19

L'Effet Lotus

تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي

Genres

أكاذيب بيضاء

استيقظت فاندا من إغفاءة قلقة، وحين نظرت من النافذة عرفت أنها وصلت جيسن من اللافتة المثبتة على رصيف المحطة. كانت ساعة يدها لا تزال تشير إلى الوقت في شيكاجو: الساعة السابعة، فأجرت الحسبة في رأسها، لا بد أن الساعة الآن الثانية بعد الظهر. لقد نامت ما لا يقل عن نصف ساعة. كان الشاب الذي يجلس قبالتها لا يزال في مكانه، مستندا برأسه إلى النافذة. هل كان نائما أم يتأمل المناظر في الخارج؟ لم تتمكن من رؤية وجهه، وتبددت رغبتها في الحديث إليه. تمطت وتثاءبت. هلا حاولت الشعور بالسعادة؟ حاولت أن تشجع نفسها، تستطيعين الآن أن تفعلي ما حلمت به دوما: تأسيس معمل للسموم، تنفيذ مشروعاتك الخاصة، قيادة فريق. لم تضطر إلى تفكير طويل حين أتاها ماكس شتورم في المؤتمر الذي عقد بالخريف الماضي، وعرض عليها منصبا في معهده بماربورج. لقد كان يتباهى أمامها مرارا وتكرارا بالتجهيزات التقنية المتقدمة والموارد المالية المتاحة في قسمه، كما أنه وفوق كل ذلك أشار إلى إمكانية حصولها على درجة الأستاذية. الأستاذ الدكتور الطبيب ماكسيميليان شتورم. لم يبد لها من ذاك النوع من الأساتذة الذين يمارسون سلطاتهم الأبوية على من يشرفون عليهم، وهو النوع الذي تفضل العمل تحت رئاسته، فقد كان يبدو مثل جرذ نحيل.

واصل القطار رحلته، أخذت فاندا شهيقا ثم أطلقت الهواء في تنهيدة على زجاج النافذة البارد، فتكون على الزجاج ضباب خفيف ما لبث أن تلاشى. نظرت إلى الطبيعة الرمادية المغسولة بمياه الأمطار نظرات حالمة. لقد عدت إلى وطني ألمانيا. كان عليها أن تقرص نفسها في وجنتها لتتأكد أنها لم تكن تحلم. وكأنها أتت من عالم آخر بعيد، بثتها شعاعاته لتعيد تكوين ملايين من جزيئاتها في حالة روحية فريدة ومادية جديدة. ما الذي أصبو إليه هنا؟ هل أتطلع إلى دفء صحبة ليس لي منها نصيب؟ أم أخشى أن أفوت عقد صلة ما بيني وبين الوطن؟ هل أخشى غلق الأبواب المتاحة؟ في أمريكا لست سوى باحثة نكرة في مرحلة ما بعد الدكتوراه بين عشرات الباحثين. الوظيفة مؤقتة لمدة سنتين. طبعا كان يمكن أن تقبل عرض الاستمرار لعام بحثي آخر في روتشيستر. منعها فقط تلك الطرقات التي كانت تتصاعد بطيئا من صدرها لتدق في حلقها. أحيانا كانت تداهمها ليلا وتجبرها على السهر حتى الصباح.

لا. لم تكن تريد أن تضطر ثانية أن تواجه مشاعر الخوف. حاولت أن تهدئ من روعها وتقول لنفسها كان صوابا أن ترحل في هذا التوقيت. أما ذاك الشيء فلن يلحظه أحد، خصوصا الآن بعد أن رحلت. فقد انتهى المشروع، ولن يقوم أحد بإعادة فحصه. لقد ضغط عليها ريك لأنه كان يحتاج إلى النتائج لينشر بحثه، فقامت بحذف بضعة أرقام. كانت من خاصة الباحثين. أكدت فقط على النتائج التي هي مقتنعة بها ببضع لمسات تجميلية على الإحصائيات، لتبدو البيانات قابلة للتصديق، وقد كانت تريد أن ترى اسمها منشورا على السطر المخصص لأسماء مؤلفي البحث. ففرصة النشر في دورية مرموقة مثل تلك لم تكن لتفوتها. هل كان بوسعها الاستغناء عن النشر؟ أي أحمق لم يكن ليفعلها. كان عليها أن تتصرف بهذه الطريقة إن كانت تريد التقدم في عملها. في النهاية، فإنها لم تزور، وإنما شذبت النتائج قليلا. كان الزملاء يسمون هذه التصرفات: أكاذيب بيضاء. هي ليست أكاذيب، لكن هي الحقيقة مصقولة قليلا. لمزيد من الوضوح والإفهام، يعني من أجل غرض طيب. هي فقط نصف الحقيقة. طبعا لا يمكن أن تلعب بنار كهذه دون أن تحترق أصابعك، فالحدود الفاصلة بين ذاك الأمر والخديعة ليست واضحة.

