،
يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها
[سبأ: 2] { له الملك } ، في الشهادة خلقا، { وله الحمد } [التغابن: 1]، في الملكوت حقا، يعني: مع كمال قدرته ما تصرف في ملكه إلا حكمة وعدلا، { وهو على كل شيء قدير } [التغابن: 1]، فيا أيها السالك ينبغي أن تعلم أنه خلق في أرض بشريتك قوى قابلة مظاهرة لصفة ربوبيته، وخلق في سماوات روحانيتك قوى فاعلة مظاهر الصفة فاعلية، وألف ازدواجا بين السفليات والعلويات بحكمته؛ ليظهر لطيفة مجتمعة فيها القوى القابلة والفاعلة لتكون خلفته لذاته وصفاته وفي أرضه وسمائه، وسبحت له بجميع الألسنة والقوى المتفرقة.
واعلم أن إشارته في قوله: { له الملك وله الحمد } إشارة إلى الملك والملكوت؛ لأن موجب إظهار الملك هو الحمد، والحمد ملكوتي، والحميد جبروتي، والذات التي [لها] صفة الحميد لاهويته، وفي كشف هذا السر يفتح باب إلى حد القرآن [فسددته].
{ هو الذي خلقكم } [التغابن: 2]، من المفردات، ثم جمع أفراد المركبات السفلية والعلوية في قالب الإنسان وروحه، وخلقه
في أحسن تقويم
[التين: 4]؛ { فمنكم كافر } [التغابن: 2]، مظهر لقهره، { ومنكم مؤمن } [التغابن: 2]، مظهر للطفه، [و] القوى الأمارة الكافرة والقوى اللوامة المؤمنة جمعت في وجود بني آدم بقدرته؛ فمن اقتدت باللطيفة المبلغة وزكت قواها من رذائل الأخلاق المظلمة الترابية، والصفات المردية المائية، والخصائل المعنوية الهوائية، والدعاوية المهلكة النارية، وصفت أعمالهم عن قاذورات اجتماع هذه العناصر الغير المزكية، وطهرت باطنها عن جنابة محبة الدنيا الدنية؛ صارت لطيفة باقية منعمة أبد الآباد، { والله بما تعملون بصير } [التغابن: 2]، من الخير والشر، والسعيد سعيد في الأزل، والشقي شقي لم يزل.
قال الشيخ أبو يزيد البسطامي قدس سره: كل الناس يخافون من الخاتمة، وإنا أخاف من السابقة، جف القلم بما هو كائن،
ما يبدل القول لدي ومآ أنا بظلام للعبيد
[ق: 29] انتهى.
وكيف يتصور الظلم ونحن نغرس أصل العنب في البستان، ونسقيه من الماء ونربيه حتى يثمر العنب ونجنيه، ونعصره ونأخذ منه صفاؤه، ونجعل منه الحلاوة، ونهرق على وجه الأرض العصارة المكدر وهو يقول بلسان الحال - إذا [نظر] إلى وجهها الأسود بإدراكها الذي حصل لها في العروج طورا طورا حتى وصل إلى [العينية بالرائية] -:
يليتني كنت ترابا
[النبأ: 40] كما كنت في الأرض قبل التركيب والتربية والعروج، ولما كان إلى الشعور على سوادية على شقاوتي، وعلى أني مستحق تحت قدم الخلق، وما كان هذا ظلما ينسب إلى الدهقان؛ فكيف يتصور أنه تعالى ظلم على أحد؟! فكما كان استعداد كل أحد وحظه واحد من صفات لطفه [أو] قهره وقت التربية ظهر في العصر صفاء، وفي العصارة كدر، وتحقيق هذا السر يختص بمطلع القرآن؛ فافهم أن الله تعالى خلق الخلق بحكمته، ورباهم بصفات قهره ولطفه، وأرسل إليهم الرسول عليه السلام ليهديهم إلى سبيل التصفية والتنقية والتزكية والتربية؛ فمن كان صالحا للتربية صدق الرسول عليه السلام واشتغل بما أمر به، ومن كان فاسدا كذب الرسل، وأقام على طبيعته المكدرة، و
ما على الرسول إلا البلاغ
[المائدة: 99]، ولا يقدر أحد أن يهدي أحدا بغير إذن الله، كما يقول في كتابه:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص: 56]، ويقول:
إنك لا تسمع الموتى
[النمل: 80]، وما أنت إلا نذير.
فيا أيتها اللطيفة المنذرة: أنذري جميع القوى عشيرتك الأقربين أولا، ثم أنذري من كان حول مكة وجودك من الأقربين والأبعدين، ثم أنذري جميع القوى التي في ملكك وملكوتك من القوى الترابية الأنسية ومن القوى النارية الجنية، لأنك أرسلت إلى كافة الخلق بشيرا ونذيرا.
{ خلق السموت والأرض بالحق } [التغابن: 3]، يعني: خلق سماوات روحانيتك اللطيفة، وأرض بشريتك الكثيفة، من لطفه وقهره بالحق؛ ليظهر منها لطيفة مستحقة لمظهرية ذاته، والمفردات ما كانت مستحقة لمظهرية ذاته؛ لأن المفردات مظاهر [لطافات] أفعاله، والمركبات السفلية مثل المعادن والنبات والحيوان ما كانت مستحقة لمظهرية ذاته أيضا؛ لعدم اللطائف العلوية فيها، والمركبات العلوية قوى فاعلات، واللطائف السفلية قوى قابلات؛ فلأجل هذا جمعت في [نشأة] الإنسان صارت مظاهر لذاته، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" خلق الله آدم على صورته "
، ولهذا السر قبل حمل الأمانة { وصوركم فأحسن صوركم } [التغابن: 3]، كما بينا { وإليه المصير } [التغابن: 3]، بعد خراب البدن، واكتساب استعدادات المظهرية مرجع الإنسان إلى حضرته.
{ يعلم ما في السموت والأرض } [التغابن : 4]، كما أشرنا إليه { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } [التغابن: 4]، لأنه معهم، ويطلع على قوى سرهم وقوى علانيتهم، { والله عليم بذات الصدور } [التغابن: 4]، لأن فساد عالم كونك وصلاحه مربوط بسماء الصدر التي هي سماء الدنيا، وهي ذات البروج.
{ ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل } [التغابن: 5]، من قوى القالبية الكافرة؛ { فذاقوا وبال أمرهم } [التغابن: 5]، يعني: جزاء أعمالهم، والعذاب الذي لحق بهم من مشتهياتهم العاجلة، { ولهم عذاب أليم } [التغابن: 5]، مدخر في دار الآخرة بعد خراب البدن.
[64.6-8]
{ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } [التغابن: 6]، يعني: اللطائف المرسلة المنذرة والمبشرة، أتوا إلى القوى القالبية والنفسية بالآيات الأنفسية البينة؛ { فقالوا } [التغابن: 6]، يعني: القوى القالبية والنفسية { أبشر يهدوننا } [التغابن: 6]، يعني: هذه اللطائف أيضا من أصل عنصرنا يهدوننا؛ { فكفروا وتولوا } [التغابن: 6]، أي: أعرضوا عن اللطائف المرسلة، { واستغنى الله } [التغابن: 6]، عن إقبالهم على اللطائف المرسلة، وإيمانهم بما جاءوا؛ لأن الله خلقهم مظاهر صفات لطفه وقهره، من أعرض صار مظهرا لقهره، ومن أقبل صار مظهرا للطيفة اللطيفة، والله مستغني عنهم؛ ولكنهم متألمون إذا صاروا مظاهر قهره، متنعمون إذا صاروا مظاهر لطفه؛ لوجدانهم الألم المقيم والعذاب الدائم الأليم، ووجدانهم لذة السرور والحضور في دار النعيم؛ فلأجل هذا غير مستغنين عن أن يؤمنوا ليتخلصوا من العذاب ويستسعدوا باللذات { والله غني } [التغابن: 6]، يعني: عن إيمان المؤمن والكافر، { حميد } [التغابن: 6]، في أفعاله لإتمام المظاهر.
{ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } [التغابن: 7]، من قبور القالب { قل بلى وربي لتبعثن } [التغابن: 7]، قل يا أيتها اللطيفة الحقية: بلى وحق ربي لتبعثن من قبور القالب { ثم لتنبؤن } [التغابن: 7]، أي: لتجزن { بما عملتم } [التغابن: 7]، في دار الكسب باستعداد القوى السفلية والعلوية { وذلك على الله يسير } [التغابن: 7]، يعني: بعثكم وحسابكم بعد خلقكم أهون من خلقكم قبل وجودكم.
{ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا } [التغابن: 8]، يعني: أيتها القوى القالبية والنفسية آمنوا بالذي خلقكم وصوركم في أحسن صورة، وباللطيفة المرسلة إليكم وبالنور الوارد الذي أنزلنا عليها { والله بما تعملون خبير } [التغابن: 8]، من النقير والقمطير.
[64.9-11]
{ يوم يجمعكم ليوم الجمع } [التغابن: 9]، يعني: يوم جمع المتفرقات من القوى العلوية والسفلية وآثارها { ذلك يوم التغابن } [التغابن: 9]، لاطلاع القوى الكافرة على اتباعه استعدادها في استعمالها في الباطل، واطلاع القوى المؤمنة على تضييع وقت من أوقاتها ونفس من أنفاسها في غير ذكر الله، و [ضيعته] في ذلك النفس الذي هو ظرف له ليضع فيه ما يدخر له في هذا اليوم؛ فإذا رأى ظرفه خاليا من النعم يتحسر على غبنه، وإن كان - نعوذ بالله - مملوءا من الحيات والعقارب والقاذورات؛ فيلدغنه ويلسعنه ويؤذينه تنبيها؛ فهو الخسران العظيم والعذاب الأليم، تفكر واحذر، واجعل في ظرفك ما تتنعم به أبد الآباد، ولا تجعل فيه ما يتألم بمشاهدته يوم يكشف الغطاء خالدا مخلدا، { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته } [التغابن: 9]، يعني: من يؤمن من قوى النفس اللوامة والقوى القالبية المتطهرة بالله اليوم قبل كشف الغطاء، ويعمل صالحا، ويضع في ظرفه الصالحات، يكفر عنه ما سلف من السيئات، ويخرج من ظروفه الفاسدة التي وضع فيها من قبل، { ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } [التغابن: 9]، يعني: يدخله جنات قلبه التي تجري من تحتها الأنهار [بالمعارف]، { خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم } [التغابن: 9]، لأنه تعود أبد الآباد بعمل قليل في أيام قلائل فانيات.
{ والذين كفروا وكذبوا } [التغابن: 10]، من القوى القالبية والنفسية { بآيتنآ } [التغابن: 10]، الأنفسية مما شاهدتها { أولئك أصحب النار } [التغابن: 10]، التي استعملوها في أنفسها من نيران الغضب والبغض والكبر والحسد، { خلدين فيها وبئس المصير } [التغابن: 10]، يعني: بئس مرجع القوى الكافرة المكذبة.
{ مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } [التغابن: 11]، يعني: ما أصاب من خير وضر إلا بمشيئته وقضائه، في ملكه وملكوته، { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [التغابن: 11]، يعني: من يؤمن بالله من القوى القالبية والنفسية، يهد قلبه بنور الوارد؛ بأن يجعل له يقينا، ما أراد الله أن يصيبه من القبض والبسط لم يخطئه، وما لم يرد لم يكن ليصيبه، ولو كان الجن والإنس بعضهم لبعض ظهيرا لا يقدرون على إصابة مصيبة خيرا أو شرا إلى شخص من الآفاق والأنفس مما لم يرد الله إصابته إليه، { والله بكل شيء عليم } [التغابن: 11]، يعني: باستحقاق كل استعداد للخير والشر؛ فيرسل إليه على قدر استحقاق الاستعداد.
[64.12-14]
{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [التغابن: 12]، يعني: يا أيتها القوى القالبية والنفسية أطيعوا أمر الحق، وأطيعوا أمر اللطيفة المرسلة، { فإن توليتم } [التغابن: 12]، وأعرضتم عن الحق بإقبالكم على الباطل، واستيفاء النعم العاجلة على وفق الهوى؛ { فإنما على رسولنا البلاغ المبين } [التغابن: 12]، يعني على اللطيفة المرسلة أن تبلغ أحكامنا وتبين لكم حلالنا وحرامنا.
{ الله لا إله إلا هو } [التغابن: 13]، يعني: لا ينبغي أن يعبد الهوى؛ لأن الذي خلق الكل هو الإله المعبود، وليس وجود يستحق للآلهة إلا هو، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [التغابن: 13]، يعني: القوى المؤمنة يتوكلون على الله في ضراء المجاهدة وسراء المشاهدة، في بلاء القبض ونعماء البسط.
{ يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } [التغابن: 14]، يعني: يا أيتها القوى الروحية اعلموا أن القوى القالبية والنفسية عدو لكم لجهلهم بالحقيقة ونظرهم إلى الشهوة العاجلة؛ فاحذروهم ولا تلتفتوا إلى ما يطلبون منكم من مشتهياتهم الهوائية؛ فينبغي للسالك أن يحذر من القوى القالبية التي منعها عن الهجرة من مكة وجوده إلى مدينة رسوله، أو يخاف من القوى النفسية التي يطلب منها شهوتها، وهو بالشفقة عليها يتبع مرادها وهواها ويشتغل عن ذكر مولاه، { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا } [التغابن: 14]، يعني: لا يمنع القوى القالبية والنفسية السالك المجاهدة من الهجرة عن مألوفاته مع أعدائه { فإن الله غفور رحيم } [التغابن: 14]، يعني: يغفر لسيئات ارتكبت القوى من قبل، ويرحم لها.
[64.15-18]
{ إنمآ أموالكم وأولادكم } [التغابن: 15]، يعني: استعداداتكم السفلية والعلوية، والأعمال المتولدة من اختياراتكم الوهبية { فتنة } [التغابن: 15]، [أي] شغل عن الحق وذكره، بها يقع الشخص في الشهوات العاجلة الهوائية، وبها يقع في العجب والغرور والإباء والاستكبار، { والله عنده أجر عظيم } [التغابن: 15]، لمن لا يكسب باستعداده الاختيار لهوى نفسه ما لا يرضى به ربه؛ ولكن لا يلتفت إلى قواه القالبية والنفسية وقت الهجرة والجهاد، ولا يغتر بهجرته وجهاده عند الله { أجر عظيم } مقيم في دار النعيم.
{ فاتقوا الله ما استطعتم } [التغابن: 16]، يعني: أيتها القوى الروحانية المؤمنة اتقوا الله من الالتفات إلى أزواج قوى قالبكم، وأولاد قوى أنفسكم وأموال استعدادكم { ما استطعتم } يعني: بقدر ما أعطيناكم القوة الاختيارية { واسمعوا } [التغابن: 16]، أمر الوارد { وأطيعوا } [التغابن: 16]، حكم اللطيفة المبلغة { وأنفقوا } [التغابن: 16]، من المعارف { خيرا لأنفسكم } [التغابن: 16]، ليكون لكم مدخرا في دار إقامتكم، يعني: ينبغي أن ينصح السالك بالمعارف التي أعطاها الله لقواه، وأن يعطي حقوقها على وفق أمر الحق من العلويات والسفليات { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [التغابن: 16]، يعني: ينبغي أن يعطي حقوقهم، ونفسه مائلة إلى ذلك الحق؛ ليكون شاقا على نفسه، وبه يحصل التزكية [لنفسه] عن البخل، ومن يعط حق الله القوي ونفسه شحيح صحيح فهو من المفلحين.
{ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم } [التغابن: 17]، يعني: أن يعط القوى القالبية والنفسية من المعارف القلبية؛ ليهتدوا بها يضاعف الله تلك المعارف لكم { ويغفر لكم } [التغابن: 17]، إن كنتم بخلتم بها قبل ذلك عن مستحقها، { والله شكور حليم } [التغابن: 17]، يعني: حلم عنكم فلم يعاقبكم بما سلف، وشكر لكم على ما أعطيتموه بعد ذلك.
{ عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } [التغابن: 18]، يعني: يعلم ما في القوى الغيبية من الأوصاف الجيدة والردية، وما على الجوارح من الأعمال الفاسدة والصالحة، غالب على أمره إن شاء يعاقب بها وإن شاء يعفو عنها، حكيم بالعفو والعقوبة، إن يعفو فحكمته، وإن يعذب فبحكمته، فحظ السالك من تفسير بطن هذه الآيات أن لا يبخل عن المريد بأموال الظاهر والمعارف الباطنة بقدر استحقاق المريدين واحتياجهم إليها، وحظ السالك أن يعطي لكل ذي حق من قواها حقها على وفق أمر المولى من الحقوق العلوية والحظوظ السفلية. اللهم اجعلنا من أهل السخاوة والجود لوجهك الكريم بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1-2]
يا أيها المطلق أما تعلم أنك مقيد بالأمر والنهي، غير مطلق ما دمت في سجن القالب وقيد الطبيعة محبوسا؛ فإذا أنت تشتهي أن تطلق القوة القالبية - [النفورة] عن قبول الحق، الخائنة في أمانة الأسرار - فاقتف أثر نبيك عليه الصلاة والسلام، وافهم ما قلنا له في الكلام، وبينا له فيه الحلال والحرام حيث قلنا: { يأيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن } [الطلاق: 1]، يعني: لطهرهن الذي تحصينه من عدتهن؛ فينبغي للسالك أن لا يطلق القوة القالبية بتة البتة، ويطلقها على وجه السنة في الطهر من علة إبائها الحق عند غلبة دم محبة الدنيا عليها، أو حمل خاطر الهوى، وهاتان الحالتان حيضها ونفاسها، والحكمة في تأخير الطلاق إلى وضع الحمل ووقت الطهر: رحمة الحق ورأفة على الخلق؛ فربما ترجع القوة العاصية القابلة بعد خلاصها من دم محبة الدنيا، ووضع حمل خاطر الهوى، كما يقول الله تعالى: { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } [الطلاق: 1]، وينبغي للمسلك أن لا يطلق مريدا دخل في حبالة ولايته لترك أدب من الآداب - عند اتساع مجاري شيطانه، لاشتغاله بالاستراحة على خلاف عادته، وتصرف الهوى في باطنه - حتى يطهر باطنه عن هاتين العلتين؛ فربما يتوب إلى الله، ويرجع عن فعله، ويستغفر بين يدي شيخه، ويجعل الله قبوله في قلب مسلكه أكثر مما كان قبل ذلك، { وأحصوا العدة } [الطلاق: 1]، يعني: عدد أقرائها ليعلم بقاء زمان الرجعة، ومراجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى إذا أراد أن يطلقها ثلاثا، وإحصاء السالك عدد أقراء القوة القابلة كل يوم خمس مرات في أوقات الصلاة، ومراعاة خاطرها بالخواطر الكلية المبشرة لها، ومراعاة السكنى أن يسكنها في بيت الرخصة، ولا يشدد عليها بأمر العزيمة، { واتقوا الله ربكم } [الطلاق: 1] عن التشديد عليها، وإخراجها عن بيت الرخصة كما قال تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } [الطلاق: 1]؛ يعني: ينبغي للقوى الفاعلة أن لا يخرجوهن من بيوتهن أي: القوى القابلة، ولا القوى القابلة يخرجن من بيوت زوجهن ما لم ينقص، وإن خافت من خراب البدن وخراب بيته يكون من شدة غيرة القوى الفاعلة، وغلبة حميتها في شرح السلوك، يجوز للقوة القابلة أن تخرج من بيت الزوج إلى بيت أمها وهي: بيت القالب وبيت الشبهة، وإن دخلت بيت الحرام وهو: الهوى يجب عليها الرجم { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } [الطلاق: 1]، يعني: لا يجوز للقوة الفاعلة إخراج القوة القابلة عن بيتها إلا أن تأتي القوة القابلة بفاحشة وهي الكفر، { مبينة } بلسانها غير أن تكن في صدورها { وتلك حدود الله } [الطلاق: 1]، حدود بينه على الخلق { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [الطلاق: 1]، فالواجب عليه اتباع الأمر والنهي، والتباعد عن الابتداع في العبادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كل بدعة ضلالة "
، و " كل عمل لا يعمل بسنتي فهو بدعة " ، { لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } [الطلاق: 1]، يعني: إن كنت لا تخرجها يمكن أن يحدث الله في قلبها توبة وإنابة وندامة على فعلها، وترجع عن فعلها وتستغفر، ويجعل الله في قلبك شفقة عليها جديدة محدثة.
{ فإذا بلغن أجلهن } [الطلاق: 2]، يعني: قربن من انقضاء عدتهن؛ { فأمسكوهن بمعروف } [الطلاق: 2]، يعني: راجعوهن باللطف، وعدوهن من الله رحمة ومغفرة، وقووا خاطرهن بالخواطر اللطيفة والواقعات القلبية والسرية والرحمية والخفية والتجليات الجمالية، { أو فارقوهن بمعروف } [الطلاق: 2]، أي: اتركوهن بمعروف يعني: لا تأخذ القوة الفاعلة المعارف الروحانية منها؛ فربما يدخل عليها السرية والخفية ويجعل بعد ذلك على الروح الدخول فيها، وألف بينهما المؤلف الحقيقي، { وأشهدوا ذوى عدل منكم } [الطلاق: 2]، يعني: أشهدوا على الرجعة أو الفراق النفس اللوامة والملهمة، والحكمة في هذا الإشهاد أن اللوامة ربما تلومها فيرجعان، والملهمة ربما تلهمها بالخير [فتعان] { وأقيموا الشهادة لله } [الطلاق: 2]، يعني: ينبغي أن الشهود يقيموا شهادتهم بالصدق بالله عند قاضي العقل، { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } [الطلاق: 2]، يعني: بينا هذه الحدود ليتعظ بها القوة المؤمنة المصدقة باليوم الآخر، لئلا يستعجل في الأمور، ولا يظلم على القوى القابلة الضعيفة، وحمل المجاهدة عليها فوق طاقتها، وتتعظ بها القوة المؤمنة القابلة، ولا يأذن للهوى أن يدخل عليها، ولا يأبى أمر القوة الفاعلة بالنشوز، { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } [الطلاق: 2]، يعني: من يخش الله من القوة الفاعلة والقابلة، ولا يتعد حدود الله، ويجتنب عن الفواحش، يجعل له مخرجا من خواطر الشيطان، ومخرجا من ضيق الهوى.
[65.3-5]
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } [الطلاق: 3]، من اللطائف الخفية، والمعارف الإلهية، والتجليات الجمالية، من حيث لا يحتسب، وهذا مما جربناه كثيرا، إن لطف يصل إلى السالك وقت [يأنسه عند] نزول الوارد اللطفي، { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3]، يعني: من يتوكل حال القبض ونزول البلاء، ويعلم أن القابض هو الله، والمبلي هو، ويكل أمره إليه، حسبه هو من تدبيراته التي تشوشه ولا يكون إلا ما أراد الله وقوعه.
{ إن الله بالغ أمره } [الطلاق: 3]، يعني: فنفذ قضاؤه لا محالة.
قال سيدنا علي رضي الله عنه: إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور. { قد جعل الله لكل شيء قدرا } [الطلاق: 3]، يعني: حالة القبض مقدرة، وحالة البسط مقدرة؛ فينبغي أن لا تضجر عند القبض ولا تقنط من رحمة الله، ولا تأمن حالة البسط من مكر الله وتكون بين خوف ورجاء ما دمت في سجن القلب محبوسا؛ لأن الخوف المفرط المثمر لليأس يهلك صاحبه بالكفر، والرجاء المفرط للأمن أيضا يهلك صاحبه بالخسران؛ فالواجب للسالك أن يعلم أن الله بصير بحاله رحيم رءوف عليه، ويقول:
وكلت إلى المحبوب أمري كله
فإن شاء أحياني، وإن شاء أتلفا
أنا العبد وما للعبد غيره، { واللائي يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم } [الطلاق: 4]، يعني: شككتم فلم تدروا ما عدتهن { فعدتهن ثلاثة أشهر } [الطلاق: 4]، وحظ السالك من هذه الآية يعني: إذا كانت القوة القابلة في غفران إرادتها يجب مراعاتها أكثر من مراعاتها القوة القابلة التي بردت حرارتها وتوجهت قوة استعدادها إلى الانحطاط، وإن إرادة القوة الفاعلة تطليقها وتطليقها على وجه السنة وانقضاؤها بعد ثلاثة أشهر مطمئنة وملهمية ولوامية؛ فإذا رجعت القوة القابلة راكضة على عقبها إلى أماريتها تمت عدتها، { واللائي لم يحضن } [الطلاق: 4]، وهي القابلة الناقص استعدادها حكمها حكم الآيسات، { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [الطلاق: 4]، يعني: القوة الحاملة خاطر الهوى عدتها وضع حملها، { ومن يتق الله } [الطلاق: 4]، بعد الوضع ولا يلتفت إلى خاطر الهوى { يجعل له من أمره يسرا } [الطلاق : 4]، يعني: يسر الله أمره بالتوبة وسهل عليه سلوك الطريق.
{ ذلك أمر الله } [الطلاق: 5]، يعني: ما ذكر من الأحكام والحدود { أنزله إليكم } ، بالوارد الجلي { ومن يتق الله } [الطلاق: 5]، ولا يشك في أحكام الوارد ويتوب إليه { يكفر عنه سيئاته } [الطلاق: 5]، التي سلفت من النفور عن أمر الولي والالتفات إلى خاطر الهوى { ويعظم له أجرا } [الطلاق: 5]، بأن الله يبدل - بلطفه - سيئاتهم حسنات، وهذا مما شاهدنا في أثناء السلوك دائما يذنب السالك ويخاف من ذلك الذنب يسد عليه باب المكاشفات والمشاهدات؛ [فربما] يفتح عليه أبواب المكاشفات والمشاهدات أكثر مما كان قبل حدوث ذلك الذنب، ويتفق هذا لصادق إذا اعترى عليه عجب من كثرة مجاهدته وصفاء أعماله؛ فأجرى عليه ذلك الذنب ليذهب بعجبه، ويظهر فيه الإفلاس، والمسكنة، والعجز، والاضطرار، وتعيير نفسه والنظر إليها بعين الحقارة، وكل هذا بقبول الحضرة الإلهية؛ فإذا خاف على ذنبه وأيس من نفسه وعمله يبدل الله سيئاته حسنات، ويفتح عليه أبواب المكاشفات والمشاهدات والواقعات مما يتعجب السالك من تلك الفتوحات.
[65.6-7]
{ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } [الطلاق: 6]، يعني: القوة القابلة المطلقة أسكنها من حيث يسكن من وجود الوجد الغيبي والمعارف القلبية، ووسع معيشتها من المعارف والواردات { ولا تضآروهن } [الطلاق: 6]، أي: لا تؤذونهن بالمجاهدات الشاقة على البدن { لتضيقوا عليهن } [الطلاق: 6]، مساكنهن في بيوتكم بحيث يضطرون إلى الخروج إلى بيت القالب أو بيت الهوى؛ فإن ذلك التضييق كان ذنبا لكم { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } [الطلاق: 6]، من النصائح والمواعظ والمعارف حتى يضمن حمل الخواطر الهوائية { فإن أرضعن لكم } [الطلاق: 6]، يعني: إن أرضعن ولدكم وهو: عملكم البدني؛ بأن يرضع قوتك القالبية ليعمل بها { فآتوهن أجورهن } ، على إرضاعهن أولاد أعمالكم الصالحة من المعارف الغيبية والخواطر القلبية والأصوات الحسية السمعية { وأتمروا بينكم بمعروف } ، أي: يقتصدوا في الأخذ والإعطاء ولا يقصدوا القرار من الجانبين { وإن تعاسرتم } [الطلاق: 6]، في الأجرة والإرضاع؛ فليس للقوة الفاعلة إكراه القوة القابلة، ولكنه يستأجر للصبي مرضعا غير أمه؛ فينبغي للسالك في هذا المقام أن يتوجه بالكلية إلى الله، ولا يشتغل بغيره، ويدخل خلوته ويسد عليه بابه، إن أراد الله حياته وقيامه يرسل إليه شرابه وطعامه [من] عالم الغيب، بحيث لا يكون له احتياج إلى طعام المخلوقين، ويرضع أطفال العمالة الصالحة من ثدي القلب في القلب، أحسن مما كان يرضعه من ثدي القلب في عالم الشهادة { فسترضع له أخرى } [الطلاق: 6]، إشارة إلى هذا.
{ لينفق ذو سعة من سعته } [الطلاق: 7]، يعني: قدر غناه، والغنى غنى القلب، { ومن قدر عليه رزقه } [الطلاق: 7]، يعني: ضيق عليه رزقه من عالم المكاشفات والمشاهدات { فلينفق ممآ آتاه الله } [الطلاق: 7]، يعني: ينفق استعداده الحاصل من تلك المشاهدات السابقة { لا يكلف الله نفسا إلا مآ آتاها } [الطلاق: 7]، يعني: الله يعلم بما أعطى كل شخص من الاستعداد؛ فإن لم يعطه استعداد لا يكلفه على إنفاقه، ولا يعذبه على ترك الإنفاق إن لم يكن له استعداد وهبي ولا كسبي؛ فالواجب على المسلك أن لا يبخل على مريديه بما آتاه الله من المعارف ما يصلح لحوصلة كل واحد منهم، وإن ضيق الوقت عليه، ولا يرد الوارد الجديد؛ فعليه أن ينفق على المريدين من المعارف السمعية، والمعارف التي كشفت عليه من قبل دخول حال النكرة { سيجعل الله بعد عسر يسرا } [الطلاق: 7]، يعني: بعد عسر النكرة يسر المعرفة للمسلك المنتهي، وبعد عسر القبض يسر البسط للسالك المتوسط، وبعد عسر المجاهدة يسر المشاهدة للمبتدئ.
[65.8-10]
{ وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } [الطلاق: 8]، يعني: كل أهل قرية قالب وأشار إلى القوى القالبية في هذه لأنها إذا عتت وعصت أمر ربها، ورسل الرب وهي: الخواطر الرحمانية { فحاسبناها حسابا شديدا } [الطلاق: 8]، وشدة حسابها أن يوكل عليها القوة القلبية ليحاسبها في كل نظرة ولقمة { وعذبناها عذابا نكرا } [الطلاق: 8]، من إبطانها في مقام النكرة.
{ فذاقت وبال أمرها } [الطلاق: 9]، يعني: ذاقت من مرارة المجاهدة والقبض والنكرة جزاء ما عملت بخاطر الهوى، واشتغلت بشهواتها العاجلة الردية { وكان عاقبة أمرها خسرا } [الطلاق: 9]، يعني: بعد أن يقاسي في الدنيا بمرارة المجاهدة والقبض والنكرة إن [ثبتت] على متابعة الهوى فيكون عاقبتها أيضا خسرانه رأس ماله في المجاهدة، وما حصل له ربح المشاهدة، نعوذ بالله من مثل هذا في الدنيا والعقبى.
{ أعد الله لهم عذابا شديدا } [الطلاق: 10]، يعني: في الآخرة بما كسبوا في الدنيا، وهو عذاب الاطلاع على خسران رأس المال بلا ربح، وهو الفقر المذموم { فاتقوا الله } [الطلاق: 10]، عن العتو والعصيان { يأولي الألباب الذين آمنوا } [الطلاق: 10]، يعني: أيتها القوى المؤمنة الأئمة { قد أنزل الله إليكم ذكرا } [الطلاق: 10].
[65.11-12]
{ رسولا } [الطلاق: 11]، يعني: الوارد رسولا يدل على الذكر يعني: أنزل الله إليكم رسولا وهو اللطيفة المبلغة { يتلوا عليكم آيات الله مبينات } [الطلاق: 11]، يعني: يتلو عليكم آيات أنفسكم مبينات بحيث تشاهدونها في أنفسكم.
{ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } [الطلاق: 11]، يعني: يخرج القوى المؤمنة التي اشتغلت بالأعمال الصالحة لها في دار البقاء من ظلمات القالب والطبيعة إلى نور العقل والنور { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا } [الطلاق: 11]، القوى القالبية { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } [الطلاق: 11]، يعني: يدخله جنات القلب التي تجري من تحتها أنهار المعرفة { خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا } [الطلاق: 11]، من عنده مثل مشاهدة جماله.
{ الله الذي خلق سبع سموت } [الطلاق: 12]، أطوار القلب { ومن الأرض مثلهن } [الطلاق: 12]، أي من القالب سبعة أعضاء { يتنزل الأمر بينهن } [الطلاق: 12]، يعني: الأمر السماوي وقت التدبير ينزل إلى الأرض ويحصل من القوى الأرضية استعداد العروج، ويعرج إلى الحضرة الربانية كما بينا في كثير من [مولاتنا] حقيقة النزول وحكمة العروج { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير } [الطلاق: 12]، يعني: يقدر على أن يدع الأمر في ظلمات الأرض ليكسب [الاستعداد] ويدس أنواره السماوية في تراب الطبيعة وتهوي إلى أسفل الدركات، ويقدر أن يحدث الاستعدادات القالبية الظلمانية بقوة الأمر من أسفل سافلين الدركات الطبيعية الجسمانية إلى أعلى عليين الروحية الرحمانية { وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } [الطلاق: 12]، يعني: ليعلموا أن علم الله محيط بالأرضيات والسماويات، يعلم استعداد [كل] لطيفة أرضية خلقية، ولطيفة سماوية أمرية، ويستعملها على قدر استعدادها، وهو غالب على أمره، حاكم في ملكه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا تجعلنا مقيدين بقيد الطبيعة، [مغلولين] في أسر الهوى، وثبتنا على متابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الجزاء.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-4]
يا أيها المحرم على نفسك لابتغاء مرضاة اللطيفة القابلة - التي هي زوجك عند مشاهدتها بعد رفع الحجبات المظلمة في أثناء السلوك آيات الأنفسية، وإطلاعها على حصول الحجبات من اللقمات، والاشتغال بالشهوات - ما أحل الله لك من الحظوظ المباحة التي بها يمكن بقاء الحقوق، أما تسمع ما يخاطب ربك به حبيبه عليه السلام في كلامه القديم حيث يقول: { يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } [التحريم: 1]، وتحرم ما أحل الله لك بحكمته، وفيه مزيد درجتك وقوة ارتقائك إلى عالم الحق، وبه يمكن التجاوز على عالم الروحانية، أما تعلم أني لا أحب المعتدين كما لا أحب المسرفين؛ فالإسراف إفراط، والاعتداء تفريط، وكلاهما مذمومان، وأنت خير الناس وأحب الخلق علي؛ فكن أمة وسطا قائما على الصراط المستقيم بين الإفراط والتفريط { والله غفور رحيم } [التحريم: 1]، يعني: غفور اللمة التي صدرت عنك بتحريم ما أحل الله لك { رحيم } عليك بأمره، كلوا وأشربوا، ورخصته لك في الاشتغال بالشهوات المباحة المصعدة إلى الحق.
{ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } [التحريم: 2]، يعني: ما وجب عليكم أن تكفروها إذا حنثتم، والسنة لأجل هذا وردت: بأن الرجل إذا حلف أن لا يتكلم مع والديه، ورأى الاشتغال بذلك خيرا وأحب عند الله فليتكلم؛ وليكفر عن يمينه { والله مولاكم } [التحريم: 2]، يعني: نصيركم ووليكم ومعينكم { وهو العليم الحكيم } [التحريم: 2]، يعلمكم بعلمه القديم ما كان فيه لكم خير عظيم، وبحكمته خلقكم محتاجين إلى الأكل والشرب والنكاح؛ ليقرب البعيد برحمته، ويبعد القريب بعزته، ويبقي النسل بحكمته.
{ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه } [التحريم: 3]، يعني: إذ أسر اللطيفة الخفية إلى بعض قوى اللطيفة القالبية { حديثا } [التحريم: 3]، من الحقائق { فلما نبأت به } [التحريم: 3]، يعني: تلك القوة بذلك الحديث { وأظهره الله عليه } [التحريم: 3]، يعني: أطلع الله اللطيفة على ما أنبأت القوة نظائرها { عرف بعضه } [التحريم: 3]، أي: غضب بما عرف بعضه؛ فلعله من إفشاؤه سره يعني: أخبرت اللطيفة القوة القابلة بحقيقة سر الربوبية المودعة فيها، وبحقيقة سر الخلافة المودعة؛ فما الروح، أو على ترك ما يكن للقوة القابلة لجهلها بحقيقة ما أحل الله لها؛ { فلما نبأت } القوة القابلة لنظائرها بترك اللطيفة وتحريمها لابتغاء رضاء القوة القابلة ما أحل الله لها، عرفت اللطيفة إفشاء بعض الأسرار التي سارتها بها معها وغضبت { وأعرض عن بعض } [التحريم: 3]، يعني: ما أفشت أسرار الربوبية والخلافة { فلما نبأها به } [التحريم: 3]، يعني: فلما أنبأت اللطيفة الخفية بما أطلع الله لها عليه { قالت } [التحريم: 3]، القوة القابلة { من أنبأك هذا } [التحريم: 3]، يعني: من أخبرك بأني أفشيت سرك { قال نبأني العليم الخبير } [التحريم: 3]، يعني: نبأني من يعلم ضمائر الصدور وسرائر القلوب وخفايا الأرواح، ويخبر بصفة خبير [تنبيها] لمن أراد.
{ إن تتوبآ إلى الله فقد صغت } [التحريم: 4]، يعني: تتوب القوة القابلة ونظيرها إلى الله ويرجعا إلى حضرته بالتضرع والإبهام لئلا تفشيا أسرار اللطيفة الخفية يقبل الله توبتهما { فقد صغت قلوبكما } [التحريم: 4]، يعني: زاغت عن الحق واستوجبت العقوبة حين سرت قلوبكما بتحريم اللطيفة الخفية على نفسها ما أحل الله لها { وإن تظاهرا عليه } [التحريم: 4]، يعني: تعاونا وتتظاهر على تحريم اللطيفة الخفية على نفسها ما أحل الله لها { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } [التحريم: 4]، يعني: أنا وليها وناصرها والقوى السرية والقوى المؤمنة اللوامية والقوى الملهمية الملكية ظهيرها.
[66.5-7]
{ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } [التحريم: 5]، يعني: يقدر الرب إن طلقت اللطيفة الخفية القوى القابلة القالبية على أن يبدلها قوى خيرا منكن { مسلمات } [التحريم: 5]، أي: ذوات تسليم لها { مؤمنات قانتات } [التحريم: 5]، أي: طائعات أمرها راضيات بما يعمل { تائبات } [التحريم: 5]، أي: راجعات عن الخواطر التي كرهتها اللطيفة، { عابدات } [التحريم: 5]، أي: ذوات عبادة نافعة لها، { سائحات } [التحريم: 5]، أي: سالكات مسلكها، صابرات على مخالفة هوى نفسها لطلب رضى اللطيفة الخفية، صائمات عن مشتهيات، { ثيبات } [التحريم: 5]، من القوى التي كانت قابلة للطائف قبل اللطيفة الخفية { وأبكارا } [التحريم: 5]، من القوى القابلة الخاصة التي لا يمسها أحد قبل اللطيفة الخفية، وهي القوة المحبوبية.
{ يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } [التحريم: 6]، يعني: يا أيتها القوى اللائمة المؤمنة احفظوا أنفسكم وقواكم القابلة القالبية نارا { وقودها الناس والحجارة } [التحريم: 6]، يعني: النار المشتعلة في البغض والكبر والحسد في الوجود وقودها الصفات النفسانية والقوى المعدنية القالبية، { عليها ملائكة غلاظ شداد } [التحريم: 6]، يعني: موكلة عليها القوى العلوية الغليظة الشديدة { لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم: 6]، يعني: يطيعون الله في تعذيبكم كيف ما شاءوا بكم.
{ يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [التحريم: 7]، [أي] تكسبون في دار الكسب، لا عذر لكم أيتها القوى الكافرة بعد نزع الآيات والأدوات، وأخذ رأس المال عنكم، وإخراجكم من سوق الكسب.
[66.8-9]
{ يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } [التحريم: 8]، يا أيتها القوى المؤمنة توبوا من الذنوب واللمم - التي [هي من] خاصية بشريتكم - إلى الله توبة خالصة، ناصحة بحيث ينصح صاحبها بأن لا يعود إليها أبدا ولو قطع إربا إربا، { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم } [التحريم: 8]، يعني: إذا رجعتم إلى الله بالإخلاص، وأعقدتم بأن لا تعودوا إلى مخالفته أبدا يكفر الله عنكم سيئاتكم السالفة، { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [التحريم: 8]، يعين: يدخلكم جنات القلب تجري من تحتها أنهار المعرفة { يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا واغفر لنآ إنك على كل شيء قدير } [التحريم: 8]، يعني: ذلك اليوم،، وهو: يوم التجلي، لا يخزي الله اللطيفة المبلغة، ولا يخزيه والذين آمنوا معه من القوى المؤمنة النفسية والقالبية، نور ذكرهم وإيمانهم { يسعى بين أيديهم } بتوجههم الصادق إلى الحق بإيمانهم، وبالأعمال الصادرة عنهم، على يمين وبركة، { يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا } يعني: نور أعمالنا بنور أفضالك، وأعطنا نورا من أنوارك، حتى نشاهد وجهك الكريم بنورك، { واغفر لنآ } أي: الخطرات التي تخطر؛ فنأمن ظلمات عالم الفناء والضلال، { إنك على كل شيء قدير }.
{ يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } [التحريم: 9]، يعني: يا أيتها اللطيفة الخفية جاهدي كفار قوى القالب المظلم، ومنافقي قوى النفس الأمارة { واغلظ عليهم } [التحريم: 9]، ولا ترفق بهم { ومأواهم جهنم } [التحريم: 9]، بعد مجاهدتهم في دار الكسب بجهادك إياهم والغلظة عليهم { وبئس المصير } [التحريم: 9]، أي: بئس المرجع جهنم لهم.
[66.10-12]
{ ضرب الله مثلا للذين كفروا } [التحريم: 10]، يعني: ضرب الله مثلا للقوى الكافرة المستكبرة { امرأت نوح وامرأت لوط كانتا } [التحريم: 10]، قوتين قابلتين { تحت عبدين من عبادنا صالحين } [التحريم: 10]، أي: قوتين فاعلتين صالحتين { فخانتاهما } [التحريم: 10]، القوتان القابلتان بكفرهما بربهما، وإنكارهما اللطيفتين الصالحتين الفاعلتين؛ { فلم يغنيا عنهما من الله شيئا } [التحريم: 10]، يعني: لا ينفعهما أنهما كانتا قابلتين تحت اللطيفتين الصالحتين، ولا يدفعا عنهما من عذاب الله من شيء { وقيل ادخلا النار مع الداخلين } [التحريم: 10]، يعني: قيل للقوتين القابلتين ادخلا مع القوى الكافرة القالبية والنفسية النارية التي أنتم أوقدتموها في دار الكسب من نيران الحسد والكبر والكفر والشهوة الردية.
{ وضرب الله مثلا للذين آمنوا } [التحريم: 11]، يعني: القوى المؤمنة من قوى النفس اللوامة { امرأت فرعون } [التحريم: 11]، يعني: القوى الصالحة القابلة تحت القوة الفاسدة الفاعلة المستكبرة ما ضرها كفر القوة الفاعلة الفاسدة إذا كانت صالحة هي بنفسها { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين } [التحريم: 11]، يعني: إذ قالت اللطيفة الصالحة القابلة في مناجاتها مع ربها: { رب ابن لي عندك بيتا } في أخص أطوار القلب، وهي [....] موضع عند الرب الصمد الواحد الأحد الذي
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4]، وقالت أيضا في مناجاتها: { ونجني } من هذه القوة الفاسدة الفاعلة وعملها، { ونجني } من أعوانها وقواها الظالمة، انظر كيف نجاها، وبنى لها بيتا في الجنة المضافة المخصوصة به، وما نفعت صحبتها للقوة الفاسدة الفاعلة، وكيف ينفع ويضر والله يقول:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" يا فاطمة أنقذي نفسك من النار "
يعني: لا يحمل القلب وزر الخاطر الذي يخطر من قبل النفس، ولا الروح وزر خاطر القلب، ولا النفس وزر خاطر القلب والروح، ولا ينفع النفس والقالب طاعة الروح والقلب، إن لم يطيعا بالجوارح الظاهرة القالبية والقوى الباطنة النفسية.
{ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها } [التحريم: 12].
وهي القوة الإرادية التي لا تتصل بقوة الولاية، وسلكت مسلك الطريقة بإحصان فرج قوة القابلة عن الأباطيل والحظوظ الردية الشهوانية الهوائية { فنفخنا فيه من روحنا } [التحريم: 12]، يعني: جذبناها إلينا وأوصلناها إلى مرتبة حصلت لها اللطيفة الخفية العيسوية فصارت ولية { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } [التحريم: 12]، من غير أن يعلمها أحد وارد بالكلمات في الأنفس الوارد الذي يرد عليها { وكتبه } يعني: ما تجد مكتوبا على صحف قلبها وسرها وروحها { وكانت من القانتين } [التحريم: 12]، أي: من القوى مطيعين وهذا إشارة شريفة في حق المجذوبين يعني: ذكر بصفة الرجال وأدخلهم في القانتين منهم، يعني: من أحصن فرج قابليته من المريدين وإن لم يصل إلى مرشد ويصدق الوارد وما يجد في صحف القلب والسر والروح، ويتوجه إلى الله توجها كليا لما يمكن له الوصول إلى مرتبة الولاية؛ ولكن على سبيل الندرة، والنادر لا حكم له، وحظ السالك من هذه السورة وتفسير بطنها: أن يحترز في أن يحرم ما أحل الله على نفسه بجهله عنده مبادئ المكاشفات والمشاهدات، وقلما السالك إذا ابتلاه الله بالغيبة عن خدمة شيخه في بداية أمره كما كان حال هذا المسكين أن يتخلص من هذه الورطة، وسبيله إذا عرف اللطيفة حق المعرفة أو عرفه شيخه يتوب إلى الله من ذلك الفعل، ويأكل ما قد حرمه الله في البداية على نفسه قدر ما يرفع عنه اسم التحريم، ويقتصر على ذلك، ويأكل لقمات متتابعة، وكل عمل حلال حرم على نفسه في البداية على نفسه [يعمله] بقدر ما يرفع اسم التحريم؛ فينبغي أن يشتغل به قدر ما خرج عن حد النهي الذي يقول في كتابه الكريم بقوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
[المائدة : 87]، واقتصروا على عمل واحد في كل سنة، أو لقمة واحدة في كل وقت حضرت لموافقة أخ من الإخوان، إذا علم إن لم يواكله ينكسر قلبه ويحزن عليه صاحبه يوافقه ويواكله، ولا يسرف في أكلها، ولا يأكلها إذا كان خاليا إلا لقمة واحدة؛ لأنه قال الله تعالى:
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة
[آل عمران: 93]، وهذه الآية تدل على أن السالك إذا حرم شيئا على نفسه في بداية أمره لله جهلا بالطريق فلا يجوز الاشتغال به بعد ورود الوارد عليه ومعرفته بالطريق؛ ولكن نسخ حكمه حكم هذه السورة المنزلة على اللطيفة الخفية التي هي خاتم اللطائف، ودينها ناسخ الأديان.
وحظ آخر للسالك من تفسير بطن هذه السورة: أن يتيقن بأن لكل قوة من قواها القابلة والفاعلة عذاب مختص بها لا ينفعها صلاح القوة الفاعلة، ولو فسدت الفاعلة لا ينفعها صلاح القوة القابلة، ولا يضر فساد القوة الفاعلة للقوة الصالحة القابلة وعلى العكس، وفي كشف هذا السر باب مفتوح إلى مطلع القرآن مما يجب إغلاقه فسددته ورجعت إلى ما يليق بآذان المستمعين وحوصلة المسترشدين.
فاعلم أيها المسترشد إن السالك ربما يكون في ساعة واحدة في الجنة والجحيم وهذا مما شاهدناه مرارا في أنفسنا، وأنفس السالكين الذين سلكوا هذا الطريق بحضرتنا، وأمرنا بأن لطيفة منك ولها صورة معينة تعرفها أنها صورتك متنعمة في أعلى عليين، وفي هذه الحالة أيضا ترى لطيفة منك على صورتك - غير هذه اللطيفة المنعمة وأنت تشاهدها وتعرفها أنها صورتك - معذبة في أسفل سافلين، وأنت الشاهد بصورتي لطيفتك، وتتعجب من هذه الحالة المتضادة! وتتألم بألم الصورة المتألمة، وتتنعم بتنعم الصورة المتنعمة، وربما يكون أربع صور، وربما يكون سبع صور، وربما أن يكون ترى العالم مملوءا من صورك، كل صورة في عمل خاص، وربما يكون أن تشاهد جميع الصور يتحركون بحركتك، وينبسطون ببسطك، وينقبضون بقبضك، ويتكلمون بكلامك، وكل شيء يصدر منك يصدر منهم، مثل الصورة المنطبقة في المرآة من عكس صورتك، وسر هذه الصورة المنطبقة في المرآة من عكس صورتك، وسر هذه الصور يتعلق أيضا بحد القرآن.
قلنا: [ولما كنا غير] مأذونين في إفشائه فطوينا الصحيفة، وختمنا هذه السورة على دعاء ألهمته الوقت: اللهم اجعل صورنا ومعانينا منورين بنور وجهك الكريم، لئلا نلتفت عنك إلى غيرك، وليس الغير موجودا! يا عليم يا حليم يا عظيم يا رحيم بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، [يوم] يفرغ فيه الحكيم من حساب اللئيم الكريم.
