18

L'Effet Lotus

تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي

Genres

خيم الصمت لوهلة. مر طائر صاخب من جوار النافذة، بينما كانت الشمس تصنع في المنتزه بالأسفل قبابا من حواف كومات الثلج وقطع الجليد المدببة التي طرزت حواف طرقات الممشى، فبدت الطبيعة وكأن رجل الثلج قد ألقى فيها صندوق ألعابه. كانت ضاحية جروسهادرن تقع مباشرة عند سفح الحصن الذي تحول إلى مستشفى في جنوب غرب ميونخ. كانت ريفية الطابع، تكاد بصفائها تبدو كما في الأناشيد الرعوية. في الواقع كان أندرياس يريد أن يمر على والديه مرور الكرام بعد انتهاء إجازته الشتوية التي قضاها في التزلج على الجليد. كان عليه أن يتوقع أن والدته ستتصل بأبيه في العيادة، وأن أباه سيطلب منه الحضور إلى جروسهادرن لأن عنده مواعيد من الصعب تأجيلها. وفعلا ذهب إليه أندرياس، لكنه ظل جالسا مثل مريض أمام كبير الأطباء، مريض يرفض اتباع روشتة طبيبه. أزاح جونتر هيلبيرج الكرة الزجاجية جانبا وتنهد. تحدث بصوت مشروخ، منخفض عن عادته في السابق، وكان صوته خائر القوى على نحو غريب. «نعم ... التفكير ... كنت دائما تستطيع أن تفكر جيدا ... وأيضا كنت تأتي بأقوال ذكية ...» رفع أندرياس حاجبيه وابتسم برضا.

وقال: «أنت تتملقني؛ إن جملة «نحن علينا أن نتعلم أن نفكر بطريقة مختلفة» ليست جملتي، أنا فقط استشهدت بها. إنها جملة من بيان (مانيفيستو) ألبرت أينشتاين ... لنقل إنها منقولة من آثاره في الأخلاقيات والسياسة. لقد توفي أينشتاين بعد ستة أيام من نشره.» حدق بلا تعبير في وجه والده. لم يكن من السهل عليه أن يكتم انتصاره. كان يحب حكم أينشتاين؛ فقد كانت من الروعة بحيث تناسب استخدامك لها في أي سياق شئت، فتجعل الناس يغرقون على إثرها متفكرين في صورهم الداخلية. ولعل كل واحد رأى بها خلاف ما يرى الآخر. لقد كانت تفتح نوافذ على أرواحهم وتجعلهم على نحو خاص أكثر استعدادا لاستقبال أفكار جديدة. حبس أندرياس سؤاله مدة حتى بدت أمارات احتقار على زوايا فم أبيه. «وماذا تريد أنت أن تترك للبشرية؟» «بالتأكيد ليست أفكارا غنية بكم السعرات الحرارية التي ينتعش بتناولها جيل من طلاب الفلسفة.» كانت هذه هي الضربة المسددة ضد تمرده. فدراسة الطب فصلين كاملين كانت كفيلة بشفائه؛ لقد تجرأ وفعلها ابن كبير الأطباء وهجر دراسة الطب. كانا يقفان على حافة الصدع الذي انشق في علاقتهما ... تلك الهوة التي ستباعد بين حياتيهما من الآن ولخمس سنوات قادمة، هوة «القديس أندرياس» بحسب وصف والدته للفجوة التي تفصل بين الرجلين في حياتها، وكأنه عليه وحده أن يتحمل القسط الرئيس من الذنب بسبب ذلك. في العام السابق وفي أثناء رحلة عودته بالطائرة من سان فرانسيسكو أخذ أندرياس يبحث عن صدع عظيم في قشرة الأرض، لكنه لم يتعرف إلا على خط أسود، كسر رقيق على جدار غلاف أرض صدئة، قد يثير الضحك حين تنظر إليه من ذلك الارتفاع الشاهق، لكنه رغم كل شيء مليء بالبارود. «نحن نقف أمام اختراق علمي هائل: فرط الحرارة. إننا نحقن جزيئات النانو في أورام المخ ونقوم بتسخينها، فيتحلل نسيجها ويختفي الورم. أمر لا يصدقه عقل! لكنه علاج ناجع.» بدا الأمر وكأن أباه سيشرع في إلقاء محاضرة. واصل الأب حديثه عن أن تكنولوجيا النانو ستجهز ما يكافئ «صندوق أدوات» يسهم في تقدم الطب، فسيمكن مثلا التحكم بصورة أفضل في حجم الأورام، واستخدام الأدوية بشكل أكثر دقة وتحديدا وفعالية. زميلي يوردان من برلين قد أنجز بالفعل إسهامات بارزة في هذا المجال. أصغى أندرياس لرنة الصرير الآسرة في صوت والده، تلك الرنة التي يحرص بها على إيقاع مستمعيه في شراكه كلما تحدث عن نجاحاته. «أندرياس يوردان هو أحد أفضل المتخصصين في هذا المجال، ولا يستسلم بسهولة»، الصمت الذي أعقب هذه الجملة ينتمي إلى أساليب جونتر هيلبيرج البلاغية. فقد قال والد أندرياس ذات مرة: «إن الهجوم اللفظي مثله مثل الحقن. تجني أعظم الأثر عندما لا يتمكن غريمك من الحركة بعد نغزة مفاجئة، بعدها ستنساب كلماتك إليه من تلقاء نفسها.» لكن هذه المرة تعمد أندرياس ألا يعطي الفرصة لإبر والده أن تمسه.