فتحت سوستة معطفها ومرت بيدها على رقبتها. هنالك كانت الثنية التي ورثتها عن أمها، لقد زاد وزنها. وخلف لها الشعور بالذنب توترا. عاشت عامين قلقين، لكنها تركتهما الآن وراءها. كانت حياة على الحافة عليك أن تقفز من فوقها إن عاجلا أو آجلا، وهذا ما يجب أن يتغير الآن. الوظيفة الجديدة مدتها ثلاث سنوات. ضحك شتورم بعد أن أخبرته بموافقتها، ومر فوق رابطة عنقه فاردا طياتها. «سنرى كيف سيكون أداؤك.» شعرت بعصارات من مرارتها تغص حلقها.

الفصل الرابع

نانوسنيف

كان ماكس شتورم يتطلع من نافذة غرفة الاجتماعات. لم تكن السماء التي تغطي ماربورج تختلف كثيرا عن مثيلتها في بوسطن في هذا الوقت من العام. تتساقط أمطار أبريل الخفيفة على العشب شاحب الخضرة الذي كان يتمدد بدلال مثل سجادة على كل المنخفضات والمرتفعات المتموجة على صفحة الأرض. احمرت عينا شتورم كالنار وهما تنظران عبر ستار المطر الرقيق. لكن هذه الخضرة لم تكن تمتلك من القوة ما يمكنها من بث طاقة في شبكية عينيه. فبالأمس ظهرا سافر من فرانكفورت وهبط تقريبا في التوقيت نفسه من اليوم التالي في بوسطن. استغرقت الرحلة ست ساعات طيرانا نحو الغرب، ومثلها ست ساعات متأخرة عند الوصول نتيجة فروق التوقيت. رغم ذلك بدت له الرحلة أطول. كانت ساعته الداخلية مضطربة بجنون. أرسلت شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة - اختصارا «بي آي تي» - سيارة إلى المطار لتحمله إلى فندق قريب من مقر الشركة. غادرت السيارة المدينة. كان يعرف الطريق الذي يمر بعدة طرق سريعة متشابكة تتجه إلى الشمال الغربي، إلى أن وصل بعد حوالي الساعة إلى بيدفورد.

أرهقه فرق التوقيت كثيرا رغم أنه هو تحديدا طالما عمل تحت ضغط الوقت. بذل مجهودا شاقا ليبقى يقظا حتى المساء، وبعد تناول الطعام مع مديري الشركة ذهب مبكرا إلى الفراش، ثم استيقظ حوالي الساعة الرابعة فجرا ولم يتمكن من النوم ثانية. نهض من فراشه وأعد لنفسه قهوة لا طعم لها، من تلك المتوفرة في حجرات الفنادق، ثم بدأ يراجع محاضرته. عليه ألا يستثير انتباه سامعيه في اتجاه خاطئ، يكفي أن زابينة ميرتينز كانت في غاية العصبية وهي تخبره بملاحظاتها قبل سفره إلى بوسطن بمدة وجيزة. ورغم أنه لم يكن يحب نوبات الانفعال لكنه أنصت إليها وحاول تهدئتها. في النهاية كانت هي واحدة من أفضل الباحثين العاملين معه، لكنها أحيانا ما تكون غارقة أكثر في العمل. تمنى لو أنها تمكنت أيضا من إبقاء فمها مغلقا. لم ينس أن يذكرها بمنتهى الوضوح بشروط الحفاظ على السرية التي وقعت عليها وقت اتفاقية التعاون مع شركة بي آي تي. كانت شكوكها تدور تحديدا حول التجارب الأولية التي تسبق المرحلة الثانية من الدراسة. طالما أنه لم توجد أدلة دامغة فلا ينبغي أن يعلم أحد بهذا الأمر، والآن خاصة، حيث يريد الأمريكيون مواصلة العمل معه. أي إشاعة، أي ثغرة من شأنها أن تفقده الخمسمائة ألف دولار المخصصة لتمويل المشروع.

وجد برنامج جلسة اليوم موضوعا على المنضدة أمامه. خلع شتورم نظارته وفرك عينيه، ثم أعاد ارتداءها؛ إذ كان من الصعب عليه التعود على العدسات الجديدة. ظل يطأطئ رأسه بشك إلى أن وصل إلى نقطة وجد الحروف تكتسب فيها معالم محددة، فعاد بأفكاره إلى زابينة ميرتينز. كانت مجرد ترس في ماكينة مؤسسته، ما أسهل إبدالها بغيرها! في الشهر القادم ستبدأ الباحثة الجديدة القادمة من روتشيستر عملها تحت رئاسته. هدأ نفسه بخاطر أن ميرتينز ستلزم الصمت. أخرج منديلا بلون البراعم البيضاء من جيبه وجفف عرق يديه فيه. تزعجه كثيرا الرطوبة في راحة يديه، ولحسن الحظ لم يكن الأمريكيون يعبئون كثيرا بالاتصال البدني. نظر في ساعته الروليكس، باق خمس دقائق على البداية الرسمية للجلسة في تمام التاسعة. •••

Page inconnue