[67 - سورة الملك]
[67.1-5]
يا طالب سر الملك والملكوت اعلم أن سرهما في يدي مالك الملك والملكوت، كما يقول في كتابه الكريم:
بيده ملكوت كل شيء
[يس: 83]، و { تبارك الذي بيده الملك } [الملك: 1]، والملك إشارة إلى: عالم الناسوت، واليد إشارة إلى: عالم الجبروت، { وهو } إشارة إلى: عالم اللاهوت، فتبارك وتعالى الذي بيده الملك والملكوت أن تشبه يده الأيدي، وتنزهت وتقدست ذاته أن تكون معطلة عن الصفات الحسنى؛ ولكن ينبغي أن يكون السالك سنيا لا ظاهريا، ولا باطنيا، ولا مشبهيا، ولا معطليا ليعرف سر اليد المذكورة في كلام الرب، وسر ما قال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الطويل:
" كلتا يدي الرحمن يمين "
، ولا يمكن لك المعرفة بهذا الحديث إن كنت جامدا بليدا؛ فأشعل نار الذكر حتى تذهب جمودتك وبلادتك، وانظر بعد ذلك في بدائع الصنائع لتفهم ما فيه من حقائق الدقائق، ثم جئ حتى أقول معك بعض أسراره مما يتعلق ببطن القرآن.
واعلم أن اليمين واليسار يطلق في عالم الجهات، ولا جهة في عالم الحق، ولا زمان، ولا مكان، ولا خلاء من الوجود، ولا ملاء من الجسم الكلي، وكل شيء يرى بعين الحس في الملك فتبصره ببصيرة العقل في الملكوت قائم به، وهو موجد حياة كل الأحياء منه، وقيام كل الأشياء به،
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]، و
كل من عليها فان
[الرحمن: 26] ويبقى وجهه.
وإطلاق اليمين في الحديث كان لأجل اليمن والبركة، وإظهار سر التوحيد، وإشارته إلى " كلتا يديه " إشارة إلى: يدي الظاهرة والباطنة؛ يعني: بيد إرادته الباطنة باطن ملكوت كل شيء، وبيد قدرته الظاهرة ظهور الملك، وبعد هذا تحرك سلسلة حد القرآن مما أمرت بستره فأدرج.
واعلم أنه على كل شيء قدير كما يقول في كتابه الكريم: { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } [الملك: 1] يقدر على الإبداع، والإيجاد، والإبقاء، والإفناء، { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [الملك: 2]، ذكر الموت والحياة؛ لأن القدرة فيهما أظهر، وقدم الموت على الحياة؛ لأنه [سابقتكم]
أموتا فأحيكم
[البقرة: 28]؛ يعني: كنتم جاهلين فأحياكم بالعلم، وكنتم في بطون أمهاتكم موتى فأحياكم بنفخ الروح، وكنتم موتى في القالب فأحياكم بنور الإيمان، وكنتم موتى في البرزخ فأحياكم يوم القيامة، وكنتم موتى في النكرة فأحياكم بالمعرفة، وكنتم موتى من مشاهدة وجه الرب فأحياكم بمشاهدته للابتلاء حتى تتم مظاهر لطفه وقهره، وحتى يرى { أيكم أحسن عملا } [الملك: 2] في الاختيار الحياتي الذي أعطاه ربكم لكم لتكونوا خلائف الأرض، أتشتغلون في عالم اختياركم بذكر مولاكم؟ أم تبتغون هواكم وتغفلون عن ذكر مولاكم؟ أتتركون الدنيا الفانية للآخرة الباقية؟ أم تشتغلون بالدنيا لاستيفاء حظوظكم العاجلة الشهوية؟ أم تشتغلون بتزكية النفس عن الكدورات الحاصلة لها في دار الفناء؟ أم تتركونها مكدرة مظلمة صاعد عليها كل ساعة دخان الهوى؟ أتجتهدون في تصفية السر وتحلية الروح بالأخلاق والصفات الحسنة؟ أم تتركونها ملوثة بقاذورات الأخلاق الشيطانية والصفات البهيمية؟ أتقبلون على تصقيل القلب ليكون مرآة لوجه الرب وهو المقصود من إيجاد الموجودات؟ أم تعرضون عنه ليتأثر فيه طبع [الطغي] { وهو العزيز الغفور } [الملك: 2]؛ يعني: هو غالب على أمره أن يعذب المقصر في تقويم القالب وتصقيل القلب وإقامة المرآة محاذاة وجه الرب في عالم التوجه، غفور لمن يقوم القالب على وفق ظاهر الشرع بالسياسة، وتصقيل القلب على قانون حكمة الطريقة بالطهارة، ويقيم المرآة المقومة المصقلة محاذاة وجه الرب بالطهارة، والله تعالى أرسل جميع الرسل إلى الخلق ليعلمهم بالسياسة أمر التقويم، وبالطهارة أمر التصقيل، وبالعبادة أمر التوجه؛ لترى في المرآة ذاته وأفعاله وآثاره كما يقول تعالى:
" كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ".
{ وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سموت طباقا } [الملك: 2-3]؛ أي: سماوات أطوار القلب طبقا طبقا في كل واحدة منها حكمة خاصة، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } [الملك: 3]؛ يعني: لا يفوته، وإضافة الخلق في هذا المقام إلى الرحمن كانت من سر فينبغي ألا يغفل عنه، وهو أنه بعد استوائه على العرش واستواء الخليقة على عرش القالب الجسماني خلق سماوات القلب والصدر، والسماء الروحانية، والأرض القالبية،
كانتا رتقا
[الأنبياء: 30] من قبل مقتضاهما عند استواء الرحمن على عرش الروح، واستواء خليقته على عرش القالب، وفي هذا سر يتعلق بحد القرآن مما ليس هو من نفس المستمعين.
{ فارجع البصر هل ترى من فطور } [الملك: 3]؛ يعني: كرر النظر واعتبر بنظر الاعتبار هل ترى في خلقه من نقصان من الشق والصدع أو الخرق؟ { ثم ارجع البصر كرتين } [الملك: 4] كرة في ملكه، وكرة في ملكوته، وكرة بعين الحس، وكرة ببصيرة العقل حتى يقع نظرك في عالم ملكه وملكوته على شيء، يقول عقلك المضل وقواك الكافرة وهويتك المدعية للإلهية: ينبغي أن يكون هذا على خلاف ما خلفناه وسويناه، فيا أيها الجاهل الضال لا تتفكر في قبضتك وأنا ملك [الملوك] حتى ترى حكمة الحكيم إن لم تكن ممن يتفكر في ملكه العظيم، وتعلم أن لو يزيد أنملة على الأنامل الخمس كيف يكون قبيحا؟! بحيث يحكم عقلك على قطعها، ولو تنقص أنملة من الأنامل كيف تستحي منها وتمد يدك في كمك حتى لا يطلع على نقصانك أحد؟! وإن كانت الأنامل متصلة بعضها ببعض لا يمكن لك القبض والبسط، وإن كانت الأنامل مستوية لا يتصل بعضها ببعض وقت الضم، وعجائب القبضة الواحدة التي هي عضو جسماني من أعضائك، وعروقها، وأغصانها، وروابطها الظاهرة، وأظافرها، وكيفية تحليل الخلط السوداني من رؤوس الأظافر ينبغي أن تقطع في كل شهر مرتين، وكيفية عضلاتها وروابطها الباطنة إلى حقيقة صفة القدرة، واتصال القدرة بالإرادة، وتعلق الإرادة بالعلم الروحاني، ثم تعلق العلم بالقلم الذي في قبضة الحق، واتصال حقيقة القبضة الحقية باليد المذكورة في كلام المجيد وهلم جرا إلى الدقائق الجبروتية المتصلة بحقائق اللاهوتية مما لا يحصى أبد الدهر في ظنك بعجائب ملكه وملكوته، وجبروته ولاهوته، ومع هذا تدعي الربوبية الإلهية، وتعجز عن إدراك سر عضو من أعضائك أيها المعاند الجاهل.
{ ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } [الملك: 4]؛ يعني: ينقلب نظرك صاغرا ذليلا عاجزا، وهو كليل منقطع عن النظر على نقصان في ملكه وملكوته، { ولقد زينا السمآء الدنيا بمصبيح } [الملك: 5]؛ يعني: زينا سماء الدنيا بمصابيح خواطر القدر في آفاق عالم الإنسان، وهو مظهر السر في أنفس عالم الإنسان السرية والروحية والخفية، والقالب الذي هو عالم الكون، والفساد مظهر لسماء الدنيا الذي هو ذات البروج، ولا تغلط بأنا بينا في الواردات أن القلب أعلى من الصدر، ويشاهد الصدر إلى القلب أقرب، وتفكر في إحاطة جسمية الصدر بالقلب في عالم الشهادة كما تشاهد إحاطة فلك الثوابت بالأفلاك السبعة؛ لئلا تغلط ونحن في هذا المقام ندخل في طريق الجسمانيات { وجعلنها رجوما للشيطين } [الملك: 5]؛ يعني: جعلنا الخواطر السرية والروحية والخفية على سماء الصدر حفظة؛ ليرجم بها الشياطين إذا أرادوا أن يوسوسوا في الصدر ويسترقوا السمع { وأعتدنا لهم عذاب السعير } [الملك: 5]؛ يعني: للقوى النفسية التي يمددها بقدر الشيطان التجاوز عن عالمها والصعود إلى سماء الصدر.
[67.6-12]
{ وللذين كفروا بربهم } [الملك: 6] من القوى القالبية والنفسية الملوثة بقاذورات اللطيفة المكدرة بدخان الهوى بعد انقلاب جرها إليها خاسئا حسيرا وكفرانها بنعمة ربها، وتكذيبها اللطيفة في إخبارها عن الآيات الغيبية، { عذاب جهنم } [الملك: 6] التي أظلموها بظلمهم، وأشعلوا فيها نيران الكبر والكفر، { وبئس المصير } [الملك: 6]؛ يعني: بئس مرجعها، { إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا } [الملك: 7]؛ يعني: صوتا كصوت الحمار وهو أنكر الأصوات، والشهيق أنكرها؛ لأنه أول نهيقه، { وهي تفور } [الملك: 7]؛ يعني: جهنم قالبة.
{ تكاد تميز من الغيظ } [الملك: 8]؛ يعني: تكاد تنقطع من تغيظها على صاحبها الذي اجتهد في اشتعالها، { كلما ألقي فيها فوج } [الملك: 8] جماعة من القوى القالبية الكافرة، والنفس المشركة المنافقة، { سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير } [الملك: 8]؛ يعني: قواها العلوية، وهي خزنة نيران جهنم القالبية والنفسية السفلية على سبيل التوبيخ لهم سألهم ما جاءكم رسول ينذركم من هذا اليوم قالوا: { قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } [الملك: 9]؛ يعني: جاءت اللطيفة المنذرة وبلغت إلينا ولكن كذبنا لاتباع هوانا، وقلنا: لا يمكن أن ينزل علينا مثلنا، لستم إلا في ظلال كبير؛ لرجوعكم عن دين آبائكم ولو كان الله أراد أن ينزل علينا لأنزل علينا ملائكة، أنتم تأكلون وتشربون وتمشون في الأسواق، وتحتاجون إلى البول والغائط وإلى ما يحتاج البشر إليه.
{ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [الملك: 10]؛ لأن القوى النفسية تسعر جهنم القالب، { فاعترفوا بذنبهم } [الملك: 11] في تلك الحالة، { فسحقا لأصحاب السعير } [الملك: 11]؛ أي: بعدا للقوى النفسية والمسعر نيران جهنم قالبها عن رحمة الله { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } [الملك: 12]؛ يعني: القوى اللوامة المؤمنة المصدقة بما في الغيب المتقية من قهر الحق، { لهم مغفرة } [الملك: 12] من اللمم اللازم للطيفة البشرية { وأجر كبير } [الملك: 12] بالأعمال التي عملت على وفق أمر اللطيفة المبلغة المنذرة المبشرة.
[67.13-17]
{ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور } [الملك: 13]، إشارة إلى: القوة المنافقة المكذبة؛ يعني: إن كنتم تشكون في أمر الوارد الذي يرد من الحق على اللطيفة، ويقولون: لو أسررنا لا تعرف اللطيفة نجوانا، فأسروا أن الحق { عليم بذات الصدور } [الملك: 13]؛ يعني: جميع القوة النفسية والقالبية مربوطة بما أودعناه في سماء الصدر،
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموت ولا في الأرض
[سبأ: 3]؛ يعني: الشقائق الأرضية متصلة بالدقائق السماوية، والدقائق السماوية مربوطة بصفاتنا مستجمعة في ذاتنا، فأي شيء يفوت عنا؟
{ ألا يعلم من خلق } [الملك: 14] في السماء والأرض وما فيهما وما بينهما، { وهو اللطيف الخبير } [الملك: 14]؛ يعني: لا تحجبه كثافة الحجب، خبير بما في الضمائر والصدور، { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } [الملك: 15]؛ يعني: جعل أرض البشرية مسخرة للقوى النفسية مذللة تحتها، { فامشوا في مناكبها } [الملك: 15]؛ أي: قواها المعدنية، { وكلوا من رزقه } [الملك: 15]؛ يعني: من رزق الله الذي أخرج لكم من أرض البشرية من نباتات المعارف الآثارية، { وإليه النشور } [الملك: 15]؛ يعني: إلى الله تنشرون من قبور قالبكم، وسر هذه الآية يثبت في تصعيد اللقمة في فوائد؛ لتفهم كيفية النشور من قبور القالب بعد أكل رزقه.
{ ءأمنتم من في السمآء أن يخسف بكم الأرض } [الملك: 16]؛ يعني: ما أمنتم من عذاب موكل عليه القوى السماوية بعد كفركم بربكم أن يأمرهم أن يخسف بكم الأرض البشرية، { فإذا هي تمور } [الملك: 16]؛ أي: تتحرك عند الخسف بهم حتى تلقيهم إلى أسفل دركات الطبيعة، { أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصبا } [الملك: 17]؛ يعني: أتأمنون الذي جعل القوى العلوية الصدرية حافظات لكم أن يرسلوا عليكم أعمالكم الهودية الصاعدة الموقوفة تحت الصدر؛ لتلوثها وضيائها ودخانها الجامدة مثل الحجارة فيهلككم: { فستعلمون كيف نذير } [الملك: 17]؛ أي: تعلمون أن الله كيف يرسل النذير بعد معاينتكم العذاب.
[67.18-21]
{ ولقد كذب الذين من قبلهم } [الملك: 18] من القوى القالبية المكذبة، { فكيف كان نكير } [الملك: 18]؛ أي: إنكاري عليهم بالعذاب الذي أرسلت عليهم من السماء، { أولم يروا إلى الطير فوقهم صفت ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن } [الملك: 19]؛ يعني: لا تنظرون إلى طيور خواطركم يطيرون فوقكم صفا صفا، { ويقبضن } [الملك: 19] أجنحتها؛ أي: استعدادها السفلي بعد بسطها باستعدادها العلوي، { ما يمسكهن } [الملك: 19] في حال القبض والبسط باستعداد هي القوى السفلية والعلوية، { إلا الرحمن } [الملك: 19] الذي استوى على العرش، وسوى الأمور عليها بعد استوائه على عرش الروح، واستواء خليقته على عرش القالب، { إنه بكل شيء بصير } [الملك: 19]؛ يعني: بالخواطر الظاهرة العلوية، والخواطر الوالجة في الأرض والخارجة منها، { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن } [الملك: 20]، استفهام بمعنى الإنكار، تلك الخواطر والقوى جلالكم يقدرون أن ينصروكم من عذابنا من غير إذن الرحمن، { إن الكافرون إلا في غرور * أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } [الملك: 20-21]؛ يعني: إن أمسك الرحمن رزق الحياة والمعرفة عنكم من يقدر أن يرزقكم رزق الحياة والمعرفة؟ { بل لجوا في عتو ونفور } [الملك: 21]؛ يعني: غلب عليهم اللجاج حتى تمادوا في الباطل والتباعد عن قبول الحق.
[67.22-26]
{ أفمن يمشي مكبا على وجهه } [الملك: 22]؛ يعني: مكبا على الضلالة والجهالة مثل البهائم، { أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } [الملك: 22]؛ يعني: يمشي بالعلم والمعرفة والإيمان مثل القامة المعتدلة الإنسانية على الصراط المستقيم، ويظهر بعد كشف الغطاء أن يكون قامة الكفار معوجة ناكسة رؤوسهم، والمؤمنون متوجهة إلى الحق، { قل هو الذي أنشأكم } [الملك: 23] من النيران والعناصر السفلية، { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [الملك: 23] من القوى العلوية اشكروه من القوى القالبية والنفسية الملوثة كما يقول في موضع آخر:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، اللهم اجعلني من الجميل والجليل يا جميل يا جليل.
{ قل هو الذي ذرأكم في الأرض } [الملك: 24]؛ أي: هو الذي أنشأكم وذرأكم الحيبب في أرض البشرية، { وإليه تحشرون } [الملك: 24] إلى حضرته وتحشرون من القالب { ويقولون متى هذا الوعد } [الملك: 25]؛ أي: القوى المكذبة، { ويقولون متى } [الملك: 25] يجيء { هذا الوعد إن كنتم صادقين } [الملك: 25]، فبينوا لنا متى موعده { قل إنما العلم عند الله وإنمآ أنا نذير مبين } [الملك: 26]؛ يعني: علم الحشر والنشر، والقيامة والموت عند الله إذا أراد يكشف الغطاء حتى نشاهدهما بعين العيان في كل لمحة في الدنيا، وإن أراد أن يؤخرها إلى أجل معلوم، وإنما أنا بأمره أنذركم، وأبين لكم بحكم الوارد.
[67.27-30]
{ فلما رأوه زلفة } [الملك: 27]؛ يعني: بعض القوى المكذبة لما شاهدوا بعض الآيات في أثناء السلوك { سيئت وجوه الذين كفروا } [الملك: 27]؛ أي: اسودت بما كذبوا الآيات التي شاهدتها الآن، { وقيل } [الملك: 27] لهم القوى العلوية { هذا الذي كنتم به تدعون } [الملك: 27] أي: تتمنون أن يعجل فينبغي للسالك في هذا المقام ألا يدع النفس أن تشك في بواقي الآيات؛ لأنها ما دامت في قالب الكدورات يصل من عالم السفل إليها دخان يصعد من الهوى على دماغها يحفظ عقله يشك، فإذا أراد السالك آية من آيات النفس مما لم يكن يراها قبل السلوك فيجب الإذعان لمسلكه واشتغاله برفع الحجاب؛ ليرى آيات ربه الكبرى وإن لم يقدر على رفع الحجاب فينبغي أن يكون مؤمنا ببواقي الآيات، مصدقا بملكه قياسا فيما يقول ويحكي عن الآيات الأنفسية الغيبية، وألا يشك البتة فيما يشاهد قرنائه وأصحاب مسلكه قياسا: إنني أيضا سالك ولم أر ما يحكي نظر؛ أي: لأن الاستعدادات متفاوتة في الكثافة واللطافة، والله يقبض ويبسط، ويعطي ويمنع كيف يشاء، لا راد لقضائه، ولا مانع لعطائه، ولا دافع لبلائه، وعلينا التسليم والتصديق وله الحكم على التحقيق وبيده التوفيق، وهو الرفيق في هذا الطريق.
{ قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي } [الملك: 28]؛ يعني: أيتها اللطيفة المبلغة المنذرة المبشرة، قولي: { إن أهلكني الله ومن معي } [الملك: 28] من القوى [المؤمنة] { أو رحمنا } [الملك: 28] من غاية كرمه ورحمته فضلا منه من يقدر أن يقول لم أهلكت أو رحمت، { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } [الملك: 28] يوم يكشف الغطاء عن أبصارهم ويعذبهم بصفاتهم وأخلاقهم، من يجيرهم منه فنحن بعد الإيمان نخاف منه، فكيف لا تخافون مع وجود الاستكبار عن عبادته، وكيف لا نخاف لأنا نعلم أنه غني عن العالمين وعن أعمالهم، فمن يهلكه فبعدله ومن يرحمه فبفضله.
{ قل هو الرحمن آمنا به } [الملك: 29]؛ يعني: هو الذي آمنا به، هو الرحمن المستوي على عرش روحانية [قلوبنا]، { وعليه توكلنا } [الملك: 29]؛ لأنه ضمن كفالتنا ووكالتنا، { فستعلمون من هو في ضلال مبين } [الملك: 29]؛ يعني: سوف ترون وقت كشف الغطاء ما تستمعون منا اليوم ولا تصدقونه، وتطلعونه على ضلالتكم وجهالتكم معاينة، { قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غورا } [الملك: 30] أيها السالك الواصل إلى ينبوع المعرفة احذر من هذا الخطاب بقول مع اللطيفة المبلغة قول للقوى المواصلة العارفة: إن كنتم تصبحون في حال التجلي الجمال، وترون ينبوع المعرفة غورا ليس فيها ماء، { فمن يأتيكم بمآء معين } [الملك: 30] من الذي يقدر أن يأتي بماء الإيمان ظاهرا بحيث ترى العيون آثاره في عالم الناسوت؟ وهي الأعمال التي هي مخصوصة بالخوارج أذهب بماء الإيمان عن ينبوع قلبه، لا يظهر الأعمال على جوارحه البتة، وبقدر ظهور بماء الإيمان من ينبوع القلب، يستعمل الجوارح بالطاعات ويمنعها عن المخلفات وارتكاب المنهيات، فكن حذرا أيها السالك العارف مادمت في قفص القالب أسيرا محبوسا، ولا تتكئ على معرفتك ومشاهدتك حتى تكسر قفص القالب وتطير إلى ذكرك الأصلي، واجمع بين ظاهر تفسير القرآن وباطنه، وأجر حكمهما على ظاهرك وباطنك؛ لأن الله تعالى خلقك من الغيبية والشهادية، وعبادة الغيبية والشهادية وعبادة الغيبية [الغبية] والحضور، والإخلاص والصدق، وعبادة الشهادية الركوع والسجود، والقيام والقعود، والصلاة والصوم والجهاد والزكاة والحج، ولكل ركن من الأركان الظاهرة ركن معين بإزائه من الأركان الباطنة، إن أهملته فقد كنت كمن عمل على قشر الجوز ليخرج منه الدهن، فاجتهد أن تكون من [السادة في] الطهارة والعبادة في الظاهر والباطن لتكون كاملا في مرتبة الإنسانية، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه، وصلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
[68 - سورة القلم]
[68.1-15]
يا صائد نون النبوة في قعر بحر النون بشبكة القالب، لتشويشه في تنور [الناقور] بنار الذكر المروية قلب الذاكر من ملاطفات المذكور، تفكر فيما يقول الله تعالى في كتابه حيث يقول: { ن والقلم وما يسطرون } [القلم: 1]؛ يعني: بحق النور الذي أودعنا في نون النبوة القائمة بواو الولاية، الثابتة بألف الألوهية، المتصلة بوجود سواده وبياضه في دائرة الأزل إلى الأبد، وهو نور المداد الذي خلقه الله تعالى في دواة روح النون؛ ليكتب بقلم قدرته على لوح العقل ما كان في علمه القديم، وأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" أول ما خلق الله تعالى في مقام المرادية نوري، وأول ما خلق الله تعالى روحي في مقام الدواتية، وأول ما خلق الله تعالى القلم في مقام الفاعلية، وأول ما خلق الله العقل في مقام القابلية "
وظلالها في عالم السفل العناصر الأربعة؛ فالنار ظل العالم الخفي، والهوى ظل دواة الروح، والماء ظل مراد السر، والتراب ظل لوح القلم؛ يعني: أقسم بنور النبوة.
{ والقلم وما يسطرون * مآ أنت بنعمة ربك بمجنون } [القلم: 1-2] جواب القسم؛ يعني: لست أيتها اللطيفة الخفية المبلغة المذكرة بالنعمة التي أنعمنا في حقك، وهم الوارد القدسي بمجنون فيما تأمر القوى به وتنهاهم عنه، وتتلو عليهم من الآيات البينات مما يرد عليك من الحق، فلا تبال مما تقول القوى المكذبة الحاسدة، { وإن لك لأجرا غير ممنون } [القلم: 3]؛ يعني: في إبلاغ الوالد، والصبر على أذى القوى المكذبة لأجرا غير منقطع أبد الآباد، { وإنك لعلى خلق عظيم } [القلم: 4]؛ يعني: حصلت الأخلاق منا وتأدبت بآدابنا، حيث سمعت منا ما قلنا معك في كتابنا، ولا تكن
فظا غليظ القلب
[آل عمران: 159]، وقولنا:
فاعف عنهم واستغفر لهم
[آل عمران: 159]، وقولنا:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
[الأعراف: 199]؛ يعني: لا تشتغل بمكافآتهم.
{ فستبصر ويبصرون } [القلم: 5]؛ يعني: ستري أيتها اللطيفة وقت كشف الغطاء، وتبصري أيضا القوى المكذبة، { بأييكم المفتون } [القلم: 6]؛ يعني: بأيكم المفتون الذي فتن به { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [القلم: 7]؛ يعني: هو أعطاهم الاستعدادات المتصلة والمهدية، { فلا تطع المكذبين } [القلم: 8]؛ يعني: لا تطع القوى النفسية المكذبة إذا تملقت معك بالمداهنة، { ودوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 9] يتمنون أنك تداهنهم كما هم يداهنوك، وتشتغل أيضا بأباطيلهم والاستيفاء من الحظوظ النفسانية، وترافقهم وتلين لهم ولا تؤمهم بترك مشتهيات أنفسهم؛ [ليثبوا لك] في المرافقة معك في طلب الحظوظ، لهم أنفسهم.
{ ولا تطع كل حلاف مهين } [القلم: 10]؛ يعني: القوى الحالفة بالله كذبا لتميل خاطرك اللطيفة المذكرة إليها، { مهين } [القلم: 10] ذليل عند الله، { هماز } [القلم: 11]؛ أي: مغتاب، وهي القوة النفسية تغتاب عند اللطيفة قوى القالبية، وتغتاب عند القوى المكذبة القالبية اللطيفة، { مشآء بنميم } [القلم: 11]، وهي أيضا للقوة النفسية القريبة إلى عالم الصدر، تمشي بنميمة من عالم القلب عند طلب حظها من القوى الفاعلية العلوية، ثم يرجع إلى القوى القابلة القالبية السفلية لطلب حظها من عالم القلب، وتتم اللطيفة المبلغة وأقواها المتابعة لها، { مناع للخير } [القلم: 12]؛ يعني: يمنع الوارد القدسي في الطريق لئلا يصل إلى القوى القالبية ويكدره في عالمه؛ لأن عالم النفس عاجز بين عالم الصدر وعالم القلب، { معتد } [القلم: 12]؛ أي: ظالم على القوى القابلة، يمنع الوارد وغلظه بالخواطر المكدرة النفسية، { أثيم } [القلم: 12]؛ أي: كثير الإثم، فاجر في فعله يمنع الخير عن غيره، { عتل } [القلم: 13] غليظ الوصف، قبيح الخلق، يدفع بالعنف الوارد لئلا يصل إلى القلب، { بعد ذلك زنيم } [القلم: 13]؛ يعني: بعدما وصفناها من الأخلاق الذميمة والأخلاق الكريمة، زنيمة؛ يعني: تنسب نفسها إلى العالم العلوي وليست في ذلك العالم بشيء؛ لأن هذه القوة المنتجة من الهوى لا من الروح.
{ أن كان ذا مال وبنين } [القلم: 14] لا يغرنك بأن كان له استعداد ومعارف هي نتيجة طبعها المكدرة الهودية، بأن لها نسبة إلى الروح { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [القلم: 15]؛ يعني: إن كانت لها نسبة إلى الروح وما كانت زنيمة ولها حظ من المعارف، ما قالت: { إذا تتلى عليه آياتنا } [القلم: 15] الأنفسية أنها { أساطير الأولين } [القلم: 15]؛ وعرفت حقيقة الوارد النازل من حضرة رب العالمين.
[68.16-29]
{ سنسمه على الخرطوم } [القلم: 16]؛ يعني: سوف يجعل في نفسها وسم سواد فساد اعتقادها؛ لتعرف به بين القوى، لئلا يفتروا بنميمتها ونفاقها ومداهنتها، { إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة } [القلم: 17]؛ يعني: اختبرناهم كما اختبرنا القوى السالكة المجاهدة على وفق هوى أنفسكم من غير الاقتداء، فتظهر لهم جنة المعرفة النفسانية أعمالهم فاستبشروا بها وظنوا أنهم { ليصرمنها مصبحين } [القلم: 17] ويتنعمون بها أبد الآباد، { إذ أقسموا } [القلم: 17]؛ أي: حلفوا { ليصرمنها مصبحين } [القلم: 17] ليقطعن ثمر المعرفة، { ولا يستثنون } [القلم: 18]؛ يعني: كانوا غافلين عن ذكر الله وأن الأمر بمشيئة الله، معتقدين بأنفسهم غير مقلدين لأهل الحق؟
{ فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون } [القلم: 19]؛ يعني: نار الغيرة من الله طافت على جنتهم، { وهم نآئمون } [القلم: 19]؛ يعني: غافلون عن ذكر الله تعالى، { فأصبحت } [القلم: 20] فجعلت جنتها { كالصريم } [القلم: 20]؛ يعني: كالليل المظلم، { فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [القلم: 21-22]، فتنادت القوى بعضهم بعضا في صبح طلع من أفق الصدر أن اغدوا على جنة معارفكم وحرث أعمالكم؛ لتقطعوا وتدخروا بها، { فانطلقوا } [القلم: 23]؛ أي: انطلقت القوى { وهم يتخافتون } [القلم: 23]؛ أي: يتشاورون { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [القلم: 24]؛ يعني : لا تأذنوا للخواطر المسكينة لئلا يشوشهم؛ لأن هذا الخاطر يقول معهم: إن جنة معارفكم ليست بشيء، وحاصلها مثل
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء
[النور: 39].
{ وغدوا على حرد قادرين } [القلم: 25]؛ يعني: [تحركوا] على قصد أنهم قادرون على حرثهم، { فلما رأوها } [القلم: 26]؛ يعني: جنة معارفهم وحرث أعمالهم، { قالوا إنا لضآلون } [القلم: 26]؛ يعني: إنا لمخطئون الطريق، وهذا مقام إذا وصل إليه السالك ويظن أن أعماله كانت أعمال بدعية هوائية غير مستنة بسنة مقتداه، فشاهد موضع حرثه
كأن لم تغن بالأمس
[يونس: 24]، يقول: في نفسه أخطأت الطريق، ليس هذا موضع حرثي، ولا يعلم أنه أخطأ الطريق وقت الزرع؛ فلأجل هذا حرم وقت الحصاد، من ثمرة عمله وزرعه فالواجب على السالك أن يقتدي بمقتداه في جميع أعماله وأقواله، وحركاته وسكناته، لئلا يحرم وقت الحصاد من زرعه، ولا [يتأسف] على ضياع عمله وفوات استعداده، ومضي زمان زرعه، يقولون: ما نحن بضالين ومخطئين الطريق، { بل نحن محرومون } [القلم: 27] عن نفع زرعنا؛ لتركنا الاقتداء وغفلتنا عن الذكر في الاستثناء، وقصدنا على أن يدخل علينا خاطر السكينة، { قال أوسطهم } [القلم: 28]؛ يعني: أعلمهم وأخبرهم وأعدلهم من القوة المكدرة، لهم: { ألم أقل لكم لولا تسبحون } [القلم: 28]؛ أ ي: هلا تذكرون فتغفلون عن ذكر الرب، { ولا يستثنون } [القلم: 18]، { قالوا سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين } [القلم: 29]؛ يعني: منزه ربنا عن أن يظلم علينا، بل كنا ظلمنا أنفسنا بغفلتنا عن ذكر ربنا.
[68.30-42]
{ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } [القلم: 30]؛ يعني: القوى اللوامة بعد أن ترى آيات الرب نفسها، وهذا ينفع في أثناء السلوك إذا طلع السالك على ظلمة الغفلة عن ذكر ربه وتركه الاقتداء بمقتداه، فيتوب إلى الله ثم يستأنف العمل على وفق الاقتداء، ويترك الغفلة ويشتغل بالذكر؛ ليزرع بعد ذلك على وفق أمر الدهقان الخبير، ويحصد - إن شاء الله تعالى - على وفق مراده عن قريب ذاته، لا ينفع بأن يفرغ عنه الآيات والأدوات، والبذر والأرض، ولا يزيد له من حسرته إلا العذاب الأليم المقيم، اللهم نبهنا من نومة الغافلين واجعلنا من الذاكرين.
{ قالوا يويلنا إنا كنا طاغين } [القلم: 31] في منعنا المسكين، { عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون } [القلم: 32]، فإذا تابوا إلى الله
يبدل الله سيئاتهم حسنات
[الفرقان: 70]، { كذلك العذاب } [القلم: 33]؛ يعني: هكذا يكون العذاب، فينبغي أن يخالف السالك من مثل هذه الواقعة الهائلة ويرجع إلى الله رغبة ورهبة، { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } [القلم: 33]؛ لأن الرجوع في الآخرة إلى عالم الكسب غير ممكن، وفي هذه الواقعة التي رأى السالك إذا انتبه ويرجع إلى الله منيبا تائبا يقبل الله توبته ويبدل الله سيئاته حسنات، فإن لم يلتفت إلى هذه الواقعة الهائلة، ويظن أنها من قبيل الخيالات أو غلبة خلط السوداء يعذب في الآخرة بمثل هذه الواقعة الهائلة، وأشد منها دائما أبدا بعد نزع الآلات والأدوات عنه.
{ إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } [القلم: 34]؛ يعني: الذين اتقوا ربهم متاع الحياة الدنيا، واجتنبوا عنها لهم عند ربهم جنات النعيم من كل ما اشتهت أنفسهم، { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون } [القلم: 35-36]؛ يعني: نجعل القوى المؤمنة كالمجرمة، لو تظنون أيتها القوة المجرمة هذا منا ساء ما تظنون وجود ما تحكمون، وظنكم بالدهر مخطئ؛ لأنا خلقناكم لتكونوا باقين أبد الآباد مظاهر اللطف والقهر، فكل من كان مؤمنا مسلما فهو مظهر اللطف يتنعم أبد الآباد، ومن كان مشركا مجرما فهو مظهر القهر يتألم أبد الآباد، { أم لكم كتاب فيه تدرسون } [القلم: 37]؛ يعني: هذا الظن منكم بأن دين الدهر عن حق أم من عند أنفسكم، أم من كتاب جاء من الحق أنتم درستم فيه، { إن لكم } [القلم: 38] بعد الجزم { فيه } [القلم: 38]، في ذلك الكتاب { لما تخيرون } [القلم: 38] لما تختارون وتشتهون، { أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون } [القلم: 39]؛ يعني: عاهدناكم وأعطيناكم مواثيق إلى يوم القيامة، { إن لكم لما تحكمون } [القلم: 39]؛ أي: يفعل بكم كما تشاءون وتختارون لأنفسكم بعد افتراق الجزم في دار الكسب.
هذا خطاب مع السالك الذي يتضرع ويبتهل بعد هذه الواقعة ويتمنى أن يكون له بعد هذه الواقعة أحوال حسنة، ولا يفطن بأن نكبته من غفلته وترك الاقتداء لمقتداه، فبقول الله تعالى لمقتداه { سلهم أيهم بذلك زعيم } [القلم: 40]؛ يعني: أيتها اللطيفة الهادية المهدية سلي عنهم من الكفيل لكم بأن الله يعطي لكم الأحوال السنية، { أم لهم شركآء } [القلم: 41]؛ يعني: لهم أرباب غير الله، إن غضب ربكم، أربابكم يشفعون لكم عنده! { فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين } [القلم: 41]؛ يعني: يأتوا بشفعائكم منهم، { يوم يكشف عن ساق ويدعون } [القلم: 42]؛ يعني: يكشف الغطاء عن شدة، { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } [القلم: 42] السجود؛ لأنهم استكبروا في دار الكسب عن التذلل للرب، والانقياد للطيفة المبلغة والاقتداء بمقتداهم بقوا مطيعين ظهور عن غاية استكبارهم وإبائهم الحق.
[68.43-52]
{ خشعة أبصرهم } [القلم: 43]؛ أي: ذليلة مهينة ينظرون إلى وجوههم المظلمة المكدرة و[أنوفهم] المسودة، { ترهقهم ذلة } [القلم: 43]؛ يعني يغشاهم ذل الندامة، وغضبة الحسرة، وهوان الفضيحة، { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سلمون } [القلم: 43]؛ يعني: في دار الكسب عند سلامة استعداداتهم يدعون إلى طاعة الحق، وتذليل النفس بالانقياد لأمر اللطيفة المرسلة إليهم أبوا وطغوا وعتوا، وكذبوا اللطيفة المبلغة { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } [القلم: 44]؛ يعني: دعني ومن يكذب بالوارد { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [القلم: 44]؛ أي: يمهلهم قليلا في رزق مكاشفاتهم النفسية ليزدادوا في إنكار اللطيفة، ويفتروا ببعض الكرامات التي هي عين المكر مما يقدر العدو على إتيان مثلها مثل المرور على الماء، والطيران في الهواء، والإسراف على الخواطر حتى يظن أنه عند الله من المكرمين، وينكر المقتدى فيأخذهم بغتة، وينزع منهم الآيات والأدوات، ويكشف عليهم أحوال زرعهم وحرثهم فصاروا عارفين بالمقتدى متحرين على فوات الوقت وضياع الاستعداد معذبين أبد الآباد، { وأملي لهم إن كيدي متين } [القلم: 45]؛ يعني: مهلتي في تلك المكاشفات والكرامات كان من كيد المتين القوي، { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } [القلم: 46]؛ يعني: اللطيفة المبلغة يسأل عن إبلاغها الأحكام أجرا يثقل عليهم ولم يطيعون، { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } [القلم: 47]؛ يعني: أم عندهم كتب الغيب فهم يكتبون منها.
{ فاصبر لحكم ربك } [القلم: 48] أيتها اللطيفة المبلغة؛ يعني : اصبري على أذاهم وتكذيبهم لكن { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم } [القلم: 48]؛ يعني: لا تكن ضجرا ولا تستعجل بالدعاء على قواك قبل نزع الآلات والأدوات عنها فربما يهتدون إلى طريق الحق، ويتوبون إلى الله ويتركون الغفلة، والكظم من أشرف الأخلاق، والصبر على الكظم أمر الدواء وأنفع لداء الحادث من الغيب والضجر.
{ لولا أن تداركه نعمة من ربه } [القلم: 49]؛ يعني: لولا أن أدركته الداخلة في النون { لنبذ بالعرآء } [القلم: 49]؛ أي: طرح بالفضاء في جوف الحوت بالولاية الحيوانية النباتية وكان محروما من نعمة النبوة النونية، { وهو مذموم } [القلم: 49] يذم ويلام بنزوله وبانحطاطه من مرتبة النبوية والولاية، وهذا سالك دعا على أممه على سبيل الضجارة بالعجلة وقت عروجه على معارج قلبه، ثم أخذ منه آلات الترقي بدعائه على أممه وطرح في جوف حوت الصدر فبقي فيه بحيث لا تزيد مرتبته ولا يترقى من حاله، وهذه حسرة عظيمة للسالك ولو ألهم في قلب السالك أنك وصلت إلى سدرة المنتهى منتهيك وأعطيت درجات جميع المقربين وليس لك الترقي بعد هذه المرتبة ينبغي أن يعري نفسه بنزع الآلات والأدوات عنها ووقوفها في مرتبتها؛ لأن المراتب الإنسانية والدرجات النفسانية غير منتهية إذا دخل السالك في عالم اللاهوت كل ساعة ونفس ولمحة لا يترقى فيها السالك من مقامه فهو مغبون كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من استوى يوماه فهو مغبون كل الغبن "
، من رضي بالدون وكل ما سوى الحق فهو دون، فاحذر عن الهمة الدنية وعليك بالهمة العلية، كما قال سلطان العارفين طيفور البسطامي - قدس سره - ليحيى بن معاذ الرازي حين سأله عن فضلات وارده الذي ورد عليه ليلة من الليالي وجاءه يحيى ورآه في تلك الحالة فقام وراءه من إقباله إلى السحر وهو على تلك الحالة فلما أفاق والتفت سلم يحيى عليه وقال: أفض ما أفاض الله عليك، فقال: لو أعطاك الله درجات جميع الأنبياء والأولياء لا تقنع بها ولا تسكت عن الطلب؛ لأن عنده أكثر منها لا يتناهى أبد الآبدين ودهر الداهرين، { فاجتباه ربه } [القلم: 50]؛ يعني: اصطفاه بنعمة النبوة التي أعطاه إياها، { فجعله من الصالحين } [القلم: 50]؛ يعني: من اللطيفة المستخلفة عن الأباطيل الصالحة لدعوة الأمم.
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } [القلم: 51]؛ يعني: إذا أرادوا القوى الحاسدة ليحسدوا بالوارد والذي يرد عليك، ويزلقونك بأعينهم لما عظموا أمرك { ويقولون إنه لمجنون } [القلم: 51] لبعض القوى الجاهلة فاستعذ بالله منهم، وتيقن أنك لست بمجنون، والوارد الذي يرد عليك ما هو إلا ذكر وموعظة وغيرة لقواك، كما يقول الله تعالى: { وما هو إلا ذكر للعالمين } [القلم: 52]، فيا أيها الطالب تفسير بطن القرآن ينبغي أن تطلع أولا على ظهر القرآن، ويستقيم ظاهرك على أوامره ونواهيه، ثم تشتغل ثانيا بتطهير باطنك لتفهم بطن القرآن بتعليم الرحمن وإلهام الملك الديان، وتطلع على معرفة حده ثالثا في عالم الجنان، وتشرف بمشاهدة مطلعه رابعا من غير ظن وحسبان، وهو المستعان وعليه التكلان، اللهم ثبتنا على متابعة حبيبك سيد الإنس والجان صلى الله على آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الفرقان.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-10]
أيها الغافل عن القيامة السرية اعلم أن قيامته حاقة مستحاقة محاقة فيما يقول في كتابه الكريم { الحاقة * ما الحآقة * ومآ أدراك ما الحاقة } [الحاقة: 1-3]؛ يعني: حقت القيامة الواقعة في السر الذي فيه خوارق الأمور، وحقائقها أن يعتبر بها؛ يعني: مستحاقة الوجود عن الأباطيل، ومحاقة الوجود الحادث بحيث لا يبقى إلا الوجود الحقيقي في الوجود المطلع، وفي أثر هذه القيامة قال أستاذ الطريقة الجنيد البغدادي قدس سره: ليس في الوجود إلا الله الحاقة الأولى هي المستحاقة، والثاني نية هي المحاقة، والثالثة هي الحاقة التي تحق حقوقها وتظهر الحقائق المودعة في جميع القوى والمفردات واللطائف، ولم يطلع أحد عليها إلا بعد الوصول إليها، ومطالعتها عيانا، { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } [الحاقة: 4]؛ يعني: كذبت قوى اللطيفة القارعة؛ يعني: كذبت قوى اللطيفة القالبية والنفسية العادية المتعدية المكذبة لطائفها المنذرة لها بالقارعة، وهو قيامة القلب حتى نزل لهم العذاب الذي هو علامة القارعة في الدنيا.
{ فأما ثمود } [الحاقة: 5]؛ يعني: قومه وقوى اللطيفة القالبية، { فأهلكوا بالطاغية } [الحاقة: 5]؛ أي: بطغيانهم هلكوا حين سلط الله عليهم عين طاغيتهم من كدورات تراب قالبهم، والأخلاق نشأت من خواص التراب مثل الكبارة والجهل والمذلة وأمثالها { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } [الحاقة: 6]؛ يعني: سلط الله عليهم حين عتوهم الحاصل من ريح قالبهم المكدرة بظلمات الحظوظ الهودية، والأخلاق التي ظهرت منها مثل الإباء عن الحق والاستنكاف عن قبول الحق ومتابعة الهوى.
{ سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما } [الحاقة: 7]؛ يعني: سلط الريح عليهم سبع ليال حاصلة من ظلمات ما افترقت لسبعة أغصانهم مما زين لهم الشهوات من النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث اللاتي هن متاع الحياة الدنيا، وبها يقدر الشيطان أن يزين الدنيا في عيون ابن آدم، وفي وجودك أشار إلى النساء بالقوة القابلة، والبنين بالقوة المتولدة والخواطر التي نتجت من القوى القابلة، والذهب والفضة بالاستعدادات المعدنية القالبية، والخيل المسومة والأنعام والحرث بالاستعدادات الحيوانية والنباتية والنفسية، وثمانية أيام ظاهرة من ثمان صفات التي وهبها الله تعالى لبني آدم ليطيع بها الحق ويستعملها في معرفة الحق؛ وهي الحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والعلم، والإرادة، والقدرة، والحكمة، فاستعمالها في معرفة الحياة وهي الحياة في الباطل والحظوظ، وبالغ في النكران والكفران فبريح ظنونهم الباطلة العاتية أهلكهم الله في سبع ليال مظلمة حاصلة من استعمال سبعة أغصانهم في طلب الباطل، وثمانية أيام مكدرة بدخان الهوى من استعمال ثمان صفاتهم من متابعة الهوى ومخالفة المولى، { حسوما } [الحاقة: 7]؛ أي: متتابعة؛ لأنهم بهذه الأعضاء والصفات تتابعوا في معصية الله تعالى وكانوا غافلين عن ذكر الله، ولا يذكرونه لا كثيرا ولا قليلا، { فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } [الحاقة: 7]؛ يعني: في تلك الليالي والأيام ترى وجودهم الحاصل من حظوظ الباطل [ساقط] لكل مثل { أعجاز نخل خاوية } [الحاقة: 7]؛ أي: ساقط من شدة الريح مما لا يكون أصله محكما؛ يعني: وجودهم وجود إنسان ولأصل هذا شبهت بالنخلة ولكن ما كانت نخلة، وجودهم أصيلا عريقا في أرض الإيمان
اجتثت
[إبراهيم: 26] قوة الأرض
ما لها من قرار
[إبراهيم: 26] فقلعتها ريح ظنونهم الكاذبة بالحق العاتية للحق عن أصلها خاوية خالية الأجواف عن الحق.
{ فهل ترى لهم من باقية } [الحاقة: 8]؛ يعني: ترى اليوم من تلك القوى والخواطر أثرا { كأن لم تغن بالأمس } [يونس: 24] { وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة } [الحاقة: 9]؛ يعني: اللطيفة القالبية الغير المستخلصة عن الأباطيل في الوجود الحادث وقواها الخاطئة المؤتفكة، { فعصوا رسول ربهم } [الحاقة: 10]؛ أي: عصوا اللطيفة المطهرة المرسلة إليهم، { فأخذهم أخذة رابية } [الحاقة: 10]؛ أي: زائدة على عذاب من قبلهم؛ لأن ماء وجودهم طغى الحق، وحصل لهم من ماء وجودهم محبة الدنيا، وشرب وجودهم ماء حبة الدنيوية، بحيث [كان] الشبع في وجودهم مجاري الشيطان، ويدخل في عروقهم لاتساع مجاريهم، وظهر لهم من ماء وجودهم أخلاق كريهة مثل طول الأمل والأماني الباطلة، واستسقاء الحرص والكسالة في الطاعة وأمثالها يسلطها الله عليهم.
[69.11-19]
{ إنا لما طغا المآء حملناكم في الجارية } [الحاقة: 11]؛ يعني: في زمن نوح إذا طغى ماء وجودهم فطغى الماء وسلط عليهم حملناكم في سفينة السكينة عند تلاطم البحر الطاغي الوجود، { لنجعلها لكم تذكرة } [الحاقة: 12]؛ أي: عظة وعبرة؛ لئلا يشتغلوا بعد الأخلاق الحاصلة من الماء الطاغي، { وتعيهآ أذن واعية } [الحاقة: 12]؛ يعني: لتحفظها وتبلغها إلى من بعدها؛ لئلا يطغوا ربهم، ولا يعصوا للطيفة المرسلة إليهم؛ لئلا يعذبوا بالماء الطاغي فما فعلتم بل نسيتموها،
فأغرقناهم في اليم
[الأعراف: 136] بطغيانهم اللطيفة المرسلة إليهم المذكرة لهم.
{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال } [الحاقة: 13-14]؛ يعني: إذا نفخ نفخ الذكر اللساني القالبي رفعت الأرض البشرية والجبال المعدنية من أماكنها، { فدكتا دكة واحدة } [الحاقة: 14]؛ أي: كسرتا حتى صارتا
هبآء منبثا
[الواقعة: 6]، { فيومئذ وقعت الواقعة } [الحاقة: 15]، والواقعة قيامة الروح، كما أن الحاقة قيامة السر، والساعة قيامة القلب، { وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية } [الحاقة: 16]؛ أي: ضعيفة مع صلابتها من شدة نفخ الذكر.
{ والملك على أرجآئهآ } [الحاقة: 17]؛ يعني: القوى على أقطار السماء متحيزين مترصدين مراقبين إشارة الرب تعالى، { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [الحاقة: 17]؛ يعني: يحمل حقيقة العرش الروحاني حقائق الصفات الثمانية فوق القوى القلبية، والذي جاء في الحديث أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخر؛ هي أربعة حروف سوادية التي الآن حافظة صورة عرش كلمة الله، فإذا جاءت القيامة أيدهم الله بأربعة حروف بياضية ليحفظ حقيقة عرش كلمة الله في تلك الساعة؛ ولهذا السر تتقي النفوس المتألمة والمتنعمة في العقبى خالدات، وحقيقتها تتعلق بحد القرآن، فاختصرت على هذا الذي بينت لك مما لم يبينه قبلي أحد قط، واغتنم بهذا البيان، واشتغل بالسلوك في الطريقة المستقيمة المسلوكة بالأقدام الثابتة على الصراط المستقيم، وهو متابعة نبيه الكريم صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان الثابتين على الدين القويم، وهم الذين جمعوا بين ظاهر القرآن وباطنه، وآمنوا بمحكمه ومتشابهة، ومما أولوه من عند أنفسهم برأيهم العليل وعلمهم القليل { يومئذ تعرضون } [الحاقة: 18] الأعمال والخواطر على الله الخبير اللطيف، { لا تخفى منكم خافية } [الحاقة: 18]؛ أي: لا يمكن إخفاء خاطر خفي لا شهادة القوى الباطنة والجوارح الظاهرة على أعمال صاحبها وأفكاره.
{ فأما من أوتي كتبه بيمينه فيقول هآؤم اقرءوا كتبيه } [الحاقة: 19]؛ وهم أصحاب اليمين أهل اليمن والبركة ممن صدقوا اللطائف المرسلة إليهم، وآمنوا بالله واليوم الآخر يقول لهم تعالى: خذوا كتابكم واقرءوا ما في صحيفتكم يقولون فرحين:
[69.20-29]
{ إني ظننت } [الحاقة: 20]؛ أي: أيقنت { أني ملاق حسابيه } [الحاقة: 20]؛ أي: حسابي في الآخرة، { فهو في عيشة راضية * في جنة عالية } [الحاقة: 21-22]؛ يعني: المؤمن الموقن بيوم الحساب والجزاء يكون في ذلك؛ أي: في حالة مرضية في جنة القلب.
{ قطوفها دانية } [الحاقة: 23]؛ يعني: يسهل عليه اقتطاف ثمرات المعارف من شجرة وجودهم يقال في جنة القلب: { كلوا واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم في الأيام الخالية } [الحاقة: 24]؛ يعني: أخلاقهم الحميدة الطيبة يقول لهم: كلوا من طعام الذكر، واشربوا من شراب المحبة، واقطفوا من ثمار المعرفة، هنيئا لكم بما جاهدتم في الله، وصبرتم على ترك اللذات العاجلة والشهوات الفانية لذتها في الأيام الماضية الدنيوية الغير ثابتة، { وأما من أوتي كتبه بشماله } [الحاقة: 25] لاعوجاجه في طريق الحق والبغاية من قبلة التوجه إلى جانب الهوى وإقباله على الدنيا، { فيقول } [الحاقة: 25] صاحب الكتاب { يليتني لم أوت كتبيه } [الحاقة: 25] سيتمنى إن لم يفقه كتابه المملوء من قبائح أعماله وفواسد أفكاره.
{ ولم أدر ما حسابيه } [الحاقة: 26]؛ يعني: يا ليتني كنت ترابا بحيث لا أقدر أن أقرأ كتابي، وفي هذا المقام يتمنى ألا يكون له إدراك كما كان قبل دخوله في الطور الإنساني، ولا ينفع له التمني ولم يزد له إلا عذابا، { يليتها كانت القاضية } [الحاقة: 27]؛ يعني: يتمنى أن يكون منه في القالب فلا يبعث من قبر القالب فيكون موتى ما كان علم بهذا اليوم، { مآ أغنى عني ماليه } [الحاقة: 28]، ما ينفعني الاستعداد الذي حصل في مملكة وجودي، وهذا عذاب يختص بالمجاهدين السالكين الذين سلكوا الطريق من غير إرشاد المرشدين المتصل إرشاده بالنبي الهادي عليه السلام؛ يعني: سلك الطريق برأيه وعقله وفكره وحديثه لا من إلهام رباني ووارد رحماني، يتمنى صاحبه أنه كان ميتا في قالبه قبل اشتغاله بالسلوك ورفعه بعض الحجب بكثرة مجاهدته، كما أن العوام [مبعدين] عن إدراك هذه الآلام مشتغلين بهوى أنفسهم لكثافة حجبهم الظلمانية القالبية والنفسية.
{ هلك عني سلطانيه } [الحاقة: 29]؛ يعني: ما بقيت لي حجة ونزع عني استعدادي الذين يمكن به أن أحاج، وشهدت علي جوارحي وقواي بأعمالي وأفكاري فلا برهان لي ولا سلطان لي ولا نصير لي ولا ظهير لي، يقول تعالى لخزنة جهنم التي رباها وقواها في دار الكسب:
[69.30-42]
{ خذوه فغلوه } [الحاقة: 30] بالتجلي الذي أنقل صورته { خذوه فغلوه } [الحاقة: 30]؛ يعني: جحيم نفسه [وأغلاله] { ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } [الحاقة: 31-32]؛ أي: خذوه بالقوة التي رباها في دنياه فغلوه بالبخل الذي أنقل صورته، { ثم الجحيم صلوه } [الحاقة: 31]؛ يعني: جحيم نفسه التي اشتعل فيها نيران الحقد والحسد والكبر والبغض، ثم في سلسلة أمانيه وأماليه المسلسلة بعضها ببعض إلى الآن، { ذرعها سبعون ذراعا } [الحاقة: 32]؛ وهي إشارة إلى أنها الحجبات الحاصلة من استعمال أغصانها السبعة في الحواس العشرة الظاهرة والباطنة على وفق هواه في جميع دنياه، والاشتغال بما اشتهاه، { فاسلكوه } [الحاقة: 32] فما دخوله أبد الآباد؛ لأنه كفر بالله الأزلي الأبدي، وأشرك بصفاته الأزلية الأبدية حين استعمل صفاته المعطية له لأجل أن يعرف بها الحق من الباطل الحاصل منه النكرة.
{ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين } [الحاقة: 33-34]؛ يعني: لا يصدق اللطيفة المبلغة بوجود البارئ ولا يطعم خاطر السكينة طعام ذكر الله الذي خلقه، ولا يأمر القوى النفسية أن يطعمون الخواطر النازلة إليهم من السكينة، { فليس له اليوم ها هنا حميم } [الحاقة: 35]؛ أي: قريب شفيع له وصديق ينفعه.
{ ولا طعام إلا من غسلين } [الحاقة: 36]؛ يعني: ليس له طعام في هذا المقام إلا غسالة فرحته التي [هي] فرحت وجوده بالأخلاق الردية والأوصاف الرذيلة في دار الكسب، { لا يأكله إلا الخاطئون } [الحاقة: 37]؛ لأنهم أخطئوا رميهم بسهام استعدادهم ففرحوا بتلك السهام التي أعطيناهم؛ ليروا بها العدو وجودهم المدرك الذي حصل من امتزاج المفردات العلوية والسفلية الباقي بعد خراب البدن المجعول أبد الآباد، { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون } [الحاقة: 38-39]؛ أي: أقسم بما تبصرون من قدرتي ونفاذ مشيئتي وإظهار لطفي وقهري، { وما لا تبصرون } [الحاقة: 39] من حكمتي في إيلام بعض المظاهر وإنعام بعضها.
{ إنه لقول رسول كريم } [الحاقة: 40]؛ يعني: إن هذا الوارد الذي يتلو عليكم اللطيفة الخفية وتقول لكم معناه ما تقول من عندها، { وما هو بقول شاعر } [الحاقة: 41]؛ يعني: ما تلقفته بفكرها وما نظمته بحسن طبعها، { قليلا ما تؤمنون } [الحاقة: 41]؛ يعني: لا تؤمن القوى القالبية المكذبة المكدرة باللطيفة المبلغة أصلا، { ولا بقول كاهن } [الحاقة: 42]؛ يعني: لا بقول من إلقاء الشيطان، { قليلا ما تذكرون } [الحاقة: 42]؛ يعني: القوى النفسية المعاندة لا تذكر أصلا أن اللطيفة كانت معنا من قبل ورود الوارد، وما قالت معنا شيئا من هذا وما أمرتنا لاتباع لها وقت الطفولية إلى وقت البلوغ، فالذي تقول في هذا الوقت كون من عند غيرها لا من عندها ينبغي أن يقول في أول حال صاحبناها.
[69.43-52]
{ تنزيل من رب العالمين } [الحاقة: 43]، يعني: إنه تنزيل من رب العالمين يتلوه رسول الرسل الكريم، { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } [الحاقة: 44]؛ أي: لو اختلف في نفسه بعض ما قال؛ أي: لو اختلف من نفسه بعض ما قال، { لأخذنا منه باليمين } [الحاقة: 45]؛ أي: أخذنا قوله عليه بقوة المجادلة والمباحثة، { ثم لقطعنا منه الوتين } [الحاقة: 46]؛ يعني: لقطعنا حجته التي يحاج بها معنا من ظهر قلبه، { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [الحاقة: 47]؛ يعني: من القوى القالبية والنفسية لا يكونوا مانعين إن كنا نقطع حجته التي يحاج اللطيفة بها معنا من عند نفسه وظهر قلبه.
{ وإنه لتذكرة } [الحاقة: 48] وموعظة وعبرة { للمتقين } [الحاقة: 48] الذين اتقوا خواطر النفس الأمارة، واتقوا متاع الدنيا التي هي آلة تزيين الشيطان، { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } [الحاقة: 49]؛ لأنا خلقناهم بظاهر القهر، وجعلناهم على التكذيب والكفران، { وإنه لحسرة على الكافرين } [الحاقة: 50]؛ يعني: إن تضييعهم هذا الاستعداد الذي أعطيناهم ليكونوا مظاهر صفتنا؛ إذا عرفوا يوم القيامة يكون حسرة عليهم لتضييعهم الاستعداد واستعمال في الباطل { وإنه لحق اليقين } [الحاقة: 51]؛ يعني: وقوع القيامة والمحاسبة والمجازاة وورود الوارد لحق اليقين على الواصل.
{ فسبح باسم ربك العظيم } [الحاقة: 52]؛ يعني: بعد وصولك إلى هذه الحالة فنزه باسم ربك العظيم، وهو الله مجازي ذكره الكريم، واشتغل بالذكر الخفي في هذا المقام بتنزيهك مجازي الذكر، وتنزيهك مجازي الذكر فقدان وجودك بوجدان وجودك الحق؛ لتصل إلى حقيقة حق اليقين إن شاء الله رب العالمين.
اللهم أذقنا حلاوة حقيقة اليقين بحق محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه آجمعين.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-10]
أيها السائل عن العذاب الواقع الذي ليس له دافع غير الذكر الواقع قدر صاحبه في العروج النافع له في الرجوع القاطع برهانه الساطع نوره اللامع أما تقرأ سورة المعارج؛ لتفهم من ظاهر تفسيرها كيفية عروجك إلى بارئك، ومن باطن تفسيرها حقيقة رجوعك إلى ربك، وهو قال لحبيبه صلى الله عليه وسلم: { سأل سآئل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج } [المعارج: 1-3]؛ يعني: حضرة الله معارج جميع اللطائف لطيفة.
{ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } [المعارج: 4]، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره سبعمائة ألف سنة، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره ثلاثمائة ألف سنة وستين ألف سنة، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره سبعين ألف سنة، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره ستة آلاف سنة، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة، ولطيفة تعرج إليه في يوم كان مقداره أقل من لمحة، وهذه اللطيفة الأنانية الكاملة المستحقة للمرآتية وإفشاء سر معارجها ومدتها المقدرة من حد القرآن مما لا يحل إفشاؤها.
{ تعرج الملائكة والروح } [المعارج: 4]؛ يعني: القوى الروحانية والروح الأسنية إليه، إلى حضرة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ لأنهم ما كسبوا من أرض البشرية استعدادا وقوة فأما المدبرات الأمرية التي أنزلها الله من السماوات إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة؛ ولأجل هذا السر قال الشيخ الصمداني أبو الحسن الخرقاني قدس سره: إني صعدت ظهيرة للطوف بالعرش فرأيت جماعة يطوفون بالعرش طوافا لا يعجبني لبرودتهم وسكونتهم؛ فطفت بالعرش ألف طوفة وما أتموا طوفة واحدة فسألتهم من أنتم؟ وما هذه البرودة في طوافكم؟ قالوا: نحن الملائكة، وهذا طبعنا لا يمكن أن نتجاوز عما جبلنا الله عليه، فسألوني من أنت؟ وما هذه السرعة؟ قلت: أنا ابن آدم وهذه السرعة نتيجة طبع النار التي ركدت فينا.
{ فاصبر صبرا جميلا } [المعارج: 5]، أيتها اللطيفة الخفية على استهزاء السائلين عن العذاب الواقع للمكذبين لك { إنهم يرونه بعيدا } [المعارج: 6]؛ يعني: يرون العذاب بعيدا لحجابهم وغطائهم { ونراه قريبا } [المعارج: 7]؛ لأن العذاب محيط بهم، بل صار وجودهم عين العذاب بما كسبوا من النار والحطب في دار الكسب؛ فاصبر حتى تشتعل نارهم ويحترق بنارهم حطبهم ويكشف غطاؤهم؛ ليصيروا بالعذاب ويتضرعوا، ويقولون:
ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا
[السجدة: 12]، فيقول لهم:
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون
[السجدة: 20]، ولو أراد والتكرار لقوله لهم:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون: 108].
{ يوم تكون السمآء كالمهل } [المعارج: 8]؛ يعني: سماء الصدر كغلي الزيت إذا أذيبت من شدة اشتعال نيرانهم، { وتكون الجبال كالعهن } [المعارج: 9]؛ يعني: جبال القوة المعدنية القالبية: كالصوف المنقوش عند هبوب ريح هوائهم، { ولا يسأل حميم حميما } [المعارج: 10] من شدة العذاب، ولا يقدرون من شدة عذاب أنفسهم أن يسألوا عن أحوالهم.
[70.11-25]
{ يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } [المعارج: 11] أي بجميع خواطره الشهواتية، { وصاحبته وأخيه } [المعارج: 12]؛ أي: بقالبه وأخيه { وفصيلته التي تؤويه } [المعارج: 13]؛ أي: بقوى نفسانية قريبة إليه، { ومن في الأرض جميعا } [المعارج: 14]؛ أي: بجميع القوى الحاصلة في الأرض البشرية، { ثم ينجيه } [المعارج: 14] من ذلك العذاب بفان؛ يعني: تتمنى اللطيفة النفسية المكدرة الملطخة المكذبة المستهزئة عند نزول العذاب، ونزع الآلات والأدوات عنها أن تفتدي بجميع مالها؛ لتتخلص من ذلك العذاب، { كلا } [المعارج: 15]؛ أي: حقا لا يمكن بها النجاة عند اشتعال نيرانها في دار الكسب، وجمع حطبها الباقي أبد الدهر، والانتزاع منها؛ لأن الكسب { إنها لظى } [المعارج: 15]؛ يعني: النار التي أوقدتها في جهنم قالبا ذات لظى ولهب أبدية دائمة { نزاعة للشوى } [المعارج: 16]؛ يعني: تلك النار حال كونها ينزع الجلد واللحم من العظم، { تدعوا من أدبر وتولى } [المعارج: 17]؛ يعني: النار التي أوقدتها تدعو صاحبها وموقدها الذي أدبر عن الحق وتولى عن اللطيفة المنذرة الداعية بها إلى الجلد، { وجمع فأوعى } [المعارج: 18]، أي: أجمعت القوى والاستعداد في مخالفة الحق، فأوعيها وحفظها؛ ليكون معينها على استيفاء الشهوات عنه الهوائية { إن الإنسان خلق هلوعا } [المعارج: 19]؛ يعني: حريصا على ما منع منه، ضجورا جزوعا عند منع الشهوات عنه، غير صابر على الرياضة والمجاهدة { إذا مسه الشر جزوعا } [المعارج: 20] يجزع إلى الخلق، ولا يرجع إلى الخالق بالتسليم والرضاء { وإذا مسه الخير منوعا } [المعارج: 21]؛ يعني: لا يعطي حقوق القوى العلوية من خير أعطى الله القوى السفلية { إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دآئمون } [المعارج: 22-23]؛ يعني طبيعة الإنسان هكذا إن الإنسان يتوجه إلى الله على سبيل الدوام.
{ والذين في أمولهم حق معلوم * للسآئل والمحروم } [المعارج: 24-25]؛ يعني: القوى السفلية التي توزن حق السائل من القوى العلوية الغريبة النازلة في مساكنهم من استعداداتهم، الحاصلة في مملكة القالب والمحروم الذي كان محروما من طعامه فرضي، وهو الذكر وهو القوة القلبية؛ لأن قوتها سند الذكر.
[70.26-33]
{ والذين يصدقون بيوم الدين } [المعارج: 26]؛ يعني: يوم الجزاء بعد يوم الكسب، { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } [المعارج: 27]؛ يعني: يخالفون قهريته ويرجون لطفه ويعلمون { إن عذاب ربهم غير مأمون } [المعارج: 28]، إلا من رحم الله بلطفه.
{ والذين هم لفروجهم حافظون } [المعارج: 29]؛ يعني: حافظون قوة شهوتهم { إلا على أزواجهم } [المعارج: 30]؛ يعني: إلا على ما جعل الله لهم فيه حقا؛ ليكون بذل ما بتجلي عن وجودهم ويبقى به وتبقى به قوتهم لطاعته، { أو ما ملكت أيمانهم } [المعارج: 30]؛ يعني: فوق الحظ الذي إن لم يكن هو يستحلل الحق ويزوج صاحبه بعد أيام إلى الموت.
{ فإنهم غير ملومين } [المعارج: 30] باستعمالهم القوة الشهرية في استيفاء الحق أو الحظ الذي يكون الحق أنه دائما لله تعالى لا لهوى أنفسهم { فمن ابتغى ورآء ذلك } [المعارج: 31]؛ يعني: من يستعمل القوة الشهوية؛ لاستيفاء حظوظه العاجلة على وفق هواه وخلاف رضا مولاه؛ { فأولئك هم العادون } [المعارج: 31]؛ أي: المجاوزون عن الحسد الظالمون على أنفسهم.
{ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } [المعارج: 32]؛ يعني: يحافظون على أمانات الحواس الظاهرة والباطنة، لا ينظرون إلا بالحق ولا يسمعون إلا للحق ولا يتكلمون إلا بالحق ولا يتفكرون إلا في آيات الحق، وبعبارة أخرى: لا يفشون أسرار الحق وهم الأمناء من الخواطر.
{ والذين هم بشهاداتهم قائمون } [المعارج: 33]؛ يعني: لا يكتمون الشهادة التي تطلب منهم اللطيفة الخفية في استعمال القوى النفسانية القوى الشهوية بغير الحق.
[70.34-39]
{ والذين هم على صلاتهم يحافظون } [المعارج: 34]؛ يعني: الذين هم يراقبون الأوقات التي فيها مأذنون بالتوجه إلى الحضرة الصمدية، { أولئك في جنات مكرمون } [المعارج: 35]؛ يعني: أولئك آمنون من العذاب، مكرمون في جنات القلب، { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } [المعارج: 36]؛ يعني: ما بال القوى الكافرة المستهزئة حين تريد أن تبلغ حكم الوارد مسرعين إليك؛ ليسمعوا أحكام الوارد أحوال الغيب ويستهزئوا { عن اليمين وعن الشمال عزين } [المعارج: 37]؛ أي: جماعات متفرقين حولك، يسمعون كلامك وأخبارك عن حكم الوارد، يكذبون بالقلب، ويستهزئون به إذا تفرقوا من مجلسك
الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون
[البقرة: 15].
{ أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم } [المعارج: 38] بأنهم يجيئون بالصورة عندك ويجلسون معك نفاقا ورياء وسمعة، أن يدخل جنة القلب { كلا }؛ أي: لا يدخل جنة نعيم حتى يطهر قلبه من النفاق، ويصدقك وحظ السالك من هذه الآية أن يجتهد في الخلوة عند غلبة الذكر، ولمعان الأنوار لا تغتر بها نفسه يمنع صاحبه عن الاجتهاد والمبالغة في الذكر؛ لشؤمه من هذه الحالة، ولو اغتر بها لمنع عن الدخول في جنة القلب.
{ إنا خلقناهم مما يعلمون } [المعارج: 39]؛ يعني: من نطفة ثم نربيها طورا فطورا؛ حتى صارت ذاكرة فينبغي ألا ينسى أزل حاله، ولا يغش بما فيه من نعيم مشاهدة الآيات الآثارية؛ لئلا يحرم عن مشاهدة الآيات العقلية، ولا يغتر بها أيضا؛ لئلا يحرم عن مشاهدة الصفات، ولا يقنع بها؛ لئلا يحرم عن المعارف الذاتية.
[70.40-44]
{ فلآ أقسم برب المشرق والمغرب } [المعارج: 40]؛ يعني: أقسم برب مشارق كل نفس نازل من الوجود، ومغارب كل نفس صاعد من الأنفاس النازلة من الوجود، { إنا لقدرون * على أن نبدل خيرا منهم } [المعارج: 40-41]؛ يعني: تبدل نفسك خيرا مما نزل وصعد، { وما نحن بمسبوقين } [المعارج: 41] لا تقدر النفس أن تسبقنا، { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } [المعارج: 42]؛ يعني: دع القوى المكذبة يخوضوا مع هواهم في أودية الشكوك، ويلعبوا مع أطفال شهواتهم في زقاق الطبيعة؛ { حتى يلقوا يومهم الذي } [المعارج: 42] كانوا { يوعدون } [المعارج: 42]؛ حتى يشاهدوا ويعاينوا.
{ يوم يخرجون من الأجداث سراعا } [المعارج: 43]؛ يعني: من قبور قوالبهم مسرعين مجيبين الداعي مجبورين في الإجابة { كأنهم إلى نصب يوفضون } [المعارج: 43]؛ يعني: إلى ضالتهم يسرعون { خشعة أبصرهم } [المعارج: 44]؛ أي: ذليلة خاضعة مهينة ملتفتة يمينا وشمالا طالبة مغيثا ومعينا، ولا تجد مفرا ولا مهربا { ترهقهم ذلة } [المعارج: 44]؛ أي: يغشاهم هوان فوق هوان؛ لتكذيبهم اللطيفة واستهزائهم بالوارد.
{ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } [المعارج: 44]، فيا أيها السالك: اعتبر بهذه السورة، واحذر عن تكذيبك الوارد واليوم الموعود ولا تحسب أن الذي عانيته في نفسك هو اليوم الموعود؛ لئلا يكفر باليوم الموعود العامر، وتيقن أن الذي وجدته في نفسك بالموت الاختياري فكذلك تجده في الموت الاضطراري، ومثل ذلك تجده في اليوم الموعود الكبير العظيم، وإن لم يؤمن بالقيامات الثلاث:
الصغرى: الحاصلة من الموت الاختياري كما قال صلى الله عليه وسلم:
" قبل أن تموتوا ".
والوسطى: بالموت الاضطراري كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من مات فقد قامت قيامته ".
والقيامة الكبرى: وهي القيامة كما نطق به الكتاب والسنة؛ فأنت كافر لا ينفعك الإيمان بإحدى القيامات الثلاث، كما قال الله تعالى:
نؤمن ببعض ونكفر ببعض
[النساء: 150]، وتيقن أن كل قيامة متأخرة أبين وأكبر من القيامة المقدمة، كما أن الذي يبصره عند طلوع الشمس فيزداد ظهوره إذا طلعت الشمس، والذي يبصره عند طلوع الشمس، فيزداد ظهوره عند استواء الشمس في يوم صبيح.
فهكذا ينبغي أن يعلم القيامة الحاصلة بالموت الاختياري، أنها نموذج مما كان مودعا في القيامة التي قامت بالموت الاضطراري، وما شاهدت في هذه القيامة هو أنموذج مما كانت مدخرة في القيامة الكبرى الأخيرة، وأنا مؤمن بحمد الله وحسن توفيقه بالقيامات الثلاث كما نطق به الكتاب والسنة. اللهم ثبتني على الإيمان ووفقني لمتابعة حبيبك نبي آخر الزمان صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان صغيرا وكبيرا.
[71 - سورة نوح]
[71.1-6]
أيتها اللطيفة المستخلصة من كدورات الباطل، المطهرة من قاذورات الطبيعة ادعي أمتك إلى الحق بالحق للحق، وإن أبوا فادعي لهم ولا تدعي عليهم إنا أرسلناك في نوبة نبوة من كان بأمته رءوفا رحيما ومدحناه على خلقه العظيم؛ لأنه قال مع أمته الطاغية:
وأنا بريء مما تعملون
[يونس: 41]، وما قال: إني برئ منكم، وقال في دعائه إذ أذوه:
" اللهم اغفر لهم فإنهم قوم لا يعلمون ".
وتفكر في سورة نوح حيث يقول: { إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } [نوح: 1]، والباقي { أنذر } مقدر يعني: أرسلنا اللطيفة النفسية المطهرة إلى قواها { أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } [نوح: 1] من عذاب الطوفان المائية القالبية في الدنيا، ومن عذاب النارية القالبية في العقبى.
{ قال يقوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه } [نوح: 2-3]؛ يعني: اعبدوا خالقكم ومولاكم، ولا تعبدوا هواكم واتقوا من عقوبة الله الواحد القهار { وأطيعون * يغفر لكم } [نوح: 3-4]؛ يعني: أطيعوا أمري يغفر لكم { من ذنوبكم } [نوح: 4]؛ أي: من ذنوب سلفت.
{ ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } [نوح: 4]؛ يعني: يحييكم في عافية إلى وقت الأجل المعلوم فإن أجل الله لآت
كل نفس ذآئقة الموت
[آل عمران: 185] لا محالة { لو كنتم تعلمون } [نوح: 4] أن الإيمان عند حلول الأجل لا ينفع لصاحبه؛ لأنه ما كسب باستعداد { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم } [نوح: 5-6]؛ يعني: دعوت القوى النفسية حين كنت متجليا بصفات الجلال والجمال قهرا ولطفا فلم يزدهم { دعآئي إلا فرارا } [نوح: 6]، ونفارا مني وإباء لدعوتي.
[71.7-11]
{ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم } [نوح: 7]؛ يعني: أصابع الغفلة في آذانهم؛ لئلا يسمعون دعائي وإنذاري { واستغشوا ثيابهم } [نوح: 7]؛ يعني: ثياب الجهل؛ لئلا يصل إليهم برد تعليمي إياهم { وأصروا } [نوح: 7] ظلما من غاية ظلام وجودهم وكثافة استعدادهم المكدرة، { واستكبروا } [نوح: 7] بالكبر والكفر { استكبارا } [نوح: 7] عن قبول الحق.
{ ثم إني دعوتهم جهارا } [نوح: 8]؛ يعني: الآثار الظاهرة والموعظة الحسنة { ثم إني أعلنت لهم } [نوح: 9]؛ يعني: أعلمتهم ودللتهم على الأفعال بالمجادلة والمباحثة، { وأسررت لهم إسرارا } [نوح: 9]؛ يعني: بينت لهم حقائق الصفات بالحكمة؛ { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السمآء عليكم مدرارا } [نوح: 10-11]، يرسل بلطفه في سماء صدركم مطر الرحمة؛ لينبت في أراضي بشريتكم نبات المعرفة.
[71.12-20]
{ ويمددكم بأموال وبنين } [نوح: 12]؛ يعني: بالاستعدادات الحالمة من المعارف، ونتائج المعرفة مثل التوكل والرضاء، { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } [نوح: 12]؛ يعني: أنهارا من الأخلاق الحميدة الجارية في وجودكم { ما لكم لا ترجون لله وقارا } [نوح: 13]؛ يعني: ما لكم لا تعظمون الله الذي هذا ذكرته كان من آثاره وأفعاله وصفاته.
{ وقد خلقكم أطوارا } [نوح: 14]؛ يعني: ما لكم من طور المعدن والنبات والحيوان { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت طباقا } [نوح: 15]؛ يعني: بعد إتمام الخلق في أطوار المعدن والنبات والحيوان.
{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت } [نوح: 15]، كيف خلق سبع أطوار القلب { طباقا } [نوح: 15]، وجعل قمر الإرادة في طور من أطواره نورا يهدي به إلى نور الولاية، وجعل قمر الإرادة في طور من أطواره نورا يهدي به إلى نور الولاية { وجعل الشمس سراجا } [نوح: 16]، الولاية في طور من أطواره { سراجا } [نوح: 16]؛ يعني: ليستضئ منها قلوب المريدين، كما يقول: { وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } [نوح: 16].
{ والله أنبتكم من الأرض نباتا } [نوح: 17]؛ يعني: في الطور النباتي كنتم من النبات في أرض البشرية فيكم نشور ونماء، حتى ينزل عليكم القوة الحيوانية { ثم يعيدكم فيها } [نوح: 18]؛ أي: في الأرض البشرية وقت الموت الاختياري { ويخرجكم } [نوح: 18] منها عند الإحياء بالحياة الطيبة؛ إذا نزل نطق الذكر من سماء الصدر ويمطر على أرض البشرية { إخراجا } [نوح: 18] بينا، { والله جعل لكم الأرض بساطا } [نوح: 19]؛ أي: من أرض البشرية فراشا مبسوطا؛ { لتسلكوا منها سبلا فجاجا } [نوح: 20]؛ يعني: لتسلكوا من أرض البشرية المبسوطة سبلا بكل فج من القوى والطبائع المذكورة فيها؛ ليعرفوا بدائع صنائع الرب.
[71.21-25]
{ قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } [نوح: 21]؛ يعني: ما سمعوا دعوتي وأعرضوا عني وأقبلوا على هواهم الذي لم يزد استعدادهم وخاطرهم { إلا خسارا } [نوح: 21]؛ أي: نقصانا في دين متبعيه بترك الإيمان، وفي دنياهم بالفناء عن قريب وإبقاء نيران الحسرة في وجودهم { ومكروا مكرا كبارا } [نوح: 22]؛ يعني: حرثوا القوى اللطيفة الداعية لها؛ لتعلموا بالآمالي والآمال.
{ وقالوا لا تذرن آلهتكم } [نوح: 23]؛ يعني: هواكم { ولا تذرن ودا } [نوح: 23]؛ يعني: مودة الهوى، { ولا سواعا } [نوح: 23]؛ يعني: الساعة التي بينها لكم لتعبدوه فيها، { ولا يغوث } [نوح: 23]؛ يعني: ولا استغاثة { ويعوق } [نوح: 23]، والقوة الهوائية التي هي عائقة لكم عن ترككم الشهوات، { ونسرا } [نوح: 23].
{ وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } [نوح: 24]؛ يعني : القوة الطائرة الهوائية في وجود بني آدم؛ يعني: القوى النفسية الضامرة المستكبرة فتعبدون آلهة هواها وضوء القوى الهوائية، والزمان الذي عين لهم الهوى بعبادتها فهذه أرباب لهم (وإلههم هواهم)؛ يعني: لم يتركوا عبادة آلهتهم وأربابهم، ولا يعبدون رب اللطيفة على الأمم التي هي قواها، أنهم كانوا ظالمين باتخاذ الأرباب والآلهة من دون الله الرب الذي خلقهم ورباهم وأعطاهم الاستعدادات والقوى، ووضع اسم الآلهة على الهوى وهذا من أفحش الظلم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، { مما خطيئاتهم أغرقوا } [نوح: 25] بالطواف المائية القالبية المكدرة الظلمانية في الدنيا؛ { فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } [نوح: 25]؛ يعني: في النار القالبية المشتعلة من نار الكبر والحسد بعد الطوفان.
[71.26-28]
{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [نوح: 26]؛ يعني: على أرض البشرية من القوى المستكبرة الآبية الظالمة أحد يدور في فج من فجاجها { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } [نوح: 27]؛ يعني: إذا بقي خاطر من خواطر الهوى في الباطن، أو قوة من القوى النفسية الفاجرة يضلوا القوى المؤمنة ويلدوا خواطر هوائية ليضلوا الصورة المسلمة اللائمة وهذا في مبادئ السلوك؛ إذا تنور القلب من الذكر وخرج طوفان ماء القالب من غلبة الذكر تسأل اللطيفة عن الرب، ألا تذر على وجه الأرض أرض البشرية خاطرا من خواطر الهوى، وتدعو أيضا لنفسها ولقواها التابعة لها ولروحها ولقالبها ولمن دخل بيت قلبها المغفرة بقوله: { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات } [نوح: 28]؛ يعني: رب اغفر لي ولروحي ولقالبي ولقوى قالبي وللقوى المؤمنة النفسية من القوى الفاعلة والقابلة، { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } [نوح: 28]؛ يعني: رمز القوى الظالمة القالبية والنفسية تدميرا لا انتعاش لها بعد، وأهلكهم هلاكا، لا ظهور لها بعد فيا أيها السالك: ينبغي أن تعتبر بهذه السورة، ولا تعجل في الدعاء على أمتك؛ بل تدعو لهم وتتبع سنة نبيك الرفيق الشفيق على أمته؛ لأن
لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر
[الأحزاب: 21].
ولأجل هذا السر أمر المشايخ مريديهم أن يسروا على أنفسهم في الخلوات أبواب الدعوات، لا يسألون الله شيئا قط؛ لأنهم كأنهم كانوا جاهلين في بداية أمرهم بما سألوا من الله بجهلهم شيئا إن أجابهم الله، ضيع استعدادهم وهم جاهلون به وقت الدعاء والسؤال؛ فعليك أن تأخذ من ظاهر تفسيرها حظ ظاهرك، وتأخذ من باطن تفسيرها حق باطنك؛ لتكون سنيا كاملا ظاهريا وباطنيا، اللهم اجعلنا محفوظين بظاهر القرآن وباطنه وحده ومطلعه بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
[72 - سورة الجن]
[72.1-7]
أيتها اللطيفة الخفية التالية كلام الحق؛ إذا استمعت منك القوى النفسية القوى المؤمنة الجنية فمدي في تلاوتك، وأحسني في قراءتك وخبري تخبيرا؛ فافهم إذا رجعوا إلى قومهم يقولون: { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به } [الجن: 1-2] فيمكن أن يؤمن بهم كثير من القوى النفسية. ويدعو أمر اللطيفة الخفية لما تسمع ما يقول تعالى في كتابه الكريم: { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا * وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } [الجن: 1-3]؛ يعني: إذا استمعوا الوارد يؤمنون بالله وحده، ويتقون عن الشرك وعن شبهة ثالث الثلاثة كما بينا في سورة التوحيد، ويقولون تعالت قدرة ربنا عن أن يحتاج إلى اتخاذ صاحبة؛ لإيجاد الخلق { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } [الجن: 4]؛ يعني: اللطيفة النفسية الجاهلة الغير المتخلصة عن الظلمات الحظوظية الباطلة ما على الله عدوانا وكذبا.
{ وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } [الجن: 5]؛ لأجل ذلك كنا ملنا إلى اللطيفة الجاهلية، { وأنه كان رجال من الإنس } [الجن: 6]؛ أي: من القوى القلبية المشتغلة بالتزكية { يعوذون برجال من الجن } [الجن: 6]؛ أي: بقوى النفس الأمارة { فزادوهم رهقا } [الجن: 6]؛ أي: زاد للقوى الأمارة باستعاذة قوى القالب إليها طغيانا وكفرا؛ فينبغي للسالك أن يحترز في أثناء سلوكه بالإصغاء إلى المعاني الغيبية التي من إلقاء القوى الأمارة، ولا يستمد من تلك القوى البتة حتى ينتمي سلوكه، ويصل حضرة الله تعالى ويصير متصرفا في جميع القوى بأمر الحق؛ ليستعملها فيما يشاء كما يشاء على وفق الإشارة.
{ وأنهم ظنوا كما ظننتم } [الجن: 7] أيها القوى الكافرة الجنية الخبيثة، ظنوا بالله ظنونا ما ظنت أيتها القوى الكافرة الأسنية، وهي القوى القالبية الملوثة بأقذار الطبيعة { أن لن يبعث الله أحدا } [الجن: 7]؛ يعني: ظننتم أن الله لن يبعث أحدا منا من قبول القالب.
[72.8-13]
{ وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا } [الجن: 8]؛ يعني: خواطر الحق يحرسون بماء الصدر حراسة شديدة وشهبا؛ يعني: من نجوم خواطر السر والخفى، { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } [الجن: 9]؛ فمن يرد منا أن يستمع يصل إليه من رجم الشهاب.
{ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض } [الجن: 10]؛ يعني: يرجم الشهاب؛ لئلا يسمع من أمر السماء شيئا ليستفيد بها لا تدري أن الله أراد بمن في الأرض البشرية شرا { أم أراد بهم ربهم رشدا } [الجن: 10] بحراسة السماء فحظك أيها السالك من هذه السورة أن يبقى وقت ورود الوارد؛ لئلا تسرق منه القوى النفسية، وتلبس فيها المعاني الخبيثة، ويلقي بها إليك بعد فتور الوارد ظن أنه الوارد بما فيه من معاني الوارد المسترقة، وتلتفت إليه ويسد عليك باب الوارد الأعلى بالتفاتك إلى معاني القوى النفسية، وأكثر من هلك من أهل السلوك من اليونانية والنصرانية الشكمانية بهذه المعاني الملتبسة بالوارد.
لأنهم إذا اشتغلوا بالسلوك، اشتغلوا بربهم غير متشبثين بعروة نبي من الأنبياء ليرشدهم في الغيب، ويطلعهم على الحق والباطل، ويهديهم إلى القوى المستخلصة، ويعرفهم خاصة القوى الملوثة؛ فإذا أصغوا وجودهم بالرياضة قويت القوى النفسية، وصعدت إلى سماء الصدر، واسترقت من المعارف الربانية، ونزلت إلى عالمها، وكملت مع صاحبها فظن صاحبها أنها وارد غيبي ترده من عالم الرب على قلبه واطمأن بها، واستدرج منها حتى صار إماما في ملة الشيطان راعيا للأمم إليه، وهو خليفة خاص الشيطان والحكماء القديمة اليونانية والرهابين المرتاضة بالنصرانية وحكماء الهند الذين أنهم ظنوا الوصول إلى المأمون حين قالوا: إنا ناصر برخانا، والبرخان بلغتهم: الواصل إلى الرحمن، وهم يقولون في أثناء السلوك، وفي الوصول بالاتحاد.
وها جئنا معهم وألزمناهم بلطف الله وحسن توفيقه ومعونيته حتى أسلموا وآمنوا، ثم بعضهم ارتدوا وماتوا على الكفر بأنهم أقروا بأن الاتحاد باطل؛ فأما الأئمة المهدية الذين اعتصموا بحبل نبي من الأنبياء واشتغلوا بالسلوك، أمنوا من هذه الورطة الوعيرة بأن استحكمت عقدة إرادتهم، ذلك بولاية ذلك النبي حتى دخلت نوبة النبوة المحمدية الناسخة لجميع الأديان لكمال أدرج الله في نبوته، أغلق المسرفون باب سمعهم بالشهاب الثاقب من أوج ولاية رسالته؛ فمن دخل في زمرة متبعيه، واشتغل بالسلوك على وفق إشارته سلم من القوى الخبيثة النفسية وأمن من إلقائها، وينبغي للسالك ألا يغتر بأنه يقول على اللسان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، بأنه ممن يجوز له السلوك؛ لئلا يغتر بجبة الغرور في شبكة المغرور؛ لأن التشكيك أمر يختص بولاية الرسالة وينبغي أن يكون المسلك حيا في عالم البشرية؛ ليهديك إلى الصراط المستقيم، ويقرئك الخواطر ومنشأها، والمسلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو إلى الذي كان وصاه بالأسرار، وعلمه كيفية الوصول إلى عالم الأنوار وأصله إلى حضرة الله الواحد القهار، وهو أرشد مريده ووصاه كما وصاه نبيه وعلمه وأوصله إلى الآن معنعنا متصلا؛ لتمكن الاستفادة من قلبه وقالبه صورة ومعنى، ويدفع عن نفسه كيد قطاع الطريق، ويسهل عليه العبور على مكامنهم بقوته وهمته وذكره.
{ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا } [الجن: 11]؛ يعني: منا القوى الصالحة المصدقة، ومنا القوى الفاسدة المكذبة لقوانا المتفرقة طرائق مختلفة باختلاف الطبائع المتضادة التي ركزت فينا، { وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا } [الجن: 12]؛ يعني: علمنا يقينا بعد استماع القرآن من اللطيفة التالية أن لن تفوته إن أراد ربنا الحق أمرا في أرض البشرية، ولا نطيق أن نهرب منه إن طلبنا.
{ وأنا لما سمعنا الهدى } [الجن: 13]؛ يعني: الوارد والهدى الذي فيه { آمنا به } [الجن: 13]، وصدقنا اللطيفة التالية فيما تلت علينا؛ { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } [الجن: 13]؛ يعني: من يصدق الرب، ويؤمن به فلا يخاف بخسا ورهقا؛ أي: نقصا من المعرفة ولا نكرة وظلمة تغشاه بحيث يدين على قلبه.
[72.14-19]
{ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } [الجن: 14]؛ أي: منا من سلم نفسه إلى ملكه - وهو اللطيفة - تسليما حقيقيا، ومنا الجائر الذي ظلم على نفسه بترك التسليم لمسلكه واختياره مشتهى وفق هواه؛ { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } [الجن: 14]؛ يعني: من صار مستسلما لشيخه وترك اختيار نفسه قصد طريق الحق والرشاد وتوخاه، { وأما القاسطون } [الجن: 15] الذين اتبعوا أهواءهم وخالفوا مولاهم وظلموا أنفسهم بمتابعة هواهم والتلذذ بالشهوات العاجلة؛ { فكانوا لجهنم حطبا } [الجن: 15] أنهم جمعوا حطبا في دار الكسب، وأوقدوا نيران الكبر والحسد حتى صار وجودهم القالبي حطبا، وقواهم النفسية نيرانا فيعذب في دار البوار بتلك الحطب والنار أبدا.
{ وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقا } [الجن: 16]؛ يعني: إن كانت القوى استقامت على طريق العدل والاستقامة في الطريق واجبة لمن أراد وجه الله تعالى { لأسقيناهم مآء } [الجن: 16] المعرفة كثيرا؛ يعني: أسقيناهم من ينبوع العلم الكثير الماء، المعرفة كثيرا؛ يعني: أسقيناهم من يبنوع العلم الكثير، لا من ينبوع العلم القليل، والعلم الكثير هو: اللدني الفائض من رب العلم الجليل، والعلم القليل: هو الذي يحصل من الفكر بالرأي العليل؛ { لنفتنهم فيه } [الجن: 17] وهذا مقام الابتلاء؛ يعني: نمتحنهم بالعلم اللدني إن أفشوا سره عند الأغيار؛ { يسلكه عذابا صعدا } [الجن: 17]، وإن ستروه وأدوا حق الأمانة؛ يقربه إلى مقام القربة الزلفى، ويزيده من المعارف الذاتية ما لم يطلع عليه أحد.
{ ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا } [الجن: 17]؛ يعني: من يعرض بعد الاطلاع على المعرفة الذاتية عن ذكر ربه عند المسترشدين فوق طاقتهم { يسلكه عذابا صعدا } شاقا على نفسه، { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } [الجن: 18]؛ يعني: مساجد القلوب بنيت في عالم الأنفس لله، فلا تدعو في تلك المساجد مع ذكر الله أحدا؛ يعني: لا تأذن للخواطر الصادة لك عن ذكر الله في دخولها في قلبك، وأكثر تقرر القلب يكون؛ لأجل أن الذاكر يأذن للخاطر الدخول في أثناء الذكر فاحذر أيها السالك عن الخواطر في الذكر القلبي.
{ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } [الجن: 19]؛ يعني: إذا أرادت اللطيفة الخفية أن تقوم في مسجد القلب وتشتغل بذكر الله يجمعون عليه الخواطر المتشعبة جمعا؛ ليشوشوها ويبطلون توجهها.
[72.20-24]
{ قل إنمآ أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا } [الجن: 20]؛ يعني: تتوجه اللطيفة على الحق وتذكره وتقول: لا أشرك به أحدا، ولا أذكر غيره أحدا، ولا آذن أن يدخل الخاطر في ذكر الله أبدا.
{ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } [الجن: 21]؛ يعني: قل للخواطر المتجمعة عليك: إني لا أملك أن أرفع عنكم ضرا، ولا أن أسوق إليكم نفعا
إلا ما شآء الله
[الأعلى: 7]، وهذا القول في بداية حال السالك، إذا اجتمعت عليه القوى القالبية والنفسية ليستمعوا منه الفوائد وإرادتهم ضد السالك على سلوكه.
فيجب عليه في هذا المقام، أن يدفعهم عن نفسه بهذا الكلام، فأما في النهاية فيرشدهم ويهديهم ويعرفهم أمر الله تعالى { قل إني لن يجيرني من الله أحد } [الجن: 22]، ولن يمنعني من عذابه أحد إن اشتغلت في هذا المقام بغير ذكر يعزز الذكر عن القلب أو القلب عن الذكر { ولن أجد من دونه ملتحدا } [الجن: 22]، الذكر للقلب ملجأ ولا من دون القلب للذكر مسكنا وملتحدا.
{ إلا بلاغا من الله ورسالاته } [الجن: 23]؛ يعني: إلا ما أمرني أن أبلغ وأرسل لأجل البلاغ إليكم، لو أشتغل بالإبلاغ والإرسال لا يضرني ذلك الإبلاغ { ومن يعص الله ورسوله } [الجن: 23] بعد إرسال الله إليكم رسوله وإبلاغ اللطيفة المرسلة المبلغة أمره إليكم { فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا * حتى إذا رأوا ما يوعدون } [الجن: 23-24]؛ يعني: يعذبون في مشعلة قلوبهم حتى يبعثوا من قالبهم ويشاهدوا ما ادخر الله لهم؛ { فسيعلمون } [الجن: 24] في ذلك الوقت { من أضعف ناصرا وأقل عددا } [الجن: 24]؛ أي: اللطيفة الملوثة القالبية والنفسية أضعف ناصرا لقواهم المتبعة لهواها، أم اللطائف المطهرة لأتباعها من القوى المؤمنة المتابعة لمولاها، أو القوى القالبية والنفسية الفاجرة أقل عددا، أم القوى القلبية البشرية والروحية والخفية المؤمنة.
[72.25-28]
{ قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا } [الجن: 25]؛ يعني: قل لا أدري إن ذلك قريب أم بعيد { علم الغيب } [الجن: 26]، ربنا وهذا من علوم الغيب، { فلا يظهر على غيبه أحدا } [الجن: 26]؛ يعني: لا يظهر ربنا ولا يكشف على أحد علم غيبه المخصوص به، { إلا من ارتضى من رسول } [الجن: 27]، يستثني ويقول الله، إلا من يصطفيه بالرسالة فإنه محرم لسره وأمين على وحيه لا ينطق عن الهوى ولا يتكلم، إلا بأمر المولى { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } [الجن: 27]؛ يعني: يجعل له حرسا من خواطر السكينة محرسة ورصدا من نور الجذبة يرصده؛ لئلا تقدر القوى الخبيثة النفسية على استراق السمع والاطلاع على الوارد القدسي، ويدفعون الشياطين على إلقاء خاطر في نفسه؛ لتتكلم اللطيفة المرسلة به ظنا بأنه من الوارد؛ { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [الجن: 28]؛ يعني اللطيفة المرسلة أن الخواطر التي جاءت من عند السكينة، أبلغوا رسالات ربهم من غير شوب بالخواطر الشيطانية.
{ وأحاط بما لديهم } [الجن: 28]؛ ويعني: أحاط علم الله بما عند الرسل من أبراره { وأحصى كل شيء عددا } [الجن: 28]؛ يعني: أحصى نعمه ومعارفه التي أنعم على اللطيفة، وعدها عددا تذكره اللطيفة، واشتغل بأداء شكره، ولا يمكن لأحد أن يشكر ربه حق شكره أبد الآباد؛ لاعتراف من إذا حق شكره، فإن اعترافه بالعجز عن أداء حق شكره غاية شكر لربه، اللهم اجعلنا عارفين نعمك معترفين بالعجز عن أداء حق شكرك بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-12]
يا أيها المتأمل في إبلاغ الوارد، والمزمل بكساء النفس عند هبوب رياح اللطيف البارد حرارة نيران النشوة الشارد لذة الرقاد عن العين الطارد جند الشهوات عن الباطن، وغماء لأنف الشيطان الماردة تفكر في سورة المزمل حيث قال الله تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم وتعظيما له: { يأيها المزمل * قم اليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه } [المزمل: 1-4]؛ يعني: أيها المتلفف بكساء النفس عند وجدان برودة الوارد قم في غلبة أنوار الجلال للتقرب إلى الله الملك المتعال، والتوجه بالكلية إليه خاصة في تلك الحالة إلى أن يطلع صبح الجمال من أفق الصدر، وإن غلب عليك الملال وعلى جوارحك الكلال فاسترح قليلا نصفه أو ثلثه أو ثلثين.
واعلم أن الله لا يمل حتى تملوا فتقرب إليه بالنشاط { ورتل القرآن ترتيلا } [المزمل: 4]؛ يعني: تثبت فيه تثبيتا، وتدبر في قصصه تدبيرا، وتفكر في أوامره ونواهيه تفكرا تاما والتقط من در حكمته سلاما، وتلذذ بأذيال رحمة الله عند قراءتك آية الرحمن بمطالعتك آيات ألطاف البر التواب، وقد جاء في الحديث الصحيح المروي عن سيد الأحباب أنه قام بآية من القرآن ليلة ومراوده أبو ذر وإن تلك الآية كانت
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
[المائدة: 118]، فاعتبر من جولان سره في ميدان هذه الآية الجامعة لأسرار مظاهر اللطف والقهر وأسراره من حد القرآن، ولا تعبر على الآيات كعبور الغافلين كما ذكرهم تعالى في كتابه حيث يقول:
وكأين من آية في السموت والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف: 105]، وتيقن أن كل آية من آيات القرآن كنز من كنوز الرحمن فيه جواهر ودرر لا تحصى.