تعثر صوته فوق النبرة الرنانة: «ألم تفهموا الأمر بعد؟ أنتم تعملون على جزيئات متناهية الصغر، وتتحدثون عن الاختراق الطبي الكبير؛ ألم تتوفر لكم الرؤية الثاقبة حقا أم أنكم فقط تدعون؟» لوى شفتيه سخرية ثم قال: «الأمر لا يتعلق فقط بالكفاءة حين يبرز التميز، فهناك أموال طائلة تتدفق في هذا الجنون العظيم.»

أشاح جونتر هيلبيرج بوجهه وقال: «هذه حماقات.»

واصل أندرياس حديثه بلا تردد: «كلها أمور مرتبطة ببعضها، لا يمكن أن تحدث تغييرا في نقطة ما دون أن يكون لذلك أثر في شيء آخر، حتى ولو كان بعيدا عن موقع النقطة الأولى. نحن تنقصنا الرؤية الشاملة.» «آه، إنها القصة القديمة، قصة جناح الفراشة الذي بمقدور ضربة واحدة منه أن تثير إعصارا في مكان ما من العالم، سمعناها من قبل.» بدت على والده أمارات التعب. «قصة مدهشة أليس كذلك؟ ما أعظم أثر الجناح الصغير حين يضرب الهواء ضربا رقيقا! فجأة لا يبدو كل شيء محددا. لا بد أن نحسب حسابنا، إن برتقالة واحدة تتدحرج من فوق هذه الطاولة من الممكن أن تسبب هزة في جبال الهمالايا يقضي على إثرها أحد الوعول نحبه. أنت تمتدح مزايا تكنولوجيا النانو، رغم أنك - أنت خاصة - ينبغي أن تعرف أن عواقب هذه التكنولوجيا لا يستطيع أن يقدرها أحد بشكل حقيقي حتى الآن.» «لهذا الأمر مسئولون يقومون عليه، أنا ليس في وسعي سوى أن أدرأ الكوارث.» «... وتخترع أيضا نعالا مصنوعة من الكاوتشوك، حتى لا تنزلق من على السلم الوظيفي. لا بد أن تصور السقوط إلى القاع أمر مؤلم لك كثيرا.» عض أندرياس على شفته، فلم يكن ما يقوله يجدي، وهو لا يعرف سوى أن يواصل الآن ما بدأ. «أنت تكافح المرض فقط لأنك تستطيع أن تفكر في فئات «الجيد والشرير»، لكن ماذا لو كانت الأمراض ليست سوى محاولة كائن حي ما أن يتكيف مع بيئته؛ أي محاولة لإيجاد حلول، حالة مزاجية لطيفة للطبيعة؛ رغبة في التجريب؟ فلنسمه ببساطة القدرة على التغير، تلك القدرة التي لا تريد أنت أن تقبلها لأنك تجلس وراء مكتبك الفاخر، وتغازل إحصائياتك، من أجل أن تدعمك الأرقام، حتى لو كان المريض قد مات فعلا. وفي اللحظات الأخيرة تتوقف عن التفكير، ربما هي أيضا مجرد نتيجة موجزة ومتعسفة، تتبخر كل التوكيدات، بوووم. هذا أيضا شكل من أشكال الفوضى. النظام فالسيطرة وسلاسل التأثير أحادية البعد، كلها أمور نادرة ندرة الحظ السعيد ...» فكر قليلا ... «مثل الحظ الذي يمكن أن يحالفك لو اشتركت في مسابقة كيديتش مثل السحرة في روايات هاري بوتر.» كان أندرياس يلهث، بعد أن أطلق لنفسه العنان وانخرط في إلقاء محاضرة. لم يكن يختلف عن والده قيد أنملة. «إن لم تخني الذاكرة، فإن هذه المسابقة تقتضي أيضا مهارة، ولا تعتمد على الحظ فحسب.» قالها جونتر هيلبيرج وهو ينهض واقفا، بدت خطواته الأولى متصلبة وغير متزنة، كاد يتعثر، ثم تمالك نفسه واتجه نحو النافذة. «هل ثمة ما يسوءك؟» سأل أندرياس، لكن والده هز رأسه نافيا، ثم دس يديه في جيبيه بالكامل ما عدا إبهاميه اللذين ظلا معلقين على حافتي جيبي ردائه الأبيض مثل ريشتين وحيدتين. كانت بهما رعشة خفيفة، واستطرد قائلا: «لا يقول مثل هذا الكلام إلا من يضيع وقتا طويلا في التفكير. أيها الشاب، ليتك فقط تعرف حقيقة الأمر.» «أعرفها بالقدر الكافي. ألم أكن أيضا مواطنا في هذا المنزل؟» أدار الوالد ظهره له، فرأى أندرياس كيف كان أبوه يشد عوده. «لا أعتقد أنك تصغي حقيقة لما أقول.» تحدث جونتر هيلبيرج إلى النافذة وكأن في المنتزه بالأسفل جمهورا ينصت. «نحن نريد أن نتحدى الحظ، وحتى نحقق ذلك فلا بد من التحلي بمهارات حقيقية؛ فهذه هي فرصتنا الوحيدة.» ها هو ذا الطبيب يتحدث بحماسة وقلق دائم على مصير مرضاه، فلكأنه الفارس الذي يظهر في الملمات. تصفيق حاد ثم ليسدل الستار. غضب أندرياس لأنه وقبل أي شيء آخر شعر فجأة بحسد تجاه والده يأكل قلبه. كان والده يبدو حقيقيا في صورته المتضخمة عن ذاته، شديد القناعة بنفسه، وله فوق ذلك جاذبية عالية. «علينا أن نفهم القوانين التي تقود حركة العمليات الحيوية، عندئذ فقط يمكن لنا أن نمارس تأثيرنا عليها.» تحول جونتر هيلبيرج ثانية نحو أندرياس وقال: «المسألة تشبه لعبة بازل كبيرة، لن نستطيع أن ندرك مدى تعقيدها على النحو الصحيح إلا بعد أن نستخرج القطع الصغيرة منفردة، ثم نفحصها بدقة.» «وحين تبدأ بفحص كل حبة رمل على حدة، ثم في النهاية تجمع حبات الرمال بعضها مع بعض، تجد نفسك مرة أخرى أمام كثيب رملي قصير العمر في أحد مواقع البناء، ولست أمام شاطئ النخيل الذي وضعته ذات يوم نصب عينيك. ماذا تمثل حقا حبة الرمل؟ فقط السياق هو ما يجعلك تدرك موقعك الذي تقف فيه. الحقيقي هو حين يمر الهواء الساخن على الشاطئ الرملي فيغبش الصورة قليلا أمام ناظريك، عندها تكون قد وصلت. إن افتراض أن الكون مكون من أجزاء هو محض فكرة مثالية.» هز جونتر هيلبيرج رأسه في وهن. «هل هذا استشهاد آخر؟ فكلامك يبدو مثل كلام الدلاي لاما نفسه.» خطا إلى جوار مكتبه. تكومت على الطاولة الجانبية الصغيرة مجلات وأكداس من الورق. رفع بعض الورقات ثم أعاد وضعها في مكان آخر. خشخش الورق بين يديه المرتعشتين. «لن يساعدنا على عملنا تلك المقارنات الرومانسية، نحن في حاجة إلى أدوات ملموسة تمكننا من السيطرة على مشكلاتنا.» سرت في هيئته المتضائلة رعدة خفيفة، بينما صفر في نفس اللحظة جهاز استدعاء الأطباء الخاص به. توجه جونتر هيلبيرج نحو الهاتف وطلب الرقم.

