شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول
1 - بين الغيوم
2 - روابط تاريخية
3 - أكاذيب بيضاء
4 - نانوسنيف
5 - المذكرات
6 - يوم الاثنين، يوم الاثنين
7 - كلمة المرور
8 - تحريات ليلية
9 - قطة سوداء
10 - حذف البيانات
11 - بعيدا عن المدينة القديمة
12 - الانفجار
13 - في كون العالم براون
14 - ارتباك على سطح الواجهة
15 - الهدية
16 - كايبيرينها في تمام التاسعة
17 - ممرات مختبئة
18 - محاكاة بالكمبيوتر
19 - تأثير اللوتس
الجزء الثاني
20 - الشاهد
21 - أخبار من وراء البحار
22 - الدردشة
23 - القائمة
24 - الزر الأحمر
25 - فلفل وبسكويت الحظ
26 - المكاشفة
27 - هواء ثلجي
28 - ندفات الثلج الأولى
29 - الطرد الهش
30 - الفرضية
31 - شوكولاتة قديمة
32 - جزيء عظيم الشأن
33 - خزف مايسن
34 - التجميع الذاتي
35 - ارقدي في سلام
36 - سهل التنظيف
37 - في غياهب السجن
38 - ذخيرة ذاتية التحلل
39 - نجمة وألعاب نارية
40 - نخب العام الجديد
41 - حمى الصيد
42 - عد القطط في زنجبار
43 - إحباط
44 - شعاب داروين المرجانية
45 - حيلة معبأة
46 - فرملة الطوارئ
47 - محللون وقارئة الفنجان
48 - وصية بلاوبارت
49 - بضاعة مهربة
ثبت المصطلحات
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول
1 - بين الغيوم
2 - روابط تاريخية
3 - أكاذيب بيضاء
4 - نانوسنيف
5 - المذكرات
6 - يوم الاثنين، يوم الاثنين
7 - كلمة المرور
8 - تحريات ليلية
9 - قطة سوداء
10 - حذف البيانات
11 - بعيدا عن المدينة القديمة
12 - الانفجار
13 - في كون العالم براون
14 - ارتباك على سطح الواجهة
15 - الهدية
16 - كايبيرينها في تمام التاسعة
17 - ممرات مختبئة
18 - محاكاة بالكمبيوتر
19 - تأثير اللوتس
الجزء الثاني
20 - الشاهد
21 - أخبار من وراء البحار
22 - الدردشة
23 - القائمة
24 - الزر الأحمر
25 - فلفل وبسكويت الحظ
26 - المكاشفة
27 - هواء ثلجي
28 - ندفات الثلج الأولى
29 - الطرد الهش
30 - الفرضية
31 - شوكولاتة قديمة
32 - جزيء عظيم الشأن
33 - خزف مايسن
34 - التجميع الذاتي
35 - ارقدي في سلام
36 - سهل التنظيف
37 - في غياهب السجن
38 - ذخيرة ذاتية التحلل
39 - نجمة وألعاب نارية
40 - نخب العام الجديد
41 - حمى الصيد
42 - عد القطط في زنجبار
43 - إحباط
44 - شعاب داروين المرجانية
45 - حيلة معبأة
46 - فرملة الطوارئ
47 - محللون وقارئة الفنجان
48 - وصية بلاوبارت
49 - بضاعة مهربة
ثبت المصطلحات
تأثير اللوتس
تأثير اللوتس
رواية عن جزيئات
النانو في أبحاث الطب الحيوي
تأليف
أنتونيا فيرينباخ
ترجمة
نيرمين الشرقاوي
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر إلى زوجي هاينز فيرينباخ وإلى كل الأصدقاء والمعارف الذين دعموني في أثناء العمل على هذه الرواية. كما أخص بالشكر مراجعي وناشري أكسيل ديلمان الذي لم يتوان في بذل الجهد لإخراج هذا العمل على هذا النحو الذي هو عليه الآن. وأتوجه بالشكر إلى السيدة فيه براونزدورف لتدقيقها ثبت المصطلحات، وكذلك أنجيليكا جرازر ورودولف يوريز لصبرهما على قراءة مسودة العمل وتقديمهما المشورة التخصصية اللازمة، وملحوظاتهما الذكية التي قوت من عزيمتي. أشكر أيضا نافينا دامكيه، وماركوس أيكمان، وأولي كولر، وتيلو كوركيل، وميشائيل كراوزه، وبيتر ريكسين، وهولجر شولتس، وجريجور تسيمرمان على مناقشاتهم الثرية ونصائحهم ومعلوماتهم، وكذلك فيلهلم فارن إيكه على دورة الفلسفة المكثفة السريعة، وزيجفريد فيلهلم المندوب الصحفي لمصلحة البوليس الجنائي بمقاطعة هيسن، لما زودني به من معلومات خاصة بعلم حركة المقذوفات، وكريستيانيه بيتيرز لأنها صاحبتني في جولاتي عبر تاريخ مدينة ماربورج.
إن تأليف كتاب يشبه بناء مبنى. في البدء تكون الفكرة، ثم تتكون الخطة. والثبات - أو فلنقل السكون الاستاتيكي - يعد من أهم العوامل التي تؤمن عملية العبور من المراحل الحالية للمراحل التالية بمزيد من الثقة؛ لذا فقد شكلت دورة الكتابة التي حضرتها لدى راينر شيلدبيرجر عام 2006، وكذلك اللقاءات العديدة مع «سيدات الرسائل في ماربورج» أهمية كبرى في مرحلة التكوين الأولى، وحين حضرت في شهر يونيو من عام 2007 دورة في «أخلاقيات استخدام النانو في المجالات الحيوية»، كنت قد وصلت إلى مرحلة تأثيث المبنى، وحصلت على أفكار جيدة ساعدتني في التصميم الداخلي؛ ولذا أشكر كل المشاركات والمشاركين في هذه الدورة. وأخيرا وليس آخرا أتوجه بالشكر لأستاذتي مارليزه بفايل وأندريا زالباخ لما قدمتاه لي من نصح وإرشاد، وكذلك صاحب المرج الذي لا أعرف اسمه؛ لأنه لم يطردنا من أرضه قط.
«كلما أمعن الإنسان في السير وفق الخطة المرسومة، تزايدت فرصه في ملاقاة الصدفة.»
فريدريش دورينمات، الفيزيائيون
تقديم
بقلم مصطفى ماهر
تعود بي الذاكرة عندما أتهيأ لكتابة هذه المقدمة إلى عام 2003، حيث أرسلت إلي أخبار الأدب الغراء كلمة عن نيرمين الشرقاوي، أرفقت هي بها ترجمة مختارات من شعر هاينريش هاينه. وقد سعدت بإعجاب جمال الغيطاني بها؛ ربما لأنني وصفت المادة المترجمة بأنها جزء من نسيجي الثقافي، وتمنيت أن تتاح لنيرمين الشرقاوي فرصة متعاظمة لإظهار موهبتها في هذه النوعية الصعبة من الترجمة التي ربما حلا للبعض أن يسميها ترجمة أدبية، أو ترجمة شعرية، أو ما إلى ذلك. وكنت قد وصفت هذا النوع من التعامل بين مترجم أديب شاعر ومؤلف أديب شاعر وأطلقت على هذه النوعية من العمل الترجمي اسم «التفاعل الترجمي»؛ وأحببت جدا أن تظهر براعة المترجمة في مواجهة براعة هاينريش هاينه، وهو من هو. وحتى لا يطول بي الاستطراد في هذه النقطة يكفيني الإحساس بأنني في الترجمة التي طلب مني كتابة مقدمة لها، «تأثير اللوتس»، وجدت فيها أمورا كثيرة جديرة بالإشادة، أو لنقل بكل بساطة: جديرة بأن نلقي عليها الضوء ونتحاور معها حوارا من حقه أن يطول. •••
والرواية التي بين أيدينا رواية صعبة، محيرة، مستفزة، وبهذه الصفات تستحق أن نقلب أوراقها عدة مرات ونضعها تحت أجهزة الفحص الحديثة التي قد يبتكرها العلماء ذات يوم، فنرى الغامض كما نرى الظاهر. ومن الممكن أن ننظر بداية إلى حجم هذه الرواية، ونؤجل النظر في العنوان واحتمالاته، فنجد أن الرواية تعتبر حجما من النوع الضخم. وكان أساتذة مبرزون في النقد الأدبي قد طرحوا على موائد البحث أن الأدب القصصي ستنكمش أنواعه الضخمة مفسحة المجال للأنواع المقتضبة أو القصيرة. وتساءل البعض بحق: من الذي يستطيع في أيامنا هذه أن يقرأ روايات كتبت في مئات الصفحات؟ وربما تذكر البعض محاولة اختصار الروايات المطولة حتى يستطيع القارئ المتعجل المعاصر أن يعكف عليها ويستخرج منها ما يمتعه. ولكن الذي حدث أن كتاب الرواية الأدبية لم يشغل بالهم - على ما يبدو - تفضيل الاقتضاب على التوسع، وكنت قد أشرت إلى هذه القضية تفصيلا في كتابي «ألوان من الأدب الألماني الحديث» الذي قدمت فيه - كما يظهر من عنوانه - باقة من الأدب الألماني الحديث تمثل تياراته المختلفة منذ عام 1947 إلى مطلع السبعينيات، وأعاد المركز القومي للترجمة إصداره في طبعة ثانية في سلسلة ميراث الترجمة عام 2009.
والخلاصة أن الكتاب الذين حلا لهم أن يكتبوا مطولات كتبوا مطولات ولم يخطر ببالهم أن يقتضبوها، والأدباء الذين فضلوا أن يكتبوا أنماطا مقتضبة كتبوا هذه الأنماط المقتضبة. والمبدع - كما هو معروف - حر في نفسه وفيما يفعل. بل إن هذه القضية تجرنا إلى قضية الأنواع الأدبية؛ ففي وقت من أوقات تاريخ الأدب الإنساني - على تنوع اللغات - كان المعلمون الأفاضل يحبون تبسيط الموضوعات لتلاميذهم فيتحدثون عن نوع مسرحي، ونوع قصصي، ونوع شعري، ونوع أضيف فيما بعد ينشغل بنقد الأنواع الإبداعية. ثم ظهرت محاولات في مجال الرواية - بمعنى القصة الطويلة - انطبعت بطابع التحديد المتعسف فتكون رواية غرامية، أو رواية سياسية ... إلخ. وربما فكر المنظمون في تمييز الرواية التي تكتبها المرأة وتلك التي يكتبها الرجل. ولكن كل هذه المحاولات المقتضبة لم تؤد في حقيقة الأمر إلا إلى إطالة سلسلة التنوع في القوالب الشكلية لهذا الفن القصصي، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض هذه المحاولات لا تقتضي أن تكون الرواية القصصية بالضرورة رواية قصصية، فقد تكون رواية لا قصصية أو تكون لا رواية. ويظهر من هذا كله التوسع الموسوعي في الأنواع الذي من الشطط أن نسميه مبالغة. فعالم الإبداع لا يمكن أن يكون عالم إبداع إلا بلا حدود.
وفي خضم التنوع المتزايد في الأنواع الأدبية التي يهمنا منها في هذا المقام أن الرواية القصصية لم يكن لها وجود في بدايات الأدب الألماني - على سبيل المثال - أو الأدب الفرنسي، أو الإنجليزي. والغريب أن أول كلمة استخدمت لوصفها هي
roman
التي عرفت في الفرنسية، وأحبها الألمان، ولم يرتح إليها الإنجليز. لكن تظل محاولة إضفاء صفة المواطنة الحقيقية على
Roman
في الأدب الألماني محاولة مهزوزة؛ فالألمان ليسوا حساسين لأي تفرقة في هذا المجال، فلتكن الرواية
Roman
أو لتكن كتابا
Buch . ويبدو أن الشيء الهام بالنسبة للمبدعين هو ألا يفقد الإبداع إبداعيته، بمعنى ألا يسير في دروب أو مدقات مطروقة إلا إذا كانت قابلة للتفرع والتقلب.
وقد حظيت بعض القوالب القصصية بإعجاب من النوع الذي يسمونه «جماهيريا»، ويلفت نظري من بينها القالب المعروف باسم الرواية البوليسية. ويلفت نظري هذا القالب لأنه تلون بما لا يتصوره العقل من ألوان، ودخل في التاريخ والجغرافيا والعلوم الفلسفية والإنسانية، وأصبح مجالا كبيرا من مجالات الإبداع. ونقطة الانطلاق الشكلية فيه (الخميرة) هي أن هناك شيئا يحدث، وأن هذا الذي يحدث يسأل عنه بعض الناس؛ يسألون بمعنى المسئولية. وتدور في خطوط الأسئلة احتمالات مختلفة. وكلما ظهر بين الناس في البلاد المختلفة والأزمنة المختلفة شيء يتسم بغرابة فلا بأس من خلطه بالرواية البوليسية.
ليست هذه التصورات غريبة بالنسبة للرواية التي بين أيدينا، وفي قراءتي لترجمتها لا أقول إن المترجمة حملت عبئا ثقيلا، بل كثيرا من الأعباء. فأولا: الرواية تتصورها المؤلفة أنتونيا فيرينباخ في صورة عمل علمي بالأساس. فالعنوان الذي اختارته الأديبة يجرنا إلى عالم اللوتس، أو إذا شئنا الحقيقة: عوالم اللوتس وتقلباتها الجغرافية والثقافية والإنسانولوجية. فكلمة اللوتس نفسها كلمة تظهر في سياقات كثيرة، بعضها واضح، وبعضها غامض، وبعضها يثير التساؤلات. والأديبة نفسها تصنف روايتها على أنها عن النانو، وهو مصطلح من مصطلحات العلوم القائمة على القياس المتناهي للجزيئات في مجالات البحث الطبية الأحيائية.
إذن هي رواية علمية؛ فالأديبة نفسها فيما ذكر من قصة حياتها ليست من خريجي أقسام الأدب، وليست من المنضمات إلى المجتمعات الأدبية راضية أو ثائرة، ولكنها درست علم الأحياء في جامعات مختلفة، بل إن دراستها ظلت تتقلب بها في مجالات مختلفة مثل الأحياء البحرية والإعلام والصحافة، ناهيك عن التخصص في علوم الحيوان. وفي كل هذه التوجهات كان لها بصماتها التي ظهرت في مجالات كثيرة. ناهيك عن حرص أنتونيا فيرينباخ على التأكيد على أنها حاصلة على الدكتوراه من أهم المراكز البحثية في ألمانيا. ثم إن لديها رغبة كبيرة في تغيير المكان، وفي عرض الموضوع الروائي (اللاروائي) القصصي (اللاقصصي) على مدى 49 فصلا مضافا إليها إضافات شارحة تقربها إلى عالم البحوث العلمية. •••
يشد الانتباه إذن أن رواية أنتونيا فيرينباخ تجمع بشكل صارم بين الأدب والعلم. الأدب بالمعنى المألوف؛ أي الظاهرة الأدبية المنتمية إلى علوم الجماليات، أما العلم فالمقصود به العلوم التي تختص بها المعامل والنظريات العلمية فيما يسميه الألمان
Naturwissenschaften ؛ أي العلوم الطبيعية. وهي ليست خاصة بالطبيعة فحسب، لكنها قريبة الشبه بها مثل الرياضيات والفلك، كما تشمل الفيزياء والكيمياء وما تطورت إليه هذه العلوم فيما بعد. وهذه الظاهرة - الجمع بين الصفة الأدبية والصفة العلمية - لها أهمية خاصة في نظرنا؛ لأن كثيرا من النقاد حين يتحدثون عن برامج الترجمة التي توجه إلى القارئ العادي يلاحظون أن هذه البرامج تركز على الروايات وما في حكمها، بحيث إن النقاد ينتهون إلى أن الغلبة دائما للأدب وما في حكمه. وهذا شيء يمكن التأكد منه بمجرد النظر إلى قائمة مثل قائمة الكتب المترجمة الصادرة عن المركز القومي للترجمة أو الهيئة المصرية القومية للكتاب، بما يصور أن الأدب هو المقوم الأساس للثقافة. إلا أن العمل الذي بين أيدينا يمثل نموذجا مغايرا. فهو - كما تذكر المؤلفة - عمل مختص بأمور علمية توضع لها برامج بحثية في معامل علمية متخصصة، وتنشر عنه بحوث في المجلات العلمية المتخصصة؛ أي إن الموضوع يدور في قالب علمي بحثي. لكننا لا نريد أن نطرق هذه النقطة دون أن ندخلها في مكانها من الرواية البوليسية. فما يجري في المؤسسات البحثية وما يقوم به الباحثون من دراسات علمية واضح في الرواية أنه قد يكتنفه التزوير وما يعرف بالسرقات العلمية. والأحكام والتقارير التي يكتبها المتخصصون لإبراز أهمية علمية لبحث ما قد تكون مفتعلة أو متكلفة أو في غير موضعها، فتكاد تكون الرواية من أولها لآخرها هدفها البحث عن هذا العمل «العلمي» وكيف يتم إنجازه وإخراجه في مجلات علمية مشهود لها بالدقة وما إلى ذلك؛ فإذا بنا نجد أن الموضوع يكثر فيه الكذب والاختلاق والتمويه وإلباس الحقائق والوقائع لباس الأحداث الإجرامية التي تهتم بها الروايات البوليسية بصفة خاصة. فيكاد يكون قارئ هذه الرواية مهتما باكتشاف من هو صاحب الادعاء ومن هو صاحب الفكرة المكذوبة ومن يلعب بالألفاظ ومن يحاول استخدام تعبيرات مضللة ومن يستغل لغة الكمبيوتر وما إليها بهدف واضح جدا؛ هو التضليل. •••
وما دمنا نتحدث عن التضليل فهناك جانب آخر نلقاه في مواضع كثيرة من الكتاب؛ وهو اهتمام أصحاب المشروعات العلمية بالمكاسب المادية والتفكير في كيفية افتعال مشروع علمي أو التشدق بإمكانية حدوث تطورات علمية لا وجود لها بقصد جذب شركات الدعاية والتأمين، لتتحول العملية إلى تحقيق منافع مادية تغلب على المتوقع من البحوث العلمية الرصينة. ويبدو أن الكاتبة لا تخفي نيتها؛ وهي إلقاء الضوء على ما يجري من جرائم في عالم البحث العلمي بكل مكوناته. وبطبيعة الحال فإن الشخصيات الكثيرة التي ترد في الرواية من الصعب تحديد هويتها من حيث الصدق والكذب. لسنا على بينة من الصورة الحقيقية للرجال والنساء الذين يدور عنهم الحديث ويشاركون في العمل العلمي من مناقشات تبطن ما لا تظهر. فهناك ما يمكن أن نسميه رغبة قوية في النقد العنيف لما يمكن أن نسميه سوء الخلق في هذا العالم البحثي العظيم الذي يتصور الناس أنه أبعد ما يكون عن سوء الخلق. وبهذا دفعت الكاتبة هذا العمل الأدبي في صورته المبتكرة التي بين أيدينا إلى مجال الأخلاقيات وتراثها، وكيف يمكن أن تتقلب وتتغير وتعبر عن أشياء إيجابية وسلبية في نفس الوقت في إطار لغة الألغاز والتعبير بالرموز المستغلقة أو الصعبة. ومن ذلك الحديث عن اللوتس، ومعنى اللوتس في الثقافة المصرية وثقافة الصين؛ فنجد لفظة اللوتس تدور بنا دورات صعبة مليئة بالألغاز والغوامض التي تحتاج إلى جهود خاصة للخروج بمعلومات عن قيمة هذه العناصر الفكرية أو الأخلاقية الخفية وإظهارها على الواقع. وهذا النوع من الروايات التي ينشغل فيها مؤلفها الغربي بالعناصر الشرقية الصينية والهندية معروف في الأدب الألماني، نذكر منه على سبيل المثال اهتمام الأديب الشهير الحائز على جائزة نوبل في الأدب هيرمان هيسه. ويمكن مراجعة ذلك في رواية «لعبة الكريات الزجاجية» التي قمت بترجمتها والتقديم لها.
وبالعودة إلى روايتنا «تأثير اللوتس»، نجد أننا كلما أعدنا النظر والتأمل فيها، أدركنا الجهد العسير الذي تحملته المؤلفة، التي يمكن أن نتصور أنها تقف إلى جانب الحق بقدر ما تقف إلى جانب الجمال والخير؛ لأنها كلها أمور مطروحة بشكل الأحاجي والألغاز والفوازير وما إلى ذلك من تراث الغوامض. فالقارئ سيتصور أنه منذ البداية سيجد نفسه في مواجهة موضوع يتعلق باللوتس. ولا غضاضة أن نقول إنه نبات - على الأقل في البداية - إلى أن تظهر المشكلات الأخرى المختلفة المتصلة بهذا الموضوع. وبعد أن نبهنا إلى تنوع القالب القصصي، لا مجال لقارئ مدقق أن يندهش من أن الرواية قريبة في هيكلها من الرواية البوليسية، رغم أن أحداثها تدور في عوالم البحوث العلمية التي سنجدها تتداخل بشدة مع الغش والاحتيال والألاعيب والعلاقات بين الناس. وقد ظهر في هذا العالم المتداخل أن الجزيئات المتناهية الصغر «نانو» من الممكن بتدابير إجرامية دسها إلى حيث تنفذ إلى المخ والجهاز العصبي وتحدث أضرارا بأناس لم يرتكبوا ذنبا. •••
فإذا كان القارئ يحب هذا النوع المتشعب والغني بالإبداع، والخروج عن المألوف دون اعتراف بأنه خروج عن المألوف، فسيجد ضالته في هذه الرواية، كما سيجد حركة بين بلدان مختلفة من أمريكا إلى الصين مرورا بألمانيا حيث يتشعب الخط القصصي الأساسي. وإذا جاز لي أن أوصي، فإني أوصي القارئ أن يجهز نفسه ببعض المعينات الدالة على الأماكن والاتجاهات الجغرافية والأزمنة والخلفيات المرتبطة بعقائد أمم أخرى منها الصين ومصر القديمة والهند؛ ليستعين بها على تتبع الخطوط المتشعبة المتداخلة التي لا تهدف بالضرورة إلى الوضوح، بل تضع القارئ دائما أمام ألغاز تتطلب مناورات مختلفة لحلها. وهذه الخلطة الغريبة من المكونات الإبداعية تجد لها تربة خصبة في قالب الرواية البوليسية المبهمة.
مقدمة
حلقت الطائرة «روكويل برونكو» بنعومة عبر المنحنى، وألقى توني ستامبا نظرة من النافذة المجاورة لكابينته فرأى رايات بيضاء خلفها الضباب تتأرجح مثل أجسام غريبة في الجو الصحو. الأمر أشبه بالمعجزة؛ فقبيل لحظات قليلة أرسل الإشارة، ففتحت صمامات خزان الطائرة لتقذف في السماء حمولتها السائلة على عدة دفعات مركزة فوق الصحراء. والآن يتمدد بساط القطرات تدريجيا في طريقه للهبوط ليغطي الأرض القاحلة.
إنه عمل غير عادي بالنسبة لتوني. فسرعان ما سيختفي هذا الأثر الرطب وكأنه لم يكن قط، فالطبيعة قد غضت طرفها عن حصة تلك البقعة من المياه؛ ذلك أن الهواء في ميسا نيو مكسيكو التي تقع على ارتفاع نحو ألفين وخمسمائة متر عن سطح البحر يتميز بالصفاء والجفاف، والضباب هنا كلمة غريبة، لا تستعمل إلا أثناء التدخل لإطفاء الحرائق صيفا.
حلقت نظرات توني مع نتوءات وتعرجات سلاسل الجبال التي تشبه حارسا سكيرا يشرف على المنتزه القومي الذي يحلق فوقه الآن. ولهذه المنطقة تاريخها؛ إذ كانت «باندلير ناشونال مونيومنت» أرضا مملوكة للهنود الحمر، والصخور ذات المغارات المتشعبة كالمتاهة كانت تمثل ملاذا آمنا للناس والحيوانات، أما اليوم فالمنطقة لا تعدو كونها متحفا مفتوحا في قلب الطبيعة، يحوي بقايا قرية من زمن بويبلو. وكثير من الأماكن التي كانوا يقيمون فيها شعائرهم لا تزال لم تكتشف بعد.
شعر توني بتلك القشعريرة تحت فروة رأسه ثم امتدت إلى رقبته ثم ظهره، فشد قامته. يحدث هذا في كل مرة يحلق فيها بطائرته «روكويل» ويصعد بها إلى عنان السماء فوق تلك الأرض الصخرية، فيغدو فجأة رائدا من الرواد الفاتحين وقائدا للشرطة في وقت واحد. خمسة عشر عاما قضاها في العمل طيارا قائد عمليات هي دائما عمليات إطفاء حرائق، فيتعين عليه إنقاذ الأرواح وحماية المنازل. إن لعمله مغزى ساميا. ورغم ذلك يعتريه تشنج في فكه كلما تذكر حريق الغابة الذي وقع قبل ثلاث سنوات. إدارة المنتزه المجنونة تلك! تمخط توني. لم يكن الشريط الأحمر المتوهج الذي علا سماء لوس ألاموس وقتها شفق الغروب، لم يكن إلا قرارا خاطئا. وتم تسريح كل من يمت بصلة لإدارة المنتزه القومي. حريق تحت السيطرة! يفتعلونه رغم الجفاف. هز توني رأسه، لا، لم يكن الأمر خطأ، بل جرم أخرق وغير مسئول. إنه يتخيل منظر الأشخاص بإدارة المنتزه، وكيف يتصرفون بنفاد صبر، وكيف ينتابهم الضجر ثم يسعون لإشعال غابة دون إعمال ذرة من العقل، فقط تلبية لرغبة رؤسائهم الذين كانوا يريدون أن يشغلوهم بالعمل. لم يحسب أي منهم حساب الرياح التي جعلت النيران المتوهجة تشكل دوامات وارتفعت بها إلى عنان السماء، ثم اتجهت بها غربا. لا يزال توني يرى بعين خياله كيف كانت السماء تمطر شرارا على الخشب الجاف، وكيف توغل الشرر وانتشر في نسيج الخشب، مثله مثل الورم السرطاني الذي يحاكي الخلايا الأصلية ليأتي على كل شيء في النهاية. وهكذا قمنا بعملية الرش. لا تزال الشرارات وألسنة اللهب والأدخنة تملأ السماء، ولا تزال النيران متقدة، ينذر وهجها الأحمر لوس ألاموس شرا. وصل ارتفاع أعمدة اللهب إلى ستين مترا فوق غابات الصنوبر المحيطة بالمدينة إلى كبد السماء. ورائحة الحريق تزكم الأنوف في كل مكان ولا تزال الأدخنة تتصاعد. اشتركت في عمليات إخماد الحريق ست طائرات إطفاء، ظل الجميع يكافحون حتى نال منهم التعب. ولم يجث تنين النيران إلا في اليوم السادس. ورغم أن النار التهمت أكثر من خمسين مبنى، فإنهم تمكنوا من ردها عن الوصول إلى المفاعل النووي في لوس ألاموس. وطرد مدير المنتزه الذي أمر بإشعال الحريق، ولو لم يفعلها المحافظ لربما فقد توني قبضة يده من فرط الضربات التي أراد أن يكيلها له؛ إذ بلغ منه الغضب مبلغه.
حرك تيار خفيف مؤشر الارتفاع في الطائرة. كانت مقدمة الطائرة لا تزال ترتفع، نظر توني إلى السماء الزرقاء في الأعالي وحبس أنفاسه لبرهة. ثم أطلق زفيرا! هذه المرة لم يكن إنذار حريق، بل مجرد تجربة علمية عينته شركة من كاليفورنيا ليقوم بتنفيذها. أما المهمة فمختلفة هذه المرة؛ إذ ليس المطلوب شن الحرب على النيران وإنما محاولة التصالح مع وجه الأرض لإبرائها من جروح الحرائق المشتعلة التي لا تزال تغطي صفحتها؛ إذ قيل له إن المطلوب هو رش مادة تسهم في تخليص التربة من السموم.
منطقة الهدف: رقعة مساحتها 560 هكتارا مربعا ما بين الحد الشمالي للمنتزه ولوس ألاموس. الرؤية واضحة، والمخاطر منعدمة. ذاك هو مكان مخزن الوقود الذي التهمته النيران آنذاك، مخلفة آثارا ضارة على الأرض التي أضحت من يومها غير صالحة للاستخدام.
ينظر في ساعة الكمبيوتر الملحق بمتن الطائرة، تشير إلى الحادية عشرة والنصف. أما التقويم إلى جوارها فيشير إلى يوم الثالث والعشرين من شهر مايو عام 2003. كل شيء يسير وفقا للخطة. من نافذة كابينة الطيار بدأ توني يتابع حافلة سياحية على الطريق الجنوبي رقم أربعة، الذي يمتد من وايت روك متخذا منحنى واسعا يمس الحد الشمالي من المنتزه القومي. ظلت الحافلة تسير وكأنها عربة من عربات الألعاب التي تقاد عن بعد سائرة في طريقها مباشرة نحو الغرب. في هذه الأثناء تأرجحت في الهواء طبقة رقيقة من المادة التي ألقاها هابطة نحو العمق. فلما وصلت إلى الشارع لم يبق منها سوى نفحة من نسيم غامض لفت الحافلة واستقرت أسفلها فمرت الحافلة من فوقها بسلام وأكملت طريقها مبتعدة.
الجزء الأول
الفصل الأول
بين الغيوم
ما إن هبطت الطائرة دفعة واحدة حتى استيقظت فاندا من فورها، كانت عقارب ساعتها تشير إلى الرابعة والنصف بالتوقيت المحلي لمدينة شيكاجو. قرأت التاريخ على ميناء الساعة 15 / 4/ 2005 فتيقنت أن يوما بكامله قد مر فعلا منذ بدء سفرها. وبينما كانت الطائرة تتجه صوب صالة الوصول، أخذت صور الأربع والعشرين ساعة المنقضية تتابع في مخيلتها. سماء ساطعة الزرقة تمددت ظهيرة الأمس وقت بداية تحليقها من روتشيستر فوق بحيرة أونتاريو، كان الجو باردا، لكن لحسن الحظ لم تتساقط الثلوج؛ ففي منتصف أبريل لم يكن ذلك ليشكل أمرا نادر الحدوث في تلك المنطقة، ثم الضباب المتكاثف الذي يتخذ شكل جرس ضخم فوق مدينة شيكاجو. في المساء، استقلت من هناك متن الطائرة المتجهة إلى أوروبا، ثم أمريكا، ثم أوروبا. كانت تغير القارات بأسرع مما تغير ثيابها الداخلية. وفجأة بدأت الطائرة تنزلق بين جبال من الغيوم المتكاثفة فوق مدينة فرانكفورت، ثم اخترقت ستارا من قطرات الأمطار المتساقطة، لكنه سرعان ما أسدل وراءها ثانية بمجرد عبورها. لم يكن ثمة مفر، وللمرة الأولى تستشعر حتمية عودتها تسري في بدنها كله. لماذا أنا هنا أصلا؟ ولماذا هذا السؤال الآن تحديدا؟ ألم يكن الأمر جليا؟ بلى. كان علي الرحيل كي تصير المسألة في طي النسيان إلى الأبد. والآن لدي فرصة جديدة.
وصلت الطائرة مهبط الطائرات وتوقفت. أصدرت الأقفال المعدنية لأحزمة الأمان صوت تكتكة فيما كانت الريح تعمل فرشاتها على نوافذ الكابينة، فترسم لوحات خلال زخات المطر. أضاءت السماء بلون رمادي فاتح من بين خطوط الماء الرقيقة. اختلست فاندا النظر إلى ساعة يد جارها التي أشارت عقاربها إلى الثانية عشرة إلا الثلث؛ هبوط حسب الموعد بالضبط.
تبعت فاندا تيار المسافرين في ولوجهم تيه المطار. اضطرت للانتظار مدة أمام سير نقل الأمتعة، فقد كانت حقيبة الظهر خاصتها ضمن آخر مجموعة أمتعة. جرت تجاهها، وحيتها التحية اللائقة بصديق قديم، فقد كانت الشيء الوحيد الذي يستقبلها لدى عودتها إلى الوطن بعد طول غياب. «د. فاندا فالس» مكتوبة بأحرف سميكة على البطاقة الصغيرة الملصقة على الحقيبة، وكذلك العنوان في ماربورج حيث يمكن لها أن تمكث لبضعة أيام. الأمر صدق إذن. لقد عادت.
على السلم الكهربائي الموصل لمحطة القطار علقت حقيبة الظهر على كتفها، بينما أسندت الأخرى الكبيرة بالعرض أمامها حتى لا تنزلق بعيدا. تدافع الناس من خلفها، وشعرت بالحر. كانت ألمانيا ضيقة بحق. أخذت فاندا تقطع الطابق الثاني جيئة وذهابا وهي حائرة بين الخرائط الموضحة لمواعيد قدوم عربات المترو المختلفة. لا توجد لوحة إرشادات إلكترونية تشير إلى وصلات رحلات القطارات البعيدة، وكذلك لا يوجد أولئك الرجال السود في زيهم الموحد الذين سيدلونها على الطريق قائلين بلكنة مميزة: «رحلة سعيدة، سيدتي.» لقد كان الناس يحثون الخطى بجوارها، وقد بدا أنهم يعرفون طريقهم جيدا. كانت تشعر بقوة اندفاعهم تتجاذبها، لكنها قاومت غواية اتباع هذا الزخم، ثم اكتشفت بما هو أقرب للصدفة إشارة لمكان بيع تذاكر القطار.
أصدرت عجلات الحقيبة صوت صلصلة على قرميد الأرضية، بينما المسافة الوعرة تأبى الانتهاء، والضوضاء تكاد تصم الآذان. كان المارة ينظرون إليها فيرمقونها شزرا. مرحبا بكم في ألمانيا. أخيرا وصلت إلى صالة البيع، فإذا بها تجد طابورا من البشر يصطف أمام شباك بيع التذاكر الوحيد، فانخرطت في الطابور وانتظرت دورها. كانت الصالة ضيقة، وتعبق برائحة المعاطف الرطبة والعرق البارد، فما كانت تصلح للتنفس. وبمجرد أن وصلت إلى الشباك ابتاعت تذكرة أول مواصلة إلى ماربورج وحثت الخطو نحو المترو. •••
أشارت لوحة الإعلانات الكبيرة بمحطة فرانكفورت الرئيسية إلى تأخر جميع قطارات المسافات الطويلة القادمة من الجنوب. تدافع الناس للخروج من العربات المزدحمة عن آخرها، وتزاحموا للالتحام بتيار المسافرين المتدفق كأمواج الفيضان المالحة في اندفاعها نحو مصب نهر يرفض أن يعوقه عن هدفه عائق ليتبدد في الأراضي الشاسعة. دافعت فاندا الحشود بمنكبيها لتفسح لنفسها طريقا يوصلها إلى رصيف قطارها. اندهشت من البساطة التي أنجزت بها هذا الأمر بعد عامين من التكيف على نمط الحياة الأمريكية. ولأنها كانت منهكة القوى، تاقت نفسها إلى مكان دافئ تستطيع أن تغمض فيه عينيها وتستسلم لحالة الوهن التي تعتريها. وقفت قاطرة إقليمية مغادرة إلى «ترايسا» في انتظار انضمام سائر العربات فيما تدلى من نافذتها ذراع مكسوة بشعيرات حمراء. «معذرة» قالتها بالإنجليزية ثم انتبهت لهذا الخطأ من فورها. فظهر الرأس الأشعث لسائق القاطرة، ولمعت عيناه الزرقاوان. فكاد لسانها ينطلق مجددا بعبارة إنجليزية لكنها ابتلعتها هذه المرة. «أريد الذهاب إلى ماربورج.» كانت نبرة صوتها أقرب لنداء فتاة صغيرة تستجدي.
فأومأ الرجل برأسه مشجعا إياها: «فقط اركبي يا سيدتي الشابة.»
كانت معظم المقاعد في القطار قد شغلت. وكافحت فاندا من أجل المرور عبر قطع الأمتعة التي تسد الممرات، ثم وجدت أخيرا مكانا مجاورا للنافذة في الدور السفلي من العربة الأولى. تركت حقيبتها في الرواق، بينما وضعت حقيبة الظهر على حجرها. وعلى المقعد المقابل لها، لكن بانحراف طفيف، تساقط جسد شاب يلهث بقوة وكأنه يعدو. أسهمت ملابسه الداكنة في إبراز ما به من شحوب، خلع نظارته وأخذ يمسح البخار المتكاثف على عدساتها بقميصه القطني. في تلك الأثناء تلاقت نظراتهما لوهلة. لم يبتسم، فنظرت فاندا إلى الجانب، ثم لمحته بطرف عينيها وهو يشبك ذراعيه أمام صدره ويستدير نحو النافذة. أما هي فتركت رأسها يغوص في حقيبتها. شعرت بثقل أجفانها، وبعينيها تغمضان، فانزلقت بخفة على أوائل موجات النعاس الغائمة. انتبهت من غفوتها إثر دفعة خفيفة. كان القطار قد بدأ التحرك ببطء نحو الشمال متأخرا خمس عشرة دقيقة عن موعده.
لمحت من نافذتها محلا تقليديا لبيع نماذج لبيوت الدمى. حتى العمارات العالية كان بها ما يوحي بحسن التصميم. ثم جاءت مجموعات من البساتين والحدائق الضيقة، ثم مروج، وبعض الكفور. ثم أخذت الأشياء التي تحيط بها في التلاشي وكأن فيلما يعرض كواليس طفولتها قد بدأت مشاهده تمر على النافذة. عاد بها إلى الريف ثانية، إلى ذات المكان الذي لم ترد قط أن تعود إليه. إلى بكرة صباحات الأحد حين كان والدها يحتسي كل النبيذ المقدم على المائدة، وفي وقت الغداء تتلو الأم الصلاة قبل تناول الطعام ثم يستمعون إلى موعظة القس بعد الظهر. حين بلغت الرابعة عشرة تبادلت في عيد الرماة قبلات خاطفة على العربة الدوارة بالملاهي ثم لحقت بشلة من الشباب المتحمس على الموتوسيكلات إلى صالات الديسكو في الجوار. وفي الشتاء، كانوا يذهبون إلى فينتربيرج، وفي الصيف يسافرون إلى مونيزيه. حين أتمت التاسعة عشرة غادرت دون أن تنظر وراءها ولو لمرة واحدة أخرى. قبل عام توفي والداها، أحدهما تلا الآخر بفترة وجيزة. لم تستشعر أي حزن، فقط شعورا مكتوما بالارتياح؛ ولذلك فإنها لم تحضر الجنازة أيضا، فلم تكن لتتحمل طقوس النفاق أمام قبريهما. كان أمامها الكثير من العمل ولم يكن ما معها من مال يكفي نفقات تذاكر السفر إلى أوروبا. لم يكن في الأمر ادعاء، وكانت حجة مناسبة في ذات الوقت. توقف أخوها روبرت عن الكتابة لها منذ فترة. لا بد أنه كان غاضبا عليها. ولا يمكن أن تلومه على ذلك. في مكان ما في حقيبتها يستقر خطاب موثق العقود، وفكرت في نفسها أنها سوف تضطر إلى الذهاب إليه. وفي الخارج، امتزجت درجات الرمادي خارج النافذة لترسم لوحة كئيبة للطبيعة. يا ترى كيف تبدو ماربورج؟ «مكان لطيف» كان صوت ريك لا يزال يرن بوضوح في أذنها. ألم يغمغم رئيسها الأمريكي بشيء عن قصر ما؟ تبهم الأصوات قليلا فلا تكاد تبين. أما هي فقد كانت تفضل السفر إلى هامبورج.
أخذ الشاب الجالس قبالتها يتحدث في الهاتف. هل يجوز أن تخاطبه؟ كانت فقط تريد أن تطمئن أن السيدة التي تعرفها كيرستن قد سلمت الجارة مفتاح الشقة. نعم، إن كيرستن عطية من السماء؛ فقد حضرت في الوقت المناسب تماما إلى روتشيستر لتؤدي تدريبها العملي في المعمل. كانت فاندا مفلسة تماما؛ لذلك كانت في غاية الامتنان أن سمحت لها كيرستن بقضاء أسبوعين في مسكنها بماربورج. وكان ذلك بمثابة مساعدة لتبدأ حياتها، تسمح لها أن تبحث عن شقة بهدوء وأن تنظم الشكليات المتعلقة بالوظيفة الجديدة.
أنهى ذاك الشخص ذو الهاتف المحمول مكالمته الهاتفية، ثم أعاد دس الهاتف في جيب معطفه، وسحب منه قصاصة ورق وفردها ببطء. كانت عيناه تتقافزان في اضطراب على الورق، وكانت هيئته بشعره الأشعث تشبه قائد فرقة موسيقية ترن في رأسه النغمات، على أنها لم تكن موسيقى كلاسيكية، بل إيقاعات أكثر تهديدا، مثل: «غن لي أغنية الموت.» وحين طوى الورقة ودسها في الجيب الداخلي لمعطفه كان عواء الهارمونيكا يرجرج جمجمتها. •••
كان الشاب - أندرياس - متأكدا أنها تراقبه منذ فترة، وحين رفع ناظريه أدارت هي رأسها نحو النافذة بسرعة. أيفترض أن يعرفها من قبل؟ لن يستطيع الآن تحديدا أن يدقق في ملامحها. وجه جميل بلا شك، رغم أن أيا من تفاصيله لم يكن يعجبه حقيقة. كانت نظرتها جامدة، وبشرتها شاحبة، وشفتاها جد رفيعتين، أما النمش على أنفها فقد بالغ في إكسابها مظهرا طفوليا. أعجبه شعرها فاحم السواد، رغم أنه قصير جدا، وهو يحبذ لو كان أطول قليلا. لم يكن قط ضد الأبهة التي تصفف بها لاريسا شعرها ولا رائحته الزكية. لماذا لم يطلعها على الحقيقة مؤخرا؟ لم يكن عليه سوى أن يقول «نعم». رأى نفسه مرة أخرى، مستندا إلى إطار باب الحمام، وقد دفن يديه في جيوب بنطاله، وأخذ يراقب صديقته وهي تحزم أمتعتها، كانت ترتب لرحلتها، أما هو فسيسافر على وجه السرعة إلى ميونخ؛ فقد رجته أمه أن يأتي سريعا، إذ كان والده كعادته دوما متعاليا متفاخرا، حتى في موته؛ لذا فإن إجراءات الجنازة والدفن كانت تستهلك من الوقت ما هو جدير به. «ألا تحب أن أصحبك؟» لقد كانت الشفقة في عيني لاريسا هي ما استثارت رفضه. «يجب أن تفكري الآن في نفسك. أسرتي هي شأني وحدي.» كان يريد أن يبدو مسترخيا، فتحدث بصوت عميق. لم يكن يريد أن يثقل عليها بمشاكله فيسلب منها فرحتها برحلتها التي طالما تاقت إليها. شعر أن إيماءة رأسها تحمل له امتنانا. كان مهما له ألا يكون انطباعها الأخير عنه هو صورة العاجز المحمل بمشاعر الذنب كما كان يشعر حقا، لكنه في هذه الأثناء يتوق إلى أن يدس رأسه في شعر لاريسا الغامق المصفف كلبدة أسد، وينسى نفسه فيه؛ لكنها كانت في طريقها إلى مطار فرانكفورت. تمنى لو أنها تطل من النافذة كما يفعل هو الآن، تمنى لو أنهما يعيدان التعرف أحدهما على الآخر ولو للحظات وجيزة. في وقت ما رن هاتفه المحمول. «أين أنت الآن؟» جاء صوتها مليئا بالثقة. لكن قطاريهما كانا قد تفرقا من زمن. ظل ينظر لعربة الأمتعة الكبيرة المستقرة في الممر. كانت بطاقة شركة الطيران التي تحمل رقم الحقيبة لا تزال تتدلى من مقبضها. تنهد. البعض يأتي والآخر يمضي.
أخرج أندرياس ثانية من جيبه القصاصة التي دسها له غريب ما في جنازة والده. كان يقف على القبر إلى جوار والدته، ومر عليهم المعزون وسلموا عليه وشدوا على يديه؛ أناس لم يرهم من قبل قط لمسوه، أربكوه، ثم تركوه خاويا. كانت عيونهم تحوي دائما نفس السؤال، وكأنه يستطيع أن يقدم إجابة عن الموت المفاجئ لأبيه. أحيانا أيضا كانت المقابلة بلا نظرات على الإطلاق، مجرد مس خفيف بأطراف الأصابع. في وقت ما خفض هو أيضا ناظريه. لا يذكر كم من الوقت ترك يديه تتناوبها وفود المعزين. ثم فجأة وجد تلك الورقة بين أصابعه، وحين رفع رأسه وجد شابا واقفا أمامه، في منتصف العشرينيات، لا يمكن أن يكون أكبر منه هو نفسه. كانت نظراته جادة وتكاد تكون مشجعة. استغرق أندرياس بعض الوقت كي يدرك أن شيئا آخر كان يحدث هنا، لكن الوقت كان قد تأخر واختفى الشاب. في اللحظات الأولى شكك في عقله؛ هل كان ما رآه خيالا؟ لكن كانت معه الورقة.
مر بعينيه سريعا على الأسماء المدونة في قائمة، ووجد أن قليلا فقط منها كان ألماني الوقع. إنها مجموعة عالمية. قام بعدها، بلغ عددها العشرين شخصا. كان معظمها يحمل لقبا. لكن فيما عدا اسم أبيه لم تشكل له قائمة الأسماء أي معنى. قبل شهرين - في فبراير - تشاجر معه الشجار المعتاد، لكنه يومئذ لم يكن يدري أنها ستكون المرة الأخيرة.
الفصل الثاني
روابط تاريخية
جلس أندرياس هيلبيرج في مكتب والده. كان يغمض عينيه بين الحين والآخر من فرط بياض صومعة والده. فأشاح بوجهه، فوقعت عيناه على صورة الرزنامة، وهي صورة لامرأة أفريقية مطبوعة بحجم كبير وألوان براقة على ورق مصقول. إنه ذلك الجانب من أفريقيا الذي يخاطب السياح: أفريقيا العفية. وكانت الصورة عبارة عن شعار شركة أدوية، وكان هذا في شهر فبراير. أين إذن الرابط بين الصورة وبين الوقت المشار إليه من العام؟ لم يفهم أندرياس شيئا. أعاد النظر إلى والده الجالس خلف المكتب، بروفيسور جونتر هيلبيرج مرتديا - كما هي الحال دوما - رابطة عنق وبالطو كبير الأطباء مزررا بإحكام. «علام تعمل حاليا؟» لا يزال سؤال أبيه معلقا في أجواء الغرفة. ماذا عليه أن يقول له؟ إنه يفكر في أن يكتب موضوعا للدكتوراه حول إلغاء التفكير في الأبحاث الطبية الحديثة؟ حول تآكل اللغة لدى العلماء؟ الخطأ في مفاهيم العلوم الغربية وتطبيقاتها التقنية؟ الوهم في ادعاء حرية التصرف وأزمة نجاح السلوك الإنساني في حين لا يمكن توقع عواقبه؟ على الأرجح سيقوم أبوه بدحض أفكاره على أنها خزعبلات فلسفية، أفكار لا يمكن أن ينجح لو تتبعها، ولن تمكنه حتى من إعالة أسرة. خطرت على باله جملة لم تكن له، لكنها تمتلك من المواد الناسفة القدر الذي يحتاجه الآن: «من الممكن توظيف القنابل النووية بالكيفية نفسها التي توظف بها رصاصات المدافع»، وقد سدد كلمات الرئيس الأمريكي إيزنهاور تلك إلى صدر والده. رأى كيف أن أباه عض على شفتيه، وأخذ يحرك رأسه يمنة ويسرة مثل بندول الساعة وكأنه يبحث عن منطقة وسطى. «كنت أظن أننا أغلقنا هذا الموضوع أخيرا وتركناه وراءنا. أنت تعرف رأيي. هذا ما قاله رجل عجوز قبل خمسين سنة. هذه أعراض تجاوزناها من زمن. اسمع يا ولد. توقف عن شعورك بالشفقة على ذاتك. عد إلى الواقع.» ثم أخذ في إلقاء محاضرة حول معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية، وأننا تعلمنا منها درسا للمستقبل، هو أن كل تكنولوجيا مفيدة من الممكن أن يساء استخدامها، ولهذا فإن أي استخدام ينبغي أن يخضع للنظام بل والرقابة، ولأننا نحن معنيون بما حدث في الماضي فقد تعلمنا في هذه الأثناء أن نتعامل بمسئولية. كان أندرياس قد توقف عن الإنصات لوالده منذ مدة؛ إذ لم يكن يحب والده حين يعظ، لكن صيغة الجمع لضمير المتكلم «نحن» في الجمل التي يستعملها والده، هذا الضمير الجامع الذي يبدو وكأنه ملزم، حفر مكانا في ذاكرته، بينما كانت عيناه تحدقان بالمكتب وتتنقلان بينه وبين والده. يتذكر كلمات مثل «حبات كرز»، وكيف أن والده كان ينطقها بطريقة يهيئ للسامع معها أنه سيقذف نواتها من فمه. تأمل أندرياس الصورة العائلية التي تحوي جروا حديث الولادة. إطارها لصانع مشهور، أما الوجوه فيها فقد أصبح من الصعب إعادة التعرف عليها. صبي قامته في نصف طول أندرياس اليوم، والجرو الصغير رمادي، مشلول، عاجز عن ضبط حركته. إلى جوار الصورة وجد كرة الزجاج التي كان قد أهداها إلى والده قبل كم يا ترى من السنين؟ لم يعد يذكر. والآن، وكرة الزجاج لا تزال في مرمى بصره، تقفز إلى ذاكرته صيغة الجمع تلك في ضمير المتكلم «نحن»، بينما يقول بصوت خافت: «نحن علينا أن نتعلم أن نفكر بطريقة مختلفة.»
خيم الصمت لوهلة. مر طائر صاخب من جوار النافذة، بينما كانت الشمس تصنع في المنتزه بالأسفل قبابا من حواف كومات الثلج وقطع الجليد المدببة التي طرزت حواف طرقات الممشى، فبدت الطبيعة وكأن رجل الثلج قد ألقى فيها صندوق ألعابه. كانت ضاحية جروسهادرن تقع مباشرة عند سفح الحصن الذي تحول إلى مستشفى في جنوب غرب ميونخ. كانت ريفية الطابع، تكاد بصفائها تبدو كما في الأناشيد الرعوية. في الواقع كان أندرياس يريد أن يمر على والديه مرور الكرام بعد انتهاء إجازته الشتوية التي قضاها في التزلج على الجليد. كان عليه أن يتوقع أن والدته ستتصل بأبيه في العيادة، وأن أباه سيطلب منه الحضور إلى جروسهادرن لأن عنده مواعيد من الصعب تأجيلها. وفعلا ذهب إليه أندرياس، لكنه ظل جالسا مثل مريض أمام كبير الأطباء، مريض يرفض اتباع روشتة طبيبه. أزاح جونتر هيلبيرج الكرة الزجاجية جانبا وتنهد. تحدث بصوت مشروخ، منخفض عن عادته في السابق، وكان صوته خائر القوى على نحو غريب. «نعم ... التفكير ... كنت دائما تستطيع أن تفكر جيدا ... وأيضا كنت تأتي بأقوال ذكية ...» رفع أندرياس حاجبيه وابتسم برضا.