فاغتنم بتسيير القرآن على اللسان وكشف بيانه على الجنان، وعندي أن من يقدر على اقتطاف ثمرة من ثمراته يستنكف التلذذ بثمرات الجنان، تيقظ فتفكر { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } [المزمل: 5]؛ يعني: ثقيلا في العمل والوزن والقدر؛ أي: عمله ثقيل على الأبدان، وثوابه في الميزان، وقدره عظيم عند الرحمن، والموارد ثقل إذا يرد على السالك في البداية كأن السماء وقعت عليه، ولا يحسب أن ثقل الوارد يوازي ثقل الوحي ولا عشر عشيره، روت عائشة رضي الله عنها " رأيته ينزل عليه في اليوم الشاتي الشديد البرد فينفصم عنه وأن جبينه يتفصد عرقا " وهو صلى الله عليه وسلم في القوة بمرتبة، قيل في حقه أن الله أعطاه أربعين ضعف قوة أعطاها الله لموسى بن عمران وهو أقوى الأنبياء.
{ إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا } [المزمل: 6]؛ يعني: الثلث الأخير هي أجدر للقانتين أن يتوجهوا إلى الله فيه؛ لأن في تلك الساعة أخذت النفس حظها من النوم، ولها نشاط في الطاعة، والوقت وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا، وأصوب للتقرب إلى الرب، وأصح للقراءة دائم، وأتم إخلاصا في القيام، وأكثر بركة في تلك الساعة المباركة التي يمتد سلطنة الجلال إلى آخرها، وقرب طلوع صبح الجمال والدعاء والتضرع والابتهال، وأرجى للاستجابة؛ لأنه يقول:
" هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه ".
{ إن لك في النهار سبحا طويلا } [المزمل: 7]؛ يعني: إن اللطيفة في نهار تجلي الجمال متصرفا في القوى، وإقبالا وإدبارا في قضاء الحقوقية مما فرض عليها أداؤها وقضاؤها، كما جاء في الحديث
" إن لنفسك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا "
في عالم الأنفس؛ وهي القوى القالبية، وإن لزوجك عليك حقا في عالم السر الخفي، وأداء هذه الحقوق لا يمكن إلا في تجلي نهار الجمال، { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } [المزمل: 8] بعد الصلاة في الليل اشتغل بذكر لا إله إلا الله، وأخلص في الذكر لله إخلاصا، وانقطع إليه في الذكر انقطاعا كليا وهذا من خاصية الذكر، فالواجب عليك أن تشتغل بذكر الله في ناشئة الليل مخلصا في ذكرك منقطعا عن ذكر غير ربك.
{ رب المشرق والمغرب } [المزمل: 9] على قراءة من يقرأ بأن يكون على نعت الرب؛ يعني: رب مشرق شمس الروح في عالم الأجسام، ومغرب شمس الإيمان في عالم الأرواح، وفي هذا سر يتعلق بحد القرآن، { لا إله إلا هو } [المزمل: 9] ليس وجود يستحق لأن يكون معبودا إلا هو، { فاتخذه وكيلا } [المزمل: 9]؛ يعني: فوض إليه أمرك؛ لأنه قيم بأمورك قبل شعورك بوجودك، فالآن أيضارع التدبير إلى من خلقك تستريح؟
{ واصبر على ما يقولون } [المزمل: 10] القوى الجاهلة بألا يقوم بأمرنا، { واهجرهم هجرا جميلا } [المزمل: 10]؛ يعني: لا تؤتهم عنك، ولا تلتفت إلى ما يقولون فاهجرهم بالقلب، وخالطهم بالقالب، { وذرني والمكذبين أولي النعمة } [المزمل: 11]؛ يعني: دعني والقوى المكذبة بالوارد باللطيفة المنذرة أولي النعمة؛ يعني: بالاستعدادات التي أنعمنا بها عليهم، { ومهلهم قليلا } [المزمل: 11]؛ أي: زمانا قليلا في الدنيا؛ ليزيدوا في شقاوتهم الموعودة لهم.
{ إن لدينآ أنكالا } [المزمل: 12]؛ يعني: قيودا عظاما هي نتيجة صفة بخلهم، { وجحيما } [المزمل: 12].
[73.13-18]
وهي نتيجة صفة حسرتهم، { وطعاما ذا غصة } [المزمل: 13]؛ هي ثمرة شجرة بغضهم، { وعذابا أليما } [المزمل: 13]؛ هي ثمرة استهزائهم وتكذيبهم، { يوم ترجف الأرض } [المزمل: 14]؛ أي: تزلزلها أرض البشرية، { والجبال } [المزمل: 14]؛ أي: قوة معدنية القالب، { وكانت الجبال كثيبا مهيلا } [المزمل: 14]؛ يعني: من سطوة نزول سلطان الذكر إلى الصدر، وتسير جبال معدنية القالب كالرجل الساحل.
{ إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شاهدا عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا } [المزمل: 15]؛ يعني: أيتها القوى المستكبرة إنا أرسلنا إليكم نطفة خفية لتكون شاهدة على أفعالكم وأقوالكم وحركاتكم وسكناتكم، كما أرسلنا إلى فرعون اللطيفة القالبية الغير المستخلصة رسولا من اللطيفة السرية المزكاة { فعصى فرعون الرسول } [المزمل: 16]؛ يعني: عصى اللطيفة القالبية الغير المستخلصة اللطيفة السرية المنذرة، { فأخذناه أخذا وبيلا } [المزمل: 16]؛ يعني: عاقبناهم عقوبة عظيمة نعرفهم في بحار الهوى، { فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا } [المزمل: 17]، يعني: كيف لكم أن تتقوا من عذابنا يوم يجعل ولدان خواطركم متقين شاهدين على كفركم شمصا من أهل الوارد، إن كفرتم بالله في الدنيا بتكذيب آياته والإعراض عن اللطائف المرسلة إليهم.
{ السمآء منفطر به } [المزمل: 18]؛ يعني: في ذلك اليوم لنزول جنة الوارد، وهيبة سلطان تشق سماء الصدر، { كان وعده مفعولا } [المزمل: 18] بلا محالة كينونة ذلك اليوم؛ لأن وعده صدق.
[73.19-20]
{ إن هذه تذكرة } [المزمل: 19]؛ يعني: إن هذه الآيات موعظة وتذكير لمن يشاء سبيل الهدى والإعراض عن الهوى، { فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا } [المزمل: 19] واشتغل بذكره بكرة وأصيلا؛ لئلا يذوق في ذلك اليوم عذابا وبيلا.
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك } [المزمل: 20]؛ يعني: أيتها اللطيفة الخفية إن الله يعلم أنك في بداية السلوك في ظلمة الليل الجلال تقوم مقام التوجه أقل من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من القوى معك، { والله يقدر اليل والنهار } [المزمل: 20] فلا بد من تجلي الجلال والجمال على وفق استطاعة القالب والروح، { علم أن لن تحصوه } [المزمل: 20] حتى لن تطيقوه، لأن القوة البشرية لا تتحمل هذه المجاهدات التي كنتم تشتغلون بها في البدايات، لأن المبتدئ الرحيل في الطريق ومباينه يظن أنه بالعجلة وحمل الميثاق يقطعه وذلك من غاية اشتياقه وقلة معرفته بالحق، فلما سلك ووصل إلى عالم العرفان يطلع على أن كل شيء مرهون بوقت معين لا يمكن الوصول إليه قبل إيقانه، فدخل فيه الضعف الذي أشار الله تعالى إليه بقوله:
وعلم أن فيكم ضعفا
[الأنفال: 66]، ولحكمة هذا الضعف أسرار جمة مختصة بحد القرآن، { فتاب عليكم } [المزمل: 20]؛ يعني: رحمكم بالتخفيف والعفو والتقصير في القيام بمثل تلك المجاهدات العنيفة، { فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى } [المزمل: 20] من تناول الحظوظ النفسية والقلبية مما لا يمكن بقاء الحقوق القلبية والروحية إلا بها، فمن عليكم من أن جاهدتم فينا وهديناكم إلى الملة الحنيفية السمحة السمية، من [قوى] صحيفة سركم.
واعلموا
" إن الدين لمتين فأوغلوا فيه برفق "
؛ لأن المنبت لا أرض قطع ولا ظهرا أبقى، { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } [المزمل: 20]؛ يعني: الهوى المؤمنة القالبية ولا الجالبية طعام الحظوظ من عالم الشهادة ابتغاء الحقوق المودعة في الحظوظ التي هي من فضل الله لم تقرع لقراءة صحيفة سره، فهو معفو مغفور أن يقتصر على خمس آيات من لوح قلبه، { وآخرون يقتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه } [المزمل: 20]؛ يعني: القوى المؤمنة النفسية الذين يجاهدون للقوى الكافرة القالبية والمشركة النفسية، ويقاتلون القوى الشيطانية النازلة في جهنم الصدر؛ لئلا يغلبوا على القوى القلبية مغفورون وإن اقتصروا على تيسير من قرأ الآيات السرية من لوح القلب مخزون على المقابلة لما كانت القوى القالبية والسرية مجذبة على القراءة، { وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } [المزمل: 20]؛ يعني: أقيموا في مقام التوجه، وآتوا زكاة أنفسكم، وإيتاء زكاة النفس في حد المقام تطهيرها من الحظوظ بحق الذكر، { وأقرضوا الله قرضا حسنا } [المزمل: 20]؛ يعني: من صلة الرحم وقري الضيف، وصلة الرحم في هذا المقام للسالك أن ينصح لقوى النفس والقالب بالخير، ويدعوهم إلى سبيل النجاة بحسن الخلق والمداراة والرفق بهم، وقري الضيف هو إكرام الخواطر السرية والخفية وإكرامها حضور القلب مع الرب، وإطعامها طعام الذكر وشراب الإخلاص، { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } [المزمل: 20]؛ يعني: كل عمل يعمل هو ذخيرة مدخرة عند الله لا بد أن تجدوه؛ لأنه مستودع، { هو خيرا وأعظم أجرا } [المزمل: 20]؛ أي: الساعة ادخرنا فيها خير لأنفسكم وطاعة هي خير مما أفنيتم ساعاتكم بالبطالة؛ أي: ادخرتم في تلك الساعة لأنفسكم عقوبة وأعظم أجرا للعمل القلبي من العمل القالبي.
فاجتهدوا بعد تحقيق المجاهدة الصورية بالمجاهدة المعنوية؛ وهي الإخلاص في الأعمال وصدق التوجه ونفي الخواطر الردية؛ { واستغفروا الله } [المزمل: 20] من رؤيتكم خلاصكم، { إن الله غفور رحيم } [المزمل: 20]؛ يعني: يغفر لمن يتوب إليه بعد الاكتساب من المعاصي، ويرحم من تغلب عليه شهوته، وهو يريد أن يدفعها ولا يمكن له دفعها لغلبة قواها القالبية والنفسية، وضعف قوى قلبه ينصره بخواطر السكينة وملكية الرحمة ما لنا ذلة على صدره من عالم سره ليخرج من ضيق المجاهدة مع الشهوة إلى متسع عالم الرحمة.
اللهم اغفر خطايانا، وارحم عجزنا وتقصيرنا بحق محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[74 - سورة المدثر]
[74.1-17]
يا أيها المنذر لا تدثر بدثار القالب، { يأيها المدثر } [المدثر: 1] من خوف وارد القلب، { قم فأنذر } [المدثر: 2] قواك بأمر الرب، { وربك فكبر } [المدثر: 3]؛ أي: عظم الرب عما تصفه القوى الكافرة، { وثيابك فطهر } [المدثر: 4]؛ يعني: طهر بماء الذكر ثياب وجودك ليمكن لك أن تعظم الرب، { والرجز فاهجر } [المدثر: 5]؛ يعني: اهجر الرجز بعد تطهير الثياب؛ لئلا يلوث بالخاطر الهوى، { ولا تمنن } [المدثر: 6] بتكثير؛ يعني: لا تنذر الخلق لنفسك، ولا تنصحهم لحظك، ولا تعط مالك من المعارف الآثارية تريد به وجاهتك حتى يفيض عليك من المعارف الصفاتية، { ولا تمنن تستكثر } [المدثر: 6] في نفسك عين معرفتك حتى يشرفك الله بالمعارف الذاتية، ولا تعمل لله مراقبة جهره لتكون مخلصا في عملك.
{ ولربك فاصبر } [المدثر: 7]؛ يعني: فاصبر على كتمان الأسرار خاصة لأمر الرب وغيره على محذرات أسراره المقدسة؛ لئلا يطلع عليها الأغيار، { فإذا نقر في الناقور } [المدثر: 8]؛ يعني: إذا نفخ في الصور التي هي كالناقور، وفي عالم الأنفس ناقور كل أحد قالبه، والنافخ فيه قوة إسرافيلية كما ذكرنا من قبل، { فذلك يومئذ يوم عسير } [المدثر: 9]؛ يعني: النفخ في القالب في تلك الساعة أمر عسير، { على الكافرين } [المدثر: 10]؛ أي: على القوى الكافرة، { غير يسير } [المدثر: 10] ليس بعده عسرة رجاء اليسر.
{ ذرني ومن خلقت وحيدا } [المدثر: 11]؛ يعني: أيتها اللطيفة الخفية المنذرة ذرني ومن خلقت من القوى وحيدا من غير شريك، { وجعلت له مالا ممدودا } [المدثر: 12]؛ يعني: جعلت له استعدادات كثيرة، وأعطيته آلات وأدوات لأجل الكسب، { وبنين شهودا } [المدثر: 13]؛ يعني: بنتائج شاهدين لها مأمور بأمرها معينين على كسبها، { ومهدت له تمهيدا } [المدثر: 14]؛ يعني: بسطت له بساط العيش على أحسن وجه خيرا من لطائف النباتات والحيوانات العلوية والسفلية، { ثم يطمع أن أزيد } [المدثر: 15] بعناده وكفرانه؛ يعني: { كلا } [المدثر: 16]؛ أي: ليس الأمر كما ظن، { إنه كان لآياتنا عنيدا } [المدثر: 16] كما بينا له أنه عاند اللطيفة المنذرة والآية البينة معاندة جحودا وإنكارا { سأرهقه صعودا } [المدثر: 17] سأكلفه اليوم مشقة دائمة صاعدة أبد الآباد.
[74.18-30]
{ إنه فكر وقدر } [المدثر: 18]؛ يعني: القوى الكافرة إذا فكرت في حقيقة الوارد ما تنطق به اللطيفة المنذرة، وقدر في نفسه أن يؤمن بما نطقت اللطيفة، ثم فكرت في ترك اختيارها وتسليمها اللطيفة، وترك مشتهياتها قدرت تقدير أسوء وأنكرت الآية البينة، { فقتل كيف قدر } [المدثر: 19]؛ أي: طرح عن حضرة الحق، { ثم قتل كيف قدر } [المدثر: 20] على طريق التعجب؛ يعني: بعدما علم وذاق حلاوة الوارد كيف قدر نفسه إنكاره، { ثم قتل كيف قدر } [المدثر: 20] ثم لعن وطرح كيف قدر في نفسه إنكار الآيات البينات بعد مشاهدتها.
{ ثم نظر } [المدثر: 21]؛ أي: نظرة القوة الكافرة على ترك هواها، { ثم عبس } [المدثر: 22]؛ أي: عبس وجهها على ما فكرت في ترك هواها وتسليمها للطيفة، { وبسر } [المدثر: 22]؛ أي: كره كراهة شديدة في قبول ما تنطق به اللطيفة، { ثم أدبر } [المدثر: 23]؛ أي: تولى عن قبول الحق، { واستكبر } [المدثر: 23]؛ أي: أبى أمر الحق استكبارا بنفسه بأنه كيف يكون تبعا لغيره، { فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر } [المدثر: 24]؛ أي: ليس هذا الوارد الذي يرد على اللطيفة المنذرة إلا سحر يروى عن شجرة قواها، { إن هذآ إلا قول البشر } [المدثر: 25] يقول من تلقاء نفسه، وألقاه قواها الساحرة له.
{ سأصليه سقر } [المدثر: 26]؛ يعني: القوة الكافرة لسوف أصليها في سقر قالبها، وهو اسم من أسماء جهنم التي تتعلق بالقالب، { ومآ أدراك ما سقر } [المدثر: 27]؛ يعني: سقر قالب جهنم محماة بنيران البغض والكبر وحب الشهوات، { لا تبقي ولا تذر } [المدثر: 28]؛ أي: لا تبقي أهلها أحياء ولا تذرهم أمواتا، { لواحة للبشر } [المدثر: 29] مغيرة لوجه البشرية حتى يصير مكدرا صبورا، وتلوح له هذه الحالة ويشاهد وجهه عيانا، { عليها تسعة عشر } [المدثر: 30] من القوى العنصرية إذا ضربت أربعة في أربعة يحصل ستة عشر، وخاصية المعدنية والنباتية والحيوانية على هذه الستة تسعة عشر من قواها، وخواصها في صورها هائلة موكلة ليشعلوا نيرانها ويعذبوا فيها أبد الآباد.
[74.31-37]
{ وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة } [المدثر: 31]؛ يعني: كانوا مأمورين بأمور بأمر الله غالبين على الهوى الجسماني غير مغلوبين، { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } [المدثر: 31]؛ يعني: فتناهم بقواهم وبعدد قواهم الذين ظنوا أن يقدروا على غلبتهم لقلة عددهم، وما ظنوا أن قواهم كانوا قائمين بهم واليوم غالبون بأمر الرتبة عليهم؛ { ليستيقن الذين أوتوا الكتب } [المدثر: 31] عدتهم بما أوتوا من علم الوارد، { ويزداد الذين ءامنوا إيمنا } [المدثر: 31]؛ يعني: يزداد إيمانا من شاهد هذه القوى في نفسه، وعلم عددها إذا جاء الوارد وبين هذه الأعداد كما هي إيمانا مشاهديا على إيمان مكاشفي، { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتب والمؤمنون } [المدثر: 31] ألا يشكون فيما جاء به الوارد ونطقت به اللطيفة المنذرة يعلمهم بما في كتابهم مسطورا، { وليقول الذين في قلوبهم مرض } [المدثر: 31]؛ أي: القوى المنافقة التي ما طهرت بماء الوارد باطنها، { والكفرون } [المدثر : 31] والقوى المنكرة للوارد واللطيفة المنذرة، { ماذآ أراد الله بهذا مثلا } [المدثر: 31]؛ يعني: أي شيء أراد الله بهذا المثل؟ أي: لا تحقق لعدتهم بل هو مثل ضربه لمعنى خاص لا يتعلق بسقر، { كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء } [المدثر: 31]؛ يعني: الله أعلم باستعداد كل أحد من الخلق فمن شاء أن يكون مظهرا لقهره واستعداده لائق بأن يكون مضل قهره يضله، ومن شاء أن يكون مظهرا للطفه واستعداده قابل للطف يهديه، { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [المدثر: 31] وما يعلم بالقوى التي خلقها في مملكتك إلا هو، { وما هي إلا ذكرى للبشر } [المدثر: 31]؛ يعني: ذكر النار والسقر؛ لأجل الموعظة ليتعظ ويذكر أهوالها وينب إلى الله ويخافها.
{ كلا والقمر } [المدثر: 32] هذا قسم يقول حقا وحق اللطيفة الجمالية الطالعة في القلب، { والليل إذ أدبر } [المدثر: 33] وحق اللطيفة الجلالية المستكنة في القالب، { والصبح إذآ أسفر } [المدثر: 34] وحق اللطيفة الحاجزة بين بياض الجمال وسواد الجلال التي أودعناها في الصدور والألوان، التي يشاهد السالك المبتدئ بعد خروجه عن ظلمات القالب ألوان هذه اللطيفة المستودعة في الصدر، { إنها لإحدى الكبر } [المدثر: 35] جواب القسم؛ يعني: بحق هذه اللطائف إن سقر لأحدى الكبر؛ أي: آية من آياتها الكبرى.
{ نذيرا للبشر } [المدثر: 36]؛ يعني: هي منذرة للقوى البشرية، { لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر } [المدثر: 37]؛ يعني: هذه نذيرة لمن شاء منكم أن يتقدم إلى معصية أو يتأخر عن طاعة، وبعبارة أخرى أن يتقدم إلى الحق أو يتأخر عن الحظ.
[74.38-49]
{ كل نفس بما كسبت رهينة } [المدثر: 38]؛ يعني: لا شك ولا شبهة أن كل نفس كسبت شرا فهي رهينة به، وكل نفس كسبت خيرا فهي رهينة به، وليس لكل نفس إلا ما كسبت، { إلا أصحاب اليمين } [المدثر: 39] هذا استثناء من رهينة بكسب اللمم؛ يعني: يغفر الرب لمم أصحاب اليمين؛ لأنهم اتكلوا على فضل الله بصدق القلب لا باللسان، فإذا صدرت عنهم لمة بشرية فلما يخلص البشر عنها يغفرها ربه بما وقر في قلبه من تصديق ذلك اليوم، وإقراره بالوارد وإيمانه بالجزاء ، ويدخلهم الله { في جنات يتسآءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر } [المدثر: 40-42]؛ أي: ما أدخلكم في سقر مستهزئا بهم.
{ قالوا لم نك من المصلين } [المدثر: 43]؛ أي: لم نكن من المطيعين بالجوارح الظاهرة، { ولم نك نطعم المسكين } [المدثر: 44]؛ أي: أطعمنا خاطر السكينة من طعام الذكر، { وكنا نخوض مع الخآئضين } [المدثر: 45]؛ يعني: نخوض مع القوى المرباة بالباطل في أباطيلهم، { وكنا نكذب بيوم الدين } [المدثر: 46]؛ يعني: كنا غير مصدقين بيوم الجزاء، { حتى أتانا اليقين } [المدثر: 47]؛ أي: الموت وكشف غطاءنا فكاشفنا وشاهدنا بعد كشف الغطاء ما يكذب، والسالك يشاهد بالموت الاختياري كل ما ذكرته في جميع الكتاب مشاهدة يقين، { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48]؛ يعني: بعد الموت الاضطراري لا ينفع لمن مات غافلا عن حقيقة الآيات منكرا إياها شفاعة الشافعين.
{ فما لهم عن التذكرة معرضين } [المدثر: 49] نصب على الحال كونهم معرضين عن موعظة الوارد وعن اللطيفة الواعظة المنذرة لهم بالوارد الذي يرد على قلبه في الحق.
[74.50-56]
{ كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة } [المدثر: 50-51] شبههم بالحمر لجهلهم، وبالمستنفرة لتنفر طبعهم عن حمل الأمانة؛ يعني: القوى الجاهلة يهربون من سلطة قوى الواردة كما تهرب الحمر من الأسد، { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة } [المدثر: 52]؛ يعني: القوى القالبية والنفسية يريدون أن يرد عليهم الوارد كما يرد على القلب ليؤمنوا، ولا يعلمون أن ليس لهم طاقة سماع ما في الوارد على لسان اللطيفة المنذرة، فكيف يطيقون حمل قوة الوارد؟
{ كلا } [المدثر: 53] لا يؤتون الصحف، لأنهم ملوثون بأقذار اللطيفة، { بل لا يخافون الآخرة } [المدثر: 53]؛ هو التمني أيضا يلقي الشيطان فيهم ليزداد لهم إنكار الآخرة، لا يتمنون الوارد أن يرد عليهم ليؤمنوا، بل يكذبون الوارد ووجود الآخرة ولا يخافون منها، { كلا } [المدثر: 54]؛ أي: حقا، { إنه تذكرة } [المدثر: 54]؛ يعني: الوارد تذكرة وموعظة، { فمن شآء ذكره } [المدثر: 55] واتعظ به، { وما يذكرون إلا أن يشآء الله } [المدثر: 56] وما يتعظون بالوارد إلا من شاء الله هدايته وجعله مظهرا للطفه؛ لينفي عن الباطل وجوده، ويستغفر ربه في كل حال { هو أهل التقوى } [المدثر: 56]؛ يعني: الله أهل أن يتقي من محارمه، ويخاف من نقمته، { وأهل المغفرة } [المدثر: 56]؛ أي: أهل لمن يتوب إليه ويستغفره أن يتوب عليه ويغفر له.
اللهم اجعلنا من أهل التقوى وأهل المغفرة بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والبررة وعلى التابعين لهم بإحسان المقتفين أثره.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-10]
يا صاحب النفس اللوامة ويا أيها السائل عن يوم القيامة ما أعددت له من الكرامة؛ لأنه يوم مكرم، بحيث صار محلا للقسم كما قال في كتابه المعظم: { لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة } [القيامة: 1-2]؛ أي: أقسم بهما والسر الذي قرنهما أن كل من وصل إلى قيامته اليوم تصير نفسه الأمارة لوامة، بحيث تلوم صاحبها في كل حركة وسكون يصدر منه على خلاف أمر الحق، ولا تحسب أن القيامة بعيده عنك، بل لو كشف الغطاء غطاؤك لشاهدت القيامة أقرب إليك من شراك نعلك، ولوامتها دالة على ظهور نور القيامة في باطنك، وهذه الملامة تنفع لصاحبها ما دامت معها آلات الكسب لتعتذر وتتوب إلى الله؛ فأما بعد نزع الآلة عنها لا تنفع ملامتها إلا ندامة وحسرة وعذابا، والنفس المؤمنة اللوامة تلوم صاحبها في الدنيا، والنفس الكافرة اللوامة تلوم صاحبها في العقبى.
{ أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه } [القيامة: 3]؛ يعني: يظن الإنسان أنا لا نقدر على جمع العظام البالية بعد تفرقها، أما ترى في المغناطيس الذي خلقناه في الدنيا وهو حجر جسماني ظلماني وأودعنا فيه خاصية جذب المتفرقات وجمعها، ومثاله بين في عالم الشهادة إذا سحق الحديد سحقا وتفرق أجزاؤه في حائط ثم أقيم المغناطيس على رأس الحديد المسحوق المتفرق، كيف يجمع المتفرقات بقدرتنا وبضم بعضها إلى بعض؟ فما ظن الكافر بالروح الإنساني وخاصيته إذا أمرنا أن ينظر إلى أجزاء قالبه المتفرقة لا يقدر أن يجمعها، وخاصية الروح الإنساني اللطيف العلوي لا يكون أقل من الحجر الجسماني الكثيف السفلي.
{ بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [القيامة: 4] معناه بلى قادرين على جمع العظام كما كنا قادرين على تسوية بنانه من نطفة لا عظم فيها ولا شكل لها، فسوينا البنان وسخرناه للإنسان أن يستعمله فيما شاء، أفلا نقدر على أن نجمع العظام البالية؟ بلى نجمع عظامه التي بها كان ذا قوة واقترف ذنوبا عظاما كما سوينا بنانه ليعد ذنوبه، ويشهد على صاحبه بما استعمله وهو عدة، { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل أيان يوم القيامة } [القيامة: 5-6]؛ يعني: يكذب الكافر الجاهل ما كنا نعد أيامه من الحساب والجزاء، ويريد أن يعمل على وفق مشتهاه يسأل متى يكون القيامة استهزاء واستخفافا يقول الله تعالى: { فإذا برق البصر } [القيامة: 7]؛ أي: شخص بصر الرجل عند كشف الغطاء ويرى ما بعده اللطيفة المبلغة، { وخسف القمر } [القيامة: 8]؛ أي: أظلم ضوء قمر قلبه في ليل قالبه، { وجمع الشمس والقمر } [القيامة: 9]؛ أي: جمع شمس روحه وقمر قلبه في عالم نفسه؛ ليرى بضوء شمس روحه أن هؤلاء أعد الله تعالى للقوى العلوية المستكبرة الروحانية التابعة للهوى القوى السفلية على وفق هواها، وهذا الحال مما يشاهد الأغلال والإنكار التي كسبتها القوى السفلية على وفق هواها، وهذا الحال مما يشاهد السالك في أثناء سلوكه، فينبغي أن يتيقن بأنه من علامات القيامة التي قامت بالموت الاختياري، { يقول الإنسان يومئذ أين المفر } [القيامة: 10] لشدة ما يشاهده في ذلك اليوم.
فأما السالك في هذه الحالة يلتجئ إلى كشف ولاية شيخه، أو يعتصم بحبل ذكر الله الذي لقنه شيخه، أو يلوذ بأذيال ولاية بنيته وكل أحد على مقدار توجهه وصدقه وغلبة الذكر وولاية شيخه أو ولاية بنيته، يفر من تلك الأهوال إلى ما يغلب عليه في تلك الحالة، ويتوجه إليه في تلك الساعة من الذكر، أو الإرادة لشيخه، أو الاتصال لولاية بنيته.
[75.11-21]
فأما البالغون يشاهدون آيات الرب ويفرحون بها ولا يخافون منها، بل يحبون من شجرة كل آية ثمار معرفة الصفات، { كلا لا وزر } [القيامة: 11]؛ أي: حقا لا مهربا لكم من هذا المقام ولا حصن لكم؛ لأن الحصن الذي كنتم تتحصنون به في هذا اليوم خربتموه في دار الدنيا، وما التفتم إلى ما بلغت اللطيفة إليكم عنا: أن لا إله إلا الله حصني يؤمن من عذابي ما دخلتم فيه وما اشتغلتم بعمارته، فاليوم لا حصن لكم ولا حرز ولا ملجأ، أما تعلمون أن الله تعالى قال في كتابه:
ففروا إلى الله
[الذاريات: 50]، فلما فررتم إليه في دنياكم من أعادي شيطانكم وهواكم، ووافقتم أعداءكم وخالفتم مولاكم فليس لكم اليوم المفر.
{ إلى ربك يومئذ المستقر } [القيامة: 12]؛ يعني: مستقر الخلق ومرجعهم إلى ربهم كما يقول:
إلى ربك الرجعى
[العلق: 8] إلى ربك المنتهى، { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } [القيامة: 13] من عمل صالح أو فاسد، وبعبارة أخرى بما قدم لنفسه من مكتسباته وبما أخر لورثته من مخلفاته المنحة للورثة والمحنة له، { بل الإنسان على نفسه بصيرة } [القيامة: 14]؛ لأن جوارحه وحواسه عددوا أعماله خيرا كان أو شرا، فإذا كشف الغطاء في ذلك اليوم حدد بصره ووجد جميع أعماله حاضرة عنده.
{ ولو ألقى معاذيره } [القيامة: 15]؛ أي: لو أرخى ستور قالبه فهو بنور قمر قلبه وضياء شمس روحانيته يشاهد في ذلك اليوم مكتسبات لا تستره ستور قالبه، ولا يخفى خلف ستور الاستعدادات الجسمانية عمل أعماله؛ لأن القوى الجسمانية والروحانية كانوا شاهدين عليه بما عمل في دار الكسب، { لا تحرك به لسانك لتعجل به } [القيامة: 16] أيتها اللطيفة المبلغة لا تحرك بالوارد لسانك لتعجل بالوارد ويجذب الوارد إليك بالعجلة؛ لأن العجلة من الشيطان؛ يعني: اترك اختيارك وألقي سمعك، ولا تحرك لسانك عند نزول الوارد، { إن علينا جمعه وقرآنه } [القيامة: 17]؛ يعني: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل ورود الوارد، فكلما أنا أنزلناه من غير شعورك واختيارك فعلينا أن نجمعه في صدرك، ونيسر على لسانك قراءته.
{ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } [القيامة: 18]؛ يعني: إذا أنزلناه فاسمع ثم اتبع قراءته، ولا تعجل ببيانه، ولا تقل من نفسك معناه، { ثم إن علينا بيانه } [القيامة: 19] فكلما إنا أنزلنا الوارد فعلينا أن نبين عليك معناه ونيسر على لسانك بيانه، { كلا } [القيامة: 20]؛ أي: حقا لا ينفع البيان لمجيء الدنيا؛ لأنهم { بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة } [القيامة: 20-21] هم يحبون الشهوات العاجلة لنفوسهم ولا يصبرون على تركها، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وهم القوى القالبية والنفسية الغالبة على القوى الروحانية واستردافها للهوى.
[75.22-30]
{ وجوه يومئذ ناضرة } [القيامة: 22]؛ يعني: إذا برق البصر يرى وجوها مسرورة منظرة منعمة بمشاهدة جمال وجه الرب، { إلى ربها ناظرة } [القيامة: 23] بلا حجاب كلما ينظر إلى نضارة وجه الناظر وقرارة عينه وحق لها تنظر وتفر، وكلما تزيد نضارة الوجه وقرارة العين يتنعم بمشاهدة جمال وجه الرب أكثر من الأول؛ لأن حسن جماله بلا نهاية، والناظر بقدر قرارة عينه يقدر أن يشاهد ذلك الجمال، فكلما يزداد قربه يزداد حسن جماله في نظره ولأجل هذا لا يستريح الواصلون من العمل بعد وصولهم إلى الأصل و
لمثل هذا فليعمل العاملون
[الصافات: 61]، وعلى هذه المشاهدة
فليتنافس المتنافسون
[المطففين: 26] فعلامة الواصل إلى هذا المقام في الدنيا زيادة عطشه عند شرب ماء مشاهدته، فكلما يزداد عطشه إلى أبد الآباد، وسر هذا الحرف يتعلق بحد القرآن، فاجتهد في أن تصل إلى هذه الكرامة العظيمة في الدنيا؛ لأن استيفاء حظك منها مع الآلات والأدوات يزيد نفعا فما يرى بعد نزع الآلات والأدوات.
{ ووجوه يومئذ باسرة } [القيامة: 24]؛ أي: عابسة كالحة مغتمة قبيحة مكدرة من سوء أعمالهم، وقبح أفعالهم، وكدورة أخلاقهم، { تظن أن يفعل بها فاقرة } [القيامة: 25] يظن أحد إن أراها أن إصابتها واهية، وهو بنفسه رأى وجهه ويتألم من مشاهدة وجهه القبيح العابس، ولا بد له من مشاهدته؛ لأنه كسبه لنفسه بنفسه، وهو غمر غائب عنه لمحة، بل صار عين وجوده القبح والألم، وهذا من العذاب الأليم نعوذ بالله منه.
{ كلا إذا بلغت التراقي } [القيامة: 26]؛ يعني: حقا إذا بلغت روح كل واحد ترقونه، { وقيل من راق } [القيامة: 27] ولا راق له إلا الحق، { وظن أنه الفراق } [القيامة: 28] ويتيقن صاحبه بأن لا راق له، وإن لا بد له من فراق الدنيا وهجرانها، { والتفت الساق بالساق } [القيامة: 29]؛ يعني: من الهيبة والشدة المتتابعة، وهذه حالة سيشاهدها السالك في أثناء سلوكه وقت ظهور قياسته، واشتغاله بما لا يعنيه في اليوم الذي وقعت له هذه الواقعة وهذه من أصعب الحالات ، فينبغي للسالك إذا رجع في واقعته يستغفر مما كان عليه قلبه.
{ إلى ربك يومئذ المساق } [القيامة: 30] لا ينفع لف الساق بالساق عن ساقه إلى ربه؛ لأن حضرة الرب مرجع الكل يساق الناس إليه شاءوا أم أبوا.
[75.31-40]
{ فلا صدق ولا صلى } [القيامة: 31]؛ يعني: القوى الجاهلة الكاذبة لا صدقت اللطيفة المبلغة، ولا صلت في دار الكسب بالقالب، { ولكن كذب وتولى } [القيامة: 32]؛ يعني: كذبت الوارد وتولت عن صاحب الوارد، { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } [القيامة: 33]؛ يعني: ثم ذهب إلى القوى القالبية والنفسية تنجر من حصول شهواتها العاجلة، واستيفاء حظوظها عن القوى العلوية على وفق هواها.
{ أولى لك فأولى } [القيامة: 34] التفاف الساق إلى الساق في هذه اليوم، { ثم أولى لك فأولى } [القيامة: 35] يسود الوجه وبالملك بمشاهدته { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } [القيامة: 36]؛ أي: ظن الإنسان الغافل عن الله تعالى ركبه من جميع المفردات العلوية والسفلية، وجعله مختارا في إرادته في الدنيا أن يتركه جهلا، وكان خلقه عبثا، { ألم يك نطفة من مني يمنى } [القيامة: 37]؛ يعني: في بدء خلقته كان نطفة من مني يمنى من القوة الفاعلة الملقية إلى القوة القابلة، { ثم كان علقة فخلق فسوى } [القيامة: 38] في تعليق النطفة المنتشرة في القوة القابلة حتى صارت مستحقة لنفخ الروح فيها، فلما نفخ فيها وتمت خلقته { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [القيامة: 39] من هذه النطفة التي صارت خلقته علقة، ثم صارت مضغة مخلقة وغير مخلقة لنفخ الروح، فاستوت خلقتها وتمت بنيتها، فخلقنا من هذه القوى الفاعلة والقابلة ليظهر منها المشايخ الباقية المدركة المتنعمة والمتألمة، وجعلناها مظاهر لطفنا وقهرنا.
{ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } [القيامة: 40] أليس الذي عمل هذه الأعمال في النطفة، وخلق صاحب النطفة بإرادته كما شاء مما يشاء يقدر أن يحيي القوى الميتة القالبية والنفسية غير المدركة بنتائجها الباقية وبما كسبت من الآلام الدائمة، بلى قادر على أن يحيي الموتى في الدنيا قبل نزع الآلات والأدوات منها لتعذر عن السيئات، وتتوب إلى خالق السماوات والأرض، وتحيا بعد نزع الآلات حياة طيبة أبد الآباد ، وقادر على أن يحيي الموتى العقبى بعد نزع الاستعدادات لتشقى في الآخرة أبد الآباد ونحدد على ذلك؛ لأنا شاهدنا في أنفسنا وفي أنفس غيرنا مما أرسلهم الله إلينا لنداويهم فداويناهم وأحياهم الله تعالى، وشاهدوا كل الذي كتب في هذه السورة مشاهدة إيقان عيان عن غير ظن وحسبان، وصار إيمانهم الغيبي الذي يخبر الله عنهم في كلامه بقوله تعالى:
يؤمنون بالغيب
[البقرة: 3] إيمانا شهوديا وعيانيا ذوقيا أظهر من فلق الصبح.
ونسأل الله الثبات على هذه الطريقة النفسية الصفية المنسوبة إلى الصوفية حق الممات، وأن يحشرنا يوم القيامة تحت لواء سيد السادات صلى الله عليه وسلم وعلى آله أصحاب الكرامات، وأصحابه أهل المدرجات، والتابعين لهم بإحسان السالكين جميع المقامات الشاهدين في كل مقام من المقامات آياته البينات صلاة غير منقطعة أبد الآباد آمين آمين آمين آمين.
[76 - سورة الانسان]
[76.1-5]
أيها الذاكر هل أتى عليك حين من الدهر في الذكر كأن لم يكن شيئا مذكورا ولم يكن شيئا مذكورا، ولو لم يكن هكذا لن يصح منك الذكر؛ لأن من خاصية الذكر نسيان غير الحق كما يقول في كتابه
واذكر ربك إذا نسيت
[الكهف: 24]؛ أي: نسيت سوى الرب إما تقرأ كلام الرب حيث يقول: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } [الإنسان: 1]، وهذا الحال يظهر على الذاكر الذي يسلك في مرتبة آدم عند غلبة سلطان ذكر الحق على طينة قالبه، فتلاشى الطين من الطينة الطينية، وينفذ نور الذكر الحقيقي في أجزاء وجوده وعند مجيء الحق زهوق الباطل، كما قال في كلامه:
جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء: 81]، فلما يزهق الباطل يصير اللطيفة مستحقة؛ لينفخ الروح القدسي الإضافي فيها، فإذا نفخ فيها صار السالك آدم وقته وإنسانا كاملا في مرتبة البياض والسواد.
{ إنا خلقنا الإنسان من نطفة } [الإنسان: 2]؛ أي: من نور نطفة الولاية في هذه المرتبة { أمشاج } [الإنسان: 2] مختلطة بنور النبوة ونور الحق، ونور الربوبية في رحم الإرادة، { نبتليه } [الإنسان: 2] بالإصدار التي جمعناها جبرا في قالبه، وأمرناه بمحافظة الأضداد ومخالفة هواهم، { فجعلناه سميعا } متصفا بصفة سمع الحق { بصيرا } [الإنسان: 2] متصفا بصفة بصره، { إنا هديناه السبيل } [الإنسان: 3] بعد إعطاء هاتين الصفتين إياه؛ يعني: سبيل المحق الباطل، { إما شاكرا وإما كفورا } [الإنسان: 3] نعمتنا وهذه الهداية تمام أمر الابتلاء،
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
[الأنفال: 42].
{ إنآ أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا } [الإنسان: 4]؛ يعني: هيأنا للكافرين، فمنها: سلاسل التمني والحرص؛ بحيث لو كان له واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوفه إلا التراب وأغلال البخل وسعير الحسد، ويسرنا لهم كسب السلاسل والأغلال والسعير { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا } [الإنسان: 5]؛ يعني: إن الشاكرين نعمنا يشربون من كأس استعدادهم التي كان مزاجها كافورا؛ يعني: طينة الكأس ممن وجه بكافور الجمال صورة والجلال معنى، والمسك جلالي في الصورة والكافور جمالي في الصورة، وفي بيان هذا السر لطيفة، لو بحت بها لاستباح العوام سفك دم، وإن كان من بطن القرآن فطويت صحيفتها.
[76.6-13]
{ عينا } [الإنسان: 6]، والأصح أن يكون نصبا على المدح يعني: أعني عينا { يشرب بها عباد الله } [الإنسان: 6]؛ وهي عين المعرفة يشرب بها عباد الله بعد كأس الاستعدادات التي
كان مزاجها كافورا
[الإنسان: 5] يطفئ نيران الشهوة والغضب والبغض والكبر، وأخواتها الحاصلة من امتزاج القوى غير المزكاة بعضها ببعض، والشراب المصبوب في
كأس كان مزاجها كافورا
[الإنسان: 5] من حب الجلال المعنوي، وعن المعرفة الحاصلة عند التجليات الجلالية المعنوية { يفجرونها تفجيرا } [الإنسان: 6] كلما أخذوا من العين يريد انفجار العين، ويمشي معهم حيث مشوا في عالم الآثار والأفعال والذات.
{ يوفون بالنذر } [الإنسان: 7]، هؤلاء العباد الشاكرون أوفوا بنذرهم في دار الكسب، ونذرهم ألا يشتغلوا بذكر غيرنا ولا يلوثوا ألسنتهم بذكر غيرنا وهم،
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
[النور: 37]، مشغولون بذكر الحق مؤتمرون بأمره حيث قال
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، فذكروه حتى صاروا مذكورين له بعد أن كانوا ذاكرين { ويخافون يوما كان شره مستطيرا } [الإنسان: 7]؛ يعني: تبلى السرائر، ويطير عمل كل امرئ بصاحبه إلى مستقره الذي عمده صاحب العمل بعمله في دار الكسب، { ويطعمون الطعام على حبه } [الإنسان: 8]؛ يعني: على محبة الحق لا من خوف العقوبة، ولا رجاء الثواب والجزاء، { مسكينا } [الإنسان: 8]؛ يعني: خاطر السكينة، { ويتيما } [الإنسان: 8] خاطر القلب، { وأسيرا } [الإنسان: 8]؛ يعني: خاطر الروح يطعمون هذه الخواطر الذكر على محبته المذكورة خاصة غير متوقعين جزاء ولا شكورا.
{ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا } [الإنسان: 9]، { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } [الإنسان: 10]، إنا نخاف من اللطيفة الربوبية السكينة في قالبنا يوما أظلم فيه شمس الروح، وقمر القلب وكوكب الحواس، ونجوم القوى فصار يوما عبوسا على صاحبه، وهذا يشاهد وقت تقرر ذكر الرب عن القلب الغافل عن الرب، وفي ذكر القمطرير شدة الكرب، وهو عند تقرر القلب السليم عن الذكر الذي يجري على لسان ملوث بالغيبة، والكذب والفحش، ومما لا يعنيه { فوقهم الله شر ذلك اليوم } [الإنسان: 11]؛ لمخافتهم من ذلك اليوم والتجائهم إلى الحق بصدق النية، { ولقاهم نضرة وسرورا } [الإنسان: 11]؛ يعني: نضارة وجوه أحوالهم، ومسرة في قلوبهم وأسرارهم، { وجزاهم بما صبروا } [الإنسان: 12] مكابدة نفسهم وجهادهم الأعداء يعني: القوى القالبية والنفسية حتى إطعامهم المسكين، واليتيم والأسير، { جنة وحريرا } [الإنسان: 12] جزاء النفس الجنة وجزاء القالب الحرير يعني: القوى القالبية والنفسية الصابر على ترك مشتهاها لوجه الله، { متكئين فيها } [الإنسان: 13] نصب على الحال { على الأرائك } [الإنسان: 13]؛ أي: على أرائك الرحمة، { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } [الإنسان: 13]؛ يعني: حرا وبردا؛ لأنهم كانوا معتدلين في الأمزجة في دار الكسب ثابتين على الصراط المستقيم غير ذائقين إلى طرفي الإفراط والتفريط.
[76.14-20]
{ ودانية عليهم ظلالها } [الإنسان: 14]؛ يعني: يرون في الجنة أشجار أعمالهم الصالحة قريبة إليهم ظلالها، { وذللت قطوفها تذليلا } [الإنسان: 14] أي: سخرت قطوف أثمار المعارف من أشجار الأعمال تسخيرا، بحيث شاءوا أكلوا منها، وأينما مشوا مشوا، { ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا } [الإنسان: 15] { قواريرا من فضة قدروها } [الإنسان: 16]؛ يعني: يطاف عليهم قواهم المطر بآنية نياتهم الثابتة، مثل القصعة في الصلابة وأكواب استعدادهم الوسيعة الصافية؛ مثل الزجاج وشبهه بالزجاج؛ لأن الزجاج يخرج من الحجر، ويشعل النار تحته؛ لتحرق أجزاءه الباطلة الكثيفة، كما كان حال القالب فهو مثل الحجر، فينبغي أن يشعل صاحبه نار الذكر؛ ليخرج منه خبائبه وكشائفه حتى يصير آنية صافية لطيفة، وشبهه بالفضة؛ ليكون آمنا من الكسر صلابة استعدادهم مثل الفضة، وصفاؤهم ورقتهم الزجاجة يصف أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه نفس المؤمن أنها أصلب من الصلد وأذل من العبد { قدروها تقديرا } [الإنسان: 16]؛ يعني: قدروا كؤوس استعدادهم على قدر رتبتهم تقديرا معينا لا يزيد على مقدار شربهم، ولا ينقص عنه فطوبى لاستعداداتهم الغير متناهية، { ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا } [الإنسان: 17]؛ يعني: يسقون أيضا من كأس استعدادهم الممزوجة بزنجبيل الشوق يسكن زمهرير الحرص والبخل والكسل، الحال المعنوي { عينا فيها تسمى سلسبيلا } [الإنسان: 18]؛ يعني: يسقون بهذه الكؤوس الممزوجة بنزنجبيل الشوق من العين السلسبيل، وهو عين خلقه الله تعالى في جنة قالب الإنسان الصافي المزكى عن الحظوظ والأباطيل لها ماء بردة مثل الكافر، وهو برد العقود وحرارة مثل حرارة الزنجبيل حتى تسكن برد الكافور، وريحه مثل ريح المسك، ولا يحصل هذه العين إلا لمن اعتدل مزاجه في الدنيا بترك الحظوظ، وإعطاء الحقوق إياه والتوجه إلى الحق في كلتا الحالتين؛ ليحصل من ترك الحظوظ برد الكافور، ويكسب من إعطاء الحقوق حرارة الزنجبيل، ويجد من التوجه ريح المسك، فإن كنت عملت في الدنيا بهذا الذي شرحته لك، فمن قريب تسقى من عين السلسبيل.
{ ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } [الإنسان: 19]؛ يعني: منثرا في خدمتك وشبهه باللؤلؤ؛ لصفاء القوة التي ربيت في صدف القالب في بحر الدنيا، وأصل اللؤلؤ وهو القوة المصفاة من قطرة قطرة من سماء الصدر، كما يقول الله تعالى: { ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } [الإنسان: 19] { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } [الإنسان: 20]، حتى إذا رأيت في جنة قالبك ولدان قواك المصفاة رأيت باقيا خالدا، وملكا كبيرا من عندي، وهذا المقام ينبغي أن يقرأ لا يروي بعد هذا النعيم { وملكا كبيرا } [الإنسان: 20]؛ يعني : جمال يتولد، ويقرأ سكون اللام ليس له معنى غير جمال الرب العظيم إن مشاهدة الرب هي الملك الكبير.