وقال: «سأحضر فورا.» ثم تحول ناحية أندرياس وقال: «آسف، لدي مشاغل.» انزلق الهاتف المحمول من يديه حين أراد أن يضعه في الشاحن، فتركه على المكتب، وفي الطريق إلى الباب استدار مرة أخرى.

وقال بوهن: «تمنياتي برحلة سعيدة. سنتواصل هاتفيا.» انتهى العرض. وخرج والد أندرياس بصورة أبطأ من المعتاد، وبدت مشيته متشنجة، لكنه ظل على هدوئه، لم يستشط غضبا ولم يوجه إلى أندرياس اتهامات كالعادة، لم يمنحه أي سبب يجعله ينتفض واقفا ويرحل صافقا الباب وراءه. سيرحل قطاره المتجه إلى ماربورج في غضون ساعة، لكنه كان يفتقد الدافع نحو نقلة نوعية في حياته.

ربما توجب عليه أن يغادر الآن، لكنه كان يفضل البقاء، في هذه الحجرة خاصة، حيث آثار رائحة والده لا تزال عالقة. ابتسم أندرياس لهذه الرابطة التاريخية، على الأقل ليس في مقدور والده أن ينكرها.

شعر أندرياس وقتها في رحلة عودته إلى ماربورج بخفة في روحه. ألم يكن يمثل هذا اللقاء نقطة تحول بينه وبين والده؟ إلا أن انقطاع الاتصال بينهما بعدها لم يعط لأندرياس سببا للقلق؛ لأنه لم يكن بالأمر غير المعتاد. لكن اتصال والدته به بعد أسبوعين ذكره بتلك الرجفة المتخفية التي لاحظها على والده . أصابه الخبر بالصدمة؛ فقد دخل والده في غيبوبة. كان جونتر هيلبيرج مستلقيا في نفس المستشفى الذي عمل به، ومع كل زيارة كان أندرياس يرى ستار الشك يسدل وستار الأمل يرفع، رأى كيف يستبد الخوف وتنتقل عدواه إلى كل المحيطين، بحيث لم تخف وطأته إلا تدريجيا بعد وفاة الوالد. قال الأطباء وهم يرفعون حواجبهم وكأنهم يخفون أمرا بينهم: سكتة قلبية. ذكروا أيضا الرعشة ونوبات اضطراب الحركة، والتي كانت تعذب والده منذ مدة، والتي لم يشأ قط أن يعترف بها، ثم بدأ أخيرا في علاج نفسه بنفسه، ثم انتهى كل شيء بسرعة فائقة. لم يعد في مقدور أندرياس أن يقول الكلمات التي طالما أراد أن يقولها لوالده. لن يستيقظ جونتر هيلبيرج ثانية. حتى في موته لن يستطيع الوصول إليه. ناهز عمره السبع والخمسين سنة من مدة قصيرة وكان قلبه قويا. لم يستطع أيهم أن يقدم تفسيرا لأندرياس حول استسلام والده بعد أسابيع قليلة. لم يكن في وسعه التحكم في مشاعر الغضب التي ظهرت أولا فحجبت مشاعر الحزن. كانت هذه الحالة الشعورية مألوفة لديه منذ سنوات، غير أنها الآن تسحبه في دوامة نسي نفسه فيها فارتطم بقاعها، وبدأ يلوم نفسه أنه لم يبح لوالده قط بأنه كان يفتقده كثيرا.

الفصل الثالث

Page inconnue