وقال: «أنت تتملقني؛ إن جملة «نحن علينا أن نتعلم أن نفكر بطريقة مختلفة» ليست جملتي، أنا فقط استشهدت بها. إنها جملة من بيان (مانيفيستو) ألبرت أينشتاين ... لنقل إنها منقولة من آثاره في الأخلاقيات والسياسة. لقد توفي أينشتاين بعد ستة أيام من نشره.» حدق بلا تعبير في وجه والده. لم يكن من السهل عليه أن يكتم انتصاره. كان يحب حكم أينشتاين؛ فقد كانت من الروعة بحيث تناسب استخدامك لها في أي سياق شئت، فتجعل الناس يغرقون على إثرها متفكرين في صورهم الداخلية. ولعل كل واحد رأى بها خلاف ما يرى الآخر. لقد كانت تفتح نوافذ على أرواحهم وتجعلهم على نحو خاص أكثر استعدادا لاستقبال أفكار جديدة. حبس أندرياس سؤاله مدة حتى بدت أمارات احتقار على زوايا فم أبيه. «وماذا تريد أنت أن تترك للبشرية؟» «بالتأكيد ليست أفكارا غنية بكم السعرات الحرارية التي ينتعش بتناولها جيل من طلاب الفلسفة.» كانت هذه هي الضربة المسددة ضد تمرده. فدراسة الطب فصلين كاملين كانت كفيلة بشفائه؛ لقد تجرأ وفعلها ابن كبير الأطباء وهجر دراسة الطب. كانا يقفان على حافة الصدع الذي انشق في علاقتهما ... تلك الهوة التي ستباعد بين حياتيهما من الآن ولخمس سنوات قادمة، هوة «القديس أندرياس» بحسب وصف والدته للفجوة التي تفصل بين الرجلين في حياتها، وكأنه عليه وحده أن يتحمل القسط الرئيس من الذنب بسبب ذلك. في العام السابق وفي أثناء رحلة عودته بالطائرة من سان فرانسيسكو أخذ أندرياس يبحث عن صدع عظيم في قشرة الأرض، لكنه لم يتعرف إلا على خط أسود، كسر رقيق على جدار غلاف أرض صدئة، قد يثير الضحك حين تنظر إليه من ذلك الارتفاع الشاهق، لكنه رغم كل شيء مليء بالبارود. «نحن نقف أمام اختراق علمي هائل: فرط الحرارة. إننا نحقن جزيئات النانو في أورام المخ ونقوم بتسخينها، فيتحلل نسيجها ويختفي الورم. أمر لا يصدقه عقل! لكنه علاج ناجع.» بدا الأمر وكأن أباه سيشرع في إلقاء محاضرة. واصل الأب حديثه عن أن تكنولوجيا النانو ستجهز ما يكافئ «صندوق أدوات» يسهم في تقدم الطب، فسيمكن مثلا التحكم بصورة أفضل في حجم الأورام، واستخدام الأدوية بشكل أكثر دقة وتحديدا وفعالية. زميلي يوردان من برلين قد أنجز بالفعل إسهامات بارزة في هذا المجال. أصغى أندرياس لرنة الصرير الآسرة في صوت والده، تلك الرنة التي يحرص بها على إيقاع مستمعيه في شراكه كلما تحدث عن نجاحاته. «أندرياس يوردان هو أحد أفضل المتخصصين في هذا المجال، ولا يستسلم بسهولة»، الصمت الذي أعقب هذه الجملة ينتمي إلى أساليب جونتر هيلبيرج البلاغية. فقد قال والد أندرياس ذات مرة: «إن الهجوم اللفظي مثله مثل الحقن. تجني أعظم الأثر عندما لا يتمكن غريمك من الحركة بعد نغزة مفاجئة، بعدها ستنساب كلماتك إليه من تلقاء نفسها.» لكن هذه المرة تعمد أندرياس ألا يعطي الفرصة لإبر والده أن تمسه.
تعثر صوته فوق النبرة الرنانة: «ألم تفهموا الأمر بعد؟ أنتم تعملون على جزيئات متناهية الصغر، وتتحدثون عن الاختراق الطبي الكبير؛ ألم تتوفر لكم الرؤية الثاقبة حقا أم أنكم فقط تدعون؟» لوى شفتيه سخرية ثم قال: «الأمر لا يتعلق فقط بالكفاءة حين يبرز التميز، فهناك أموال طائلة تتدفق في هذا الجنون العظيم.»
أشاح جونتر هيلبيرج بوجهه وقال: «هذه حماقات.»
واصل أندرياس حديثه بلا تردد: «كلها أمور مرتبطة ببعضها، لا يمكن أن تحدث تغييرا في نقطة ما دون أن يكون لذلك أثر في شيء آخر، حتى ولو كان بعيدا عن موقع النقطة الأولى. نحن تنقصنا الرؤية الشاملة.» «آه، إنها القصة القديمة، قصة جناح الفراشة الذي بمقدور ضربة واحدة منه أن تثير إعصارا في مكان ما من العالم، سمعناها من قبل.» بدت على والده أمارات التعب. «قصة مدهشة أليس كذلك؟ ما أعظم أثر الجناح الصغير حين يضرب الهواء ضربا رقيقا! فجأة لا يبدو كل شيء محددا. لا بد أن نحسب حسابنا، إن برتقالة واحدة تتدحرج من فوق هذه الطاولة من الممكن أن تسبب هزة في جبال الهمالايا يقضي على إثرها أحد الوعول نحبه. أنت تمتدح مزايا تكنولوجيا النانو، رغم أنك - أنت خاصة - ينبغي أن تعرف أن عواقب هذه التكنولوجيا لا يستطيع أن يقدرها أحد بشكل حقيقي حتى الآن.» «لهذا الأمر مسئولون يقومون عليه، أنا ليس في وسعي سوى أن أدرأ الكوارث.» «... وتخترع أيضا نعالا مصنوعة من الكاوتشوك، حتى لا تنزلق من على السلم الوظيفي. لا بد أن تصور السقوط إلى القاع أمر مؤلم لك كثيرا.» عض أندرياس على شفته، فلم يكن ما يقوله يجدي، وهو لا يعرف سوى أن يواصل الآن ما بدأ. «أنت تكافح المرض فقط لأنك تستطيع أن تفكر في فئات «الجيد والشرير»، لكن ماذا لو كانت الأمراض ليست سوى محاولة كائن حي ما أن يتكيف مع بيئته؛ أي محاولة لإيجاد حلول، حالة مزاجية لطيفة للطبيعة؛ رغبة في التجريب؟ فلنسمه ببساطة القدرة على التغير، تلك القدرة التي لا تريد أنت أن تقبلها لأنك تجلس وراء مكتبك الفاخر، وتغازل إحصائياتك، من أجل أن تدعمك الأرقام، حتى لو كان المريض قد مات فعلا. وفي اللحظات الأخيرة تتوقف عن التفكير، ربما هي أيضا مجرد نتيجة موجزة ومتعسفة، تتبخر كل التوكيدات، بوووم. هذا أيضا شكل من أشكال الفوضى. النظام فالسيطرة وسلاسل التأثير أحادية البعد، كلها أمور نادرة ندرة الحظ السعيد ...» فكر قليلا ... «مثل الحظ الذي يمكن أن يحالفك لو اشتركت في مسابقة كيديتش مثل السحرة في روايات هاري بوتر.» كان أندرياس يلهث، بعد أن أطلق لنفسه العنان وانخرط في إلقاء محاضرة. لم يكن يختلف عن والده قيد أنملة. «إن لم تخني الذاكرة، فإن هذه المسابقة تقتضي أيضا مهارة، ولا تعتمد على الحظ فحسب.» قالها جونتر هيلبيرج وهو ينهض واقفا، بدت خطواته الأولى متصلبة وغير متزنة، كاد يتعثر، ثم تمالك نفسه واتجه نحو النافذة. «هل ثمة ما يسوءك؟» سأل أندرياس، لكن والده هز رأسه نافيا، ثم دس يديه في جيبيه بالكامل ما عدا إبهاميه اللذين ظلا معلقين على حافتي جيبي ردائه الأبيض مثل ريشتين وحيدتين. كانت بهما رعشة خفيفة، واستطرد قائلا: «لا يقول مثل هذا الكلام إلا من يضيع وقتا طويلا في التفكير. أيها الشاب، ليتك فقط تعرف حقيقة الأمر.» «أعرفها بالقدر الكافي. ألم أكن أيضا مواطنا في هذا المنزل؟» أدار الوالد ظهره له، فرأى أندرياس كيف كان أبوه يشد عوده. «لا أعتقد أنك تصغي حقيقة لما أقول.» تحدث جونتر هيلبيرج إلى النافذة وكأن في المنتزه بالأسفل جمهورا ينصت. «نحن نريد أن نتحدى الحظ، وحتى نحقق ذلك فلا بد من التحلي بمهارات حقيقية؛ فهذه هي فرصتنا الوحيدة.» ها هو ذا الطبيب يتحدث بحماسة وقلق دائم على مصير مرضاه، فلكأنه الفارس الذي يظهر في الملمات. تصفيق حاد ثم ليسدل الستار. غضب أندرياس لأنه وقبل أي شيء آخر شعر فجأة بحسد تجاه والده يأكل قلبه. كان والده يبدو حقيقيا في صورته المتضخمة عن ذاته، شديد القناعة بنفسه، وله فوق ذلك جاذبية عالية. «علينا أن نفهم القوانين التي تقود حركة العمليات الحيوية، عندئذ فقط يمكن لنا أن نمارس تأثيرنا عليها.» تحول جونتر هيلبيرج ثانية نحو أندرياس وقال: «المسألة تشبه لعبة بازل كبيرة، لن نستطيع أن ندرك مدى تعقيدها على النحو الصحيح إلا بعد أن نستخرج القطع الصغيرة منفردة، ثم نفحصها بدقة.» «وحين تبدأ بفحص كل حبة رمل على حدة، ثم في النهاية تجمع حبات الرمال بعضها مع بعض، تجد نفسك مرة أخرى أمام كثيب رملي قصير العمر في أحد مواقع البناء، ولست أمام شاطئ النخيل الذي وضعته ذات يوم نصب عينيك. ماذا تمثل حقا حبة الرمل؟ فقط السياق هو ما يجعلك تدرك موقعك الذي تقف فيه. الحقيقي هو حين يمر الهواء الساخن على الشاطئ الرملي فيغبش الصورة قليلا أمام ناظريك، عندها تكون قد وصلت. إن افتراض أن الكون مكون من أجزاء هو محض فكرة مثالية.» هز جونتر هيلبيرج رأسه في وهن. «هل هذا استشهاد آخر؟ فكلامك يبدو مثل كلام الدلاي لاما نفسه.» خطا إلى جوار مكتبه. تكومت على الطاولة الجانبية الصغيرة مجلات وأكداس من الورق. رفع بعض الورقات ثم أعاد وضعها في مكان آخر. خشخش الورق بين يديه المرتعشتين. «لن يساعدنا على عملنا تلك المقارنات الرومانسية، نحن في حاجة إلى أدوات ملموسة تمكننا من السيطرة على مشكلاتنا.» سرت في هيئته المتضائلة رعدة خفيفة، بينما صفر في نفس اللحظة جهاز استدعاء الأطباء الخاص به. توجه جونتر هيلبيرج نحو الهاتف وطلب الرقم.
وقال: «سأحضر فورا.» ثم تحول ناحية أندرياس وقال: «آسف، لدي مشاغل.» انزلق الهاتف المحمول من يديه حين أراد أن يضعه في الشاحن، فتركه على المكتب، وفي الطريق إلى الباب استدار مرة أخرى.
وقال بوهن: «تمنياتي برحلة سعيدة. سنتواصل هاتفيا.» انتهى العرض. وخرج والد أندرياس بصورة أبطأ من المعتاد، وبدت مشيته متشنجة، لكنه ظل على هدوئه، لم يستشط غضبا ولم يوجه إلى أندرياس اتهامات كالعادة، لم يمنحه أي سبب يجعله ينتفض واقفا ويرحل صافقا الباب وراءه. سيرحل قطاره المتجه إلى ماربورج في غضون ساعة، لكنه كان يفتقد الدافع نحو نقلة نوعية في حياته.
ربما توجب عليه أن يغادر الآن، لكنه كان يفضل البقاء، في هذه الحجرة خاصة، حيث آثار رائحة والده لا تزال عالقة. ابتسم أندرياس لهذه الرابطة التاريخية، على الأقل ليس في مقدور والده أن ينكرها.
شعر أندرياس وقتها في رحلة عودته إلى ماربورج بخفة في روحه. ألم يكن يمثل هذا اللقاء نقطة تحول بينه وبين والده؟ إلا أن انقطاع الاتصال بينهما بعدها لم يعط لأندرياس سببا للقلق؛ لأنه لم يكن بالأمر غير المعتاد. لكن اتصال والدته به بعد أسبوعين ذكره بتلك الرجفة المتخفية التي لاحظها على والده . أصابه الخبر بالصدمة؛ فقد دخل والده في غيبوبة. كان جونتر هيلبيرج مستلقيا في نفس المستشفى الذي عمل به، ومع كل زيارة كان أندرياس يرى ستار الشك يسدل وستار الأمل يرفع، رأى كيف يستبد الخوف وتنتقل عدواه إلى كل المحيطين، بحيث لم تخف وطأته إلا تدريجيا بعد وفاة الوالد. قال الأطباء وهم يرفعون حواجبهم وكأنهم يخفون أمرا بينهم: سكتة قلبية. ذكروا أيضا الرعشة ونوبات اضطراب الحركة، والتي كانت تعذب والده منذ مدة، والتي لم يشأ قط أن يعترف بها، ثم بدأ أخيرا في علاج نفسه بنفسه، ثم انتهى كل شيء بسرعة فائقة. لم يعد في مقدور أندرياس أن يقول الكلمات التي طالما أراد أن يقولها لوالده. لن يستيقظ جونتر هيلبيرج ثانية. حتى في موته لن يستطيع الوصول إليه. ناهز عمره السبع والخمسين سنة من مدة قصيرة وكان قلبه قويا. لم يستطع أيهم أن يقدم تفسيرا لأندرياس حول استسلام والده بعد أسابيع قليلة. لم يكن في وسعه التحكم في مشاعر الغضب التي ظهرت أولا فحجبت مشاعر الحزن. كانت هذه الحالة الشعورية مألوفة لديه منذ سنوات، غير أنها الآن تسحبه في دوامة نسي نفسه فيها فارتطم بقاعها، وبدأ يلوم نفسه أنه لم يبح لوالده قط بأنه كان يفتقده كثيرا.
الفصل الثالث
أكاذيب بيضاء
استيقظت فاندا من إغفاءة قلقة، وحين نظرت من النافذة عرفت أنها وصلت جيسن من اللافتة المثبتة على رصيف المحطة. كانت ساعة يدها لا تزال تشير إلى الوقت في شيكاجو: الساعة السابعة، فأجرت الحسبة في رأسها، لا بد أن الساعة الآن الثانية بعد الظهر. لقد نامت ما لا يقل عن نصف ساعة. كان الشاب الذي يجلس قبالتها لا يزال في مكانه، مستندا برأسه إلى النافذة. هل كان نائما أم يتأمل المناظر في الخارج؟ لم تتمكن من رؤية وجهه، وتبددت رغبتها في الحديث إليه. تمطت وتثاءبت. هلا حاولت الشعور بالسعادة؟ حاولت أن تشجع نفسها، تستطيعين الآن أن تفعلي ما حلمت به دوما: تأسيس معمل للسموم، تنفيذ مشروعاتك الخاصة، قيادة فريق. لم تضطر إلى تفكير طويل حين أتاها ماكس شتورم في المؤتمر الذي عقد بالخريف الماضي، وعرض عليها منصبا في معهده بماربورج. لقد كان يتباهى أمامها مرارا وتكرارا بالتجهيزات التقنية المتقدمة والموارد المالية المتاحة في قسمه، كما أنه وفوق كل ذلك أشار إلى إمكانية حصولها على درجة الأستاذية. الأستاذ الدكتور الطبيب ماكسيميليان شتورم. لم يبد لها من ذاك النوع من الأساتذة الذين يمارسون سلطاتهم الأبوية على من يشرفون عليهم، وهو النوع الذي تفضل العمل تحت رئاسته، فقد كان يبدو مثل جرذ نحيل.
واصل القطار رحلته، أخذت فاندا شهيقا ثم أطلقت الهواء في تنهيدة على زجاج النافذة البارد، فتكون على الزجاج ضباب خفيف ما لبث أن تلاشى. نظرت إلى الطبيعة الرمادية المغسولة بمياه الأمطار نظرات حالمة. لقد عدت إلى وطني ألمانيا. كان عليها أن تقرص نفسها في وجنتها لتتأكد أنها لم تكن تحلم. وكأنها أتت من عالم آخر بعيد، بثتها شعاعاته لتعيد تكوين ملايين من جزيئاتها في حالة روحية فريدة ومادية جديدة. ما الذي أصبو إليه هنا؟ هل أتطلع إلى دفء صحبة ليس لي منها نصيب؟ أم أخشى أن أفوت عقد صلة ما بيني وبين الوطن؟ هل أخشى غلق الأبواب المتاحة؟ في أمريكا لست سوى باحثة نكرة في مرحلة ما بعد الدكتوراه بين عشرات الباحثين. الوظيفة مؤقتة لمدة سنتين. طبعا كان يمكن أن تقبل عرض الاستمرار لعام بحثي آخر في روتشيستر. منعها فقط تلك الطرقات التي كانت تتصاعد بطيئا من صدرها لتدق في حلقها. أحيانا كانت تداهمها ليلا وتجبرها على السهر حتى الصباح.
لا. لم تكن تريد أن تضطر ثانية أن تواجه مشاعر الخوف. حاولت أن تهدئ من روعها وتقول لنفسها كان صوابا أن ترحل في هذا التوقيت. أما ذاك الشيء فلن يلحظه أحد، خصوصا الآن بعد أن رحلت. فقد انتهى المشروع، ولن يقوم أحد بإعادة فحصه. لقد ضغط عليها ريك لأنه كان يحتاج إلى النتائج لينشر بحثه، فقامت بحذف بضعة أرقام. كانت من خاصة الباحثين. أكدت فقط على النتائج التي هي مقتنعة بها ببضع لمسات تجميلية على الإحصائيات، لتبدو البيانات قابلة للتصديق، وقد كانت تريد أن ترى اسمها منشورا على السطر المخصص لأسماء مؤلفي البحث. ففرصة النشر في دورية مرموقة مثل تلك لم تكن لتفوتها. هل كان بوسعها الاستغناء عن النشر؟ أي أحمق لم يكن ليفعلها. كان عليها أن تتصرف بهذه الطريقة إن كانت تريد التقدم في عملها. في النهاية، فإنها لم تزور، وإنما شذبت النتائج قليلا. كان الزملاء يسمون هذه التصرفات: أكاذيب بيضاء. هي ليست أكاذيب، لكن هي الحقيقة مصقولة قليلا. لمزيد من الوضوح والإفهام، يعني من أجل غرض طيب. هي فقط نصف الحقيقة. طبعا لا يمكن أن تلعب بنار كهذه دون أن تحترق أصابعك، فالحدود الفاصلة بين ذاك الأمر والخديعة ليست واضحة.
فتحت سوستة معطفها ومرت بيدها على رقبتها. هنالك كانت الثنية التي ورثتها عن أمها، لقد زاد وزنها. وخلف لها الشعور بالذنب توترا. عاشت عامين قلقين، لكنها تركتهما الآن وراءها. كانت حياة على الحافة عليك أن تقفز من فوقها إن عاجلا أو آجلا، وهذا ما يجب أن يتغير الآن. الوظيفة الجديدة مدتها ثلاث سنوات. ضحك شتورم بعد أن أخبرته بموافقتها، ومر فوق رابطة عنقه فاردا طياتها. «سنرى كيف سيكون أداؤك.» شعرت بعصارات من مرارتها تغص حلقها.
الفصل الرابع
نانوسنيف
كان ماكس شتورم يتطلع من نافذة غرفة الاجتماعات. لم تكن السماء التي تغطي ماربورج تختلف كثيرا عن مثيلتها في بوسطن في هذا الوقت من العام. تتساقط أمطار أبريل الخفيفة على العشب شاحب الخضرة الذي كان يتمدد بدلال مثل سجادة على كل المنخفضات والمرتفعات المتموجة على صفحة الأرض. احمرت عينا شتورم كالنار وهما تنظران عبر ستار المطر الرقيق. لكن هذه الخضرة لم تكن تمتلك من القوة ما يمكنها من بث طاقة في شبكية عينيه. فبالأمس ظهرا سافر من فرانكفورت وهبط تقريبا في التوقيت نفسه من اليوم التالي في بوسطن. استغرقت الرحلة ست ساعات طيرانا نحو الغرب، ومثلها ست ساعات متأخرة عند الوصول نتيجة فروق التوقيت. رغم ذلك بدت له الرحلة أطول. كانت ساعته الداخلية مضطربة بجنون. أرسلت شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة - اختصارا «بي آي تي» - سيارة إلى المطار لتحمله إلى فندق قريب من مقر الشركة. غادرت السيارة المدينة. كان يعرف الطريق الذي يمر بعدة طرق سريعة متشابكة تتجه إلى الشمال الغربي، إلى أن وصل بعد حوالي الساعة إلى بيدفورد.
أرهقه فرق التوقيت كثيرا رغم أنه هو تحديدا طالما عمل تحت ضغط الوقت. بذل مجهودا شاقا ليبقى يقظا حتى المساء، وبعد تناول الطعام مع مديري الشركة ذهب مبكرا إلى الفراش، ثم استيقظ حوالي الساعة الرابعة فجرا ولم يتمكن من النوم ثانية. نهض من فراشه وأعد لنفسه قهوة لا طعم لها، من تلك المتوفرة في حجرات الفنادق، ثم بدأ يراجع محاضرته. عليه ألا يستثير انتباه سامعيه في اتجاه خاطئ، يكفي أن زابينة ميرتينز كانت في غاية العصبية وهي تخبره بملاحظاتها قبل سفره إلى بوسطن بمدة وجيزة. ورغم أنه لم يكن يحب نوبات الانفعال لكنه أنصت إليها وحاول تهدئتها. في النهاية كانت هي واحدة من أفضل الباحثين العاملين معه، لكنها أحيانا ما تكون غارقة أكثر في العمل. تمنى لو أنها تمكنت أيضا من إبقاء فمها مغلقا. لم ينس أن يذكرها بمنتهى الوضوح بشروط الحفاظ على السرية التي وقعت عليها وقت اتفاقية التعاون مع شركة بي آي تي. كانت شكوكها تدور تحديدا حول التجارب الأولية التي تسبق المرحلة الثانية من الدراسة. طالما أنه لم توجد أدلة دامغة فلا ينبغي أن يعلم أحد بهذا الأمر، والآن خاصة، حيث يريد الأمريكيون مواصلة العمل معه. أي إشاعة، أي ثغرة من شأنها أن تفقده الخمسمائة ألف دولار المخصصة لتمويل المشروع.
وجد برنامج جلسة اليوم موضوعا على المنضدة أمامه. خلع شتورم نظارته وفرك عينيه، ثم أعاد ارتداءها؛ إذ كان من الصعب عليه التعود على العدسات الجديدة. ظل يطأطئ رأسه بشك إلى أن وصل إلى نقطة وجد الحروف تكتسب فيها معالم محددة، فعاد بأفكاره إلى زابينة ميرتينز. كانت مجرد ترس في ماكينة مؤسسته، ما أسهل إبدالها بغيرها! في الشهر القادم ستبدأ الباحثة الجديدة القادمة من روتشيستر عملها تحت رئاسته. هدأ نفسه بخاطر أن ميرتينز ستلزم الصمت. أخرج منديلا بلون البراعم البيضاء من جيبه وجفف عرق يديه فيه. تزعجه كثيرا الرطوبة في راحة يديه، ولحسن الحظ لم يكن الأمريكيون يعبئون كثيرا بالاتصال البدني. نظر في ساعته الروليكس، باق خمس دقائق على البداية الرسمية للجلسة في تمام التاسعة. •••
أحس شتورم بمخالب مدير الشركة تنغرز في كتفه وهو يحييه: «مرحبا ماكس.»
تكسر صوت ماكس من هول الصدمة المفاجئة كما يتكسر الغصن الرفيع، حتى أنه حاول أن يداريه بضحكة مفتعلة وقال: «صباح الخير يا باول.» «أرجو المعذرة، أعرف أن الوقت مبكر بالنسبة لكم، خصوصا في ظل فروق التوقيت وتغير المناخ، لكن الأمر شديد الأهمية.» رغم طغيان اللكنة الأمريكية على حديثه، فإن لغته الألمانية كانت رفيعة المستوى لدرجة تجعله يفهم كل الكلام، وهو ما يأسف له شتورم سرا؛ لأن هذا الأمر لن يسمح له أن ينسق مع محاميه في أثناء الجلسة دون أن يلاحظ أحد. تصدر باول تورمان بهيئته الضخمة رأس طاولة الاجتماعات، بينما أخذ صوته الرخيم يدوي في القاعة. «أين الدكتور لوزر؟»
فقال المحامي الذي أتى للتو من الحمام مصححا إياه: «بل لوثر، مثل مارتن لوثر، صباح الخير يا سيد تورمان ...» «آه نعم، مارتن لوزر، تذكرت الآن.» كان ينظر بعينيه الداكنتين الصغيرتين. وضع المحامي حقيبة أوراقه على الطاولة، ثم أزاحها بحيث توازي مقدمتها حافة الطاولة. وبدا شاحبا، فكان شتورم يبتسم له مشجعا. حتى لو لم يكن فعلا يؤاخذ تورمان على تصرفه الفظ، لكنه لن يجرؤ أبدا أن يدير له ظهره. فخلف إطلالة تورمان الساحرة يختبئ دب قطبي جائع.
دخلت ليندا فارن غرفة الاجتماع، وهي مديرة الإنتاج بقسم علاجات النانو. تعرف عليها شتورم بالأمس أثناء عشاء العمل. قدر أنها في نهاية العشرينيات من العمر، شقراء، زرقاء العينين، رشيقة وناعمة مثل ثعبان الماء، بدت وكأنها أنهت إخراج أحد المسلسلات الوثائقية المدبلجة لتنزلق لتمثيل دور جديد. تبدو وكأنها تعلق على فمها لافتة تعليمات «يرجى الابتسام» مكتوبة بالطباشير. تبعها ثلاثة رجال لم يكن شتورم يعرفهم. إنهم بالتأكيد محامو السيد تورمان.
تحول السيد تورمان ناحية الحاضرين وقال: «هلا عرفتكم ببعضكم؟» قالها بلكنته الأمريكية، فغطت على حدته في الحديث. «الدكتور ستيفن برايت من شركة لينكس فارماسيوتيكال، أهلا بك ستيف. وهؤلاء هم مايك بارنفيلد وجيم روس، حارساي الشخصيان»، وضحك بصوت عال وهو يومئ برأسه إليهما، «هذه دعابة طبعا. لكننا سعداء أن تمكنا من الفوز بهما في شركتنا قبل بضعة أشهر، لا بد أن تعرف أن شركة بي آي تي تحوي الآن قسما خاصا للشئون القانونية.»
ثم أشار تورمان نحو شتورم: «الدكتور ماكسيميليان شتورم من ألمانيا، معهد السموم جامعة ماربورج، وهو أيضا مدير شركة نبيكس، ومحاميه السيد رولف لوووثر.» سمع شتورم كيف أن لوثر تنفس الصعداء وهو جالس إلى جواره. طلب تورمان من كل الحضور في الجلسة أن يتخذوا مقاعدهم على الطرف البيضاوي من الطاولة، بينما ظل هو واقفا في المقدمة. «ليس لدي فكرة لم يوجد فقط اثنا عشر مكانا على الطاولة، لكني أؤكد أن ليس للأمر علاقة بأي مؤامرات دينية»، ثم نظر إلى لوثر الذي كان عرضا يدون شيئا ما، واستطرد: «هل تعرف أن يهوذا الإسخريوطي لم يكن أصلا حاضرا العشاء الأخير، وأن يسوع كان قد صرفه؟» ابتسم هازئا، وصمت قليلا ثم قال: «وعلاوة على ذلك نحن فقط سبعة أشخاص، مما سيجعل إثبات الخيانة أسهل، في حال وجد بيننا خائن.» رف جفن شتورم الأيسر؛ لقد أبرز تورمان الحدود الفاصلة غير المرئية بين الحاضرين للجلسة، فلكأنه رسمها بالقلم الأحمر. •••
شغل تورمان جهاز العارض الضوئي المعلق في سقف حجرة الاجتماعات، فألقى شعاعه على الحائط الشعار الأزرق التقليدي لمايكروسوفت. أمسك في يده جهاز التحكم عن بعد، فتسارعت على الصورة المعروضة على الحائط نقطة بيضاء تشبه السهم. في نفس اللحظة ظهرت صورة بانورامية لمدينة بوسطن في أضواء المساء. أسند شتورم ظهره، ألم ير تلك الصورة على أحد الكتالوجات بغرفته بالفندق؟ نهضت ليندا فارن واتجهت نحو الباب. ضغطت على عدة مفاتيح فانسدل على إثرها ببطء قماش أسود من السقف محدثا أزيزا خفيفا، حتى غطى النافذة من الداخل. ساد ظلام في الغرفة فكأن الليل قد حل، ولولا خط الضوء الرفيع الفاصل بين الستائر وحواف النافذة لتصور شتورم أن هذه كواليس رحلة عبر الزمن في اتجاه الشرق، نحو الجانب الآخر من القارة.
الشريحة التالية عرضت شعار شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة ومعه الاختصار المتداول بي آي تي. «نحن نريد اليوم التوكيد على المرحلة الثانية من التعاون المشترك» قالها تورمان وهو يفرك يديه وكأنه سينتقل حالا لتنفيذ المهمة. «ولأجل هذا الأمر علينا توضيح بعض الشكليات، وإن كانت هامشية من وجهة نظري.» تنحنح ورفع شريط بنطاله إلى خصر بدنه الضخم. «بالأحرى على خبرائنا المختصين بالشئون القانونية العمل على ذلك. ومن أجل أن يستوعبوا هم أيضا ما نريد أن نفعل، أريد أن أستعرض بإيجاز النقاط الرئيسة لبحثنا المزمع.» كانت عيناه اليقظتان تتجولان هنا وهناك بين المحامين الثلاثة. «لنقل إننا اليوم نتحدث بلغة قناة «ناشيونال جيوجرافيك» العامة بدلا من قناة «نيتشر ميديسين» المتخصصة، على سبيل المجاملة لكم. وأرجوكم قاطعوني لو استشكل عليكم فهم أي أمر من كلامي.» بعدها ظهرت على الحائط صورة شارع تتدافع فيه حشود من الناس. وبينما كان تورمان يقرب الصورة بشكل غير متدرج، بدا لشتورم وكأن الناس فيها آتون نحوه، ولما اقتربت وجوه الناس بشكل ظاهر تجمدت الحركة. كانت كلها وجوها لأناس متقدمين في العمر، سيدات ابيضت شعورهن ورجال صلع الرءوس، ملامحهم وقورة وعيونهم براقة. استدعت الصورة في ذاكرة شتورم إعلانا عن شركة تأمين على الحياة، كان قد شاهده مؤخرا في السينما. «حتى الآن كان الطريق هو الغاية»، قالها تورمان ونظر للحضور المتحلقين في صمت. أدرك شتورم إلام يرمي تورمان. «لقد طورنا إنتاج نانوسنيف، حتى نحمل المواد الفعالة على جزيئات النانو مثل قوارب النقل عبر مسارات الشم من الأنف وحتى المخ، وهذا طريق جديد تماما. أفكر مثلا في علاج السرطان، أو في المواد المنومة، أو أدوية العلاج النفسي. إنه طيف عريض من المجالات المتاحة، وسنكون موجودين حين تظهر أدوية نانوسنيف في الأسواق ، علاج أنفي فقط. إن براءة الاختراع مضمونة لنا بلا جدال.»
شتورم أيضا كان مقتنعا بعبقرية الفكرة. إن الطبقة المخاطية المبطنة للأنف، وكذلك مراكز التحكم بأعصاب الشم في الدماغ شديدة القرب من بعضها، فوصول مواد النانو إلى المخ سيكون بالبساطة التي تشبه القفز من فوق سور الحديقة. للدقة فلنقل إنها ثغرة ستتمكن جزيئات النانو من التسرب عبرها. بالأحرى هي نقطة الضعف التي طالما استغلتها فيروسات شلل الأطفال والالتهاب السحائي المخيفة. ببساطة تذكرنا مكانها؛ ولهذا فقد اشترى شتورم عددا من أسهم شركة بي آي تي في البورصة قبل نحو الشهر، رغم أنه ليس مطلعا على كافة خلفيات هذا المشروع. وفي النهاية فقد أكدت أحدث النتائج التي أجريت في معمله صحة هذا التطبيق ونجاحه. لا تزال بي آي تي تخفي نانوسنيف وكأنه سر من أسرار الدولة. فهي لم ترسل إلى ألمانيا إلا النزر اليسير من مادة النانو، كما اشتمل عقد الشراكة على غرامات مالية عالية تدفع في حال استخدمت مادة النانو في غير الأبحاث المتفق عليها. لم ينجح أحد حتى الآن في توصيل جزيئات النانو عبر مسارات الهواء إلى المكان الذي عليها أن تعالجه دون أن تعلق وتتشابك؛ وهذا ما يزيد من صعوبة وضعها في البخاخات الطبية. من الواضح أن العلماء في شركة بي آي تي قد طوروا أسلوبا يمكنهم من التغلب على تلك الآثار المزعجة. خمن شتورم أن السر الحقيقي في نانوسنيف يكمن في سطح جزيئات النانو. ربما خدعة ما تفكك الجاذبية الشديدة بين هذه الجزيئات. وهو غاضب حقا من كونه لا يعلم المزيد. في نفس الوقت كان يشعر بالزهو أن يكون مشاركا في مقدمة تطور مبتكر مثل هذا؛ فهذا ما كان يمثل له منطقة التقاطع بين العولمة، ورأس المال الإنساني النزعة وتدويل الأبحاث الممتازة في علوم النانو. ففي الوقت الحالي كانت تبدو له هذه المصطلحات في غاية الجاذبية وهي تخرج من بين شفتيه، فمهما كان متعبا، بل وحتى لو كان نائما، كان يستطيع صياغتها والنطق بها؛ إذ كانت توفر عليه الوقت وتبدو مناسبة للتداول في المجتمعات التي يتحرك فيها. ولم يكن يضايقه أنه هو ذاته لا يفهمها أحيانا، فلم يكن الأمر متعلقا بما يقول على قدر تعلقه بالكيفية التي يقوله بها، لكنه يتمنى لو كان معه جهاز استشعار دقيق الحجم مثل الإبرة الصغيرة يغمسها في محلول نانوسنيف ليستكشف أسراره. أيا ما كان الأمر، فليس ثمة شك أن واحدا من أهم الإنجازات التقنية الطبية وصل إلى عقر داره، وهي خطوة مهمة على طريق تطبيقات النانو العلاجية. فلماذا الآن نعطي مانح العمل سببا لعدم الثقة؟ فحتى الآن أثبتت «مسبارات نانوسنيف» كفاءة كبيرة كوسائل مواصلات يمكن الاعتماد عليها بشكل كبير، وهذا الخبر السعيد جاء من معمله، وحتى الآن كل شيء يسير بشكل جيد، وسيظل أيضا يسير بشكل طيب. الشك هو آفة كبرى في هذا السباق. نانوسنيف يعمل بكفاءة. لقد تم تحقيق الأهداف المرجوة، كما أنه واحد من أعضاء الفريق المبتكر. «لكننا نريد المزيد»، اخترق صوت تورمان العميق أفكاره وهو يشير إلى صور الوجوه مكبرة الحجم على الحائط. «نريد أن نحصل الحكمة التي تختبئ في كل هذه الرءوس؛ ففيها يكمن ما نصبو إليه للمرحلة القادمة. إنها لتكاد تتحرك صوبنا مباشرة.» وبهذه الكلمات أعاد الصورة إلى حجمها الأول. وهنا أدرك شتورم أن الأمر أكثر من مجرد نقاش حول إمكانات التعاون مع شركته. كان تورمان قد ألمح بالأمس على العشاء أن اثنتين من أضخم شركات الأدوية تحومان حول بي آي تي، جالت عيناه حتى وصلت إلى ستيفن برايت. بالتأكيد ليست لينكس فارما بالشريك السيئ. «هل سمعتم من قبل أي شيء عن تعديلات التخلق المتوالي؟» طرح تورمان السؤال على مستمعيه، ثم أعطى من فوره الإجابة: «سأقول لكم. التخلق المتوالي هو ما يحدد ما ستئول إليه حياتنا، خصوصا لو كانت حياة مديدة. إنها بمثابة محكمة عليا، إما تقضي لجيناتنا بالكلام وإما تجبرها على السكوت. ونحن نعلم أن عمليات التولد الذاتي اللابنيوي في خلايانا تساهم بقدر لا يستهان به في أننا نشيخ، وفي الكيفية التي يحدث بها ذلك. الأمراض الناتجة عن تدهور الأعصاب وضعفها، العته، كل أشكال العجز الذهني التي تتواكب مع التقدم في السن، في كل ذلك يكمن مستقبل عملنا.» بدأت شقوق رفيعة تتخلل الصورة المعروضة على الحائط، ثم تفككت إلى مربعات صغيرة في ذات الوقت بدأت تتشكل من العمق صورة تشبه الزهرة الصغيرة تتحرك حركة لولبية في المقدمة. فكر شتورم أن هذا شكل ماندالا (شكل هندسي مشهور في العقيدة البوذية عبارة عن مربع داخله دائرة يعتقد بقدرته على تحقيق التوازن الإشعاعي)، لكنها لم تكن في صورة مستوية لأنها كانت طبيعية. تعرف فورا على التركيب الجزيئي للحمض النووي دي إن إيه.
أكمل تورمان محاضرته: «أنتم تشاهدون هنا نموذجا من داخل النيوكليوسوم. الأسطوانات الملونة في المنتصف هي بروتينات الهستونات، إنها تشكل ما يشبه المغزل الذي تلتف حوله خيوط الحمض النووي. المفترض أن الجينوم البشري يحتوي على خمسة وعشرين ألفا من مثل هذا النيوكليوسوم. ببساطة لكم أن تتخيلوا كتابا، فلنقل موسوعة مطبوعة على شريط رفيع، بدلا من طبعها على صفحة كبيرة الحجم، قام مجلد الكتاب بلفها بشكل دقيق وعناية فائقة حول سلسلة طويلة، بحيث يتمكن من برمها وتخزينها في درج، ومن حسن الحظ لم يستخدم الورق في الطباعة، وإنما مادة مطاطية تستطيعون مدها حين تريدون البحث المحدد عن مصطلح. ولكي تتمكنوا من قراءة النص، عليكم إبعاد الشريط المطاطي عن السلسلة، ولكي تفعلوا ذلك عليكم استخدام ملقاط؛ لأن الشريط المطبوع عليه النص في غاية الرقة، حتى أنكم لن تتمكنوا من إمساكه بين أصابعكم. تماما بهذه الطريقة تسير الأمور في النيوكليوسوم. مثل الملقاط الذي في أيديكم تقوم إنزيمات معينة في خلايانا النووية بحلحلة الرابطة بين مغزل الهستون وشريط الحمض النووي، هناك فقط يمكن قراءة كود الشريط الوراثي. لنقل الآن إن الموسوعة تقادمت مع الزمن، وإن شريط النص ملتصق فعلا في مناطق كثيرة، بحيث أصبح من الصعب عليكم فتحها ثانية، وكل فترة يزيد عدد النصوص التي لم تعد قراءتها ممكنة. كذلك الحال في خلايانا حين نهرم، مناطق مهمة من النصوص في مادتنا الوراثية تصبح مغلقة بالترباس إلى الأبد، فاقدة النطق، محبوكة، وهذه العملية هي التي نريد وقف أثرها من خلال تدخلنا العلاجي.» أومأ تورمان لزميلته في العمل إيماءة سريعة، فنهضت من فورها وفتحت نور الغرفة. «بفضل نانوسنيف تمكنا من تمرير بعض التسلسلات الوراثية في دماغ حيوانات التجارب، ونجمعها على معديات النانو ثم نرسلها تبحر إلى رحلتها. إنها الإنزيمات الوراثية، بمعنى أن وراء تسلسلها تكمن الإنزيمات المختلفة، والمحفزات التي من المفترض أن تتدخل في عمليات التولد الذاتي اللابنيوي. لنقل إننا نورد الملقاط، الأداة التي تحتاجها خلايا المخ من أجل إعادة فتح نصوص الجينوم التي تم إغلاقها بالترباس.» ونقل يده اليمنى فوق فمه. «لعلكم تجدون في هذا الكفاية، ستتفهمون أني لا أستطيع الحديث أكثر لأسباب متعلقة بأسرار الشركة.» وفي تلك اللحظة انسلت ليندا فارن إلى مقعدها ثانية. تعلقت عينا شتورم بمؤخرتها التي تتراقص مثل كرة مرحة تحت الفستان الأزرق الضيق؛ لكن صوت تورمان العميق أفسد عليه هذا السحر. «خبيرنا، البروفيسور شتورم، سيؤيد كلامي حين أقول إن أوائل تجارب ناقلات الجين باستخدام نانوسنيف واعدة بالنجاح.»
الفصل الخامس
المذكرات
استقبلتها مدينة ماربورج بأمطار تنهمر بغزارة. نظرت فاندا من النافذة في توتر حين وصل القطار إلى المحطة، لكنها لم تر شيئا على الإطلاق. أليست المحطة سوى بوابة إلى مكان؟ يمكن لها أن تبني أوهاما أو تهدمها. استطاعت أن تخمن بهاء مدينة كبرى يتراءى من خلف صالات المحطة الضخمة. إن كانت الصالات تذكر بالمطارات فلا بد أن العالم الذي تفتح عليه عالم ثري وقوي، أما إن تشابهت الصالات مع محطات الأتوبيس، فهي كائنة بالقطع في مكان ليس فيه سوى فندق واحد، إن كان به أصلا أي فندق على الإطلاق. وصولها ماربورج جعلها تتشكك لوهلة في قرارها. كان سير الحقائب الموازي لسلالم النفق ميتا مثل جلد مخطط لأفعى، وكذلك سير الأمتعة الموازي للطريق الصاعد إلى بهو المحطة ثبت أنه مجرد محاولة لجذب النظر، ربما كان أجدى غرس الزهور عليه. تبعت هذه المرة طوفان البشر المتجه لبابي المحطة المنفتحين على المدينة، الشبيهين بسم الخياط. ماذا لها أن تتوقع وراءهما؟ جاءت على بالها صور طرق موحلة، وحوائط منازل تتقشر عنها طلاءاتها المصفرة من دخان النيكوتين. أشار السهم الممثل لاتجاه المخرج أيضا إلى لوحة ضخمة مكتوب عليها بيرة ماربورج. وفي الخارج رأت الماء ينهمر سيولا من السماء. إن كانت متأكدة من شيء، فهي متأكدة من أمر واحد: في ماربورج لن تموت عطشا.
خرجت فاندا من المحطة إلى المطر. قطع مجال رؤيتها بعض التشويش البصري. هدرت عربات نقل أمامها فتناثرت قطرات الماء من على الأسفلت المبتل. الآن فقط اتضح لها الفارق مؤلما بين معالجة الصور عصبيا ورقميا؛ فباستخدام برنامج فوتوشوب كان يمكن لها أن تمسح ببساطة ذاك الجسر الأسمنتي الممتد أمام المدخل. ترى ماذا وراءه؟ اليوم يبدو الجسر وكأنه يحمل السماء المثقلة بالغيوم. سارعت فاندا خلال المطر ووجدت تخمينها في محله، فلمسافات طويلة كان الجسر هو الموضع الوحيد الجاف، مما حمل فاندا على التفكير أن تعود أدراجها وتركب سيارة أجرة. •••
تحسن الطقس تدريجيا، لكن فاندا ظلت طوال الأسابيع الأولى منهمكة في البحث عن مسكن والمهام المتعلقة بوظيفتها الجديدة حتى أنها لم تلحظ ذلك مطلقا. حتى لو كانت السماء قد انطبقت على الأرض لمكثت هي في المعهد تواصل عملها به. طبعا شتورم بالغ كثيرا. الآن، وبعد أن صارت هناك، قيل لها فجأة: «رأس المال ذو الغرض الإنساني شديد التكلفة.» فكان عليها أن تتدبر تمويل مشروعاتها؛ ولهذا كانت تكتب طلبات التمويل بنفسها، وعليه وجدت نفسها مضطرة أن تتشاحن في قاعة الكمبيوتر العمومية مع سائر طلبة الدكتوراه وما بعد الدكتوراه على الأماكن المرغوبة بحرقة. صحيح أن الباحثين المساعدين يحصلون على أجهزة كمبيوتر خاصة بهم، لكن في عملها لم يكن جهازها قد وصل بعد، علاوة على ذلك عانت من نقص العاملين؛ ولهذا صارت تعمل في المعمل بنفسها. وأخيرا فإن أي مزرعة خلوية لن تعرف أبدا معنى إجازة نهاية الأسبوع. صحيح أنها معتادة على العمل الكثير والاستغناء عن وقت الفراغ، لكنها قد عملت حسابها على مساعدة تعينها على البداية أكبر مما حصلت. كذا كان عليها أن تصارع البيروقراطية، فبعض الطلبيات كانت - ولأسباب مختلقة - لا تصل أبدا. ظلت في انتظار الكمبيوتر شهرين كاملين، لكن الإجراءات ببساطة لم تتحرك. بدا الطلب الذي تقدمت به كجثة هامدة لم تفح رائحتها إلا بعد عدة محاولات للسؤال عن مصيره. ادعوا أنها هي التي تسببت في هذا حين أخطأت في صياغة الطلب الذي لم يخطر به قسم المشتريات. لحسن الحظ غادر أحد الزملاء العمل فحصلت على جهازه، وأخيرا تمكنت من الكتابة في هدوء، والقراءة والبحث وتقييم البيانات وكتابة البروتوكولات. كان في رأسها طنين يجعلها تخلد مساء للنوم وكأنها مخدرة. أي أنها ببساطة توقفت عن التفكير. وظيفيا كانت على ما يرام، لكن هل كانت سعيدة؟ طرحت عليها زابينة زميلتها في العمل هذا السؤال مرة. فأجابتها أنه إذا كانت السعادة تعني أن ننسى الوقت، فنعم، أنا سعيدة جدا. •••
ولأن فاندا لم تدرك فصل الصيف، ظل وجهها على شحوبه. وعلى حين غرة أصبحت شقتها باردة حين تعود إليها مساء متأخرة، وأحيانا كانت تسمع كيف تصفر الريح في أركان البيت، وكيف تهتز الشبابيك. في ذاك الصباح من شهر نوفمبر رأت ذلك الحلم ثانية: رأت نفسها هناك في البيت الذي قضت فيه طفولتها، تركض من غرفة لأخرى تسدل الستائر المعدنية، تحكم إغلاق النوافذ والأبواب. تعرف أن ثمة غريبا في الخارج، لصا، تحس بحركاته، كيف أنه يدور سرا حول المنزل، يبحث عن ثغرة ينسل منها، باب غير مغلق أو شباك مفتوح قليلا تكون قد نسيته. يجلس والداها وروبرت أخوها في غرفة المعيشة مثل تماثيل الشمع، شلت حركتهم من فرط الرعب، لكنها لا تحتمل الصمت طويلا. تمسك سماعة الهاتف لتتصل بالشرطة، لكنها تنسى الرقم، فتحدق في الغرفة بضوئها الخافت. إنها لا تزال بالداخل لكنها في الوقت نفسه تدور معه حول المنزل، وكأنها تستطيع أن تشعر بخطواته المتسللة على جسدها، أين هو الآن؟ اللعنة، باب القبو، لقد نسيت باب القبو.
استيقظت وقلبها يخفق بشدة، هذه المرة توغل الحلم أبعد. لقد كان الغريب في بيتها ، شعرت بثقل ممض على جبينها، ابتهلت سرا ألا ينتابها صداع؛ فقد ارتفع استهلاكها لأدوية الصداع بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة. كانت الغرفة لا تزال مظلمة، فأوقدت الأباجورة الصغيرة المجاورة للسرير. كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، لا يزال الوقت مبكرا على الاستيقاظ، لكنها لم تستعد هدوءها. خطت حافية القدمين إلى الحمام وأشعلت السخان. ارتدت البلوفر طويل الرقبة على بيجامتها، ثم جوارب صوفية في قدميها وأزلقتهما في حذائها الفرو القديم. انسلت إلى المطبخ وهي لا تزال ناعسة. أصبح من عاداتها أن تشعل الفرن لأنه مصدر التدفئة الوحيد في هذه الغرفة. كانت دائما ما تحتفظ في دواليب المطبخ بمخزون من الدقيق والسكر والبيض وتكمل الناقص منه مسبقا. وفي أثناء بحثها عن وصفة وقعت يدها على دفتر من دفاتر مذكراتها، كان عالقا بين كتب الوصفات في مؤخرة الرف الثاني. أطفأت فاندا الفرن، وتدثرت ببطانية، وجلست على المكتب المصنوع من لوح هائل من خشب الصنوبر مستند إلى قائمين خشبيين مطليين بتقنية الرش. فتحت دفتر مذكراتها. في الواقع كان مجرد كراس ضمت صفحاته بسلك معدني حلزوني؛ ففاندا لم تكن تحب دفاتر المذكرات التي لا تسمح باقتطاع صفحات منها بشكل نظيف. بدأت كتابة مذكراتها عدة مرات، لكنها لم تواظب قط على الأمر. ومن المؤكد أنها استخدمت هذا الدفتر حين احتاجت مفكرة تدون فيها وصفاتها، فها هي تجد وصفة كيك الجوز التي خبزتها في عيد ميلاد زابينة. التصقت بذرة طماطم مجففة فوق العنوان المغري «سحر الحب الفرنسي»، ففركتها بظفر إبهامها. كانت فاندا قد جربت هذه السلطة الجديدة لتقدمها لتوماس إن سنحت الفرصة. قلبت صفحات كثيرة بيضاء، ثم ظهرت جمل مضغوطة وحروف متلاصقة. كل الكتابة كانت مقلوبة، فقلبت الكراسة وقرأت تدوينتها الأخيرة:
ماربورج، 20 يوليو 2005
يصعب علي كثيرا التذكر. ما هي الذكريات حقيقة؟ تركيبات جزيئية تهجع في جهازنا العصبي؟ هل هي طاقة محكومة تربطنا بالزمن؟ لقد عاد الحلم ثانية. كنت قد نسيته تماما. بدا لي وكأني كنت أبحث بلا انقطاع عن معلومة مهمة، كأن فجوة ما في مخزن بياناتي. معلومات لا أصدق أنها محيت.
لو قمت بعمل مسح ضوئي على دماغي لأظهر بالتأكيد مزيدا من المعلومات. تقنية عكسية. لا أستطيع أن أتخيل بعد كيف سيجري ذلك. كمبيوتر خارق يستطيع أن يفكر في أفكاري؟ على أية حال، فإن توماس يهذي بذلك طوال الوقت، فقد حسم أمره بأن «يصب دماغه صبا في مادة السيليكون، أو أن يعبئه في مكعب صغير مصنوع من أسطوانات النانو متناهية الصغر، إن أصبح ذلك متاحا في يوم ما.» وهو يقصد أنه بهذه الطريقة ستتولى أجهزة الكمبيوتر في المستقبل مهمة التفكير. أتخيل كيف سيذهب الناس كل أسبوع في وقت محدد، لنقل مثلا يوم الاثنين أثناء استراحة الغداء، بدلا من أن يتشمسوا، يذهبون فيجلسون مدة قصيرة في أسطوانة الأشعة المقطعية على الدماغ لتأمين تخزين بيانات الأسبوع المنصرم. يا للسخافة! أنا حتى لا أفعل ذلك مع جهاز الكمبيوتر الخاص بي.
رفعت فاندا رأسها ونظرت إلى النافذة. رأت صورتها منعكسة على الزجاج الذي لا يزال مظلما. «وماذا عن أخطاء البرنامج؟» أرادت أن تعرف من توماس آنذاك. «ماذا يحدث لو أن بيانا ما علق في مكان وحبس تيار الذكريات؟» «ببساطة تستعملين احتياطيا قديما»، كانت هذه إجابته. صورتها المنعكسة على الزجاج أظهرت بعض التجاعيد على الجبهة. هناك أشياء لا تريد أن تتذكرها بتاتا. لقد قامت برسم صور أخرى فوقها كانت تعجبها أكثر، ولم تكن على استعداد أن تعيد هذا الجهد الشاق مرة أخرى.
هل الذكريات مجرد نسخ احتياطية مستمرة؟ هل هناك مثلا ما قد يسمى الذكرى الأولية؟ أصل لم يتم تزويره؟
في طفولتي كان عندي حلم: أجلس على تل رملي أمام مساحة مائية كبيرة. تنتهي المياه في المكان الذي تبدأ منه السماء. يخطو والداي في هذه المياه، متشابكي الأيدي في اتجاه الأفق. أتابعهما ببصري، يبدوان كشريطين مضغوطين يذوبان تدريجيا أحدهما في الآخر، ويتهددهما الذوبان الكامل في المياه التي تضوي في الظلمة، أصرخ وأركض، أجري وراءهما في المياه، أخوض فيها لألحق بهما. «نعم، لقد حدث هذا بالفعل»، كانت هذه هي إجابة أمي حين حكيت لها الحلم، «ذات مرة حين كنا عند بحر البلطيق، كان عمرك وقتها سنتين، وكدت أن تغرقي.»