[76.21-26]
{ عاليهم ثياب سندس } [الإنسان: 21] نصب على الظرف { خضر وإستبرق } [الإنسان: 21]، صفة الثياب وإشارته إلى قوله: { عاليهم } [الإنسان: 21] إشارة إلى: علو همتهم في الدنيا، وتركهم للباس الفاخر تذليلا لأنفسهم، وتواضعا لربهم في مقام العبودية، وإشارة إلى لون الخضرة إشارة إلى حصول حياتهم الطيبة والخضرة لون الحياة، وهي أحب الألوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، { وحلوا أساور من فضة } [الإنسان: 21]؛ لأنهم ما دنسوا في الدنيا أيديهم بأخذ الحرام والإعطاء بالباطل رياء وسمعة والسؤال من غير الحق؛ فصارت هذه الصفات لهم أساور في الدار الباقية الأخروية، { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } [الإنسان: 21] جزاء لا يمدوا أيديهم إلى الخمر الحرام في الدنيا يسقيهم ربهم في العقبى شراب المعرفة طهورا من الشك والوهم والظن، فمن شربه لم يبق في قلبه غش وغل وحقد وحسد؛ يعني: يطهر القلب من هذه الصفات المكدرة ماذا رأيت قلبك اليوم على هذه الصفة، فبشر نفسك بشرب من شراب الطهور غدا، ومن لا يلتفت إلى غير الحق في الدنيا، فيبشر نفسه بأن يسقيه ربه على يد لطفه شراب معرفته { إن هذا كان لكم جزآء } [الإنسان: 22]؛ أي: جزاء ما عملتم في الدنيا، { وكان سعيكم } [الإنسان: 22] في دار الدنيا { مشكورا } [الإنسان: 22] عند الله بأنكم كنتم شاكرين نعمة الله، فإذا شكرت نعمة الله فاعلم أنك عند الله، { مشكورا } [الإنسان: 22]، وإن رضيت عنه، فاعلم أنه راض عنك فانظر قدر الله في قلبك فعلى قدر ذلك يكون قدرك عند الرب، أيها المسكين الغافل أما تقرأ القرآن، وأما تعلمه
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد: 4] والله أنت الجنة، وأنت النار، وأنت الدنيا، وأنت العقبى، ومعك ما تشتهي وتتمنى من العقاب والثواب، ولو لم تقرأ كتابك فما تنفعك قراءة الكتاب، وسماع الخطاب، وعتاب رب الأرباب { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } [الإنسان: 23]؛ أي: نجما نجما ليثبت به فؤادك، ولو أنزلناه جملة واحدة ما كنت تحمله، { فاصبر لحكم ربك } [الإنسان : 24] على الأحكام المحددة النازلة عليك على سبيل الخواطر، وترك مشتهيات النفس { ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا } [الإنسان: 24]؛ يعني: لا تطع القوة الآثمة القالبية والقوة الكافرة النفسية في ترك الصبر، والاشتغال بالشهوات العاجلة، { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } [الإنسان: 25] ذكر الرب في بكرة الروحانية، وأصيل الجسمانية بدفع كيد القوة الآثمة الكافرة { ومن الليل فاسجد له } [الإنسان: 26]؛ يعني: إذا أسدل ليل النكرة ذيله على وجه نهار المعرفة تواضع للرب { وسبحه ليلا طويلا } [الإنسان: 26] ونزهه عن معرفتك له في طول ليل النكرة؛ لأن ليل النكرة يسدل ذيله على وجه نهار المعرفة حينا لرؤية المعارف مخوفا إياه، ووقتا لتسكين القلب عند استيلاء أنوار المعرفة بحيث يريد أن يذهب ببصر عقل المعارف إن لم يسدل ليل النكرة ذيله على وجهه، وفي ليل النكرة للمعارف استراحة وسكون، وربما يكون لتربية ثمرة المعرفة، ففي كل حال ينبغي أن يتواضع فيه للرب، ويسبحه بأمره فسبح.
[76.27-31]
{ إن هؤلاء يحبون العاجلة } [الإنسان: 27]؛ يعني: القوى الآثمة والكافرة يحبون الشهوات الدنيوية القريبة إليهم { ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا } [الإنسان: 27]؛ يعني: يوم الجزاء والحساب ليثقل عليهم لتركهم العمل لأجله { نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم } [الإنسان: 28]؛ يعني: خلقنا القوى وقوينا أصولها كفروا بنعمتنا { وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا } [الإنسان: 28]؛ يعني: إذا شئنا أهلكنا القوى الآثمة والكافرة بالتحليل وبدلنا قوى أمثالهم أحسن وأقوى منهم { إن هذه تذكرة } [الإنسان: 29]؛ يعني: إن هذه السورة موعظة وذكرى لمن يريد سلوك سبيل الهدى { فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا } [الإنسان: 29]؛ أي: وسيلة بهذه الموعظة إلى طاعة الحق وترك طاعة الآثم والكفور ثم يذكر بعد التأديب بالترهيب والترغيب أمر التوحيد لئلا يغفل السالك عن حقيقة سر الوحدة ويقول { وما تشآءون إلا أن يشآء الله } [الإنسان: 30] أي: ليس المشيئة إلا مشيئة الله ومشيئتكم مربوطة بمشيئة { إن الله كان عليما } [الإنسان: 30] بأحوال مظاهر لطفه وقهره { حكيما } [الإنسان: 30] فيما أودع في كل مظهر من الاستعداد والقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد عمله بالاستعدادات { يدخل من يشآء في رحمته } [الإنسان: 31] ممن كان مظهر اللطف { والظالمين أعد لهم عذابا أليما } [الإنسان: 31]؛ لأنهم كانوا مظاهر لطيفة قهره يفعل ما شاء ويحكم ما يريد
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
[الأنبياء: 23] بحكمه وحكمته وإرادته وقدرته.
اللهم اجعلنا مظاهر لطفك بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا وهذه سورة مختصة بسيد الأولياء أمر المؤمنين علي رضي الله عنه فينبغي للسالكين سبيله أن يقتدوا بسنته ويفهموا ما في سورته ليكونوا من شيعته.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-19]
يا طالب الوصل لما غفلت عن يوم الفصل واشتغلت بالفرع عن الأصل حين قرأت كلام الرب على سبيل العزل وما فهمت من الكلام إلا الحروف والمد والشد ومعنى اللغات العربية التي كان أبو جهل اعلم منك ومن استاذك لأن فهم القرآن يتعلق بالقلب وأنت بلا قلب؛ لدسته في تراب الطبيعة فاسمع نصيحتي ومر إلى الكتاب وقل لأستاذك ليكتب لك ألف الأصل ويعلمك سرها وحقيقتها ويطلعك على ما أودع في صدقها من الدرر المستورة لتستتر بها وتدخل في بروج الحروف وتشاهد نجوم النقطات المسعودة والمنحوسة ثم تعرج إلى كرسي الأبجاد ثم تستوي على عرش الكلمات ثم تشاهد كيفية استواء الرحمن على العرش ثم تنزل إلى العرش المبسوط في عالم الشرع وتفهم ما يقسم الرب به فقوله { والمرسلات عرفا } [المرسلات: 1] وتطلب في وجودك القوة المرسلة إلى القوى القالبية العارفة المتتابعة لتفهم أنه يقسم باللطيفة الجمالية المودعة في قلبك ثم يقسم باللطيفة الجلالية المستودعة في قالبك بقوله { فالعاصفات عصفا } [المرسلات: 2] ثم يقسم باللطيفة المنبسطة الحيوانية في قوله تعالى:- { والناشرات نشرا } [المرسلات: 3] ثم يقسم باللطيفة المتميزة الفارقة بين الحق والباطل في قوله { فالفارقات فرقا } [المرسلات: 4] ثم يقسم باللطيفة الذاكرة الملقية إليك ما كنت تنساه باشتغالك بتربية القالب بقوله { فالملقيت ذكرا } [المرسلات: 5] { عذرا أو نذرا } [المرسلات: 6]؛ يعني: أعذارا للقوى النفسية وإنذارا للقوى القالبية { إنما توعدون لوقع } [المرسلات: 7] جواب القسم يعني: يوم القيامة وما وعدت وأوعدت اللطيفة الخفية الذاكرة المنذرة { لوقع } أي: كائن لا محالة وله علامات فإذا ظهرت العلامات تيقن بتوعده { فإذا النجوم طمست } [المرسلات: 8]؛ يعني: إذا محيت أنوار الحواس الظاهر والباطن لغلبه نور الحق { وإذا السمآء فرجت } [المرسلات: 9]؛ يعني: إذا سماء الصدر صارت ذات فرجة ينزل عليك القوى العلوية على صور هائلة أو حسنة على قدر حسن أعمالك وقبحها { وإذا الجبال نسفت } [المرسلات: 10]؛ يعني: جبال قوة معدنية قالبك قلعت من أماكنها ونسفتها الرياح العاصفة نسفا { وإذا الرسل أقتت } [المرسلات: 11]؛ يعني: جمعت اللطائف المرسلة في ذلك الوقت المعلوم وقوعه يشهدون على أمم القوى بما عملوا { لأي يوم أجلت } [المرسلات: 12]؛ أي: لأي يوم أخرت هذه الأعمال { ليوم الفصل } [المرسلات: 13] أخرت ليفصل بين الحق والباطل ويجزي كل أحد على وفق أعماله من الخير والشر { ومآ أدراك ما يوم الفصل } [المرسلات: 14] { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 15] كذبوا بيوم الفصل وقرءوا كلام الله هزوا على سبيل الهزل { ألم نهلك الأولين } [المرسلات: 16] أما سمعوا بالأولين الذين كذبوا بيوم الفصل وآثروا بحياة العاجلة الدنيوية وبنوا القصور الرفيعة والبساتين النزهة كيف أهلكناهم { ثم نتبعهم الآخرين } [المرسلات: 17] الذين اتبعوهم وأتباع الهوى ومخالفة المولى بالهلاك { كذلك نفعل بالمجرمين } [المرسلات: 18] أي نفعل بالقوى المجرمة المكذبة بيوم الفصل كما فعلنا بهم { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 19].
[77.20-31]
{ ألم نخلقكم من مآء مهين } [المرسلات: 20] عنصري منفعل { فجعلناه في قرار مكين } [المرسلات: 21]؛ أي: في رحم القالب { إلى قدر معلوم } [المرسلات: 22]؛ أي: مقدار معين { فقدرنا } [المرسلات: 23] كما شئنا { فنعم القادرون } [المرسلات: 23]؛ أي: نعم المقدرون قدر قدره ومقداره وقدره من القوى العلوية والسفلية تقديرا تاما { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 24] بالقدر خيره وشره منا { ألم نجعل الأرض كفاتا } [المرسلات: 25]؛ يعني: ألم نجعل أرض البشرية صاحبة جمع وضم تضم وتجمع القوى المتفرقة العنصرية { أحيآء } [المرسلات: 26] عارفين بمقدارها { وأموتا } [المرسلات: 26] جامعين بموجدها { وجعلنا فيها رواسي شامخات } [المرسلات: 27]؛ يعني: جعلنا في أرض البشرية القوى المعدنية كالجبال الراسيات العاليات لئلا تتزلزل { وأسقيناكم مآء فراتا } [المرسلات: 27]؛ أي: ماء الحياة الباقية الروحانية التي يبقى شاربها في دار البقاء أبدا { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 28] بالخلود في دار القرار { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } [المرسلات: 29] يعني: تكذبون الدار الآخرة في الدنيا تقول اللطيفة المنذرة للقوى إذا نجومها طمست وظهور علامات أخرى { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [المرسلات: 30] وهي ظل القالب ذي شعب ثلاث وهي القوة المعدنية والنباتية والحيوانية الباقية له ماء الحياة الباقية التي سقاه في الدنيا وهو المتاع القليل { لا ظليل } [المرسلات: 31] ظله لأنه ظل الباطل الذي كسبه القالب { ولا يغني من اللهب } [المرسلات: 31] لأنه اشتعل في الظلال الثلاثة نارا ذات لهب.
[77.32-44]
{ إنها ترمي بشرر } [المرسلات: 32] { كالقصر } [المرسلات: 32]؛ يعني: ناره المشعلة ترمي بالقوة المعدنية شرارات القوة النباتية { كالقصر } [المرسلات: 32] { كأنه جملت صفر } [المرسلات: 33] من القوة الحيوانية التي هي إحدى ظلاله { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 34] بالجزاء للكل عمل مثله { هذا يوم لا ينطقون } [المرسلات: 35]؛ يعني: يوم الفصل لا ينطقون إلا بالنطق الذي أنطق كل شيء يشهد جوارحهم على صواحبهم { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } [المرسلات: 36]؛ أي: لا رخصة لهم أن يشتغلوا بالعذر لجرائمهم ولما شهدت الجوارح عليهم { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 37] تتكلم الجوارح وشهادتها على صاحبها { هذا يوم الفصل جمعنكم والأولين } [المرسلات: 38] { فإن كان لكم كيد فكيدون } [المرسلات: 39]؛ يعني: إن كنتم تقدرون أن تدفعوا العذاب عن أنفسكم فادفعوا هذا على سبيل الاستهزاء جزاء استهزائهم بالوارد وتكذيبهم اللطيفة المبلغة { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 40] الوارد واللطيفة المبلغة فيما وعدوا وأوعدوا { إن المتقين في ظلال وعيون } [المرسلات: 41]؛ يعني: الذين اتقوا من المتاع القليل العاجل وخشوا ربهم واتبعوا ألطافهم المبلغة وتركوا شهواتهم النفسانية اللاهوتية لهم ظلال من الرحمة وعيون من الماء الطيب المحيي بالحياة الطيبة الأبدية { وفواكه مما يشتهون } [المرسلات: 42] من فواكه المعرفة يقولون لهم { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } [المرسلات: 43] في دار الكسب هذا مما زرعتم وحضرتم وكسبتم { إنا كذلك نجزي المحسنين } [المرسلات: 44] الذين أحسنوا في ديار الدنيا وقت جزيناهم بما زرعوا وقت الحصاد زرعوا عملا صالحا فحصدوا سنابل طيبة واقتطفوا فواكه صالحة.
[77.45-50]
{ ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 45] بحقيقة الزرع والحصاد يقولون لهم { كلوا وتمتعوا قليلا } [المرسلات: 46] في دار الكسب من المتاع القليل { إنكم مجرمون } [المرسلات: 46] لأنهم لا يسمعون لأن أذانهم من تلك الفعلة مسدودة { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 47] بالآذان القلبية وبأن يكون للإنسان سمع وبصر غير هذا السمع الشهاوي والبصر الشهاوي { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } [المرسلات: 48]؛ يعني: يوم الفصل إذا قيل لهم اركعوا لا يقدرون بأنهم في الدنيا ما كانوا راكعين { ويل يومئذ للمكذبين } [المرسلات: 49] بالركوع والسجود في دار الكسب { فبأي حديث بعده يؤمنون } [المرسلات: 50]؛ أي: بأي وارد أيتها القوى المجرمة أنتم تؤمنون بهذا الوارد القدسي الذي لا خلف فيه.
فيا أيها السالك إذا وقعت على العلامات التي شرحناها من قبل وشاهدتها فينبغي أن يؤمن بآيات الله التي ذكرتك اللطيفة فإن تشاهدها لتنتفع بها وإلا فالويل لك إن كنت مكذبا بعد مكاشفته آية من الآيات البينة الأنفسية.
اللهم اجعلنا من الصادقين المصدقين آياتك بحق محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين الأكرمين المستجمعين.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-15]
أيها السائل عن النبأ العظيم ما أعددت له من الرزق الكريم عن سبيل النزل من النعيم المقيم والرحيق المختوم الذي كان مزاجه من تسنيم كما يقول الرب الرحيم في كلامه القديم بقوله { عم يتسآءلون } ، { عن النبإ العظيم } [النبأ: 2]؛ يعني: القوى المشركة عم يتساءلون عن الوارد الذي ورد عن حضرة الرب على اللطيفة الخفية المبلغة أحكام الوارد إلى أممه { الذي هم فيه مختلفون } [النبأ: 3]؛ يعني: القوى المشركة والمؤمنة يختلفون في أمر الوارد يصدقونه حينا ويكذبونه حينا { كلا } [النبأ: 4]؛ أي: حقا { سيعلمون } [النبأ: 4] عاقبة اختلافهم وتكذيبهم القوى المشركة { ثم كلا سيعلمون } [النبأ: 5]؛ أي: ستعلم القوى المؤمنة المصدقة جزاء تصديقهم.
{ ألم نجعل الأرض مهدا } [النبأ: 6] يذكر صنائعه ويقول { ألم نجعل الأرض مهدا } [النبأ: 6]؛ أي: أرض البشرية فراشا لهم { والجبال أوتادا } [النبأ: 7]؛ أي: القوى المعدنية القالبية أوتاد الأرض البشرية، { وخلقناكم أزواجا } [النبأ: 8] ليستأنس بعضهم ببعض من القوى الفاعلة والقابلة وتظهر منها النتائج القالبية { وجعلنا نومكم سباتا } [النبأ: 9]؛ يعني: غفلتكم استراحة كما قيل: لولا الغفلة لبطلت الحكمة { وجعلنا اليل لباسا } [النبأ: 10]؛ يعني: سترناكم بلباس اللطيفة الجلالية لتسكنوا وتستريحوا { وجعلنا النهار معاشا } [النبأ: 11]؛ يعني: كشف عليكم نهار الكسب باللطيفة الجمالية لتكسبوا معاشكم في العاجل والآجل.
{ وبنينا فوقكم سبعا شدادا } [النبأ: 12]؛ يعني: بنينا أطوار القلب فوق القالب { وجعلنا سراجا وهاجا } [النبأ: 13]؛ أي: جعلنا في طور من أطواره الشمس الروحانية المنيرة المضيئة التي هي كالسراج يعني: تقتبس منه القوى الحسية الظاهرة والباطنة ضياء { وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا } [النبأ: 14]؛ يعني: أنزلنا من الصدر ماء الربوبية صبابا { لنخرج به حبا ونباتا } [النبأ: 15].
[78.16-28]
{ وجنات ألفافا } [النبأ: 16]؛ أي: يخرج من ماء الربوبية حب الحب المستكن في القالب وقت التخمير ونبات الأدوية منافعه للقلوب المريضة وجنات ملتفة أشجار أعمالهم لحسنها وزينتها، { إن يوم الفصل } [البنأ: 17]؛ يعني: يوم فيه البر والفاجر، ويقضي بينهما بالحق وهم اسم من أسماء يوم الحساب، { كان ميقاتا } [النبأ: 17] لما وعد أوعد.
{ يوم ينفخ في الصور } [النبأ: 18]؛ يعني: في صور القوى المتحلل بنفخ ريح الروح، { فتأتون أفواجا } [النبأ: 18]؛ أي: تحضرون في ميقاتها زمرا { وفتحت السمآء فكانت أبوابا } [النبأ: 19]؛ يعني: فتحت أبواب القلوب، وأذنت الملائكة القلبية والسرية والروحانية في النزول، { وسيرت الجبال فكانت سرابا } [النبأ: 20]؛ أي: سيرت القوى المعدنية القالبية حتى صارت مثل السراب في غير اللطيفة الباقية القالبية.
{ إن جهنم كانت مرصادا } [النبأ: 21] كانت جهنم في تلك الساعة ترصد أهلها الذين عمروها وبالغوا في تعميقها أنها كانت { للطاغين مآبا } [النبأ: 22]؛ يعني: رجوع القوى الطاغية يكون إليها { لابثين فيهآ أحقابا } [النبأ: 23]؛ أي: ماكثين في جهنم مدة أراد الله مكثها بما جفوا وطغوا إن كانوا كفروا بالله أو أشركوا فخلدوا فيها وإن لم يكفروا أو لم يشركوا، ولكن عصوا الله وبقيوا حتى طهروا عن تلك المعصية { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما } [النبأ: 24-25] برد العفو فيها ولا شراب الروية المسكن عطش الجهل، { إلا حميما وغساقا } [النبأ: 25] إلا شراب الحميم بنار البغض والحسد والكبر، وزمهرير الجهل والظلم والبخل، وهو الغساق ينزل عليهم، { جزآء وفاقا } [النبأ: 26]؛ يعني: جازيناهم بما يوافق أعمالهم.
{ إنهم كانوا لا يرجون حسابا } [النبأ: 27]؛ يعني: لا يخافون من يوم الحساب، ولا يرجون ما وعدهم الله يوم المآب، { وكذبوا بآياتنا كذابا } [النبأ: 28]؛ أي : كذبوا اللطائف المبلغة إليهم آياتنا غاية التكذيب.
[78.29-36]
{ وكل شيء أحصيناه كتابا } [النبأ: 29]؛ يعني: أحصينا في كتبهم كل شيء صدر منهم، كما أثبتنا في اللوح المحفوظ، { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } [النبأ: 30] لتكذيبهم اللطائف والآيات البينات الأنفسية؛ لأن بعد هذا اليوم لا يمكن الكسب، ولا ينفع الندم على تقوية الآلات وتضييع الأدوات بعد انتزاع الاستعدادات.
{ إن للمتقين مفازا } [النبأ: 31]؛ يعني: الذين اتقوا ربهم وآمنوا بيوم الحساب وعملوا الصالحات بعد رجاء الجزاء في يوم المآب فوزا وغنيمة النجاة من النار، ومن المتنزهات في دار القرار، { حدآئق } [النبأ: 32] من جنات القلب، { وأعنابا } [النبأ: 33] من ثمرة معرفة الرب، { وكواعب أترابا } [النبأ: 33] وعلوما مطهرة عن مس أحد غيره، { وكأسا دهاقا } [النبأ: 34]؛ يعني: استعدادا مملوءا من العلم، { لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا } [النبأ: 35]؛ يعني: لا يبقي لكأس استعدادهم فرجة للباطل والكذب لامتلائه من علوم الحق.
{ جزآء من ربك عطآء حسابا } [النبأ: 36]؛ يعني: جازاهم الله بما عملوا في الدنيا من الصالحات ومن إخراجهم الباطل عن القلب، وامتلاء قلوبهم بذكر الحق وأعطاهم هذا العطاء حسابا وافيا بما وفوا بعهد الله وكسبوا للمعاد.
[78.37-40]
{ رب السموت والأرض } [النبأ: 37] بدل من ربك؛ يعني: جازى العباد في سماوات أطوار القلوب، وفي أرض استعداد الباقية القالبية من أنواع النعم بما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وتقر عين القلب من مشاهدة وجه الرب، { وما بينهما الرحمن } [النبأ: 37]؛ يعني: رب سماوات أطوار القلب وأرض استعدادات الباقية القالبية وبينهما من الصفات بالنفسانية المزكوة { لا يملكون منه خطابا } [النبأ: 37]؛ يعني: لا يقدر أحد على خلق السماوات والأرض وما بينهما أن يكلمون الرب إلا بإذنه.
{ يوم يقوم الروح } [النبأ: 38] في ذلك اليوم في حضرة الرب، { والملائكة صفا } [النبأ: 38]؛ يعني: الروح الإنسانية إلا خليقة الرب في مملكة الوجود وملائكة قوى السر والقلب المطيعون لأمر الرب، { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } [النبأ: 38]؛ يعني: لم يرد من عرش وارد الإشارة لم يقدر قوة من القوى أن يخاطب الرب، وإذا خاطب بأمره وإذنه، { وقال صوابا } [النبأ: 38] كما قال في الدنيا قول: " لا إله إلا الله " وقال: { صوابا } [النبأ: 38] حقا صدقا.
{ ذلك اليوم الحق } [النبأ: 39]؛ يعني: يوم الفصل يوم حق وقوعه، { فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا } [النبأ: 39]؛ يعني: بعد تقرير ذلك اليوم، وتبيين أحواله وأحوال الخلق فمن شاء السلامة والسعادة اتخذ إلى حضرة الرب، وآب إلى [خدمته] آيبا تائبا { إنآ أنذرناكم عذابا قريبا } [النبأ: 40] إنا أعلمناكم أيتها القوى القالبية والنفسية عذابا قريبا إليكم، بل عذابا هو لا ينفك عنكم ساعة، بل هو من كسبكم بحيث صار وجودكم، ولكن من كثافة الحجب ورمد عيونكم لا تبصرونه اليوم، فلما كشف الغطاء وصار البصر حديد اليوم { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } [النبأ: 40]؛ يعني: ينظر إلى ما كسبت يداه وقدمت لنفسه إلى الدار الباقية خيرا أم شرا، { ويقول الكافر } [النبأ: 40] في ذلك اليوم بعد اطلاعه على ما قدمت يداه من الشر، { يليتني كنت ترابا } [النبأ: 40]؛ يعني: فاقدا قوة الإدراك كما كنت قبل التركيب ولا ينفعه هذا الندم؛ لأنه كسب قوة الإدراك الباقية الدائمة الأبدية المؤلمة له في الآخرة أبد الآباد، فيا أيها الكاسب اكسب اليوم في دار الكسب لطيفة باقية متنعمة؛ لتتنعم بها أبد الآباد مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
اللهم اجعلنا من الصالحين بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين.
[79 - سورة النازعات]
[79.1-14]
أيها الغرق النزاع إلى حال الفرعون كثير النزاع مع اللطيفة المبلغة بحق اللطيفة الجلالية التي أودعناها إلى بعض ملائكتنا الروحانية حتى ينزعون أرواح الكفرة من أبدانهم حتى تغرق نفسهم في بحر صدورهم، وبحق اللطيفة الجمالية التي أدرجناها في بعض ملائكتنا القلبية ينشطون بنفس المؤمن، ويرفقون بهم رفقا حتى ينشط روحه من عقال البدن كالإبل حين ينشط من عقاله يسرح في رياض الجنة على مراده، وبحق الله للطيفة الربانية المودعة في بعض ملائكتنا السرية حين يقبضون أرواح المؤمنين سهلا، ويسألونها سبلا كالسابح بالمشي في الماء، مسرعين كالفرس الجواد، وكالسفن على وجه الماء عند هبوب الرياح اللطيفة المسرعة بها إلى منزلها، وبحق القدسية المسكنة في بعض ملائكتنا المرباة في القوة الخفية اللاتي يسبقون بأرواح المؤمنين سبقا إلى الفردوس، وبحق اللطيفة المدبرة التي أودعناها في بعض ملائكتنا العنصرية المدبرة الأمر الإلهية هن ظلال لجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل؛ ليبعثن من قبور القوالب يوم ترجف الراجفة، كما يقول في كتابه ويقسم بهذه الودائع بقوله تعالى: { والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا } [النازعات: 1-5] جواب القسم محذوف تقديره لتبعثن من القبور.
{ يوم ترجف الراجفة } [النازعات: 6] فهي يوم القيامة إذا رجفت جبال القالب، وزلزلت أرض البشرية { تتبعها الرادفة } [النازعات: 7] وهي القيامة المخصوصة بالنفس تميت القوى عند الراجفة، ويحيها بالرادفة { قلوب يومئذ واجفة } [النازعات: 8]؛ يعني: في الرادفة مضطربة مسرعة قلقة رجلة، { أبصارها خاشعة } [النازعات: 9]؛ أي: ذليلة كثيرة العبرة، { يقولون } [النازعات: 10]؛ أي: المنكرون بهذا اليوم من القوى القالبية والنفسية الفرعونية الصفات، { أإنا لمردودون في الحافرة } [النازعات: 10]؛ يعني: وقت الرادفة يظنون أنهم يردون إلى الدنيا.
{ أإذا كنا عظاما نخرة } [النازعات: 11]؛ يعني: الذي بليت عظامها وصارت كالمناخرة المجوفة التي تمر فيها الرياح ويصوت أنحن مردودون إلى الدنيا؟! { قالوا تلك إذا كرة خاسرة } [النازعات: 12]؛ يعني: رجوعنا بعد هذه الأهوال التي شاهدناها يكون رجعة غايته؛ لخسران وجودنا وضعف قوانا، { فإنما هي زجرة واحدة } [النازعات: 13]؛ يعني: زجرة الرادفة زجرة واحدة يحشر جميع القوى أرض الساهرة كما يقول: { فإذا هم بالساهرة } [النازعات: 14] وهي أرض ساهر أهلها يطلعون على عملهم خارج ما في صدورهم.
[79.15-26]
{ هل أتاك حديث موسى } [النازعات: 15] أيتها اللطيفة الخفية المبلغة { إذ ناداه ربه بالواد } [النازعات: 16] الأيمن السري إلى واد { المقدس طوى } [النازعات: 16] الخفي وناداه ربه { اذهب إلى فرعون } [النازعات: 17] لطيفة قالبيتك الغير المستخلصة عن الباطل الملحة الملطخة بتراب الطبيعة، { إنه طغى } [النازعات: 17] أمر اللطيفة المبلغة { فقل هل لك إلى أن تزكى } [النازعات: 18]؛ أي: هل لك رغبة إلى أن تؤمن بالحق، وتصلح العمل بإخراج الباطل عن حقيقتك، وتشهد أن لا إله إلا الله وتكفر بآلهة هواك، { وأهديك إلى ربك فتخشى } [النازعات: 19]؛ أي: أهديك إلى صراط مستقيم فتخشى من عذاب الجحيم المدخر في دار الإقامة بضلالتك عن الهدى والدين القويم .
{ فأراه الآية الكبرى } [النازعات: 20] من آيات النفس وهي بيضاء الهمة العلية بأي شيء أشارت أذعن إلى أمرها؟ وعصاه الذكر الذي به يبطل تسحر الشيطان، { فكذب وعصى } [النازعات: 21]؛ يعني: كذب اللطيفة الفرعونية بيد الهمة وعصيت عصاء الذكر، وبعبارة أخرى: كذب اللطيفة المبلغة وعصى بها ربها وظن أنها من أثر التسحر، { ثم أدبر يسعى } [النازعات: 22]؛ أي: أعرض عن الحق وسعى إلى الباطل، { فحشر فنادى } [النازعات: 23]؛ أي: جمع القوى القالبية والنفسية فنادى القوى الشيطانية حين جمعوا { فقال أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 24]؛ يعني: أصنام الهوى ربكم وأنا رب الأصنام الهوائية؛ لأن الهوى انبعث من تلك اللطيفة القالبية.
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } [النازعات: 25]؛ أي: عاقبه الله بنكال العاجل بتسلط اللطيفة عليه، وعذابه الآجل بإلقائه في قعر جهنم جحيم جسده المملوء من نيران الحسرة والندامة، { إن في ذلك لعبرة } [النازعات: 26]؛ أي: اعتبار وموعظة { لمن يخشى } [النازعات: 26] لمن يؤمن باللطيفة ويخشى مما أوعد ويرجو بما وعده.
[79.27-36]
{ ءأنتم أشد خلقا } [النازعات: 27] خطاب مع القوى القالبية { أم السمآء بناها } [النازعات: 27]؛ أي: سماء الصدر التي بنيناها فرفعنا سقفها فوق القالب فسويناها بلا خرق وخدش وفرجة كما يقول: { رفع سمكها فسواها } [النازعات: 28] { وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } [النازعات: 29]؛ أي: أظلم بصفة الجلال ليل القالب وأخرج بصفة الجمال ضحى الروح.
{ والأرض بعد ذلك دحاها } [النازعات: 30]؛ يعني: البشرية، { أخرج منها مآءها ومرعاها } [النازعات: 31]؛ أي: من أرض البشرية ماء الحياة، ومراعاها القوى القالبية والنفسية من الخواص الظاهرة، { والجبال أرساها } [النازعات: 32] القوى المعدنية التي هي في القالب، وأرض البشرية بها مستحكمة غير مزلزلة، { متاعا لكم ولأنعامكم } [النازعات: 33]؛ أي: يستمتع به اللطائف والقوى { فإذا جآءت الطآمة الكبرى } [النازعات: 34] وهي القيامة النارية القالبية لا تظلم القيامات الترابية والمائية والهوائية القالبية، وهي هذه القيامة ظهور الرادفة.
{ يوم يتذكر الإنسان ما سعى } [النازعات: 35]؛ يعني: يظهر عليه في أرض الساهرة ما تراها في اليوم، ويحسبه أنه من قبيل الخيال فإذا شاهد تذكر ما سعى في عالم الدنيا من خير أو شر، { وبرزت الجحيم } [النازعات: 36] في تلك الساعة { لمن يرى } [النازعات : 36] مقام فيها بالعمل الذي عمل في الدنيا فيما يجعل الله جزاءه فيها.
[79.37-46]
{ فأما من طغى } [النازعات: 37] بآيات أمر اللطيفة { وآثر الحياة الدنيا } [النازعات: 38]؛ أي: اختار اللذة العاجلة على اللذة الآجلة { فإن الجحيم هي المأوى } [النازعات: 39]؛ لأنه آوى في الدنيا وسط جحيم الهوى، فاليوم أيضا إذا برزت الجحيم وكشف أستارها شاهد نفسه في وسطها، وطالع جزاء الأعمال الفاسدة فيها المدخرة فيها، { وأما من خاف مقام ربه } [النازعات: 40] في الدنيا { ونهى النفس عن الهوى } [النازعات: 40] ومنع نفسه عن التورط في جحيم الهوى، { فإن الجنة هي المأوى } [النازعات: 41]؛ لأنه كان في الدنيا آوى نفسه في جنة القلب بتركه ما اشتهت على وفق الهوى.
{ يسألونك عن الساعة } [النازعات: 42] وهي قيامة القلب { أيان مرسها } [النازعات: 42]؛ يعني: متى ظهورها؟ { فيم أنت من ذكرها * إلى ربك منتههآ } [النازعات: 43-44]؛ أي: منتهى الساعة إلى الرب؛ يعني: منتهي إلى الرب تلك الساعة الممدود سويعاتها من أسرار مطلع القرآن؛ يعني: انتهاؤها إلى ربها؛ أي: لا تعلمها والله أخفاها لحكمة إظهارها لا يجوز قبل أوانها، وهي أيضا تتعلق بحد القرآن، { إنمآ أنت منذر من يخشها } [النازعات: 45]؛ يعني: لست أنت مطلعا على علم الساعة بل أنت منذر من يخشى الساعة { كأنهم يوم يرونها } [النازعات: 46]؛ أي: كأن السائلين { يوم يرونها } [النازعات: 46] يوم يشاهدون تلك الساعة { لم يلبثوا } [النازعات: 46] في الدنيا { إلا عشية أو ضحها } [النازعات: 46]؛ يعني: عشية استراحة القوى أو ضحى الكسب بها.
فيا أيها المنتظر للساعة لو تشاهدها لم تلبث ساعة في قالبك للاستراحة أو الكسب، وتسارع إلى حضرة الرب فلا ينفع للسالك في هذا المقام إلا التوجه الكلي، ولو لم يكن توجهه إلى الحق في الأعمال بل كان توجهه إلى جنة مشتهيات النفس في دار البقاء لا ينخرط في تلك الساعة في سلك إلا بالهمة.
اللهم ارفع همتنا واصرف توجهنا من أعمالنا إليك بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[80 - سورة عبس]
[80.1-20]
أيها المعبس في وجه أصحابه المعرض بوجهه عن الطلاب أما تقرأ فصل الخطاب وما تفهم العتاب الذي أدرج رب الأرباب في طي الكتاب المستطاب المنزل على نبيه سيد الأحباب حيث قال: { عبس وتولى * أن جآءه الأعمى } [عبس: 1-2] فينبغي أيتها اللطيفة المبلغة إذا جاءك طالب من قوى النفس التي عميت عيناها بالهوى ويطلب منك الهدى أن تغتنم مجيئها، وتقبل بوجهك عليها وترشدها إلى سبيل الهدى، { وما يدريك لعله يزكى } [عبس: 3]؛ أي: يتطهر من الباطل بتعليمك إياه وبقي لك ثواب الدلالة والتعليم { أو يذكر فتنفعه الذكرى } [عبس: 4]؛ أي: يتعظ بوعظك فتنفعه الموعظة، وأنت جئت إلى هذا العالم لينتفع بك الآخر.
{ أما من استغنى } [عبس: 5] عن الوعظ وعن استماع الحق { فأنت له تصدى } [عبس: 6]؛ يعني: تقبل بوجهك إليه وتصغي إلى كلامه، وهو في الأنفس القوى الشريفة القالبية والنفسية تقبل اللطيفة عليها ليعطي حظها رجاء أن تقبل منها الحق، { وما عليك ألا يزكى } [عبس: 7]؛ يعني: ما عليك إلا البلاغ، فإن لم يزك ما عليك ذنب، { وأما من جآءك يسعى } [عبس: 8]؛ أي: القوى الضعيفة الطالبة { وهو يخشى } [عبس: 9] من الله ويسعى إليك؛ لترشده إلى سبيل الحق وطريق النجاة، { فأنت عنه تلهى } [عبس: 10]؛ أي: أنت تشتغل عنه باشتغالك بالأشراف.
{ كلا } [عبس: 11] كلمة جاءت على سبيل الزجر؛ أي: أنت عن مثل هذا الفعل { إنها تذكرة } [عبس: 11]؛ يعني: هذه الموعظة والعتاب موعظة للمرشدين ليغتنموا مجيء المسترشدين، ويشتغلوا بإرشادهم ما ينزه على نفوسهم، ومنعه للطالبين ليجتهدوا في الطلب إذ اعلموا أن الله عاتب حبيبه لأجلهم، { فمن شآء ذكره } [عبس: 12]؛ أي: من كان سعيدا اتعظ به، واجتهد في طلبه كان بمشيئة الله المسطورة.
{ في صحف مكرمة } [عبس: 13] بكرامة الله تعالى آمنة على أن يطلع عليها العدد { مرفوعة } [عبس: 14]؛ أي: رفيعة القدر عنه لا تصل إليها يد العدو، ومودعة في صحف القلب والسر والروح والخفى مطهرة عن الزيغ بحديث النفس، وعن إلقاء الشيطان بالزيادة والنقصان لا يمسها يد لامس لا تكون { مطهرة } [عبس: 14] عن الباطل بل يمسها المطهرون، وهم القوى الملكية القلبية والسرية والروحية كما يقول في كتابه: { بأيدي سفرة * كرام بررة } [عبس: 15-16] بأيدي كتبة على الله بررة على خلقه بكتابتهم كل ينؤون قبل الوقوع من الخير، ولا يكتبون ما ينوؤون من السر إلا بعد الوقوع، وهم جمع من الملائكة التي خلقهم الله من رشاش النور المطهر من رأس القلم على لوح العقل، وهم الكتبة وفي هذا سر يتعلق بحد القرآن مما يجب أن يطوي سره.
{ قتل الإنسان مآ أكفره } يعني: لمن القوى المتقدة الشريفة المقبلة عليها اللطيفة بوجهها لتهديها، وهو أعرض عنها وما قبل هدايتها
فكفرت بأنعم الله
[النحل: 112] التي أنعم في حقها من إعطاء الاستعداد لها والتفات اللطيفة إليها ألا تتفكر { من أي شيء خلقه } [عبس: 18] { من نطفة خلقه } [عبس: 19]؛ أي: من نطفة قطرة نقطة القاسم خلقها { فقدره } [عبس: 19]؛ أي: في لوح العقل قدرها { ثم السبيل يسره } [عبس: 20]؛ أي: يسرها سبيل عالم الجسم لينزل إليه.
[80.21-32]
{ ثم أماته فأقبره } [عبس: 21] أماتها من المعارف الروحانية لتشتغل باكتساب الآلات الجسمانية التي يكون لها أدوات الحصول المعارف الإلهية على وجه التفصيل فأقبرها في قبر القالب { ثم إذا شآء أنشره } [عبس: 22]؛ يعني: إذا شاء الله أحياها بالنور الإرادي المنصب في صدره ليذكر المعارف كما قال الله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122] ليجتهد في طلب المعارف ويتذكر محلها ومكانتها في الملكوت بعد نزولها إلى عالم الناسوت.
{ كلا } [عبس: 23]؛ أي: حقا { لما يقض مآ أمره } [عبس: 23]؛ أي: لم يؤد حق الحق الذي فرض عليها أداؤه إن لم يطلب الحق في الحظ والحظ للحق { فلينظر الإنسان إلى طعامه } [عبس: 24]؛ أي: فلينظر اللطيفة الغيبية والشهادية المستجمعة في الإنسان الذي هو أنس علوي وأنس سفلي إلى الطعام المركب من الحظوظ العلوية المغلوبة والحقوق السفلية المستكنة في الحظوظ وكيفية اجتماع الأضرار فيه رحمة منا وحكمة منا ليعبر بالرزق الذل جعلنا بسبب حصولها { أنا صببنا المآء صبا } [عبس: 25]؛ يعني: صببنا ماء المعرفة من سحاب الإرادة { ثم شققنا الأرض شقا } [عبس: 26]؛ يعني: شققنا أرض القالب شقا ليمطر من الصدر على أرض القالب لينبت أشجار المعرفة { فأنبتنا فيها حبا } [عبس: 27] بموجب المحبة { وعنبا } [عبس: 28]؛ يعني: ثمرة المعرفة الذاتية المسكرة صاحبها { وقضبا } [عبس: 28]؛ يعني : معرفة يصل ذوقها إلى جميع القوى القلبية { وزيتونا } [عبس: 29]؛ يعني: معرفة مختصة بالقوى الروحية { ونخلا } [عبس: 29]؛ أي: معرفة مختصة بالقوى الخفية { وحدآئق غلبا } [عبس: 30]؛ أي: معارف سرية { وفاكهة } [عبس: 31]؛ أي: معرفة مخصوصة بالقوى النفسية { وأبا } [عبس: 31]؛ أي: معرفة مشتملة على جميع القوى القالبية { متاعا لكم ولأنعامكم } [عبس: 32]؛ أي: منفعة للطائفكم ولقواها.
[80.33-42]
{ فإذا جآءت الصآخة } [عبس: 33]؛ يعني: قيامة النفس فكاد صيحتها يضم الآذان { يوم يفر المرء من أخيه } [عبس: 34]؛ يعني: تفر النفس من القلب { وأمه } [عبس: 35]؛ يعني: من القالب { وأبيه } [عبس: 35]؛ أي: من الأرواح { وصحبته } [عبس: 36]؛ أي: من هوية { وبنيه } [عبس: 36]؛ أي: من الخواطر المتولدة عنه { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس: 37]؛ يعني: لكل لطيفة من هذه اللطائف شأن خاص متعلق بها ليشغلها عن غيرها في هذا اليوم ترى وجوها مشرقة بنور الرب منعمة بنعمة الهداية ضاحكة أسنانها بما يشاهدون من حسن الجزاء فرحة بإنجاز الوعد لهم، وترى وجوها مظلمة مكدرة عليها سيماء النحوسة والشقاوة تلمع تغشاها كل ساعة كائنة وذلة وغيرة أرضية قالبية وقترة سماوية صدرية كما يقول في كتابه الكريم { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة } [عبس: 38-42]؛ يعني: هم الذين كفروا بنعمة الاستعداد الذي أعطاهم الله وإقبال اللطيفة عليهم وما آمنوا بالله وما قبلوا دعوة اللطيفة وفجروا في عالم الأنفس باختلال القوى النفسية والقالبية واستردافها على وفق هواهم فيا أيها السالك اعتبر بهذه السورة واجتهد في الطلب ويا أيها المسلك احذر من هذا العتاب وأد حق الطلاب وتذكر ما قال الله تعالى لنبيه داود - عليه السلام - إذا رأيت لي طالب فكن له خادما لتكون من المعتبرين بالقرآن المنتفعين من نعم معارفه.
اللهم انفعنا بغفرانك الكريم نفعا عظيما وصل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان والسالكين صراط مستقيم.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-14]
أيها المدل بضياء شمسك، وأنوار نجومك، وثبات جبالك، وكثرة عشائرك ومالك، وأنعامك وأملاكك، وأعوانك، { إذا الشمس كورت } [التكوير: 1]؛ يعني: إذا أظلمت شمس روحك وأمرت بالتكوير، { وإذا النجوم انكدرت } [التكوير: 2]؛ يعني: إذا أذهب بضوء نجوم حواسك وبقيت مكدرة منتثرة متحللة، { وإذا الجبال سيرت } [التكوير: 3]؛ يعني: إذا سيرت جبال قالبك وهي كانت سير كلي طرفة عين، ولكن ما كنت تشاهد سيرها فيشاهدها في هذه الساعة، { وإذا العشار عطلت } [التكوير: 4]؛ يعني: عشار القوى القالبية عطلت؛ أي: تركت مباركها، { وإذا الوحوش حشرت } [التكوير: 5]؛ يعني: وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية جمعت وغلبت وكثرت في عينك، { وإذا البحار سجرت } [التكوير: 6]؛ يعني: بحار عنصرية مائيتك سجرت بحرارة نزع الروح عن قالبك، { وإذا النفوس زوجت } [التكوير: 7]؛ يعني: زوجت كل قوة نفسانية بعملها الذي عملته في دار الدنيا، { وإذا الموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت } [التكوير: 8-9]؛ يعني: سئلت عن الخواطر الإلهامية التي وردت على السالك وهو نفاها وقتلها، ووأدها في قبر القالب وظلمها، { وإذا الصحف نشرت } [التكوير: 10]؛ يعني: نشرت صحف أعمال كل أحد خيرا كان أمر شرا، { وإذا السمآء كشطت } [التكوير: 11]؛ يعني: يرفع سماء الصدر حتى يكشف ما في صدورهم، بعبارة أخرى: قلعت أوتادها وطويت كطي السجل للكتاب.
{ وإذا الجحيم سعرت } [التكوير: 12]؛ يعني: أحميت جحيم النفس بنيران الهوى، { وإذا الجنة أزلفت } [التكوير: 13]؛ يعني: زينت جنة القلب وقربت لأولياء الله تعالى، { علمت نفس مآ أحضرت } [التكوير: 14]؛ يعني: أيها المذل: إذا ظهرت هذه العلامات
علمت نفس ما قدمت وأخرت
[الانفطار: 5] فيما أحضر.
[81.15-29]
{ فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس } [التكوير: 15-16]؛ أي: أقسم بالآيات في ضوء شمس الذات؛ يعني: بالأنوار المودعة في قوى القلبية التي إذا طلعت شمس اللطيفة الأنانية يهلك في ضوئها، وتستر بيضائها، ويرجع إلى أصلها، { والليل إذا عسعس } [التكوير: 17]؛ يعني: بالأنوار الجلالية التي أودعناها في ليل القالب إذا أدبر، { والصبح إذا تنفس } [التكوير: 18]؛ يعني: بالنور الجمالي الذي أودعناه في يوم لدليل بعده إذا تنفس وهو صبح القيامة، { إنه لقول رسول كريم } [التكوير: 19] هذا جواب القسم؛ يعني: هذا التقدير لقول رسول كريم { ذي قوة } [التكوير: 20] قوي علي وهو أمين { عند ذي العرش مكين } أشار إلى العرش لأنك لا تشك فيما يرد عليك من القوى المخزونة في دماغك أن هذا الوارد يكون مثل ذلك، { مطاع ثم أمين } [التكوير: 21]؛ يعني: يطاوعك لذلك الوارد جميع القوى الروحانية ويقرون بحقيقته، وهو أمين على وحي الحق وإلهامه يبلغ صاحبه بلا زيادة ونقصان، { وما صاحبكم بمجنون } [التكوير: 22]؛ أي: اللطيفة المبلغة بعد ورود الوارد وتبليغها رسالة الحق، ما هو بمجنون فيما يتكلم به، ويخاطب معكم ما كنتم تستمعون من أحد قبل.
{ ولقد رآه بالأفق المبين } [التكوير: 23]؛ يعني: صاحب الوارد الإلهي وهو إشارة إلى: أفق محمد صلى الله عليه وسلم خاصة في هذا المقام؛ لأن أفق آدم عليه السلام كان متصلا بأفق نوح، كان متصلا بأفق إبراهيم، كان متصلا بأفق موسى، وأفق موسى كان متصلا بأفق داود، وأفق داود كان متصلا بأفق عيسى، وأفق عيسى كان متصلا بأفق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وأفق محمد صلى الله عليه وسلم كان متصلا بالحق وهو أفق الأعلى من طرف الخلق؛ يعني: ليس أفق أعلى من أفقه وهو الأفق المبين من طرف الحق، كما أن للمعدن أفقا إلى حد النبات، وللنبات أفقا إلى حد الحيوان، وللحيوان أفقا إلى حد الإنسان، والإنسان صاحب الأفقين العلويين والسفليين ولأجل هذا كان وسطا وخيرا، فهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه سلم وسطا كما قال الله تعالى في كتابه:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا
[البقرة: 143]، وقال الله تعالى:
كنتم خير أمة
[آل عمران: 110] وفي حقيقة الأفق سر يتعلق بحد القرآن مما لا يجوز إفشاؤه، هذا بساط قد طويناه، { وما هو على الغيب بضنين } [التكوير: 24]؛ يعني: وما اللطيفة المبلغة بضنين؛ أي: متهم على الواردات الغيبية ولا بخيل بإبلاغها، { وما هو بقول شيطان رجيم } [التكوير: 25] وما هذا الوارد بإلقاء الشيطان الرجيم، { فأين تذهبون }؛ أي: أين تعدلون عن الصراط المستقيم وتشكون في صدق الوارد، ثم تكلم به قبل ورود الوارد وهذه اللطيفة كانت معكم، أفلا تصدقونه فيما يقول من الوارد الغيبي: { إن هو إلا ذكر للعالمين } [التكوير: 27]؛ أي ليس هذا الوارد إلا ذكرا ووعظا لجميع العالم إن آمنوا به وعملوا بما فيه، { لمن شآء منكم أن يستقيم } [التكوير: 28] إزاغته عن الصراط المستقيم بإنكاره الوارد والاستهزاء لصاحب الوارد المبلغ، { وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين } [التكوير: 29]؛ يعني: ما تشاءون هداية أحد وإضلاله إلا أن يشاء الله هدايته وإضلاله، يضل به من يشاء، ويهدي به من يشاء وهو رب العالمين، يربيهم بلطفه وقهره كما يشاء
لا يسأل عما يفعل
[الأنبياء: 23] من إعطاء التوفيق لأحد والخذلان لآخر ويسألون بحكمه وحكمته.