هذه هي إذن الذكرى غير المزورة. بيان انفتح تلقائيا وخرج أيا ما كانت أسباب خروجه من أعماق الذاكرة المعتمة إلى النور مثل الحمم البركانية آخذا في التدفق، مشكلا جزيرة؛ تل رملي على بحر البلطيق.
علي أن أحلم أكثر؛ فلربما تأتيني الصور التي تنقصني لأفهم بشكل أفضل.
بهذا انتهت تدوينتها. ماذا كانت تريد أن تفهم؟ نفسها؟ أبويها؟ أم كانت فقط متوترة لأن كل شيء كان جديدا عليها؟ وجهت فاندا السؤال للوجه الشاحب المنعكس على زجاج النافذة المعتم. أعجبتها لمحة السخرية التي ينطق بها فمها الصغير لأنها كانت تبعث ابتسامة جريئة في عينيها. كانتا تبدوان أكبر حجما بعد أن صارت وجنتاها أكثر استواء. وجدت نفسها جميلة في هذا الضوء غير المباشر، رغم العلامات التي خلفها الإرهاق على وجهها. تناولت قلم حبر من علبة السجائر التي كانت تحتفظ فيها بأقلامها، وبدأت في الكتابة:
ماربورج، 7 نوفمبر 2005
اتصل بي موثق العقود بالهاتف قبل أسبوع، كنت قد نسيت خطابه تماما. على الأرجح احتاج إلى بعض الوقت كي يكتشف أين أقطن الآن. ومنذ ذلك الحين وأنا أستيقظ ليلا وأخبز؛ لأني أحلم أحلاما سيئة.
لاحظت فاندا أثر الحبر الأسود وهو يخترق الورق أثناء كتابتها. لكل شيء مبتدأ يستهل منه. خطر ببالها قدماء المصريين. فلصناعة الحبر كانوا يخلطون السخام بالصمغ العربي ثم يحلونه بالماء، وبهذا صنعوا، ربما كواحدة من أوائل المزرعات، معلقا مائيا من جزيئات النانو. الذي لم يكونوا يعرفونه وقتها هو أن سلاسل الجزيء الطويلة لعنصر عديد السكاريد الطبيعي المكونة لعصارة الأكاسيا، كانت تلتف حول جزيئات السخام، وبذلك تمنع تكون تكتلات في الماء. ولهذا كان اللون ينساب بنعومة فوق المنسوجات وفوق أوراق البردي، وذوت آثاره بين نسيج الزمن. ولهذا فمن المهم جدا أن يتم وضع كل الأشياء بدقة على كفة الميزان، حتى لا تتكتل إلى عجين لا يرجى نفعه.
ربما سيتحتم علي السفر إلى هناك.
وضعت فاندا قلمها الحبر جانبا . لم تكن تعلم بعد إن كانت بالفعل اتخذت قرارها، ثم أغلقت دفتي كراسة المذكرات. اهتزت الأرض تحت أقدامها هزة خفيفة، وصرت الأكواب المصطفة على الرف بصوت خفيض؛ فقد كانت حافلة تمر بالشارع مفتتحة جولتها الأولى. ما اليوم يا ترى؟ تنهدت فاندا وأمسكت رأسها المصطفق، وفكرت أنه يوم الاثنين، كانت تستشعر انقلابا خفيفا في معدتها كلما اقترب هذا الطقس الأسبوعي. اليوم الدور على جورج - باحث الدكتوراه الذي تشرف على رسالته - لإلقاء محاضرة؛ لهذا عليها أن تأخذ كفايتها من الراحة. ذهبت فاندا إلى الحمام وفتحت صنبور المياه ورشفت رشفتين ابتلعت بهما قرص الدواء. كان الفراش لا يزال دافئا. «سيمر كل شيء بسلام.» غمغمت بتلك الكلمات ثم راحت في نوم خفيف.
الفصل السادس
يوم الاثنين، يوم الاثنين
دخلت قاعة المناقشات قبل تمام الساعة العاشرة بدقيقة واحدة. لعدة لحظات شعرت فاندا بثقل تهديد العيون المصوبة تجاهها ممن لا يقل عددهم عن خمسة عشر شخصا. على الأرجح كان الزملاء ينتظرون الرئيس. أومأت بسرعة للمجموعة دون أن تثبت نظرها عند أي من الحاضرين. كانت منشغلة بذاتها بما فيه الكفاية. وسرعان ما عاد الهمس والضحك يملآن الغرفة. كلما حضرت فاندا إلى هنا أيام الاثنين، شعرت أنها عادت إلى وقت المدرسة مجددا. كان جمعا شابا، فمعظم الزملاء دون الثلاثين. ارتمى الحاضرون على الطاولات هنا وهناك، وتداخلات أحاديثهم، ودفع بعضهم بعضا على سبيل الدعابة. كان طول غرفة الندوات أكبر من عرضها، واصطفت فيها الطاولات في صفوف طولية متتالية مثل فصول المدارس. كانوا قد انتقلوا لتوهم إلى مبنى الأبحاث الجديد؛ ولهذا فقد كانت الغرفة لا تزال تحمل الروائح المنبعثة من الموكيت المركب حديثا، ومن الأثاث الجديد الذي وصل من المصنع مؤخرا. وحين أحست بطعم المواد المذيبة على لسانها، سارعت نحو النافذة وفتحتها على مصراعيها. «ياه! فاندا، أعليك أن تفعلي ذلك؟» قالتها أستريد وهي تضغط بمنديلها على أنفها، وفي نفس اللحظة تمخطت فيه بقوة، ثم سددت إليها عيناها الزرقاوان نظرات لائمة.
زمجرت فاندا مدافعة: «تنبعث في الغرفة روائح كيماويات كريهة.»
نعقت الدكتورة أستريد دوبرمان كغراب شل جناحه: «لكني أعاني الآن من مشكلة أخرى!» حسن، رائع جدا. انتصرت فاندا داخليا. سيقع الوحش أخيرا على الأرض. «إذن لماذا أنت هنا؟ هل تريدين أن تنقلي العدوى إلينا جميعا؟»
كانت لا تزال غاضبة من أستريد؛ فقبل مدة وجيزة نجحت الزميلة في اقتناص مبلغ كبير من موارد هذا العام المخصصة للأبحاث والتدريس، بسرعة قبل أن توضع معايير توزع على أساسها الأموال على مجموعات العمل، بل لقد نجحت حتى في إقناع الرئيس أن هذا السطو يندرج تحت بند المصروفات الخاصة للقسم. شعرت فاندا بتنميل في بشرة رأسها. حاولت أن تلجم غضبها وقالت: «بالتأكيد كان يمكنك حقا أن تتغيبي عن بعض المحاضرات.»
قهقه يوهانيس الجالس قبل أستريد بصفين، ثم نظر إلى فاندا مشجعا: «لم تنامي جيدا؟» ثم سحب الكرسي من جانبه في دعوة واضحة لها بالجلوس إلى جواره.
فأجابته هي عرضا: «عملت كثيرا، وأكثرت من شرب النبيذ»، فلم يكن من داع أن يعرف الحقيقة. وكانت في الأساس تستلطف يوهانيس؛ فمعه يعرف المرء بسرعة أين يقف. على الأقل كان يبدو لها الأمر واضحا. كان يوهانيس يحب أن يداعب من حوله، وكل ما في قلبه يقوله لسانه، ولو مرة اضطر أن يكتم تعليقا ما، كان يندفع محمر الوجه خارجا من فرط الانفعال. لم يكن يوهانيس يهيم بالنساء، وللطرافة لم يكن يتصور أن الناس تعلم عنه ذلك. كان لحوحا في محاولاته أن يبدو طبيعيا وكأنه يسخر من نفسه؛ فهو لم يعد بسنواته الخمسة والثلاثين باحثا يافعا؛ وإنما تقدم في السن بحيث لم يعد من المناسب إدراجه في برامج دعم صغار الباحثين، وكان جليا للجميع أن شتورم لا يحبه، لكن أستريد كانت مصرة على تعيينه، وأمام أستريد أحيانا لا يملك الجميع - ومن بينهم الرئيس - إلا الانصياع. حصل يوهانيس ليبكنيشت على الدكتوراه في تخصص الأحياء، ولم يكن يستنكف من إجراء أبحاث مطولة على حيوانات التجارب، وربما يكون أهم ما ميزه بالنسبة لأستريد هو أنه لم يكن منافسا لها بحال. فكرت فاندا قليلا؛ فمعنى أن تجلس إلى جواره هو أن تخاطر بوضع نفسها قرب مرمى نار الرئيس، بل أقرب من اللازم بالنظر لحالها اليوم، ولهذا ظلت تبحث بعينيها في المكان. كانت زابينة تجلس في الصف الأول. نظرت فاندا إلى بنيتها النحيلة، وعرفت فورا أنها لم تكن على ما يرام. كان رأس زابينة عالقا بين كتفيها المرفوعتين، كان جسدها مشدودا يعاني توترا يؤلمك مجرد النظر إليه. كانت تكتب شيئا ما؛ عرفت فاندا ذلك من حركة كتفها اليمنى نحو الأمام ثم نحو الخلف. شيء ما في هذه الحركة كان يزعجها. وكان المكان إلى جوارها خاليا.
وفي نفس اللحظة التي انتوت فيها أن ترد عرض يوهانيس دخل الرئيس إلى غرفة المناقشات. بروفيسور ماكسيميليان شتورم لا يجري، إنه يطير طيرانا ثم يهبط، ودائما ما يوجهه نظام ملاحته نحو المكان الخالي في الصف الأول. طائرا وراءه خليفته ميشائيل فالاخ الذي قطع تدريب طيرانه ليجلس على الكرسي المجاور للباب. بلا شك كان عنده مواعيد مهمة جدا ستضطره للذهاب مبكرا. وبعد أن وصل إلى الصف الأمامي تردد شتورم في عملية إنزال جسده من ارتفاع المتر والتسعين سنتيمترا، الأمر الذي سمح له أن يغير بخفة مسار قوامه الفارع ولا يجلس إلى جوار زابينة، وإنما في الصف الذي يليها مباشرة إلى جوار علي؛ فكان ذلك إيذانا ببدء الجلسة. توقفت الهمسات الضاحكة، وجلس كل واحد على كرسيه. جلست فاندا إلى جوار يوهانيس، حقا على غير إرادتها، لكنها كانت يقظة. رأت المناطق المحمرة على رقبة جورج، وأومأت له مشجعة.
كان باحث الدكتوراه يدرس الطب، ولهذا لم يكن يأتي يوميا إلى المعمل، لكنه كان يستغل الفترة المسائية وعطلات نهاية الأسبوع، مما مكنه أن يصل إلى بعض النتائج في الأربعة أشهر التي عمل فيها تحت إشرافها. كان يدرس سمية النقاط الكمومية «الكوانتوم»، أو بلورات أشباه الموصلات، التي كانت تضوي حسب أحجامها في ألوان متعددة، ولهذا يزداد باستمرار الطلب عليها من أجل التعرف على الخلايا الحية. فكثير من عمليات الأيض أصبح من الممكن ملاحظته في مزارع الخلايا بفضل التطور المهول في الميكروسكوب الحيوي. ولهذا لا بد من وجود متتبعات الأثر، ما يسمى بالمواد العلامات، والتي تسبح مثل دودات متوهجة عبر تيه أغشية الخلايا، معطية إشارات ضوئية في غاية الوضوح عن المكان الذي وصلت إليه توا.
بدأ جورج محاضرته قائلا: «إن النقاط الكمومية تنتج طيفا كبيرا من المؤثرات الضوئية، بمجرد أن تحصل على محفز ضوئي من الأشعة فوق البنفسجية، ويمكن تحديد الضوء الذي تشعه عن طريق تحديد حجمها؛ ولهذا من الممكن إجراء عدة علامات لونية في نفس الوقت باستخدام النقاط الكمومية متفاوتة الحجم. وخلافا لأنواع التظهير الأخرى التقليدية، فإن مقاومة هذه الإشارات الضوئية عالية بصورة مدهشة.» لم يكن من الصعب التغافل عن شغف جورج باستخدام الحركة في عرضه التقديمي «الباوربوينت»؛ إذ كانت سطور نصه تطير مرة من أعلى، ومرة من اليمين، ومرة من اليسار لتغطي الصورة، إلا أن هذه المؤثرات لم تتمكن من منع بعض الزملاء من النظر في مخطوطاتهم التي يحضرونها دائما معهم للجوء إليها إذا ما أصبح العرض مملا. وفي الخلف تقارب رأسا شخصين وأخذا يتهامسان. غضبت فاندا من ذلك. بالتأكيد جورج ليس مضطرا أن يتعب نفسه طويلا مع مجموعة مثل هذه. لكن من ناحية أخرى، فإن هذا المنتدى يشكل واحدة من الفرص النادرة لطلبة الدكتوراه ليتدربوا فيها على إلقاء المحاضرات. قررت فاندا أننا كلنا ارتكبنا أخطاء حين كنا مبتدئين، وتركته لشأنه.
أكمل قائلا: «تتكون النقاط الكمومية من عدد كبير من الذرات قد يصل إلى أكثر من 100 ألف ذرة. هي إذن جسيمات ثابتة متناهية الصغر، لكنها تتحرك وكأنها ذرة واحدة متخذة أوضاعا متحفظة للطاقة بسبب ظاهرة السطوح.» إن الأمر الذي تعثر جورج في محاولة شرحه هنا، يعد ظاهرة عادية في عالم النانو؛ كلما صغر حجم الجزيء، كبر نصيبه من الذرات التي تستلقي على سطحه. ورغم أن فاندا نفسها لم تكن تفهم كثيرا من الجوانب الخاصة بتقنية النانو، لكنها تدرك جيدا أمرا واحدا، هو أن هذه الكلمة الصغيرة «النانو» تمهد سبيلا جديدا. إنه اكتشاف السطح. وهذا معناه تغيير في مسار الفكر، أيضا في علم السموم.
سمعت صوت جورج ثانية يقول: «إذا ما أصاب محفز ضوئي النقطة الكمومية، تندفع الإلكترونات المفردة دوما بشكل أكبر لتقترب من الذرات التي على السطح. تنحشر وكأنها في حارة مسدودة لا تسمح بالتقدم أبعد، تمسكها وكأنها في الأسر مثلما تفعل فيها قشرة الذرة. لذلك تنبعث طاقتها في صورة ضوء نحو الخارج.» هل هذه هي اللحظة التي تستشعر فيها المادة تعاطفا مع العالم؟ سألت فاندا نفسها. في الصور الميكروسكوبية التي يعرضها جورج الآن تمكن هذه النقاط المضيئة من النظر داخل البنية الرقيقة للخلايا. كانت تومض وكأنها تطريز مخرم على نسيج مصنوع من حلم، من مجرات دقيقة الحجم متناهية الصغر. «سوف تتمكن النقاط الكمومية من المساعدة في تتبع خلايا الأورام السرطانية، ويجري التفكير في استخدامها للكشف المبكر عن الأمراض السرطانية، لكنها تتكون جزئيا من روابط سمية لا بد من اختبار أثرها أولا.» تنفست فاندا الصعداء، أخيرا دخل في الموضوع. البيانات التي يعرضها الآن جديدة، فأبحاثهما أثبتت أن جرعة صغيرة من النقاط الكمومية على مزرعة الخلايا لها تأثير سمي. كانا يحتاجان إلى تجارب قليلة إضافية لتأكيد النتائج. وهو اكتشاف مثير، وبالتأكيد يمكن نشره بسهولة، لكن جورج لم يكن يمتلك الخبرة الكافية. كان في حاجة إلى عونها، كما أن كتابة البحث للنشر ظلت معلقة بها كالعادة. وكان الوقت جد ضيق.
مع الوقت صارت تنجز الأعمال العلمية الهامة من المنزل على جهاز الكمبيوتر الخاص بها، تكتب أو تقرأ حتى ساعات متأخرة من الليل. أما في النهار فقد كان شتورم يقذف إليها تكليفاته الكثيرة، وكأنها حاوية يريد أن يلقي فيها بأوراق مكتبه. كانت هي المستجدة، وكان عليها أن تتخرج في نفس المدرسة التي دخلها الآخرون، طبعا ليس كلهم: فبالتأكيد قفزت أستريد بعض الصفوف. أحيانا تحسدها فاندا على تبلد إحساسها. أما هي ذاتها فما أسهل أن تتمسك بالتزاماتها، لكنها بدأت تقلق على وقتها من أن يضيع في تصويبات رسائل الدكتوراه، وكتابة تقارير مناقشة الرسائل، وتنظيم الندوات ومحاضرة الطلاب، رغم أن اسمها لم يظهر ولو مرة واحدة على جدول المحاضرات؛ فرسميا كانت كل هذه الأعمال محجوزة لحساب شتورم. «هذا خطأ إداري، لا تشغلي بالك بهذه التوافه.» هذا ما قاله شتورم ردا على شكواها، ونصحها أن تركز في العمل على بحثها؛ فلا بد لها بلا جدال أن تنشر مزيدا من الأبحاث إن كانت تريد حقا لاسمها أن يكون مطروحا للحصول على وظيفة أستاذ مساعد. ابتلعت فاندا غضبها، كانت مقتنعة أنها إن عملت بجد حقيقي فستصل حتما إلى ما تريد.
وعبر عدسة العارض الضوئي تأرجحت علامة استفهام كبيرة الحجم على حائط العرض، منتفخة مثل بالون ممتلئ، ثم انفجرت. ختام العرض منذر بتوابع. ترك جورج مؤشر الليزر من يده.
قال شتورم بعد أن التفت باسما إلى صفوف الجالسين وراءه: «نستطيع أن نذهب فور أن نلملم مخلفات الانفجار.» كانت الوضاعة في كلامه أظهر من أن يغفلها أحد، وانطلقت ضحكات مكتومة. وضع رجله اليمنى على اليسرى وظل يركل بقدمه في استعداد للهجوم. انسحب ميشائيل فالاخ من الغرفة بخفة سحلية، لكن صوت الباب وهو ينغلق وشى به. لم تتمكن أستريد من كتمان ابتسامة، وغضبت فاندا من نفسها. كان عليها أن تحذر الباحث الذي تشرف عليه أن شتورم يمكن أن يكون مزعجا، وفورا سيمسك الرئيس في نقاط الضعف لدى جورج المسكين. لقد آن أوان تدخلها إن كانت حقا تريد إنقاذ الموقف. نهضت وذهبت نحوه عند منصة الحديث، وبدت لها الطريقة التي فغر بها شتورم فاه ناظرا إليها بلهاء على نحو ما، لكنها لم تنخدع ببلاهته، شتورم لا يزال يشكل خطورة. «شكرا جورج، أعجبتني محاضرتك كثيرا. سنتحدث لاحقا عن بعض اللمسات الأسلوبية الدقيقة.» كان يوهانيس يضحك في الصف الأخير. «بالنظر للوقت المتاح أحب أن أفتتح المناقشة حول نتائج البحث. هل من أسئلة؟» تجنبت فاندا النظر نحو زابينة؛ فرؤية ملامحها التي تنم عن الشكوى كفيلة بتشتيت تركيزها. كانت عيناها تختلسان النظر إلى شتورم الذي استدار لينظر أمامه ثانية. أسند مرفقه إلى الطاولة وذقنه إلى يده اليمنى، ووقف إصبعه البنصر مثل ترباس على شفتيه الرفيعتين، بينما نظرت عيناه بعيدا. مرت فاندا ببصرها فوق رءوس الحضور، كانت تبحث عن توماس. رأت أستريد التي كانت تغطي وجهها بمنديل ورقي. يا للحظ السعيد! إنها اليوم لا تحمل أسلحة حادة، اللهم إلا هذا المخزن المليء بالفيروسات. يا ليتها تمرض كثيرا. كان توماس فايلاند جالسا في الصف الأخير ناظرا إليها بانتباه. شعرت بذبذبة رادارية تنطلق من نصفها السفلي وتحوم في دوامات رقيقة حول سرتها، فخفضت ناظريها بسرعة. لا ينبغي أن تحمر وجنتاها اليوم خاصة، ثم رفعت عينيها بالتدريج، ونظرت نحوه محاولة استدعاء رد فعل منه؛ فتوماس هو أذكى من بالقسم، كان في منتصف الثلاثينيات من العمر، درس علوم الكمبيوتر، وقضى فصلين في دراسة الفيزياء، وكان يصنع نماذج محاكاة بواسطة الكمبيوتر للأنظمة الحيوية. كان الرئيس دائما حريصا على القول: «إن استثماري للمستقبل يكمن في دكتور فايلاند، إنه استثمار ستجنون جميعا ثماره.» لو أن توماس افتتح المناقشة لسار كل شيء على ما يرام. كانت فاندا متأكدة من هذا. أرسلت نحوه نظرة طويلة، وأخيرا رفع يده طالبا الكلمة. •••
انتهت المناقشة في الحادية عشرة والنصف، ورغم أن رأسها كان يمور مضطربا، فإن فاندا كانت راضية؛ فقد أمسكت الخيوط بيدها جيدا، وظلت نبرتها موضوعية. وكان هنالك بعض التعليقات المفيدة، بل إن واحدا منها جاء من أستريد. وكالعادة كان الرئيس أول من خرج مسرعا من غرفة الاجتماعات، ثم تبعه الباقون، بعضهم على عجل، وآخرون على مهل في مجموعات صغيرة تتبادل الحديث. كانت زابينة لا تزال جالسة وتكتب، فجلست فاندا إلى جوارها. «مرحبا يا بينة! ماذا بك؟» نظرت زابينة نحوها نظرة سريعة، فرأت فاندا شحوبا مخيفا على وجهها الرقيق وكأنه لونها الطبيعي بسبب بشرتها الفاتحة. كانت عظام وجنتيها مرتفعة مثل المصريات، إلا أن أنفها الدقيق، وشفتيها الورديتين الرفيعتين اللتين تميلان للجفاف، وشعرها الأشقر الغامق المقصوص بطريقة غير متماثلة، علاوة على بنيتها التي تشبه بنية الذكور؛ كان كل ذلك يؤكد طلتها الغربية. رأت فاندا الرموش الطويلة التي تشابكت بالدموع على الجفون المحمرة، وتبعت نظرة زابينة التي اتجهت مرة أخرى نحو دفتر الكتابة. كانت الصفحة ملأى من أعلاها لأسفلها بنفس الجملة: «انتهى الأمر». كتبتها زابينة فوق بعضها عدة مرات، في كل مرة تنهي فيها الصفحة، تعود إلى رأسها ثانية وكأنها تكفر عن ذنب، وتسطر نفس الجملة على الجمل التي كتبتها سابقا، فتزيد من غورها وتحفر أثرها على الصفحات السفلية، لدرجة أن الحبر قد اخترق الورق فخرمه بسبب الضغط، لا بد أنها قضت الجلسة كلها في هذا الحفر.
ألحت عليها فاندا: «هيا أخبريني ما الذي حدث؟»
غمغمت زابينة بكلمات غير مفهومة. «لا أستطيع أن أفهمك يا بينة، فلتحدثيني بطريقة أكثر وضوحا.» «لم يتم تمديد عقدي.» «ماذا؟» «لن يجدد عقد وظيفتي، وأرجو أن تغلقي فمك حتى لا تبدين بلهاء.» كان للخبر على فاندا وقع الصفعة. كم شعرت بحرارة اللطمة على وجنتها، وكم كانت تفضل لو تصرخ، لكن منظر زابينة منعها من ذلك. «منذ متى تعرفين الخبر؟» «قالها لي سريعا قبل الجلسة. غدا آخر يوم عمل لي.» تجمدت نظرتها على دفتر الكتابة خاصتها. «وما المبرر؟» «لا يوجد تمويل كاف.»
زمجرت فاندا معترضة: «هذا محض هراء، سأتحدث معه.» «كلا، اتركي المسألة كما هي»، ولوهلة بدت صديقتها وكأنها استفاقت من الخدر الذي ألم بها. «وماذا سنخسر؟ لو تحدثت معه فلن نزيد الأمور سوءا.»
مرت برهة قبل أن تتحدث زابينة، ثم أخيرا تحدثت بصوت رفيع: «أشعر بالخجل ... أخجل من غبائي.»
أخذت فاندا القلم الحبر من يدها بحرص شديد، ثم وضعت ذراعها على كتف زابينة، أسندت ذقنها إلى رأسها وبدت وكأنها تهدهدها برقة. «إن كنت أنت غبية، فأنا أكبر حمقاء. وأقولها لك: ستسوء أحوالنا أكثر إن لم نتبين الأمور الآن.»
الفصل السابع
كلمة المرور
ظل الضباب جاثما في وقت ما بعد الظهيرة على منحدرات اللان، وكأنه علق في أغصان الأشجار. جلست فاندا إلى مكتبها ونظرت إلى كتل البخار المتكاثفة. كانت فاتحة اللون لدرجة اضطرتها لإغلاق عينيها، فما إن فعلت ذلك حتى ظهرت أمامها صورة زابينة بوجهها الحائر.
كانت قد نصحتها قائلة: «اتصلي بفولفجانج ، ودعيه يقلك إلى المنزل.» ماذا تريد من هنا بعد؟ لقد ألقت روح شتورم الباردة عليه طبقة سميكة صعب على الدموع اختراقها، وللأسف كانت تلك الطبقة من مادة تحوي فتحات تهوية، وإلا لكان اختنق من قسوة قلبه منذ مدة طويلة. عملت زابينة ميرتينز باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراه منذ عامين في هذا القسم تحت قيادة الرئيس مباشرة. كانت موجودة سلفا قبل أن تبدأ فاندا في العمل هنا قبل ستة أشهر، وقد استلطفت كل منهما الأخرى على الفور. «سأقودك إلى الطريق.» قالتها لها زابينة وأخذتا تنزلقان بلا بوصلة بين ممرات قبيحة، وطرق جانبية مظلمة، محاولة بلا جدوى مع ذلك بكل صبر أن توضح لها اتجاهات هذه المتاهة المصنوعة من الزجاج، والمواد الصناعية، والأسمنت.
حين دلفتا إلى الردهة المفضية إلى حظائر الحيوانات أوضحت لها زابينة كما يفعل المختصون: «كان هذا هو المبنى العام، أما هنا فيبدأ القسم المغلق. لكن لا تخافي، كل من بالداخل ألطف جدا ممن بالخارج. لو احتجت إلي في أمر، فحاولي أولا أن تجديني هنا.»
في الواقع لقد كان المفترض أن تقوم أستريد بهذه المهمة، مهمة تعريف فاندا بعملها الجديد؛ لأنها هي أقدم الموجودين في هذه المجموعة، إلا أن هذه الزنبورة المصابة بجنون العظمة، والتي تتشمم المنافسة في كل شيء، كانت شديدة الحرص على تأمين وظيفتها التي تدر ذهبا. لقد تمكنت بالفعل من جعل الرئيس يرقيها إلى درجة الأستاذية قبل ميشائيل، تلميذه المطيع.
على الأقل كان ذلك هو الوضع آنذاك، لكن سرعان ما بدأت الريح تهب من اتجاه مغاير.
أما زابينة فكانت فعلا تمثل بصيص الأمل، ليس فقط لاستعدادها لمعاونة الآخرين وتحليها بروح الزمالة الحقة، بل أيضا لأنها كانت موهوبة، واعدة بأن تكون عالمة طبيعة ألمعية. كان تعليمها استثنائيا؛ بالأساس هي بارعة في الربط بين التخصصات العلمية، فبعد حصولها على بكالوريوس العلوم من جامعة ماستريخت التقنية، تمكنت من الالتحاق ببرنامج للدكتوراه وحصلت عليها بالفعل في عمر السادسة والعشرين، وكانت تعرف كل الإجراءات المتصلة بالعلوم الحديثة في الجزيئات الحيوية، وكانت فوق ذلك كريمة جدا في إسداء النصائح المخلصة؛ ولذلك كان طلبة الدكتوراه وكذلك الباحثون في المعامل يسعون لمشورتها، حتى لو كانت تنتقدهم بلا مجاملة على عدم إتقان العمل. باختصار نظرا لعقلها التحليلي، ومهارتها العملية، كانت زابينة تتمتع بمكانة عالية في القسم؛ ولهذا كانت واثقة تمام الثقة أن شتورم سيمدد لها عقد وظيفتها، وأن كتابة العقد الجديد تعد أمرا شكليا، وتجهيزه مجرد مسألة إدارية، بحسب أقوال شتورم. لقد كانت مشغولة انشغالا تاما بالمرحلة الأخيرة من الأبحاث، لدرجة أنها لم تعد تهتم بالسؤال عن الوظيفة. كان الوقت ضيقا؛ لأن الشركة ظلت تلح في طلب البيانات النهائية، وظلت زابينة تحرث حتى اليوم الأخير من أجل تقييم تجاربها. استغنت عن الإجازة، وقضت عطلة نهاية الأسبوع في المعمل أكثر من مرة، وقطعت شوطا جبارا في عدوها السريع، والآن يخبرونها أنها أصبحت خارج السباق! ما الذي أغفلته؟
كانت الحجة التي ساقها هي أن مصدر تمويل المشروع انسحب فجأة بلا مهلة مسبقة كافية، وأن هذا الأمر أثر في الرئيس تأثيرا بالغا، لكنه للأسف ليس لديه أي موارد يستطيع من خلالها أن يجد لها عملا، ربما يتحسن الحال بعد ستة أشهر. فاندا لم يعجبها هذا الكلام؛ فشتورم كان لديه من الموارد ما يكفي لتعيين عالم، خصوصا لو كان لمدة قصيرة لعبور عنق الزجاجة. يتعين فقط أن يرى في هذا الأمر فائدة له، والمفيد بالنسبة له هو كل أمر يزيد من نفوذه.
كانت زابينة تجري أبحاثا خاصة بمشروع متعلق بصناعة ما. هذا ما تعرفه فاندا؛ ولهذا كان لها عقد خاص مع الرئيس، بالأحرى مع شركته نبيكس، وهذا ما جعل المسألة أكثر صعوبة، إذ لم يكن ثمة قسم لشئون العاملين يستشعر المسئولية تجاهها. صارت هذه الطموحات الاقتصادية الخاصة تشكل اتجاها أكثر رواجا، وكان كثير من أساتذة الجامعات ينفذونها بمجرد أن يجدوا لأنفسهم مدخلا إلى عالم الصناعة؛ إذ يمنحون تفرغا للقيام بهذه المهمة، ويحق لهم استخدام معامل الجامعات وتجهيزاتها التقنية لإنجاز أعمالهم الخاصة، ثم يدفعون جزءا من الدخل إلى الجامعة أو المستشفى التعليمي، وبهذا يستفيد الطرفان. وكان من حق مدير العمل الخاص أن يتحكم في موارد التمويل الآتية من القطاع الصناعي، وبهذا تبرم العقود ويتفق على المشتريات في غضون أيام قليلة؛ لأن هذه المسائل لم تعد تخضع للإجراءات المعقدة الخاصة بمصروفات الأموال العامة. لقد كان حماس كبار الموظفين من أجل الخصخصة ينصب كليا في خزينة الجامعة، ويحسن بشكل واضح من إحصائيات الأموال المكتسبة. هي في كل حال مكاسب مضافة لصورة الأساتذة؛ ومن هنا تشكل ركن مثالي يترعرع فيه نوع جديد من أنواع القيادة، يتحالف فيه على نحو غير مريح غرور الأساتذة مع آليات الإدارة الحديثة. أما محتويات العقود ففي الغالب موجهة إلى المهتمين من مجالات الصناعة، وكانت تدور حول اختبار المستحضرات الصيدلانية أو المواد الرائدة بأكثر مما تبحث في أساسيات العلوم. كانت فاندا على دراية بأن زابينة تعمل لصالح شركة أمريكية. لم تكن تتحدث إلا نادرا عن عملها، كما أنها لم تقدم بيانات خاصة به. ولأن فاندا كانت مشغولة بنفسها في الشهور الأولى من عملها، فلم تكن تعر الأمر انتباها، أما الآن فقد تذكرت كيف رأت زابينة مؤخرا من خلال النافذة الزجاجية المركبة في الباب الموصل لمنطقة الحظر الصحي لحيوانات التجارب. كانت ترتدي بدلة واقية منتفخة جعلتها تبدو مثل كابتن آيلين كولينز رائدة مكوك الفضاء لدى وكالة ناسا؛ مزيج من البراءة الصبيانية والتنكر التام للأنوثة التي لم تكن لتجد موطئ قدم في مكان كهذا. تعجبت فاندا من هذه الإجراءات الوقائية المبالغ فيها، ولما سألت صديقتها عنها ذات مساء، توترت جدا على غير العادة وتحاشت الموضوع. لقد ظل جانب من حياة زابينة غريبا عليها، وكان لا بد أن تعترف أنها لم تكن تعرف فيما تجري صديقتها أبحاثها، وقد قررت فاندا أن تخاطب زابينة في هذا الشأن. هي الآن تقضم بقواطعها مؤخرة قلم الحبر الذي تمسك به، وترف عينيها في قطع البخار المتكاثف أمامها التي لا تزال كما سبق متشبثة بقوة بمنحدرات اللان. كيف حالها يا ترى؟ رفعت فاندا سماعة الهاتف وطلبت رقم زابينة. رد عليها صديقها فولفجانج.
فقالت: «مرحبا، هذا أنا»، كانت تريد أن تبدو مشجعة: «ترى كيف وجدت النحلة بينة الحرية في التنزه؟» «ليس من الممكن الآن الحديث عن ملكة نحل متألقة؛ لأنها تشعر وكأنها ذكر نحل ملسوع»، جاءها رد فولفجانج بنبرة تحمل شعورا بالعجز. «هل من الممكن أن أحدثها رغم ذلك؟» «صوتها يتحشرج قليلا، لكني أعتقد أنه سيمكنك أن تفهميها.»
لم يكن صوت زابينة محشرجا، بل كان أقرب إلى مواء قطة ضائعة، لكن فاندا تغلبت على الرغبة في مواساتها. الآن تحديدا ليس وقت شفقة، ليقم فولفجانج بهذه المهمة. لقد قررت ألا تلف وتدور حول الموضوع، بل ستطرق الحديد وهو ساخن. «اسمعي يا بينة، أريد أن ألقي نظرة على نتائج أبحاثك الأخيرة.» أنصتت فاندا في ترقب. كيف سيكون رد فعل صديقتها على هذا الطلب الجريء؟ هل هناك أمر لا تريد أن تتحدث عنه؟
قالت زابينة بلا مبالاة: «وأي دور يلعبه ذلك الآن؟» «لا أعرف الآن، لكن ربما أستطيع أن أخبرك بالمزيد حين أطلع عليها.» «لا تزال على الكمبيوتر في المعهد، ليس عندي منها نسخة، شتورم أصدر إلي تعليمات بعدم أخذ أي بيانات معي إلى البيت.» «لا أستوعب ذلك! هل كنت تقدمين ألعابا أكروباتية دون شبكة أمان، وأرضية مزدوجة؟» «لا أيتها المتحذلقة! لكن النسخة مع شتورم عل بالك أن يرتاح؛ فقد ارتأى أن في ذلك الكفاية.» استشعرت فاندا زمجرة في معدتها، ومنعت نفسها من إبداء الملحوظة التي على لسانها. «أحتاج كلمة المرور.» «ماذا؟» «كلمة المرور لدخول بنك معلوماتك.» «وماذا تتوقعين أن تجدي هناك؟» «لا فكرة لدي الآن. لا أعرف حقا، لكني أعتقد أن الأمر مهم.»
امتزج صوت شهيق بصوت تنهيدة عميقة في فترة الصمت التي استمرت على الناحية الأخرى من الاتصال الهاتفي. «هذا لا يجوز، لا ينبغي لك رؤية البيانات.» «أنت تعرفين إذن.» «ماذا؟» «أنت تعرفين السبب إذن في عدم رغبته في توظيفك مجددا.» «ليس لدي أي فكرة مطلقا. رغم ذلك عاقبة هذا الأمر يمكن أن تكون أكبر من أن تتحملها كلتانا ، علاوة على ذلك فإن البيانات سليمة، لن تجدي فيها شيئا فيما عدا ...» وصمتت زابينة فجأة. «ماذا كنت تقولين لو سمحت؟» «لا يهم، انسي الموضوع.» «لا يا بينة، لا يمكن للأمور أن تسير على هذا النحو. أنت تتصرفين وكأن الدنيا قامت قيامتها، وتتحدثين بالألغاز وتردين يدي الممدودة إليك؛ ولهذا سأقوم بنفسي بعمليات البحث؛ إذ إني بدأ يتسرب إلي شعور سيئ ...» ترددت فاندا في إكمال كلامها. «ماذا؟» «... أنك طبخت مع شتورم أمرا مريبا.» «لا تذكريني ثانية مع هذا الحقير في جملة واحدة.» «إن كنت تحمين ظهره، ففي الغالب لن أستطيع أن أتجنب هذا.»
ساد الصمت لبرهة على نهاية الخط الهاتفي. كانت فاندا قد عرفت زابينة في الآونة السابقة بما يكفي لتعرف أنها قد تفكر في الانتقام، بمجرد أن تخرج من الجحر الذي سدت فتحته بغرقها في الإحباط ورثاء الذات. «حسنا، سأعطيك ما تشائين، وإياك أن تسيئي استخدامه.» «واضح طبعا. سأرسل الإعلان الذي بعثت به إلى فولفجانج. أخبريني مرة أخرى ما هو عنوان بريده الإلكتروني؟»
ردت زابينة بعصبية: «دعيك من هذا الهراء. سأعطيك كلمة المرور على شرط، أن ننظر في البيانات معا. أريد أن أحتفظ بها عندي، ولا ينبغي أبدا أن تقع في أيد غريبة.» «أقسم على هذا بشرف الحقيقة والعلم.»
ردت زابينة بجفاء: «أنت لا تؤمنين بذلك حقا ... اكتبي ورائي:
Und Anfang glänzt an allen Bruchstellen unseres Misslingens (في البدء ومضت على كل الثغرات إشارات إخفاقنا).» دونت فاندا، ثم قرأتها لزابينة ثانية حتى تتأكد. «تبدو شاعرية، وطويلة نوعا ما على كلمة مرور أم ماذا ترين؟» «إنه بيت من قصيدة للشاعر ريلكه. خذي أول حرف من كل كلمة، وراعي الحروف التي تكتب كبيرة والأخرى الصغيرة، ثم أضيفي رقم 42. هذه هي كلمة المرور.»
كتبت فاندا:
UAgaaBuM42 .
ثم قالت: «يبدو وكأنه اسم حمض نووي مكتوب بشكل رديء. ولماذا اثنان وأربعون؟» «كان ينبغي أن تعرفي الإجابة بنفسك أيتها البربرية الكارهة للثقافة. إنها من كتاب «دليل الرحالة إلى المجرة»، فعند الرقم اثنين وأربعين يجيب الكمبيوتر على السؤال عن معنى الحياة.» «مممم، كم نقطة ينبغي أن يحققها المرء في اختبار الذكاء كي يفهم ذلك؟» «على الأقل اثنان وأربعون.» «وهذا ما يكفي لأستاذ مساعد، لكن رغم ذلك أشكرك على ثقتك.» «سأوضح لك الأمر مرة أخرى ونحن نحتسي البيرة المبردة ...» سمعتها فاندا، لكن سرعان ما تشتت انتباهها وشردت وهي تقف في مطبخها ذي الطلاء الأبيض الشاحب المعلق على منحدرات اللان المغطاة بالضباب. لم يكن هناك سوى طريق واحد يمكن فاندا من الوصول إلى بنك المعلومات الخاص بزابينة دون أن يلاحظ ذلك أي من العاملين في المعهد.
الفصل الثامن
تحريات ليلية
صعدت سيارة الأجرة الجماعية الشارع الواسع، بينما بدد ضوء كشافاتها الأمامية ستار الضباب المتكاثف فبدا كأشباح تتراقص. كانت فاندا الراكب الوحيد؛ ففي هذا الوقت المتأخر كانت الحافلة العامة قد توقفت عن صعود منحدرات اللان، ولهذا فقد طلبت فاندا سيارة أجرة أخرى للعودة. قالت ستكفيني ساعة للوصول إلى ما أريد. كانت تريد أن تحمل معلومات زابينة، ثم إن كان في الوقت متسع، أن تبحث في الإنترنت عن مراجع خاصة بأبحاثها؛ فالأماكن كلها كانت محجوزة في غرفة الكمبيوتر عصر اليوم، ولم يكن ثمة مدخل من مكتبها إلى كمبيوتر بنك المعلومات المركزي الخاص بالقسم، وبخلاف الرئيس لم يكن من الممكن إلا لتوماس فايلاند - بوصفه إداريا - الدخول إلى النظام. كادت فاندا أن تطلب مساعدته لكنها عدلت عن ذلك؛ إذ لم تكن تعرفه بما يكفي، علاوة على أنها لم تكن تريد أن تخلق مشاكل لمزيد من الناس. أفضل شيء ألا يعلم أحد بأمر تحرياتها الليلية. دست يدها في جيب سترتها، ومست الورقة المكتوبة عليها كلمة مرور زابينة، وكذلك المفتاحان الإلكترونيان اللذان سيسمحان لها بالدخول إلى ذلك الحصن الإلكتروني. «الأفضل أن تأخذي مفتاحي، فهذه المفاتيح الإلكترونية تخلف أثرا على الكمبيوتر المركزي مثلها مثل بصمات الأصابع. لا ينبغي أن يعلم أحد أنك تتشممين الأمور لصالحي. أما أنا فأستطيع أن أقول إني كنت أريد أن أمسح أشياء خاصة من على الكمبيوتر؛ لأنني أصلا لم يعد لدي وظيفة أخسرها.» أضافت الجملة الأخيرة بجفوة، ففي نهاية الأمر لم تكن تريد أن تصحب فاندا إلى هناك.
توقفت سيارة الأجرة عند محطة أوتوبيس هانز-ميرفاينشتراسيه. نزلت فاندا، وصعدت الدرجات العريضة. كان قرميد الشارع يضيء إضاءة خافتة. في مكان ما ترتفع في ضوء النهار المباني الأسمنتية لمعاهد العلوم الطبيعية، عماليق رمادية لا تجد لها مدخلا من فورك، وحين تجد طريقك فيها لا تستطيع أن تجد طريق الخروج بيسر. نظرت إلى ساعة يدها في ضوء أحد المصابيح، فوجدت عقاربها تشير إلى عشرين دقيقة قبل منتصف الليل. وقفت مباني الأبحاث القديمة في ظلام دامس. على الأقل هي لم تتبين أي ضوء من خلال الضباب. وبسرعة هبطت السلالم المؤدية إلى مركز الأبحاث الجديد. تلفتت سريعا حولها حين وصلت إلى المدخل. هل هناك شيء ما؟ ضيقت عينيها قليلا ونظرت في اتجاه موقف السيارات. ما هذا الهراء؟ فكرت وهزت رأسها، أشعر الآن وكأني لصة مقتحمة. دست يدها في جيب سترتها وأخرجت الزر الأملس المعلق في الميدالية المصنوعة من الجلد، إنه مفتاح زابينة الإلكتروني. صوبت فاندا المفتاح نحو جهاز الاستشعار في داخل المبنى وضغطت على زر الانطلاق. لم يحدث شيء. المفترض أن يعمل المفتاح الإلكتروني في الأحوال العادية مثل مفتاح السيارة الإلكتروني، إلا أن نظام تشغيله كان أكثر تعقيدا؛ ولهذا لم يكن الأمر لينجح من المرة الأولى، ينبغي توجيه المفتاح بدقة نحو الصندوق الصغير الحامل لجهاز الاستشعار. كررت يدها اليمنى الحركة المعتادة. أيضا لم يحدث شيء. كان المفترض أن تسمع تكتكة يصدرها المفتاح، ثم طنين الباب الزجاجي وهو ينفتح وكأن يد الأشباح فتحته. كذلك في المرة الثالثة لم ينفتح الباب. يا للشناعة! هل أصلا يمكن دخول المبنى ليلا؟ لم تكن فاندا تعرف لأنها لم تحضر قط في ساعة متأخرة كتلك. صحيح أنها كانت كثيرا ما تغادر المعمل في ساعة متأخرة، لكنها كانت تخرج دائما. جربت لمرة أخيرة، لكن في هذه المرة استخدمت مفتاحها هي، وارتاعت حين سمعت التكتكة ثم - افتح يا سمسم - فتح الباب أمامها مصدرا طنينه. دخلت إلى البهو المظلم لمركز الأبحاث، وانتظرت إلى أن انغلق الباب إلكترونيا من جديد. شعرت باضطراب في محيط معدتها. حاولت أن تهدئ من روعها قائلة لنفسها: «لا بأس إن كنت متوترة قليلا؛ فالتلصص ليس وظيفتي المعتادة. لكن من الغريب حقا ألا يفتح الباب بمفتاح زابينة.»
كان الضوء الشاحب المنبعث من المصباح الخارجي يخترق الدرف الزجاجية الكبيرة، ويسقط على الحوائط البيضاء في الرواق. لقد كان المكان هنا في الداخل أكثر إضاءة منه في الخارج. توهجت نقطة حمراء على الحائط المقابل مشيرة إلى مفتاح النور. ذهبت نحوها بدافع فطري أولا، ثم سحبت يدها قبل أن تضغط على المفتاح؛ إن ضغطة واحدة لكفيلة بجعل المدخل فالسلالم يسبحان في الإضاءة. مجرد التفكير في هذا الأمر جعلها تجفل. الآن لا يصح إشعال النور. ليس هنا في هذا المكان الذي يرى من بعيد. أستطيع أن أجد طريقي إلى القسم في الدور الثالث - في حالات الضرورة - مغمضة العينين من كثرة ما ذهبت إليه. على اليمين أضاءت مفاتيح تشغيل المصعد. ماذا لو علقت بالمصعد الآن؟ أمر مروع ومحرج في آن واحد، وفريسة طيبة للصحف المحلية. تخيلت عنوان الصحيفة: «ضبط عالمة متلبسة بجريمة سرقة بيانات.» من الممكن دائما أن تتحجج بأنها كانت تحتاج إلى مراجعة نتائج أبحاثها الخاصة. هدأت هذه الفكرة من روعها قليلا. كان الباب المؤدي إلى بئر السلم على اليمين وراء المصعد، وكان على فاندا أن تدفعه بكل ما أوتيت من قوة. تباطأ الباب الثقيل وكأنه حارس عنيد. انسلت من فرجة الباب ودخلت ثم انتظرت. كانت تقف في المنور المعتم، في مكان ما أمامها كانت تبدأ أولى درجات السلم. سرعان ما اعتادت عيناها الظلمة. أمسكت الدرابزين بيدها اليمنى، ومع كل عتبة تصلها تتلمس خطاها نحو العتبة التالية. وقفت أمام باب القسم، وتسارعت أنفاسها. كان الرواق الذي يلي الباب الزجاجي شديد الظلمة، ولم يكن ثمة إشارة إلى وجود أي أحد في وردية ليلية.
ومض الضوء الأحمر الخاص بمفتاح الباب إلى جوار المدخل كعلامة تحذيرية، لكنه سرعان ما تحول إلى اللون الأخضر بمجرد أن صوبت نحوه مفتاحها الإلكتروني. أطلق القفل صريرا خفيفا فتموج الباب منفتحا ومرحبا وكأنه في انتظارها من مدة. وقفت فاندا على بداية الممر ونظرت في السواد الذي يشبه النفق. اخترقت أنفها رائحة سكرية ثقيلة، كانت مزيجا من رائحة باركيه الأرضية المركب حديثا مع روائح وسائط مزارع الخلايا. وقع وراءها مفتاح القسم. بحثت بيديها في سترتها عن هاتفها المحمول، فوجدت ملمسه باردا لكنه مألوف. ثم أضاء المكان؛ إذ كانت قد ضغطت أصابعها بعفوية على مفتاح النور المجاور للباب. صارت الطرقة الآن مضاءة حتى منتصفها، أما نهايتها فلفها ضوء شاحب. تراقصت لمبة نيون، وارتعشت كأنها سحلية محتجزة.
على يسارها ومضت نوافذ حجرات المعمل بلون يميل إلى الرصاصي. أولا ظهرت المغسلة بجهاز التعقيم «الأوتوكلاف»، ثم معمل مزارع الخلايا والأنسجة الذي تعمل فيه مع فريقها. مرت به ثم وصلت إلى معامل السموم (أ) و(ب) التي تمثل بلاط صاحبة الجلالة أستريد. وقعت عيناها على سبورات العرض التي تجمل الحوائط ما بين أبواب المعامل. بدا العمل المدون عليها سهلا وملونا، ويكاد يكون مضحكا. لم يكن ثمة ما يدل على التحليلات المضنية التي تستغرق وقتا طويلا، ولا على الاختبارات المتواصلة، والمراجعات المستمرة والأسئلة المتشككة، إلا أن هذه الصور كانت بمثابة نوافذ تسمح برؤية الحجرة التي وراءها. كانت فاندا قد وصلت إلى غرف تحليل الصور التي تحوي الميكروسكوبات. فقط خطوات معدودة وتصل إلى الماسورة الرئيسية، هكذا كانت تسمي غرفة الكمبيوتر المركزي الواقعة في مقابل غرف علم الأحياء الجزيئية. كانت ككل المكاتب واقعة على يمين الطرقة، تسبقها فقط حجرة توماس فايلاند. نعم، كانت له غرفة بمفرده. علقت على باب الغرفة لافتة كبيرة كتب عليها باللاتينية «محاكاة بالكمبيوتر». تعجبت أن باب غرفة الكمبيوتر كان مواربا. فدفعت يدها إلى فرجة الباب ومسحت على الحائط من الداخل، وجدت على الفور مفتاح النور وضغطت عليه. ارتعشت مصابيح الإضاءة الأنبوبية الشكل. وعلى الأرض في منتصف الغرفة وجدت رجلا راقدا على ظهره، كان رأسه في اتجاه الباب وذراعاه ورجلاه مفرودة عن آخرها. شلت حركة فاندا لوهلة؛ فلم تكن قد رأت يوهانيس ليبكنيشت على هذا النحو من الشحوب من قبل. ثم تسارع طوفان من الأفكار داخلها فظلت أسيرة، لكنها سرعان ما عرفت كيف عليها أن تتصرف. فألقت حقيبتها إلى جوارها وسارعت نحوه.
أمسكت فاندا بكتفيه وهزته هزا خفيفا: «يوهانيس، ماذا بك؟» كان جسده متصلبا مثل جرذ تحت تأثير المخدر العام، وكان رأسه يتدحرج بسهولة ذات اليمين وذات الشمال. جلست على ركبتيها إلى جواره. أمسكت ذقنه بيد، ورأسه بالأخرى كما تعلمت مؤخرا في دورة الإسعافات الأولية التي حضرتها. دفعت رقبته بحرص وسحبت فكه السفلي برقة. انفرجت شفتاه بسلاسة عن أسنان أعيد بناؤها بالذهب. وضعت فاندا أذنها على فمه وأنصتت. كان يتنفس، خرج صفير خفيف من بين شفتيها حين نفخت الهواء الذي جمعته. عليها ألا تفقد مزيدا من الوقت. انزلقت على ركبتيها عند جانب يوهانيس الأيسر، ودفعت ذراعه اليسرى لتلاصق جسده وأمسكت حزام بنطاله، فارتخى البنطال قليلا، وأحست بعظام حوضه المرتفعة قليلا. لم يكن يوهانيس قوي البنية، بل على العكس تماما، كان يبدو دائما وكأنه مصاب بالهزال، مع أنه دائما يقضم شيئا ما. قيدت فاندا يده اليسرى تحت مؤخرته المستوية بحيث لا تنزلق، ثم انحنت فوقه لتصل إلى يده اليمنى، أمسكتها من البلوفر الغالي، قطعة ثمينة ماركة «بوس»، تلك التي كان دائما ما يشير إليها ضاحكا حين يريد أن يسخر من الرئيس. أصبحت ذراعه المتصلبة الآن فوق صدره بالعرض. لم تتكبد مشقة في أن تقلب يوهانيس على جانبه الأيسر، وتحرر مرفقيه قليلا وتدفعه بيدها اليمنى من ذقنه. كان يوهانيس يتنفس بهدوء. خرج من فمه خيط لعاب رفيع. استشعرت نتوءا في مؤخرة رأسه. وفكرت: «لا بد أن أتصل بطبيب الطوارئ.» بحثت عن هاتفها المحمول وأرادت أن تضغط على رقم الإسعاف، لكن حين انطفأ النور ارتعدت ونظرت - وكأنها منومة مغناطيسيا - إلى هاتفها المضيء، وفجأة شعرت بشيء صلب يضرب رأسها من الخلف. فترنحت. وميض خاطف على جفنيها المغمضين، ألم مكتوم واصل حتى صدغيها، ثم ابتلعتها الظلمة.