اللهم أعذنا من الخذلان وشرفنا بالتوفيق لقبول الوحي عن الرب بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان على سبيل التحقيق.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-8]
يا مترصد القيامة، تيقن بدخول { إذا السمآء انفطرت } [الانفطار: 1]؛ يعني: إذا انفطرت سماء الصدر وهو أحد علامات القيامة، { وإذا الكواكب انتثرت } [الانفطار: 2] كواكب القوى المخزونة في الدماغ وتحللت، { وإذا البحار فجرت } [الانفطار: 3]؛ أي: بحار عنصرية مائية القالب فجرت بالعرق، { وإذا القبور بعثرت } [الانفطار: 4]؛ أي: قبور القالب بعثرت وقلبت على صاحبها، وهذه علامات القيامة يشاهد السالك عند غلبة سلطان الذكر اللساني على وجوده، { علمت نفس ما قدمت وأخرت } [الانفطار: 5]؛ أي: علمت قوى النفس ما قدمت من الأعمال الصالحة والفاسدة، وأخرت من التبعات باتباع الهوى ومخالفة المولى.
{ يأيها الإنسن ما غرك بربك الكريم } [الانفطار: 6]؛ يعني: أيتها اللطيفة الإنسانية، ما غرك؛ أي: ما خدعك بكرم ربك لأنك اتكأت على سرير رحمته، واشتغلت بمشتهيات نفسك، وتركت الطاعة وركبت المعاصي رجاء مغفرته بتسويل الشيطان الغرور، أما علمت أنه هو { الذي خلقك } [الانفطار: 7] من العدم { فسواك } [الانفطار: 7] في الرحم { فعدلك * في أي صورة ما شآء } [الانفطار: 7-8] في القدم { ركبك } [الانفطار: 8] من المفردات في أعدل مزاج وأحسن تقويم، ما خلقك سدى ولا هزلا ولا عبثا.
[82.9-19]
{ كلا بل تكذبون بالدين * وإن عليكم لحافظين } [الانفطار: 9-10] حقا أنهم يكذبون بيوم الجزاء؛ لأجل هذا يعملون الفساد ويرجون من الله الثواب، ولو أنكم تصدقون بيوم الحساب ما كنتم متورطين في المخالفات، وحفظتنا للتي كانت رقباؤكم يحفظون أعمالكم ويشهدون ما تفعلون { كراما كاتبين } [الانفطار: 11] يكتبون ما تكسبون { يعلمون ما تفعلون } [الانفطار: 12] يمهلونكم لتزدادوا إثما؛ لأنا كتبنا في الكتاب القديم { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم } [الانفطار: 13-14]؛ لأن بذور البر إذا زرعت خرجت النعيم، وبذور الفجور إذا زرعت أبرزت الجحيم، وإنكم اليوم في الزراعة لأن الدنيا مزرعة الآخرة، وغدا في الحصاد فكل أحد يحصد ما يزرع، فالعجب من العاقل أنه يزرع الشوك ويرجو الرطب فليس هذا الغرور إلا من إلقاء الغرور، فاحذر منه وأزرع في مزرعتك خيرا تحصد رغبته ولا تزرع شرا لئلا تحصد ندامته، { يصلونها يوم الدين } [الانفطار: 15]؛ يعني: الفجار في جحيم عمروها منذ عاشوا في الدنيا، { وما هم عنها بغآئبين } [الانفطار: 16]؛ يعني: الفجار ما كانوا عن الجحيم بغائبين معهم يعمرونها ولكن كانوا محجوبين؛ لكثافة جحيمهم وعمى أبصارهم المريضة، فسل محبة الدنيا وظفرة الهوى، { ومآ أدراك ما يوم الدين } [الانفطار: 17] ثم كرر معظما لذلك اليوم ويقول: { ثم مآ أدراك ما يوم الدين } [الانفطار: 18]؛ يعني: أخذ عنهم الاختيار الوهبي الذي أعطاهم الله؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملا بذلك الاختيار الوهبي نسوا الله واليوم الآخر، وحصلوا مشتهيات أنفسهم على وفق هواهم، ويملكون بعضهم و
يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف: 104] بغلبتهم على الآخرين وباستيفاء حظوظهم من الدين { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } [الانفطار: 19] اليوم أيضا لله، ولكنهم سبب اختيارهم الذي أعطاهم الله محجبون عن المختار الحقيقي الوهاب لكل أحد اختياره، فإذا نزع عنهم الاستعداد وأخذ الاختيار فعرفوا في ذلك الوقت أن ليس لهم اختيار، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
وأقروا أن الأمر بيد الله وهو المريد المختار الفعال لما يريد ولا ينفعهم في ذلك الوقت الإقرار، فالواجب عليك أيها السالك، أن تجتهد في أن تشاهد اليوم اختياره واضطرارك، وتعلم أن الأمر كله بيد الله يبطش ويأخذ، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، يرفع أقواما ويضع آخرين، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحكم ما يريد، وتلتجئ إلى حضرته بالتمسك والعجز ليرحمك إن شاء الله، ولا يمكن هذا إلا بترك اختيارك وتسليمك إلى شيخك؛ ليوصلك إلى الاختيارية الحقيقية إن شاء الله، ولأجل هذا السر يحتاج إلى بشر مثلك؛ لينذرك ويبشرك ويهديك إلى ربك، ولأجل هذا [تلي على] زبدة الكائنات عليه أزكى التحيات وأزكى الصلوات بقوله تعالى:
قل إنمآ أنا بشر مثلكم
[الكهف: 110] وهذا سنة سنها الله تعالى ولن تجد لسنته تبديلا، من يرد أن يصل إلى الله؛ فليلذ بأذيال متابعة حبيبه، ومن يرد أن يصل إلى حبيبه فليعتصم بحبل ولايته ويشاهد ولايته، فليترك اختياره وإرادته وإلا فلا يلعب بالتوراة إن لم يكن يهوديا صرفا، والله إن منادي الحق ينادي دائما من الصباح إلى الرواح { والأمر يومئذ لله } [الانفطار: 19]، و
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]، ولكن صماخك مسدول بقطن الغفلة لا يسمع النداء، وعينك بحب الدنيا رمدا لا تبصر هلاك الأشياء وبقاء وجهه، فاسمع نصيحتي وداوي نفسك المريضة، ووقر صماخك، ورمد عينك؛ لترى وتسمع ما يرى ويسمع أهل الحق، وتجدون ذوق المشاهدة والمكالمة في السماع والذكر نقدا ويرجون أضعاف أضعاف ما يجدون غدا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
[83 - سورة المطففين]
[83.1-13]
أيها المطفف، الذي يأخذ من القوى العلوية بكيل وفي ولا يعطي حقه من القوى السفلية إلا بوزن طفيف وكيل منقوص، أما سمع ما يقول رب العالمين للمطففين في كلامه القديم حيث يقول: { ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [المطففين: 1-3]؛ يعني: يكيلون على الحفظة أعمالهم الناقصة، ويزنون حظوظ القوى من القوى السفلية في التفكر في آلاء الله ونعمائه، والاعتبار بما في عالم الآفاق، واستماع المواعظ بوزن خاسر، ويستوفون حظوظها من القوى العلوية من الحياة والعقل وغيرهما مما نكب بها نفسها بالحظوظ العاجلة على وفق سواها، ولولاها لكانت مثل البهائم في جذب المنافع ودفع المضار عن نفسه، وخسران وزنهم يرجع إلى أعمالهم الباطنة مثل: الحضور، والإخلاص، والصدق، والنية، والتوجه وأمثالها، وخسران كيلهم يرجع إلى الأعمال التي تتعلق بالحواس الظاهرة مثل: أركان الصلاة، والإمساك والشرب، وإيتاء الزكاة وأشبهها.
{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم } [المطففين: 4-5]؛ يعني: هؤلاء يظنون أنهم غير مبعوثين من قبور قوالبهم ليوم عظيم شأنه
يوم تبلى السرآئر
[الطارق: 9] من الصدور وتشهد الأعضاء على كل ما صدر عن صاحبه وورد عليه { يوم يقوم الناس } [المطففين: 6] من قبور قوالبهم { لرب العالمين } [المطففين: 6] لأمر ربه ليجزي كل نفس بما كسبت، { كلا } [المططفين: 7]؛ أي: ليس الأمر كما ظنوا، { إن كتاب الفجار لفي سجين } [المطففين: 7]؛ يعني: كتاب القوى الفاجرة يصعد إلى السماء؛ أي: سماء الصور؛ فأبت السماء أن تقبله فرد ونزل إلى الأرض؛ أي: أرض القالب فأبت الأرض أن تقبله فصار مترددا فيأمر الله تعالى حتى يسحبوه من سجين؛ وهو موضع الشيطان تحت سبع أرضين الأعضاء السبعة مثل الجب الذي لا يكون له قعر ولا نهاية، قعره يدل على أنه مظهر لصفة قهر الحق وفيه أسرار تتعلق بحد القرآن، { ومآ أدراك ما سجين } [المطففين: 8]؛ أي: سجين موضع يسجن فيه كتاب الفجار الذي هو كتاب { كتاب مرقوم } [المطففين: 9]؛ يعني: مكتوب فيه أعمالهم كالأعلام المرقومة على الثياب بحيث لا يفنى بالغسل، وهذه إشارة إلى: تثبت الأعمال وجوديته الفاسدة على وجودهم بحيث صارت الأعمال وجودية ذاتية لهم ولأجل هذا يخلدون في العذاب، { ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم } [المطففين: 10-12]؛ أي: لا يكذب بيوم الجزاء إلا قوة عبدة قالبية أو أثيمة نفسية قالت: هكذا جبلت النفس، { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [المطففين: 13]؛ يعني: إذا تتلى على تلك القوى الآيات الأنفسية قالت: هكذا جبلت النفس فإذا غلبت عليها خلطة السوء يشهد أشياء هائلة، وهي من قبيل الخيالات.
[83.14-25]
{ كلا } [المطففين: 14]؛ أي: ليس الأمر على ما زعمتم { بل ران على قلوبهم } [المطففين: 14]؛ أي: طبع الله على قلوبهم بالذنوب التي اقترفتها القوى حتى يكتب على لوح وجودهم ظلمة الجهل والظلم، ويبطل استعداد اللوحية ليغرس الصور الهائلة التي هي ثمرة أعماله الفاسدة الثابتة عليه، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ورجع واستغفر صقل قلبه منها، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } "
، وأصل الرين الغلبة؛ يعني: غلبت عليهم شقوتهم لغلبة الظلمة على لوح وجودهم مما كسبت أيديهم وكتبت على اللوح بخط أعمالهم حتى اسود اللوح من المعاصي، ومات القلب لفوات استعداد قابلية الرحمة من الحق. { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [المطففين: 15]؛ يعني: القوى الفاجرة، والألواح المسودة بنقوش المعاصي عن رحمة ربهم ولقائه محجوبون بالحجاب الذي كسبوا في دار الكسب { ثم إنهم لصالوا الجحيم } [المطففين: 16] الذي كسبوها وعملوها عملا وعمروها وبالغوا في تعميق قربها وإشعال نارها { ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } [المطففين: 17]، يقال لهم: القوى الملهمة التي تلهم القوى الأمارة بالخير وهي تكذبها، وتقول: كيف نترك لذتها العاجلة التي تشاهدها لقولك ووعدك لنا بدار لا نشاهدها، فقوله لهم في ذلك اليوم: { هذا الذي كنتم به تكذبون } [المطففين: 17]؛ يعني: هذه الدار التي بها تكذبون في الدنيا، وهذا جزاء أعمالكم التي كنتم عاملين لها في دار كسبكم، { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } [المطففين: 18]؛ أي: حقا أن محل كتاب الأبرار لفي عليين؛ أي: لفي مرتبة الملائكة التي يصلون إليها في الملكوت الأعلى ويضعون فيها كتاب الأبرار وليس فوقها لهم سبيل؛ لأن ذلك المقام أعلى عليين الروحانية ولا يمكن التجاوز لأحد من ذلك المقام إلا بالجذبة، { ومآ أدراك ما عليون } [المطففين: 19] عليون محل كتاب الأبرار؛ وهو { كتاب مرقوم * يشهده المقربون } [المطففين: 20-21] من أعلى عليين ويفرحون بذلك الكتاب.
{ إن الأبرار لفي نعيم } [المطففين: 22] الذين كسبوا في دار الكسب بالقوة القالبية والنفسية، والقلبية والسرية، والروحية والخفية، حتى رقم في وجودهم عين ذلك النعيم، { على الأرآئك ينظرون } [المطففين: 23] على أريكة الرحمة ينظرون إلى جزاء أعمالهم وإلى نقوش ألواحهم، { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } [المطففين: 24]؛ لأن وجوههم كانت مبصرة من نور كسبوه في دار الكسب { يسقون من رحيق } المحبة { مختوم } [المطففين: 25].
[83.26-36]
{ ختامه مسك } [المطففين: 26]؛ يعني: مختوم بطين خمره بيده وقت التخمير، وتكون طينته من عرف المعرفة مسكا وفي المسك والكافور الذي يذكرهما الله تعالى في كتابه تعلق بحد القرآن.
{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [المطففين: 26]؛ يعني: من الاطلاع على سر الرحيق الحبي، والطيني المسكي، والأرض الكافورية فليرغب الراغبون من أخص الخواص من السابقين ويضن على إفشاء سره لنفاسته وعلو مثاله، فتحل الفتنة { ومزاجه من تسنيم } [المطففين: 27]؛ يعني: مزج الحب بالطين وبعبارة أخرى؛ يعني: مزجوا رحيقهم بسنيم الريق؛ أي: ريق الساقي وهذا مخصوص بالمقربين من الأنبياء والصديقين، { عينا يشرب بها المقربون } [المطففين: 28]؛ وهي عين المعاينة تنبع من وجه المشايخ، يشرب بها المقربون خاصة وهي مما قال الله تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة: 17]، { إن الذين أجرموا } [المطففين: 29]؛ يعني: القوى المجرمة { كانوا من الذين آمنوا يضحكون } [المطففين: 29] في دار الدنيا، ويقولون: هؤلاء مساكين تركوا هذا النعيم المعين النقد لخيالاتهم الفاسدة ويتبعون أنفسهم ويستهزءون بعقولهم، { وإذا مروا بهم يتغامزون } [المطففين: 30]؛ يعني: يشير بعضهم إلى بعض استهزاء بهم وبما كانوا مشتغلين بالعبادة والمجاهدة وترك المشتهيات النفسية والهووتية، { وإذا انقلبوا إلى أهلهم } [المطففين: 31]؛ أي: إلى قوى قالبهم ونفسهم { انقلبوا فكهين } [المطففين: 31]؛ أي متعجبين من أحوالهم، ضاحكين من أفعالهم، { وإذا رأوهم } [المطففين: 32]؛ أي: إذا رأوا القوى اللطيفة { قالوا إن هؤلاء لضالون } [المطففين: 32]؛ يعني: ضلوا الطريق الواضح واللذة العاجلة، ويتبعون النفس بخيال: أن لهم بعد هذه الدار دار ينعمون فيها أبد الدهر، { ومآ أرسلوا } [المطففين: 33]؛ يعني: القوى المجرمة { عليهم } [المطففين: 33]؛ أي: على القوى المطيعة { حافظين } [المطففين: 33] لأعمالهم وأحوالهم ولكنهم أرادوا أن يستوفوا القوى المطيعة لأهوائهم، فلما عصت القوى المطيعة لأمرهم وطاوعت أمر ربهم حسدوا عليهم وضحكوا منهم وآذوهم.
{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } [المطففين: 34]؛ يعني: يوم خروجهم من الدنيا ودخولهم في دار الآخرة يضحكون من الكفار بتجهيزهم في النار، وبخسرهم على أنفسهم فيما أضاعوا الاستعداد الذي به يمكن حصول النعيم المقيم، والمؤمنون { على الأرآئك ينظرون } [المطففين: 35] إلى الكفار بعين العبرة { هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } [المطففين: 36]؛ يعني : هل جزاء استهزائهم بالمؤمنين إلا هزاء، فعليك يا سالك الطريقة أن تستهزئ بالقوى المجرمة، وشاهد نعمك لتعمل بالنعيم المقيم عملا صالحا؛ ليكون غدا من المقربين الشاربين رحيق المحبة الممزوجة بنسيم ريق الساقي إن شاء الله تعالى.
اللهم اسقني من كأس محمد صلى الله عليه وسلم شربة لا أظمأ بعدها أبدا.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-13]
أيها الكادح لربك؛ القادح في أمر لطيفتك، الفاضح نفسك، { إذا السمآء انشقت } [الانشقاق: 1]؛ يعني: إذا انشقت سماء صدرك { وأذنت لربها } [الانشقاق: 2] في انشقاقها { وحقت } [الانشقاق: 2]؛ أي: تطيع أمر الرب وهو يوم قادح، { وإذا الأرض مدت } [الانشقاق: 3]؛ أي: أرض البشرية مدت في عينيك لا يبقى فيها عوجا ولا أمتا { وألقت ما فيها } [الانشقاق: 4]؛ ألقت ما فيها من كنوز القوالب والاستعدادات { وتخلت } [الانشقاق: 4]؛ أي: ما بقيت فيها من القوى، وخلت بالكلية منها، وانتزعت عنها شاءت أم أبت { وأذنت لربها وحقت } [الانشقاق: 5]؛ أي: وحق لها أن تطيع أمر ربها.
{ يأيها الإنسن إنك كادح إلى ربك كدحا } [الانشقاق: 6] أيتها اللطيفة الباقية الإنسانية، إنك مسرعة إلى ربك في عملك، فانظري ما عملت خيرا عملت لتكوني مسارعة إلى لطفه، أم شرا عملت لتكوني مسارعة إلى قهره { فملاقيه }؛ أي: تشاهدين جزاء الشر لا محالة، وكلكم في تلك الحالة مسارعون إلى ربكم بأمر الرب حيث يقول:
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
[آل عمران: 133] فطوبى لمن سارع إلى مغفرة، وويل لمن [كفر] نعمته، { فأما من أوتي كتبه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [الانشقاق: 7-8] وهو المسارع إلى مغفرة الرب، { وينقلب إلى أهله مسرورا } [الانشقاق: 9]؛ أي: ينقلب إلى قواه الطائعة له المؤمنة بربه، مسرورا معه مغفورا { وأما من أوتي كتبه ورآء ظهره } [الانشقاق: 10] وهو المسارع إلى نعمته؛ لأنه كان متوجها إلى الدنيا مدبرا عن العقبى، فلأجل ذلك أوتي كتابه وراء ظهره؛ لأن كل ما عمل بقي وراء ظهره وما قدم لنفسه عملا صالحا، { فسوف يدعوا ثبورا } [الانشقاق: 11] ينادي بالويل والثبور ويدعو هو بنفسه على نفسه بالويل والثبور حين يهوى به في السعير كقوله تعالى: { ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا } [الانشقاق: 12-13]؛ يعني: في الدنيا مع القوى الكافرة كان مسرورا باتباع الشهوات والتلذذ بالمنهيات على وفق هواه.
[84.14-25]
{ إنه ظن } [الانشقاق: 14] في دار الدنيا { أن لن يحور } [الانشقاق: 14]؛ أي: لن يرجع إلينا { بلى } رجوعه كان إلينا.
{ إن ربه كان به بصيرا } [الانشقاق: 15] كان بمشهد الحق كل ما كان عامله من اتباع الهوى ومخالفة أمر المولى، { فلا أقسم } [الانشقاق: 16]؛ أي: أقسم بالسر الذي أودعت { بالشفق } [الانشقاق: 16] عند غروب شمس الروح، { والليل } [الانشقاق: 17]؛ أي: والسر الذي أودعته بجلالي في سوار ليلة الموت وفوت ضياء الشمس، { وما وسق } [الانشقاق: 17]؛ أي: والسر الذي أودعت في ضم المنتشرات وجمع المتفرقات حالة النزع، { والقمر إذا اتسق } [الانشقاق: 18] والسر الذي أودعت في قمر القلب في تلك الساعة إذا أتم نوره ليبصر به عند كشف الغطاء الذي يكون بصره حديدا ويتمنى الرجوع والمهلة ولا ينفعه التمني.
{ لتركبن طبقا عن طبق } [الانشقاق: 19]؛ يعني: لتركبن اللطيفة المطاوعة درجة بعد درجة في تلك الساعة، ورتبة بعد رتبة حتى تقربها إلى الله زلفى، { فما لهم لا يؤمنون } [الانشقاق: 20] هذا استفهام بمعنى الإنكار؛ أي: فما للقوى الكافرة لا يؤمنون، فهذا مخصوص في عالم الأنفس بالسالك الذي شاهد طيفه يصعد إلى الحق، وأنكر بعد ذلك الصور بتلقين الشيطان، وكذب تلك الحالة وظن أنه كان خيالا، { وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } [الانشقاق: 21] آيات الأنفس { لا يسجدون } [الانشقاق: 21]؛ أي: لا يتواضعون للحق ولا يؤمنون به، { بل الذين كفروا } [الانشقاق: 22]؛ بل الذين جعلناهم مظاهر قهر، وحكمنا عليهم بالكفر { يكذبون } [الانشقاق: 22] هذه الآيات { والله أعلم بما يوعون } [الانشقاق: 23]؛ أي: بما يحفظون في صدورهم؛ لأنه أودع فيهم سر مظهريتهم لقهره، { فبشرهم بعذاب أليم } [الانشقاق: 24] وهذا سخره لهم { إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم أجر غير ممنون } [الانشقاق: 25]؛ أي: غير مقطوع ولا منقوص، فعليك أيها السالك أن تخضع لأمر الحق، وتصدق الآيات الأنفسية التي تطرأ عليك والقرآن الذي يقرأ عليك لطيفتك السرية، وتؤمن بالحق الذي أنزل عليك، وتعمل بما فيه ليكون لك أجرا غير ممنون.
اللهم ارزقنا الإيمان الصحيح بالآيات الأنفسية والأفاقية بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[85 - سورة البروج]
[85.1-10]
سورة يا شاهد شاهد الحق، ويا شهود مشهودك، ويا مشهود شاهدك تبين لك في اليوم الموعود، وحقيقة الشاهد والمشهود، واعلم أن الله تعالى خلق لوح العقل وكتب عليه كل شيء أراد إظهاره في الوقت المقدر والأجل المعلوم المعين؛ وهو أول خلق خلقه في مقام القلبية وجعل له مظهرا في العالم الجسماني؛ وهو سماء الدنيا التي زينها الله بمصابيح النجوم والبروج، ورتب عليها أمور عالم الكون الفاسد الذي هو المسمى بالدنيا؛ وهي سماء صدرك في عالم الأنفس وأقسم بها في كتابه وقال: { والسمآء ذات البروج } [البروج: 1]؛ أي: بحق الوديعة التي أودعت في قابليتها بصفة ربوبيتي، { واليوم الموعود } [البروج: 2]؛ أي: بالسر الذي أظهره في اليوم الموعود، وهو إذا دخل نجوم كل برزخ آخر وتتبدل الأشكال التي أظهرناها على ذلك الثوب الذي سميته ذات البروج والسماء الدنيا، فبعد التبديل يظهر السر الذي أودعه الله في اليوم الموعود وهو يوم القيامة.
{ وشاهد ومشهود } [البروج: 3]؛ أي: بحق اللطيفة الكاملة الأنانية المستحقة المرائية، والعكس الذي ظهر في المرآة من جمال الشاهد، فالمرآة مشهودة لجمال الشاهد، والشاهد هو الله، والمشهود مرآة، فإذا صارت المرآة واحدة عكس الجمال تصير مشاهدة والجمال يكون مشهودا وهذا سر مخصوص بمرآة بني آدم، ولأجل هذا صار أشرف الخلائق وأكرمهم عند خالقه حتى أمر الملائكة بسجوده، وفي تحقيقه أسرار تتعلق بحد القرآن ولا رخصة في إظهارها إلا في بسم الله الرحمن الرحيم، فإني مرخص أن أبين حده ومأذون في بيان مطلع النقطة الواقعة تحت الباء التي في أول البسملة، فإن ساعدني القدر وأخرني الأجل كتبت بعد الفراغ في تفسير بطن القرآن حد البسملة ومطلع نقطة الباء إن شاء الله تعالى.
{ قتل أصحاب الأخدود * النار } [البروج: 4-5] جواب القسم؛ يعني: أن أصحاب اللطيفة النفسية المكذبة للطيفتها، المنذرة الداعية إلى ربهم، والمنكرة لها بعد اطلاعها على الآيات البينات الأنفسية الملكوتية، لعنوا وطردوا وأبعدوا من رحمة الله تعالى بإنكارهم الآيات البينات وتكذيبهم اللطيفة في دعوتها لهم إلى خالق السماوات، الذين اشتعلوا بنيران الغضب والبغض في أخاديد وجودهم؛ ليحرقوا اللطيفة الداعية لهم إلى الحق فتخرج النار الموقدة من شفير أخاديدهم عناصر وأحرقتهم كقوله تعالى: { النار ذات الوقود } [البروج: 5]؛ وهي بدل الأخدود.
{ إذ هم عليها قعود } [البروج: 6]؛ يعني: أصحاب الأخدود كانوا على شفير أخاديد لهم قاعدين لتعذيبهم اللطيفة الداعية والقوى المؤمنة بها، { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } [البروج: 7]؛ يعني: النفس الأمارة وقواها الكافرة كانوا حاضرين فلما شاهدوا خروج النار من شفير الأخدود، وإحراق الكافرين ونجاة المؤمنين منها، ندموا وما نفعهم الندم بعد نزول البلاء وظهور الآيات، { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد } [البروج: 8-9]؛ يعني: ما كرهوا الإيمان وما عابوا المؤمنين وما تبينوا إلا أن يؤمنوا بالله الغالب على أمره { الحميد } المحمود بكل موجود عين لسانه، الذي يسبح به خالقه { الذي له ملك السماوات والأرض }؛ يعني: بحكمة النار والريح أمر الريح؛ ليخرج النار من قعر الأخدود وإحراق الكافرين الذين كانوا على شفير الأخدود، وأنجى المؤمنين الذين كانوا في قعر الأخدود، { والله على كل شيء شهيد }؛ يعني: حاضرا معهم شاهدا لأحوالهم، ماكرا بالذين مكروا بالمؤمنين.
{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [البروج: 10]؛ أي: عذبوا وأرادوا أن يحرقوهم { ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } [البروج: 10] ولهم؛ أي: عذاب الأجل بكفرهم وإصرارهم على الكفر بعد اطلاعهم على الآيات البينات { ولهم عذاب الحريق } [البروج: 10]؛ أي: العذاب الأجل بنصرة عدوهم عليهم؛ وتسلط القوى المؤمنة على القوى الكافرة، وتذليلهم وأسرهم.
[85.11-22]
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير } [البروج: 11]؛ يعني: القوى التي آمنت باللطيفة الداعية لها وعملت الصالحات لهم الجنات التي عمرت في نفوسهم بالعمل الصالح تجري من تحتها الأنهار والمعرفة، و { ذلك الفوز الكبير } [البروج: 11] وهذه الآية تصلح أن تكون جواب القسم؛ يعني: يكرر القسم، ثم قال:
قتل أصحاب الأخدود
[البروج: 4].... إلى آخره، ثم أقسم وقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [البروج: 11] ولو نقول: إن في الآية تقديما وتأخيرا كما قيل يجوز؛ يعني: قتل أصحاب الأخدود
والسمآء....
[البروج: 1] إلى آخره؛ { إن بطش ربك لشديد } [البروج: 12] جواب بعد الجواب؛ يعني: يوم يبطش البطشة الكبرى تكون أشد من البطش العاجل الذي بيناه في عذاب الحريق.
{ إنه هو يبدىء ويعيد } [البروج: 13]؛ يعني: خلقهم أولا، يميتهم ثانيا، ثم يحييهم ثالثا، وبعبارة أخرى: { إنه هو يبدىء ويعيد } [البروج: 13] ويعيد القوى في النفس الأمارة من الغيب إلى الشهادة ويجعلها مظهرا لصفة قهره، ويعيدها إلى عالم الغيب من الشهادة مع الكتاب الآلات الباقية للمظهرية لصفة القهر.
{ وهو الغفور الودود } [البروج: 14] للقوى التائبة المؤمنة { ذو العرش المجيد } [البروج: 15] الذي كان فوق الكرسي المسمى بفلك الأفلاك؛ وهو مستوى الصفة الروحانية ومحرك الأفلاك؛ وهو مبدئ ظهور الفعل { فعال لما يريد } [البروج: 16]؛ يعني: يفعل بتحركه الأفلاك ما كتب على اللوح أراد ظهوره، { هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود } [البروج: 17-18]؛ أي: سمعت حديث القوى القالبية، والنفسية التي آمنت بفرعون اللطيفة القالبية غير المستخلصة عن الباطل وإرادة الغلبة على اللطيفة المستخلصة عن الباطل الواصلة إلى الحق ما فعل الله بهم، { بل الذين كفروا في تكذيب } [البروج: 19] أيتها اللطيفة الخفية، لك كما كذبوا من قبل اللطائف المستخلصة عن الباطل الداعية أممهم إلى الحق والأمن، { والله من ورآئهم محيط } [البروج: 20]؛ يعني: عالم بكيدهم قادر على دفعهم ولكنه يمهلهم؛ ليكسوا آلات شقاوتهم الأبدية، { بل هو قرآن مجيد } [البروج: 21]؛ يعني: إن الذي ينزل عليك من أحوالهم، ومما يؤول إليه أمرهم في الآخرة، من أمور الغيبية المشهودة من أعين أهل الشهادة، قرآن حق لا شعر ولا كهانة وبعبارة أخرى: { بل هو قرآن مجيد } [البروج: 21] إنهم أمهلوا حتى أكثروا الفساد وادخروا العذاب الشديد ليوم المعاد مكتوب { في لوح محفوظ } [البروج: 22]؛ أي: في لوح عقلك، محفوظ في قوة حافظتك، وقد بينا في قدسية أخرى ذكر القرآن القديم الكريم الذي { لا يمسه إلا المطهرون } [الواقعة: 79] والقرآن المجيد الذي يقرؤه الآفاقيون، فاطلب منها حقيقتها فسبيلك أيها السالك سماءك ولوحك، وشاهدك ومشهودك، ويوم الموعود، ولا تنكر الآيات البينات الأنفسية التي تشاهدها في السلوك، وتذعن الأمر للطيفة، وتكفر بالنفس الأمارة، وتكون من حزب الرحمن، وتجاهد مع جند الشيطان؛ لتكون من الفائزين بالفوز الكبير.
اللهم اجعلنا من أهل الفوز والسداد والصلاح بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان كل صباح ورواح.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-9]
أيها الطارق في ليل القالب من سماء الصدر الطالب، محبوب القلب الكاسب، مطلوب الرب في سوق القدر، اعلم أن الله أقسم بالسماء والطارق في كتابه بقوله: { والسمآء والطارق * ومآ أدراك ما الطارق * النجم الثاقب } [الطارق: 1-3]؛ يعني: النجم المضيء من نور العرش الذي هو مستوى الرحمن، يطرق من السماء إلى عالم البشرية في ظلمة ليل القالب، { إن كل نفس لما عليها حافظ } [الطارق: 4] جواب القسم؛ يعني: ليس كل نفس لما عليها منا حافظ، وحفظتك من هذا القبيل يحفظونك من العاهات الجسمانية والآفات الروحانية، وأنت غافل عن نفسك وعن حفظك وتحسب أنك خلقت للأكل والشرب، والجماع كالبهائم ولا تتفكر في خلقك { فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من مآء دافق * يخرج من بين الصلب والترآئب } [الطارق: 5-7] النازل من سماء صدرك، أما تعلم أن الله خلق لطيفتك الإرادية من ماء الرحمن المصبوب في رحم قالبك مما كان مودعا في صلب روحك، ومن ماء التربية المستودع في ترائب قالبك وقت التخمير؟
{ إنه على رجعه لقادر } [الطارق: 8]؛ يعني: أن الله قادر على رجعه { لقادر } إلى أصله إن لم يعطه حقه، فالواجب عليك أيها المريد، أن تغتنم نزول اللطيفة الإرادية في قلبك وتربيها أحسن مما يربي أحد ولده العزيز؛ لأن ذلك الولد عدو لك وفتنة لك، وهذا الولد مبارك عليك حبيب لك يوصلك إلى حضرة ربك { يوم تبلى السرآئر } [الطارق: 9] يظهر لكل أحد في ذلك اليوم سر هذا الولد العزيز ويندم على تقصيره في تربيته ولا ينفعه الندم.
[86.10-17]
{ فما له من قوة } [الطارق: 10] أن يشتغل سيده بتربيته { ولا ناصر } [الطارق: 10] أن ينصره على استرضائه إذ أذنه بالرجوع ليربيه حق تربية، ثم يقسم بالقوة التي أودعها في سماء الصدر بأن تمطر على رحم القالب ماء الرحمة لينعقد نطفة اللطيفة الإرادية، ويقول: { والسمآء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع } [الطارق: 11-12]؛ أي: أرض القالب التي أودع فيها سر الربوبية؛ لتتصدع وتأخذ الماء وتنبت منه الشجرة الطيبة التي هي اللطيفة الإرادية.
{ إنه لقول فصل } [الطارق: 13]؛ أي: هذا الذي أنزلنا عليك لقول حق يفصل بين الحق والباطل { وما هو بالهزل } [الطارق: 14]؛ يعني: هذا قول جد صدق لا لغو ولا هزل إن كنت تشتغل بتربية هذه اللطيفة الإرادية تصل إلى مرتبة الولاية، وإن كنت تهمل حق هذه اللطيفة وتقصر في تربيتها تعذب عذابا أليما، { إنهم يكيدون كيدا } [الطارق: 15]؛ يعني: القوى الطبيعية يكيدون ألا تبلغ الرجال هذه اللطيفة مبلغ الرجال لئلا تسلط عليهم، { وأكيد كيدا } [الطارق: 16]؛ يعني: استدرجهم من حيث يكيدون وأعد لهم بما يكيدون، { فمهل الكافرين } [الطارق: 17]؛ أي: مهل القوى الطبيعية الكافرة أياما قلائل؛ ليعمروا دركاتها ويشعلوا نيرانها، { أمهلهم رويدا } [الطارق: 17]؛ يعني: أنظر لهم ولا تستعجل؛ لكي يتمتعوا ويلههم الأمل فيأخذهم أخذ بغتة، وتعد لهم بما كادوا باللطيفة الإرادية عذابا شديدا؛ وهو عذاب الاطلاع على عرش اللطيفة وما أودع الله لصاحبها من النعيم المقيم والملك العظيم في جنة قلبها، ونحشرهم على فوات الاستعداد الذي يمكن ترتيبها.
اللهم وفقنا لتربية اللطيفة الإرادية المثمرة نور الولاية بحق محمد صاحب الهداية صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-9]
يا مسبح سبح أولا لجاري اسمه ربك اشتغل بذكر الله حتى يطهر لسانك عن الغيبة والكذب والفحش والنميمة وما شاكلها، يستحق أن يكون مسبحا لله ولا يمكن حصول تطهير اللسان إلا باسم الرب فلأجل هذا قال في كتابه: { سبح اسم ربك الأعلى } [الأعلى: 1] [من أن] يجري على لسان ملوث، والاسم الأعلى هو الله، والذكر الأفضل لا إله إلا الله ولأجل هذا السر اختار المشايخ الذين عرفوا الطريق على وجه التحقيق وهم طبقة أستاذ الطريقة الجنيد البغدادي - قدس سره - للسالكين الذين دخلوا في الطريقة، وجاهدوا في تطهير القلب؛ لينزل سلطان ذكر الرب فيه لا إله إلا الله، وإذا طهرت صورة الذكر صورة لسانك، وطهرت معاني الذكر حقيقة جنانك عرفت الرب وسبحته حق التسبيح، وعلمت أنه خلقك من العناصر الأربعة فسواك في أعدل الأمزجة ليصلح أن يكون مركبا للروح الإضافي، وقدر أقوات القوى الروحانية من نفحات ألطاف الرب، وأقوات القوى الجسمانية من التدبيرات السماوية النازلة إلى أرض القالب، وهدى كل قوة إلى قوتها المقدرة كما قال في كتابه: { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى } [الأعلى: 2-4]؛ يعني: أخرج مرعى الروح من ثدي الخفي كما أخرج مرعى الجسم من ثدي البطن { فجعله غثآء } [الأعلى: 5]؛ أي: هشيما مذللا للأطفال، ونور البصيرة في سواد الخفي، ولين المعرفة والتربية الجسمانية والروحانية { أحوى } [الأعلى: 5]؛ يعني: بحكمته جعل رأس الثديين أسود لأنه أودع نور البصر في سواد العين، ونور البصيرة في سواد الخفي، ولين المعرفة والتربية في الثديين المصبوغين بصبغ السواد الذي ليس بعده لون في تحقيق هذا السر قرع باب حد القرآن.
{ سنقرئك فلا تنسى } [الأعلى: 6] يقول الله تعالى للطيفة الخفية: سنقرئك من بيان الحدود فلا تنسى حقيقة أبد الدهر { إلا ما شآء الله } [الأعلى: 7]؛ لأنه حكيم رحيم يعلم أن الأسرار التي هي مدرجة في الحدود لو تكشف على أحد يحترق العقل ويبطل نظام العالم السفلي، { إنه يعلم الجهر وما يخفى } [الأعلى: 7] إنه يعلم ظاهر القرآن وباطنه، ويعلم قوة ظاهرك وباطنك ومقدرا تحمله معاني الظهر والبطن، فعلى قدر ما تكون قوتك نقرأه عليك ويثبت في قلبك بحور ما لك طاقة في حملها.
{ ونيسرك لليسرى } [الأعلى: 8]؛ أي: نهون عليك حمل ما أثبت في لوحك وقرأته والعمل به، { فذكر } [الأعلى: 9] القوى القالبية والنفسية، والسرية والقلبية، والروحية والخفية، { إن نفعت الذكرى } [الأعلى: 9]؛ يعني: إن كنت تذكر ما قرأت على لوحك فما عليك أن ينفع لهم الذكرى أو لا ينفع وعليك الوعظ والإبلاغ.
[87.10-19]
{ سيذكر من يخشى } [الأعلى: 10] سوف ينفع الذين يخشون من ربهم من القوى المستعدة الغير الملطخة بتراب الطبيعة [المدساء] في الطين اللازب، { ويتجنبها الأشقى * الذى يصلى النار الكبرى } [الأعلى: 11-12] فكل من كان من الأشقياء الذين أصليناهم في النار الكبرى التي بها استكبر وأبى أمر الرحمن ويتجنبون عن الموعظة والذكر؛ لأنهم لا يموتون في تلك النار بألا يكون لهم خبر من عذابها، ولا يحيون بأن يكون لهم من الحياة لذة؛ بل لا يموتون من الطريق الجسماني يأكلون ويتمتعون ولكن ليس لهم حقانية حقيقة روحانية.
{ ثم لا يموت فيها ولا يحيا } [الأعلى: 13] حياة تنفع؛ ليبصروا الحق ويسمعوا كلام الحق وينتفعوا بموعظة اللطيفة، { قد أفلح من تزكى } [الأعلى: 14]؛ أي: كل لطيفة اشتغلت بتزكية القوى القالبية والنفسية أفلحت؛ لأنها ذكرت اسم الرب فصلت وتوجهت إليه كما قال في كتابه: { وذكر اسم ربه فصلى } [الأعلى: 15] والأشقى الذين لا هم أموات ولا أحياء، آثروا عيش الدنيا على عيش الآخرة لأنهم كانوا أمواتا عن القوى الأخروية، أحياء بالقوى الدنيوية كما قال الله تعالى: { بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى } [الأعلى: 16-17]؛ لأنها دار البقاء خيرها لا ينفد وعيشها لا يفنى، والدنيا مرحلة الفناء عيشها عن قريب يفنى وتبعتها أبد الآباد تبقى.
{ إن هذا لفي الصحف الأولى } [الأعلى: 18]؛ يعني: إن هذا الماء المكتوب في { صحف } [الأعلى: 19] القلب والسر { صحف إبراهيم وموسى } [الأعلى: 19] فاجتهد أيها السالك لتقرأ صحفك، ولا يمكن لك القراءة حتى تعالج بصرك الذي أعماه سبيل محبة الدنيا وظفرة الهوى، فإذا عالجت البصر وصار صحيحا تعلم علم القراءة من أستاذك لتقرأه من صحيفتك وتعرف حقيقة هذه الآيات فيك وتشتغل بالعمل بما أمرت به إن شاء الله تعالى.
اللهم اجعلنا قارئين صحفنا عاملين بما فيها بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-13]
يا طالب معرفة القيامة المائية القالبية، اسمع ما يقول تعالى في كتابه الكريم حيث يقول: { هل أتاك حديث الغاشية } [الغاشية: 1] والغاشية ما يغشى صاحبه عليه من هواها، وهي حاصلة من الماء الذي ركب القالب عنه، وأحمى بالنيران المشعلة بالريح الهوائية، وجمع في باطنه بحيث صار متقنا وغلب عليه عند خراب القالب.
{ وجوه يومئذ خاشعة } [الغاشية: 2]؛ أي: ذليلة ليس لهم وجاهة، { عاملة ناصبة } [الغاشية: 3] عملوا بالهوى ما عملوا في عمران قالبه، ونصبوا على وفق متابعة هواهم ما نصبوا؛ يعني: ما وفقوا لاتباع اللطيفة الخفية؛ بل عملوا ونصبوا بالابتداع من هوى أنفسهم.
{ تصلى نارا حامية } [الغاشية: 4] بالحطب الذي جمعوا من الأخلاق الذميمة والأوصاف الكريهة، { تسقى من عين آنية } [الغاشية: 5]؛ أي: متناهية في الحرارة التي حصلت من النار الحامية بحطب الأخلاق الردية ونيران الشهوة والغضب، { ليس لهم طعام إلا من ضريع } [الغاشية: 6]؛ لأنهم ما أطعموا القوى القلبية والسرية والروحية من شراب الذكر وطعامه، فلا يكون لهم يومئذ { طعام إلا من ضريع } [الغاشية: 6] وهو شوك الخواطر القالبية الردية لصاحبها باتباع هواها، { لا يسمن ولا يغني من جوع } [الغاشية: 7]؛ لأنهم كلما أكلوا منها زاد جوعهم وعطشهم بعدها، ولهم { وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية } [الغاشية: 8-9] والوجوه التي توجهت إلى قبلة وجه الله، ونعمت القوى القلبية والسرية والروحية بنعمة الذكر، وسعت في طاعته طلبا لمرضاته يكن ناعمات لسعيها راضيات في جنات عاليات عامرات في بواطنهم كما يقول الله تعالى: { في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية } [الغاشية: 10-11]؛ لأنهم اشتغلوا في حبس القالب بذكر الله وما اشتغلوا باللغو واللهو، فلا جرم كانت جنة قالبهم عالية طاهرة من لاغية.
{ فيها عين جارية } [الغاشية: 12] من المعرفة { فيها سرر مرفوعة } [الغاشية: 13] من الأسرار الرفيعة التي لا يصل إليها المقربون من عباده الخواص.
[88.14-26]
{ وأكواب موضوعة } [الغاشية: 14] موضوعة في حانة أنفسهم؛ وهي الاستعدادات القالبية مملوءة من شراب المحبة ورحيق المشاهدة { ونمارق مصفوفة } [الغاشية: 15]؛ أي: وسائد الرحمة مصفوفة ليتكئوا عليها كما يتكئوا على وسائد وكالته في عالم القلب، { وزرابي مبثوثة } [الغاشية: 16]؛ أي: فرشوا البسط مبسوطة في بساط الباسطة، { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [الغاشية: 17] إن كنتم تشكون وتعجبون مما ذكرنا، أفلا ينظرون إلى إبل الشوق كيف خلقت؛ لتكون مركبهم ويصلون عليها إلى هذا المقام الذي لا يصل إليه أحد
إلا بشق الأنفس
[النحل: 7] أفلا ينظرون إلى سماء صدورهم كيف رفعت، وإلى جبال قالبهم كيف نصبت، وإلى أرض بشريتهم كيف سطحت كما يقول في كتابه: { وإلى السمآء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنمآ أنت مذكر } [الغاشية: 18-21] أيها النائب لمحمد صلى الله عليه وسلم القائم مقامه في وجود كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم { إنمآ أنت مذكر }؛ يعني: خلقت في وجود كل أحد لطيفة أحمدية وقوة محمدية؛ ليذكرهم قواها من الغاشية، وينذرهم بالنار الحامية والعين الآنية، ويبشرهم بالجنة العالية والعين الجارية والفرش المرفوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة، { لست عليهم بمصيطر } [الغاشية: 22]؛ أي: لست بمسلط على هذه القوى لأنها خلقت لعمل خاص متعلق بكل واحد منها، وما عليك إلا البلاغ والإنذار والإبشار.
{ إلا من تولى } [الغاشية: 23]؛ أي: القوى التي تولت عن الحق وعما خلقت له، { وكفر } [الغاشية: 23]؛ أي: كفرت حتى بخالقها والحق الذي لأجله خلقت، { فيعذبه الله العذاب الأكبر } [الغاشية: 24] بإعراض القوى عن الحق، وإقبالها على الباطل بعذاب فقدان الحق وهذا من أكبر العذاب، { إن إلينآ إيابهم } [الغاشية: 25]؛ أي: رجوعهم إلى حضرة الحق { ثم إن علينا حسابهم } [الغاشية: 26]؛ يعني: الحق محاسبهم يوم الغاشية بإبطالهم الحقوق التي كانت ودائع الحق فيهم، وإحقاقهم الأباطيل التي كانوا مأمورين بإخراجها. فيها أيها السالك، اجتهد اليوم في إيتاء كل ذي حق حقه وإخراج الباطل عن نفسك؛ لتكون وجيها عند الله يوم الغاشية.
اللهم اجعل وجهي إليك ناظرا متنعما بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين صاحب الوجاهة والقدر.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-15]
يا طالب رضا المولى، ويا هاربا من هاوية الهوى، ويا عارجا في الدرجات العلى، ويا صاحب ذوي النهي، اعلم أن الله أقسم بالفجر؛ وهو قدر جمال الروح الفاعل، وبليال عشر؛ وهي اللطيفة الجلالية المسكنة في القالب؛ وهي السكينة والحلم، والتواضع والصبر، والحكمة والفيض، والغيرة والعزة، والهمة والثبات، وأقسم أيضا بالشفع؛ وهو الأحوال الطارئة على النفس من الفقر والغنى، والخوف والرجاء، والفرح والحزن، والترح بامتثال الأوامر؛ وهو الحال الذي ظهر في الآخرة الباقية التي فيها ينادي لأهلها يا أهل الجنة فرح لا بعده ترح، ويا أهل النار ترح لا بعده فرح، وأقسم ثانيا بالليل إذا يسر؛ يعني: بالسير الذي جعل في الليل العظيم القدر، الذي رفع فيه قدر صاحبه وأسرى إلى سدرة المنتهى همته.
كما يقول الله تعالى: { والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * واليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذى حجر } [الفجر: 1-5]؛ أي: هل يقنع هذا القسم لمن كان له عقل بحجر؛ أي: يمنعه عن تكذيب الحق في القسم، { ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد } [الفجر: 6-8]؛ يعني: ألم تر القوى النفسية أن الله فعل بالقوى العادية التي نبت لنفسها من التنعم في ذات عماد قالبها إرم جنة من القول النباتية الخبيثة، متى ما شاءت على وفق هواها دخلت وأكلت من ثمارها، لم يخلق مثل ذلك الإرم في قوالب غيرها كيف خربها ربها.
{ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } [الفجر: 9] جابوا صخور جبال القالب ليأمنوا من عذاب الرب، { وفرعون ذى الأوتاد * الذين طغوا في البلاد } [الفجر: 10-11]؛ أي: القوة القالبية الكاملة في الباطلة فسدت أركانها وأحكمت أوتادها بهواها، وطغت في بلاد القالب على جميع القوى القالبية { فأكثروا فيها الفساد } [الفجر: 12] وأراد أن يظهر على سماء الصدر، ورحاب مع الرب { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [الفجر: 13]؛ يعني: فرد كيدهم في نحورهم، وأدخلهم النيران التي أوقدوها، وخرب جنانهم التي بنوها، { إن ربك لبالمرصاد } [الفجر: 14] هذا جواب القسم؛ يعني: وحق هذه اللطائف التي ذكرها ربك في وجودك إن ربك رباك وأودع فيك هذه اللطائف، { لبالمرصاد }؛ يعني: يرصدك ويراك في تقلبك ويسمع نجواك ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا في الأرض القالب، ولا في الصدور، ولا في نهار الروح، ولا في ظلمة ليل النفس، ولا في أطوار القلب.
{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } [الفجر: 15]؛ يعني: إذا فتح عليه بأنوار البسط يقول: إني من المكرمين عند ربي.
[89.16-23]
{ وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } [الفجر: 16]؛ يعني: إذا فتحنا عليه أبواب الفيض وأمسكنا عنه رزقه من البسط يقول: صرت مهينا عند ربي، { كلا } [الفجر: 17]؛ أي: حقا ليس الأمر كذلك، { بل لا تكرمون اليتيم } [الفجر: 17]؛ إذا فتحنا عليكم باب البسط لا تكرمون خاطر القلب بكرامة الحضور في الذكر { ولا تحآضون على طعام المسكين } [الفجر: 18]؛ أي: لا يطعمون القوى المسكينة بطعام الذكر الخفي القوي، وظنوا أنهم وصلوا وتركوا الذكر والمراقبة واغتروا بحال البسط، { وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما } [الفجر: 19-20] وتأكلون من نعم البسط وما أورثهم في حال البسط أكلا تماما شديدا من نعمة البسط الحاصلة من ذكر اللسان، ولا يلتفتون إلى اليتيم والمسكين، { وتحبون المال حبا جما } [الفجر: 20]؛ أي: يحبون ما حصل لهم من نعم البسط حبا كثيرا، { كلا } [الفجر: 21]؛ يعني: ما هكذا ينبغي حقا أن يفعل صاحب البسط، { إذا دكت الأرض دكا دكا } [الفجر: 21]؛ يعني: إذا دكت أرض القالب من سطوة الوارد الجلالي المثمر بلاء الفيض، { وجآء ربك والملك صفا صفا } [الفجر: 22]؛ أي: جاءت اللطيفة الربوبية التي يقوم بها وجودك وخواطر القلب مع تلك اللطيفة صفا صفا، { وجيء يومئذ بجهنم } [الفجر: 23] أرجئ جهنم قالبك التي اشتعلت نارها بهوى نفسك، { يومئذ } [الفجر: 23] هي في تلك الحالة، { يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } [الفجر: 23]؛ يعني: وما تنفع الذكرى وأين القبول، وأين له بحال ذكر التوبة.