الفصل التاسع
قطة سوداء
دفع مايك زينكي يده اليمنى في جيب البنطال، ومس بأصابعه الزر البلاستيكي الأملس باضطراب. سيكون عليه أن يمسحه حتى لا يخلف آثارا. الخطوات التي يسمع وقعها الآن كانت آتية من ناحية اليسار، وبقفزة واحدة اختبأ وراء سيارة تويوتا كانت قد صفت مباشرة إلى جوار مبنى مركز الأبحاث، وهذا من حسن طالعه؛ لأن موقف السيارات كان خاويا إلا من سيارة أخرى اصطفت في طرفه القصي. فرك مايك عينيه، فلم يكن نال قسطا وافرا من النوم. كاد يقع بالأمس في مأزق خطير - لولا أن تمكن من الهروب في الوقت المناسب - حينما علم أن الفتاة تعمل في المكان الذي سيتعين عليه تنفيذ المهمة به. صدفة حمقاء؛ لقد تعارفا في الديسكو، وصاحبها إلى منزلها. وبحذر استرق النظر من وراء غطاء محرك السيارة، ورأى في الضوء الشحيح للمصابيح كيف أن سيدة تقف أمام المدخل الرئيس للمعهد. بدت مترددة، وكانت الظلمة تسدل أستارها بحيث لم يتمكن من معرفة ما الذي تفعله هناك. وفجأة أدارت وجهها ناحيته، لكن مايك استطاع أن يخفي رأسه في الوقت المناسب خلف رفرف السيارة، وحين رفع رأسه من جديد كانت السيدة قد اختفت. سمع صوت انغلاق الباب الزجاجي في القفل، واختبأ ثانية وراء السيارة حتى لا يكشفه الضوء الذي توقع أن ينتشر الآن من داخل المبنى، لكن الضوء لم يشعل، وكأن الظلمة قد فغرت فاها العملاق وابتلعت السيدة.
هل كان يحلم؟ لا، إن كان يثق في شيء فهو يثق في عقله اليقظ. لقد دخلت سيدة لتوها إلى مبنى الأبحاث. هذا أكيد. والغريب أنها لم تشعل الضوء بالداخل. إما أنه لا يعمل، وإما لم ترد هي لأحد أن يراها. قرر أن ينتظر لبرهة أخرى.
هل كانت هي عميلته المجهولة؟ لكنه سمع أن العميل رجل. ربما يكون هو من أرسلها. لا يمكن أن يعرف المرء ماذا يدبر أولئك الناس. فعلى عكس الاتفاقات يظهرون في مكان تنفيذ المهمة بدافع من فضولهم فيفسدون العملية بأكملها. بالنسبة لمايك فقد كان وراءه علماء محبطون يريدون أن يثبتوا شيئا على رئيسهم. لم تكن دوافعهم تعنيه في شيء. لقد فتنته الأبواب والأقفال التي كانت تمنعهم من المرور. كان عليه أن يفتحها، وكان ذلك بمثابة التزام أوكل إلى موهبته الفذة.
لا يتذكر كيف بدأ الأمر في الماضي، فقد كان جد صغير وقتها، بالضبط سبع مرات تمكن فيها من فتح صندوق مجوهرات أخته دون أن يترك خدشا واحدا على القفل، وقرأ عدة خطابات كانت تحتفظ بها بين مقتنياتها الرخيصة، ولم تعلم قط، لكن الأمر اختلف تماما مع خزينة والده، كان وقتها في الثانية عشرة من العمر، وكان لا بد للأمر أن يبدو حقيقيا، ولهذا فقد اندفع من الشرفة إلى المنزل قبل أن يتعامل مع الخزينة في حجرة المكتب. كان كل شيء متوافقا تماما مع سلسلة الاقتحامات التي أفزعت وقتها سكان الحي، لكن لم تثبت سرقة أي شيء. رغم ذلك تم استدعاء الشرطة، وحفظت القضية دون أن تحل. وقتها بدأت تلك الدغدغة التي كان يستشعرها في بطنه، والتي كانت تملأ إحساسه بمعنى وجوده، هذا الذي كان يراه تافها، ولم يغادره هذا الشعور بعدها. وفي وقت ما بدأ يجرب نفسه مع أنظمة الغلق الإلكترونية. وبعد طلاق والديه لم يعد هناك من يستهزئ به إذا ما أمضى أياما كاملة أمام الكمبيوتر. وسريعا وجد بعضا ممن يماثلونه في التفكير، وبدءوا في اقتحام بنوك المعلومات الكائنة في المدينة، والفائز في سباق الحواجز هذا هو من يصل أولا إلى شبكة قسم الشئون المالية. لم يكن يعنيهم حقا حجم المصروفات التي ينفقها عمدة المدينة على ورق التواليت أو رحلات العمل، ما كان يفتنهم هو كسر المقاومة الخارجية التي كانت تسعى لإيقاف التيار الذي وجدوا أنفسهم يسبحون فيه.
وفي وقت ما بدأت أيضا هذه الألعاب الصبيانية تصيبه بالملل، فبدأ يبحث عن تحديات جديدة. عرفته إحدى الصديقات على جماعة «والدن أربعة» وهي مجموعة من الشباب - بنظره - غريبي الأطوار، المغتربين عن هذا العالم، المحبين للطبيعة بجنون، الذين يعتبرون كلمات التقنية والتكنولوجيا وكأنها شتائم بذيئة. كانوا يريدون إيقاف كل شيء له صلة بأيهما. مبدئيا كان يجد أيديولوجيتهم مضحكة؛ لأنهم كانوا يحتاجون واحدا مثله هو بوجه خاص، مدمن كمبيوتر، لا يستطيع أن يواصل حياته دون جرعاته اليومية منه. وفي نظر مايك كانوا مجرد نشطاء بيئيين محبطين، يؤرق وجدانهم هراء إجماع كافة المؤسسات الراسخة. كانوا يريدون نسف الهياكل الإدارية من أصولها، ولم يعبئوا بالطريق غير الشرعي الملغوم، إذا ما اضطروا إلى دهس جماعات الضغط المؤمنة بالعلوم وأذرعها الطولى. كان هو الناشط السري في كل مشروعاتهم المثيرة، والآن وهو في بداية العشرينيات، أضحى واحدا من أهم القراصنة «الهاكرز» على الساحة، وكان يحب ما يفعل. كان ينبغي له أن يحبه؛ لأن هناك فقط كان يجد القارب الذي يعبر به عبر الضفائر الرقمية الملغزة، وكان يستمتع بذلك مثل كلب يتشمم بحثا عن طعامه. وحين يصعب عليه اقتحام شبكة معلومات من الخارج، يتسلل سرا إلى الهدف المنشود، يكسر أكواد الكمبيوتر غير المؤمنة جيدا، ويحمل بعض المعلومات ثم يختفي. كان التحدي الحقيقي يتمثل في التحضيرات لعملياته، دراسة خرائط المباني، وترتيب كيفية خداع أنظمة الإغلاق. في هذه الأثناء تلقت المجموعة مؤشرات سيئة من العلماء بشأن تزوير البيانات، تبديد الأموال العامة وممارسات بحثية غير قانونية. للأسف قلما كانت الدوافع لذلك خشية العار الذي قد تسببه فضيحة، إلا أن العملية هنا كانت جد كبيرة، وإلا لما كانوا استخدموه فيها، إلا أن مركز الأبحاث في ماربورج أثبت أنه مثل جوزة صلبة قشرتها. لقد كانت البيانات الخاصة بكل عالم على حدة تخزن على خادم مركزي خاص بالجامعة لم يستطع أن يخترق برنامج الحماية «فايروول» الخاص به؛ لذا تعين عليه أن يجد مدخلا آخر، ومن حسن الحظ أن نظام الإغلاق في المبنى الجديد كان يعتمد على خادم مستقل تمكن من اختراقه بنجاح، واعتمادا على الكود المفتاحي الخاص بعميله تمكن أن يجد لنفسه مدخلا بين دوائر الأرقام التي يعمل بها نظام الإغلاق الإلكتروني، وركب لنفسه مكانا في قلب القلعة الحصينة. كان يسجل دخوله ببساطة من الخارج كمستخدم جديد على النظام، لكن باستخدام سلسلة رقمية قصيرة، مثله مثل ذبابة اليوم الواحد، تفنى حياتها القصيرة دون ملاحظة من أحد، بعد أن تؤدي مهمتها بنجاح. أثر يمحو نفسه بنفسه ولا يمكن أن يتتبعه أحد. بقيت له من الزمن الآن ساعة. مدة كبيرة جدا تتسع لأداء عمله.
شعر بالبلاستيك الناعم بين أصابعه. الشيء الوحيد الذي سيخلفه وراءه كان الزر الأحمر، بطاقة التعريف الخاصة بجماعة «والدن أربعة»، والتي تظهر لعميله أنهم كانوا هناك. أخذ مايك حقيبة الظهر من ورائه وسحب السوستة، ثم أخرج الصندوق الصغير الذي يحوي «المرسل» الذي صنعه بنفسه. تلفت حوله من جديد، فكان كل شيء غارقا في الصمت، ثم تسلل إلى مدخل المعهد. كان عليه أن يلتزم الحذر فهو ليس بمفرده هنا. كان يريد أن يتحول إلى قطة سوداء تستطيع بضربة جفن واحدة أن تلقي ستارا واقيا يمنع انعكاس الضوء على عينيها. صوب مايك «المرسل» نحو الباب. أزيز خفيف فتح الباب فانسل لتتلقفه ذراعا الظلمة التي تلف المبنى.
الفصل العاشر
حذف البيانات
«فاندا! فاااااندا!» جاءها الصوت من واد سحيق، بينما ضغطت صخرة ثقيلة على أضلعها، ثم مادت الأرض من تحتها، ارتفعت الصخرة في الأعالي فارتفعت معها، ثم انزلقت إلى الأسفل، وتدحرجت من جنبها على ظهرها حتى هبطت عند كومة من الخشب، لكنها لم تتألم الألم الذي توقعته. فتحت فاندا عينيها فرأت ضوءا منبعثا من اللمبة الأسطوانية، بينما يد تهزها من كتفها: «فاندا، هل أنت مستيقظة؟» سمعت صوتا مألوفا وعرفت أنه يوهانيس.
رفعت رأسها ونظرت إلى وجه زميلها الذي بدت عليه أمارات القلق. «لا أعرف، ربما كنت فقط أحلم.»
الآن فقط تعرفت على ما حولها. كانت مستلقية بظهرها على ساقي يوهانيس الذي استند على يده وأمسك بالأخرى مؤخرة رأسه بحرص. شعرت بدقات مطارق تدق رأسها وتكاد تخترق صدغيها بلا هوادة. تركت رأسها ينزل من جديد.
سألت مباشرة: «هل أسرفنا في تناول كحوليات؟» «بالتأكيد، ربما لا سبب آخر لو حللنا الموقف.» «ماذا تقول؟ أنا لست كارهة للحياة.» نهضت فاندا ببطء، ثم جلست إلى جوار زميلها على الأرض. كان يوهانيس يبدو مثل المهرج بجلسته تلك وبتعابير وجهه التي تحاول أن تكتم ابتسامة يشوبها الألم. كان عليها أن تعطس فجأة، فعاد لها شعور الوخز في رأسها. نظرت مأخوذة إلى الفئران التي كانت تعبث بين الأسلاك التي أسفل لوح الطاولة الخشبي الطويل. حكت سوالفها.
سألت: «كم الساعة الآن؟» نظر يوهانيس إلى ساعته: «بالضبط بضع دقائق قبل أن ينتصف الليل.» حسبت حساباتها، فوجدت أنها تفتقد عشر دقائق. ماذا فعلت فيها؟ كان الفاصل الزمني في رأسها يدير صورا لحظية أمام عيني خيالها: سيارة أجرة، بئر سلم، رواق مظلم، يوهانيس على الأرض، ألم مبهم؛ مجرد لقطات فيلم.
سألته: «متى أفقت؟» «قبلك بقليل.» «ماذا تفعل هنا حقا في هذا الوقت؟»
احمر وجه يوهانيس. «ممكن أن أطرح عليك نفس السؤال.»
نظرت فاندا حولها في غرفة الكمبيوتر. كان واحد من الأجهزة مفتوحا. «هل كنت تعمل عليه؟»
نظر يوهانيس حائرا ثم قال: «لا.» «ما معنى هذه اللا؟ ألا تستطيع ثروتك اللغوية أن تأتي بما هو أفضل؟»
قال بصوت يرتعش قليلا: «هل من الممكن أن تتخيري نبرة مختلفة للحديث؟ تشعرينني وكأني في محكمة. كان الكمبيوتر مغلقا حين دخلت إلى هنا، وظننت أنك أنت التي فتحته.» «كيف يعقل هذا؟ هل تتوقع حقا أني ضربتك على رأسك فقط لكي أعمل على الكمبيوتر؟ ألم يكن لي أن أفكر في طريقة أسهل؟»
طوى يوهانيس ذراعيه ونظر إليها متفحصا. «كنت تريدين الكمبيوتر؟»
فكرت فاندا مليا: من الممكن أن أمضي نصف الساعة القادمة في جدال معه، ولن أصل إلى شيء. لكن علي أن أعرف لم هو هنا.
قالت بنبرة أهدأ: «كنت أريد أن أدخل إلى مكتبي. ساعتها رأيت باب الماسورة الرئيسية مفتوحا. ووجدتك مستلقيا على ظهرك على الأرضية، فاقدا للوعي. قدمت لك بعض الإسعافات الأولية، وحين أردت الاتصال بطبيب الطوارئ أظلمت الدنيا فجأة. ارتطم شيء صلب برأسي. لا أعرف أكثر من ذلك.» وبدون أن يلاحظ أدخلت يدها اليمنى إلى جيب سترتها. أين ذهبت الورقة المدونة عليها كلمة المرور؟ لم تتمكن من العثور عليها. أصابها دوار. «ماذا يحدث؟» راقب يوهانيس يدها التي لا تزال تبحث في جيب سترتها ... «لقد شحب وجهك فجأة.» «لا أعرف، أشعر بهبوط خفيف. أنا أبحث عن ... مناديلي الورقية.» وقف يوهانيس وناولها عبوة مناديل «كيم» الورقية المبللة، التي كانت على الطاولة. سحبت فاندا منديلا وتمخطت، من الواضح أن حيلتها انطلت عليه. نهضت ببطء من على الأرض وجلست على الكرسي الموضوع أمام الكمبيوتر المفتوح. رأت رموز الاختصارات التي تشير إلى حسابات المعلومات الخاصة بالعاملين كل على حدة. كان رمز زابينة عبارة عن نحلة كبيرة تحدق عيناها فيها بعمق لا قرار له وتلمعان بشدة. لعنت فاندا نفسها سرا: لماذا لا أستطيع أن أتذكر القصائد؟ تذكرت فقط الأرقام المكتوبة في نهاية كلمة المرور، وكل شيء آخر بدا وكأنه حذف تماما. لعبت أصابعها بتوتر على زر أحمر إلى جوار لوحة المفاتيح. أخذته على راحة يدها وتأملته. كان عبارة عن قرص من البلاستيك، حجمه أكبر قليلا من قطعة العملة فئة اثنين يورو، أحمر مثل حبة طماطم. مدت فاندا يدها المنبسطة نحو يوهانيس ثم استدارت نحو الشاشة مرة أخرى.
سألت دون أن تبعد نظرها عن الشاشة: «ما هذا؟» «وما أدراني؟» «لقد كان هنا شخص آخر عدانا يا يوهانيس.» نظرت نحوه الآن بانتباه. «واضح أننا تسببنا في إزعاج هذا الشخص المجهول، لكني أتساءل ماذا كان يريد؟» حك يوهانيس مؤخرة رأسه: «ما زلت أشعر بضغطة ضربته.» تجول بعينيه في الغرفة وكأنه يبحث عن الأداة التي ضرب بها منذ دقائق معدودة، ثم التقت أعينهما. «وإن كان هذا الشخص لا يزال هنا؟» ارتعبت فاندا بمجرد أن تلفظت بكلماتها، فقال يوهانيس مقترحا: «ربما يتعين علي أن أتفقد المكان.» ثم نظر إلى الرواق بالخارج.
سمعته فاندا يقول: «كل شيء هادئ هنا»، ثم اختفى.
لم تصدقه فاندا، لماذا لم تخطر على باله فكرة طلب الشرطة؟ إنه يأخذ الأمر على نحو بسيط. ربما تجول بباله نفس الخواطر بشأني. ومن سجل الأسماء على هاتفها المحمول وجدت رقم زابينة واتصلت بها. وبينما كانت تنتظر أن يتم الاتصال، سحبت ذاكرة يو إس بي ووضعتها في منفذ الكمبيوتر. بدا وكأن زابينة استغرقت دهرا حتى ردت عليها. «ألو؟» ردت زابينة بصوت ناعس.
همست فاندا: «مرحبا هذا أنا.» «مرحبا، من هناك؟» «اللعنة يا بينة، لا أستطيع أن أرفع صوتي الآن.»
قالت زابينة متثائبة: «ما الأمر إذن؟» «سأخبرك فيما بعد، أخبريني بكلمة المرور بسرعة.» «حسنا. في البدء ...» «لا، الحروف بسرعة لأكتبها معك على الكمبيوتر.» «حسنا»، وأملتها الحروف والأرقام، بينما تنقرها فاندا على لوحة المفاتيح، ثم نقرت على مفتاح الدخول وانفتح حساب زابينة. «في أي ملف حفظت بيانات المشروع؟» «ملف: بي آي تي، بيانات 2005، كلها ملفات إكسيل، وهناك ملفا وورد.»
نظرت فاندا إلى سطح الشاشة. «الملف فارغ.» «لا يمكن، لقد حفظت فيه عشرين ملفا على الأقل.» «صفر، كل شيء محذوف. سأتصل بك لاحقا.» اقترب وقع خطوات في الرواق، فأنهت المكالمة وأغلقت حساب زابينة. بدا يوهانيس مصفر الوجه حين عاد إلى غرفة الكمبيوتر.
قال: «الجو هادئ»، استشعرت فاندا الإنهاك باديا في صوته، وتساءلت إن كان محبطا أم مرتاحا بسبب هذا الخبر.
سألته: «ماذا علينا أن نفعل الآن؟ هل نبلغ الشرطة؟ في نهاية الأمر، ثمة عملية سطو.»
سكت يوهانيس، ثم تحدث عن تجربة مهمة عليه أن يجريها غدا، وقد تم التخطيط لها منذ أسابيع ولن يمكن تأجيلها بعد كل الترتيبات التي اتخذت، ولا ينبغي أن يفشل الأمر، وكيف أنه في غاية التعب الآن، ولا بد أن يخلد للنوم. ليس من الضروري إبلاغ الشرطة، فلن يفعل رجالها شيئا سوى أن يسلبوهما الراحة، بل إن زيارة قصيرة لعيادة الطوارئ بدت له أكثر أهمية. له صديق يعمل في هذه الوردية. ألم يغش على كليهما؟ نظرت فاندا إلى ساعتها وقالت: «أنا بخير، فلتذهب أنت.» أشارت الساعة إلى عدة دقائق بعد الثانية عشرة والنصف. «يا للشناعة! لا بد أن سيارة الأجرة التي طلبتها قد رحلت.»
قال لها يوهانيس: «بوسعي أن أقلك معي، فقيادتي ليست بالسوء الذي تبدو عليه هيئتي.»
ولم لا؟ فكرت فاندا: لعلي أعرف منه المزيد في أثناء ذلك. سرا كانت سعيدة أن يوهانيس لم يشأ أن يبلغ الشرطة. نقلت بصرها ثانية في الغرفة قبل أن يغادرا. كانت كل الشاشات مطفأة. ضيقت فاندا عينيها لوهلة، ثم أغلقت الباب وهي تشعر أنها أغفلت أمرا مهما.
الفصل الحادي عشر
بعيدا عن المدينة القديمة
في هذه الأثناء كانت الساعة قد تخطت الواحدة بقليل. وقفت فاندا بمفردها أمام المتجر الكبير في وسط المدينة. دخلت في هالة الضوء الساطع في إحدى الواجهات وارتجفت. وفي هذه الأثناء ندمت على أنها رفضت عرض يوهانيس بتوصيلها إلى شمال المدينة، فقد كان يسكن في الحي الجنوبي. لم يتحدثا معا في أثناء الرحلة هبوطا من منحدرات اللان. «هل تتقدم في كتابة بحثك؟» ما إن قالت فاندا ذلك حتى غضبت من نفسها بسبب هذه المحاولة غير الماهرة في بدء حوار. لقد كان من الصعب عليها أن تنحي سوء ظنها بزميلها جانبا. شيء ما في تصرفاته في الأعلى في غرفة الكمبيوتر جعلها تتشكك فيه. تداعت إليها صور أحداث الساعة الأخيرة ثم اختفت ثانية. لم تكن تظهر الصور وفق تتابع منطقي، رغم أنها كانت تحاول ذلك جاهدة. انقشع الضباب قليلا في اتجاه الوادي. «لا بأس»، استغرق الأمر وقتا طويلا حتى أجاب يوهانيس، ثم صمت من جديد. بدا قلقا. لبضع لحظات كان يزيد من سرعة السيارة، ثم يرفع قدمه فجأة من على دواسة البنزين. كان دائم النظر في المرآة الأمامية. ألحت على فاندا صورة ظبي يهرب، دائما ما يتوقف بعد عدة قفزات ليتأكد مما وراءه. شعرة واحدة هي كل ما فصله عن دهس ذلك الرجل السكران الذي كان يعبر كوبري كونراد أديناور مترنحا. «اللعنة، كدت أصدمه.» كان صوت يوهانيس مثل صوت الحشرجة الخارجة من ماسورة موتوسيكل حين يخرج منها الهواء. لم يكن من الممكن، بسبب شدة الظلام، أن تعرف إن كان وجهه قد احمر أم اصفر جراء هذا الموقف.
قالت فاندا متأوهة: «أعتقد أن ثمة شارعا يحفر في رأسي، هل تسمع ضجيج معدات البناء؟» «كان علي أن أذهب بك إلى عيادة الطوارئ.» «سأذهب باكرا إلى الطبيب، أعدك بهذا.» حاولت فاندا أن يكون صوتها مقنعا. «ربما سأصاب بالبرد، فعندي فعلا صداع خفيف منذ عدة أيام.» ثم صممت أن يتركها تنزل في وسط المدينة بدعوى أنها في حاجة لإنعاش رأسها. كانت تعلم أنه لن يستطيع أن يأتي بشيء إزاء تصميمها. كانت تشعر بالغثيان، لكنها لم تخبره.
توقف يوهانيس أمام المتجر الكبير الكائن في شارع الجامعة. «هلا اتصلت بي بمجرد أن تصلي إلى المنزل؟» لا بد أنه لاحظ كيف بدا صوته يدعو إلى الضحك؛ لذا قال بحسم: «لو لم تتصلي بي في غضون نصف الساعة، فسأمر عليك.»
قالت مداعبة: «حسنا يا أبي»، ثم أطلقت فاندا قبلة طائرة في الهواء تجاهه، واستأنفت: «لو سمحت لا تنس قصة ما قبل النوم.» ثم أغلقت باب السيارة. راقبت المصابيح الخلفية للسيارة التي انحنت بعد ذلك بقليل عند منعطف شارع جوتينبيرج، ثم اختفت.
لم تعد تذكر كم مر من الوقت وهي تحدق في هاتين العينين المتحجرتين. ما زال صدى كلماتها الأخيرة يتردد في رأسها حين حررت نظرها المعلق على الدمية التي بواجهة المحل. كانت مدفأة السيارة قد لفت قدميها ببعض الدفء اللطيف، لكنها واقفة الآن أمام المتجر وتشعر بالبرودة الرطبة لهواء الليل تزحف أسفل بنطالها. دفنت يديها في جيوب سترتها وجرت في اتجاه ميدان رودولف. أسرعت بنزول الدرجات القليلة المؤدية إلى النفق. كان هذا الطريق المختصر بمثابة رد فعل تلقائي ذي معنى إذا فعلت ذلك صباحا، إن كان المرور مزدحما في المفرق الضيق بين اللان والمدينة القديمة، لكن في هذه الساعة المتأخرة كان يمكن لها أن تعبر التقاطع بلا عقبات لتصل إلى الجانب الآخر من الميدان. تباطأت خطواتها لبرهة. هل عليها أن تعود؟ راقبت كل الاتجاهات بيقظة. كان القرميد يلتمع في انعكاسات المصابيح الخافتة. على اليمين المبنى المرتفع لأحد البنوك، في الأمام مباشرة السلم المؤدي إلى فايدنهاوزن والجانب الغربي من المدينة.
ثمة طريقان يفضيان إلى شمال المدينة، الأول هو الشريان الرئيس لماربورج الذي يربط المرور من الشمال إلى الجنوب مرورا بوسط المدينة التاريخي، إلا أن قدميها تاقتا فعلا للسير بمحاذاة ضفة النهر. قطعت فاندا الميدان الصغير الذي كان بمثابة سرة غائرة قليلا في وسط المدينة. كانت في وسطه نافورة تتكون من مجموعة من الأحجار المتكومة بلا شكل محدد، لكنها جافة مثل بئر معطلة. كانت تشعر بغربة عن حميمية هذه المنطقة الكائنة في الأسفل، بعيدا عن واجهات المباني المزخرفة. هنا ملتقى الفاشلين، يتناقشون ويثملون. لكن الميدان كان خاويا في منتصف الليل. رأت زجاجة بيرة وحيدة على السور المقابل للنفق المؤدي لضفة نهر اللان، وعلى الأرض كيس قمامة منفجرا. كانت محتوياته تخرج من الشق الطولي به وكأنها أحشاء تدلت من جدار البطن. كانت البوابة الحديدية الموصلة إلى النهر مفتوحة. سعدت فاندا أنها لم تعد مضطرة أن تدخل إلى النفق الصغير. فبدلا من ذلك سارعت إلى البوابة وسارت على الطريق الخشن الرصف الذي يؤدي إلى طريق ضفة النهر، ويعبر أسفل الجسر الموصل حتى فايدنهاوزن. انزلقت قدماها على القرميد الرطب حين انحنت بزاوية قائمة عند الدرابزين. اخترقت أنفها رائحة بول حادة، فكادت تختنق، إنه بول بشري بكل وضوح. لقد نسيت أن تكتم أنفاسها عند هذا الموضع كما تفعل عادة. وبعد الجسر أخذت نفسا عميقا. كانت رائحته رائحة النهر والتربة. كانت المياه تهدر إلى جوارها في دوامات جامحة فلكأنها تريد أن تبتلع هدأة الليل. سحبت أفكارها لبرهة أضواء النيون الزرقاء لمطعم «هوجو» عبر الواجهة الزجاجية له إلى داخله، حيث الدفء المريح الذي يستشعره رواد المطعم الجالسون إلى جوار بعضهم البعض في هذه الساعة المتأخرة. أمامها رأت جسر اللان الجديد في الضوء الخافت لمصابيح الإنارة. حين تكون الرؤية واضحة يمكن من هنا أيضا مشاهدة برج القيصر فيلهلم بين الهضاب على الناحية الأخرى من النهر. أما اليوم فلا يمكن حتى مشاهدة أضوائه بسبب قطع الضباب المتكاثفة. صعدت السلم بعد جسر اللان القديم، ثم انحنت يمينا إلى شارع الضفة. كان الضوء الأصفر المنبعث من مصابيح الإنارة مزركشا بكنار من الضباب، وعلى الأرض هيئة جسم نحيل سرعان ما يلحق بها كلما عبرت مخروط ضوء. سباق ظلال، مسابقة عدو دون فائزين، ثم خطوات من الخلف، ثم دوران، لا أحد. اليد اليمنى تقبض على «رذاذ الفلفل» هدية زابينة التي أخبرتها: «ماربورج ليست آمنة تماما كما يدعون.» سمعت وقع خطواتها، وصوت احتكاك ملابسها ببعضها. كانت تنتج ضوضاء عالية. حاولت بلا جدوى أن تغطي على ضجيجها حتى تسمع بصورة أفضل ما الذي يحدث خلفها. بحثت عن مفتاح ما في رأسها يمكن أن يشحذ حواسها؛ أنا أعشق شحذ الحواس، ومستعدة أن أضحي بنفسي من أجله. أريد أن أمحو من رأسي وقع خطواتي، وصوت احتكاك ملابسي وصوت ضربات قلبي من أجل أن أعرف بصورة أفضل، فهذه هي وظيفتي، وأنا متميزة فيها، فأنا ألاحظ كيف تنقسم الخلايا في وسيطها المغذي، كيف تنمو وتموت. أتغلغل في منطقتها الحميمة وأحاول أن أنقي الضوضاء التي أصنعها وأنا أخترقها من أجل أن أستمع إلى همسها، ذاك الذي يئن في الخفاء. في الواقع كانت تشعر بنفسها شديدة الغلظة إذا ما قارنتها برقة العمليات الحيوية التي كانت تجري أبحاثها عليها. كانت تعلم أنها تقترب من إيجاد إجابة على السؤال البائس الذي طالما أرقها مثل عجوز شمطاء متبرمة تلاحقها وهي تعرج، إنه السؤال عن مغزى ما تفعل. لم يكن ليثير دهشتها، بعد كل ذلك، ما قد حدث فعلا، لكن لا داعي للمبالغة. هزت رأسها لتنفض عنها بسرعة كل الأفكار التي تريد أن تشل تفكيرها.
كانت في هذه الأثناء قد تجاوزت الجسر المؤدي إلى منتزه التلامذة «شولربارك». عمل الهواء النقي على تصفية رأسها، فسكتت أصوات الهمهمة فيها، أنصتت فلم تسمع سوى هدير الماء. لم تعد المسافة المتبقية كبيرة. وصوت حفيف شجر يتردد في أذنيها. ألقت نظرة خاطفة وراء ظهرها، خطر ببالها أنها ربما تراه، لكنها لا تستطيع أن تتعرف عليه لأنها ليست لديها أية فكرة، ليست عندها صورة له. لو كان ذلك الذي يتبعني يعيش فقط في رأسي، فهل معنى ذلك أنه أقل حقيقة؟ إلى أين يمضي حين أطرده من تفكيري مثل أي ذبابة مزعجة؟ ربما يسارع إلى باب بيتي ويختبئ في ظلمة عتبة داري. أسرعت فاندا من خطواتها، وجرت في شارع عرضي باتجاه كنيسة إليزابيت، ثم انحنت مع الشارع يمينا. كانت أرض ميدان الكنيسة زلقة تحت أقدامها، كأننا في العصور الوسطى، جالت الفكرة بخاطرها وغضبت لأنها لم تأخذ الطريق الأبعد قليلا عبر شارع دويتشهاوس. قفزت على أطراف أصابعها فوق أكثر المواضع لزوجة، حتى وجدت أخيرا أرضا مسفلتة تحت أقدامها. خرجت أبخرة تنفس قصيرة من فمها. نظرت عابسة إلى حذائها الذي اتسخ ثم دقت الأرض عدة مرات دقا، وكأنها مع كل كتلة طينية تتحلل من نعل حذائها تتخلص من قطعة من خوفها. كان مقهى «كافيه جورنال» لا يزال مفتوحا وبه عدد من الزبائن. هدأ من روعها مطالعة الناس. من الاتجاه المقابل لها اقترب منها مجموعة من الشباب، كانوا يتضاحكون ويقرعون الأنخاب. كسرت زجاجة بيرة وأحدثت صوت رجرجة.
كتمت أنفاسها وهي تمر من جوار الشبان المتصايحين على ناصية المنازل. فقط بضعة أمتار قليلة وتقف أمام باب منزلها، ارتعشت يداها، ومرت بضع ثوان إلى أن دخل المفتاح في القفل. انسلت بسرعة إلى بئر السلم وألقت بكل ثقلها على الباب الخشبي الثقيل حتى انفتح محدثا صريرا عاليا. أخذت فاندا نفسا عميقا ثم ضربت بيدها مفتاح النور ولعنت حارس المنزل الذي لم يصلح الدائرة الكهربية. سقط ضوء خافت من مصابيح الإنارة عبر الشبابيك في بئر السلم، وبدا لها - على خلاف المعتاد - أن عليها أن تصعد الطوابق العالية لهذا المنزل القديم بلا نهاية. كل شيء يلفه السكون. كانت شقتها في الدور الثالث. جفلت حين شعرت بذبذبات هاتفها الخلوي.
جاءها صوت يوهانيس قلقا: «أين أنت؟» «أتسلق الآن جبل كليمنجارو في الليل، بيد أني غير متأكدة إن كان الجليد الأبدي لا يزال في انتظاري على القمة» ... أعطتها كلماتها بعض الشجاعة. «هل تحتاجين أي مساعدة؟» «أنا واقفة الآن على سلالم بيتي المظلمة، وأكاد أبول على نفسي من الرعب، أنت الآن رابطي الأخير بسائر العالم. قل لي شيئا أحمق. تحدث معي وتعال فورا إن بدأت في الصراخ.» «تمالكي نفسك، وأضيئي النور أولا.» «لا يعمل.» «ماذا؟» «الضوء ، ماذا إذن؟» ... ردت فاندا وقد قطعت بالفعل منتصف المسافة إلى شقتها. «هل تستطيعين رؤية أي شيء؟»
وضعت يدها على ورق الحائط المقلم، «أرى حمرا وحشية تطير ...» «هل أنت حقا على ما يرام؟» «... وفي الأعلى يبرق ضوء من أحد الأكواخ.» كان نور الباب لشقة جيرانها مضاء، ولهذا قفزت الدرجات الأخيرة بارتياح. تكومت أمام باب الجيران كالعادة فوارغ صناديق وأكياس بلاستيكية كما هي الحال بعد الحفلات، ولأول مرة لا تغضب فاندا من هذا الأمر. بعجالة فتحت باب شقتها فطارت قصاصة ورقية نحو قدميها. قالت بعصبية: «هذا أمر يلاحظه كل الناس. لا بد أن أفكر في حيلة جديدة.» انزلقت فاندا إلى الطرقة المظلمة، وبسرعة أحكمت إغلاق الباب وأشعلت الضوء في كل الغرف. «المنظر رائع من هذه القمة.» رن صوتها عاليا من فرط انفعالها. «يوهانيس، هل ما زلت على الخط؟» نظرت فاندا إلى شاشة الهاتف. كان مؤشر البطارية أبيض، لقد نفد شحن البطارية، وكان الشاحن كالعادة في المعهد.
الفصل الثاني عشر
الانفجار
استيقظت فاندا على صداع شديد، وكانت الساعة السابعة إلا الثلث. لا يزال أمامها بعض الوقت. في العادة كانت تستيقظ في السابعة حتى تكون في المعهد في الساعة الثامنة والنصف على أقصى تقدير. كانت مستلقية على ظهرها، مركزة جل انتباهها على آلامها التي تعتصر جمجمتها بين أسنان كماشة. استدارت لتستلقي على بطنها، ودست أنفها في الوسادة، وبدأت تتحسس بحذر المكان الذي تلقت فيه الضربة على مؤخرة رأسها. كان فعلا موجودا، تورم صغير لا يصل إلى حجم بيضة حمامة، لكنه ممتلئ بالأعصاب الرفيعة مثل ورقة زهرة ميموسا. شعرت بالحاجة الملحة لأن تتصل بصديقتها زابينة. لكن ساعتها خطر ببالها أنها قد نسيت ليلة أمس ذاكرة اليو إس بي الخاصة بها في الكمبيوتر. لم تترك لها هذه الفكرة مجالا تنعم فيه بالراحة، فنهضت، وتحممت بسرعة ثم سلكت طريقها إلى المعهد. لا ينبغي أن يجدها يوهانيس قبل أن تصل هي إليها. وإن استعجلت قليلا فقد يكون في الوقت متسع كيما تمر على طبيب المعهد؛ فهذا كفيل بأن يوفر عليها توبيخ يوهانيس لها وكأنه أمها.
قبل الثامنة بقليل كانت فاندا تجلس بالفعل في حجرة الانتظار بالعيادة الطبية، وتدريجيا بدأت تشعر بمفعول القرصين اللذين ابتلعتهما بمجرد استيقاظها. كان الضغط قد بدأ يخف من على جبينها حين انفتح الباب مقدما لها فرصة أن تقتنص لنفسها استشارة طبية في غرفة الكشف.
استقبلها الدكتور جليزر على الباب، مد يده مسلما عليها بود، ثم أشار لها بالجلوس على مقعد جلدي أسود اللون، أما هو فجلس وراء مكتبه قبالتها. وبينما كان يفحص هو بطاقة سجلها الطبي، كانت هي تتجول بعينيها على الصور المعلقة على الجدران. شاهدت أضرحة بوذية مزينة بأعلام ملونة، ومعابد متهالكة كانت تبدو في ضوء الغروب الأصفر مقمرة وبنية مثلها مثل وجه هذا الطبيب الذي بدأ يتطلع إليها سائلا من فوق حافة نظارته الطبية. كان يبدو مسترخيا على نحو يدعو إلى الحسد. «كيف حالك؟» «أعتقد أني سأصاب بالبرد»، وكان صوتها يقدم دليلا واضحا على ذلك. كانت ترى أنها شاحبة شحوب جرذ الألبينو رغم أن الجو صحو. كل ما تقوله صحيح، كما أنها في نهاية الأمر لم تكن بحاجة إلا إلى دليل كي تكون حافظت على وعدها ليوهانيس. أعجبتها تلك العيون الأبوية الرقيقة لهذا الطبيب الذي تتفحصها نظراته.
أجابها مبتسما: «هذا ما تظنين.» «أعاني من الصداع منذ عدة أيام، واليوم كان الألم أقوى نوعا ما» ... فكرت فاندا أن ما يدعو للضحك أنها بدأت تشعر بالتحسن فعلا. «تبدو عليك أمارات التعب، كما أن وجهك شاحب. هل تعملين كثيرا؟» «أستطيع أن أعمل على مدار اليوم لو أراد رئيسي ذلك.» انفلتت منها ضحكة عاجزة وقالت: «ربما أنام أقل مما ينبغي.»
كان يريد أن يكتب لها إجازة مرضية حتى آخر الأسبوع، لكن فاندا رفضت. في كل الأحوال طلب منها تحليل صورة دم كاملة، كما أراد أن يفحص مستويات الحديد في دمها. لم تبد اعتراضا. كانت سعيدة أنه لن يفحصها أكثر من ذلك.
وبعد نصف ساعة كانت قد اتخذت السلالم صعودا نحو الماسورة الرئيسية. «الأشخاص يبدءون يومهم بإلقاء تحية الصباح على زملائهم.» جاءها الصوت متكسرا من ورائها. التفتت فاندا ورأت وجه بيترا المتبرم. كانت مساعدتها الفنية من أولئك الذين يستيقظون مبكرا، وكانت تعد إفطارها الثاني الآن. كانت تقف في الركن أمام الحوض الصغير واضعة يديها على فخذيها متخذة سمت الشكائين، فيما كانت ماكينة القهوة تغرغر من ورائها وتقذف قطرات القهوة في المصفاة.
زمجرت فاندا «حالا»، ثم اندفعت من الباب المفتوح نحو غرفة الكمبيوتر. كان بها اثنان من زملاء العمل لم يتحركا لرؤيتها، فقد كانا ينظران كالممسوسين إلى شاشات الكمبيوتر وما عليها من أعمالهما. لم يكن ثمة إساءة أدب؛ فأيضا فاندا حين اضطرت إلى الجلوس والعمل هنا في البداية، كانت تعرف أن على ذهنها أن يعتزل كل شيء، ليعطيها الفرصة الوحيدة لإنجاز العمل في هذا المكان الذي تتقلص فيه المساحة الشخصية لتقتصر على حساب المعلومات الخاص. كان الكمبيوتر الذي بحثت من خلاله ليلة البارحة في بنك معلومات زابينة مطفأ. أما ذاكرة اليو إس بي الخاصة بها فلم ترها في أي مكان.
نادت بسرعة في الغرفة: «مرحبا، هل رأى أحدكم ذاكرة يو إس بي ملقاة في مكان ما هنا؟»
كانت لي وانج أول من حررت نظرتها من على الشاشة ونظرت إلى فاندا مبتسمة. كانت الفتاة الصينية قد حصلت على منحة بحثية لمدة ستة أشهر هنا في ماربورج، وفي الواقع لم يكن يهتم بها أحد؛ إذ فرض الرئيس على ميشائيل أن يتولى أمرها. ولأن أحدا لم يفهم لي حقا ظل يحيط بها الحجاب الساحر لثقافة الشرق الأقصى، ولأن أحدا لم يكن أيضا يعلم على وجه الدقة موضوعات أبحاثها، فقد فتح ذلك الباب للتكنهات المسلية حولها؛ فيوهانيس يخمن مثلا أن شتورم يريد أن يستبدل الآسيويين بهم جميعا، خصوصا لأن سعر عالمين ألمانيين كفيل بشراء عشرين من أمثالهم من الصينيين. هذا بخلاف الشائعات التي تداولوها في تلك الأثناء عن أن طموحات شتورم العملية تجعله يوجه بصره نحو الصين من أجل توسعة شركته، وكانوا يرسمون له صورة وهو جالس على مكتبه مرتديا الكيمونو ليستقبل شاي الياسمين من سكرتيرته السيدة بونتي، ومن إحدى فتيات الجيشا ليكملوا المشهد وفق الكليشيهات المتداولة، ثم يفيقوا من وهمهم مرعوبين ومحرجين على ضحكات لي وانج والسيدة باترفلاي اللتين انسلتا فجأة وبلا صوت مثل الفراشات من ورائهم واستمعتا لحديثهم. «لا يوجد ذاكرة يو إس بي هنا»، أجابتها لي وهي لا تزال مبتسمة وكأن فاندا ستفرح بهذا.
وعلى الجانب الآخر، أخذ ابن لادن يداعب لحيته المنكوشة متفكرا. في الواقع كان اسمه عبد الرحمن، لكن اسم عائلته كان أصعب من أن يتذكره أحد، وكان عالما زائرا من إيران، والكل كان يسميه عليا، أما اسم ابن لادن فكانوا يطلقونه عليه في غيابه؛ إذ كان الشبه بينه وبين أسامة بن لادن مذهلا. ولثوان معدودة شعرت فاندا بنظراته المنكرة الجادة مثبتة عليها.
أجاب بهدوء: «حين أتيت إلى هنا في الصباح كانت الغرفة مفتوحة.» أومأت فاندا استسلاما لا امتنانا ثم انسحبت، حاولت أن تهدئ من روعها بفكرة أنه ربما وجدها أحدهم اليوم باكرا، ثم سلمها في السكرتارية. وتمنت فقط ألا يكون هذا الشخص هو يوهانيس.
وحين فتحت غرفتها، دق الهاتف. كانت السيدة بونتي على الخط تشتكي أنها وحدها اليوم، وأن هذا هو فعلا ثالث صحفي يتصل بها بسبب الانفجار. فالرئيس وميشائيل في الطريق، وأستريد لم تتمكن من الاتصال بها، يوهانيس في وحدة تجارب الحيوان، والأستاذ الدكتور فايلاند أخذ اليوم إجازة. «الأستاذ الدكتور فايلاند!» فكرت فاندا ورفعت حاجبيها باندهاش، لقد كان توماس بالفعل يعرف كيف يتعامل مع السكرتيرات. «أي انفجار؟» ألقت عليها فاندا هذا السؤال في سخط، فهي لم تكن تحب أن يهجم عليها زملاؤها في الصباح على هذا النحو.
أجابتها السيدة بونتي باندهاش: «ذاك الانفجار الذي وقع في الصين. شركة ما إيطالية تصنع هناك جزيئات نانو، ثم فجأة، بووووم، انفجر مفاعل أو مرجل، لا أعرف ماذا يسمون الأواني التي يطبخون فيها، انفجر في الهواء. لقد ورد الأمر في نشرة الأخبار، ألا تشاهدين؟»
نظرت فاندا للدوارة الخشبية على مكتبها والتي كانت في ذات المكان الذي تركتها فيه بالأمس . إن أخف خبطة للطاولة كفيلة بتحريكها من مكانها، وبهذا تعرف فاندا في الصباح التالي إن كانت يدان غريبتان قد عبثتا هنا بحثا عن شيء ما. لقد خطرت هذه الطريقة على بالها حينما فاجأت رئيسها في مكتبها في صباح أحد أيام الأحد، وقد تحجج بأن رائحة حريق تنبعث من الغرفة، وأنه كان يفحص الغرفة حفاظا على السلامة. كان رأسه يقدح مثل عمود تسخين مياه موضوع في كوب فارغ. طالما ظل المكتب الآخر في غرفتها شاغرا، ستظل متمسكة بهذه الطريقة لأخذ الحيطة.
ثم سمعت السيدة بونتي لا تزال تتكلم: «هذه الضجة من الصحافة المحلية»، فخطر على بال فاندا أن تسألها عن ذاكرة اليو إس بي، لكن السكرتيرة لم تترك لها أي مجال للحديث، إذ استكملت: «إنه رئيس القسم في الجريدة. بروفيسور شتورم لا يحب ألا يخبره أحد بالمستجدات، وهذا أمر تستطيعينه أحسن مني بكثير.» تنهدت فاندا، السيدة بونتي تستطيع أن تتبرم بغرابة حقا.
سجلت فاندا علامة نجيمة على تقويم المكتب، ثم كتبت «مجاملة من ب» كانت بونتشين - كما يسمونها سرا - تمتلك حسا يقظا في التفرقة الطبقية بين الناس، وكانت تعبد الرئيس. لم تكن فاندا على قائمة شخصياتها المفضلة، فوراء نظراتها التي يطل منها الاحتقار كانت تشعر بشحوبها مثل سبة في جبينها. فكرت فاندا بسرعة إن كانت الفرصة سانحة لتجميع بعض النقاط لصالحها. «إن كنت تريدين أن أخلصك من ضغط رئيس القسم الصحفي عليك، فلا بد إذن أن تزوديني بالمعلومات.» وعلقت السماعة بين ذقنها وكتفها، وشغلت جهاز الكمبيوتر.
قالت السكرتيرة بحماس: «يرجح الناس أن مسحوق النانو اشتعل من تلقاء نفسه.» يبدو أن إمكانية التخلص من هذه المهمة جعلتها في غاية التحفز، «كان هنالك ما يقرب من مائة عامل واقفين بالقرب من مكان الانفجار، فلفتهم لبرهة قصيرة سحابة من الغبار. كما يوجد عدة إصابات حرجة وحالات حرق متأخرة، تقريبا كلهم تعرضوا لهذه الذرات الدقيقة من الغبار.» «هل تعرفين بأي مواد؟» طلب الكمبيوتر كلمة المرور الخاصة بفاندا، فكتبتها على لوحة المفاتيح وأكدت تسجيل الدخول.
أجابت بونتي: «ليس لدي فكرة»، في نفس اللحظة ظهرت الكتابة المألوفة على الشاشة. «صباح الخير يا فاندا، كيف حالك؟» نظرت بافتتان إلى الأحرف البيضاء التي تضيء الآن على شاشة جهاز الكمبيوتر، كانت قد تعودت أنه دائما ما يحييها فور أن يتم تشغيله. كانت فاندا قد أحضرت هذا البرنامج التفاعلي معها من الولايات المتحدة وحملته على جهازها، وكان به حتى خيار اللغة الألمانية. كانت لعبة طريفة للحظات التي تنتظر فيها نهاية فترة حضانة الخلايا، أو حين تريد ببساطة أن تجدد من أفكارها. وكان يضايقها قليلا أن طقس التحية هذا بدأت تزداد أهميته عندها باطراد. «هل ما زلت معي؟» كانت بونتي لا تزال في انتظار إجابة.
أحست فاندا أن هذه الفرصة مليئة بالمخاطر؛ فهي لم تكن تعرف إلا أقل القليل عن خلفيات هذا الحادث، علاوة على هذا لم تكن بها رغبة أن تظل هكذا تحمي ظهر شتورم، وتقوم بواجبات المفترض أن ينجزها هو. على رئيس القسم بالجريدة أن يتصل بشتورم على هاتفه المحمول. «أنا لست متخصصة في هذا المجال»، قالت فاندا ولاحظت أن صوتها يغمغم قليلا، ولهذا شرعت في بسط بعض الإيضاحات المخففة حتى سمعت فجأة همهمة من سماعة الهاتف. كان واضحا أن المتحدث رجل.
الفصل الثالث عشر
في كون العالم براون
حبست فاندا أنفاسها، لقد تجرأت بونتي حقا وحولت المكالمة عليها. تصاعد الدم الساخن إلى رأسها، ولوهلة أغوتها فكرة أن تقطع الاتصال. إن ضغطة خفيفة على علامة «الشباك» التي على الهاتف كفيلة بذلك. لتكن بالصدفة. إزعاج. ترددت. أكيد ستخبر بونتي الرئيس بذلك. سحبت فاندا سبابتها.
سألت بتردد: «مرحبا؟» «فيلفريد جانتر. جريدة ميتيل هيسسيشه ناخريشتن. صباح الخير.» «فاندا فالس ...» لم تكمل أكثر من ذلك. «لست العالمة المخولة بالحديث، مشغولة جدا، وغالبا ما ستضطرين للعودة للمعمل بعد قليل لأن المكبس سيسخن أكثر من اللازم؟» «ليس تماما، لكن واحدا من دواليب الحضانات يطلق صفير الإنذار، وعلي أن أنقذ مزارع الخلايا قبل أن ينفد منها الهواء.» اندهشت من البساطة التي خرجت منها الكذبة من بين شفتيها . «إنقاذ المزارع؟ لا بأس. ما رأيك لو ألقينا نظرة على الصين؟» «ملف التبت يتولاه زميل آخر ... هلا انتظرت قليلا إلى أن ...» «لا تتعبي نفسك»، قاطعها ثانية، لمحت ظل ابتسامة في كلامه، وبدا الحديث لها مسليا. أكمل كلامه بود: «السيدة الدكتورة فالس، لا أريد أن أعطلك كثيرا. أحتاج فقط لبعض المعلومات حتى أستطيع أن أفهم أفضل ... لقد انطلقت سحابة من جزيئات النانو في الصين. ما مخاطر ذلك علينا؟» «بالتأكيد ليس سيناريو من سيناريوهات ميشائيل كريشتن إن كان هذا ما تعني. إن سحابة جزيئات النانو تتحلل ذاتيا بسرعة. أما الجزيئات الدقيقة جدا فتظل ارتكاسية إلى حد بعيد بسبب سطحها الكبير نسبيا.» «ولا يبقى منها شيء معلق في الهواء؟» «جزيئات النانو التي تنطلق بفعل الانفجار تلتصق ببعضها البعض مشكلة تجمعا يمكن أن يترسب في النهاية في أي مكان. إنها لا تكون أسرابا طائرة مثل النانوبوتس التي كتب عنها كريشتون في روايته وأطلقها في صحراء نيفادا.» «وكيف تستطيعين أن تكوني متأكدة هكذا؟» «ببساطة لأن هذه العملية لا تنجح على هذه الصورة. الجزيئات أصغر من أن تتمكن من الطيران. إن أصغر حشرة معروفة لنا تستطيع الطيران هي ذبابة النمس. إن طولها لا يصل حتى إلى 200 ميكرومتر، وهذا يشبه رأس دبوس الخياطة مقسوما على عشرة أقسام. ما دون ذلك لا يمكنه الطيران. يصبح غير عملي. جزيئات السخام والغبار التي تنشأ عن حريق أو انفجار لا تتحرك إلا من خلال خاصية الانتشار، وبهذه الطريقة في الحركة لا تتمكن من السير بعيدا.»
سمعت فاندا أزيزا خفيفا على الجانب الآخر من الخط. فرغم صمته، كانت فاندا تستشعر نفاد صبره وهو يحاول أن يصنف المعلومات حسب قيمتها في السوق.
قال وهو يمط كلامه: «إما أن توقظي اهتمام الناس ببعض الأكاذيب، أو تصيبيهم بالملل بسرد الحقائق ... ومن الممكن الجدل حول أي الأمرين أفضل.» توقف قليلا ثم قال: «الحقيقة ممكن أن تكون مملة بشكل يفوق الوصف، ألا تتفقين معي؟» «حضرتك صحفي. إن كان لا يعنيك كشف الحقيقة، فمن يعنى إذن؟» سألت فاندا نفسها عن حقيقة ما تفعل. إن جانتر هو الصحفي الخاص ببلاط جلالة شتورم، وليس بعيدا أن يلتقيا مرة كل شهر يدخنان معا في النادي. «أنت عالمة؟» «طبعا، ولهذا السبب أتمسك دائما بالحقائق، وهي مختلفة عما تعتقد. من السذاجة أن تعتقد أن الأشياء من الممكن التقليل من حجمها، ثم يسير كل شيء بنجاح وكأنه عادي. الغواصات دقيقة الحجم، أو الجراحات دقيقة الحجم، كلها ألعاب من صنع الخيال الإنساني ... وهي لا يمكن أن تتواجد في العالم على صورتها تلك تماما، كما لا يمكن أن تتواجد ... حسنا ... لنقل ... العماليق التي تنسج حولها الخرافات.» «لكن الخيال قد يصنع حقائق.» «برأيي الخيال يساعدنا على فهم الحقائق. تخيل أني سأناولك مخمرا يمكن أن يجعلك تنكمش إلى حجم البكتيريا.» أعجبها هذا المثال. صمتت قليلا ليتمكن من استيعاب الصورة، ثم أكملت: «في الوهلة الأولى ستمسك بالشعيرات الموجودة في أنفي، ولكن إن عطست وقذفتك في الهواء في صورة إعصار، فستعلق في قطرات الماء الدقيقة، التي ستتولد حولك من دوامات جزيئات الهواء التي تتلاطم يمينا ويسارا مثل عباب البحر. لم يعد الهواء فجأة هو ذاك العنصر الحريري الذي يتملق حركتك، وإنما أصبح كتلة خشنة تمنعك من الحركة، بل وعلى العكس تدوم وتلعب بك مثلما تلعب القطة بفأر مذعور.»
همهم جانتر: «ليس هذا سيناريو أحلامي.»
واصلت فاندا بثقة: «لأول مرة ستشعر بقوى كون النانو. الرقص المتواصل للجزيئات. لقد هبطت إلى كون العالم براون بما فيه من قوانينه الخاصة.»
قاطعها جانتر عابسا: «ما هذه المجرة؟ لا بد أن توضحي لي الأمر بالتفصيل. بالمناسبة كانت الرياضة إحدى مواد التخصص الفرعي في دراستي.»
ردت فاندا بفطنة: «إذن لديك مؤهلات جيدة؛ فأنا أتحدث عن تحرك الجزيئات وفق قوانين الحركة التي اكتشفها العالم براون. إنها تصف الحركة الذاتية للجزيئات بفعل الحرارة. هل راقبت ذات مرة نقطة ماء تحت المجهر؟» زمجر الصحفي بشيء غير مفهوم، فلم تستطرد فاندا الحديث في هذا الشأن: «بالتأكيد إذن رأيت أجزاء الغبار الدقيقة ترتعش. هذه هي الحركة التي وصفها العالم براون، إنها حركة جزيئات الماء غير المرئية لنا، تدفعها باستمرار من هنا لهناك.» «وهذا ما يحدث معي في الهواء حين أتركك تسحرينني؟»
صوبت فاندا: «أجعلك تنكمش»، ثم أكملت: «حتى في الهواء تكون الحركة مصادفة وبلا اتجاه، فالإيقاع سريع جدا، أكثر كثيرا من مائة متر في الساعة، لكنك لن تتمكن أبدا من الابتعاد؛ لأنك دائما ما ستتطوح إلى اتجاه جديد، وفي وقت ما ستصطدم بأحد الجزيئات المساوية لك في الحجم، لنقل مثلا بواحد من زملاء مهنة الكتابة. بعدها سنرى ما الذي يحدث.» «أخشى أن هذا هو حالي الآن. ما قولك في ساعة طيران معا؟»
ضحكت فاندا في الوقت الذي بدأت تنقر فيه بعض عبارات الترحيب على الكمبيوتر. «الطيران ليس جزءا من هذه العملية. الانتقال عبر الهواء يشكل صعوبة أكبر على الأشياء الصغيرة من الكبيرة؛ لذلك يتعين على الحشرات الصغيرة أن تضرب بجناحيها باجتهاد كبير، وبصورة جوهرية فإنه في حالة الطائرة تكون علاقة الطفو بالنسبة لمقاومة التيار مواتية أكثر.»
تنهد قائلا: «كنت أعرف أن الأمر ممل.»
ردت فاندا: «هنا علي أن أعترض بشدة.» ظهر على الشاشة تساؤل حائر: «ماذا لو سمحت؟» لم يفهمها الكمبيوتر، لقد انزلقت يدها على لوحة المفاتيح ونقرت سطورا خاطئة، فلم يتمكن جهازها من هضم سلطة الحروف المشكلة تلك. «صحيح لا تستطيع جزيئات النانو الطيران، لكن قوة الضغط الناجمة عن انفجار هذا المصنع الصيني قد تمكنها من الانتقال في الهواء. ربما استنشق العمال المتواجدون بشكل مباشر في الموقع قدرا من ذرات الغبار هذه بالغة الدقة. إن سحابة الغبار تلك تتكون من خليط من الجسيمات متباينة الحجم والتي يمكن أن تترسب عميقا في الرئة وتسبب الالتهابات، وحين يكون متاحا تنزلق عبر الجدران الرقيقة المبطنة للرئة إلى الخلايا المناعية في تيار الدم وتنتشر عبرها في الجسم كله. ومن عواقب ذلك أمراض الجهاز الدوري والأورام.»
تنهد جانتر قائلا: «أنت تفهمين جيدا ما تتحدثين عنه، وما أنا سوى صحفي أحمق.» «لا أفهم تماما»، صوت بداخلها ناداها محذرا فجأة.
أبدى جانتر ملاحظاته: «حسنا، أنت تتحدثين عن جزيئات النانو التي يمكن أن تسبب لنا الأمراض. على الجانب الآخر تتواتر أنباء عن نجاح معجزة العلاج بجزيئات النانو، الكرات السحرية حسبما يسميها الكثيرون، وقد تسمح لنا بالبقاء حتى سن المائتين على قيد الحياة، وهو ليس العمر الذي أحلم بالوصول إليه إن شئت الصدق. فهل هذه نعمة أم نقمة؟» «إن نقل الأدوية بمساعدة جزيئات النانو من الممكن أن يكون فعالا جدا»، طالما رددت فاندا هذه الجملة مرارا وتكرارا. هي صيغة موثوق بها تستطيع أن تتكئ عليها كدرابزين السلم، ولن تسمح لأحد أن يستدرجها أبعد من ذلك. «يمكن للعقارات السمية مثل علاجات السرطان أن تتناول من خلالها في كميات ضئيلة جدا.»
أجاب جانتر وقد زادت استثارته: «يستطيع رئيسك أن يرى الأمر على هذا النحو، لكني أنا لا أعتقد في هذه الرسائل العلاجية. من الممكن أن يتم بالفعل علاج بعض الأمراض التي تسببها الحضارة بصورة أفضل، وهذا ما يدعو الساسة إلى أخذ زيادة متوسط الحياة في حساباتهم. سيصل الإنسان لعمر 200 سنة، ولم لا؟ معنى هذا أن يحال في سن 167 إلى التقاعد. لكن هل سنصل يوما إلى سن التقاعد تلك؟ ستكون أعضاؤنا قد تحملت بجزيئات النانو مثلما هي محملة اليوم بالمبيدات، وربما من هذا الطريق ينجح الانتقال من الإنسان إلى الآلة. نوع من التبلور، أو يسير الأمر كما الحال حتى الآن: أمراض جديدة، أدوية جديدة، لكن سن التقاعد لن تخفض.»
كانت فاندا تقضم قلمها الحبر، كانت تفضل لو أنهت المكالمة حتى ذلك الحد. لم يكن جانتر مخطئا؛ فبالطبع كانت أنباء نجاح النانو في العلاج والتشخيص ثقلا سياسيا. كانت تفكر في الموجة العارمة من مواد النانو الجديدة والتي تجاوزت علم السموم. إنهم ليقفون مشدوهين أمام أعمدة قوية لقصر مشيد، يقوم فيه العلماء بإعداد المأدبة الملكية للتزويج فيما بين علوم النانو وعلوم الجينات، في الوقت الذي يظل فيه أثر الكثير من المكونات مجهولا. من الممكن أن نتوقع قوة هذه الزيجة التي رتبت بين البيتين الملكيين، مثلما يتم ترتيب الزيجات الملكية منذ القدم، إلا أن الجيل الصاعد من هذا الزواج يفوق قدراتنا على التصور. وكان على رأس المحركات الاجتماعية التي دفعت نحو هذه الأحداث حاجة البشر المتنامية إلى التحكم في العمليات الحيوية، وهنا لم تستطع فاندا أن تدفع من ذهنها خاطر أن طموح الإنسان في السيطرة هو ذاته ما يعظم من خروج التكنولوجيا الحديثة عن نطاق أي سيطرة، وفي ظل عدم المعرفة والتسابق نحو حيازتها قام علماء البيوتكنولوجي بممارسة لعبة «فيروبولي» «بنك الحظ الفيروسي»، وكان من المحرج مشاهدة كيف أن علم السموم بدأ يعرج وراء التطورات الأخيرة. «سأتمسك بالحقائق» قالتها فاندا أخيرا، وعضت لسانها، فمثل هذه التشككات لو أفصحت عنها للرأي العام لكلفتها وظيفتها.
فرد الصحفي بلا مواربة: «وأنا لا أصدق في رؤيتك. بل إنني أدعي أنه في تكنولوجيا النانو خاصة، فإن المسافة شاسعة بين الممكن والمأمول، إنهما لا يتقاطعان إلا في إدراكنا لهما.» «ألا تسهم وسائل الإعلام في تكريس هذه الحال؟» «بالتأكيد، ولكن أيضا العلماء الذين يستغلوننا من أجل الترويج لمشروعاتهم. القلة فقط تتحدث عن المخاطر.» «ربما لأنهم لا يعرفونها؛ فليس من السهل تقديرها على النحو السليم.» «إنك أنت الخبيرة. فماذا ترين في تلوث أجسام الجنود الإيطاليين في كوسوفو؟ قيل وقتها إنه على الأرجح هو ناتج عن كشط القشرة الخارجية لصواريخ كروز.» لقد حان وقت إنهاء المكالمة مع جانتر. «أعتقد أن على حضرتك أن تواصل الحديث مع بروفيسور شتورم، فهذا هو مجال تخصصه.» «دعيك من هذا الكلام، أنا أعرف رئيسك؛ إنه لا يخبر شيئا.»
فأسرعت فاندا قائلة: «علي الآن أن أعود إلى المعمل حقا.» «نعم، دولاب التخمير. لكن عندي سؤال أخير: ما هي الأبعاد التي يتحرك فيها هذا النانو الشبح؟» «مقياس النانو يطابق واحدا على مليار من المتر»، ردت فاندا آليا، فأخيرا عادت للتحرك على المسار الآمن. «ريتشارد فيمان، واحد من أوائل من حلموا بتكنولوجيا النانو، قال ذات مرة في الغور البعيد مكان شاسع. إذا ما قارنا بين الأحجام فجزيء النانو بالنسبة لكرة القدم هو كمثل كرة القدم إذا ما قورنت بالقمر. نحن نعرفه على أنه وحدة في منظومة أكبر بين واحد إلى مائة نانومتر.» «ولماذا مائة نانومتر؟»
ترددت فاندا قليلا ثم قالت: «لأن بيل كلينتون أصدر توجيهاته في هذا الشأن.»
الفصل الرابع عشر
ارتباك على سطح الواجهة
شعرت فاندا أنها تدور مثل زنبرك صندوق موسيقى. لم تبرح رأسها المكالمة التي أجرتها مع رئيس القسم العلمي في الصحيفة المحلية. أخذت تبحث بلا هدف في الأوراق المتكومة على مكتبها، وتجاهلت محاولات الكمبيوتر التي تحثها لأن تكمل حديثها معه. لا، لم يعجبها بتاتا أن يحدد سياسي - كائنا من كان، حتى ولو كان رئيس الولايات المتحدة - المعيار الذي يتبعه العالم. إلا أن الدول الصناعية كانت تضخ أموالا طائلة منذ بداية القرن الحادي والعشرين في تكنولوجيا النانو، وفي هذه الأثناء تحصل المبادرة القومية لتكنولوجيا النانو في الولايات المتحدة سنويا على مليار دولار كاملة، وأيضا حكومة ألمانيا رفعت ميزانية الاستثمارات إلى 200 مليون يورو سنويا للأربع سنوات القادمة. إن السباق الدولي المحموم للحصول على براءات الاختراع يشمل أيضا رءوس أموال جبارة في مضماره. ناهيك عن أن الإنجازات التكنولوجية تعكس مكانة الدولة بين الأمم.
ولكونها متخصصة في علوم السموم ففاندا تلعب في فريق الحراس؛ لأن واجبها يكمن في تقدير المخاطر التي قد تنجم عن المواد الجديدة، ولا تغير نظرتها النقدية للأشياء من حقيقة أنها ترس في ماكينة الأبحاث، وأنها تدعم المبادرات التكنولوجية التي تخص العلوم الطبيعية بالأبحاث التي تجريها. ولم تستشعر فاندا أن بالأمر تناقضا؛ فتكنولوجيا النانو سببت ثورة في عملها المعملي. حتى لو جأر الناس بالشكوى من فكرة «إنسان ينكمش»، أو «غواصة تتقزم» ليدخلا إلى عالم النانو متناهي الصغر، فلا ينبغي إنكار أن المعامل التي اختزلت إلى حجم بطاقة علاجية تعمل بكفاءة عالية. هذه المعامل التي تسمى «معامل على الشريحة» لهي حقا غرف سحرية تتم فيها عمليات الخلط، والضخ، والتنقية، والفصل، والاحتضان والتحليل، وهذا كله بشكل آلي على مساحة لا تتجاوز الأربعين سنتيمترا مربعا. لقد أسدت أماكن العمل هذه التي صنعت من البلاستيك خدمات جليلة للتحليل الجزيئي الحيوي للحمض النووي دي إن إيه، والبروتين والخلايا. ورغم أن سعرها باهظ الثمن، فإنها تخدم عمليات ميكنة المعامل. فالاستثمار في الإنسان - بحسب قول رئيسها - غير متوافر، كما أنه يكلف كثيرا جدا، كما ستصبح الاستعانة بالعاملين المؤهلين أمرا نادر الحدوث على المدى البعيد، بل حين يتمكن الكمبيوتر من القيام بمهام التفكير فلن تتم الاستعانة بالعلماء ثانية. شتورم نفسه يحاول تحقيق هذا السيناريو بالفعل، فهو يستعمل موظفيه وكأنهم مواد حشو، يمكن استبدالهم في أي لحظة. والعقود المؤقتة موائمة تماما لخطته في اللعب. ربما ستسود فترة انتقالية كل أبطالها مستقدمون من الصين، نوع من حكم أسرة مينج، إلى أن تلتهم أخيرا الآلات مملكة البشر.
لم يغب عن فاندا ما في هذه الأفكار من سخرية مريرة. كان يقلقها أن جزءا منها بدأ في التكيف مع المعطيات المستجدة بأكثر من قلقها من تعسف الرئيس الأمريكي. كانت هذه هي فاندا الصغيرة التي تتمنى أن تئول كل الأمور إلى ما فيه الخير، كما السابق حين كانت تجد أمها في القبو باكية. كانت تجلس على الأرض منكمشة على نفسها أمام جبل كبير من الملابس المتسخة ممسكة بمنديل غير نظيف أمام الوجه المبتل. فاندا، التي كانت وقتها في العاشرة، كانت تريد أن تسري عن أمها؛ لأنها تصورت أن العمل الشاق هو السبب في حزنها، فوعدتها بأن تساعدها وبدأت في تصنيف الثياب وفق فهمها الطفولي إلى ملابس فاتحة وأخرى غامقة، وكانت تقوم بهذا العمل بمهارة لم تتمكن من استعادتها أبدا فيما بعد. أمي المسكينة، تنهدت فاندا.
ثم إن هناك بعد فاندا الوفية، التي كانت تفضل أن تدفن رأسها في الرمال حتى تتمكن من تحمل الطريق إلى المدرسة، حين عرف الجميع بأمر والدها. هي فقط لم تكن تريد أن تعترف أن والدها مدمن كحول. أحيانا ما تهب رياح تحرر رأسها المدفون من أسره، لكنها تعرفت على عينيه المحمرتين وريح الخمر في أنفاسه، فتسارع بإغلاق عينيها ثانية محبطة، وكانت تحمله هو الذنب في أنها لا تشعر بأنها على ما يرام. وحين بلغت التاسعة عشرة من العمر تركت كل ذلك وراءها.
هذه هي فاندا، المتهورة التي انطلقت بكل بساطة، المنجزة التي لا تتردد طويلا إن كانت المسألة تتعلق بشيء جدير بالتجربة، بالبحث وبالتوضيح؛ ولهذا كان أسهل عليها ألف مرة أن تتسلل سرا للبحث عن المعلومات المثيرة للريبة بدافع الانتقام لصديقتها التي حتى لم ترو لها كل شيء، من أن تتحدث إلى أخيها، فعند هذه النقطة كانت تجبن. لم يصدر عنها أي رد فعل بخصوص خطاب موثق العقود بعد، ولا بد أن روبرت يشعر بغضب عارم منها لأنها لا تهتم.
رن الهاتف وظهر رقم زابينة على شاشته.
ردت فاندا فرحة: «جميل أنك تتصلين.»
أجابتها زابينة متنهدة: «جميل أن أستطيع أخيرا الوصول إليك.»
لم تعقب فاندا على ذلك. «سأقول فقط الرقم خطأ.» «ماذا؟» «ربما نشعر شخصا ما بالملل في السنترال.»
اقترحت زابينة: «فهمت، سأتصل بك على هاتفك الخلوي.» «الأفضل أن نلتقي.» «كما تشائين.» «أخ، بالمناسبة، يوهانيس كان أيضا هناك مساء أمس.» حاولت فاندا أن تذكر الأمر وكأنه مصادفة، ثم أضافت: «ولم يكن يشعر بأنه على ما يرام.» «أها»، وبدا أن زابينة ليس عندها ما تقوله. ألم تفهم شيئا بتاتا أم كانت تمثل؟ «ما رأيك فيه؟» «تقصدين يوهانيس؟» «أخ، انسي الأمر عزيزتي»، فقدت فاندا الأمل. «لا تجلبي على نفسك التعاسة يا فاندا؛ فهو لا يفضل السيدات.»
سمعت طرقا على الباب، ثم ما لبث أن انفتح وأطل يوهانيس بقوامه النحيل ووقف عند العتبة. كان وجهه محمرا. كان عائدا من حظيرة الحيوانات، وكان شعره القصير لا يزال مبتلا من أثر الاستحمام. «هل يمكن أن نتقابل مساء اليوم؟» سألت فاندا وهي تنظر بريبة نحو زميلها الذي ظل شاخصا نحوها. «في كايبيرينها تمام التاسعة»، ردت زابينة ثم أغلقت الخط. •••
دخل يوهانيس الغرفة دون أن ينبس ببنت شفة، ثم وضع أمامها على المكتب ذاكرة اليو إس بي خاصتها منحنيا انحناءة لا تليق به، ولم يخف عليها ما تشي به هذه الإيماءة من نصر. سحب الكرسي المعطوب من جوار الحائط، ودفعه ملاصقا لفاندا، وأدار ظهره إلى الأمام ثم تطوح ليجلس عليه منفرج الساقين. كان يتحرك عليه كراعي بقر مصاب بتقلص في العضلات. رفعت فاندا حاجبيها اندهاشا. «صباح الخير جانجو.»
ابتسم يوهانيس، لكن لمعت في عينيه شهوة العراك. «تستطيعين أن تخمني أين وجدته.»
رفعت فاندا منكبيها. «كان لا يزال اليوم باكرا عالقا في منفذ الكمبيوتر. لا بد أنها كانت ليلة ساخنة.» كان يوهانيس يستمتع ببلاغته الملفوظة على النحو الذي يستمتع به الآخرون بشرب قهوة إسبريسو، أو تدخين السجائر، أو تناول الشوكولاتة وحلوى الهلام.
أكمل يوهانيس كلامه وكأنه يستطيع قراءة أفكارها: «من الممكن جدا أن تكون ذاكرة اليو إس بي هذه تخص ذاك الشخص الغامض الذي حيانا بالأمس بضربتين على رأسينا. تشريح مفصل من مفاصل الجسم في موقف الهروب. قد يحدث أحيانا، خصوصا عند العناكب. ربما علينا ببساطة أن نرى ماذا يحوي.» لم يتوقف يوهانيس عن الكلام وتمنت فاندا لو أنها تزحف لتختبئ أسفل مكتبها. «لا بد أنك فعلت هذا بالفعل.» «لا، أنا لا أتشمم أقراص المعلومات هكذا ببساطة. صاحبها ...» توقف قليلا: «أو صاحبتها ممكن أن تكون من القسم. ألا ترتابين في الأمر يا فاندا؟» شعرت بضغط صندوق البخار الذي حبسها فيه، وكانت تريد الخروج من هذا الضيق. «ليس عندي وقت أن أنظر فيه الآن.» «اتركيه هنا ببساطة.»
رأت كيف ينظر بفضول من فوق كتفها إلى شاشة الكمبيوتر الذي بدوره لم يتوقف عن طرح سؤاله عن حالها. نقرت برشاقة على مفتاح الدخول، فظهرت في التو شاشة سطح المكتب. «هل ذهبت إلى الطبيب حقا؟» اندهشت فاندا من السرعة التي غير بها يوهانيس نبرته العدوانية إلى نبرة فيها اهتمام، كما تفعل الأمهات مع بناتهن اليافعات، وفي مكان ما في عقلها الواعي شعرت بالطرقات المألوفة عندها. «نعم بالتأكيد، ألم أعدك بهذا؟ لم يكن بالمسألة ما يستوجب كل هذه الدراما.»
تنهد يوهانيس قائلا: «على الأقل في هذه النقطة أنت لا تكذبين علي.» «أنا لم أمس ذاكرة اليو إس بي خاصتك بالمناسبة، لكني رغم هذا أريد أن أعرف ماذا كنت تفعلين أمس مساء في غرفة الكمبيوتر.»
تنفست فاندا بارتياح ثم قالت: «فلتبدأ بنفسك!» «بل احكي أنت أولا.»
فأجابت بحسم: «لاحقا. علي أولا أن أعمل.»
الفصل الخامس عشر
الهدية
فكرت فاندا وهي تأخذ الحافلة رقم 7 التي ستحملها إلى المدينة أن «كايبيرينها تمام التاسعة» شفرة لا بأس بها، ولحسن طالعها فإن يوهانيس لم يعترض طريقها ثانية هذا اليوم؛ إذ كانت تريد أولا أن تتحدث مع زابينة في كل شيء. مشروب الكايبي متوافر في بعض بارات ماربورج، لكنهما تفضلان بار «هافانا»، حيث غالبا ما يمكن لهما العثور فيه على ركن هادئ. أما بار «ميكسيكالي» فكانتا تذهبان إليه إن كانت بهما رغبة في تجريب تأثير مشروبات جديدة، فتجلسان في المنتصف حيث تحصلان على أفضل إطلالة على المكان، بحيث لا يمكن لأحد ألا يلاحظ وجودهما. رن هاتفها الخلوي قبل أن تصل الحافلة إلى المحطة بقليل. اختبأت فاندا وراء ظهر أحد الركاب وراقبت السائق كيما تتأكد أنه لم يفطن للمسألة؛ إذ كانت لافتات الممنوعات معلقة على شريط أعلى الزجاج الأمامي: «التدخين ممنوع، الهاتف المحمول ممنوع». لم تكن سوى مجرد رسالة نصية قصيرة. «لا بد من تأجيل اللقاء إلى الغد. نفس المكان، نفس التوقيت. ز.»
ردت فاندا من فورها: «حسنا، ف.» لقد نال من فاندا التعب، لدرجة أنها استراحت لترك الموضوع عدة ساعات قبل استئنافه، فطوال اليوم يدخل مكتبها زملاء يستعلمون عما حدث؛ فخبر رحيل زابينة المفاجئ ألقى بشكوك حول الأسباب الحقيقية لتركها العمل. كان بعضهم غاضبا، لكن لم يكن من الصعب استشفاف أن معظمهم خائفون، ففي نهاية المطاف، معظم العاملين عقودهم مؤقتة، ومصير زابينة جعلهم يدركون كيف تتقلب الأقدار بسهولة، وكيف تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وكيف أنهم جميعا يجلسون في نفس القارب.
لا تزال القمامة على حالها جراء الليلة السابقة أمام باب شقة الجيران. رنت فاندا الجرس، فلم يفتح الباب. وحين سحبت فاندا شريط الورق من عتبة بابها تساءلت سريعا إن كانت تركته في هذا الموضع، لكنها عادت فقالت ربما هي لم تدرك أين وقع حين فتحت الباب. وفي حالة تعبها الشديد تلك بدت لها فكرة أن أحدا دخل شقتها في غيابها مدعاة للضحك رغم قلقها.
نامت نوما عميقا في تلك الليلة. •••
وفي صبيحة اليوم التالي كان ذهنها صافيا كما لم يكن من قبل، ورغم ذلك كانت تحرك رأسها بالكاد، فعلى نحو ما بدت المشكلة وكأنها تدحرجت إلى غور أعمق، وكانت رقبتها متصلبة كلوح خشبي. نحت لحافها جانبا فشعرت بالبرودة على الفور. وجدت جهاز التدفئة في غرفة الجلوس مغلقا. تأففت فاندا من الرائحة المكتومة جراء عدم التهوية. أنا لا أتواجد هنا إلا نادرا، فكرت فاندا وقالت: «لن يدهشني لو أن أحدهم يعيش هنا حياته سرا طوال الصباح. إن هذا ليشبه فيلم «بين جيب» الفيلم الكوري الذي شاهدته في السينما مؤخرا. كان الفيلم يحكي عن شاب يقتحم المنازل والشقق الخاوية، ويظل فيها طوال فترة غياب أصحابها، وكان كل منزل جديد يسمح له بالتمتع بنمط حياة مختلف، ما دعاه إلى إظهار الامتنان نحو مضيفيه الغائبين بأن يغسل ملابسهم وصحونهم، وينظف منزلهم ويسلك بالوعاتهم المسدودة، ويصلح ألعابهم المعطوبة. لا يمكن أن يكون هذا الشاب قد حل ضيفا علي.» قالت لنفسها بعد أن تيقظت تماما بمجرد أن خبط ظهرها غطاء المرحاض ليسلبها استمتاعها بهذه اللحظات من اللافعل المطلق. دخلت إلى البانيو لتستحم وتركت الماء الساخن ينهمر على رقبتها المتصلبة. أعانها ذلك على تحسين حالتها، رغم أن رشاش الماء قد سدت بعض فتحاته بفعل تراكم الجير.
بعد نصف الساعة كانت في المركز وفتحت مكتبها. وجدت اللمبة الحمراء ترتعش على هاتفها إشارة لوجود مكالمة سجلت على جهاز الرد الآلي. أما مقدمة الدوارة التي على مكتبها فكانت تشير تجاه الباب. تجولت عيناها تلقاء تقويم المكتب، كان يشير إلى الأربعاء التاسع من نوفمبر. في درج المراسلات كانت طلبية الأجسام المضادة لا تزال على حالها. كانت قد نسيت أن تمررها لقسم المشتريات. فتحت فاندا درجا في المكتبة المثبتة على الحائط، وبحثت عن شيء أسفل عبوة المناديل الورقية. أخرجت قرصا صغيرا من الكرتون ووضعته بحذر على المكتب ، إلى جوار الطاولة الصغيرة المصنوعة من زجاج البليكسي التي تستقر فوقها دوارة الخشب الطبيعي. كانت قد صنعت هذا القرص الكرتوني مؤخرا حين وضعت علبة بتري (وعاء مسطح دائري الشكل وشفاف، يصنع من الزجاج أو من اللدائن، ويستعمله علماء الأحياء لزراعة الخلايا) على ورق مقوى رمادي اللون، ثم رسمت دائرة حولها بالقلم الرصاص حتى تظل مستوية ومتناسقة، وباستخدام المسطرة رسمت خطا في وسط الدائرة لتقسم المساحة إلى جزأين، ثم إلى أربعة، ثم إلى ثمانية أجزاء مثل الكعكة، لكن دون أن تقصها بالمقص، فقط بالقلم لتكون الدائرة مقسمة فقط بخطوط القلم. كانت هذه هي اللوحة التي قامت بترقيمها وحركت عليها الدوارة مثل المؤشر. كان بالدرج نردان تستخدمهما لتحديد مكان الدوارة كل مساء قبل أن تغادر إلى منزلها، وفي اليوم التالي كانت تستطيع أن تختبر إن كان شيء تغير. دفعت فاندا بمنتهى الحذر القرص الكرتوني أسفل القاعدة المصنوعة من زجاج البليكسي. أدارت لوحة الأرقام ووضعت الخط الذي يحمل الرقم صفرا على حرف المكتب الذي يساعدها عند وضع العلامة الجديدة وقت تغيير وضعية الدوارة مساء، ثم الرجوع إليها في اليوم التالي؛ وبهذا كانت ترقد الدوارة كل يوم في زاوية مختلفة لا يعلمها سواها، وهي فقط التي تستطيع مراجعة وضعها بواسطة هذا القرص المصنوع من الورق المقوى. انحنت فاندا فوق الدوارة. من خلال زجاج البليكسي تمكنت من تحديد العلامات على قرص الكرتون. المصادفة اختارت لها بالأمس الموضع رقم 4، إلا أن قمة الدوارة تشير إلى الرقم 7.
طرق طارق على الباب، ثم ضغطت أكرة الباب إلى الأسفل، وأطلت السيدة بونتي من فرجة الباب. «ها أنت هنا، الرئيس يريد التحدث إليك.»
قالت فاندا متوسلة: «أمهليني خمس دقائق.»
ردت السكرتيرة ردا مقتضبا: «الأمر عاجل»، ثم اختفت. سحبت فاندا قرص الكرتون من على المكتب وأعادته إلى الدرج أسفل عبوة المناديل الورقية، ثم التقطت طلب الأجسام المضادة من مكان حفظ الأوراق وتوجهت نحو مكتب شتورم. وفي غرفة السكرتيرة كانت السيدة بونتي تعيد سماعات الديكتافون إلى وضعية الاستماع، في الوقت الذي تصاعد فيه دخان من فنجان الشاي الموضوع على مكتبها ليعبق الحجرة برائحة توت مسكر لاذع نفذت إلى أنف فاندا. كان الباب المزدوج الموصل إلى حجرة الرئيس مفتوحا.
وماكس شتورم خلف مكتبه جالسا يلوح بيده: «تفضلي بالدخول.» كانت حركة يديه تشبه حركات مدير سيرك يعد جمهوره بمزيد من الإثارة، وأمامه هو أيضا فنجان من نفس البورسلين تتصاعد أدخنته بنفس الرائحة. «سيدة بونتي، لو سمحت فنجان شاي للسيدة فالس.» إلا أن النقر على لوحة المفاتيح لم يتوقف. لم تسمعه سكرتيرته.
ردت فاندا: «شكرا، لا داعي، لقد تناولت الإفطار لتوي.» «هلا جلست؟ أتمنى أن يكون لديك قليل من الوقت.»
أومأت بصورة غير ملحوظة لتحمي رقبتها، وجلست على مقعد الضيوف، على حافته، فقد كانت تتمنى أن تخرج في نفس اللحظة. ذاك المقعد المصنوع من الكروم المغطى بالجلد يتأرجح بسهولة وفقا لحركة الجالس عليه. متى كانت آخر مرة يحدثها فيها شتورم بهذه النبرة؟ إن علاقتها به يمكن أن تقسم إلى عهدين: عصور ما قبل وما بعد توقيع العقد، وفيما بينهما فترة فراغ تاريخي لم تستطع أن تفهم أسبابها. كل ما تحمله لها اللحظة الراهنة يعود بها إلى عصر ما قبل توقيع العقد. ماذا عساه يريد؟ تجولت نظرات شتورم متفحصة إياها من أسفل إلى أعلى، وتوقفت لبرهة عند الوادي المنبسط أسفل ذقنها، إلى أن ثبت نظراته أخيرا نحو عينيها. كان يريد أن يمنحها من فيض إشعاعاته، إلا أن خبرتها معه تحول بينها وبين أن تثق فيه. «فيلفريد جانتر، تعرفينه سلفا، إنه ذلك الرجل من الجريدة. التقيت به بالأمس. حوار جيد. ممتاز.» كان يقولها وهو لا يني ينقر على المكتب بقلمه الحبر بلا انقطاع. أدار رأسه نحو النافذة فراقبت فاندا كمفتونة تفاحة آدم فوق ياقة القميص البيضاء، وهي ترتفع ببطء لتعود فتغرق من جديد، كما رأت أثر دم سال أسفل ذقنه جراء خدش أو قطع، بدا وكأن كل ما في هذا الرجل قد استطال؛ رقبته الرفيعة، ثم شكل أنفه المدبب بلونه المصفر، فلكأنه طرف الممص (تلك الأداة المخبرية التي تستخدم في نقل أو قياس حجم سائل ما). كان لا يزال ينظر من النافذة وهو يكمل كلامه: «بالمناسبة يؤسفني ما حدث مع زابينة ميرتينز، لكن يداي الآن مقيدتان. رغم ذلك سأعمل ما في وسعي. هل تعرفينها بشكل أكثر حميمية؟»
ترددت فاندا، وانطلقت صافرة إنذار في رأسها: فالرئيس والتبرير، أمران لا يجتمعان. «لا تسمح أن يطويك أحد»، تذكرت هذه الكلمات التي كانت على الملصق الذي لصقه باحث دكتوراه آخر على كتاب المعمل وقت أن كانت لا تزال بالجامعة. ما الذي استدعى هذه الكلمات الآن تحديدا؟
سمعت نفسها تقول: «ماذا تقصد ب «تعرفين»؟» تحركت نظرة شتورم إلى يديها، حيث كانت أصابعها تقوم بطي الطلب بعناية.
تقطعت كلماتها: «نحن زملاء. كنا زملاء.» نظرت إلى الورقة المطوية بين يديها، وتصببت عرقا فقد تقتلها زابينة على ذلك. «لا بد لأحد أن يستكمل هذا المشروع.» كان مغزى كلماته يتساقط تدريجيا في وعيها. «هل سمعتني؟»
صاحت مباشرة: «لقد ظننت أن المشروع قد تبخر.» وكان صوتها عاليا ما دفعها أن تعض لسانها ندما. الآن كشفت نفسها، لكن شتورم قرب فنجانه من فمه بمنتهى الهدوء، وبدأ يرتشف الشاي رشفات صغيرة. قال مبتسما: «ممتاز، لكن أسخن مما يجب.» وضع الفنجان مكانه، ثم دفع تجاهها أوراقا على المكتب. «عليك أن توقعي على مبدأ الكتمان هذا. فالشركة التي نعمل معها تقيم وزنا لحفظ السرية.» ثم فتح درجا من المكتب وأخرج منه حافظة أقراص مدمجة «سي دي». «أريدك أن تحضري عرضا حول نتائج الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي، وهذا هو كل ما تحتاجينه لذلك.» كان يلوح بقرص المعلومات، وكأنها مكافأة عليها أولا أن تكتسبها عن جدارة. «سيكون الأمر جد مربح.» «مربح؟» «سيظهر اسمك في كل الأحوال على البحث المنشور، سينشر بالتأكيد في أرفع الدوريات مكانة، فمستقبلا لن ننشر إلا في الدوريات راقية المستوى؛ فالقسم يحتاج بلا شك مزيدا من النقاط الخاصة بالنشر العلمي. لا بد أن هذا يوافقك بكل تأكيد، أم ماذا؟»
لم تكن سوى مجرد رجعة اعتباطية برأسها إلى الوراء ، انقبضت على إثرها عضلات رقبتها كلها، كأنما وضعت يد مثلجة عليها. هل يعلم بأمر الموضوع السابق في روتشيستر؟ هل من الممكن أن يكون أحدهم تتبع المسألة ليكتشف أني تلاعبت بالأرقام قليلا ليظهر اسمي كمشاركة في البحث المنشور؟ «ما قولك؟» كان شتورم لا يزال ينظر إلى فاندا متسائلا.
ردت فاندا: «رقبتي متصلبة.» وأمسكت برأسها وكأنها تحاول أن توازن حملا ثقيلا عليها. «أعرف طبيب علاج طبيعي جيدا.» «أشكرك. سأعود لك في هذا الأمر لو اقتضت الحاجة»، وكأن هذا هو ما ينقصها، أن تضع نفسها مجددا تحت رحمة أحد أعوانه، فهي لا تزال تستنكر محادثتها مع جانتر. «وحين ننتهي من هذا الأمر من الممكن البدء في الحديث حول تقدمك لوظيفة أستاذ مساعد.» كان شتورم يبتسم ابتسامة من يقدم منحة. هذا إذن هو الثمن الذي سيتعين علي دفعه إن رفضت العرض. آلمتها رقبتها ألما شديدا إلا أنها تمالكت نفسها. «ما المطلوب فعله تحديدا؟» «أحتاج تحليلات إحصائية، ورسوما بيانية، وكذلك شرائح العرض الضوئي صباح الاثنين؛ فأنا مرتبط بمحاضرة ألقيها في بوسطن، وليس عندي أي وقت لأحضرها بنفسي، وأريد منك أن تقومي عني بهذه المهمة. لقد قمت بهذا من قبل. تكفي تماما عشرون شريحة عرض. هل يعمل غيرك على جهاز الكمبيوتر الخاص بك؟»
هزت فاندا رأسها بالنفي. هذه المرة امتد الألم حتى ذراعها، ولعنت نفسها سرا على الإيماءة التي لم تفكر فيها مليا. لم تتمكن من استيعاب الأمر، فالمسألة بدت أسهل مما ينبغي، فبالأمس القريب ضربت بالهراوة حتى أغشي عليها من أجل الحصول على هذه البيانات، والآن تأتيها البيانات بين يديها على هذا القرص الفضي اللامع. «حين توقعين هنا فأنت بذلك تؤكدين أنك ستتعاملين مع البيانات على هذا الكمبيوتر فقط، وأن كل النتائج والتقييمات ستظل داخل المعهد، وأي انحراف عن تطبيق هذه التعليمات ستكون له عواقب وخيمة لن يرغبها أنت ولا أنا.» وبهذا دفع نحوها حافظة القرص المدمج على الطاولة مبتسما وكأنه قدم لها هدية. «من الأفضل أن تبدئي على الفور، أما القرص المدمج فترجعينه على وجه السرعة لي أنا شخصيا. هذا طبعا أمر مفهوم، و...» «ماذا؟» ترى ماذا يدبر بعد من حقارات؟ «خذي رقم هاتف فيرنر فيشتل من السيدة بونتي.» «فيرنر فيشتل؟» «طبيب العلاج الطبيعي. وبلغيه مني السلام.»
الفصل السادس عشر
كايبيرينها في تمام التاسعة
دخلت فاندا بار «الهافانا» في التاسعة والثلث. وجدت زابينة جالسة على طاولتها المفضلة في آخر الحانة. بدت شاردة أمام كوبها الزجاجي وهي تحرك الماصة بين مكعبات الثلج. «هل بدأت بالشرب فعلا؟» قالت فاندا مؤنبة. «لأنك تأخرت كثيرا.» «للأسف لم أتمكن من الحضور أبكر من هذا؛ كلفني الرئيس بمهمة جديدة.»
نظرت لها زابينة نظرات متعاطفة ومدت لها ذراعيها، إلا أن فاندا لوحت لها. «ممنوع اللمس؛ جسمي كله متصلب مثل لوح خشب. أحتاج بشدة لشيء أشربه.» أشارت إلى مقدمي الخدمات، فلبت الإشارة نادلة ترتدي بنطالا قصيرا بالكاد يغطي الفخذين، على بطن عار تعلق به قرطا في السرة. طلبت فاندا مشروب كايبيرينها، واستمتعت باستراق النظر لهذا الجسد الخاوي من العيوب، المعروض للفرجة المجانية. تنهدت. «لماذا لا ترتدين شيئا كهذا؟» توجهت فاندا إلى زابينة بالسؤال بعد أن مضت النادلة، «فقوامك يسمح بذلك.» «لا تكبري المسألة. ليس كل الرجال يجدون هذا الأمر مثيرا. لا أعتقد أن توماس ...» «توقفي عن هذا»، قاطعتها فاندا، فهل الآن الوقت المناسب للحديث عن توماس. ليست فاندا في مزاج يسمح بالحديث عنه. «ألا تريدين معرفة ماذا حدث؟» ثم بدأت في سرد الأحداث لها بترتيب وقوعها منذ ليلة الاثنين، والمحاولة الفاشلة للحصول على البيانات من المعهد، والمداهمة الغامضة، وتصرفات يوهانيس الغريبة، وحماقتها هي نفسها في ترك ذاكرة اليو إس بي هناك، وتحاشت أن تنبئها بأسوأ ما حدث؛ ألا وهو أن فاندا نفسها هي التي ستتولى متابعة المشروع، فظلت تلف وتدور بكلمات مقتضبة حول محاولتها غير المجدية في العثور على بياناتها الخاصة وعن ريبتها في يوهانيس. «لا أستطيع أن أقيم يوهانيس. إنه يتصرف بصورة تختلف عن المعتاد.» «صحيح. في الأسابيع الأخيرة كان كثير التسلل حولي كلما دخلت وحدة الحيوانات، لدرجة أني كنت أشعر وكأني مراقبة في كثير من الأحيان.» «ولماذا يهتم هو ببيانات تجاربك؟» «ربما لكونها معلومات سرية، ولأنه لا يطيق شتورم.» «هل تلمحين إلى انتقام؟» «لا أستغرب منه ذلك. ربما بسبب الطريقة التي يتجاهله بها شتورم في الآونة الأخيرة. قد يكون هو التالي في ترك المعهد.»
تدبرت فاندا لوهلة. «لكن إن كان يبحث عن مسائل من العيار الثقيل، فلم قام بمحو بياناتك؟»
فنقرت زابينة على ذراعها وقالت: «فاندا، أذكرك بأن هناك من ضرب كلا منكما على رأسه.»
ضيقت فاندا عينيها: «بالضبط، والشخص الوحيد الذي علم أني أريد الذهاب إلى المعهد يوم الاثنين ليلا هو أنت.» «صحيح. وأعطيتك مفتاحي الإلكتروني وكلمة المرور الخاصة بي التي ستمكنك من الدخول إلى بنك المعلومات، ثم أرسلت في إثرك قاتلا مأجورا! عزيزتي ألا تعتقدين أنك حدت قليلا عن جادة الصواب؟»
ولوهلة صمتت كلتاهما. «شخص ما عبث بمكتبي.» تجولت عينا فاندا داخل الحانة وكأنها تبحث عن الفاعل هنا بين الزبائن. «كيف تعرفين؟» «لا يهم، أنا أعرف وحسب.» «هل تقصدين أن يوهانيس من الممكن أن ...» «... أو ربما شتورم.» «وما الذي يدعو شتورم إلى ذلك؟» «ربما ليختبر ولائي. على أية حال، فإنه يتوقع أننا على اتصال. سأتولى تقييم النتائج الخاصة بأبحاثك.»
نطقتها أخيرا. أما زابينة فارتشفت من مشروبها. «الخنزير يريد أن يفرق بيننا.»
ردت فاندا بهدوء: «بينة، أنا لا أستطيع أن أحل محلك، ولا أريد؛ أنا لست متأكدة حتى إن كان يعرف أننا أصدقاء.» «ألن تقولي له إنك لا تستطيعين أن تفعلي هذا بي؟» صمتت فاندا. هل أقول لها ما أعطاه لي شتورم في يدي؟ هل يعرف بأمر تغييراتي الطفيفة سابقا؟ هل يضغط علي لأنه يعرف أني طموحة؟ أنا لم أقبل بالعرض لأثري.
ردت فاندا: «على أية حال، بالتأكيد قد يحسب حساب أني أتشاور معك، ربما يريد من خلالي أن يستغل كفاءتك بطريقة غير مباشرة.» «إنه تصرف يليق به.»
واصلت فاندا الحديث: «لقد قضيت فترة ما بعد الظهيرة كلها في التفتيش في بياناتك. عمل رائع حقا، أستطيع أن أتخيل حقا ما تشعرين به، بل وأشعر ببعض الحسد تجاهك أيضا.» كان مخططا بحثيا موسعا وممولا بكرم. لقد كانت زابينة تمتلك إمكانيات لا تجول ببال فاندا إلا في الأحلام. إن كان فهمها للبحث صوابا، فإن الأمر يدور حول اختبار أثر نقل الجينات. اندهشت فاندا من هذا التدخل العلاجي الخارق للعادة، ولم تكن قد سمعت قط من قبل عن ذلك الإجراء المسمى «نانوسنيف». إن نقل مادة أو جين بمساعدة جزيئات النانو عبر الأنسجة المخاطية المبطنة للأنف لتعبر إلى نقاط مستهدفة بعينها من المخ، لهو عمل أبسط ما يوصف به أنه رائد وقابل للتحقق، على الأقل على الفئران حسبما أثبتته تجارب زابينة، إلا أن لفاندا شكوكها. «لا أعتقد أن هذا الإجراء يمكن تحقيقه على الإنسان يوما ما؛ فالقياس لا يصلح هنا؛ لأنه مقارنة بعضو الشم في الفئران، فإن مراكز الشم عندنا منبسطة على رقعة صغيرة جدا، سنتيمترين مربعين مقابل ... دعيني أحسبها؟»
أكملت زابينة: «من ستة إلى سبعة سنتيمترات مربعة لدى الفئران.» «أي إن هذا يماثل ثلاثة أضعاف حجمها عند البشر.» «ها قد فهمت المسألة. نحن نقيس معدل السياح الذين يزورون جبال روكي في أمريكا، ونستنتج من هذا أن نفس العدد سيزور مرتفعات التاونوس في ألمانيا.»
مست زابينة أنفها، وأشارت إلى السرة المثقوبة لتعليق الأقراط، ثم رفعت إصبعين في الهواء.
وقالت بازدراء: «مقارنة لا تستقيم.» ورفعت ذقنها قليلا إلى أعلى، في حين امتلأت عيناها بكل اللامبالاة التي تملأ نظرات مربية إنجليزية لا تنظر لشيء محدد. «ولو لم تخني الذاكرة، فإن سلاسل جبال روكي تمتد على قارة أمريكا الشمالية بكاملها، في حين أن مرتفعات تاونوس ترتفع فقط على جنوب ولاية هيسن.» أحيانا تفقد زابينة حس الفكاهة تماما. «في كل الأحوال نستطيع أن نثبت التأثير المتوقع، أما الباقي فهو من اختصاص علماء الأدوية.»
سألت فاندا غير مصدقة: «أولا تعرفين فعلا أي شيء عن الجين؟» «ولا أدنى فكرة، كما أني لا أعرف حتى أي جزيء نانو يستخدمون. أعلم فقط أن الأمر ينجح. شركة بي آي تي لا تسمح بأي تسريبات في هذا الخصوص. أعلم الآن ماذا يعني الصندوق الأسود، إنه ذاك الخواء في رأسك حين لا يطلعونك على أسرارهم.» «لكنك تستطيعين أن تثبتي «مفعولا» ما.» «بالتأكيد، فالبروتينات الفلورية الخضراء «جي إف بي» مذهلة حقا؛ إذ إن الجين المناسب للتجربة يتم تعليقه على الحمولة التي ينبغي نقلها وكأنها هدية للدعاية، فالخلية لا تختار، إنها تبني الطرد بأكمله في الجينوم الخاص بها وتصنع منه البروتين، وحين يتم الأمر تشع لونا أخضر.»
كانت فاندا تعرف هذا الإجراء. فقد ثبتت فعالية البروتين الفلوري الأخضر في اقتفاء الأثر، وهو بمثابة علامة فارقة في علم الخلايا. الجين الخاص بهذا كان يرتبط بأي جين آخر حسب الرغبة، ويدخل معه في الجينوم المكون للخلايا، وقد أطلق عليه العلماء الجين المراسل؛ لأنه كان يبعث بالنبأ كلما قبلت الخلايا الجين الجديد. كانت الخلايا تشع لونا أخضر إذا ما تعرضت لضوء الأشعة فوق البنفسجية. كان هذا يثبت أن الشفرة الجينية دخلت فعلا إلى مكتبة الخلايا وأصدرت نماذج للقراءة مكونة من البروتينات. أمر آخر تمكن البشر من غشه من الطبيعة. فالبروتين الذي يضيء باللون الأخضر يساعد نوعا من قناديل البحر التي تعيش في شمال المحيط الهادئ على عملية الضيائية البيولوجية. لقد قام العلماء عمليا بإحضار عينات من البحر المحترق ودرسوها تحت المجهر الفلوري. ومن هنا استبعدوا أي خطر يهدد الحياة؛ لأنهم أثبتوا أن البروتين غير ضار على ما يبدو. وكان ذلك بمثابة دليل غير مباشر على صحة عمليات نقل الجين، إذا ما أريد الاستغناء عن تحليل البروتين لارتفاع تكلفته؛ ولأنه يستغرق وقتا أطول كثيرا، وبهذا لم تعد شركة بي آي تي مضطرة للإفصاح عن المادة الخاصة بها؛ لأنه يكفي تتبع توزيع البروتينات الفلورية الخضراء، وهذا تحديدا هو ما قامت به زابينة. الجزيئات سرعان ما وجدت طريقها من خلايا الإحساس الموجودة على النسيج المخاطي عبر حزم الألياف العصبية الدقيقة وصولا إلى البصيلة الشمية، ثم تحركت من هناك بمحاذاة الخطين الكبيرين المكونين للعصب الشمي نحو المناطق الأعمق في الدماغ، وبعد ساعات قليلة وصلت عبر شبكة توصيلات واسعة إلى مناطق «تحت المهاد»، «المهاد» و«الجهاز الحوفي». كان التدخل دقيقا في الوصول للهدف لأن المادة لم يوجد لها أي آثار في الأعضاء الأخرى كالقلب أو الكبد أو الكليتين، حتى بعد مرور عدة أيام.
أبدت فاندا ملحوظة متشككة: «لكني لم أفهم رغم ذلك، كيف يظل الشيء الذي تم نفخه تحديدا في الأنف؟» «ربما الجزيئات مزودة بمستقبلات لا يتعرف عليها سوى الخلايا الموجودة في الغشاء المخاطي، ربما شيء مثل تأشيرة الدخول، لا تسمح بعبور جزيئات النانو بكل حمولتها إلا عبر غشاء هذه الخلايا.» رفعت زابينة كتفيها: «مجرد تخمين ...» «وكيف أمكنك نفخها في أنوف الفئران؟» «أرسلوا مضخة هوائية شكلها مثل مسدس الماء لها جزء يثبت على المقدمة لتناسب تماما الأنوف الصغيرة للحيوانات، والجهاز بكامله يتصل بأنبوبة مصنوعة من زجاج البليكسي، يدخل الحيوان فيها ويدفع رأسه خلال الغشاء المطاطي في حين يضيق عليه من الخلف فيعلق الفأر. بمجرد ضغطة زر يدخل الجهاز إلى أنفه، حيث يتم التحكم في آلية الضخ بشكل إلكتروني. علينا فقط الحذر حتى لا يتوقف الحيوان عن التنفس.» «هل تعاملت مع كل فأر على حدة؟» «طبعا، حتى أضمن حصول كل منها على جرعة ثابتة. الجزيئات تتعلق بأي شيء. ما الذي يفيدني لو نفختها على فروتها؟» «صحيح، ستقوم بلعقها تماما.» «بالضبط.» خبطت زابينة على رأسها. «نريد للمادة الفعالة أن تصل إلى المخ، وليس إلى الجهاز الهضمي، علاوة على ذلك، فوفقا للتعليمات لا يجوز سوى حقن مادتين فقط بالأنف، ولكل واحدة القناة الخاصة بها في المسدس الهوائي. من فضلك لا تسأليني عن السبب؛ فهو أمر مثل كل شيء آخر في هذا المشروع، سر كبير.» نطقت الكلمات الأخيرة ببطء يؤكد كل كلمة فيها، وخفضت صوتها كأن الحدوتة وصلت إلى نهايتها، ولأنها أومأت برأسها قليلا نحو الأسفل فقد استنتجت أنها تعني ما تقول. «هل تريدين التوقف في منتصف الحكاية؟ أنا لحكاياتي نهايات مختلفة.» «أنت تنسين أني الآن خارج الموضوع.»