[89.24-30]
{ يقول يليتني قدمت لحياتي } [الفجر: 24] هذه آية تدل على: أن الرجل ما دام في قبر قالبه كان ميتا فإذا خرج منه يصير ذي حياة وعلم وبصر، { يقول يليتني قدمت لحياتي } [الفجر: 24] في تلك الحالة التي هي بالنسبة للحياة الأبدية مماتا للأعمال الصالحة لا ينفعني اليوم.
{ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد } [الفجر: 25-26]؛ يعني: يعذب بعذاب الحسرة والندامة الدائمة، ويوثقه بالقيود الملائكية يأخذ الآلات والأدوات عنه وسعوره، بل لا سبيل له إلى الرجوع ولا سبيل له إلى الخلاص من هذا العذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين، { يأيتها النفس المطمئنة } [الفجر: 27]؛ أي: القوى النفسية المطمئنة الخفية، المصدقة لها المؤتمرة بأمرها، المنتهية عما نهتها المشتغلة بحفظ حقوقها، التاركة حظوظها العاجلة، المعرضة عن هواها المقبلة على مولاها { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [الفجر: 28] حين خروجها من قبر قالبها { فادخلي في عبادي } [الفجر: 29] بعد التجاوز عن العقبة الكؤود النفسانية { وادخلي جنتي } [الفجر: 30]؛ يعني: في جنة القلب المضاف إلى الرب لشرفها. فيا أيها السالك، أعبر بهذه الحالات واعتبر عن مشتهيات النفس الأمارة؛ لتكون من الداخلين جنة الرب، ولا تفرح بالبسط ولا تحزن بالقبض، وكن في كلتا الحالتين ذاكرا للرب لئلا تكون من الذين يعبدون الله على حرف كما ذكرهم الله في كتابه.
اللهم اجعل نفسنا مطمئنة راضية مرضية وثبتنا على متابعة حبيبك محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان كل غدوة وعشية.
[90 - سورة البلد]
[90.1-10]
يا طالب البلد الأمين، ويا قارئ الكتاب المبين، اعلم أن الله تعالى أقسم بهذا البلد وقال: { لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد } [البلد: 1-2]؛ أي: حرمنا هذا البلد على غيرك وأحللنا لك كل ما تفعل في بلد الوجود من قتل كفرة النفس ومشركها وأسر الهوى وسير قواها، { ووالد وما ولد } [البلد: 3]؛ أي: بحق اللطيفة الفاعلية ونتائجها، { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [البلد: 4]؛ يعني: اللطيفة الإنسانية في مكابدة وشدة مع هؤلاء الأضداد المنفرة بالطبع [بعها] بعضها عن بعض، منه خلقناه { أيحسب } [البلد: 5] القوى الكافرة { أن لن يقدر عليه أحد } [البلد: 5] من هواها بقوتها واعتمادها على مكرها، { يقول أهلكت مالا لبدا } [البلد: 6]؛ يعني: أنفق قوتي في مشتهيات الهوى وأسلطها على اللطيفة؛ لتجلب خواطرها النفسية ورجل خاطرها القالبية ويمنعها عن التسليط على أهل البلد.
{ أيحسب أن لم يره أحد } [البلد: 7]؛ أي: ما يكيد ويمكر؛ بل الله مطلع على جميع ما يخفي ويظهر، { ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين } [البلد: 8-10]؛ يعني: ألم نجعل للإنسان هذه القوى؛ يعني: القوة الباصرة وقوة التكلم وزينة التيقن والقوة المميزة بين الخير والشر، أيظن أن لن ير كيده خالقه الذي هداه على تمييز الخاطرين.
[90.11-20]
{ فلا اقتحم العقبة } [البلد: 11] لم ينفق قواه فيما يسهل عليه جواز العقبة الكؤود والنفسانية وقت خروجه عن قبر القالب، { ومآ أدراك ما العقبة } [البلد: 12]؛ يعني: ما تدري بأي شيء يسهل عليه جواز العقبة، { فك رقبة } [البلد: 13]؛ يعني: فك رقبة نفسه عن أمر هواه، { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة } [البلد: 14-16]؛ يعني: يطعم الخاطر القلبي الذي كان يتيما في عالم النفس، أو خاطر السكينة الذي هو محتاج إلى الذكر من طعام ذكر الله، { ثم كان من الذين آمنوا } [البلد: 17]؛ أي: هذا المطعم ينبغي أن يكون مؤمنا بأن الله أرسل بخاطر القلب وخاطر السكينة إليه، { وتواصوا } [البلد: 17]؛ يعني: قواها النفسية والقالبية، { بالصبر } [البلد: 17] على مراده خلاف الهوى، { وتواصوا بالمرحمة } [البلد: 17]؛ أي: بالمرحمة على الخواطر الغريبة التائبية في عالمه.
{ أولئك أصحاب الميمنة } [البلد: 18]؛ يعني: هذه القوى النفسانية المؤمنة المطعمة تكون من أصحاب الميمنة غدا، { والذين كفروا بآياتنا } [البلد: 19]؛ يعني: كفروا بالآيات الأنفسية التي خلقناها وأظهرناها في باطن السالك وكشفناها عليه، { هم أصحاب المشأمة } [البلد: 19]؛ يعني: تلك القوى الكافرة التي كانت في نفس السالك هم أصحاب المشأمة غدا، { عليهم نار مؤصدة } [البلد: 20]؛ يعني: عليهم نار مطبقة عليهم الأبواب لا يدخل عليهم روح من عالم الروح، ولا يخرج من داخلهم كرب وغم بأنهم كسبوا هذه النار المؤصدة بكفرانهم وطغيانهم اللطيفة في عالم الكسب.
اللهم اجعلنا مؤمنين لك وسهل الجواز على العقبة بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
[91 - سورة الشمس]
[91.1-15]
يا شمس النبوة وضحى الرسالة وقمر الولاية، ونهار المعرفة وليل السكينة، وسماء العزة وأرض التواضع، ويا صاحب النفس الملهمة، ويا طالب الفلاح، اعلم أن الله أقسم بالحقائق المودعة في النبوة والرسالة، والولاية والمعرفة، والسكينة والعزة، والتواضع والنفس الملهمة في كلامه حيث يقول: { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسمآء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } [الشمس: 1-8] بما سوى وقت سويته قالبها، { قد أفلح من زكاها } [الشمس: 9] فكل من زكى نفسه من الأخلاق الذليلة الحاصلة من العناصر القالبية المظلمة، وحلاها بالأخلاق الحميدة الحاصلة من القوى الروحانية النورانية، { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } [الشمس: 9-10]؛ أي: دس نفسه في تراب الطبيعة الملطخة بالطين القالبي بمتابعة الشهوات النفسانية على وفق هواه قد خاب من لطف الله، ومن التنعم في دار القرار الداس نفسه في تراب دار البوار ولتكذيبه اللطيفة التي أرسلها الله إليه في نفسه وعصيانه اللطيفة وطغيانه كما قال تعالى: { كذبت ثمود بطغواهآ * إذ انبعث أشقاها } [الشمس: 11-12]؛ يعني: إذا انبعثت اللطيفة وأسرعت إلى الطاغية انبعث أشقى قوى النفس على أثر اللطيفة الصالحة ليعقر ناقة شوقها.
{ فقال لهم رسول الله } [الشمس: 13]؛ أي: اللطيفة { ناقة الله وسقياها } [الشمس: 13]؛ أي: أخذوا ناقة الشوق ومشربها من عين الذكر، { فكذبوه فعقروها } [الشمس: 14] بتكذيبهم صالح اللطيفة النفسية وعقروا ناقة الشوق، { فدمدم عليهم ربهم بذنبهم } [الشمس: 14]؛ أي: أهلكهم الله، { فسواها } [الشمس: 14]؛ أي: عمهم بذلك العذاب، { ولا يخاف عقباها } [الشمس: 15] ولا يخاف القوى العاقرة في عقر ناقة الشوق عاقبة الأمر، فأهلكهم الله بطغيانهم لرسوله وتكذيبهم إياه.
اللهم اجعلنا من الصادقين الصالحين.
[92 - سورة الليل]
[92.1-13]
يا ساكن القالب الظلماني وطالب النور الروحاني، إن الله تعالى يقسم باللطيفة الجلالية المظهر بها ليل القالب، المظلمة بها نهار الروح لكمال قدرته وإظهار حكمته حيث يقول: { والليل إذا يغشى } [الليل: 1] وابتدأ بالليل في هذا المقام لأن ابتداء خلقك في عالم الشهادة تخمير طينة قالبك، وقيده بقوله: { إذا يغشى }؛ لأن ظلمة ليل القالب في البداية تغشى جميع الأسرار التي كانت في طي الطينة مستودعة، { والنهار إذا تجلى } [الليل: 2]؛ يعني: بحق اللطيفة الجلالية التي أودعناها في النهار الروحاني تتنور بها ظلمة القلب، ويطلع السالك على الودائع المسكنة في قالبه وقت التخمير؛ وهي الأمانة التي أشار إليها حيث قال:
وحملها الإنسان
[الأحزاب: 72].
{ وما خلق الذكر والأنثى } [الليل: 3]؛ أي: بحق من خلق اللطائف الفاعلية والقالبية التي أودعناها في روحك وشخصك، { إن سعيكم لشتى } [الليل: 4]؛ لتفاوت الاستعدادات التي تتعلق بالفاعلية القالبية مما جعلناه فيك، { فأما من أعطى } [الليل: 5] جهده في طاعة الله وماله من القوى والاستعدادات للحق، { واتقى } [الليل: 5] عن الباطل { وصدق بالحسنى } [الليل: 6]؛ أي: صدق ربه فيما أوحى على لسان سر نبيه إليه بوجود الجنة التي هي الثمرة، التي حصلت من الشجرة الطيبة الإنسانية بذرها الكلمة الروحانية { فسنيسره لليسرى } [الليل: 7]؛ أي: نيسره بالحقائق المودعة في اللطائف لعمل يوصله إلى يسر الأبد ويسار السرمد { وأما من بخل واستغنى } [الليل: 8] من القوى الحقانية التي أعطيناها له، واستغنى وجعل نفسه مستغنيا عن الأعمال بالقوى التي أعطيناها ليكتسب بها السعادات السرمدية { وكذب } [الليل: 9] الله ونبيه { بالحسنى } [الليل: 9] التي هي الباقية للعمى الحاصل له من خيار الهوى الصارف إياه عن المولى.
{ فسنيسره للعسرى } [الليل: 10]؛ أي: نيسره بتلك القوى ليبطل بها حقوقها في طلب حظوظه العاجلة، ويعسر عليه الاشتغال بما ينفعه في الآخرة بتوجهه إلى حظ نفسه وبطلان استعداده وقواه في استعمالها في غير حقه { وما يغني عنه ماله إذا تردى } [الليل: 11]؛ أي: بطل استعداده وأخذ منه الآلة وأدواته وأهوي في هاوية هواه ما يغني عنه قواهم { إن علينا للهدى } [الليل: 12]؛ أي: نودع فيك اللطائف ونبين على لسان بشريتك ما كان فيه هداك { وإن لنا للآخرة والأولى } [الليل: 13] فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ الطريقان أولاك اشتغالك بحظوظك العاجلة النفسانية الهووية الشهوية وأخراك توجهك إلى الحقائق الباقية المودعة فيك أولاك وأخراك، ولا يتخرج عنك ولا يطلب من غيرك؛ لأن الحق معك كما يقول تعالى:
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد: 4] لئلا تغلط وتضل وتزل عن الصراط المستقيم وتهوي إلى الجحيم.
[92.14-21]
{ فأنذرتكم نارا تلظى } [الليل: 14]؛ أي: أخبرتكم بما أودعت فيكم وأنذرتكم بالنار التي هي كافية في حجر قابلكم معجونة بطينتكم تتلظى من اشتعالكم تلك النار بالشهوات الباطلة، وتبغي بعد خراب قالبكم وهي نار الحسرة { لا يصلهآ إلا الأشقى * الذي كذب وتولى } [الليل: 15-16] بالحسنى التي معه وتولى عن الحق بتوجهه إلى الباطل.
{ وسيجنبها الأتقى * الذى يؤتي ماله يتزكى } [الليل: 17-18]؛ أي: الأتقى الذي اتقى عن الباطل والاشتغال بالحظ العاجل ويؤتي ماله من القوى والاستعدادات في استعمالها بالحق، الطلب الحق { يتزكى } لتزكي لطائفه عن الإبطال عن الأباطيل الحاملة في عالم الظلمة { وما لأحد عنده } [الليل : 19] من القوى والاستعدادات عند اللطيفة الخفية { من نعمة } [الليل: 19] تجب على تلك اللطيفة { تجزى } [الليل: 19]؛ لأن اللطيفة الخفية أعطت كل لطيفة حقا في بدء الخلقة، وتدعوهم إلى الحق بعد نسيانهم الحق في عالم الظلمة والاشتغال بما فيه تكميل قواها القالبية والنفسية { إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى } [الليل: 20]؛ أي: اللطيفة الخفية تدعوهم، وتصبر على أذاهم لا من احتياجها إليهم ولا من نعمة لهم عليها أن تجزى لها؛ بل كان خالصا لابتغاء وجه الله ربه الأعلى لعلمه بأن رضاه في هذا { ولسوف يرضى } [الليل: 21]؛ أي: عن قريب يرضى عنه ربه بإعطائه إياه وعده من المقام المحمود أحده قبول شفاعته في أمته الخاطئة، وهذه أرجى آية في كتاب الله للأمة الخاطئة فاجتهد أن تكون مستقيما في اعتقادك باللطيفة الخفية التي هي فيك مودعة، متيقنا بما أخبرتك اللطيفة الخفية عن الغيوب ولا يحل عندك الغرور بالتشكيك والتكذيب في إيمانك الغيبي؛ لتصل إليك فائدة شفاعة لطيفتك الخفية إن شاء الله تعالى.
اللهم ثبتنا على متابعة حبيبك عليه الصلاة والسلام.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-11]
اعلم يا طالب اللطيفة الجمالية والجلالية في اللطيفة الخفية التي هي محمد وجودك إن الله في كلامه القديم وقت إسبال الحجاب الجلالي على وجه جمال حال محمد ليتم معرفة الحقيقة بعد النكرة التي هي حال جمال الحال حيث قال: { والضحى * والليل إذا سجى } [الضحى: 1-2]؛ أي: وحق اللطيفة الجمالية المستودعة في روحك وحق اللطيفة الجلالية المستكنة في نفسك إذا سجى بالحجاب الجلالي على وجه ضحى اللطيفة الجمالية والسر في إطلاق وتقييد الليل، هو في هذه الحالة رجحت اللطيفة الجمالية بإسبال حجاب اللطيفة الجلالية لإكمال المعرفة فاحتاج إلى إخبار إسدال الحجاب بقوله: { إذا سجى } ، ثم يقول بعد القسم: { ما ودعك ربك } [الضحى: 3] بإسبال الحجاب { وما قلى } [الضحى: 3] لظهور سلطان النكرة { وللآخرة } [الضحى: 4]؛ يعني: المعرفة الأخيرة التي تطلع من أفق قلبك بعد هذه النكرة { خير لك من الأولى } [الضحى: 4] السابقة على هذه النكرة؛ لأنها كانت من معارف الملكوت والمعرفة التي تحصل لك في صدق هذه النكرة هي الدرة اليتيمة وهي من المعارف الجبروتية.
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } [الضحى: 5]؛ أي: يعطيك من المعارف اللاهوتية التي كنت تسألها في دعائك تقول:
" اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه "
وهذه المعرفة مثل الدرة اليتيمة درر المعارف وسوف يدل على أنه أعطاه بعد قوله: { يعطيك ربك فترضى } [الضحى: 5] وفاء التعقيب أيضا تدل على أنه وصل بعد رفع حجاب النكرة إلى هذه المعرفة المطلوبة، وقوله: { ألم يجدك يتيما فآوى } [الضحى: 6].... إلى آخره، أيضا يدل على أنه واصل إلى المعارف اللاهوتية؛ لأنه تعالى يقول امتنانا عليه وتعليما له في التخلق بخلق مع خلق الله حين يقول: { ووجدك ضآلا فهدى } [الضحى: 7]؛ يعني: ألم يجدك درة لطيفة وأنانيتك يتيما فريدا وحيدا ما كان لها مرب في صغرها فرباها وآواها في تاج المحبوبية { ووجدك عآئلا فأغنى } [الضحى: 8] في عالم الجبروت؛ يعني: كنت ضالة بطريق الدقائق الجبروتية محرومة عن معارف الصفات الفعلية، وكيفية استعمال رقائق الصفات دقائق الأفعال؛ ليظهر منها شقائق الآثار وحقيقة ارتباط الشقائق بالدقائق والدقائق بالرقائق والرقائق بالحقائق، فهذه لطيفتك إلى هذه المعارف كلها على سبيل التفصيل، { ووجدك عآئلا فأغنى } [الضحى: 8]؛ أي: فقيرا إلى معارف عالم اللاهوت وحقائقه المتصلة بالذات الواحدة التي بها رقائق الصفات الجبروتية فائقة فهل كله يقول في مقام الامتنان.
ثم يقول في مقام التعليم: { فأما اليتيم } [الضحى: 9] الذي يكون في عالم الملكوت { فلا تقهر } [الضحى: 9] والطف به واهده إلى معارف الدقائق الملكوتية بالرفق وآوه في رياض قدس سرك كما آويناك.
{ وأما السآئل } [الضحى: 10] الذي يسأل عنك في عالم الجبروت من دقائق الصفات { فلا تنهر } [الضحى: 10]؛ لأن للسائل حقا وهو دخيل في عالم الجبروت وضال طريق هداه إلى الرقائق المتصلة بالحقائق فأرشده واهده كما هديناك { وأما بنعمة ربك فحدث } [الضحى: 11]: أي: بنعمة معارف الحقائق اللاهوتية التي ربيناك بصفات الربوبية ثم أنعمنا بها عليك فحدث مع كل أحد من أمم قواك على قدر عقولهم ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم
" نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم "
وأوتي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام جوامع الكلام بحيث لو تكلم بكلمة وجيزة أخذ منها الخاص والعام كلهم على قدر استعدادهم، فأيديهم وكانت مندرجة في كلمة وجيزة معان كثيرة فاجتهد أيها السالك أن تكون في هذا المقام مؤدبا بآداب رسولك مع ربك متخلق بخلق الله مع خلق الله في عالم شهادتك وغيبك ليمكن لك أن تؤدي حق هذا المقام وتتمتع بعده بالمقام المحمود المخصوص بمحمد أحمد للخلائق بأخلاقه الحميدة القاسم بين الخلق رزق خلق الخلائق، وفيه اسرار تتعلق بحد القرآن فادرج أيها الإنسان الغالب عليك النسيان وتوكل على الرحيم الملك المستعان مالك الدنيا في السرور والأحزان لتكون في ملكك وملكوتك مهدي إلى آخر الزمان.
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
يا منشرح الصدر على القدر رافع الذكر فما أنقاضك، { ألم نشرح لك صدرك } [الشرح: 1] بنور جمالنا المودع في ظلمة قالبك، { ووضعنا عنك وزرك } [الشرح: 2] { الذي أنقض ظهرك } [الشرح: 3] وهو من الخواص القالبية والنفسية التي أنقض وأثقل ظهر ظاهر اللطيفة الخفية بنفوذ نور الذكر في وجود الذكر، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر المفردين الذين اهتزوا بالذكر:
" حتى وضع الذكر عنهم أوزارهم "
، { ورفعنا لك ذكرك } [الشرح: 4] باقتران ذاكريتك بمذكوريتنا وإيصال حقيقة مذكوريتك إلى حقيقة ذاكريتنا، وإظهار نور عزك بنور عزتنا، كما يقول تعالى:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون: 8]، في هذه الآية صرح بأن المؤمنين كانوا عزيزين بنور عزة اللطيفة الخفية النبوية المحمدية، كما أن الرسول عزيز بنور عزة الله الحق المبين، فاجتهد في طلب عزتك التي أودعها الله فيك.
{ فإن مع العسر يسرا } [الشرح: 5]؛ أي: مع العسر المجاهدة والمذلة في الدنيا الفانية يسر المجاهدة والعزة في العقبى الباقية، { إن مع العسر يسرا } [الشرح: 6]؛ أي: مع عسر النكرة وتحمل مرارة مشاقها يسر المعرفة والاسترواح بمجاهدة حلاوة مذاقها.
{ فإذا فرغت } [الشرح: 7] عن المجاهدة في عالم الكسب { فانصب } [الشرح: 7] للمشاهدة في عالم الوهب، ونصب المشاهدة رعاية الأدب المختصة بخواص حضرة السلطان، { وإلى ربك } [الشرح: 8] وقت المشاهدة والوهب { فارغب } [الشرح: 8]؛ يعني : كن على الهمة ولا تلتفت إلى غير الرب، ولا تطلب من الرب إلا الرب، فإذا وجدته وجدت الكل، ولا يفوت عنك شيء، كما قيل في المثل: كل صيد في جوف الفرا.
وجاء في الحكايات المنقولة عن بعض المشايخ أن أحدا منهم جذب وعرج به إلى الحضرة وأوقف بين يدي الحق، فقال له الحق: إن كل الطالبين طلبوا مني شيئا إلا أبا يزيد فإنه طلبني، ويكون مثل هذا الخطاب من رب الأرباب على سبيل التنبيه للسالك لانبعاث داعية همته العالية في طلبه لطفا به منه، تأدبا إياه وتعليما له، اللهم أرفع همتنا وأدبنا بأحسن تأديب بحق محمد صلى الله عليه وسلم.
[95 - سورة التين]
[95.1-8]
يا ساكن البلد الأمين، وآكل ثمرة اليقين من شجرة التين، اعلم أن الله أقسم بالتين وهو الثمرة اليقينية الذاتية الوجودية اللاهوتية، وبالزيتون وهو الثمرة العينية الصفاتية الجبروتية، وبطور سينين بفله الملكوتي الذي هو جبل مضى صفاؤه وسناؤه من سناء سبحات الجلال عليه بترتيب أمر النطق؛ وهو جبل ختم الله طينه بيدي لطفه وقهره في أربعين درجة، لاهوتية وجبروتية وملكوتية وناسوتية عشرا عشرا في صباح حاجز بين ظلمة العالم الجسماني وضياء العالم الروحاني، وبه يتم تدبير الأمر وهو المقصود من تجلي الذات وإبراز الصفات وإصدار الأفعال وإظهار الآثار؛ لأن الله تعالى أدرج
كن
[آل عمران: 47] كون ذلك الجبل جوهر اللطيفة العارفة المعرفة الشاهدة المشهودة للمرآتية، وهو القلب.
{ البلد الأمين } [التين: 3]؛ أي: المأمون من دخول الشيطان فيه، بيت الله الحرام الذي قال في كتابه:
ومن دخله كان آمنا
[آل عمران: 97] من عذاب الفرقة، والدخول في هذا البيت الحرام على النفس الملوثة بمحبة الدنيا الملطخة بمشتهياتها واتباعها على وفق الهوى المكدرة باشتغال بما سوى الحق تعالى، والحق يقسم بذاته وصفاته وأفعاله وآثاره في كلامه بقوله تعالى: { والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [التين: 1-4]؛ يعني: جمعنا فيه الحقائق اللاهوتية، والدقائق الجبروتية، والرقائق الملكوتية، والشقائق الناسوتية.
{ ثم رددناه أسفل سافلين } [التين: 5]؛ يعني: رددناه إلى أسفل سافلين الطبيعة للابتداء، { إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فلهم أجر غير ممنون } [التين: 6] لأجل هذا الترديد؛ لأنهم صدقوا اللطيفة الخفية، وآمنوا بالحق واستعملوا قواهم في الأعمال الصالحات، فلهم أجر على هذه الأعمال التي عملوا لله { غير ممنون } [التين: 6]؛ أي: غير مقطوع أبد الآباد، وكان ردنا إياهم وقت التدبير إلى { أسفل سافلين } [التين: 5] الطبيعة ليكتسبوا القوى الصالحة، وتعرج إلى ربها مع حصول المعارف على سبيل التفضيل، ويجتازوا عن درجة الروحانيين، ويكونوا مرآة لوجه الله تعالى الملك الكريم من كمال عنايتنا بهم واصطفائنا بالمرآتية من بين المخلوقات.
{ فما يكذبك بعد بالدين } [التين: 7]؛ يعني: فما يكذبك الشيطان بعد هذا التقدير، وكشف سر التدبير وحكمة العروج إلى الرب القدير { بالدين } [التين: 7] الذي هو فطرتك الخفية، أتظن أن الله خلقكم عبثا؟! أتحسب أن الله تعالى جمع فيك المفردات وركبك من لطائف المفردات العلوية والسفلية بالهزل؟! وإنك لا ترجع إليه { أليس الله بأحكم الحاكمين } [التين: 8]؟!
يعني أن الحكم الحقيقي للحاكم القادر لا يفعل فعلا عبثا، ولا يخلق شيئا باطلا فخلقه لك { في أحسن تقويم } [التين: 4]، ثم رده إياك إلى { أسفل سافلين } [التين: 5] [لم] يكن من غير حكمة، ولا يكون بعد هذا الرد رجوعك إليه، ولا ينفي منك لطيفة باقية تتنعم وتتألم بعد خراب البدن، فكل نفس تكون مطمئنة تؤمن وتقول: بلى وأنا من الشاهدين على أنك أحكم الحاكمين، ولا يمكن أن يصدر منك فعل غير حق وعمل غير متقن، خلقتنا لمظهرية صفات لطفك وقهرك، وأودعت فينا لطيفة مستحقة؛ لتكون مرآة لذاتك، فطوبى لمن آمن بحقيتك وعمل عملا صالحا على مرآة وجوده بتصقيلها وإقامتها محاذاة الوجه بعد إخراج الحديد من الجبل، وبناء البلد الأمين الذي فيه مسكن المعملة، وغرس الأشجار المثمرة؛ ليضيء بضياء نور مروج في دهن الزيت { البلد الأمين } [التين: 3]، فيطلع في بستانه على ثمرة المعرفة الذاتية ويجتنيها ويأكلها ويصل إلى لطيفة ذوقها، اللهم أذقنا معرفتك الذاتية بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[96 - سورة العلق]
[96.1-10]
أيتها اللطيفة الخفية، { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [العلق: 1] مفردات لطائفك أولا، { خلق الإنسان من علق } [العلق: 2]؛ أي: خلق ثانيا حقيقة إنسانيتك عند خلق المفردات بعضها ببعض ليصل إليها ضوء نور اسم ربك؛ لكي تشرق به أرض قالبك.
{ اقرأ } [العلق: 3] بالقوة التي أودعناها في اسمك الأحمدي الذي هو مظهر اسمنا الأحدي، { وربك الأكرم * الذى علم بالقلم } [العلق: 3-4].
وهو أول موجود أوجده الله في مرتبة الفاعلية، وهذه إشارة ترد على اللطيفة المتخلقة من ظلمات القالب، ويظهر على السالك بعد هذا الأمر العلم اللدني، فإذا أدى حق هذه المقام في السجود يعطى له العلم المجهول في مقام الاقتراب، وهو مقام يرفع الحجاب فيه بين الأرباب الباطلة المتفرقة ورب الأرباب، يسجدوا له ويؤمنوا به ويقولوا: نحن التراب وأنت رب الأرباب، وفي هذا البيان سر عزيز يتعلق بحد القرآن الذي لا يمكن لقلم البيان التجاوز عنه؛ لأنه مأمور بأن يمد عين البيان في ميدانه.
{ علم الإنسان ما لم يعلم } [العلق: 5] من تفاصيل علم الأسماء، ومحاضر الصفاء، ومصادر الأفعال، ومظاهر الآثار.
{ كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى } [العلق: 6-7]؛ يعني: حقا إن الإنسان إذا أراه مستغنيا بالقوى والآلات والأدوات التي أعطيناها ليكتسب بها علم التفاصيل، { ليطغى } [العلق: 6] ويعصي ربه بتلك الآلات والأدوات واستعمالها بغير حقها؛ ليكتسب اللذائذ العاجلة الشهوانية ويتمتع بها، ونسيانه بأن رجوعه إلى ربه كما يقول: { إن إلى ربك الرجعى } [العلق: 8]؛ يعني: مرجع كل اللطائف إلى رب الحق، فكل لطيفة أثقلت بالباطل ظهرها فهي معذبة وقت الرجوع.
{ اقرأ باسم ربك } [العلق: 1] لكي يخفف نور اسم ربك ظهرك على ظلمة الباطل، كما أشرنا إليها من قبل.
{ أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى } [العلق: 9-10]؛ يعني: أرأيت القوى القالبية والنفسية إن تنهى لطيفتها التي توجهت إلى لطيفتها الخفية.
[96.11-19]
{ أرأيت إن كان على الهدى } [العلق: 11]؛ يعني: اللطيفة التي كانت على الهدى بتوجهها إلى اللطيفة الخفية، { أو أمر بالتقوى } [العلق: 12] إن أمرت قواها بأن يتقوا الهوى ويتركوا الاشتغال بالباطل فما تنفع التقوى بعد نزع الآلات والأدوات عنها اطلاعها على أمر اللطيفة وضياع الآلة؛ لإبقاء الحسرة في نفسها وشدة آلام الحسرة على فواتها.
{ أرأيت إن كذب وتولى } [العلق: 13]؛ أي: قوة جهل إلى جهله كذبت بالحق وتولت عن الإيمان، { ألم يعلم } [العلق: 14]؛ أي: القوى الجهلية { بأن الله يرى } [العلق: 14] ما في ضميرها، { كلا لئن لم ينته } [العلق: 15] عن تكذيب اللطيفة الخفية فيما وعدت وأوعدت، ويشتغل بالحظ العاجل ويستعمل الحق في الباطل { لنسفعا بالناصية } [العلق: 15]، إذا لنأخذن بناصية إدبارها واستكبارها ونجرها إلى النار الموقدة في صدرها من نيران الحقد والحسد.
{ ناصية كاذبة } [العلق: 16] قوة مكذبة اللطيفة الخفية { خاطئة } [العلق: 16] طريق رشدها بمخالفة أمر اللطيفة الخفية، { فليدع ناديه } [العلق: 17] إلى قواها القالبية والنفسية، التي هي عشيرتها ولينتصر بها عن هذه النيران المشتعلة في وجودها المقتحمة فيها، { سندع الزبانية } [العلق: 18]؛ وهي حقائق القوى القهرية التي أودعت في النفس الأمارة؛ لتحزن القوى الجاهلة الظالمة الخاطئة الكاذبة المكذبة بنواصيها وتلقيها في دركات قالبها.
{ كلا } [العلق: 19]؛ يعني: ليس الأمر كما زعمت القوى الجاهلة، فيا أيها اللطيفة { لا تطعه } [العلق: 19]؛ أي: لا تطع القوى الجاهلة، وصل لربك متوجها كعبة قلبك، { واسجد } [العلق: 19] على تراب قالبك، { واقترب } [العلق: 19] باللطيفة الربوبية المستكنة في تراب قالبك؛ ليعطيك ربك الرفعة والعزة والكرامة بإيصالك اللطيفة الخفية التي هي محمد وجودك للجذب إليها جميع اللطائف في مقام العروج، وترجع إلى ربك
راضية مرضية
[الفجر: 28] إن شاء الله تعالى.
اللهم اجعلنا راضين مرضيين بحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[97 - سورة القدر]
[97.1-5]
يا طالب ليلة القدر وشرح الصدر، اعلم أن الله تعالى يقول: { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [القدر: 1]؛ أي: النور الذي يحصل به انشراح الصدر؛ وهو الجمال المخصوص بسيد أهل الكمال المودع في ظل قالبه، الذي بذلك النور ما كان لقالبه ظل قابلة قالبه، كان ظل النور لا ظل الظلمة بخلاف القوالب؛ لأنها ظلال ظلمانية، فلما طلعت شمس الروح أظهر ظلال الظلمة وهذا سر عزيز يتعلق بحد القرآن، فأنت أيها السالك الطالب اجتهد في طلب ذلك الظل المودع فيه ذلك النور في اللطيفة القالبية المستخلصة عن الأباطيل ، المتسكن فيها نور لطيفتك الخفية ليصل في ظلمة ليل قالبك إلى ظل اللطيفة المستودع فيها نور القدر، ونشاهد ذلك النور في لطيفتك المستحقة ليكون قالبا للطيفتك الخفية، وتصير صاحب القدر منشرح الصدر.
{ ومآ أدراك ما ليلة القدر } [القدر: 2] التي هي ظلمات القالب مسكنة، { خير من ألف شهر } [القدر: 3] روحاني؛ لئلا يغتر بالأنوار الروحانية ويجهل أن يصل إلى ظلمات وصل إليها خضر لطيفتك الحيوانية، وشرب من ينبوعها ماء الحياة السرمدية، وما التفت إلى الجواهر النفيسة التي منعت ذي القرنين عن شراب ماء الحياة من منبعها.
وذو القرنين خاصيتا نفسك اللوامة؛ وهي العقل العملي والهوى العملي، وينبغي أن تخاف من هيبة سواد تلك الظلمة، وتلتجئ بالذكر القلبي وتلوذ بأذيال متابعة النبي، وتلتجئ إلى همة الشيخ الهادي المهدي؛ لتصل إلى الينبوع الذي ينبع منه ماء الحياة وتشرب منه بكأس الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتشاهد تنزل الملائكة قوى روحانيتك وروح قوتك الخفية القدسية، كما يقول تعالى: { تنزل الملائكة والروح فيها } [القدر: 4]؛ أي: في تلك الليلة شديدة السواد المهيبة، التي فيها المستكن نور القدر الخفي عن أعين لطائفك المتلهبة بالأباطيل الجبلية على بصائر لطائفك المستخلصة عن الأباطيل.
{ بإذن ربهم من كل أمر } [القدر: 4]؛ يعني: هذه القوى التي كانت وسائط من الأمر والمأمور، كما شرحناها في " بدائع الصنائع " ، لا ينزلون إلا بإذن الرب على القلب الصافي عن كدورات الأضاليل، للسليم عن آفات الأباطيل، بخلاف الملائكة التي هي الحفظة؛ لأنهم ينزلون على الصافي والصالح، والباطل والفاسق، والضال والكتبة، ويتعلق بها الموت والحياة والرزق وغيره يسلمون على القلب السليم، السلام من الرب الكريم، الرب البر الرحيم؛ لأن تلك الليلة كلها سلام وخير حتى يطلع فجر النفس، كما يقول: { سلام هي حتى مطلع الفجر } [القدر: 5].
اللهم ارفع قدرنا وذكرنا واشرح قلبنا وصدرنا بحق حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم.
[98 - سورة البينة]
[98.1-4]
أيها التالي سطور كلام الكتاب العالي، وظلمة الليالي لدرك المكارم والمعالي، اعلم أن القوى الكافرة القالبية والمشركة النفسية غير منفكين عن كفرهم وشركهم، حتى جاءتهم بينة الوارد الغيبي هو رسول من الله مالك الملك، ليقول في كتابه الحميد وكلامه المجيد: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة } [البينة: 1-2]؛ وهي صحف السر والقلب المطهر من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.
{ فيها كتب قيمة } [البينة: 3]؛ يعني: في صحف السر والقلب كتب قيمة غير معوجة لاستقامة السلام عند إقامة المرآة محازاة الوجه، ولو لم يكن السالك مستقيما تكون الكتب معوجة على صحف قلبه، والسرة وإن كانت مطهرة وهذه حالة شهودية لا يطلع على حقيقة هذا البيان إلا أهل المشاهدة.
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة } [البينة: 4]؛ لأنهم كانوا ثابتين على عاداتهم في عبادتهم بحيث صارت العبادة عادة لهم، فإذا جاءتهم البينة الواردة وأمرتهم بترك العبادات العادية، وبالإخلاص في التوجه، وبالصلاة في العبادة وبالزكاة في الطهارة، وتفرقت القوى الكافرة { والمشركين منفكين } [البينة: 1] عن الحق مجتمعين في حظوظهم.
[98.5-6]
{ ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } [البينة: 5]؛ يعني: ما أمرهم الوارد إلا بأن يعبدوا الله مخلصين في مقام التوجه، { حنفآء } [البينة: 5] عند إقامة المرآة في محازاة الوجه، بأن يقيموا الصلاة في مقام العبادة؛ لأن هذه الصلاة مجموعة العبادات فيها القيام والقعود، والركوع والسجود، والتسبيح والتهليل، والتكبير والتحميد، والقراءة والدعاء، والخشوع والتذلل والافتقار، وبأن يؤتوا الزكاة في مقام الطهارة؛ وهي تزكية النفس عن أوساخ الأوصاف الذميمة، وتصقيل القلب عن كدورات الأخلاق الرذيلة، وتطهير السر عن غبار عالم الحدث، وتلك الملة الخفية القيمة.
{ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } [البينة: 6]؛ يعني: القوى القالبية والنفسية، والمؤمنة باللطيفة المستخلصة عن الكدورات المرسلة إليها من حيث التقليد عادة لا عبادة، والكافرة اللطيفة الخفية { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية } [البينة: 6]؛ لأنهم أشعلوا نيران الحقد والحسد والكبر في جهنم قالبهم بإنكار الوارد الذي يرد على اللطيفة الخفية، وكفرهم بنعمة إرسال اللطيفة الخفية إليهم، وشركهم في عبادة ربهم بأمر أهوائهم.
[98.7-8]
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [البينة: 7]؛ يعني: أن القوى التي آمنت باللطيفة الخفية، وعملت الصالحات من الإخلاص في الطاعات وترك العادات في العبادات، ومخالفة الآباء والأمهات بأمر خالق الأرض والسماوات؛ لأنهم اتبعوا خير اللطائف وصاروا
خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران: 110] يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، { جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا } [البينة: 8]؛ يعني: يجزيهم الله في دار الجزاء بما كسبوا طارت معدنهم في دار الكسب { جنات عدن } [البينة: 8] في قلوبهم، { تجرى } [البينة: 8] من تلك الجنة أنهار المعرفة الخالدة أبد الآباد، آمنة عن الانقطاع والنفاد، { رضى الله عنهم } [البينة: 8] لتركهم تقليد آبائهم ودخولهم في
دين القيمة
[البينة: 5]، وانقيادهم أمر اللطيفة الخفية المعلمة لهم أمر التقويم والتصقيل والتوجه في صورة الصلاة والزكاة ومعنى الإخلاص، { ورضوا عنه } [البينة: 8] بما يحكم عليهم؛ لإيقانهم بأنه رءوف رحيم حكيم عليم، { ذلك لمن خشي ربه } [البينة: 8]؛ يعني: رضاك عن الله من ثمرة الخشية من الله، فإذا خشيت من ربك وتركت ما يسخط به عليك ربك رضي الله عنك، وإذا رضي عنك ربك يجعلك من أهل الرضا وباب الله الأعظم، فإذا وقفت بالباب بالحرمة وراعيت شرائط حسب الأدب، ورضيت في جميع الحالات من رب الأرباب، وقطعت النظر عن الأسباب يدخلك في دار الصفاء، ويجلسك على سرير أصحاب الصمت، ويسقيك من شراب المعرفة الذاتية، ويسكرك عن رؤية وجودك حتى لا تسمع إلا من الله، ولا تكون إلا بالله، ولا تعمل إلا لله، ولا تسافر إلا في الله، ولا تنظر إلا إلى الله، ولا [ترى] إلا لله، فحينئذ يكون سكران كل اللسان.
فأما شراب المعرفة الصفاتية فيثمر طول طور اللسان، ويجعل الرجل صاحب البيان منبسط الجنان في الجنان، وهذه مراتب تحصل للسالك في مقام الخشية؛ ولأجل هذا جاء في القرآن:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28]، وقال الله تعالى:
أوتوا الكتاب
[البقرة: 145] درجات، وقال الله تعالى أيضا:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات
[الزخرف: 32]، وقال سيد السادات عليه أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحيات:
" أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله "
، وكل من كان خشي من الله كان أعلم بالله، وكل من كان أعلم بالله كان أرفع درجة عند الله، وكل من كان أقرب إلى الله كان أكثر خشية إلى الله كما قيل بالفارسية: بيت تزديكا نرابيش بور حيراني كيشان دانندسيات سلطاني.
اللهم اجعلني من أهل الرضاء، وأدخلني في زمرة أهل الصفاء.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-8]
يا فزعا من زلزلة القيامة وأحوالها { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [الزلزلة: 1] فما ينفعك الفزع في الساعة من أهوالها، واعلم أن الله ذكر القيامة، والطامة، والصاخة، والحاقة، والغاشية، والساعة، والواقعة؛ ليعلمه أن القيامات كثيرة، ولكل قيامة اسم خاص لها، والخلاص من كل قيامة بنوع طاعة مميزة من غيرها، فالواجب عليك عرفان القيامات، ثم عرفان الطاعات المخصوصة بكل قيامة من القيامات، ليمكن لك الاشتغال بها والاستخلاص منها.
واعلم أولا أن القيامة التي يذكرها الله تعالى في هذه السورة؛ هي القيامة القالبية، والطاعة التي تنفع لهذه القيامة الطاعات القالبية المفروضة عليك، كالإقرار باللسان في كلمتي الشهادة، والأذكار اللسانية، والقيام والقعود، والركوع والسجود، والقراءة في الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والصوم، والجهاد، والحدود، والكفارات طاعة تتعلق بالشهادة الآفاقية، فإذا أديت حق الطاعات القالبية تخلصت من أهوال القيامة القالبية إن شاء الله تعالى.
واعلم أن أرض قالبك تزلزلت عند نزول سلطان الذكر اللساني عليها وأخرجت ما فيها من الخاصيات، كما يقول: { وأخرجت الأرض أثقالها } [الزلزلة: 2] فالواجب على الخير اليقظان ألا يلتفت إليها ولو التفت من دناءة همته إلى تلك الخواص، ويقول: { ما لها } [الزلزلة: 3]، كما قال تعالى في كتابه الكريم: { وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها } [الزلزلة: 3-4] تلك الخواص، { أخبارها } [الزلزلة: 4]؛ أي: ما فيها من الخواص التي يمكن أنها الكتاب الخير والشر وما يحدث تلك الخاصيات بأنفسهن، بل يحدث بوحي الرب، كما قال تعالى: { بأن ربك أوحى لها * يومئذ يصدر الناس أشتاتا } [الزلزلة: 5-6]؛ لأنهم التفتوا إليها وتفتشوا عن حالها، وأوحى الله إليها وأنطقها كما أنطق كل شيء ليحدثن بأخبارها، فتشتت وتفرق الناس في مشاهدة خواصها وأعمالهم الصادرة عنهم من الخير والشر، أنها من أي خاصية صدرت؟! { ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } [الزلزلة: 6-7]؛ أي: يره مصدره، من أي خاصة كان؟
{ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة: 8]؛ أي: مصدره، ففي هذه المقام مناقشة عظيمة في الحساب، وهذا القيامة التي ألجمت الناس يعرف الحسرة والندامة والحياء، وليس من المقامات قيامة أشد من هذا، والواجب عليك أن تموت اليوم الموت الاختياري لتشاهد قيامتك التي نبه النبي إليها حيث قال صلى الله عليه وسلم:
" من مات فقد قامت قيامته "
، لتحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وتتخلص من أحوالها اليوم لتكون من الفائزين غدا - إن شاء الله تعالى - وأشرح بتوفيق الله تعالى أن أمهلني الله القيامات للآخرة في موقعها بإذن الله تعالى.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-5]
اعلم يا طالب الهمة العالية أن الله تعالى أقسم بالهمم العالية في كتابه القدير، حيث قال: { والعاديات ضبحا } [العاديات: 1]؛ أي: وحق الهمم العالية التي تعدو في سبيل إلى حد يخرج من جوف اشتياقها صوت الدعاء من شدة العدو أو غاية الاشتياق، بحيث تسمع الملائكة السماوية صيح تضرعها في دعائها والتماسها من مالكها؛ ليسهل عليها سلوك الطريق الوعر الذي يتعلق بحبال القالب.
{ فالموريات قدحا } [العاديات: 2]؛ أي: الموريات من حجر الجبال بنور شوقي نار الهداية المستكنة في حجر القالب وقت لتخمير اللطيفة؛ وهي حوافز تلك الهمم وحوافز الذكر، { فالمغيرات صبحا } [العاديات: 3]؛ يعني: إذا وصلت الهمة بعد سلوكها في جبال القالب الراسية في ظلام الليل القالبي، وعبورها عنها على أفق عالم النفس، وتنفس صبح النفس أغار أصحاب الهمم العالية على الخواطر النفسية واستوائها.
{ فأثرن به نقعا } [العاديات: 4]؛ يعني: هيجن غبار خواطر النفس محملة الذكر في الكرة الأولى؛ لئلا يختفي خاطر من خواطرها.
{ فوسطن به جمعا } [العاديات: 5]؛ يعني: وسط الهمم العالية وجنود القوى القلبية، وحزب الخواطر الذكرية التي هي حزب الرحمن في وسط عالم النفس، مجتمعين منصورين ذاكرين، [رمح] الذكر فوق سطح النفس، ناجين أعلام الهداية في سوق الهوى، ضاربين طبل النصرة على أبواب حضرة الإمارة، آسرين قوى النفس الأمارة صاحبها بمخالفة المولى، الصافة مواجهة صف القوى القلبية باستظهار جند الهوى.
[100.6-9]
{ إن الإنسان لربه لكنود } [العاديات: 6]؛ يعني: إن الإنسان لا يرضى بهذا الفتح لأنه كنود، ويدخل مني الإذن بدخوله في عالم القلب، فالواجب على صاحب الهمم العلية أن يشكر الله على نعمة الفتح والنصرة في هذا المقام، ثم يسأل منه التوفيق للدخول في عالم القلم وكنوده من علق همته، وعجلته من غاية اشتياقه، وبهاتين الخصلتين اللتين إن ظهرتا تتبدلا بالهمة، والسرعة المحمودة التي أشار إليها الله تعالى حيث قال في كتابه:
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
[آل عمران: 133]، صار الإنسان أشرف الموجودات، وإن لم يكن هاتان الخصلتان موجودتان في ابن آدم، ويمكن له التجاوز عن مقامه، مثل الملائكة الذين يقولون:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات: 164]، وظلمه وجهله وكفرانه أيضا من الواجبات العالية الهمة في سلوك الطريقة.
كما أن الكنود والعجلة من الموجبات أيضا إذا ظهر صار صفتين حميدتين معينتين لصاحبهما على قطع الطريق والغلبة على العدو، وبعلو الهمة التي هي نتيجة الكنود المطهر من تلويثات الهوى النفسية، وبسرعة السير لغلبة الاشتياق التي هي من خصائص صفة العجلة المزكاة من كدورات القوى القالبية، بحيث يسير في عمره القصير سيرا باستعداد العجلة، ويصل إلى مطلوبه في سيره، وينتهي سيره في مدة يسيرة إلى ما لا يمكن الوصول لمنتهاه إلا بخمسين ألف سنة لغيره، فذلك الجهل؛ لأنه من جهله تثقل الأمانة قلبه وحملها حيث أبت الكائنات حملها وقبولها، كما يقول تعالى:
وحملها الإنسان إنه كان ظلوما
[الأحزاب: 72] على نفسه،
جهولا
[الأحزاب: 72] بحقيقة ثقل الأمانة.
ولولا صفة ظلوميته لما حارب بنفسه وما قاتلها، ولما اجتهد في قلع أشجار خواطرها، وما شد عليها مشربها من ينبوع الهوى، ولولا صفة كفرانه لما التفت إلى تربيته طبيعتها له ورحم عليها، وما حملها على ترك مألوفاتها، وقطع النظر عن مشتهياتها، وما أمرها بالمجاهدة في خلع عاداتها ورفض محبوبتها طباعها، ونفض الأيدي من الدنيا ومتاعها، فكفرانه بنعمة تربيته اللطيفة، وبالنفس التي رباني في حجرها من زمان تعلق الروح بالعلة إلى أن بلغ مبلغ الرجال، وعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وطفق ينفي الباطل ويثبت الحق، وسلك الطريق وعرف المظلوم من المحمود على سبيل التحقيق، سير له قهر النفس وهواها وأضعف الطبيعة وأقواها؛ لأنها أرضعته من الصغر إلى الكبر.
{ وإنه على ذلك لشهيد } [العاديات: 7]؛ يعني: أن الحق شهيد بما أودعه من الصفات الجديدة في أجبال قالبه ومعدن نفسه ليكون له استعداد المحاربة وقت الجهاد، ثم يحصل له من هذه الجديدة المرآة التي هي المقصودة من إيجاد المكونات.