لوهلة توقفتا عن أي حديث، وكل منهما تشرب مشروبها المنعش ورأسها مثقل بالأفكار. انتظرت فاندا. كل شيء حتى الآن يوحي بأنها دراسة واعدة، لكن هذه ليست الصورة الكاملة. كانت تعرف زابينة، فهناك شيء آخر يؤرقها. متى ستضع صديقتها كل الأوراق على المائدة؟ إنها تحدق الآن في كأسها وكأن في مقدورها أن تستدعي شبح الكايبيرينها لينقذها من الورطة التي وقعت فيها. عندها رأت فاندا شيئا يتحرك تحت بلوفر زابينة، إذ استدار شيء ما بين نهديها، فلكأنه نهد ثالث أطول قليلا. في نفس اللحظة أطل ذيل أملس وردي اللون من فتحة البلوفر. لا بد أنه يدغدغها في رقبتها لأن زابينة دسته فورا تحت البلوفر ثانية. وتوهجت وجنتاها.
قالت متلعثمة: «هذه جوسي، لم أستطع أن أتركها هكذا ببساطة.» أمسكت الفأر من بين نهديها ومسدت جسمه، في حين أصدر الحيوان صريرا خفيفا.
لم يكن سرا أن زابينة تروض حيوانات التجارب. كانت تستمتع لمدة ساعة يوميا باللعب معها. كانت تتركها تدغدغ ذراعيها ورقبتها فكانت تألفها. وكانت تحرص على إخبار الزملاء الذين يضايقونها بتعليقاتهم السمجة أن ذلك جزء من التحضير للتجربة، خصوصا وأن التوتر واحد من أكبر العوامل المزعجة. كانت فخورة بالعدد القليل من الحيوانات النافقة في التجارب التي تجريها، إلا أنها كانت تشكو في الفترة الأخيرة من ازدياد أعداد الحيوانات الميتة.
قالت فاندا ساخرة: «لا عجب أنه طردك» ... فهزت زابينة رأسها. «لا أعلم كيف وصل الأمر إلى هذا الحد.» «إلى أي حد؟» «كانت الإناث بعضها مع بعض في القفص الكبير المصنوع من الماكرولون، ورغم ذلك هاجم بعضها بعضا. في كل صندوق كان يوجد على الأقل حيوان ميت. لقد اختل التسلسل الهرمي في المجموعات. كل حيوان يحاول السيطرة على الحيوانات الأخرى، ويتخطاها، ويسبب توترا له ولغيره. ويسوء الحال كثيرا حين تكون الإناث في حالة شبق وإباضة.» «هل عندك تخمين؟»
ربتت زابينة على نهدها الثالث قائلة: «جوسي من حيوانات الضبط في التجربة. الكلام السابق ينطبق فقط على المجموعة التي استنشقت المادة الفعالة. يبدو أن إيقاع نشاطها قد اختل، ومراحل النشاط صارت تستغرق وقتا أطول وتحدث حتى في منتصف اليوم، وهو الوقت الذي كان ينبغي لها أن تنام فيه، لكنها تموت كالذباب، ولا يهتم أحد لأمرها. أعتقد أن شتورم يريد أن يتخلص من الحيوانات.»
زمجرت فاندا: «هذا لا يثير العجب. لكن من المؤسف حقا أن لا أحد عنده أي قياسات حول هذا الأمر.» «كنت أسجل التغيرات في سلوك الحيوانات.»
همهمت فاندا خائرة الهمة: «وهو سبب إضافي يجعله يريد التخلص منك»، وطلبت كأسي كايبيرينها أخريين. «شتورم لا فكرة له عن ذلك، لقد أخبرته طبعا بسلوك الحيوانات العدواني. صحيح أنه استمع إلي، لكنه لم يرد أن يقف على حقيقة الأمر، وأجبرني أن أعده ألا أتحدث بهذا مع أحد.» «لكن ربما يكون قد علم بأمر هذه المدونات، ربما يكون شخص ما أخبره عنها.» «من يكون يا ترى؟»
رفعت فاندا كتفيها وقالت على مضض: «وما أدراني؟» ... خف التوتر تدريجيا. أدارت فاندا رأسها بحذر وحكت رقبتها. قالت وقد ثبطت همتها: «أرجو فقط ألا تقولي إن هذه البيانات مسجلة أيضا على كمبيوتر المعهد.»
ردت زابينة بصوت خفيض: «إنها على الكمبيوتر الخاص بوحدة تجارب الحيوان.»
مست فاندا الورم الصغير في مؤخرة رأسها وتنهدت: «لماذا لم تخبريني بذلك على الفور؟» «أعتذر عن ذلك، فقد فقدت تركيزي.» «هل هناك طريقة تمكنني من الوصول إليها دون أن أضرب على رأسي؟» «عليك أن تذهبي إلى وحدة تجارب الحيوان. الكمبيوتر هناك غير متصل بالشبكة الداخلية، وكلمة المرور هي نفسها.»
بعد تناول كأس الكايبي الثالثة شعرت فاندا بخفة أراحت نفسها. «قرأت مؤخرا أن العلماء يطورون جهازا لاقتفاء الأثر عن بعد مصنوعا من جزيئات النانو. المفترض أن يتم ابتلاعها مع غذاء حيوانات التجارب، ثم تقتحم خلايا عضلات القلب والعمود الفقري لتعمل مثل أجهزة كمبيوتر دقيقة تقوم بإرسال إشارات إلى الإنترنت. مثل هذا الجهاز يمكن أن يفيدنا الآن.»
قالت زابينة بلا اكتراث: «هذه كلها أحلام المستقبل. حين يتوافر مثل هذا الجهاز في السوق سيكون عقدك المؤقت قد انقضى، ومر من السنوات ضعف مدته على الأقل.»
فإذا بفاندا تقهقه فجأة: «تخيلي لو أننا دسسناه في طعام الرئيس.» «ماذا؟» «هذه الأجهزة المقتفية للأثر. لعبة شتورم التي سنصلها بالإنترنت. ويا سلام لو اتصلت بصفحتنا الرئيسية كما يمكن الاتصال بها من أي مكان في العالم.»
أغلقت زابينة عينيها. «الآن صرت سخيفة، ثم كيف ستحملين شتورم على تناول طعام الفئران؟» «ندخله خلسة إلى كيس الحلوى الخاص به، وكأنه كريات زيادة لتنظيف الأسنان من آن لآخر.» «انسي الأمر. لن يمكنك المرور من نقطة تفتيش السيدة بونتي، أضيفي إلى ذلك أن الرئيس متواجد بشكل مستمر في مجالات كهربية، ما يعني بوضوح أن الخط الأساسي لرسمه البياني سيكون أعلى من الطبيعي.» «بالضبط. كل ما هو أعلى يثير الريبة.» «وفيم يفيدنا أن نعرف متى ترتفع ذبذبات قلبه؟» «كنت سألجأ إلى الإنترنت قبل أي اجتماع وأعرف ما الذي ينتظرني.»
ابتسمت زابينة بوقاحة وقالت: «أما أنا فأرى يوهانيس يتجول في الإنترنت كل ليلة ليراقب ويسجل نموذج النشاط الجنسي لشتورم.» «... ثم نرسم منحنى خطي للعلاقة بين زوابع شتورم التي يثيرها وعدد الحلوى التي يبتلعها في اليوم بعد ذلك.»
تبادلتا الأنخاب. أما الكرة أسفل بلوفر زابينة فانزلقت نحو اليسار قليلا. «ونتائج التقييم الكمي لهذا النمط الاستهلاكي ستقع في نطاق اختصاص السيدة بونتي.» قالتها زابينة وهي تمسد النتوء على عظمة القص برقة. «أقولها لك، هذا الأمر لن ينجح أبدا.»
ردت فاندا مداعبة: «يا لك من هادمة للذات!» ثم بحثت عن محفظة نقودها وقالت: «قبل أن أنسى، هل يمكن أن تتحدثي مع يوهانيس؟ فبطريقة ما أشعر أننا غير منضبطين على نفس الموجة. ربما استطعت أنت أن تعرفي منه أي شيء.»
هزت زابينة رأسها بتوجس، وقالت: «أستطيع أن أحاول.»
تثاءبت فاندا. «علي الآن أن أذهب للنوم. عندي في الغد أشياء مهمة يتعين إنجازها.»
ضاعف الهواء المنعش في الخارج من أثر الكحول الذي تناولته الصديقتان. كانتا تستمعان إلى العصافير تناديهما، طيور الكراكي وهي تطير نحو الجنوب. نظرتا إلى السماء وقد نال منهما التعب، وحاولتا تبين أي شيء، إلا أن السماء كانت شديدة الظلمة وملبدة بالغيوم. خطر ببال فاندا أن البرودة تأتي الآن. «هل تعرفين ما أكثر شيء أثار خوفي؟» طرحت زابينة السؤال فجأة، إذ كانت الصديقتان تسيران صامتتين إحداهما بجوار الأخرى حتى تلك اللحظة. «ماذا؟» «إنها ترتعش بلا توقف. أقصد حيوانات التجارب. إنه مثل الزلزال الذي يسري في قطة تعوي. لكنه فقط لا يتوقف.»
وعند بيلجريمشتاين تفرق بهما السبيل لتمضي كل واحدة في طريق منزلها. مدت فاندا يدها بالسلام مودعة، وربتت على النتوء المستكين أعلى صدر صديقتها، وقالت: «من الأفضل أن ترفعي سوستة المعطف حتى لا تصاب جوسي بالبرد.»
الفصل السابع عشر
ممرات مختبئة
استيقظت فاندا صباح اليوم التالي بصداع شديد. كان فمها جافا وتشعر بمذاق النيكوتين على لسانها. بدأت فاندا تدخن في صباها واستمرت لعدة أشهر، لكن في وقت ما اشمأزت من رائحة الدخان الكريهة التي كانت تعلق بشعرها وملابسها، فتوقفت ببساطة عن التدخين، بين عشية وضحاها، وكان هذا هو حالها مع كل الأمور الأخرى؛ فكانت تستغني عن تناول الحلوى إن أرادت أن تفقد بعضا من وزنها، كانت تنفصل عن أصدقائها من الرجال حين تستثقل وجودهم في حياتها، وتبتعد عن أسرتها لأنها لم تعد تطيق القرب منهم، وحلت محل صديقتها في العمل بعد أن تركت زابينة وظيفتها بثلاثة أيام فقط. هل أنا باردة المشاعر؟ أم تراني لا أمنح نفسي الوقت الكافي لأشعر بالافتقاد؟ عادة ما كان الخوف أو الغضب هما المحركين لها، وحين تخف هذه المشاعر كانت في حاجة إلى مهام، إلى خطة، مجهودات جديدة، أي شيء من شأنه أن يشغلها حتى تتغلب على الشك الذي يعيقها ويشل حركتها عن مواصلة العمل. أخذت تذكر نفسها أنها يجب ألا تستسلم الآن، خصوصا بعد أحداث الأمس، بعد أن دخلت في قلب المسألة. وحين وصلت الحافلة إلى محطة «لانبيرجيه» كانت خطتها لهذا اليوم واضحة بالفعل في ذهنها. •••
حين دخلت مكتبها وجدت رسالة من طبيب المعهد على جهاز استقبال المكالمات الهاتفية، وطلبت منها مساعدته أن تعاود الاتصال به. لاحقا سأفعل، هكذا فكرت فاندا ثم بدأت مناوشتها الصباحية المعتادة مع الكمبيوتر الخاص بها. نقرت فاندا على لوحة المفاتيح. «كيف سيكون الجو؟» حاولت أن تحصل منه على نبوءة.
فكانت الإجابة التي ظهرت على الشاشة: «يجب عليك ألا تربطي نفسك بتقلبات الطقس.» إجابة تقليدية، فبالتأكيد الإنسان الذي كتب هذا البرنامج يعمل بالتدريس، ووجد هنا أخيرا وسيلة لتسريب فيوض الحكمة المغلفة.
ألحت فاندا: «هلا أجبت سؤالي من فضلك.» «أي سؤال؟» «أعاني صداعا وكأن برأسي قطا.» حاولت الآن فتح موضوع جديد. «القطط لا تحب المطر.»
كانت تشك فاندا أن البرنامج يحاول أن يعلم شيئا مع التسلية. كان يربط بين الموضوعات التي كانت تطرحها، ويجرب فيها إلى أن يخرج شيء ذو معنى. كان يقوده إلى تلك التعليقات أرشيف متكامل من المعلومات والحكم التي سبق تخزينها في ذاكرته الإلكترونية.
صوبت فاندا: «صداع بسبب الإفراط في شرب الكحول.»
جاءتها الإجابة المعجمية: «مستحضر في مجموعة الحيوانات بالمعهد.» «وفي الرأس حين أشرب الكثير من الكايبيرينها؟» «بيرانهاز؟» «لا، كايبيرينها.» «في الأمازون؟» «في هافانا.» «هافانا هي عاصمة كوبا.» «لا، هافانا في ماربورج.» «اختلط الأمر علي» أجاب الكمبيوتر. تعرفت فاندا على هذه الجملة؛ كانت هي من أضافتها من مدة قصيرة حين كانت تلعب بالكلمات، إلا أن البرنامج قد استخدمها في موضع صحيح تماما لدرجة أصابتها بالخوف. لقد أخذ يتحول تدريجيا إلى مرآة تعكس اختياراتها من الكلمات وطرق تفكيرها في الأمور، إنه عمليا يخاطبها بكلامها هي. هل لهذا السبب كانت ترتاح في مثل هذه الحوارات؟ بل وسيتعين علي الآن أن أدعه على حيرته؛ صرت أتصرف بغرابة، فكرت فاندا ثم نقرت زر الدخول على لوحة المفاتيح. رن الهاتف في نفس اللحظة. كان المتصل هو السيدة بونتي. كانت تطلب منها أن تتفضل بالحلول محل الرئيس في محاضرة الساعة العاشرة، فهو قد نسي أن يخبرها بذلك أمس. ستجد الشرائح الخاصة بها على الكمبيوتر العام.
نظرت فاندا في الساعة. كان لا يزال أمامها ساعة، وهو وقت لا يكفي كي أغضب، هكذا قالت لنفسها. شتورم كان مسافرا مرة أخرى في رحلة لإلقاء محاضرات بالخارج، واستنتجت أنه يحاول اجتذاب زبائن لشركته. في الواقع كانت تحب التدريس، لكنها كانت تكره أن تحضر محاضراتها تحت ضغط الوقت، وهذا الأمر من شأنه أن يربك خطة عمل اليوم كلها، وهذا من شأنه أن يجعلها غير راضية؛ أي أن ترجع لحالات شعورية بين بين، وهذا ما لم تكن تحتمله بسهولة، ففي مثل تلك الأيام لا يكون مزاجها منضبطا، وكانت تصدر عنها تصرفات كأنها خيوط تنسل من قطعة قماش، لم تكن تعلم ما طول الخيط المتحلل ومتى سينقطع، وكانت تتمنى داخل ذاتها أن تنتهي سريعا هذه الصراعات المضنية. علاوة على ذلك فإن الطلاب يقدرون محاضرات شتورم، فلم يفتها أن بعضهم يغادر قاعة الدرس بمجرد ظهور بديل له على المنصة.
دق الهاتف مرة أخرى، مرة أخرى كانت السيدة بونتي. سؤال ملح من مركز طوارئ السموم في جوتنجن.
قالت فاندا: «أوصليهم.» كانت الطبيبة على الجانب الآخر من الخط تبحث عن رأي تخصصي. ذكرت تسمما بواسطة بخاخ للتنظيف يحوي جسيمات نانو. كانت تسأل إن كان لها علم بالكيفية التي تؤثر بها هذه المواد. عجز على كل الأصعدة. ربما لم يكن به أصلا أي جسيمات نانو، فكرت فاندا باقتضاب. بعد هذه المكالمة كان عليها أن تؤجل موعد جورج الذي ستناقش فيه عرض بحثه إلى الغد. حتى تلك اللحظة لم تكن قد ألقت نظرة على الملف الذي أخبرها عنه شتورم. ووراء جورج وقفت بيترا بالباب. مساعدتها الفنية تحتاج إلى تعليمات جديدة خاصة بالأصباغ حتى تستكمل العمل، لكن فاندا لم تكن قد أتيح لها النظر في المستحضرات الجديدة بعد. أخيرا في العاشرة أخذت الشرائح التي تحتاج إليها على حامل البيانات. كانت محاضرة لإلقاء فكرة عامة حول الموضوع، وكانت قد ألقتها قبل عدة أسابيع في لقاء عمل على المستوى القومي، وهذه المحاضرة يلائم طولها الزمن المخصص لمحاضرة شتورم. عنوانها كان: «تجاوز العقبات. كيف تنجح جسيمات النانو في الدخول إلى أعضائنا؟» تتذكر الآن أنها أشارت فيها إلى الدراسات التي تحدثت عن العصي شديدة الدقة التي تمر إلى المخ عبر الغشاء المخاطي الشمي للفئران، لكنها أتت على ذكر المسألة عرضا، وأخذت على عاتقها متابعة بحث الموضوع بمزيد من الدقة. لاقت المحاضرة وقتها استقبالا طيبا من السامعين الذين صفقوا لها كثيرا، وبعد المحاضرة جاء إليها بعض المشاركين يطرحون عليها مزيدا من الأسئلة، ويشكرونها على البحث الشائق. في الواقع كان العمل أكبر حجما من أن يعرض في لقاء كهذا لمرة واحدة فقط، والآن جاءتها الفرصة أن تعرضه مرة أخرى. أخذت السترة الرمادية التي تستعملها في مثل هذه المناسبات من الدولاب. الأطباء يلقون محاضراتهم مرتدين أروابهم البيضاء. ارتدته هي أيضا ذات مرة، لكنه بدا بالنسبة لها كزي تنكري، ففي نهاية الأمر، إنها تنتمي إلى العلماء.
كان مبنى المحاضرات يقع على الجانب الآخر من الشارع الرئيسي، وكان ثمة كوبري مشاة يقود إليه. مشطت أشعة الشمس خصلات الضباب المجعدة واعدة باستراحة غداء مشمسة. لماذا لم تخطر ببالها هذه الفكرة من قبل؟ سوف تقوم بإلقاء محاضرة خاصة بها، أما شتورم فليتابع هو إلقاء المادة التي أعدها لمحاضراته حين يعود. •••
لقد ظل الطلاب حتى آخر المحاضرة، بل وأنصتوا باهتمام، وحين مضت في طريق العودة إلى المعهد في الحادية عشرة والنصف تعلق بركابها موكب صغير من المعجبين. «متى ستكون المرة القادمة التي ستحلين فيها محل شتورم؟» ضحكت فاندا؛ فقد بدا الطالب الذي طرح السؤال جد حديث السن. طالبة أخرى أرادت أن تعرف إن كانت فاندا تشرف على أبحاث دكتوراه، فما كان من فاندا إلا أن دعتها للمرور عليها في المعهد. كانت تغمض عينيها من شمس الخريف وتستنشق الهواء المنعش، فيدخل عميقا إلى رئتيها. لا بد أن أفعل كل شيء بطريقتي. هكذا أكون في حال طيبة.
ودعها الطلاب واحدا بعد الآخر، فاتخذت بدورها الممر الصغير المختبئ كطريق هروب بين المطعم والمكتبة يؤدي مباشرة إلى الغابة. تأخر الخريف هذا العام، فتمسكت الأغصان بأوراقها التي تحولت فعلا إلى لون بني خفيف مائل إلى الرمادي. كان منظر الأوراق يوحي بالهشاشة لدرجة أن هبة ريح قوية كانت كفيلة بإسقاطها أرضا مرة واحدة. تسلل شعاع الشمس عبر الأماكن التي أقفرت ليقع متعرجا على الأوراق التي تساقطت على الأرض. بدا المنظر وكأنه مكافأة لها. علي أن أمنح نفسي هذه المكافآت أكثر مستقبلا. متى كانت آخر مرة استمتعت فيها بمثل هذا الرضا؟ كانت تعرف هذا الشعور في أوقات الامتحانات حين ينقضي كل شيء على ما يرام، فتسمح لنفسها أن تحتفي بذاتها. كيف يمكن أن يحدث ألا تفتقد هذا الشعور ولو مرة؟ عادت فاندا أدراجها. لم ترجع إلى مكتبها حيث ستجد على الأرجح مهام غير مرغوب فيها في انتظارها، وإنما توجهت فورا نحو وحدة حيوانات التجارب. ندرة الظهور في القسم كانت إحدى الاستراتيجيات الناجحة التي يطبقها عدد من الزملاء ليتمكنوا من إنجاز أعباء أعمالهم هم. عليها أن تلجأ لهذه الاستراتيجية أكثر فأكثر.
كان اختيار التوقيت موفقا؛ فمعظم الزملاء خرجوا إلى استراحة الغداء، ومن ثم فإنها لم تجد أحدا حين نظرت من نافذة الباب المؤدي إلى الجناح محكم الغلق الخاص بوحدة الحيوانات. عبرت الغرفة الأولى معادلة الضغط، ثم أخذت واحدا من الأردية الخضراء المعلقة على المشجب، وارتدته فوق ملابسها. تركت حذاءها واختارت خفين بدوا مناسبين لتدخل قدميها فيهما. صعدت لأنفها مباشرة رائحة قوية تشي بمادة سكرية. كانت الرائحة خليطا من روائح فضلات الفئران، والهواء المستهلك، وجرعات زائدة من المسك. ورغم أن وحدة تجارب الحيوان كانت مكيفة بالكامل، فإن الجو فيها بدا لها خانقا. كانت بلاطات القرميد البيضاء المغطية للحوائط تعكس وميضا، بينما وجدت على الأرضية آثارا خفيفة من القش. شغل صدر الغرفة بكامله مغسلة مصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ، وضع عليها قفصان تم غسلهما وتركهما ليجفا، إلى جوارهما غطاءا قفصين نظيفين، تم رصهما أحدهما فوق الآخر، رأت سلالا من السلك بها حاويات للشرب، ومكان وضع البطاقات، وميزان، وصندوق كروت بحث، ومقص، وقلم حبر في منتصف سطح العمل، حيث أضفى عليه هذا الموقع المتميز كثيرا من الاحترام. فأقلام الحبر كانت هنا بضاعة نادرة، لكن في هذا المكان صار من الممكن وضعها تحت النظر بشكل أفضل. انتهت المغسلة قبل المدخل الثاني المؤدي إلى حظائر الحيوانات، أما باب المكتب على يمينها فكان مفتوحا، وكذلك كان الكمبيوتر. أدخلت فاندا ذاكرة اليو إس بي، لكن هذه المرة وجدت ما تبحث عنه مباشرة. «هل يمكنني مساعدتك؟» جفلت، والتفتت في لمح البصر. وجدت يوهانيس واقفا وراءها ناظرا باهتمام إلى الشاشة. «اللعنة، لقد أرعبتني»، قالتها فاندا وهي تحاول أن تخفي الشاشة بجسدها، واستطردت: «لا شكرا، أستطيع التصرف» ... إلا أن يوهانيس ظل متصلبا. «منحنيات مثيرة.» «ليس من الأدب التحديق في شاشة الآخرين.»
رد باسما: «التحديق في الشاشة أفضل من التحديق في النهود. هل تعملين الآن أيضا لدى نبيكس.» «كيف توصلت إلى ذلك؟» «إشاعة.» «إذن من الأفضل ألا تصدق الشائعات.»
أشار يوهانيس بإصبعه إلى اسم صاحب الحساب على السطر العلوي على الشاشة. «ماذا تفعلين إذن بحساب زابينة ميرتينز؟»
همست: «استمع إلي يا يوهانيس ... هذا أمر لا يعنيك.»
تحولت نظرته إلى ذاكرة اليو إس بي التي كانت تومض واشية بما تفعل. «أنت مدينة لي بإجابة.» «أنا لست مدينة لك بشيء بتاتا.» ردت عليه فاندا باختصار؛ ثم سألته: «لكن حقا لحساب من تعمل أنت؟» احمرت أذنا يوهانيس، وكأنها إشارات ضوئية حمراء.
قال منفعلا: «سنتحدث لاحقا.» ثم استدار وغادر الغرفة.
بعدما نسخت فاندا بيانات زابينة، قامت بمسح حسابها، وهذه المرة لم تنس ذاكرة اليو إس بي. «ما رأيك في يوهانيس؟» نقرت السؤال على الكمبيوتر بمجرد أن عادت إلى مكتبها. «من يكون يوهانيس؟» «زميل.» ثم واتتها فكرة أن تخبر هذا البرنامج متوسط الذكاء بكل أحداث الأسبوع، ثم بدأت في تزويده بالبيانات، وملاحظاتها مرتبة حسب توقيت حدوثها، عله يساعدها في إيجاد العلاقات فيما بينها. اجتهدت كي لا تنسى تفاصيل، بل وصورت حتى شكها في يوهانيس، غير أنها لم تكتب استنتاجاتها الخاصة. «أنت لا تثقين في يوهانيس.» جاء رد البرنامج أخيرا، ورغم أنها كانت تعرف هذا سلفا فإن هذه الجملة المكتوبة بالأبيض على خلفية الشاشة الغامقة جاءتها وكأنها تذكرة أن تأخذ مشاعرها على محمل الجد.
الفصل الثامن عشر
محاكاة بالكمبيوتر
أشرقت الشمس عصر يوم الجمعة، واخترقت أشعتها الواجهات الزجاجية الكبيرة لغرف المعامل ، وفي خلال دقائق معدودات تزايدت الأصوات ووقع الخطوات في الطرقات. فجأة شعر كل واحد أنه يريد الخروج بسرعة. ظل باب مكتب فاندا مفتوحا واستمتعت هي بخفوت صوت الضوضاء تدريجيا. كانت السترات وسحابات المعاطف تصدر صريرا وكأنها تعزف مقطوعة موسيقية تحمل في طياتها كل التوقعات بالسعادة المنتظرة في عطلة نهاية الأسبوع التي يتدافعون للخروج من أجل بدئها، وبعد ذلك خيم على المكان صمت تام. بدا الأسبوع وكأنه لفظ أنفاسه الأخيرة. وقفت فاندا وذهبت إلى المعمل عبر الردهة، لم يعد هناك أحد. أما الستائر المعدنية فكانت تلتمع في ضوء الشمس، وعلى منضدة المعمل تراصت الماصات في حاوياتها متلاصقة، والصناديق التي تحوي الحقن البلاستيكية الصغيرة كانت ممتلئة، وحاويات المواد الكيميائية مخزنة على الرف الزجاجي الطويل الممتد فوق أسطح العمل محكمة الغلق ومرتبة ترتيبا أبجديا. كان كل شيء مرتبا ونظيفا. كانت بيترا تجيد إدارة الأمور بالمعمل. هي في أوائل العشرينيات من العمر، ورغم ذلك لم يكن أي من الأطباء ليجرؤ على دخول منطقة نفوذها إن وجدوا وقتا للعمل على أبحاثهم في عطلة نهاية الأسبوع دون الاتفاق معها أولا، ثم يجدون كل ما يحتاجون إليه في انتظارهم: محاليل طازجة للتجارب، أو لفتة رقيقة في مكان سري لأشخاص بعينهم؛ لكن ويل لمن لا يخضع لنظامها، ناهيك عن أن يحدث فوضى أو يخلف وراءه مقلب قمامة.
دخلت فاندا إلى المطبخ الصغير المخصص للمشروبات المقام في «نيش» بالطرقة على الجانب الذي يقع فيه المكتب. أوقدت غلاية الماء، وتطلعت إلى مخلفات الموقعة الحربية المتروكة في الحوض: فناجين ملتصق بعضها ببعض، صحون مكومة، سكاكين عليها آثار الزبد والمربى، شوك وملاعق علقت بها حبوب القهوة ذات اللون البني الداكن. قرأت فاندا قائمة خدمات المطبخ التي بدت وكأنها راية مهلهلة منكسة مدلاة من مقبض درج أدوات المائدة. كان الدور هذا الأسبوع على أولريكه وإيفو. كانت أولريكه على قوة مؤتمر، أما إيفو فما كان ليكافح منفردا. هي صفة تكسبه تعاطفا تحت ظروف أخرى. وجدت فاندا فنجانها، وجه قرد ومقبض، تحت الأطباق المبعثرة في صحبة آخر على شكل الآنسة بيجي، وكوب بابا نويل الذي أهدى فيه العاملون الرئيس عصير ليمون ساخنا في عيد ميلاده. كان يتشاكى طوال اليوم من آلام بالحلق ووجد الهدية تمس شغاف القلب. في الواقع لم تكن فاندا تحب فنجانها؛ إذ كان يبدو جادا أكثر من اللازم بين كل اللطائف الأخرى التي يحويها المعمل للتسرية عنهم وقت الراحة من الروتين اليومي بالمعمل. أحضرته من رحلة إلى نيو مكسيكو. لكن القناع الأزرق المحيط بالعينين اللامعتين ذواتي البؤبؤ الأبيض كان يشبه وجه قرد الماندريل، وهو لا يستوطن أمريكا على أية حال، ما يجعلها حالة واضحة لتزوير فني في فصائل الحيوان. أما فمه المدبب المشكل ليعطي انطباعا وكأنه يصدر صوت «أووو» فقد أضفى عليه لمحة منذرة بالشر؛ ولهذا كانت تأمل فاندا أن يمنع كل ذلك غيرها من استعمال الفنجان. تشممت ومست أنفها. كانت الغلبة لرائحة القهوة، وعرفت فاندا من فورها أن فرانك - باحث الدكتوراه الذي تشرف عليه أستريد - هو من استعمل الفنجان بلا شك كان أقل من تحوم حوله شكوكها في أن يفسد بالبن رائحة الزنجبيل بالأناناس المنبعثة من الشاي الأخضر الذي كانت تحب شربه. ضغطت على الزجاجة البلاستيكية اللزجة لسائل تنظيف الأطباق مستخرجة آخر ما تحوي من صابون، وضعته في الفنجان وحكته بفرشاة التنظيف التي تحولت شعيراتها إلى اللون البني الداكن، لتحك الفنجان بقوة وكأنها أشواك قنفذ، ثم ألقت بالفرشاة فوق كومة الأطباق بأطراف أصابعها. شطفت الفنجان بالماء المغلي، وصبت لنفسها الشاي، ثم تأرجحت على غيمة من الرائحة الزكية حملتها إلى المكتب.
في مكان ما سمعت تكتكة لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبعدها صوت أزيز طباعة الليزر. ظلت فاندا واقفة في مكانها. كان الباب إلى حجرة مكتب توماس مواربا. طرقت الباب بحذر ودلفت من فرجة الباب. «فوبيا نور الشمس؟»
رد توماس ضاحكا: «ليس الحال بهذا السوء. لكن هذه اللوغاريتمات لا تترك لي فرصة للراحة.» كان لا يزال ينظر إلى الشاشة. تأملت فاندا وجهه من الجانب: أنفه المستقيم، جبينه العالي بتجعيداته حين يفكر، ثم شعر رأسه الكثيف المائل إلى الرمادي الذي أخذ في التساقط عند صدغيه. توماس بعمره الذي وصل إلى منتصف الثلاثينيات كان واحدا من أكبر الزملاء بالقسم سنا. كان شعر سوالفه ينتهي تماما فوق شحمة أذنه الملاصقة للرأس، كانت قد قرأت في مكان ما أن شحمات الأذن تلك لها السطوة في عمليات الانتخاب الوراثي، مثلها مثل الآذان المتباعدة عن بعضها، وإن كانت في حالة توماس تأوي إلى صدغيه في دعة مثالية. تعرفت فاندا على الخرزة الصغيرة الضامرة على صيوان أذنه، وكأنها أثر صغير يذكرنا بأصولنا الحيوانية بحسب نظرية داروين في التطور. كان داروين قد عرف هذه الخرزة كأثر باق من تحور الأذن في الحيوانات الثديية من الشكل المدبب إلى الشكل الدائري. شعرت برغبة عارمة تجتاحها أن تضع شفتيها على هذا المكان الرقيق وتبدأ في قضمه بحذر. ماذا يا ترى يكون مذاقه؟ أحكمت قبضة يدها اليمنى على أكرة الباب، بينما تابعت نظراتها حركات أصابعه على ذقنه غير المحلوقة، وهي بالنسبة لفاندا علامة ترجح أنه غير مرتبط، ثم أدار رأسه ونظر نحوها بجانبه. كانت حواجبه الكثيفة مرفوعة دهشة. ظهرت تجعيدة مائلة مثل ظل على جفن العين المتجهة صوبها. ضيق نظرته وحددها تجاه بؤبؤ عينيها وكأنه يبحث عن لحظة يضعف فيها دفاعها، لكنها تعجبت أن سمحت له بذلك، لوهلة قصيرة جدا، لكنها كانت كافية لإشعارها بالرهبة. «ربما أنت أيضا ليس لك أصدقاء.» قال توماس دون أن يخفي لمحة ساخرة في كلامه فظهرت على وجه فاندا أمارة عابسة. «محاضرة للرئيس يحتاجها يوم الاثنين.» «لا يبدو أمرا مثيرا.» «بحسب ما تنظر للأمر. فالموضوع ليس مملا تماما.»
عاد توماس لانشغاله بالكمبيوتر الخاص به. وشعرت كيف أن قلبها أخذ يخفق بنفاد صبر، تماما مثل نقرات أصابعه على لوحة المفاتيح. رأت فوق مكتبه إعلانا عن معرض لأعمال كاندينسكي، معلقا في برواز أنيق. كانت ألوان الطباعة تشع وكأنها أشعة شمس تخترق نافذة من الزجاج الملون. مساحات خاوية من الجدار لتعليق تفضيلاتك الشخصية، كانت ضربا من الرفاهية التي لا يتمتع بها بعد الرئيس والسيدة بونتي سوى توماس فحسب، وقد كان له وضع خاص بالقسم نظرا لتخصصه في مجال المعلومات. لكن الأمر بدا وكأنه سعى لاكتساب امتياز غرفة مفردة بسبب ماكينة التصوير؛ إذ كان طول غرفته أطول من عرضها، لكنها من الصغر بحيث يضحى رص نسخ المخطوطات وأعداد المجلات كأي عالم ضربا من لعب الأطفال، ليثبت به أن لا يوجد ثمة متسع لزميل يشاركه الغرفة. أما الطاولتان الإضافيتان فكانتا تستعملان في حالات نقص أماكن التخزين، فكان من اليسير رص الأوراق عليهما طبقة من فوق طبقة لتبني أبراجا مثل تلك التي في جزيرة مانهاتن، لولا الحجران الثقيلان اللذان يحفظان أبراج الورق من الانزلاق، ويفسدان التشبه بالأبراج الأصلية. أما الأرفف فقد اكتنزت عن آخرها بالكتب حتى على عتبة النافذة، لكنها لم تكن منتظمة كغيرها بسبب سلسلة المفاجآت وهدايا الحب التي تبعث إليه بها بعض الطالبات. رائحة عطر ما بعد الحلاقة وجلد مدبوغ لفتت أنف فاندا ناحية اليسار، تتبعت الرائحة، ووجدت على مبعدة ذراع منها معطفا جلديا معلقا على مشجب كقطعة من بشرة ذات لون بني غامق به ندبات وسحجات. كان يرتديه دائما، حتى في تلك المرات التي تراه فيها في خيالها تتصوره أملس ويضمها لأنها لم تمسه بعد. رشفت فاندا من كوب الشاي الخاص بها الذي غطت رائحته الزكية على افتتانها ومنعتها من أن تفلت يدها مقبض الباب بلا تفكير لتمد ذراعها نحو معطف توماس وتتلمسه. سقطت نظراتها على ورقة الشهر في التقويم ذي القطع الكبير. كانت الصورة تذكر بنظام أرفف من شركة أيكيا. كانت الخانات مربعة واقفة على إحدى الزوايا بميل. أضفت الزوايا الملونة باللون البرتقالي في مقابل المساحات المطلية بالأخضر طابعا متألقا على التصميم فقط من خلال اللون وحده. «ما هذا؟» سألت فاندا وتركت أكرة الباب لتشير بيدها إلى الصورة. استدار توماس. «أخ، هذا ... إنه تكبير لعنصر السيليكون، أما الألوان فكلها غير صحيحة، كل واحد من هذه المسام له قطر يصل إلى نحو عشرة ميكرومترات، ويتم استخدامها في صنع الميكروراي، أي المعامل المحمولة على الشرائح . أنت أيضا تعملين عليها.» عاد توماس واستدار ثانية نحو برنامجه. ذكرتها ملحوظته بأنه من الضروري أن تنهي أوراق الطلب الخاص بتمويل الأبحاث؛ فمشروعها الجديد كان ينتوي بحث تحليل الجينات، وأرادت أن تنفذه باستخدام معامل الدي إن إيه المحمولة. كان الكثيرون لا يزالون يرون أن هذه المعامل هي أهم إنجازات التحاليل الجينية، وكانوا يثمنونها غاليا وفقا لذلك التقييم. كانت هذه الطريقة تقدم أكبر تركيز على أصغر مساحة؛ حيث إن هذه الشرائح كانت توضع بلا عناء على طبق بحجم اليد. كانت فاندا دائما ما تفكر في بركة مليئة بسنارات الصيد حين تعمل بها. ربما كانت الصورة تبدو أوفق لو شبهتها بشبكة الصيد، وذلك نظرا للكثافة العالية، أكثر من أربعين ألف فرع مفرد من الدي إن إيه، ذات روابط نيوكليتيدية معروفة تنتظر فريستها هناك في ترقب. إنها بمثابة الطعم الذي سيتم بواسطته اصطياد أخواتها المتطابقة تماما، قطع الدي إن إيه المكملة، من الخلية المتجانسة. إنه أمر يشبه مسابقة صيد الأسماك لكن في عالم النانو. ولكل سمكة يتم اصطيادها بواسطة مستخرجات الاختبار المكونة من الخلايا والأنسجة يوجد الطعم المناسب. إن نقطة مضيئة على لوحة الاختبار لتعني أن هذا المكان تم قضمه، وبهذه الطريقة يمكن قراءة أي معلومة هي الأهم لدى الخلايا في ذلك التوقيت، وأي موضوع لم يتم الإخبار عنه إلا لماما. استندت فاندا إلى إطار الباب ورشفت رشفة من فنجان الشاي باستمتاع. «هل تسمح بأن أسألك سؤالا؟» رأت إيماءة بالإيجاب. «هل هناك أجهزة كمبيوتر أذكى من البشر؟»
دفع توماس كرسيه دفعة بعيدة عن المكتب وتوجه ناحيتها. غضت طرفها بارتباك. «أنت تسألين إن كان الذكاء الذي نصنعه يتفوق على ذكائنا» ... ضم ذراعيه على صدره «سؤال مثير للاهتمام.»
نظرت له فاندا الآن في عينيه مباشرة. «هل هذه الأجهزة موجودة الآن؟» «سيتطلب الأمر مزيدا من الوقت لتحقيق ذاك الهدف. تخيلي التطور كعملية ذكية. إنها هي التي أنتجت الإنسان. نحن أيضا سيكون بمقدورنا أن نبني أجهزة تتفوق على ذكائنا.» «حقا!» رضيت فاندا عن الإجابة، فقد استطاعت أن تضرب الوتر المناسب لدى توماس، وكانت تستمتع باهتمامه.
أكمل حديثه: «سنعايش هذا الأمر على أنه إثراء عظيم لنا. التطور التقني هو المستقبل.» ألم تبرق بعينيه لمحات شغف؟ أومأت فاندا برأسها موافقة بتحفظ. لم تكن تحب أن تعترف بأن الثقة التي يسرد بها توماس فرضياته تبعث في نفسها الوجل؛ إذ كانت تشعر وهي إلى جواره أنها لا تزال طالبة في الفصل الدراسي الأول. «إن التطور البيولوجي على سبيل المثال ما هو إلا مبرمج رفيع المستوى؛ إذ قام بتطوير الدي إن إيه الذي يحوي كل تنوع الحياة على الأرض برمته. هنا منطقة التقاطع بين النانوبيولوجي وتكنولوجيا النانو. إن خلايا أجسادنا إن شئت الدقة ما هي إلا ماكينات نانو.» «كنت أظن دائما أن التطور لا هدف له.» قالها فجأة صوت غريب من ورائها، «كيف يمكن له أن يفكر أو يتصرف؟» استدارت فاندا لتنظر في وجه شاب كبير. أكمل حديثه قائلا: «كما أني أجد خطرا كبيرا في استخدام المصطلحات التقنية لوصف الأمور الطبيعية. لا يستوي الأمران.» ابتسم. وجدت عينين ذكيتين تنظران عبر زجاج النظارة. رأت الأنف الخالي من العيوب، الذي يبدو وكأنه أجمل من أن يكون أنف رجل، كما رأت حسنة صغيرة أعلى شفتيه المكتنزتين. كان يبدو شاحبا، ورغم ذلك شعرت أنها تعرفه. علقت ورقة شجر صفراء بين تجعيدات شعره البني الغامق. نظرت فاندا ثانية إلى توماس. كان متعلقا بكرسيه، مدليا ذراعه على مسند الظهر، محركا إياها يمنة ويسرة، مكورا قبضة يده. «لا أريد سوى توضيح السياقات المعقدة.» قال بنبرة موضوعية مؤكدة، «علينا أن نتعلم أن التكنولوجيا والطبيعة تستطيعان التعايش معا في عملية سلمية؛ فالتكنولوجيا هي تتمة التطور لكن بوسائل أخرى.» «ما نوع الوسائل؟» أطلق سؤال الغريب أزيزا حادا وهو يمر إلى جوار رأس فاندا. كان لا يزال واقفا وراءها. من هو؟ كانت تفكر محمومة أين يمكن أن تكون قد رأته من قبل.
أوضح توماس برباطة جأش قائلا: «المخ البشري مثلا، يعتبر أداة شديدة البطء في معالجة البيانات. لا يزال التطور يبني مستخدما الدي إن إيه. لكن مادة البناء هذه سيتعين التخلي عنها؛ لأنها لن تستطيع مواكبة التطور التكنولوجي.»
أصر الغريب على سؤاله، وقد اكتسبت نبرته بعض الحدة: «علي أن أعيد السؤال: أي وسائل سيتم استخدامها؟»
تلفتت فاندا حولها ثم خطت خطوة إلى الجنب حتى تخرج نفسها من مرمى النيران وقالت: «كنت أسأل عن ذكاء أجهزة الكمبيوتر.» «وكيف تعرفين الذكاء؟» لقد أضحى الرجل ثقيل الظل. ماذا يريد هنا أساسا؟
واصل توماس الكلام: «إن تكنولوجيا الكمبيوتر أمامها قفزة هائلة إلى مرحلة جديدة. من المرجح أن تصل قدرات أجهزة الكمبيوتر البسيطة عام 2020 إلى نفس قدرات المخ البشري في الحساب. قد ينجز 2 × 10
16
عملية حسابية في الثانية.» «إن محاولة الوصول إلى المثالية ما هي إلا عملية اختزال متواضعة، أليس هذا تناقضا؟» حملت نبرة الغريب لمحة مرارة. «إنه أمر يدعو إلى الأسى. وفي كل ذلك فإن الذكاء ينبني على أسباب أخرى عديدة أكثر من مجرد عمليات حسابية، أذكر منها: المرونة، والتعلم، والتقرير الذاتي. ربما يستطيع «ديب بلو» أن يلعب الشطرنج أفضل مني بكثير، لكني أراهن أنه لم يقم في حياته بطلب بيتزا.» «وما عسى «ديب بلو» أن يفعل بالبيتزا؟» رد توماس بحدة: «بفضل تكنولوجيا النانو ستظهر في القريب شرائح أكثر فعالية ثلاثية الأبعاد، ومواد تعمل كأشباه موصلات، وعناصر محولة عالية السرعات. سيتم إنتاج أجهزة كمبيوتر نوعية: كوانتينكومبيوتر لتحل محل المعالجة الرقمية للبيانات. تتعامل الأجهزة الجديدة مع الكيو-بت. يمثل الكيو-بت إجابتين محتملتين. وارتباط وحدتين من الكيو-بت يشكل أربع إجابات محتملة. إن مجرد ربط 60 وحدة كيو-بت ببعضها يمكن أن يسمح للكمبيوتر بتنفيذ مليون بليون عملية في نفس الوقت. إن أجهزة الكمبيوتر هذه ستقوم بكتابة برامجها بنفسها.»
فرد توماس ظهره للوراء ووضع ذراعيه خلف رأسه. بعض من شعيرات صدره الرمادية أطلت من فوق الزر العلوي لقميصه المشدود عند الخصر. كانت عيناه تلتمعان رغبة في مزيد من الهجوم، في حين ارتسمت على زوايا فمه إيماءات ساخرة، وهو ما راق لفاندا، وكان عليها الآن أن تبقيه في هذه الحالة المزاجية .
فسألته بحذر: «وما رأيك يا توماس: هل ستقوم الأجهزة بالعمل من أجلنا أم ضدنا؟» «أنا مقتنع أن التطور سيكون للأفضل، فالشعور بالفهم مثلا يمكن أن نعزوه إلى عمليات تجري في مناطق معينة من الدماغ. ستوجد ماكينات تمكننا من توسعة نطاق وعينا. تدخلين ببساطة على الإنترنت وتحملين إحداها لنفسك.»
قالت فاندا بابتسامة متكلفة: «يتعين علينا أن نوصي الرئيس بإحداها.»
سمعت من ورائها صوتا مستثارا يقول: «أنا أطالب بمواد تبطل مفعول هذا الأمر.» تدريجيا توترت الأجواء. نظر توماس بحدة وقال: «يوما ما ستنكسر أيضا كل هذه المعارضة، فالمكسب ببساطة أكبر بكثير بهذه التقنية من أن يرى الآن. إن استخدام أجهزة الكمبيوتر متناهية الصغر في النظارات، وفي العدسات اللاصقة، وفي زرع الخلايا العصبية سيسهم في توسعة نطاقات خبرتنا بالعالم، بل إننا سنشعر أننا أكثر حرية.» «معامل متخيلة، وأبحاث متخيلة، وبيانات متخيلة، وزملاء، وعلاقات، ووظائف، وهموم، وأزمات، وآلام الصداع ...؟» أخفت فاندا شكوكها بابتسامة غامضة. «نعم تستطيعين أن تختاري لنفسك ما تشائين، لكنه في هذه الأثناء أضحى من المهم الحديث عن رؤاه. ما هي الرؤيا غير أن تكون سيناريوهات غير واقعية، وصورا متخيلة نعرضها على شاشة وعينا؟ نحن الآن على أعتاب التكيف مع هذا الزمن الجديد؛ لأنه في مثل هذه الصور تضخ استثمارات كبيرة.» «صور خادعة»، رن الصوت في ظهر فاندا «والإنترنت هي قاعة المزاد عليها.»
مد توماس ذقنه نحو الأمام وعبر ببصره من فوق فاندا متوجها نحو الغريب. «من أين لك أن تعرف أن هذه اللحظة ليست سوى مجرد محاكاة؟ ألا يمكن أن تختفي هنا بأسرع مما ظهرت؟» «إذن أرجو أن تطفئني!»
ضمت فاندا رقبتها نحو جسدها والتفتت نحو الصوت. لدهشتها وجدت ابتسامة متواضعة. «أخشى أني أكاد أكون حقيقيا، رغم الأعطال الكثيرة في الآونة الأخيرة.»
تنهدت فاندا بارتياح.
رد توماس بغضب: «أنا أتحدث عن العلاقات السببية، قانون الوقت والفوضى. الفترات الزمنية بين الأحداث المهمة يتناقص أمدها. إن هذه التطورات لن تردعها حدود بعد اليوم.» «مثل هذا الأمر ذكر في قسم التنبؤ بالطالع في ملحق مجلة التليفزيون.» هذا الشخص لا يستسلم ببساطة.
ألقى توماس نظرة طويلة على شاشة الكمبيوتر.
فقال ببرود: «الآن أعتقد أن هذه المسألة يمكن النظر إليها من هذا الجانب أو ذاك. هل تمت الإجابة عن سؤالك يا فاندا؟»
كان توماس أستاذا في التخلص من الناس. «عليكم اللعنة» لو قالها لكان أصدق، وكان في مقدوره أن ينسحب إلى ذاته بسرعة فلا يبقى منه شيء، وكأن أحدهم قد حول مؤشر المذياع من موجة الإرسال ليتركها في ثقب الاستقبال، فلا يصدر عنه شيء ولا حتى الصرير. لكن التوتر ظل بداخلها، إذ كانت ترغبه بأقوى من أي وقت مضى. دائما حين يقل هذا الشعور بداخلها كانت تمر بغرفته وتدخل لتمضي وقتا قصيرا؛ فنظرة منه كفيلة أن تعيد شحن بطاريتها في وقت لا يذكر. هل وقعت في حبه؟ وما موقفه هو؟ لم يقم بطلب رقمها قط، ولم يدعها إلى الدخول قط، كان فقط يتأملها، وكانت تظن أنه يعرف كل ما يعتمل بداخلها. لم يكن عليه سوى أن يشير بأنامله، لكنه لم يفعلها. هل عليها أن تخاطبه في ذلك؟ وماذا لو لم يكن يهتم للنساء الحقيقيات؟ توماس وعذراء السايبر؟ أمر لا يصدقه عقل. أو ربما حقا نسخة صادقة لفصيلة الذكور التي تضطر فاندا إلى ركلها بمجرد أن تلتصق بالبيت. ليس ذاك أفضل أيضا. شربت فاندا آخر رشفة شاي من فنجانها. هل كان على هذا الشخص أن يقاطعهما اليوم خاصة؟ استدارت فوجدته قد عاد إلى الطرقة يراقب لوحات الإعلانات المعلقة على الجدار. وقفت فاندا إلى جواره. «ومن أنت؟» «أنا اسمي أندرياس، وأريد أن أذهب إلى فاندا فالس.» «هي أنا، من سمح لك بالدخول إلى هنا؟» «واحد من الذين خرجوا.» «يا للفوضى!» «لا أريد سوى لحظات معدودة، أسألك عدة أسئلة.» «هذا ما يقوله كل الناس.»
كانا بالفعل في الطريق إلى مكتبها. «من أجل أطروحتي للدكتوراه.» «ومن الذي دلك علي أنا خاصة؟»
ابتسم أندرياس وقال: «خدمة سرية. بل لا، لا أذى في الأمر؛ فقد دخلت فقط على الصفحة الرئيسية لموقعكم الإلكتروني وبحثت فيه، ويبدو لي أنك أفضل من في التخصص.»
واحد آخر يريد أن يطويني تحت جناحه، كم كانت ملاحظته مثيرة للانتباه. «وفيم تعمل؟» «حدود وإمكانات تقنية النانو البدنية لتحسين الإنسان.» «أفففف، ومن يرعى هذا الموضوع؟» «إنه مجرد عنوان للعمل. أنا تخصصي هو الفلسفة. أريد أن أبحث في الرؤى البشرية العابرة، وفي رسم الحدود لجوهرنا الإنساني، وفي زوال الحدود بين الحقيقة والخيال في التفكير العلمي.» «لست أفهم شيئا في هذه الأمور.» دلفا إلى مكتبها، وأطلق كرسي الضيوف أزيزا منذرا بمجرد أن جلس عليه أندرياس. «إذن فقد حان الوقت كي تفكري في هذه المسائل، فأنت منغمسة فيها بالفعل، وقد قدم لك زميلك مختصرا للأمر منذ قليل. إن أردت أوضحت لك كل شيء.» شخص متقد الذكاء إذن، تماما كما حزرت. «وأنا التي خشيت أن أضطر إلى تعليمك شيئا.»
أجاب مبتسما: «هذا صحيح، ربما أستطيع في المقابل أن أظهر بعضا من علمي المتواضع.» كان قد دس ساقا من ساقيه الطويلتين تحت الكرسي، أما الساق الأخرى فتركها ملتوية على الجانب بشكل غريب. لم يكلف نفسه مشقة أن يعدل الكرسي إلى وضع مريح له. كان يجلس هناك وكأنه واحد من عناكب البحر العملاقة، تلك الحيوانات السلطعونية طويلة السيقان التي كانت قد اندهشت من شكلها حين رأتها عندما كانت طالبة في صناديق العرض بمتحف زينكينبيرج. كتمت فاندا ضحكتها. ولم لا؟ فكرت وقد أمتعتها الفكرة. رئيس عمل يستغلني، زميل ليس له إلا نوايا متخيلة، كمبيوتر يسدي لي النصح، والآن فيلسوف. أهدته ابتسامة مشجعة. مرحبا بك في فريق الأحلام.
الفصل التاسع عشر
تأثير اللوتس
عملت فاندا طيلة عطلة نهاية الأسبوع على تجهيز المحاضرة التي سيلقيها شتورم. بدوره اتصل هو بها صباح يوم الاثنين نحو الساعة الثامنة والنصف كي يخبرها أن عليها تسليم العمل كله في السكرتارية؛ إذ لم يعد لديه مزيد من الوقت ليقابلها قبل رحلته إلى بوسطن في الظهيرة. ورغم هذا عليها ألا تغلق وسائل الاتصال بها تحسبا أن لو كان لديه أسئلة أخرى. كانت قد عقدت عزمها على أن تسأله عن حيوانات التجارب. أرادت أن تقوم بهذا الأمر بشكل لا يثير الشك، فقط كي ترى رد فعله، ولكنه لم يعطها فرصة لذلك. قامت فاندا بتحميل المحاضرة على سي دي وسلمته للسيدة بونتي. عليها أن تعثر على طريقة أخرى لمواجهة شتورم.
وقفت مساء يوم الاثنين مترددة أمام مرآة الدولاب الكبيرة في حجرة نومها. هذا كله فقط لحضور سلسلة من المحاضرات كانت قد اتفقت مع أندرياس أن يحضراها معا. في الأحوال العادية تختار ملابسها وفقا لمعايير عملية، كلها مناسبة لاحتياجات حياتها في المعمل، تغلب عليها الألوان الداكنة لتغسل دفعة واحدة، ناهيك عن قدرتها على مواءمة الاحتمالات المتنوعة التي يجلبها روتينها الوظيفي، وبهذا اقتصرت ثيابها على قطع يسهل العناية بها، هي غالبا بنطالات وقمصان قطنية يمكن المزاوجة بينها وتبديل أحدها بالآخر بلا مشاكل. ها هي الآن تبحث دون جدوى عن شيء آخر، لكن لماذا؟
كان من الواضح أن طالب الفلسفة المحب للشجار هذا أصغر منها، بل إنه حتى أصغر من أخيها الصغير، إلا أن شيئا ما جعلها اليوم تنظر لكومة ثيابها بعين ناقدة لتطلق عليها حكما بأنها «مملة». وقعت بين يديها البلوزة القديمة المصنوعة من الحرير الهندي، تبدو صيفية أكثر مما ينبغي؛ فكرت وهي لا تزال مترددة وحملتها أمام صدرها بطبعة الأزهار التي تزينها. اللون الأخضر الرقيق واللون الأحمر جعلا بشرتها الفاتحة تشرق قليلا، ربما سيتحتم عليها أن ترتدي شيئا يكسبها الدفء فوق هذه البلوزة.
دخلت فاندا إلى قاعة المحاضرات الكبرى من الباب السفلي ورأت أندرياس على الفور، كان يمد عنقه ويتطلع بنظره مرتبكا في كل الجوانب. استمتعت بتركه متخبطا هكذا. كانت قاعة المحاضرات الكبيرة أشبه بصندوق مربع، باردة وعملية، هواؤها ثقيل ومكتوم. في الخارج وقفت مجموعة من الطلاب تتناقش باحتدام. كانوا قد خضعوا توا لامتحان، بينما لم يعمل جهاز التكييف؛ مما شكل اختبارا لقوة التحمل عن أفضل نتيجة يمكن تحصيلها تحت وطأة نقص الأكسجين. توجهت فاندا نحو المنصة وظلت واقفة على منبر المحاضر، ثم التفتت بكل هدوء إلى القاعة . كانت تستمتع بهذه اللحظة مجددا مثل كل مرة؛ إذ كانت تلك اللحظة - لحظة دخولها أمام الجمهور - هي أفضل ما يمكن لأية محاضرة أن تمنحها إياه، إنها تلك الثواني القليلة في البداية التي لا يقول فيها أحد شيئا، لتهدأ هي فيها هدوءا تاما، ليظل كسر الصمت أمرا خاضعا لسطوتها، والصنعة في ذلك تقتضي تأخير إطلاق سهام الكلمات الأولى لأطول مدة ممكنة دون أن يشد قوس الصمت مدة أطول من اللازم. ارتسمت ابتسامة على شفتيها. •••
شجاعة بحق، فكر أندرياس حين رأى فاندا في المقدمة، فمجرد تصور أن يظهر أمام جمع من الناس كان يصيبه بعدم الارتياح؛ ولهذا السبب جاء من أعلى، واختار الدخول من الباب الخلفي لقاعة المحاضرات، وجلس أقصى اليسار في الثلث الأول من مقاعد المنتصف. مكان ليس في الصفوف الأولى، لكنه قريب بما يكفي لرؤية تعبيرات وجه المتحدث جيدا. كان يسهل عليه متابعة المحاضرة بشكل أفضل حين تصله جوانب من الإنسان نفسه، وليس مجرد صوت المحاضر المقوى بالأجهزة التقنية. شغل المقعد المجاور له بكوفيته، وكانت السعادة قد غمرته طيلة اليوم بسبب هذا اللقاء، إلا أنه لم يكن متأكدا ما إذا كانت فاندا ستأتي حقا، رغم أنها هي من اقترحت هذا المكان. «حسنا، أراك مساء الاثنين حيث ستلقى سلسلة المحاضرات في مبنى الدراسة العامة.» كان لا يزال يسمع نبرة صوتها الدافئة العميقة، ثم أضافت بشيء من الاستهتار: «سيتحدث أحدهم عن تأثير اللوتس، بالتأكيد هذا نوع من إسهام فيزياء النانو لتحسين الإنسان.»
حين كان يبحث قبل بضعة أسابيع على الصفحة الرسمية لعلم السموم عن شخص يتواصل معه، لفتت انتباهه على الفور. كانت هي السيدة التي صادفها في القطار حين كان عائدا لتوه من جنازة والده بميونيخ، وهو ذات اليوم الذي رحلت فيه لاريسا إلى نيكاراجوا. كان هذا قبل ما يزيد عن ستة أشهر. منذ ذلك الحين والأحداث تمر مرور الكرام، هذا إن وقعت أحداث أصلا. كان لا يزال محبوسا في زقاق لوم الذات المظلم منتظرا أن يفتح باب من مكان ما.
حين تأملها في وقفتها تلك بدت هيئتها منكمشة على نحو ما، رغم أنه لا يذكر أنها ضئيلة البنية. جذبه جسدها المدملج، لكن موضة الشتاء التي تميل إلى الانتفاخ أزعجت إحساسه بالنسب الجمالية. في مخيلته حاول أن يستبدل بحشو بطانة سترتها الثقيل قماشا آخر أخف وأكثر انسيابية، وبحسب نجاحه في ذلك كانت تظهر له فاندا إما في صورة تمثال ربة خصوبة أنيقة، أو لاعبة هوكي ضخمة البنية. رأى كيف جالت ببصرها بانتظام باحثة بين صفوف المقاعد، وعندما نظرت تجاهه رفع يده. انعكست على وجهها تعبيرات سعادة لرؤيته، لكنه استشف أيضا أمارات إرهاق وشحوب تخفيها، ولم يتبدد هذا الإحساس إلا عندما رأى عيني فاندا الباحثتين عنه وهي تصعد درجات السلم وصولا إليه، وحين وقفت أمامه، لفتت انتباهه تلك التجزعات البنية في قزحية عينها الخضراء مثل شجر الزيزفون. فكر حينها في الصيف وفي قطع الشوكولاتة المنثورة فوق آيس كريم الفستق. أما بياض عينيها فكان يلمع ببريق معدني فوق خط الكحل الداكن على جفنها السفلي، وعلا شفتيها بريق خفيف. لقد تزينت. «هل المكان مناسب؟» سألها أندرياس وهو يسرع بسحب الكوفية من فوق المقعد المجاور، ثم خرج من الصف كي يسمح لها بالدخول. «إنه الأفضل» أجابته باسمة ثم سحبت المقعد للأسفل كي تجلس، ثم أضافت: «لا بد من إبقاء طريق الهروب مفتوحا دوما في حال صار الأمر مملا.» كانت تفوح منها روائح حدائق الليمون حين تمر بها الرياح المعبقة بعبير النعناع. رأى كيف أخرجت كراسا وقلما من حقيبتها، وكيف تحررت أخيرا بمهارة من البالون الذي كانت ترتديه. •••
حين وقفت فاندا أمامه أدركت على الفور ما الذي دفع بها إلى أزمة قلة الملابس تلك، لقد كان أندرياس يقدسها، وهي أرادت لهذا الوضع أن يستمر. بالنسبة لشاب في مثل عمره كان أندرياس يبدو حسن الهندام، وكانت ملابسه المنتقاة بعناية قد لفتت انتباهها في المعهد مؤخرا. لم يكن يرتدي قطعا باهظة الثمن للمصممين المعروفين، لا، وإنما كان يضفي لمساته الخاصة بمهارة، فتخرج طلته في صورة متفردة، بل تكاد تكون متمردة. لم تكن بثيابه مسحة الإهمال تلك التي تميز شاب أواسط العشرينيات، ورغم ذلك فقد بدا لها أنه ببساطة فتح علبة ألوانه ليغرق المعطف الذي يرتديه في اللون البرتقالي المشرق مثل قرع العسل، ليتناغم بروعة مع لون بشرته الداكنة وليجعله يبدو أكثر نضجا. لم تفكر فاندا يوما أن الألوان الزاهية يمكن أن تضفي رجولة على من يرتديها. رأت الخاتم في يده اليمنى فانتابها شعور عابر أنها قد عايشت كل هذا مرة من قبل. تفرست نظراته في رقبتها العارية، ثم انزلقت على ذراعيها، حتى وصلت إلى يديها، ثم رفع بعدها رأسه ببطء ونظر أمامه.
حيا منظم الندوة الحاضرين، ثم قدم المحاضر الذي شكره بدوره، وسرعان ما انساب صوته عبر مكبرات الصوت كما لو كان سيروي للحاضرين حكاية خرافية. بدأ محاضرته قائلا إنه منذ أكثر من ألفي عام ونبتة اللوتس المقدسة - المعروفة في اللاتينية باسم نيلومبو نوسيفيرا - التي يتم تبجيلها في آسيا باعتبارها رمزا للنقاء، لا تعد زهرة مائية، وإنما نبات ذو فصيلة قريبة من نبات الخشخاش، وعلى الأرجح فإن لثمرتها المليئة بعصارة حليبية مشبعة بمورفين شبه قلوي تأثيرا مخدرا. بالمناسبة النبتة بكاملها صالحة للأكل، وتعد مكسبا لذيذا للمطبخين الهندي والصيني. ما زالت فاندا تتذكر جيدا كيف ساءت حالتها عندما ضعفت مرة ثانية وتركت زابينة تقنعها بزيارة المطعم الصيني، فبعد تلك الليلة المريعة في سانتا فيه كانت قد اقتنعت بأنها لا تحتمل طعام المطبخ الصيني، فقد كرهت العصي، بل وكرهت نفسها لأنها لم تتمكن من التعامل معها. لقد كانت ببساطة نافدة الصبر، وكانت هذه الطريقة الغريبة في تناول الطعام تحطم أعصابها وتثير نفورها من خصوصية تلك الثقافة في الطعام. كانت تواسي نفسها بفكرة أن تلك الحصص الضئيلة تظل بلا تبعات مزعجة تؤثر على وزن الجسم. أما زابينة فقد تسلت على حساب فاندا، وروجت لما أسمته «رجيم مشهيات النانو» «كل لقمة فريدة من نوعها» كان هذا هو الشعار الذي صاغه برنامجها المكتوب وفق المعارف اللغوية-العصبية. لقد انشغلت زابينة في وقت ما بهذا الموضوع. طريقة توصيل الطعام إلى الفم هو الحدث المرضي الأهم والذي ينبغي تكراره بصورة أكبر أو أقل بحسب نمط الإنسان في الإدراك، ولا يخشى من التبعات السلبية على الأنماط عالية التكرار في عملية توصيل الطعام إلى الفم، والتي تؤدي إلى سرعة اختفاء اللقيمات من الصحن، على العكس قد يؤدي ذلك إلى توليد إحساس مبكر بالشبع. كانت هذه هي فرضيتها. زابينة كانت ترى أيضا أن العلماء، كون معظمهم من الأنماط التي تعتمد على حاسة السمع بشكل كبير، سيسمح لهم أيضا أن يتكتكوا بهذه العصي، خصوصا لو استبدلت العصي الخشبية بأخرى معدنية، وهو أمر قابل للتحقيق بلا أية مشاكل. وفي النهاية فقد نسيتا أن تحصلا على براءة اختراع لهذه الفكرة.
سرعان ما اضطرت فاندا للاعتراف بأن زهرة اللوتس لم تكن مجرد نبتة تؤكل أو تخدر، لكنها كانت مقدسة بحق. أظهر العرض صورة زهرة ذات برعم وردي رقيق على خلفية من الأوراق ذات اللون الأخضر الداكن، فبدت وكأن نورا ينبثق من بين فوضى وقذارة. كان هذا على الأقل هو رأي البوذيين الذين اتخذوا من زهرة اللوتس واحدا من مقدساتهم الثمانية، إلا أن «البيونك» أفشى السر المقدس كما قال المحاضر الذي كان حريصا على إضافة لمحة من السخرية على خطابه، وهو يعرف «البيونك» بأنه الاندماج بين علم الأحياء والتقنية، وهو لا يزيد عن كونه مجاراة للطبيعة. فالعلماء المنشغلون بهذا المجال لا يزيدون عن كونهم مقلدين ينقصهم الخيال، يقومون بدراسة الأوراق ليستخرجوا منها اكتشافاتهم، ثم ينقلون الظواهر التي قاموا بملاحظتها إلى مواد تقنية مثل المعادن والأقمشة الصناعية. وورقة اللوتس على وجه الخصوص أسدت لهم صنيعا جليلا؛ إذ إن جزأها العلوي الشمعي مغطى بنتوءات هي عبارة عن أنوف شمعية صغيرة لا ترى إلا تحت الميكروسكوب، وهي تتكون - إن شئنا الدخول أكثر في التفاصيل - من أنابيب متناهية الصغر من الجزيئات التي يصل قطرها إلى مائة وعشرة نانومترات، والمفترض أن سر النظافة يكمن خلف هذه الأشكال.
كان الهيكل النحيف الذي يرتفع وراء منصة المحاضرين معبرا عن فصيلة حديثة من الباحثين تثير التعاطف، إذ كان يتحدث عن التطور في تقليد النماذج الحيوية، وكان يقصد بذلك الأسطح ذاتية التنظيف التي تعمل وفق مبدأ تأثير اللوتس. «من تأثير لوتس لتأثير لوتس يا قلبي لا تحزن»، تفكرت فاندا ساخرة. لن تضطر إلى تنظيف المرحاض ثانية، وستنعم بنهاية عمليات حك القشرة المتكلسة على صاج الخبيز التي صارت تتكوم في المطبخ في الآونة الأخيرة. لم تكن تحب التنظيف، وكان منظر شقتها المهملة وحده كافيا لدفعها للخروج إلى الشارع، إلى العمل، إلى الحياة. فهل تنجح الأسطح الطاردة للقذارة في تحويلها إلى إنسانة بيتوتية؟
لا، لن يمكن لتأثير اللوتس أن يحدث الكثير في مجال النظافة، هذا ما يقوله المحاضر الآن كما لو كان بإمكانه أن يقرأ أفكارها، فذلك المجال يعمل وفق مبدأ «سهل التنظيف»، وعلى عكس المبدأ المذكور سلفا فإنه يعتمد على الأسطح فائقة النعومة. كما أن الصابون يوقف تأثير اللوتس مؤقتا. وللحظة رأت فاندا وجه أمها المحتقن غضبا أمام عينيها، وهي واقفة على الدرج المصنوع من حجر رملي أمام باب المنزل تضرب فقاعات الصابون بفرشاة دعك البلاط. قال المحاضر: «رهاب المياه المفرط ليس اضطرابا نفسيا ناجما عن الخوف الزائد من المياه.» ثم ترجم المصطلح قائلا: «عدم القابلية للبلل بدرجة فائقة هو المفتاح لما قد يكون أهم وظيفة تقوم بها هذه الأسطح الطبيعية، ألا وهي التنظيف الذاتي.»
لم تكن فاندا منتبهة. تخيلت كيف أن شتورم، بفصاحته المعهودة، تمكن من بيع بيانات زابينة كمنتج تم تلميعه بعناية، فزال عنه كل شك تماما كما تتساقط قطرات الندى من ورقة اللوتس؛ وبسرعة أدخلت يدها في جيب سترتها. ألم يكن يتعين عليها أن تكون مستعدة للمساعدة في أي وقت؟ ولحسن الطالع كان هاتفها المحمول مفتوحا، فتنهدت فاندا بصوت خفيض. لقد خرج الأمر من يدها. في النهاية هي تعرف أن ما سيقدمه شتورم في بوسطن ما هو إلا نصف الحقيقة؛ إذ ظلت معلومات ضرورية ناقصة، الأمر الذي يضعف من بيانات زابينة على نحو حاسم مهما كانت واعدة، وكل ما سجلته عن اضطراب سلوك الحيوانات من شأنه أن يلقي ضوءا جديدا على تأثير العلاج. لكن شتورم أصر ألا يعرف شيئا عن ذلك، ليتمكن دائما من الادعاء بأنه لم يخبر بالموضوع. ترى ألهذا لم يشأ أن يتحدث معها مرة أخرى قبل سفره؟
الحال واحدة في كل مكان؛ فالرؤساء يريدون عادة رؤية نتائج جاهزة؛ أي أرقاما يشيدون بها لأنفسهم مباني من الأفكار ثم يهدمونها، فهم لا يهتمون بالثابت. وكم من معماريين بينهم ضلوا الطريق بحق، والماكرون منهم ينهون التجارب في اللحظة المناسبة التي تبدأ فيها النتائج تزعجهم بانحرافها عن المسار المرجو. إن هذه الأبنية ذوات الأعمدة لمقامة على أساسات من خشب هش، حتى من قبل أن ترفع قواعدها. يساعد على ذلك تلك العملية المألوفة لدى العلماء، ألا وهي عملية قراءة البيانات، ففيها لا تبدو كل نقطة قياسية ذات قيمة ليتم اعتبارها في الحسابات؛ إذ يتم استخراج البيانات المشكوك فيها من سلة البيانات بنية طيبة ليس إلا، وهي إرضاء الرئيس، هي نفسها أزاحت بضع نقاط قياسية من قاعدة بياناتها آنذاك في روتشيستر ليتضح الفارق أكثر بين مجموعات التجارب، فحين تكون البيانات متجانسة لا يترك ذلك ثمة مجالا لنقد البحث، ويضحى نشره أسهل. وفي النهاية لا ينبغي إهمال تسويق المنتج. كثيرون فعلوها على ذلك النحو. على الأقل كان ذلك هو الحل المتداول من الجميع، والذي بدا أنه يضفي شرعية على طقوس التطهير تلك. «عبر عن نفسك بكلام موجز» هذه واحدة من تعليمات النشر في الدوريات العلمية، والتي تؤدي غالبا إلى غض الطرف عن المعلومات المزعجة. «الطبيعة مهملة.» سمعتها فاندا الآن من المحاضر، في حين عرضت الشاشة فوقه صورة أبيض وأسود لتحليل مجهري إلكتروني يظهر الجانب العلوي لورقة نبات اللوتس. ثمة أنماط مختلفة بعدد الأنوف في هذا العالم؛ فهناك الأنوف الصغيرة مرتفعة الأرنبة، والأنوف الدائرية البدينة المصنوعة من الورق المقوى، والأنوف الضخمة المدببة، والأنوف الشبيهة بأنف الفأر مدبب البوز، فضلا عن الأنوف التي تشبه مقدمة الطائرة. وحده الأنف الشبيه بخرطوم الفيل لم تتمكن فاندا من العثور عليه . كانت بعض الأنوف مائلة، بينما وقفت الأخرى مستقيمة، بحيث يرقد أي جزيء قذارة فوقها كما يرقد الناسك على لوح المسامير، حتى قطرات الماء لم تكن لتجد لنفسها سوى نقاط احتكاك ضئيلة جدا على هذا السطح المدبب، فتتجمع بعضها مع بعض مبتعدة عنه، غاسلة في طريقها أي وسخ. هذا هو سر عدم القابلية للابتلال كما أوضح المحاضر؛ إذ إن ابتلال أي جسم صلب بالماء يتعلق أساسا بالتوتر السطحي بين الماء والهواء، فهو الذي يحدد أي زاوية من زوايا قطرة الماء هي التي ستتصل بالسطح، فإن انفرجت الزاوية إلى 140 درجة فأكثر صرنا نتعامل مع ظاهرة سطح يتسم برهاب المياه المفرط. وأدرج العلماء هذا الاكتشاف في كتاب براءات الاختراع الكبير تحت اسم تأثير اللوتس. «حين عرضنا ظاهرة تأثير اللوتس في نهاية التسعينيات لم يصدقنا في البداية أحد إطلاقا.» قال المحاضر متباهيا ومط جملته مستمتعا بضحكته الصفراء: «كتب أحد المحكمين في مجلة «ساينس» أن الادعاء بوجود تأثير اللوتس لا يتحقق إلا في خيال المؤلف، ورفض نشر البحث.» ثم ابتسم المحاضر؛ فنجاح بحثه ساعده على نسيان هذه التجربة المهينة منذ وقت طويل. فكرت فاندا أنه ربما تكون الاستعارة مزعجة بالنسبة للمحكمين، ربما مزيد من تأثير اللوتس في أدمغة المختصين كان من شأنه أن يغسل العديد من المنتجات الموجودة حديثا في مجال الخلايا الجذعية، لتلقي بها في التو إلى البالوعة. أيضا ربما كان ينقصه وقتها أن ينال حماية كافية من المجتمع العلمي. كان يستطيع أن يحاضر بكفاءة، ورغم ذلك بدا وكأنه يختبئ في ظل بحثه، ودائما ما يلفت أسماع الحاضرين لموضوع محاضرته. إنه يختلف تماما عن تلك الأنماط اللامعة من زملائها، والتي يسهل تصور أنهم ينتمون لمهنة أخرى. والموضة الآن أن يبدو العلماء مثل بائعي المكانس الكهربية.
انتقلت فاندا بنظرها إلى أندرياس. كان ينصت بإمعان إلى شرح المحاضر الذي كان يضرب الآن أمثلة على التطبيقات العملية التي يتيحها تأثير اللوتس. كيف يمكن لأندرياس أن يتحمس لربطة عنق تطرد الأوساخ؟ فسواء كانت عليها بقعة كاتشب أو لا ، ما كانت ربطة العنق لتناسب الطراز الذي ينتقيه لملابسه. إن قصر دبي والبوابة الشمالية للمدينة المحرمة في بكين مطليان بدهان ذي بنية نانوية، قالها المحاضر في ختام حديثه. وماذا عن محطة قطار ماربورج؟ كان ينبغي توجيه دعوة إلى العمدة لحضور المحاضرة.
سأل أندرياس في أثناء مغادرتهما القاعة بعد المحاضرة: «هل تصاحبينني لشرب البيرة؟» وأكمل: «على حسابي.»
رغم ازدحام الحانة الصغيرة وجدا هناك مكانين شاغرين. قال أندرياس متحمسا: «ملعقة النانو هذه رائعة. ياه! ولا عراك بعد اليوم حول غسيل الصحون. هل لديكم شيء مماثل في المعمل؟»
هزت فاندا رأسها نافية: «ممم لا، للأسف لا يوجد شيء من هذا بعد، ولكن على الجانب الآخر»، ثم أضافت متدبرة: «لن يعود من الممكن لعق ملاعق العسل فقط لأنه لن يظل شيء عالقا عليها.»
أومأ أندرياس برأسه متفهما: «بالمناسبة، زميلك هذا، يدعى توماس فايلاند على ما أظن، ماذا يعمل بالضبط؟» «متخصص في مجال المعلومات. إنه رجل صالح.»
رفع أندرياس حاجبيه: «إنه متشدد حقيقي.» «ماذا تعني؟» «ممم حسنا، إنه يمثل نوعا من التفاؤل التكنولوجي، يذكرني بفرانسيس بيكون. «المعرفة قوة». منطلقاته جديدة نوعا ما، لكنها قديمة أيضا.»
مثلت فاندا أنها تفكر؛ لم تحب أن تعترف بأنها ليس لديها أدنى فكرة عما تحدث عنه أندرياس توا، وشعرت بالارتياح عندما تابع حديثه ببساطة: «إن الإنسان يسيطر على الطبيعة بغرض التقدم. في الواقع هذا هو «موضوع بحثي» إلا أنني أتناوله من منظور آخر. إن الأمر ليشبه رحلة عبر الزمن إلى العصور الماضية والمستقبلية، حيث أقابل أشخاصا يختلفون بعضهم عن بعض تمام الاختلاف، وأرى أي تأثير يلعبه فهمهم لذواتهم على تفكيرهم وسلوكهم العلمي.» «ومن عساه ينتفع بذلك؟»
هز أندرياس كتفيه: «نحن؟» ثم نظر إليها متسائلا: «لقد كان هناك زمن نظر فيه معظم الناس للعمر المديد باعتباره هدية من الله، ولكننا اليوم نتعامل مع الشيخوخة بوصفها مرضا. ألا ترين أن هذا هو الوقت المناسب لإمعان التفكير في هذه المسألة؟»
نظرت إليه فاندا مرتابة وقالت: «لعلك لا تريد أن تبيعني نسخة من الكتاب المقدس؟» «أخشى أن يلقى اللؤلؤ أمام الخنازير. لا أظنك قادرة على فهم الاستعارات الموجودة في الكتاب المقدس، فهي لم تعد تطابق صورة الإنسان التي جبلت أنت عليها. أم تراك تستطيعين تصور أنك تسلمين أمرك لإله بخضوع غير مشروط؟»
أجابت فاندا: «الأمر يتوقف على ما إذا كان الإله سيكبلني بقيود كثيرة.» «بالضبط. الأمر بالنسبة إليك متعلق بالحرية وبتحقيق ذاتك، فهذه هي روح هذا العصر، ووفقا لمفهوم تسامي الإنسانية، الذي يمثله توماس هذا بالمناسبة، فإن هذه الذات سيتم التخلي عنها في سبيل الأفضل. لن يبقى سوى التصعيد، والنمو، والتحسين. نحن نقف على العتبة وقد عبرها البعض فعلا.»
أومأت فاندا. ثم قالت: «أعتقد أن توماس عبقري.»
تغير وجه أندرياس كما لو كان قد أصيب بمغص، وفي رد فعل تلقائي أخرج محفظته وفتحها، فاسترقت فاندا نظرة خاطفة على بطاقته الشخصية.
قالت فاندا مداعبة: «صورة لطيفة. أهي صورة التعميد الإنجيلي أم اللاديني؟» وحين أعاد دس محفظته في جيب بنطاله كان لا يزال بإمكانها أن تقرأ اسم عائلته، «هيلبيرج»؛ فكرت فاندا، إذ بدا الاسم مألوفا لها. «من أين أنت؟» «من ميونيخ.» «مضبوط، الآن عرفت من أين أعرف اسمك. يوجد هناك بروفيسور في طب الجهاز العصبي، أظن أنه يدعى ... جونتر هيلبيرج.»
سحب أندرياس نفسا عميقا وقال باقتضاب: «كان يدعى.» «كيف ذلك؟»
مط أندرياس شفتيه: «إنه أبي. مات منذ فترة قصيرة.»
على الطاولة المجاورة علت أصوات مجموعة من الطالبات، ثم صمتن عندما شعرن بأنظار الزبائن الآخرين موجهة إليهن. حرق دخان السجائر عيني فاندا. «يؤسفني ذلك.» قالتها بصوت خفيض. رأت كيف أخذت طبقة الرغوة الموجودة في كأس البيرة الخاصة بها تنخفض وتذوب ببطء. ضغطت خفقات مكتومة على صدغيها، ولم تستطع أن تحدد ما إذا كانت هذه الخفقات آتية من الداخل أم من الخارج. ودت لو بإمكانها أن تنهض وترحل. «لم تكن علاقتنا مثالية» تلجلج أندرياس «كل شيء حدث بسرعة فائقة.» لم تعرف فاندا ماذا عساها تقول. فرضت اللحظة عليها أن تفكر في والديها الراحلين، وأنها لم تتصل بأخيها بعد . سيتعين عليها هي هذه المرة أن تتخذ الخطوة الأولى. «من أين عرفته؟» قطع بسؤاله الصمت. «تعرفنا سريعا بورشة عمل في نيو مكسيكو. مضى على هذا الأمر عامان على الأقل. كانت علاقة عمل فقط.» تنحنحت فاندا ثم قالت: «أظن أنه يعتبر، أعني أنه كان يعتبر جد متميز في تخصصه.» أومأ أندرياس برأسه. لم تحب فاندا حالة عدم الكلام التي أخذت تنسج خيوطها بينهما مثل شبكة حرجة تتعقد فيها خطوط السكك الحديدية؛ إذ لم يكن لديها أي فكرة عن الكيفية التي سيواصلان بها اللقاء الآن. «هل تريد أن تتحدث عن هذا الأمر؟» سمعت نفسها أخيرا تطرح عليه السؤال. «في وقت لاحق»، أجاب أندرياس مدافعا. في حقيقة الأمر كانت فاندا سعيدة بذلك رغم أنها كانت تتمنى أن تعرف المزيد عن مصير جونتر هيلبيرج. من ناحية أخرى كان التأجيل هو الأفضل بالتأكيد، ففي وقت ما سيتوجب عليها هي أيضا أن تحكي، لكنها ببساطة لم تكن في مزاج يسمح لها أن تقص لأندرياس النسخة المثالية لتاريخ أسرتها التي فبركتها في أثناء إقامتها بأمريكا. كانت قد اخترعت بعض القصص المضحكة، في الحقيقة كان بعضها مسروقا، بينما الآخر أضفت عليه لمسات تجميلية. كانت ببساطة أظرف من الحقيقة، كما أن الأمريكيين أعاروها أسماعهم. ذات مرة أراد أحدهم أن يعرف إن كانت ثمة قرابة بينها وبين العالم الفيزيائي فان دير فالس. لم يكن قد أدرك أن فاندا هو اسمها الأول، فألهمها هذا الأمر حدوتة صغيرة عن جدها الأكبر المتوهم البروفيسور يوهان من لايدن الذي كان يربي أبا بريص كحيوان أليف. قصت فاندا كيف أن جدها كان مفتونا بقدرة هذه الحيوانات الصغيرة على الجري فوق الأسقف والحوائط ورأسها مدلى إلى أسفل. حكت أنه نجح ذات مرة في الإمساك بواحد من حيوانات أبي بريص، وحين أراد أن يسحبه من على الحائط قال: «وراءه تختبئ فيزياء!» فعلق محدثها غير مصدق: «حيوانات أبي بريص؟» «كنت دائما أظنه يبحث في الغازات فالسوائل فقط لا غير.» كان الأمر مجرد هواية وحسب. بهذا كانت تحاول فاندا أن تخرج من الموضوع، علاوة على ذلك فقد اكتشف أحدهم قبل عدة سنوات أن «قوى فان دير فالس» هي فعلا التي تسمح لحيوانات أبي بريص بالجري ورأسها مقلوب، باستخدام كعوب أرجلها الصغيرة المزودة بشعيرات لاصقة بحجم النانو. لكم كان جدي الأكبر سيطرب لهذا الأمر! يسهل عليها الكذب باللغة الإنجليزية، ولكنها تنقصها الشجاعة كي تسري عن أندرياس بقص النسخة الألمانية من مجموعة نوادرها.
ضاع المزاج الجيد وانتهى المساء بشكل أو بآخر، وعندما دخلت فاندا الشقة راودها شعور غير مؤكد بأنها لا تخصها وحدها، فمنذ أسبوع وهي تضع قصاصة ورق بين الباب وحلقه، لكنها نسيت هذه المرة أن تستعمل جهاز إنذارها الخاص. بحثت في كل الحجرات لكنها لم تجد إشارة ملموسة يمكن أن تؤكد شكوكها. هزت رأسها تعجبا من حالها، وحين اضجعت في السرير وأغمضت عينيها، تذكرت الراحل هيلبيرج. لقد مسها الخبر الحزين بعمق بأكثر مما قد ترغب هي في الاعتراف به. تخيلت قبره والأكاليل عليه، وفجأة تحول إلى بركة يغطيها بساط من زهور اللوتس الوردية، ثم خلدت إلى النوم.
الجزء الثاني
الفصل العشرون
الشاهد
في كل ظهيرة، حين يدخل ريكاردو بانسيروتي إلى مقصف مركز جونسون لأبحاث الفضاء التابع لناسا في هيوستن بولاية تكساس، تتجول نظرته إلى الطاولة الصغيرة الموجودة في آخر الزاوية اليسرى. في الواقع لم تكن سوى عادة، لا لزوم لها البتة؛ لأن الطاولة الصغيرة التي تتسع لشخص واحد فقط كانت دائما خالية، وكأنها محجوزة له، لكنه كان يحب أن يتأكد من جديد أنه سيجد له مكانا هناك، خاصا به وحده، ليتخذ نفس الطريق إليه بالدوران من الخارج ليصل إلى قرب الحائط، ما يشكل خطورة ما بالنظر إلى ظروفه، إلا أن الصينية الممتلئة كانت كفيلة بشغل يديه اللتين تريدان التجول بحرية.
ذاك اليوم من شهر أبريل من عام 2005 سيتحتم أن يعلم عليه لاحقا في مفكرته، لكنه انتفض أولا لمرأى الظرف غير العادي، ألا وهو أن الطاولة مشغولة، ما جعل خاطره الأول هو أن يعود أدراجه ويستغني عن الغداء. كانت مثل تلك اللحظات كفيلة في السابق بإغضابه، وكان يتعين عليه مغادرة المكان بأقصى سرعة حتى لا يخرج عن شعوره على الملأ. الآن يقف هو أمام منضدة الوجبات الجاهزة، في المنتصف تماما، يبعد نفس المسافة عن الشرائط المعدنية المعلق بها السير الفاصل، ويحملق في قائمة طعام اليوم. كان قد أوقف تناول الدواء منذ عدة أشهر لأنه يسبب له الخمول، كما لم يكن هو ذاك الشخص الذي يستمتع بتجرع الأدوية، ورغم ذلك لم تهاجمه أي من نوبات الغضب العارم تلك ثانية. كان يستمع لداخل نفسه غير مصدق، لكنه لم يجد ذلك الشعور الجامح الذي كان يدفعه سابقا حتى هاوية فقدان الوعي. واضح أنه لم يعد بحاجة إلى الأقراص. صب جل تركيزه على قائمة الطعام. قرأها مرة. كم مرة يتعين عليه قراءتها؟ أثلاثا، أم خمسا أم سبع مرات؟ من فوق ومن تحت حتى يحافظ على التماثل، لكن أين ذهبت الأرقام التي تنبئه أن عليه تفويت بعض السطور حتى يتمكن من ملء صينيته والجلوس في مكانه؟ في العادة كانت تنبعث من أعماق لاوعيه فتملي عليه ما يفعل مثل البندول الذي يضبط الإيقاع، لكن رغم إنصاته الطويل، لم ترد الأرقام أن تفتح مغاليقها له، كما أن طاولته لا تزال مشغولة. كان قد تعلم أن يتعامل مع مثل تلك الأمور المزعجة. المقاطعات، سواء من داخل ذاته أو من خارجها، كانت تحدد مصيره. كان مستعدا لها. كان يستطيع أن يرتدي عباءة الممثل، وأن يتبع دفعات خياله، حتى لا تتكلس وظائف دماغه. كان عليه ببساطة أن يجدد تعريفه لذاته. من يا ترى يمكن أن يمثل دوره في هذا المكان؟ أي شخصية تسمح له أن يسيطر على علامته الخاصة، بل الأفضل أن ينساها تماما إلى أن يتناول وجبته ويمضي إلى معمله مغلقا بابه عليه.
ألقى بانسيروتي نظرة خاطفة على أنصاف الدجاج المشوي الموضوع في الصحون على منضدة العرض. كان يمكنه أن يأخذ نصفا منها وأن يقطعه باحتراف المتخصص، أليس في نهاية المطاف طبيبا شرعيا؟ حين يقوم بالتشريح ينسى أنه مريض . في الواقع كان مختلفا فحسب، مفرط الحركة بشكل يفوق العادي، متقلبا وأحيانا شديد العاطفية. بدأ ذلك حين كان في الرابعة عشرة، وتمنى الجميع أن تتوقف هذه الأعراض بانقضاء فترة المراهقة. حقا كانت النوبات أخف من سنة لأخرى، وتوقف عن العويل مثل قطار سكة حديد يخترق البراري، واختفى التعطش للكلمات غير المعتادة، التي كانت تعود فتخرج منه في صورة شعر مطبوع. أغاني الراب الحديثة تذكره أحيانا بما كان يبتدع آنذاك، إلا أن جبرية الملامسة، وجبرية عد الأرقام، والحاجة القوية إلى التناظر ظلت أعراضها على حالها معه، ولم يملك أحد تفسير المسألة، لكن ما إن بدأ دراسة الطب حتى اتخذ ذاك الكائن الآخر بداخله اسما له. فحين تعثر بالصدفة في الصورة المرضية لمتلازمة توريت اعتبر هذه المعلومة هدية غلفتها له الحياة في كتاب تعليمي في علم الأعصاب. كانت مدعاة لراحة كبيرة؛ لأنه بدأ في تقبل سلوكه الجبري كجزء من ذاته. كان سلوكه ينتمي لكينونته.
مر إلى جواره شاب في بزة العمل، كان عملاقا، عريض المنكبين وطوله متر وتسعون سنتيمترا على أقل تقدير. كان في مقدور بانسيروتي أن يختفي وراءه بلا مشقة فلا يبين. لم يكن قد رآه من قبل قط في المقصف. ربما كان واحدا من عمال البناء الذين يعملون في الموقع المجاور لمعمله، حيث تعمل الحفارات بصوتها العالي منذ عدة أيام على حفر أساسات لمبنى جديد يفترس من مملكة الأرض. مثل ذاك الغريب دفع أيضا بانسيروتي بحوضه نحو الأمام قليلا تاركا ذراعيه تتدليان بحرية. شعر وكأنه يقلد القرد. في النهاية قد قدر أنه أكبر من ذاك الشخص بما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، لكنه وجد الإيقاع المفقود بعد عدة خطوات، وتبع الشاب الضخم مثل مقلد صامت عبر المنضدة الطولية، أمسك بالمعروض من الأطعمة، ملأ صينيته وجرى خلف قدوته بخطوات واسعة، إلى أن وصلا إلى مجموعات الطاولات. جلس بانسيروتي عند مكان يمكن من خلاله أن يظل الرجل في مرمى بصره. تردد لوهلة بسبب وجود السيدتين اللتين تتناولان وجبتهما عند نهاية الطاولة وتومئان إليه بود. كانتا قريبتين لدرجة منذرة، وهو لم يكن متأكدا إن كان في وسعه مقاومة سحر أن يدوس بحذر بكلتا سبابتيه على أرنبة أنفيهما. كان يتخيل منظر وجهيهما المتلوي، لكن الأمر لم يحدث. ظلت يداه صامتتين. تأمل اختيارات الأطعمة والأشربة غير المألوفة بالنسبة إليه التي وضعها على صينيته. ألقى نظرة خاطفة على صينية جاره وشت له أنه ببساطة اختار ما اختار الرجل الآخر، وإلا لكان أخذ من كل شيء اثنين بسبب جبرية التناظر، أليس له يدان في النهاية؟ في العادة كانت سبابتاه تطرقان من مدة على الغطاء الملون لكوب الزبادي؛ لأنه يحب صوت الطرق هذا كثيرا. كان يمسك بالشوكتين، واحدة في كل يد، ثم يهوي بكل منهما في نفس الوقت على الطعام الموزع في الطبق على نحو متماثل، وكأن يمينه انعكاس لشماله. كان يستمتع بالقوة اللطيفة التي تضغط بها الشوك على الطعام، لكنه كان يطيل النظر إلى صينيته. لم يجد الأمر نافعا؛ إذ لم يكن أي شيء مكررا مرتين. هل كان ذلك هو السبب في عزوفه عن تذوق الطعام؟ تأمل السيدتين في النهاية الأخرى للطاولة، لكن ظلت يداه صامتتين في حجره، وكأنه قد منعهما الحديث، لهذا السبب تحديدا كان دائما ما يرفض أدوية الأعصاب، وكان متأكدا أنه لم يتناول أيا منها. لقد اختفت الضوضاء من رأسه، وفجأة اعتراه يقين أن مرض متلازمة توريت قد رحل عنه تماما، ولن يتاح له حتى أن يودعه لمرة أخيرة.
نظر بيتر سنايدر من النافذة. كان الشيء الوحيد المبهج في هذا المكتب الجديد هو إطلالته الجميلة على نهر أوتاوا، ورغم أنه مولع بالطبيعة، ووهب حياته الجديدة لقضية حماية البيئة، فإنه كان سعيدا بالسكن في هذه المدينة، فأوتاوا لم تكن تتطابق مع الصورة النمطية الشائعة عن العواصم الكبرى في شمال أمريكا؛ إذ لم يكن بها ناطحات السحاب التي ترسم صورة الأفق في تلك العواصم، وإنما متنزهات هادئة وشوارع نظيفة، بل ربما هي مكشوفة بزيادة. وحدها برودة الشتاء هي ما كانت تزعجه لكنها انقضت الآن بحلول شهر أبريل. كانوا قد انتقلوا لتوهم إلى المكتب الجديد في شارع نيكولاس، لكنه بدا ومن الآن أنه لن يكفي لتلبية احتياجاتهم لمدة طويلة. أخذ يقلب في سجلاته، ثم نحى كومة الأوراق جانبا وسحب من تحتها لوحة مفاتيح الكمبيوتر. تراكمت صناديق المنقولات التي لم تفتح بعد على الجدار المقابل. هنا يتم جمع كل شاردة وواردة في هذه الصناديق، هو فقط كان من الغباء بحيث أعدم كل الوثائق بعد أن أدار ظهره لوظيفة الباحث العلمي بشكل نهائي، وباستثناء بضعة السجلات المنقوصة هذه التي لا تعينه كثيرا، لم يبق شيء يذكر.
لم يكد ينقضي عامان منذ أن استبدل مكتبا مؤقتا لحماية البيئة بمعامل الجامعة المجهزة بأعلى التقنيات، ويبدو أن الانتقال إلى مكتب جديد لن يغير كثيرا من الحالة الانتقالية التي يعيشها. أطلق سنايدر أزيزا خفيضا. أضحى من الصعب عليه تذكر الأحوال في السابق، فقبل نحو العامين تخلى عن منحته، وبذلك خابت كل التنبؤات بمستقبله المتألق كعالم بلورات من أجل أن يتبع قدره الجديد. لم يندم على قراره، وربما لهذا السبب لم يعاود التفكير في المسألة قط، بل وأصبح مقتنعا في بعض الأحيان أن هذا التحول لم يكن سوى إحدى أمنياته التي طالما تطلع إليها سرا، لكن هذا لا ينفي أن قطع الجسور مع الماضي على النحو الذي لا يمكن الرجوع فيه كان خطأ، والآن يلاحقه هذا الماضي في صورة المشروع الجديد الذي يعمل عليه الآن، ورغم كل جهوده المبذولة لم يتمكن من تذكر ذاك الاسم تحديدا!
وقتها كانا يتحدثان بمزيد من الود. كان ذلك قبل عامين، قبل أن يتخلى عن وظيفته بفترة وجيزة. كانا قد حضرا ورشة عمل مشتركة في مدينة نيو مكسيكو. في شهر مايو من عام 2003. آنذاك كانت لا تزال أفكاره تتراقص في غابة من معدات الدي إن إيه الصناعية، متعلقة بالنهايات اللزجة للشريط الوراثي، حالمة بمصانع الحمض النووي ثلاثية البعد التي تنظم نفسها بنفسها. جلس ذلك العالم الآخر إلى جواره في الحافلة، وأعلن له بصراحة عن اهتمامه بأبحاثه. طرح عليه بعض الأسئلة الذكية وتحاورا حوارا مثمرا؛ إذ كان الرجل مختلفا عن معظم الآخرين، ثم حكى له عن نفسه وما الذي قذف بطبيب شرعي إلى مركز أبحاث فضاء بتكساس تابع لوكالة ناسا. نعم، هو ذاك. الذكرى تعود إليه بالتدريج، تحركت أصابعه على لوحة المفاتيح بتوتر يكاد يكون محموما. بنقرة واحدة على اللوحة جلب إليه محرك البحث الصفحة الرئيسية لمعهد رحلات الفضاء. في البداية بدت الصفحة وكأنها لن تدله على الكثير؛ إذ كانت حافلة بتقارير حول مهمات رحلات الفضاء، والتعريف برواد الفضاء، لكنه فجأة قرأ هذا الاسم: ريكاردو بانسيروتي. كان الاسم على مقال قصير يدور حول أضرار الأشعة وتدخل مجصات جزيئات النانو في تيار دم رواد الفضاء. كان على المجصات أن ترسل إشارة تحذيرية بمجرد أن تبدأ إحدى خلايا الجسم في التصرف بشكل غير طبيعي. وبغض النظر عن معنى هذا الكلام فقد عرف اسمه الآن. بانسيروتي. أطلق سنايدر صفارة فرحة. كان جرس الاسم يذكر بوجبة إيطالية ويناسب مهرج سيرك. أمر غريب كان يتعلق بذلك الشخص، حيوية وطاقة زائدة لدرجة قد تسبب بعض اللوثة، وهو أمر غير معتاد بتاتا بالنسبة لعالم. لقد كان دائم التحسس لنظارته، وكان يقلد الناس في الحافلة. لقد أمضيا وقتا طيبا معا. تذكر سنايدر أيضا أن بانسيروتي مد ذراعيه مرة، بالطريقة التي يأتيها الأطفال حين يحاولون تقليد الطائرة، وأنه في أثناء ذلك كان دائم النظر إلى السماء، ودون هذه الحركات المعبرة التي أتى بها جاره في المقعد ما انتبه إلى وجود طائرتين تحلقان فوق رءوس الناس، وما تعثر في نبأ قديم عثر عليه صدفة وهو يصنف الأوراق القديمة. كان عبارة عن رسالة بريد إلكتروني بعث بها إليهم أحد المراقبين المحنكين يوم 23 مايو عام 2003:
رأيت اليوم قبل الظهيرة طائرات إطفاء بالقرب من لوس ألاموس، لكني لم أر حريقا. لقد تم رش شيء ما، لكن ماذا؟ ربما تمكنتم من استكشاف الأمر.
في ذلك اليوم مضت الحافلة من سانتا فيه إلى لوس ألاموس حاملة بشرا متنوعين، آتين من كافة بقاع الأرض لحضور مؤتمر. كان سنايدر واحدا من العشرين مختصا الذين حضروا هذا الاجتماع الدولي حول علوم النانو.
وبعد بضع نقرات سريعة على فأرة الكمبيوتر، استدعى على شاشة الجهاز قائمة الحضور التي كان قد أعدها بنفسه. وقبل السطر الذي يحمل اسم الدكتور أناتول بروبوف أدخل مسافة وكتب دكتور ريكاردو بانسيروتي. أخيرا وجد أهم شاهد بالنسبة له. في آخر القائمة وجد اسمه هو. اكتملت القائمة الآن. كان سنايدر يعلم أنه ليس من الذكاء بمكان أن يخلط بين مشروع وبين أمر شخصي، لكنه أراد أن يجرب رغم ذلك. ففي الاجتماع المقبل سيتم إقرار هذه المسألة. وهو يريد أن يقترح إرسال القائمة إلى مجموعات العمل المتعاونة معهم في أوروبا، وأفريقيا، وجنوب أمريكا وشمالها. سيتعين عليهم التواصل مع العلماء وسؤالهم بحذر؛ إذ كان يأمل أن يجد شهودا آخرين على الواقعة يكونون قد رأوا أكثر مما رأى هو. لكن شيئا ما في هذه المسألة كان يمنعه من الاندفاع في ذلك الاتجاه؛ لأنه يخشى أن يتسبب نشاطه المبالغ فيه في إحراج أي إنسان، خصوصا وأنه يخطط للقيام برحلة إلى نيو مكسيكو بنفسه ليبحث في الموقع ويجمع عينات من التربة. «أنتم تعملون أسرع من سلطاتنا الفيدرالية»، هكذا كان رد مصدر معلوماته من نيو مكسيكو الذي أبلغ عن الوقائع قبل قرابة العامين، حين أعلمه سنايدر بزيارته. أيضا هذه المسألة من دواعي انهيار أعصابه. فهم على الأغلب قد وصلوا بعد فوات الأوان.
الفصل الحادي والعشرون
أخبار من وراء البحار
صوت ضربة مكتومة أيقظ فاندا من نومها. كانت أبواب سيارة ما تغلق بالأسفل في الشارع مصدرة ضوضاء عالية، ثم انطلقت السيارة، بينما كانت إطاراتها تصدر صريرا حادا. كانت صورة من حلمها الذي يشع بياضا لا تزال تتلألأ أمام ناظريها. فكانت تتحسس ما حولها لأنها كانت غير قادرة على الرؤية، محاولة أن تتمسك بشيء ما، تناهى إلى مسامعها أصوات رجال آتية من بعيد، كما لو كانت آتية عبر جدار، وضحكات تتردد، وأكواب يرتطم بعضها ببعض. ثمة شخص يتحدث عنها، وفوق القبة الزجاجية، التي تحتجزها كحشرة، استقر بؤبؤ عين كهاوية بلا قرار. هنا بدأت الرحلة. أبواب معمل تفتح ثم تغلق، بينما تلجلجت أسفل منها النقالة ذات العجلات عبر الممرات. انزلقت فصارت تنجرف، ثم استقرت فوق ورقة بيضاء. «هذا هو تأثير اللوتس.» قالها صوت مقبض «لقد تشبعت بالكثير من الدخان.» تحركت السماء فجأة، ومالت الورقة وانثنت للأسفل، فلم تستطع التمسك بشيء. رأت قطرة الماء وهي تنزلق في اتجاهها كلؤلؤة تتألق، ثم انغمست فيها لتجرفها إلى غور غير ذي قاع.
كانت رياح الخريف تدوي بصوت منخفض ساحبة ستائر غرفة النوم عبر النافذة المفتوحة، فيصدر قماشها الناعم حفيفا وهي تصطفق بزجاج النافذة. انزلقت فاندا أكثر فأكثر تحت أغطية الفراش. ذكرت نفسها بأنها لا بد أن تكتب هذا الحلم وإلا فستنساه بحلول مساء اليوم، لكنها كانت مرتبكة للغاية، بحيث لم تستطع تحقيق رغبتها هذه بشكل فوري. فيما بعد، لم تعد تذكر سوى هذا اللون الأبيض الذي يغشي بصرها، وأنها كانت عارية.
لم تذهب فاندا هذا الصباح إلى المعهد مباشرة، فدراجة زابينة الجبلية كانت لا تزال تقبع بالقبو منذ وقت طويل للغاية. أرادت فاندا أخيرا أن تعيدها إليها، لكنها لم تستطع المرور بحرية؛ إذ سدت عربة نقل كبيرة المخرج من الباحة الذي كان يشبه سم الخياط، بحارته ذات الاتجاه الواحد، لكنه كان يربط بين الشارع الذي تتكاثف عليه حركة السيارات والجراج خلف المنزل. هنا أرادت سيارة بيضاء كابريو مكشوفة الخروج، فاقتربت بشدة وبشكل غير مأمون من سيارة النقل. الآن تواجهت السيارتان وجها لوجه مثل داود وجالوت. أطلقت قائدة السيارة المكشوفة نفير سيارتها، ولما لم يحدث شيء أعادت إطلاق النفير أعلى وأعلى، إلى أن قفزت بلا مبالغة سيدة بدينة قفزا من السيارة.
صرخت قائلة: «يا لها من وقاحة!»
فظهر شاب من وراء باب المقطورة المفتوح لسيارة النقل، حاملا صندوقا كرتونيا على كل كتف.
وقال لها: «لو أطبقت شفتيك وخرست، لذهبت من هنا في غضون خمس دقائق.» ثم اختفى خلف زاوية المنزل، فما كان من قائدة السيارة إلا أن ضيقت عينيها متوعدة، ثم حركت رأسها في حركة دائرية، كما لو كانت تبحث لها عن نقطة ارتكاز جديدة. هنا لاحظت فاندا الفجوة الضيقة ما بين سيارة النقل والسور المتداعي، الذي من المفترض أن يحمي قائدي السيارات المتهورين من الانزلاق عبر مدخل الفناء إلى القناة المجاورة له. استجمعت فاندا قواها ورفعت الدراجة من فوق السياج، فتأرجحت ذراعاها الممطوطتان لرفع مركبة زابينة الثمينة قاذفة إياها من فوق المياه، في حين حاولت فاندا أن تجد لنفسها مخرجا من بين الحديد الصدئ وبين الشاحنة، بينما شرعت بطتان في الأسفل في تأمل المناورة الخطرة بارتياب، وفي الوقت المناسب تماما لاحظت الرجل الجالس على الممشى والذي يضع أمامه قلنسوته في انتظار تلقي المساعدات، لكن القلنسوة كانت فارغة. نظر إليها فاغرا فاه. وبحيوية بالغة مررت الدراجة من فوقه. تبعت نظرته المنزعجة الإطارات الحاوية للأسلاك المعدنية التي تطير من فوق رأسه لتهبط أمامه مباشرة.