{ وإنه لحب الخير لشديد } [العاديات: 8]؛ يعني: أن الإنسان لحب المعارف لشديد؛ ولأجل هذه يبخل السالك بمعارفه ولو لم تكن صفة البخل فيه يكون إفشاء لأسرار الطريقة في بداية وصوله إلى المعارف القلبية؛ لقلة عمله فإن إفشاء سر الطريقة لا يجوز، وإظهار علاماتها لغير أهلها منهى عنه، وينبغي للسالك في مقام كشف المعارف القلبية ألا يلتفت إليها ويجتهد في السلوك، ويبالغ في نفي المعارف؛ لئلا ينقطع بالمعارف عن المعروف.
{ أفلا يعلم } [العاديات: 9] السالك { إذا بعثر ما في القبور } [العاديات: 9]؛ أي: بعثر ما في قبور القلب، وأبين وأخرج ما في معدته مستكن مستودع.
[100.10-11]
{ وحصل ما في الصدور } [العاديات: 10]؛ أي حصل له في عالم الأنفس قوة التميز، وميز بين معارف خواطر الشر وخواطر الخير، وحصل له قوة النفي والإثبات بعد قوة التميز؛ لينفي خواطر الشر ويثبت خواطر الخير في عالم القلب.
{ إن ربهم بهم يومئذ لخبير } [العاديات: 11]؛ يعني: إن الله لخبير من يحفظون من الخواطر الردية والحميدة، وهذه إشارة ليتفطن السالك؛ لأن ترك الالتفات إلى المعارف التي حصلت له في عالم النفس بعد خروجه عن قبر القالب ودخوله في روضة القلب واجب، ونفي الخواطر بأسرها خيرها وشرها لازم ليجعل الوجه ساذجا عن النقوش الشهادية؛ ليكون صالحا لحول المعاني الغيبية المعارف القلبية فيها، واليوم أيضا لخبير بجميع أحوالنا ولكنه قيد ب { يومئذ } [العاديات: 11]؛ لأن ذلك اليوم بسبب رفع الحجاب وكشف الغطاء نصير عالمين بخبرته، فاجتهد أيها السالك حتى تعرف خبيرته اليوم لتتمتع بهذه المعرفة، وأن ينزع عنك الآلات والأدوات وتعرف خبيرته بعد كشف الغطاء، لا يزد لك من معرفتك إلا حسرتك الأثرة.
فارفع همتك أيها السالك لتعرف الحجاب اليوم الذي أنت مختار، وتعرف [خبرة] مالك الممالك لتصير همتك مخلدة للقسم، والله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفاسفها.
اللهم ارزقنا بهمة عالية ونفس راضية مرضية، وصل على محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه خير البرية.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-5]
يا قارع رأس نفسك بمقرعة الشقاوة، اعتبر بسورة القارعة حيث يقول الله تعالى: { القارعة } [القارعة: 1] قد جاءت القارعة احذرها، ولا يثقل مقرعتك بالهوى.
{ ما القارعة } [القارعة: 2]، هي القيامة الهوائية التي قامت في قالبك، { ومآ أدراك ما القارعة } [القارعة: 3]؛ لأنك غافل عنها مشتغل بما فيه بثقل المقرعة في القارعة.
{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } [القارعة: 4] المتفرق في النيران المشتعلة بريح هواء النفس، { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } [القارعة: 5]؛ يعني: جبال قالبك تكون في تلك الريح كالعهن المنقوش.
[101.6-11]
{ فأما من ثقلت موازينه } [القارعة: 6] في ذلك الموقف بثقيل الأعمال الصالحة التي صدرت من القوى القالبية { فهو في عيشة راضية } [القارعة: 7] بها من التنعم بما تشتهي نفسه، { وأما من خفت موازينه } [القارعة: 8] عن الأعمال الصالحة { فأمه هاوية } [القارعة: 9]؛ يعني هو ولد الهاوية؛ لصدور الأعمال المتولدة من الهوى المدخرة لهذه البلوى، والهاوية ربها في حجر القلب { ومآ أدراك ما هيه } [القارعة: 10] أيها المسكين، أما تفطن إشارة الحق بقوله تعالى: { فأمه هاوية } [القارعة: 9] لكي تشتغل بدفع هذه الأم، وتتبع الأب الذي هو يهديك إلى النعيم الأبدي؛ وهو القوة الروحانية النورانية، وأمك هي القوى القالبية الظلمانية، تدسك في شراب الطبيعة وتأمرك بتربية القالب الذي هو في الحقيقة أنتن من الجيفة، والله تعالى أعطاك قشر القالب يسلم لبك فيه، ويأمن من كدورات عالم الحدث، اللب قشر القشر ليكون حجابا بينك وبين الغيب، ليتمتع باللذات الخسيسة الشهادية، ولا ينقص عليك ذكر الغيب عيش عاجلك حتى تقرع القارعة بمقرعتها قشرك، فيرى لبك الباطل المبطل حقوقه باستيفاء القشر عنه حظا ظلمانيا صرفا، فتتحسر على تضييع لبك الحقيقي الباقي معك غير الويل الدائم على نفسك.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-8]
يا أيها المتكاثر المتفاخر بكثرة القبائل والعشائر، اللاهي بالأموات في المقابر عن الحي الذي يطلع على الصغائر والكبائر، اعلم أن قالبك قبرك المدفون والقوى التي تتشعب من قالبك هي قبائلك وعشائرك القريبة إلى نفسك الأمارة، ونفسك أبدا تتفاخر بتلك القوى، وبها تستمد وتبارز القوى القلبية والروحية، وتشتهي أن تغلب عليها وتباشرها وتستخدمها القوى القالبية، وتسترد فيها القوى النفسية، فإذا انتشرت من غير قالبك وحشرت في الموقف العظيم وشاهدت القوى القلبية والروحية؛ أي: لما يخاصمونك، والحق يأخذ بظلمك الذي ظلمت عليه، ولا مفر ولا مهرب [من] عذبة لا يعذب بها أحد إلا الذي كان عمله مثل عملك؛ ولأجل هذا قال في كتابه تعالى: { ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون } [التكاثر: 1-3] بعد النشر.
{ ثم كلا سوف تعلمون } [التكاثر: 4] ما في الموقف { كلا لو تعلمون علم اليقين } [التكاثر: 5] اليوم ما ادخرتم لأنفسكم من العذاب المهين، { لترون الجحيم } [التكاثر: 6] التي استقررتموها بظلمكم على القوى القلبية والروحية.
{ ثم لترونها عين اليقين } [التكاثر: 7] ما كوشفتم من قبل بعلم اليقين، { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } [التكاثر: 8] القالبي العاجلي الفاني، الذي ألهاكم عن النعيم الآجل الباقي للسالك إذا اشتغل بالسلوك يكشف عليه أحوال الموت والقبر، والنشر والحشر، والموقف والحساب، والصراط والجنة والجحيم بطريق المكاشفة، بحيث يراها علم اليقين، ثم إذا أشرقت أرضها باطنه بتولد ربه، يشاهد بعين اليقين جميع ما يكاشف به بطريق اليقين.
وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا "
، ومن به يطلع اليوم على أحواله يعسر عليه الأمر غدا جدا، ولا تنفعه الحسرة حقا، ولا يزيد إلا عذابا صعدا.
فاجتهدوا أيها الساعين في كشف غطائكم بذكر ربكم،
ولا يغرنكم بالله الغرور
[فاطر: 5]، أما تسمعون ما يقول ربكم تعالى:
ما غرك بربك الكريم
[الانفطار: 6].
واعلم أن في قالبك أربع قيامات: ترابية ومائية وهوائية ونارية، فاجتهد اليوم في الذكر فربما تشاهد هذه القيامات قبل أن تقوم القيامة الوسطى والكبرى، وتقف في هذه المواقف في القيامة الصغرى وتحاسب نفسك فيها وتتخلص فيها؛ لئلا تعد في القيامة الوسطى ولا الكبرى بعد نزع الآلات والأدوات والاستعدادات والأقاويل عليك، [و] الملاهي بالباطل عن الحق الغافل عن الموت، الشاغل قواك باللهو والهزل، المشتغل بالأموات المشتغل في صدرك سمات حسرة الفوت.
اللهم نبهنا من نومة الغافلين، واجعلنا من المستيقظين.
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
يا طالب الأوقات المشرقة والساعات المثمرة، إن أشرف ساعة من الساعات هي ساعة فرضت فيها طاعة من الطاعات، وأشرف تلك الساعات الساعة التي صدرت محلا لقسم الله تعالى؛ وهي العصر كما يقول الله تعالى: { والعصر * إن الإنسان لفى خسر } [العصر: 1-2] إن رءوس مال الإنسان عمره، وكل لحظة تمضي عليه [تذهب] برءوس ماله مطلقا.
{ إن الإنسان لفى خسر } [العصر: 2]؛ أي: ربحوا في سوق الدنيا باستعداد عمره وحصلوا نعيم الدار الآخرة الباقية، وفائدة خصوصية ساعة العصر ذكرها في ضيعة من " بدائع الصنائع " و " الشرح والبسط " فاطلبه منها.
وأما الحكمة التي بها قال الله تعالى بعد القسم: { إن الإنسان لفى خسر } [العصر: 2]، اسمع بسمع حديد وقلب شهيد أن الله تعالى خلق الإنسان
في أحسن تقويم
[التين: 4] بإدراجه جميع المفردات العلوية والسفلية فيه، فلذلك جمع الله تعالى لأمة محمد خواص جميع الساعات في الصلاة الوسطى؛ وهي صلاة العصر، إذا أدى الإنسان حق الطاعة في تلك الساعة صيرت الفوائد المدرجة في جميع الساعات لها، وأشار إلى هذا المعنى حبيب الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله فرض على أمة موسى عليه السلام أن يعملوا يوما ليأخذوا أجورهم، فعملوا من الصبح إلى الظهر وملوا وتركوا العمل والأجر، فعين الله تعالى لأمة عيسى عليه السلام من الظهر إلى العصر، وعملوا وتركوا العمل والأجر، ثم فرض الله تعالى على أمتي بقية اليوم أن يعملوا ويأخذوا أجر اليوم كله فقبلوا وعملوا، وأخذوا الأجر الكثير بالعمل القليل ".
فيقول الله تعالى: { إن الإنسان لفى خسر } [العصر: 2]، مل وترك العمل وحرم نفسه على الأجر الكثير الباقي باشتغاله عدد بملازمته في أيام معدودة فانية، وهذا الحديث رويته بالمعنى، لأن لفظه ما كان بخاطري في الحال.
ثم يقول الله تعالى مستثنيا: { إلا الذين آمنوا } [العصر: 3] بالنبي وهو لطيفتك الخفية، وبما أوحى الله إليها على لسان سرها، { وعملوا الصالحات } [العصر: 3]؛ أي: الأعمال التي أمروا بها في الساعة المخصوصة، { وتواصوا بالحق } [العصر: 3] في طلب الحق وترك الباطل، { وتواصوا بالصبر } [العصر: 3] على ترك الهوى ومشتهيات الأنفس في الأزمان الفانية في دار الدنيا ليدخر لها السعادات الباقية في دار البقاء.
فينبغي أن يعرف أن عصر عالم الأنفس في الأيام الروحانية قائم مقام ليلة القدر في الليالي الجسمانية، والعصر يتعلق بضوء نور الجلال الذي أودعه الله في النهار، ولولاه ما اشتغل الناس في النهار بالكسب، والقدر يتعلق بضوء نور الجمال الذي أودعه في الليل، ولولاه ما اشتغل أحد باستراحة في الليل، وفيه حكمة التدبير مما يتعلق بحد القرآن، ولست مأذنونا بإفشائه.
فاجتهد أن تكون من الموجهين إلى قبلة الأحدية في جميع الأوقات في الأيام الروحانية خاصة إذا غربت شمس الروح إلى مغرب الروحانية؛ لأنك لا تدري بعد غروبها أتطلع من مشرقها أو من مغربها؟ فإذا طلعت من مغربها لا ينفعك طاعة إن غفلت عن التوجه في تلك الساعة، فالسالك يفطن للإشارة التي أشرت إليها ولا ينتفع بتقرير هذه القدسيات إلا السالك، وشرحت ساعة القدر في سورة القدر.
اللهم ارفع قدرنا، واشرح صدرنا، وآمن من المحاق بدرنا.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-9]
أيها [الغافل] قول الخليل الذي يأمرك بطاعة ربك وينهاك عن مخالفته، وعن الاشتغال بالشهوات العاجلة الفانية الصارفة لك عن اللذات الآجلة الباقية، أما تسمع ما يقول الله تعالى: { ويل لكل همزة لمزة } [الهمزة: 1]؛ والهمزة هي القوى النفسية الحسودة المرائية التي تعيبك في غيبك، وإذا وجدت خلا مع الشيطان طففت في معائب القوى القلبية، واللمزة هي القوى النفسية الوقيحة التي تعيبك في وجهك وتقابل خاطرك القلبي بالمكابرة والمجادلة، فاجتهد حتى تشاهد الهمزة واللمزة اللتين هما من قوى نفسك لتشتغل بدفعها، وهما جمعتا الاستعدادات القالبية والقوى الطبيعية وظنا أنهما خالدات معها، وما عرفنا أن تلك الاستعدادات في الحقيقة مثل الحطب لهما عند اشتعال نيران حطمة نفسها بنار الله الموقدة في صدرها المطلعة أفئدتها؛ أي: على حقيقتها، كما يقول تعالى: { الذى جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة * ومآ أدراك ما الحطمة } [الهمزة: 2-5]، الحطمة ما جمع الرجل من الحطام وهي مثل الحطب، { نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدة } [الهمزة: 6-8]؛ أي: تلك النار عليهم مطبقة طبقا فوق طبق { في عمد ممددة } [الهمزة: 9]؛ يعني: لإطباقها أوتاد معلقة على صاحبها، ممددة إلى قعر الدركات القالبية.
فأشفق على نفسك أيها السالك وادفع شر الهمزة واللمزة عن نفسك اليوم، وأطفئ { نار الله الموقدة } [الهمزة: 6] بذكر الله تعالى، ولا تحسب أن { نار الله الموقدة } [الهمزة: 6] مختصة بك لا بل عامة، ولكن من يجمع الحطب الرطب الحظوظي يحرق الحطب ويظلم على صاحب البيت بالدخان الحاصل من رطوبة الحظوظ الهووتية، ومن يجمع العود اليابس القماري يحرق العود ويتنور البيت بنار المحبة، ويملأ دماغ السالك من روائح المعرفة، فالجامع أنت ووقت الجمع يومك، فانظر ما تجمع.
اللهم وفقنا لجمع العود، وهو الطاعة والعبادة، فالمدخرة نار المحبة ورائحة المعرفة.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-5]
أيها السائل الميئوس من رحمة الملك الجليل، القانط من نصرة الولي الخليل عند ظهور القوى القالبية والنفسية بمدد سلطان الطبيعية، وضربها خيامهم خارج التفصيل، { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } [الفيل: 1]، فلا يقنط من نصرة الحق إياك، ولا تخف من قتل أصحابك، وكثرة أحزانهم، وقل ما قال الشاعر:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل
والله يقول في كتابه:
وقليل من عبادي الشكور
[سبأ: 13]، وقال: قليل في الأولين وقليل في الآخرين، وانتظر حزب الرحمن من جانب سماء صدرك ونزوله لأجل { كيدهم في تضليل } [الفيل: 2]، كما قال تعالى: { ألم يجعل كيدهم في تضليل } [الفيل: 2] بإرسال حزبه من جانب سماء الصدر، وهم طير أبابيل كما قال تعالى: { وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل } [الفيل: 3-4] بحجارة حاصلة من النفي الذي هو مودع في حرف (لا)؛ لأن الله تعالى يكيدهم بما كادوا، فجعل ما كادوا من خاصة طين قالبهم وحجارة معدن طبيعتهم؛ ليخربوا كعبة القلب، فأمر الله تعالى طير الذكر ليجعل { كيدهم في تضليل } [الفيل: 2] برد كيدهم ونفي مكرهم في صورة السجيل؛ وهو الطير والحجارة.
يقول بعض المفسرين فارسية مستعربة؛ يعني: سنك وكل ليمطر على رءوسهم ويهلكهم بكيدهم، كما قال: { ألم يجعل كيدهم في تضليل } [الفيل: 2]، وفي آية أخرى قال:
إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا
[الطارق: 15-16]، فكيده معهم أن يدفع لهم بكيدهم ويسلط عليهم كيد الذي كادوا؛ ولأجل هذه السالك الخبير إذا شاهد ترادف الخواطر النفسانية والطبيعية وغلبتها يسر في الباطن بعرفانه نصرة الحق إياه، ورد كيد الكفار النفس الأمارة إلى نحورهم، ويزداد شوقه إلى الذكر القوي الخفي، ويبالغ في النفي على سبيل الحضور لرجاء النصرة من الملك الغفور، والطير طير الذكر الصدري ترمي القوى الطبيعة المستمدة من قوى القالب، والنفس عند حلولها حول حرم الصدر عازما على خراب كعبة القلب بسجيل الخواطر الرذيلة الترابية الهووية المنجمة تحت الأثير.
{ فجعلهم كعصف مأكول } [الفيل: 5]، فجعل طير الذكر الصدري مستهبها من قوة ونية جازمة وعزيمة صادقة، تلك القوى { كعصف مأكول } [الفيل: 5]، مثل التين المتفرق الذي تضربه الرياح يمينا وشمالا، ففي هذه الحالة أيها السالك المبتلي لا تيأس
من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
[يوسف: 87]، ولذ بأذيال الذكر القوي الخفي الصدري وبالغ في التقى على شرط التعظيم راجيا نصرة الحق لتدفع أصحاب الفيل، والفيل صورة الطبيعة وأصحابه قواها، ولا يمكن دفع القوى الطبيعية المسلطة على الإنسان إلا بنصرة الله الملك المنان الحنان، وبالذكر الذي هو ضرب الرحمن إياه، وما دام الإنسان حيا فهذه القوى أيضا حية موجودة معه، فلا تعتمد عليها بإذعانها لك وتقبلك لها، فإنها كلما وجدت شربها وأخذت منها حظها صارت حية مثل الأفعى فاحذرها حتى تخرج من عالمها وعالم الدنيا؛ ولهذا السر أمر الله تعالى حبيبه المصطفى في كلامه بقوله تعالى:
حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99] واليقين هاهنا الموت الكبير بالاتفاق.
اللهم خلصنا من الطبيعة، وارزقنا المتابعة للسنة المصطفوية في الشريعة.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
يا متفرق الخاطر من غلبة الخواطر الذميمة الطبيعية المستمدة من القوى القالبية والنفسية، لا تحزن إن الله معك، فكما ينصرك على أصحاب الفيل سيجمع لك خاطرك ويؤلفك بإلفك وهو خاطر قلبك، { لإيلاف قريش } [قريش: 1] وهو خاطر جزم صدر { إيلافهم } [قريش: 2] فهم بعد تفرقهم في براري النفس وبوادي القلب.
{ رحلة الشتآء والصيف } [قريش: 2]، وهي حالة القبض والبسط، { فليعبدوا رب هذا البيت } [قريش: 3]، وهو الحق الذي كان في ذكر الله يسمونه أهل الطريقة سلطان الذكر؛ لأنه يربي القلب في هذا الطور وأطعم القوى القالبية من جوع يحصل لها في الرياضة والمجاهدة بترك مشتهياتها وصرفها عن الاشتغال بملاذها العاجلة وحظوظها الشهوانية طعام الغيب، وآمن القوى النفسانية الجائعة من الأسر والقتل والعزل بملاطفات لاطفها سلطان الذكر، وإبقاء كل قوى من قواها في مملكة الوجود فأعمالها المشتغلة بها بالحق للحق عاريا عن الباطل، خاليا من الحظ العاجل، طالبا حظ الآجل، فالواجب على العامل في هذا المنزل ألا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يستريح إلا لبقاء قوة خفية بها يمكن الاشتغال بطاعة الله تعالى لأجل الثواب المدخر في العقبى.
فأما السادة من أصحاب الهمم العالية تركوا كما تركوا أصحاب اليمين الدنيا لأجل العقبى، أما سمعت ما قال سيد الطريقة: الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل الله، وهذه الإشارة مستنبطة من كلام الله تعالى حيث يقول:
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
[آل عمران: 152]، وفي آية أخرى:
يريدون وجهه
[الكهف: 28]، فقد أثبت للمريدين ثلاث إيرادات: إرادة الدنيا، وإرادة الآخرة، وإرادة الوجه الأعلى، فكن عالي الهمة أيها السالك لتصل إلى مالك المماليك.
اللهم اجعلنا مريدين لوجهك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-7]
أيتها اللطيفة القلبية المصدقة بيوم الجزاء، { أرأيت الذي يكذب بالدين } [الماعون: 1] من قوى نفسك الأمارة بالسوء، { فذلك الذي يدع اليتيم } [الماعون: 2]؛ أي: يدافع خاطر اليتيم، الذي هو من قبيل القلب بأنه في عالم النفس يتيم غريب، { ولا يحض على طعام المسكين } [الماعون: 3]؛ يعني: لا يطعم الخاطر المسكين بشهوة النفس من قبيل السكينة بطعام الذكر.
{ فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } [الماعون: 4-5]؛ يعني: ويل للقوى النفسية المقلدة المؤمنة خوفا من المجاهدة التي [عليها] صاحبها السالك؛ لئلا يقتلها بالمجاهدة ولئلا يأسرها ويغير عليها مالها وأهلها، واستعدادها وهواها يصلوك بالصورة رعيا عن المجاهدة؛ وهم عن حقيقتها ساهون لا يصلون إلا لدفع الضرر عنهم ويجز النفع عن صاحبهم إليهم.
{ الذين هم يرآءون * ويمنعون الماعون } [الماعون: 6-7]؛ يعني: القوى النفسية يراءون القوى القلبية وجميع الطاعات، { ويمنعون الماعون } [الماعون: 7]، الصدق وملح الإخلاص عن القوى المطيعة المرائية، وبعبارة أخرى يمنعون الزكاة؛ يعني: لا يزكون أنفسهم عن الأخلاق الرذيلة مثل: الرياء والسمعة.
فيا أيها السالك اجتهد في صيدان الدنيا تنتصر على نفسك والهوى، ولا تأمن مكرها، ولا تعط حظهما إلا بالحق؛ لأنهما إذا شربهما الحظوظي عصا حفظهم؛ ولذلك جبلهما ابتلاء للعباد الذين هم مظاهر لطفه وقهره، وخلط في أرضه،
لنبلوهم أيهم أحسن عملا
[الكهف: 7].
اللهم اجعلنا مخلصين في طاعتك، مؤدين حق عبادتك بمحمد وآله وصحبه وسلم.
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
يا طالب كوثر المعرفة، اعلم أنك ما دمت في تيه القالب وبيداء النفس مترددا متحيرا لا تصل إلى الكوثر المعرفة؛ لأنه في روضة القلب ورياض الجنة محفور، فإذا طففت في السلوك، وجاوزت تيه القالب، وخرجت من براري النفس ودخلت في [دار] عروس القلب، وشممت نسيم رياض الوادي الأيمن، ووصلت إلى وادي القدس الذي هو منتهى أطوار القلب في علم الخفي يعطيك بالسبعية الكوثر الذي أعطاه للحبيب بالأصالة، كما قال في كتابه العزيز: { إنآ أعطيناك الكوثر } [الكوثر: 1]، ويسقيك من ذلك الحوض طهور شراب المعرفة في كأس المحبة على ساقي اللطف والكرم، كما قال تعالى:
وسقاهم ربهم شرابا طهورا
[الإنسان: 21].
فينبغي أن تصل بجميع قوى لطائفك لهذا المقام، كما قال لحبيبه: { فصل لربك وانحر } [الكوثر: 2]؛ أي: فانحر ذات النفس لقربانك إلى عالم الذات، كما أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم: { وانحر } [الكوثر: 2] ولا تخف مما يلقي إليك الشيطان، ويقول لك: إن كنت تنحر ذات النفس تبقى ابترا، { إن شانئك هو الأبتر } [الكوثر: 3]؛ أي: عدوك أبتر عن الحظوظ، فالمتيقظ هو الذي لا يتكلم في المقام كله من المعارف نظرا إلى أن تبقى منه هذه المعرفة تذكرة؛ لأن الله تعالى يغضب عليه، وأمر بنحر ذات نفسه في هذا المقام لأجل هذا السر، فإن أدى السالك حق هذا المقام بإسبال الأستار على وجه الأسرار، يجري الله سبحانه على قلبه ولسانه أسرار ومعارف من غير شعوره بها على وجه لا ينقض الظاهر، ويبقى اسمه في العالم من أولاد قلبه وأثمار أشجار وجوده الباقي أبد الآباد آمنا عن الفناء والنفاذ.
اللهم أعنا على نحر ذاتنا، ووفقنا لنصلي في كعبة القلب متوجهين إلى قبلة الوجه بجميع قوى لطائفنا كما تحب وترضى
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
يا أيها السالك المبتدئ في مملكة الأعادي بين جنود قوى القالب وأحزاب قوى النفس الأمارة، { قل } [الكافرون: 1] معهم عند هجومهم عليك ليقطعوا عليك { يأيها الكافرون } [الكافر: 1] بنعمة الوجود، والذي أعطاكم الموجد { لا أعبد ما تعبدون } [الكافرون: 2] من أصنام قوى الطبيعة الحيوانية، { ولا أنتم عابدون مآ أعبد } [الكافرون: 3] وأنا أعبد موحدا، { ولا أنآ عابد ما عبدتم } [الكافرون: 4] من آلهة الهوى النفسانية.
{ ولا أنتم عابدون مآ أعبد } [الكافرون: 5] وهو الحق الخالق الرازق، { لكم دينكم } [الكافرون: 6] في عبادتكم العجل الباطل، { ولي دين } [الكافرون: 6] في عبادتي الملك الحق العادل، وهذا مقام المهادنة لضعف حزب الرحمن؛ وهو القوى القلبية، فإذا أبلغ السالك مبلغ الرجال وتم أمر السلوك، وظهر له أصحاب الإلهامات، وطلع رايات السكينة من أعالي مدينة رسول الخاطر الحق يتسنح حكم هذه المهادنة بالأمر الصادق عن الحضرة الألوهية،
واقتلوهم حيث ثقفتموهم
[البقرة: 191]، أما في برادي القالب، أو في صحاري النفس، أو في حرم الصدر، أو في كعبة القلب، والرياء المحمود، هذا الرياء الذي حمله على المهادنة والتقية في هذا المقام جائزة بل واجبة؛ لأنه تعالى يقول:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين
[آل عمران : 28] إلى قوله:
والله رؤوف بالعباد
[آل عمران: 30]؛ لأنه مطلع على ضعفهم عند المقاومة مع الأعادي وقوة إيمانه بالله فيرحمه ويتجاوز عنه، ويرأف به بالنظرة له عليهم عن تكميل قواه على وفق الحكمة والسنة الجارية،
ولن تجد لسنة الله تبديلا
[الفتح: 23]، فالسعيد في هذا المقام هو أن يجتهد في إضعاف قوى العدو بترك ما اشتهت نفسه من الأكل والشرب والنوم وما فيه الاستراحة للبدن، ويبالغ في الطاعات المقوية لجند القلب وحزب الرب بالإخلاص التام الذكر القوي الخفي، بشرط النفي والإثبات من أنفع المعالجات لتقوية مزاج القلب وتضعيف القوى النفسانية، وإخراج الأخلاق الردية الهوائية دماغ العقل.
اللهم أجمعنا صحيحين مستقيمين في طاعتك وعبوديتك، وثبتنا في الجهاد مع أعدائك على وفق متابعة حبيبك صلى الله عليه وسلم، وآله وصحبه أجمعين.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
يا صاحب الفتح، اعلم أن الله تعالى يقول: { إذا جآء نصر الله والفتح } [النصر: 1] في جهادك ومقاتلتك الأعداء النفسانية والشيطانية، والفتح الذي حصل لك في تخليص حصونهم لمشيده.
{ ورأيت الناس } [النصر: 2]؛ أي: القوى النفسانية والشيطانية، { يدخلون في دين الله } [النصر: 2]؛ أي: يدخلون في حكم اللطيفة القلبية، ويدخلون دين الحق، ويكسرون أصنام الخلق ودنان خمر الغفلات، ويخربون بيت الأوثان وحان الشهوات، أو يدبرون عن الباطل ويقبلون على الحق، ويتوجهون إلى كعبة القلب ويستقبلون قبلته { أفواجا } [النصر: 2]؛ أي: فوجا بعد فوج من القوى الطبيعية والحسية والفكرية والعقلية.
{ فسبح بحمد ربك } [النصر: 3]؛ أي: نزه نفسك عن رؤية النصرة والفتح باجتهادك وكفايتك وحلتك ورأيك، وتيقن بأن النصر والفتح كان من توفيق الله تعالى، واحمد ربك على وجدان التوفيق لتنزيه نفسك عن هذه الرؤية وتسبيحك الحق؛ لأنه ما نصرك وما فتح عليك بعلة من العلل الخارجة والداخلة؛ لأنه منزه عن أن يعمل عملا بعلة - تبارك وتعالى - عن مباشرة فعل معلول وعمل مجهول، { واستغفره } [النصر: 3] من خطرات خطرت بقلبك من السرور بالنصر والفرح بالفتح؛ لأنهما من هذا المقام يحجبانك عن النصير الفتاح بالحقيقة.
{ إنه كان توابا } [النصر: 3] يقبل توبة العبد ويوفقه بالتوبة؛ لأنه يحب توبة العبد المذنب كما أنه يحب عبادة العبد الصالح؛ لأن العبد المذنب مظهر لصفة غفاريته، والتائب مظهر لصفة توابيته، كما أن العابد مظهر لصفة معبوديته، على سمة الأسماء تجري أمور الناس، والأسماء مصدر الآثار، كما أن الصفات مصدر الأفعال، فاحفظ هذا السر العزيز.
واعلم أن النصرة إشارة إلى غلبة لطيفتك الخفية على جنود الباطل، والفتح إشارة إلى فتح مكة وجودك حرم صدرك وكعبة قلبك وتطهيرها عن جنود النسناس، وأحزاب الخناس، وأصنام الوسواس.
وفي هذه المقام يدخل السالك في زمرة الإنسان بعد خروجه عن مرتبة الناس، ولا يمكن للسالك الخروج عن المرتبة الناسية والدخول في دار الإنسانية إلا بالانخلاع عن لباس البشرية وخلاصه عن تلبيس الشيطانية، ولا تدرك هذه المعاني بالفكر والقياس والحدس الذكي وحده الحواس.
اللهم انصرنا على الأعادي، وافتح علينا أبواب الأيادي، واحفظنا في البوادي عن الخلق العادي، لنشكرك شكر الصادي عن الماء الزلال البارد في الحر الشديد إذا سقى في الكوز الجديد المملوء من الجليد ليكون بثمر المريد يا رب العالمين.
[111 - سورة المسد]
[111.1-5]
يا أيها الحريص على أطراف كعبة قلبك، اعلم أن أبا لهب نفسك أمر مرآة هواه ليجمع العصاة بين الحطب، ويفرق حول كعبة قلبك المبينة في حرم صدرك ليتخرج في قدم همتك ويمنعك عن الطواف بكعبة قلبك، أما تسمع ما يقول أبو لهب نفسك حين ناداه لطيفتك الخفية ليبلغ إليه ما أوحيه للطيفتك تبارك، تبا لك ألهذا وعدتنا وأبى دعوة الحق؟! فكيف أجاب الله له على لسان لطيفتك؟!
{ تبت يدآ أبي لهب } [المسد: 1]، أو هلكت قوتا القبض والبسط لنفسك الخبيثة المستعملة لهما في الباطل، { وتب } [المسد: 1]؛ أي: أجاب هذا الدعاء؛ لأن يداه لا تصل إلى اللطيفة الخفية، وهي يجمع لنفسه الحطب ليحترق به بتلهب من سوأة نيران حسده وحقده، وكان أبو لهب؛ أي: صاحب لهب في سعير نفسه وجحيم قالبه، ولا شك أن الألقاب تنزل من السماء.
{ مآ أغنى عنه ماله } [المسد: 2] وهو ماله من القوى القالبية، { وما كسب } [المسد: 2] في عالم الناسوت بتلك القوى الذميمة عن اللقب الذي نزل معه من السماء، { سيصلى نارا ذات لهب } [المسد: 3]؛ لأنه جمع الحطب بالقوى القالبية والنفسية، وأشعل نيران الحقد والحسد، وسير نفسه وجحيم قالبه ذات لهب من ريح غروره بنور ناره وعجبه بنفسه، وبكرة على القوى القلبية.
{ وامرأته حمالة الحطب } [المسد: 4]؛ أي: هوى المؤدي الذي به يمكن لأبي لهب النفس أن يحمل الحطب من أشجار أم غيلان هلاكه في صحاري الشيطان، { في جيدها } [المسد: 5]؛ أي: في أصل خاطر الهوى، { حبل من مسد } [المسد: 5] وأصل خاطر الكبر، وأبى الشيطان أمر الرحمن كان من استكباره، كما قال تعالى:
أبى واستكبر وكان من الكفرين
[البقرة: 34]، ودعوى الهوى بالألهية أيضا كان من غاية تكبره؛ أي: في عتق كبره الذي به تطاول على اللطائف حبل من ذلة، وهو تمنيها الكاذب الذي يجرها إلى أسفل سافلين دركات الطبيعة، ولأجل هذا يكون دائما منكس الرأس، كما أخبر الله تعالى عن أحوالهم في كتابه حيث قال:
ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة: 12]، فالواجب على الطائف حول الكعبة ألا يلتفت إلى هو نفسه لحظ نفسه؛ ليمكن له الدخول في بيت ربه ومشاهدة وجهه إن شاء الله تعالى.
اللهم خلصني من هوى نفسي، وأدخلني كعبة قلبي، وأقرر عيني بمشاهدة جمال ربي بحق محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، وعلى من اتبع الهدى وترك الهوى في متابعة المصطفى.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
يا طالب الوحدانية وسرها في عالم الخفى، { قل } [الإخلاص: 1] بلسانك للطيفتك الخفية في عالم الخفى: { هو الله أحد } [الإخلاص: 1] إشارة إلى الله؛ لأن اللطيفة الخفية في عالمها؛ وهي محجوبة عن غيب الغيوب الذي هو عالم الحق؛ لأن الله { أحد } [الإخلاص: 1] في ذاته، { الصمد } [الإخلاص: 2]؛ أي: الصمد في صفاته ليس لذاته مثل ولا لصفاته شبه، ولا له ضد، ولا له ند.
{ لم يلد } [الإخلاص: 3] لأنه صمدي الصفات، { ولم يولد } [الإخلاص: 3]؛ لأنه أحدي الذات، أول كل شيء وآخره، موجد كل شيء ومعدمه، مبقي الحقوق المفردة ومغني الحظوظ المركبة، ومهلك المفردات عند تجلي صفة وتريته.
{ ولم يكن له كفوا أحد } [الإخلاص: 4] في ملكه وملكوته، واللطيفة الأنانية المستحقة المرائية يقول: سبحان الله الواحد الأحد، الفرد الوتر الصمد، الذي { لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [الإخلاص: 3-4] سبحانه ما أعظم شأنه.
وإذا كانت في اللطيفة بقية من القوى الحميدة اللطيفة القالبية أو النفسية يقول: " سبحاني ما أعظم شأني " ، وأنا الحق "؛ فإذا أفاق من غلبة حالتها يقول:
أقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
وهذه منزلة عظيمة مشكلة ينبغي للسالك أن يكون في بدرقة حماية شيخه ووليه وتقليد نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليخلصه من هذه الورطة في عالم [سيره]، ويصله إلى لطيفة الخفية في غيب الغيوب، ويعرض هذا الغلط على لطيفته الخفية عند تجلي اللطيفة الخفية على اللطيفة الأنانية، والنصارى لأجل هذا أثبتوا الأبوة والأمومة والبنونة وقالوا:
ثالث ثلاثة
[المائدة: 73]، وتحزبوا في مذهب الاتحاد أحزابا كثيرة، مثل: اليعاقبة والملكية، والنسطورية، فكلهم قالوا بالاتحاد.
ولكن اليعاقبة يزعمون أن الاتحاد كان بالناسوت واللاهوت من حيث الامتزاج والاختلاف، بحيث صار الله تعالى حصلت عظمته، والبصري المأخوذ من مريم جوهرا واحدا، شخصا واحدا، إلها واحدا، يكفرون الملكية والنسطورية، ويستحلون دمهما.
والملكية يزعمون أن الاتحاد كان بالناسوت لا باللاهوت، اتحاد للجارة بحيث صار الله عز وجل كما يقول الظالمون الكافرون الجاهلون والإنسان المولد من مريم، بل هو جوهرين ناسوتي ولاهوتي شخصا واحدا إلها واحدا، ومن لم يعتقدهم يحكمون بكفره واستباحة دمه.
والنسطورية يزعمون أن الاتحاد كان بالشبه والرضاء بحيث صار الله تعالى عما يصفه المشركون الجاحدون علوا كبيرا، والمولود من مريم يسمونه بلغتهم (عمايزيل) ومعناها بالعربي: لنا جوهران أزلي وزمني، وأقنوماني ناسوتي ولاهوتي ابنا واحدا مسيحيا واحدا إلها حقا من إله حق ابن جوهر أبيه، ومن لم يذهب مذهبهم فلا يدخلون القداس، ويقرون بكفرهم وقتلهم وكلهم صدقوا بتكفيرهم وأمرهم بقتلهم، علا الله تعالى وتقدست صفاته بالأقانيم الثلاثة بالاتفاق بعضهم يفسرون الأقانيم الثلاثة؛ أي: الأشخاص بالأب والابن وروح القدس، وبعضهم يقولون: إن ذات البارئ تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا
[الإسراء: 43] الأب والمسيح الابن، والكلمة هي الجابلة المصورة المفصلة للمعاني المبسوطة، التي بها يكون التعقل هي
روح القدس
[النحل: 102]، وبعضهم يزعمون أن الأب هو القدم والابن هو الحكمة، وروح القدس هي الحياة.
وكلهم غلطوا في النقطات الخارجة عن بحر الجبروت وقت المد، وهي النقطة العلمية التي هي منبع عالم الخفاء، والنقطة الإرادية التي هي منبع عالم الروح، والنقطة القدرية التي هي منبع عالم السر، وظنوا بالنقطة العلمية أنها ذات البارئ، وبالنقطة الإرادية أنها ابن البارئ، وبالنقطة القدرية أنها هي الكلمة، وبعبارة بعضهم هي روح القدس، فكفروا بالله تعالى، واشركوا به في عين اعتقادهم بالاتحاد؛ لأن سنة الله تعالى جرت على إثبات الوسائط كما نشاهدها في عالم الشهادة، إن الولد لا يحصل إلا بازدواج الذكر والأنثى، فعلى هذا الترتيب أثبتوا الوسائط في عالم الغيب بالنقطة الفاعلة؛ وهي النقطة القابلة، وهي للنقطة القدرية لظهور نقطة الإرادة وهي النتيجة، فحسبوا أن ليس وراء العبادات قربة، وأثبتوا رقائق الدقائق الملكية وحقوق ثلاثة، وما وفقوا السير إلى عالم الجبروت ليشاهدوا دقائقها المتصلة إلى حقائق اللاهوتي، ويعاينوا بالذوق الصرف استهلاك الحقائق في ذات الحق الأعظم أحدي الذات وأحدي الصفات، الذي هو فرد بين الخلق وتر بعد الخلق، ولا يمكن الوصول إلى هذا المقام إلا بمتابعة المحبوب؛ لأنه اللطيفة الخفية وينزل ويقتدي بالمهدي الذي يكون من أمة الحبيب وولد من أولاده؛ ليطلع على اللطيفة الخفية ويستغفر عن رؤية لطفية روح القدس في نفسه، ويدعو أمته إلى الدين الحنفي ليدخلوا في الحنيفية السمحة السهلة، ويكسروا صليبهم، ويهرقوا خمرهم، ويقتلوا خنزيرهم، ويقولوا كلمتي الشهادة ويشهدوا بأن لا إله إلا الله حقا، وأن محمدا رسول الله صدقا.
فاجتهد أيها العابر على اللطائف القالبية، والنفسية والقلبية، والسرية والروحية، والواصل إلى لطيفتك الخفية، ألا تعجب بنفسك ولا تظن بأنك وصلت وكملت بتجلي لطيفة أنانيتك على لطيفة خفيك، وتلوذ بأذيال سنن الحبيب المطلق وتعتصم بحبل الله المتين؛ وهو القرآن المبين الذي أنزل على حبيبه الأمين، حتى تصل جذبة الحق من عالم اللطيفة الحقيقية، ويجذبك من اللطائف كلها ويوصلك إلى اللطيفة الخفية، ويجعلك محرما لأسرار ذاته وحكمته التي كانت له في إيجاده الموجودات وإفناء المركبات وإهلاك المفردات، وإبقاء اللطائف المستكملة أبد الآباد إما متنعما وإما متألما، فسير عيسى عليه السلام كان سير الحبيب من الأنبياء المتقدمة؛ ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم:
" الأنبياء أبناء علات إلا أنا وعيسى "
، وأما سير إبراهيم عليه السلام كان مستقيما إلى أن وصل إلى فاطر السماوات والأرض، وتوجه إليه
ما كان إبراهيم يهوديا
[آل عمران: 67]؛ لأنهم أثبتوا اللطيفة السرية بالنبوة في عالم السر، إذا وجدوها غير حاصلة من امتزاج الروح والقلب، وقالوا: إن عزير ابن الله
ولا نصرانيا
[آل عمران: 67]؛ لأنهم غلطوا في الخفى؛ لأن اللطيفة الخفية أعظم قدرا من اللطيفة السرية، وأعلى مرتبة من اللطيفة الروحية، وأثبتوا الأبوة والأمومة والبنوة كما ذكرنا،
ولكن كان حنيفا مسلما
[آل عمران: 67] بسيره المستقيم إلى عالم القلب،
وما كان من المشركين
[آل عمران: 67] فيما رأى من الآيات الملكوتية المودعة في نفسه في ظلمة ليل القالب بقوله:
هذا ربي
[الأنعام: 76]؛ لأنه وصل إلى فاطر السماوات والأرض في عالم القلب، تبرأ من الأفلاك وتوجه بالكلية إلى فاطر الأرضين والسماوات، وقال في نهاية معراجه:
إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام: 79].
وأمر الله تعالى حبيبه المصطفى بأن يبتدي به في بداية معراجه ويزيد عليه بقوله:
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
[الأنعام: 162-163]، وقال الله تعالى:
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي
[آل عمران: 68]، ومن على أمته في كل يوم خمس أوقات بالصلاة، التي هي معراج أمته بقوله تعالى:
إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام: 79]،
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
[الأنعام: 162-163]، وذكرت حقيقة الصلاة التي كانت معراجا في مدارج المعارج، فلا أكررها فإن كنت تشتهي مطالعتها فاطلبه وطالعه وأد حقه؛ لتصل إلى حظك المخفي الخفي المودع فيه.
اللهم اجعلنا موحدين قائمين بالقسط غير راغبين إلى الباطل، الثابتين على الحق بمحمد حبيبك المطلق صلى الله عليه وسلم، وصحبه وسلم والتابعين لهم بإحسان إلى اليوم الدين.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
أيها المتعوذ من شر القوى القالبية والنفسية المردية المؤدية المعنوية، { قل أعوذ برب الفلق } [الفلق: 1] إذا دخلت عالم القلب والنفس المظلمة بظلمات الهوى؛ يعني: استعذ برب الفلق وهو طلوع صبح القلب موافق النفس.
{ من شر ما خلق } [الفلق: 2]، من القوى القالبية والنفسية في هذا العالم الظلماني الكثير المهالك، { ومن شر غاسق إذا وقب } [الفلق: 3]؛ أي: من شر الظلماني الذي وقب عند اشتغال قوة من القوى إلى استيفاء شهواتها في عالمها بالهوى.
{ ومن شر النفاثات في العقد } [الفلق: 4]؛ أي: من شر الخواطر الطارئة على النفس من نفس الشيطان في عقد عقيدتها المستحكمة بهواها، المستودعة تحت حجر القالب في بئر طبيعتها.
{ ومن شر حاسد إذا حسد } [الفلق: 5]؛ أي: من شر قوة حسدية نفسه حسدت على القوة القلبية عند انبعاثها وقت طلوع الفلق، وهذه الاستعاذة واجبة على اللطيفة عند سلوكها ووصولها إلى أفق القلب في عالم النفس، وأيضا واجبة على اللطيفة القلبية السالكية الواصلة إلى أفق السر في عالم القلب، وأيضا واجبة على اللطيفة القالبية السائرة الواصلة إلى الروح في عالم السر، وأيضا واجبة على اللطيفة السرية السائرة الواصلة إلى أفق الخفى في الروح، وأيضا واجبة على اللطيفة الخفية بتجلي اللطيفة على لطيفة أنانيتها، فأما استعاذة اللطيفة الخفية المنسوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم يقول في هذا المقام:
" اللهم إني أعوذ بك منك، اللهم أعذني من شري وشر ما يقوم بي، وأخرجني مني، وخذني عني "
، على متابعة من قال من كمال معرفته، فأما أنا فلا أقول إلا: اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
أيها الهارب من شر أنانية نفسك الطالب أنانية حقك، { قل أعوذ برب الناس } [الناس: 1] في عالم القلب؛ ليحفظك بربوبيته من ذنوب القوى القالبية، { ملك الناس } [الناس: 2] في عالم النفس يسلطك على جنود القوى النفسانية بسلطنة مكية، { إله الناس } [الناس: 3] في عروجك عن سماء صدرك ليخلصك عن آلهة هواك [و] ألوهته { من شر الوسواس } [الناس: 4] الذي بواسطة هذه القوى [يلقي] { الخناس * الذى يوسوس في صدور الناس } [الناس: 4-5] على إلقاء الخواطر في صدورهم { من الجنة والناس } [الناس: 6]؛ أي: من القوى الخبيثة القالبية والنفسية.
واعلم أن الاستعاذة واجبة على جميع اللطائف في عروجهم على سماوات أطوار الغيوب خاصة اللطيفة القالبية والنفسية عند عروجها على سماء الصدر؛ لأن الشياطين يعرجون إلى أن يصلوا إلى سماء الصدر ليسترقوا السمع، أو يشق شق السالك المجذوب المقبول المردود إلى عالم القالب داعيا أمته إلى الحق، أو يوسوس اللطيفة القالبية عند عروجها على سماء الصدور ودخولها عالم القلب؛ لئلا يتمتع بالعروج وسيولها بالأمنية الشهوية، ويعبدها محبة الهوى الردية، فإذا استعاذت اللطيفة بالرب صارت الاستعاذة كالشهاب الثاقب، ويحرق أجنحة الخواطر الشيطانية الصادة لها عن الردود إلى حضرة القابلية، ولا يمكن الشيطان أن يتجاوز عن سماء الصدر ببركة قوة النبوة المحمدية.
فيا أيها المحمدي، اجتهد في طلب اللطيفة الخفية المنسوبة إلى محمد المخصوصة بأحمد لتصل إليها في أفق المقام المحمود، وتتنعم فيها بمشاهدة المعبود، ولا يمكن لك طلب اللطيفة الخفية ما دام معك من دنياك شيء، أما سمعت أن عيسى عليه السلام كان نائما متكئا على لبنة، فجاء الشيطان اللعين ووقف على رأسه، فلما أحس عيسى عليه السلام بمجيء اللعين هب من منامه وقال: ما جاء بك أيها اللعين إلي، فقال: أخذت قماشتي فجئت أطلب القماش، فقال عيسى عليه السلام: وما قماشك؟ قال: هذه اللبنة التي وضعتها تحت رأسك، فأخذ روح الله اللبنة ورمى بها وجهه، فإذا كان حاله عليه السلام كذلك فما ظن أحد غيره بحاله مع وجود اشتغاله بماله ومناله وأهله وعياله، إن الشيطان يدعه أن يخرج على سماء الصدر أو يشتغل بالسلوك فلا يغرنك الغرور، ومعك من قماشه شيء يسير وهو الدنيا بأنك تسلك الطريق وتصل إلى عالم الحقيقة، ولو تجردت عن الدنيا بأسرها في مقام التجريد يمكن لك بعد ذلك السلوك، ولكن لا يمكن لك الوصول لطيفتك الخفية ما دام في باطنك شيء من المعاني الباطلة والقالبية والنفسية والقلبية والسرية والروحية والخفية فإذا أفردت نفسك في مقام التفريد يمكن لك بعد ذلك السلوك ولكن لا يمكن لك الوصول إلى لطيفتك الخفية ولكن لا يمكن لك مشاهدة الحق الأعظم ومعك الحقوق الحاصلة من تصفية اللطائف عن الأباطيل حتى صارت حقوقا صرفة، فلما وجدت في مقام التوحيد عن الحقوق فيمكن لك مشاهدة الحق الأعظم ولكن لا يمكن لك الاطلاع على أسرار الذات الواحد كما هو حقها ما دام معك رؤية التوحيد فإذا جردت عن رؤية التوحيد ووجدت في مقام الوحدة متمكنا في مقام العبودية فيطلعك الله الملك المبين على أسرار ذاته المقدسة وصفاته المسبحة وأفعاله المنزهة وآثاره المتقنة المحكمة، ويجعلك محرما لأسراره وخازنا لأنواره ومظهرا لآثاره.
اللهم لا تكلني إلي طرفة عين ولا أقل من ذلك يا رب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وتابعيهم وتابعي تابعيهم إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد الله رب العالمين.
Page inconnue