مدت فاندا رأسها: «أرجو المعذرة.» غمغمت مضطربة، ثم جلست على كرسي الدراجة، وانسلت لتختفي في ثنايا حركة مرور الصباح.
كانت زابينة تسكن في شقة صغيرة بفايدنهاوزن، وهو حي تاريخي محبوب للطلاب، به تألق فني يدغدغ المشاعر، وليس ببعيد عن المنطقة التي تنبسط فيها المروج على ضفتي نهر اللان، ولا من قلب المدينة. دقت فاندا جرس الباب. ظل كل شيء على هدوئه. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة بقليل. لم تظن فاندا أن زابينة قد تغادر منزلها في مثل هذه الساعة المبكرة. وجال بخاطرها: «لو لم يكن علي أن أعمل، لكنت ظللت مستلقية في فراشي، لأنال كفايتي من النوم، ثم أفطر على مهل، ولربما عدت بعد الفطور إلى الفراش ثانية لأوفر نفقات تدفئة المنزل.» ماذا عساها تفعل الآن؟ لا يمكن أن تترك الدراجة الغالية في الخارج. كانت تعرف المكان الذي تخبئ فيه زابينة مفتاح الشقة، فسحبت بحذر لبنة الطوب من الحائط المجاور للسلم، فوجدت هناك الكيس القماشي والمفتاح بداخله.
سحبت فاندا الدراجة إلى الطرقة الضيقة وأوقفتها على جنبها. شمت رائحة فانيليا، ثمة شمعة عطرية تذوي تنشر ريحها الخفيف من فوق خزانة الملابس الصغيرة. في الواقع، لم تكن زابينة من الاستهتار بحيث تترك شمعة تحترق في وقت هي فيه خارج المنزل، لا بد أنها كانت على عجلة من أمرها. مطت فاندا جسدها في المدخل الضيق المفضي إلى أعلى السلم الحلزوني، المؤدي من جهة اليسار إلى الغرفتين الصغيرتين بالطابق الأعلى. «مرحبا» قالتها بصوت عال وهي تنظر لأعلى. لم تنتظر جوابا. فمعطف زابينة ليس معلقا على الخزانة، ولم تجد سوى الشال الصوفي الأسود ذي الكنار الملون الذي كانت فاندا تحب أن تتدثر به حين تكون عند زابينة، وكان على الرف العلوي. دخلت إلى غرفة المعيشة حيث يستقر كرسي أحمر لامع يتحول بسهولة إلى أريكة مريحة عند تحريك مقبضه. كانت الغرفة تشبه بيت دمى مؤثثا على طراز الشرق الأقصى، فعلى الأقل في غرفة المعيشة كانت كل قطع الأثاث المخصصة للجلوس منخفضة عن مثيلتها المصممة وفق المعايير الغربية، وفي كلتا نافذتي الغرفة تدلى منشور بصري مصنوع من الزجاج، ثم زهريتان متماثلتان اقتسمتا عتبة النافذة، حوت إحداهما نبتة صبار. لم تجد أشياء ملقاة هنا وهناك. حتى الوسائد الموشاة بالترتر والأحجار الصغيرة وقطع المرايا الدقيقة لم تنجح في إيهام فاندا أنها منثورة بعفوية؛ لأنها تمكنت من التعرف فيها على نموذج نمطي لا يمكن أن يخرج إلا عن عقلية تعشق النظام كعقلية زابينة. وحده المكتب ارتفع عن ذاك المستوى المنخفض، فبدا وكأنه جبل وحيد تراكمت عليه بعض الأشياء.
اقتربت فاندا من منضدة العمل الزجاجية، فوجدت عليها نسخا من مقالات جرائد موزعة طولا وعرضا، فلكأنها بحر مضطرب الأمواج، يكاد فنجان القهوة وطبق الإفطار المليء بالفتافيت أن يغرقا فيه. مجرد مشاهدتها هذه الصورة المتلاطمة كانت كفيلة بإيقاظ فضولها. زابينة متعصبة للتنظيم وهذه الفوضى العارمة لم تكن تلائم طبعها. لا بد أنها كانت تبحث عن شيء في عجلة وذعر. وجدت مجلة علمية على قمة تلك الأوراق. كانت مفتوحة على الصفحة الأخيرة من إحدى المقالات، احتوت على صورة صغيرة تظهر مؤلف المقال الذي كان يبدو كحيوان الفقمة، بينما لحيته تضفي وقارا على اسمه. كانت فاندا قد سمعت سلفا عن نادريان سيمان؛ إذ كان عالم البلورات معروفا بمحاولاته المثابرة في بناء شبكات معقدة باستخدام لبنات الحمض النووي. تذكرت فاندا إحدى محاضراته. «هلا نسيتم كل ما كنتم تعرفونه عن الشفرة الجينية.» هكذا طالب مستمعيه آنذاك. «أرجو أن تتصوروا الحمض النووي ببساطة كسلم حلزوني، قطره اثنان نانومتر، وارتفاعه ثلاثة نانومترات ونصف لكل لفة.» كان من المدهش مشاهدته وهو يلعب بنماذج الدي إن إيه، كان يحول شرائط النيوكليوتيدات أحادية البعد إلى مكعبات وأشكال هندسية أخرى. إن ذاك الذي بدا للوهلة الأولى وكأنه مزاج في اللهو لدى متفنن متحذلق، إنما كان يفتح في الأوساط المتخصصة مجالا بحثيا ذا إمكانات هائلة. لقد كان العلم على شفا إنتاج هياكل مكانية مصنوعة من الحمض النووي. «الخطوة الأولى نحو إنتاج مصنع النانو»، كان هذا هو عنوان الفقرة الأخيرة من المقال، وفي داخل هذه الخلايا النانوية المركبة لشبكات الدي إن إيه ثلاثية البعد، كان سيتم في القريب إنتاج البولميرات مثل النايلون بدقة بالغة، ربما تكون هنا هي المساحة التي ستنظمها إلكترونيات المستقبل بنفسها، البنية الأولية للأعصاب الصناعية التي ستدخل في تركيب الأدمغة الفائقة الجديدة، عالم معكوس، سيكون فيه الدي إن إيه مجرد وحدة سطحية لهيكل خارجي، لكنها رغم ذلك حاسمة في تحديد شكل آخر للحياة. لكن أيا من ذلك لم يكن ليشغل بال فاندا بقدر اهتمامها بالسبب الذي يدعو زابينة إلى الانشغال بهذه المسألة؛ فزابينة عالمة أحياء، فما الذي يدفعها إلى الاهتمام بعلم البلورات؟ ربما كان مجرد مزاج، أو رغبة في أخذ فكرة عن أمور أبعد عن دائرة تخصصها البحثي. مرت فاندا بنظرات خاطفة على كومات المراجع التي توزعت على المكتب، وجاهدت نفسها ألا تمس شيئا. لم تجد سوى نسخ لأعمال أصلية عن نفس الموضوع على سبيل الحصر. لقد كان هذا إذن هو الموضوع الذي يشغلها الآن. كانتا صديقتين وزميلتين، إلا أن زابينة لم تكن لتسمح لها أن تشاركها حياتها، وقد كان هذا الأمر يضايقها، وكان لا بد أن تعترف بأنها لا تعلم شيئا البتة عن العالمة زابينة ميرتينز.
تراقصت على شاشة الكمبيوتر السطور التي تظهر على حافظة الشاشة. ترددت فاندا؛ إذ لم يكن من طبعها أن تفتش في خصوصيات الآخرين. هل ثمة ما ينبغي أن تعرفه؟ إن كان للأمر صلة بمشروع شركة بي آي تي فهو أمر يمسها هي أيضا. نقرت سبابتها فأرة الكمبيوتر وكأنها نقرات عرضية، وفجأة سمعت خشخشة من ورائها. التفتت فاندا، تجولت نظراتها سريعة مذعورة عبر الباب إلى الطرقة، ثم عادت ثانية إلى الغرفة. اكتشفت قفصا على الأرض إلى جوار جهاز التدفئة. امتدت أنف وردية تجاهها وتشممت. «أخ! إنه أنت يا جوسي» تنفست فاندا الصعداء. دارت الفأرة مرة أخرى ودست أنفها في القش. عادت فاندا للتطلع إلى شاشة الكمبيوتر وحملقت في نافذة رسالة نصية. لقد نسيت زابينة إغلاق صندوق بريدها الإلكتروني. قرأت فاندا الرد القصير على سؤال صديقتها:
من فضلك أرسلي المادة مباشرة إلى معملي، سنرى ما يمكن عمله.
كان اسم المرسل نادريان سيمان. •••
تهادت الحافلة في طريقها الصاعد منحدرات اللان. شعرت فاندا فجأة بالتعب والإحباط. كانت غاضبة سرا أنها لم تواصل القراءة، وانتابتها الهواجس فجأة. تبا للولاء. كما أن زابينة كان من الممكن أن ترجع في أي لحظة. كانت لتفضل أن تسأل صديقتها مباشرة، لكن كيف يمكن لها أن تنفذ ذلك دون أن تتسبب في شرخ بينهما؟ ستحصن زابينة نفسها لو علمت أني أتجسس عليها. سمعت صفير ماكينة الرد الآلي تذكرها بموعد استشارة الطبيب. لم تكن الدعوة هذه المرة ودية. قال الصوت إن د. جليزر يرغب في رؤيتها لأمر هام، كما كان الرجاء الحار برد الاتصال يبدو وكأنه مطالبة بنك الادخار برد قرض الدراسة، كان التأمين الصحي يتكفل بالمصاريف؛ لذا هي لا تدين بشيء للطبيب. «علي أن أسجل لنفسي موعدا لدى الطبيب.» نقرت فاندا على الكمبيوتر الخاص بها. «تسجيل؟» «نعم، لا أجد المسألة لطيفة بتاتا، كما أني غاضبة من زابينة.»
فظهر على الشاشة: «وفقا لقانون الأوبئة الفيدرالي، يعد داء الكلب مرضا يتوجب التبليغ عنه.»
صرخت فاندا: «انس الأمر»، وأوقفت البرنامج.
قرأت رسائل بريدها الإلكتروني. تلقت ردا من ناشر إحدى المجلات العلمية. كان المخطوط الذي تقدمت به قبل ثمانية أسابيع قد نال رفضا، لكنه سيسمح لها بتنقيحه ثم إعادة إرساله. قرأت بسرعة آراء الأساتذة في مقالها والتي أرفقت مع الرد الإلكتروني. عبر الأستاذ الأول عن رأيه بإيجاز، كما أنه اقترح تعديلات طفيفة، لكنها توقفت مليا عند رأي الأستاذ الثاني الذي قام بتصويب فقرات كاملة من مخطوطها مثل المصحح اللغوي، كما أنه عاب لغتها الإنجليزية ونعتها بأنها إنجليزية ألمانية، وطالبها بأن تستعين بمصحح تكون الإنجليزية هي لغته الأم، علاوة على ذلك فقد اعتبر الإحصائيات غير كافية، وطالب بتطبيق طرق إحصائية لم تسمع فاندا بها من قبل، إلا أن كل ذلك بدا لها مألوفا. إن لم تكن تتمادى في خداع نفسها، فلن تحمل تلك التعديلات سوى توقيع أنامل البروفيسور أناتول بروبوف، فهي كانت قد تعرفت إليه في أثناء عملها بمركز أبحاث النانو في روتشيستر، وسافرت معه إلى ورشة عمل في مدينة نيو مكسيكو بعد بدء مرحلة ما بعد الدكتوراه مباشرة. بروبوف أستاذ ملهم في الفيزياء ومتحذلق كفيل بإفساد حالتك المزاجية. كان يقوم بتصويب لغة فاندا الإنجليزية بشكل مستمر. كان رجلا ضئيل البنية، نحيل العود، ذا عينين تشعان ذكاء، في منتصف الأربعينيات وبالتأكيد ليس ساحر النساء، إلا أن هذه الصفات اللزجة لم تكن تشكل سوى قشرة مجعدة مثل تلك التي تخبئ السلحفاة، يخفي وراءها شيئا آخر لا يمكن أن يلحظه المرء من أول مرة، لكن في حضرة تلك العالمة المحبة للحياة، القادمة من جوهانسبرج، التي تعرف إليها خلال الرحلة إلى المؤتمر، خرج بروبوف من قوقعته على نحو غير متوقع وتحول إلى ضفدع ساحر، لكن للأسف، لم يصمد سحر ماري كامبل طويلا، وانتهت الحكاية الخرافية بعودة فاندا إلى روتشيستر، وهناك ذاقت متعة نشر بحث مشترك معه، للمرة الأولى والأخيرة. لم يكن البحث يحوي سوى مراوغات كلامية، حتى مع اعتراف فاندا أن هذا العذاب أسهم في تحسين لغتها الإنجليزية تحسينا كبيرا . لم يكن بروبوف يرضى قط عن أي عمل تسلمه إليه، لدرجة أنها خشيت أن يلقى البحث مصير البضاعة الفاسدة، وعندما أعادت الآن قراءة التقرير الذي كتبه حول بحثها الأخير، شعرت بالغضب المتراكم من تجربتها السابقة يتصاعد داخلها. ما هذا إلا بروبوف، لا بد أن تفكر في حل ما؛ لأنه لن يهدأ إلا بعد أن تقبل كل مقترحاته بلا تحفظات، ربما عليها أن تضيف على سطر المؤلفين شخصا الإنجليزية هي لغته الأم، فهذا على الأقل كفيل بتهدئة ناشر المجلة. وجدت في سجل العناوين بحساب بريدها الإلكتروني عنوان ماري كامبل في جوهانسبرج، كانت فاندا قد تفاهمت معها على نحو جيد في رحلة نيو مكسيكو، وهي يمكن لها أن تنجح في التغلب على مبالغاته في التدقيق اللغوي في مدة وجيزة. كتبت لها بضعة أسطر واستأذنتها أن ترسل إليها مسودة بحث للمراجعة، وفي المقابل ستذكرها فاندا على أنها مؤلف مشارك. سعدت فاندا بهذه الفكرة الذكية وشعرت بالرضا عن نفسها، فهذا من شأنه أن يقلل من خطر فذلكات أناتول بروبوف ويحصره في «خانة اليك».
الفصل الثاني والعشرون
الدردشة
وصل رد الرسالة من جوهانسبرج فعلا قبيل مغرب نفس اليوم، وكانت تبدو ماري كامبل سعيدة جدا بالطلب، كما أنها اقترحت على فاندا أن تلتقيا على الإنترنت في نفس المساء. جلست فاندا على أرضية غرفة معيشتها واضعة ساقا على الأخرى، محملقة في شاشة الكمبيوتر المحمول الخاص بها. دثرت نفسها بالبطانية الصوفية ولفتها على كتفيها، وضغطت يديها على فنجان شاي الأعشاب الذي أعدته لنفسها. كانت شقتها باردة نسبيا، ومع ذلك فقد حاولت أن تهيئ لنفسها جوا مريحا، فارتدت بنطال العدو ذا الفتحات، والبلوفر التريكو الواسع، وكانت تشعر بالسعادة لأنها ستتحدث مع زميلتها العالمة المتخصصة، وفي تمام التاسعة سجلت نفسها في غرفة الدردشة المحمية التي اقترحتها ماري مكانا للقائهما؛ ففيها - بحسب رأي ماري - ستتمكنان من الانفراد بنفسيهما. لكن من يضمن ذلك حقا؟ لذا قررت فاندا أن تستعمل اسما مستعارا، ووجدت ماري في انتظارها فعلا.
روبين : «هاي.»
ماري : «أووه، ما أجمل هذا! عصفور يزقزق ...»
روبين : «أفضل أن أبقى غير معروفة، إن لم يكن يضايقك ذلك.»
ماري : «هل بيننا أغنية مشتركة؟»
روبين : «في أقصى الجنوب يزداد المكان ضيقا.»
ماري : «سيتقلب ريتشارد فاينمان في قبره.»
روبين (صوت طقطقة) : «سأهديه ورقتي البحثية بمجرد أن تنشر.»
ماري : «حسنا، هذا يكفيني. مرحبا بك. وبغض النظر عن غضبك بشأن مسودة البحث ... كيف أحوالك؟ :-)»
روبين : «حالي حال من تغيب عنه الشمس وتنفد شموعه. ؛-)»
ماري : «عندنا تذوب الآن ...»
ماري : «... الشموع :-( روبين، ماذا أستطيع أن أقدم لك؟»
شعرت فاندا بالارتياح؛ إذ بدا أن ماري مدربة على هذا النوع من الدردشة، كانت تعبر عن نفسها بإيجاز، وتستطيع التعامل بالاختصارات المألوفة، فتشجعت فاندا على الدخول في الموضوع.
روبين : «يطالب الأستاذ المحكم أن يقوم شخص الإنجليزية لغته الأم بالتصويب اللغوي للبحث. أسلوبه يذكرني بالأستاذ ... بروبوف >:-<»
ماري : «أناتول؟»
روبين : «أخشى هذا ...»
ماري : «إنه يكرهني. :-(»
روبين : « (@@) »
ماري : «لا، للأسف أنا لا أمزح، إنه يهاجمني في أي مؤتمر، ويرفض كل مسودات أبحاثي حين تواتيه الفرصة لذلك. الآن أعرف معنى أن يكون للإنسان عدو لدود. وطبيعي جدا أن أي أحد يستطيع أن يجد شعرة ما في طبق الحساء إن أراد. كل شيء مبني على انفعالات محضة ...»
ماري : «... لا بد أن شيئا ما قد حدث بعد نيو مكسيكو، لقد كانت علاقتنا طيبة هناك؛ لذا أنا لا أعرف كيف أفسر المسألة. كنت أنت أيضا لا تزالين عنده في روتشيستر، ألم تلحظي شيئا وقتها؟ هل وقع مثلا شيء على رأسه؟
6\ /) »
روبين : «
6\ /) ؟»
ماري : «نعم، فيل ... أو قام ثعبان ====3:>
بعضه؟»
روبين : «لم أشاهد هناك لا
6\ /) ، ولا ====3:> .»
روبين : «فقط
8 -)، و ===XOo_|+ .»
ماري : «؟؟؟»
روبين : «مرتدو نظارات شمسية ومتزلجو جليد.»
ماري : «متزلجو جليد؟»
روبين : «إنه يسافر، ويسافر، ويسافر، ثم يصطدم، ويتدحرج نازلا المنحدر ليستلقي ميتا أمام أحد الجدران.»
ماري : ...
ماري : «... على أية حال لم يعد في مقدورنا أن نعتمد على أناتول ... وإلا كنا ضحية جديدة من ضحايا عصابه ... الآن خطر آخر ببالي ... هل تذكرين ريكاردو بانسيروتي؟»
روبين : «*<
8 -)؟»
ماري : «نعم، بالضبط، المهرج. لقد اختفت أعراض مرضه تماما . تخيلي ذلك! لا رسائل فاكس بعد اليوم، ويشعر الآن وكأنه أصيب بالشلل. في الواقع لم يكن يعنيه سوى القائمة.»
روبين : «لا علم لي بذلك؛ إذ يبدو أني محبوسة هنا في حفرة بعيدة عن استقبال المعلومات. :-|»
ماري : «لحظة من فضلك.»
انتظرت فاندا. المسألة أخذت تتعقد، ففي ظل ما حكته ماري عن علاقتها ببروبوف، لم يكن ثمة جدوى أن تجعلها مؤلفة شريكة؛ فهذا من شأنه أن يهدد فرصها في نشر البحث بالكامل.
ماري : «عدت. كان علي أن أنظف أنفي سريعا. أعرف أن الأمر يبدو ضربا من الجنون، لكن رائحة البنفسج الدائمة هذه تصيبني أحيانا بالدوار ... أخ، من أين لك أن تعرفي هذا الأمر ... حاسة الشم لدي بها اضطرابات منذ مدة ليست وجيزة ... في البداية فقدت القدرة على الشم تماما، ثم عادت لكن كل شيء كان له نفس الرائحة ... الآن كل شيء يعبق برائحة اللافندر ... القهوة، الشاي ... أمر ممكن تحمله ... لكن أكلاتي المفضلة من الأسماك أو النبيذ الجيد، صعب جدا ... في كل الأحوال أفضل من أن أشم فضلات القطط باستمرار، إذ أتمنى أن تكون تلك المرحلة قد مرت بلا عودة.»
دار رأس فاندا، هل هذه حقا ماري كامبل التي التقتها قبل عامين ونصف في سانتا فيه؟ نقرت فاندا العلامة المعبرة عن حيرتها.
روبين :
-(
ماري : «نعم، كنت أنا أيضا في حالة اضطراب شامل، لكني تعودت ... أين توقفنا؟»
روبين : «بانسيروتي.»
ماري : «آه، نعم، القائمة ... كان سنايدر هو من جمعها ... بيتر سنايدر ... هل تذكرينه؟ كم كان شابا ذكيا. غير مساره الوظيفي ببساطة، وأصبح الآن ناشطا في مجال حماية البيئة، وعنده أخبار عن الناس، هل وصلك منه شيء؟»
روبين : «لا. :-
O »
ماري : «قائمة بأسماء الحضور وورقة استبيان؟»
روبين : «أي حضور؟»
ماري : «غريب ...»
ماري : «... لا بأس، الأمر متعلق برحلة الحافلة، تلك الرحلة إلى «لوس ألاموس» ... لقد كتب لكل المشاركين فيها يسأل إن كان أحدهم شاهد أمرا بالخارج ... أسئلة غريبة ... لكني لم أر شيئا ... فقد كنت أثرثر طوال الوقت مع أناتول. :-(»
بدت ماري مشوشة الذهن. قالت فاندا ربما تبدو لي كذلك لأني لا يصلني منها سوى هذه الجمل القصيرة، ربما كان الأفضل هو الاتصال الهاتفي، ففي الدردشة كثيرا ما تعاودها لحظات الاضطراب التي تختفي سريعا تحت تدفق تيار المحادثة، وستعلق في ذاكرتها على أنها ثغرات في المعلومات تسمح للخيال أن يلعب دوره في ملء فراغها، وهو أمر ليس جيدا بالضرورة؛ لهذا قررت أن تسأل.
روبين : «هل أنت بخير؟»
ماري : «نعم عندك حق؛ يبدو الأمر ضربا من الجنون على نحو ما. ماذا يمكن أن تظني بي؟ لكن بخلاف ذلك أنا بخير، حقا بخير. الأفضل أن تتوجهي مباشرة إلى سنايدر، سيمكنه أن يوضح لك كل شيء، لقد حدث الكثير منذ أن التقينا آخر مرة ... أين تقع ماربورج أصلا؟»
روبين : «في الخارج تماما ... بعد الجبال السبع، عند الأقزام السبع ...»
ماري : «... تبدو وكأنها مدينة مسحورة ... هل عندك أحداث مهمة؟»
روبين : «أحلام كثيرة.»
ماري : «... و؟ هل تتحقق؟»
عادت لفاندا ذكرى الحلم الذي رأته في ليلتها الأخيرة في سانتا فيه. شخص ما أراد أن ينبئها بأخبار مهمة، لكنه بمجرد أن فتح فمه لم يخرج منه سوى كلمات متفرقة، لم تكن تتوصل لأي معنى. استيقظت من نومها في منتصف الليل. دفعها الاضطراب للخروج من سريرها بالفندق. حاولت أن تتذكر الكلمات، لكنها كانت قد تبخرت.
روبين : «لا أعرف إن كنت أريد ذلك حقا. يطاردني الأمر أحيانا.»
ماري : «بدلي الأدوار، قومي أنت بمطاردة أحلامك.»
لم تجد فاندا في نفسها أية رغبة لمواصلة الحديث عن هذا الموضوع.
روبين : «سؤال ... هل اسم جونتر هيلبيرج موجود أيضا في تلك ... القائمة؟»
ماري : «نعم، الجميع، كل من كان هناك.»
روبين : «لكنه توفي!»
ظل السطر الأخير على الشاشة وكأنه أمر بالتزام الصمت. استغرقت ماري وقتا إلى أن أجابت.
ماري : «هذا مريع!»
كانت فاندا تعد نقرات المؤشر على نافذة الكتابة. انتظرت.
ماري : «ماذا حدث؟»
روبين : «لا أعلم!»
ماري : «روبين علينا أن نتحدث هاتفيا ... علي أن أفكر أولا ... عندي إحساس غريب ... إن هذه الأحداث ... ربما هي مرتبطة بعضها ببعض ... هل تذكرين العجوز الهندية التي رأيناها في الليلة الأخيرة بالفندق في سانتا فيه؟ ... كانت تغني مثل عرافة ... لم يغمض لي جفن وقتها.»
روبين : «كيمياء دمي لا تميل للاعتقاد بقوى السحر.»
ماري : «هل تعتبرينني مجنونة؟»
روبين : «لا، لكن الأمر بالنسبة لي فيه خلط كبير، علاوة على ...»
ماري : «لا تشغلي بالك ... لا أريد أنا أيضا أن أمضي الوقت في الشكوى ... في الواقع كنا نريد أن نتحدث بخصوص مسودة بحثك ...»
روبين : «لا أعرف إن كان مجديا، بعد أن حكيت عن علاقتك ببروبوف ...»
ماري : «... أرسليه إلي رغم ذلك، سأرى ماذا يمكنني أن أقدم لك. بالتأكيد سنجد طريقا، ربما تستطيعين خلال هذه المدة أن تكتشفي السبب في موت الأستاذ هيلبيرج. اتفقنا؟»
روبين : «شكرا ... :-)»
روبين : «... لنتحدث عبر الهاتف، لكن متى؟»
ماري : «سأرد عليك قريبا.»
روبين : «تصبحين على خير.»
ماري : «إلى اللقاء.»
انقطع الاتصال، وظلت فاندا بمفردها.
سمعت نفسها تقول «عرافة!» ثم تهز رأسها. لم تتمكن من تذكر شيء، فغادرت بعدها هذه الغرفة الافتراضية، وأغلقت البرنامج وأطفأت الكمبيوتر.
الفصل الثالث والعشرون
القائمة
نظر الشرطي بارتياب إلى بطاقة الاسم المشبوكة على سترة فاندا.
وقال بحسم: «لا يمكنني السماح لك بالمرور»، ثم أزاحها جانبا، وأشار إلى مجموعة من التلاميذ بالمرور من جانب الباب الوحيد المفتوح. كانت مجموعة لا بأس بها من الحراس الموكلين بحفظ النظام قد اجتمعت حول هذه الفتحة الصغيرة التي يقف أمامها أسراب من البشر.
صاحت فاندا في الشرطي من فوق الرءوس المنتظرة أمام مدخل الصالة: «ما الخطأ إذن؟» «بطاقات الاسم المكتوبة بخط اليد من اختصاص زميل آخر، سيأتي الآن.» كان الناس يتدافعون ويخبطون بعضهم البعض من أجل استراق نظرة على الصالة من ثغرة المدخل. هل بقيت أماكن شاغرة أصلا؟ حتى في الداخل كان الناس واقفين حتى كادوا يقتربون من الباب، وهذا كله بسبب أن رئيس الوزراء سيكون حاضرا اليوم. كانت قد استمتعت اليوم ببعض الهواء النقي وقت استراحة الظهيرة، وعندما عادت بعدها إلى مبنى المؤتمرات عبر الممر الذي أمنته الدولة، وجدت عربتي تشريفة حكوميتين ذواتي زجاج داكن اللون تصطفان أمام المدخل الرئيسي. أما المدخل فحاصره متظاهرون يرفعون أصواتهم بنداءات معارضة. كان رجال الشرطة مشغولين بالإبقاء على المتظاهرين في الخارج، بينما يتدافع الزوار إلى داخل المبنى.
لهذا ساء مزاج فاندا كثيرا، وندمت لأنها سمحت لأندرياس بإقناعها بالخروج. كانا قد ركبا القطار معا إلى مدينة جيسن. «النانو - هنا المستقبل» عنوان المعرض المقام هناك. تركت العمل بالمعمل على حاله؛ إذ كان عليها أن تخرج في وقت ما، أما ذاك الخلل في وحدة حيوانات التجارب فهي الشعرة التي قصمت ظهر البعير. كان الضغط عليها شديدا وكانت مستنفدة، والآن فإنها تقف في هذه المناسبة الدعائية التابعة لولاية هيسن، ولا تعلم تحديدا أي شيء فقدت، فهي حقيقة لم تتسرب إليها النشوة التي يعرض بها الصناع منتجاتهم، والأطباء يتصرفون وكأنهم يمسكون بأيديهم العلاج الناجع لكل الأمراض، أما الساسة فكانوا يتحدثون عن فتح الأسواق وفرص العمل الجديدة، وكان حديثهم على أحسن ما يكون. هي المذنبة إن كانت هذه الجهود تبدو لها كعرض سيئ. إنها تتدافع الآن مع الزوار الآخرين من أجل الدخول إلى الصالة الكبرى التي ستعقد فيها الحلقة النقاشية التي تعتبر تتويجا لليوم باشتراك رئيس الوزراء. تشتتت أفكارها وسط الزحام فلم تستطع التعرف على نفسها.
أعطاها الشرطي الواقف على مدخل القاعة إشارة، فتوجهت إلى الرجل القصير ذي النظارة الكبيرة الذي كان يدفع نفسه بين جموع المنتظرين. أومأ إيماءة قصيرة فسمح لفاندا بالدخول على الفور. هل هذا كل المطلوب؟ لا بد أنها أخطأت فهم أمر ما، من الواضح أن المسألة تدور حول التخصص لا الأمن.
اكتشفت فاندا وجود أندرياس بين المشاهدين، كان يستند بيده إلى الكرسي الشاغر إلى جواره ويتلفت حول نفسه. «هل تسمح لي بالمرور؟ أووه، لم أكن أريد ذلك ... سترتك ... هل آلمتك؟ حقيبة ظهرك عالقة فوق ساقي ...» وأخيرا. «أرجو المعذرة»، حاول أن يقدم اعتذاراته «أفضل الأماكن كانت قد حجزت سلفا.»
غمزت بعينها قائلة: «الهروب من هنا ممنوع، لا فرق في أي مكان تجلس.» أطلت بعض شعيرات بنية اللون على ياقة سترته فاتحة اللون. ترددت فاندا، إذ كانت المنطقة تجذبها كالمغناطيس ، كانت تغريها بمد إصبعيها الإبهام فالسبابة وجذبها برقة. لمحة من لمسة ليس إلا، فارتسمت على شفتيه ابتسامة. «وأنا كنت أظن أنك ستقرصينني.» نتفت خيطا من كم سترة بدلتها، وأومأت.
تنهدت قائلة: «كان من الممكن أن يحدث. إنني أفضل زافير نايدو، هل يستطيع الغناء؟» «من؟» «رئيس الوزراء.» «لا أعرف، ربما يجيد الطبخ.»
ما زال الناس يتدافعون للدخول إلى القاعة الممتلئة عن آخرها. تدريجيا أصبح المكان غير مريح. كان رجال بسترات داكنة يمشطون الممرات التي بين الصفوف. بدوا لعينيها وكأنهم جنس مخنث خليط من المرشدين شديدي اليقظة على المرافقين المستعدين لتقديم المساعدة.
سمعت هتافات المعارضين تتدافع إلى القاعة، فلم تشعر فاندا بالراحة وهي هكذا في موقع بين الجبهات. كانت تفضل الوقوف في المدرجات الخلفية؛ إذ هي تجيد المراقبة في الوقت الذي تبقي فيه عينا مفتوحة على سبيل الهروب، لكن هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها في قلب الحدث. إنها لتكاد تقف في البؤرة الهادئة لزوبعة عاصفة. كانت تحاول الانزواء قليلا. ظهر عدد من رجال السياسة والاقتصاد على المنصة وبدءوا في اتخاذ مجالسهم، بينما عرضت من فوق رءوسهم صورة وريقة البرسيم الرباعية التي تجلب الحظ. صفق الجمهور، وأغلقت أبواب القاعة الخلفية، إلا أن ضربات الممنوعين من دخول القاعة كانت تقرع الأبواب كدوي الرعد. مع أي جانب أقف أنا حقا؟ طرحت فاندا على نفسها هذا السؤال.
لقد أزاحت الصين ألمانيا إلى المركز الرابع في أوليمبياد النانو، بعد اليابان والولايات المتحدة. هكذا بدأ المحاور الحلقة النقاشية بعد أن قدم الضيوف تقديما سريعا. جلسوا في نصف دائرة، سبعة من الرجال شعث الرءوس كما لو كانوا في معركة. ألمانيا متقدمة في الشق البحثي، لكنها بطيئة فيما يتعلق بالتسويق. كان الجميع متفقا على هذا؛ وعليه فيجب رفع كفاءتها في هذا الصدد. كانت قرعات أيدي المستبعدين لا تزال تزلزل أبواب القاعة الخلفية.
ليس ثمة سيناريو آخر على طريقة التكنولوجيا الحيوية، كما قالوا. «لقد غادر القطار بدوننا! وألمانيا فوتت فرصة اللحاق به؛ لأننا أمضينا وقتا طويلا على مقاعد الانتظار نفكر ونعيد التفكير، ونختبر ونعيد الاختبار.» شعرت فاندا بالتوتر؛ إذ ظل موضوع فئران التجارب لا يبرح بالها. فوتنا فرصة اللحاق بالركب؟ أنت فاندا داخل ذاتها، هذه هي بالضبط مشكلتي حين تستمر التجارب على نفس المنوال، ثم يأتي أولئك المهتمون برعاية الحيوان؛ إذ اتصلوا بها بالأمس وأخبروها بوقاحة أن أمرا ما غير سليم فيما يختص بالفئران، وأن عليها أن تراجع الموقف بنفسها. لقد أصابتها نوبة غضب حينما رأت الحيوانات النافقة ... أمر غير سليم ... يا لبلاهتهم! ... ألا يعرفون كيف يتكلمون؟ عشرة فئران تنفق بين عشية وضحاها؟ وكل هذا بلا أي سابق مقدمات منذرة؟ هكذا ببساطة؟ لم تستطع أن تصدق ذلك. هل الزملاء في حظيرة الحيوان يلهون طوال الوقت أم ماذا؟ كما أن الحيوانات المتبقية من التجربة الأخيرة لا تبدو على ما يرام، ربما أصيبوا بنوع من العدوى. هكذا ظنت. ربما وباء خاص بالفئران. من يعلم؟ لم يكن أمامها خيارات أخرى. عليها أن تقتلهم. وفجأة وجدت يوهانيس واقفا إلى جوارها قائلا: «سأقوم أنا بهذا!» لم يقل سوى هذه الكلمات. نظرت إليه باستغراب. لقد تحدثت زابينة معه، ربما نشب بينهما سوء تفاهم.
قررت فاندا راضية أن الحديث مع صديقتها في هافانا كان مثمرا بالفعل، لقد اتفقت مع زابينة على أخذ عينات من أنسجة الحيوانات المشتركة في دراسة شركة بي آي تي المتبقية قبل أن يرجع شتورم من الولايات المتحدة. إن كان معنا في الموضوع فالأمر لا يتعلق بمجرد حفنة من فئران أقل أو أكثر.
أضاف غامزا بعينيه: «الرئيس يعطيني بالتأكيد مكانة متميزة.» كان يوهانيس يريد أن تساعده بيترا في العمل. رفض العمل مع فاندا لأنها كثيرة الحركة بحسب زعمه، وكم أوجعها ذلك الوصف! لكنها لا تستطيع أن تنكر أنها غير قادرة على السيطرة على حركات يديها. كانت ترتعش، وحين تتوتر يظهر ذلك جليا، مما يزيد من اضطرابها، وكلما زاد اضطرابها اشتدت رعشة يديها. هل لاحظ من ذلك شيئا؟ كان يوهانيس ماهرا في استخدام مشرط التشريح، حتى لو كانا الآن يتعاملان معا مثل قط وكلب ، فلم يكن لينتاب فاندا أي شكوك في أن يوهانيس هو خير من يقوم بهذه المهمة؛ ولهذا السبب لم تسأل. أما هو فقد اقترح أن يرسلوا الأعضاء التي تم استخراجها لتفحص من قبل مختصين في علم الأمراض الحيوانية. «لا يمكن لألمانيا أن تتحمل مرة أخرى أن تفقد الريادة في تكنولوجيا أساسية.» عادت فاندا لتنتبه لما يقال على المنصة. كان رئيس الوزراء قد وضع ساقا على الأخرى في الوقت الذي يفضي فيه بقناعاته إلى الميكروفون: «نحن في حاجة إلى المزيد من الاستعداد لتقبل المغامرة»، وكأنه بهذه الجملة قد أعطى الكلمة المفتاحية ليسود التوتر بين جمهور السامعين؛ إذ قد وقف بعضهم وأخذوا في خلع معاطفهم، والآن فقط لاحظت فاندا أن بعض الزائرين وقفوا خلفها كذلك ونحوا ستراتهم جانبا، وأنهم كانوا يرتدون ملابس سوداء تحت السترات. بدا الأمر لفاندا وكأنها في المسرح تحضر عرضا، وأنها متشوقة في انتظار بدء الأحداث. كانوا منشغلين الآن بوضع نظاراتهم الشمسية، لحظتها سمعت صفارة قصيرة فخرجت كوكبة من الشباب، عددهم أكثر من الثلاثين، انسلوا كالنمل من بين الصفوف. لم ينبس أيهم ببنت شفة. بدوا وكأنهم يقومون بتوزيع شيء ما. ران الصمت على القاعة، حتى المحاور بدا وكأنه قد تجمد، كان يحمل الميكروفون أمام فمه نصف المفتوح ويزدرد ريقه.
شيء ما لم يكن على ما يرام، لكن أحدا لم يتدخل. في هذه الأثناء كانت قوات حفظ النظام مشغولة بتأمين أبواب القاعة ضد الضغط الواقع عليها من الخارج. ظل الناس جالسين، يتلفتون يمنة ويسرة متسائلين، ثم يرفعون أكتافهم غير مبالين. بعضهم تنحنح في توتر، فيما ضحك البعض الآخر ضحكا مكتوما. المكان الذي كان يجلس فيه رئيس الوزراء أصبح الآن شاغرا، ووريقة البرسيم المعروضة على المنصة اختفت وظهرت بدلا منها عبارة: «نحن نحذركم! لا سيطرة للجنون التكنولوجي» مكتوبة بحروف سوداء بالخط العريض. أما علامة التعجب فكانت تحتها نقطة حمراء كبيرة. لقد تمكن المعارضون إذن من اقتحام القاعة رغم أنف الاحتياطات الأمنية، ومن كل الاتجاهات انساب الأشخاص المتلفحون بالسواد حتى منتصف القاعة. لم يكن قد مر أكثر من دقيقتين على الأكثر منذ بدء العملية، إلا أن الهدوء جعل الوقت يمتد وكأنه شريط مطاطي. صفارة أخرى فمضى الجيش الكئيب بحسم إلى الخلف، وانقسم إلى مجموعتين أمام المنصة تستهدف كل واحدة منها مخارج القاعة. اصطدموا بقوات حفظ النظام أمام الأبواب الموصدة. صاح أحدهم: «لا تخدعنكم عيونكم!» حاول شرطيان سحب من قال ذلك خارج المجموعة. كان يقاوم رافعا ذراعيه عاليا ويصيح: «لا تلمسوني.» اقتربت مجموعة النشطاء بعضها من بعض وأخذت تضغط ككتلة داكنة على أبواب الخروج. كانت فاندا لا تزال مبهورة بذاك الشيء الصغير الذي دسه لها أحدهم في يدها اليمنى أثناء العملية: كان زرا أحمر أملس. تعرفت عليه من فورها؛ كانت قد رأته قبل عشرة أيام كاملة إلى جوار الكمبيوتر المركزي. كان النموذجان متطابقين. «عملية ممتازة» سمعت أندرياس يقول ذلك، وكانت عيناه تلمعان. «كان الأمر يستحق مشقة الحضور لهذا السبب وحده.» أومأت فاندا وأشارت إلى الزر البلاستيكي الذي في يدها. «هل رأيت هذا من قبل؟»
هز أندرياس رأسه بالنفي. في هذه الأثناء كانت أبواب الصالة قد فتحت على مصاريعها، كما قام أحدهم بإطفاء جهاز العارض الضوئي. توقفت الحلقة النقاشية التي على المنصة، وأخذ الحضور ينضمون لمجموعات صغيرة يتناقشون فيها فيما هم ينسحبون ببطء إلى خارج القاعة.
اقترح أندرياس: «دعينا ننتظر لوهلة.» فأومأت فاندا موافقة، وكانت ترى البشر المتدافعين على المخرج. لم يكن بها أي رغبة أن تنضم لهذه الجموع.
ثم سألت: «وبخلاف هذا؟ هل كان الاجتماع مفيدا لك على أي نحو بخلاف هذا؟» «الكيفية التي يعملون بها الآن مثيرة لاهتمامي.» كان هذا رأي أندرياس، «فالمواطن الواعي يقف الآن في بؤرة اهتمامهم، تماما كما تقترح التوجيهات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي.»
بدأت فاندا تنفس عن غضبها قائلة: «وهل تعتقد حقا أن هذه معلومات؟» كان توتر الدقائق السابقة لا يزال عالقا بمفاصلها، وكانت تبحث له عن مصرف. «إن كل شيء يبدو لي وكأنه لعبة استغماية مليئة بالخدع. قل لي بالله عليك، متى تم هنا من قبل النقاش مع الناس علانية؟» «رغم كل شيء ما زال الاتحاد الأوروبي يتبنى خطابا اجتماعيا، في المقابل فإن تقرير المؤسسة القومية الأمريكية للعلوم عن الإن بي آي سي يبدو وكأنه ضرب من الخيال العلمي.» «إن بي آي ... ماذا؟» «تقريب التكنولوجيات من أجل تطوير الأداء البشري. يستعرض هذا التقرير صورة بانورامية لمسودة نظرية تطور جديدة. تطوير الفرد، والإنسانية، والثقافة والتكنولوجيا، بحيث توضع جميعها في سياق متصل، وما عليك سوى قراءة رأي كورتسفايل لتعرفي كيف يفكرون، أو فلتسمعي لصديقك توماس؛ إذ يبدو أنك تصدقينه في كل ما يذهب إليه.» تجاوزت فاندا عن الهجوم المضمر، وردت بنبرة أهدأ: «رغم ذلك أفتقد هنا الحجج المقنعة، فمن ناحية تريد التكنولوجيات الجديدة حماية البيئة والموارد، لكن من ناحية أخرى يظل النمو الاقتصادي هو الهدف الرئيس.» «وهذا مع انخفاض مستويات جودة الحياة.» «بالضبط، أين إذن في هذه المهزلة ذاك الإنسان الذي يريدون رفع وعيه؟» لقد وصلت الآن لنقطة لا تستطيع معها كبح جماحها، فاستطردت: «ما الأسوأ: الأزمة الاقتصادية أم تلوث البيئة؟ من بوسعه اليوم أن ينظر للأمرين بوصفهما منفصلين أحدهما عن الآخر؟» كان ردها على سؤالها، «أنا أيضا يطلب مني الإفصاح عن حقائق حين أعلن أن مادة ما تعد مادة سمية.»
وضع يده على ذراعها بحذر.
قال لها مبتسما مهدئا: «على الأقل أنت تفعلين الصواب.» إلا أن نظرته التي تشبه نظرة كلب من فصيلة الدشهند جعلتها تستشيط غضبا. هل كان يسخر منها؟ قالت ثائرة: «إنه نفس القرف يتكرر في كل مرة.» سحب أندرياس يده ثانية، واصلت حديثها الغاضب قائلة: «الناس حمقى، لماذا لا نضع كل أوراق اللعب على الطاولة، ونقول لهم بصراحة إننا ما زلنا في مرحلة البداية؟ لم هذا الضغط بخصوص فرص التسويق؟ في نفس الوقت نحن في حاجة للتكنولوجيا من أجل قياس المخاطر، فهنا يكمن مستقبلنا، بدلا من ذلك لا نقوم إلا بتقليد الأمريكيين!» «هل تقصدين أننا لن نكون سوى أمريكيين سيئين؟»
تنهدت فاندا. «قضيت مدة هناك، وأعجبني الكثير، لكني لم أستطع التواؤم هناك بشكل كامل.» ظلا لبعض الوقت في المؤتمر، يتجولان بين أروقة المعارض الصناعية، واستمعا لبعض الكلام يلقى في جلسة هنا أو هناك، لكن فاندا كانت غارقة في أفكارها، فلم تكن منتبهة بالقدر الكافي. يا ترى ما أخبار يوهانيس وبيترا في التشريح؟ لا بد أنهما انتهيا منه في هذه الأثناء. •••
وحين عادت هي وأندرياس إلى ماربورج في المساء أرادت فاندا التوجه إلى منزلها على الفور، أما كون أنها صاحبت أندرياس إلى منزله، فلم يكن لذلك علاقة بشاي اليوجي الذي وعدها بتحضيره لها من أجل أن يعوضها عن الإحباط الذي صادفته اليوم، بل الأرجح كان الدافع هو فضولها أن تعرف كيف يعيش، علاوة على ذلك أرادت أن تجد فرصة سانحة تطبق فيها نصيحة ماري كامبل وتسأله عن والده.
كان أندرياس يقطن في الضاحية الجنوبية. صعدا بيت السلالم الضيق من المبنى القديم حتى أعلاه إلى أن توقفت الدرجات. أنت ألواح خشب الأرضية بمجرد أن دلفا إلى العلية. استقبلهما دفء مريح، فخلعت فاندا معطفها وتشممت، فصعد إلى أنفها عبق توابل.
لم يقل سوى: «ناج تشامبا ... أصلي من الهند.»
وبسرعة سبقها ليشعل النور. كانت كل الأبواب المطلة على الطرقة مفتوحة عدا واحدا. وقع نظرها على ملصق لبيبيلوتي ريست. ساقا امرأة تتدليان بسعادة من مجموعة أوراق شجر متداخلة. كانت مجرد نعومة اللقطة كافية لإضفاء الإثارة على الصورة الفوتوغرافية. كانت الصورة تضيء الجدار ذي اللون الأحمر المحروق؛ درجة الطوبي التيراكوتا؛ لونها المفضل. أسفل الصورة طاولة يصل طولها بالكاد إلى الركبة يزين خشبها زخارف فنية، ارتفع عليها تمثال من البرونز في حجم هرة، يمثل نصف امرأة ونصف شاب في جلسة اللوتس، والمرأة رافعة يدها بالتحية. أشارت فاندا بحياء: «هل هي ربة؟» فعند قدميها طبق صغير به رمال منغرسة، بها أعقاب أعواد بخور لا تزال مشتعلة. ثمة امرأة تسكن هنا. كانت هذه هي فكرتها التالية، وظل فضولها معلقا بالباب المغلق. لماذا لم أمعن النظر على البطاقة التي إلى جوار جرس الباب؟ لم يكن ليفوتني أمر كهذا في السابق. لم تتدرب كفاية على مثل هذه المسائل. خرج الآن صوت نسائي من الغرفة التي دخل إليها أندرياس. «... لم ألحقه ... سأتصل ثانية ... قبلاتي» ... بدا الصوت متقطعا لكنه شاب وحيوي، ثم صوت رنين ماكينة. لقد كان صوت ماكينة الرد الآلي، فكرت فاندا بارتياح. انتظرت، ثم في لحظة ما أطل عند الباب. «هل تريد أن تغرس جذورا ما هنا؟» قالت فاندا، وأشارت بذقنها إلى التمثال. «هذه سيتاتارا.» قال أندرياس موضحا، «تارا البيضاء، وهي تعبر عن الحياة المديدة.» اختفى ثانية في غرفته، فتبعته فاندا.
رغم كبر حجمها فإن الغرفة بدت كئيبة لفاندا. كانت تحوي نفس السحر المنبعث من المكتبات الخاصة التي يعلو رفوفها التراب. كانت الجدران مغطاة بالكامل بالأرفف المكتظة بالكتب. سرعان ما عرفت أن الكثير منها ما هو إلا شرائط فيديو وسي دي ودي في دي. كان غطاء سرير قطني ملون ملقى بلا ترتيب ليغطي الفراش في ركن الحجرة، إلى جواره أجهزة استيريو. أنصتت فاندا إلى اللحن الثقيل نوعا ما الذي بدأ يملأ الغرفة. أغمضت عينيها. شعرت فاندا بغناء المطربة يسقط على جسدها مثل زخات مطر صيفي، في حين تغلغلت شكواها التي بدت مألوفة حتى نخاعها. شعرت بدفء جسده وراءها وبأنامله تمسد رقبتها برقة.
قالت هامسة: «مثل السفر البعيد ... ما هذا؟» «مادريديوس»، أعجبها وقع صوته. لم تتحرك وظلت تستمتع بالتلامس الرقيق، مدة بدت كالأبد. في وقت ما فتحت عينيها، وشدت ظهرها وتنهدت بمتعة. أتته نظرتها من بعيد حين تأملته. ثم سألت: «وأين الشاي؟» فأومأ معتذرا، وقال: «سيستغرق إعداده بعض الوقت، فلتأخذي راحتك حتى أنتهي.» ثم اختفى في المطبخ.
أخذت فاندا تمر بنظرها على الأرفف. وجدت أعمالا من تأليف برتولت بريشت، وفريدريش دورينمات، وجوتهيلف كيستنر، وماري لويز كاشنيتس، تلك الأسماء التي رافقتها فترة المدرسة. عرفت أيضا هنينج مانكل بعد ذلك، لقد قرأت تقريبا كل رواياته البوليسية، لكنها لم تعد تتذكر تفاصيلها. كانت تقرأ كل يوم خمس صفحات في الفراش إلى أن تغمض عينيها. لم تتمكن قط من قراءة المزيد. ستين نادولني؟ سمعت الاسم من قبل. أورهان باموق، فرفعت كتفيها وتركت رقبتها تغطس بينهما، إن زابينة على حق، إنها فعلا تعاني من ثغرات معرفية، ولا تملك أي حاسة ثقافية، كانت لها بعض الاهتمامات الأدبية، لكن فقط كهواية ينبغي أن يتوفر الوقت الكافي لها، وهي لم يكن لديها وقت إن أرادت أن تنجز عملها بشكل معقول. ربما في بضع سنين. اكتشفت عقدا خشبيا معلقا على باب خزانة الملفات، وحين أخذته طارت ورقة على الأرض. انحنت لتلتقطها، وبينما كانت تعاود النهوض بالورقة في يدها انزلقت نظرتها على الكلمات المطبوعة. هيلبيرج، كامبل، بانسيروتي، بروبوف، سنايدر ... كانت تعرفهم جميعا. ظلت عيناها معلقتين على السطر الأخير. تدافع الدم إلى رأسها؛ فقد قرأت اسمها هي، بدا وكأنه محشور في غير موضعه وبعيد جدا. داهمها خليط عجيب من الإحباط والغضب؛ فكالمعتاد تأتي دائما في آخر الأمر.
الفصل الرابع والعشرون
الزر الأحمر
كلما عادت بذاكرتها للوراء، وجدت نفسها دائما ما تأتي في آخر القائمة. بدأ ذلك منذ أيام رياض الأطفال. «عليك التحلي بالصبر إلى أن يأتي دورك»، كم كانت تكره هذه التوجيهات. كانت لا تزال تحملق في قائمة الأسماء التي بيدها. إنها بلا شك القائمة نفسها التي تحدثت عنها ماري، لقد أرسلها بيتر سنايدر للجميع. لماذا لم تحصل على واحدة؟ ومرة أخرى تكون هي آخر من يعلم، حتى أندرياس عنده واحدة، أم ربما كانت القائمة هنا بالفعل من أجل هيلبيرج، جونتر هيلبيرج؟ تحدثت ماري أيضا عن استبيان. ألقت فاندا نظرة أخرى على الأرض، ثم على خزانة الملفات، لم يكن هناك سوى هذه القائمة. ما نوع الأسئلة التي ذكرتها ماري؟ لم تتمكن فاندا من التذكر. رأت الصليب المطبوع بالخط العريض إلى جوار اسم هيلبيرج. من الذي وضعه هنا؟ سمعت صوت طقطقة قادمة من المطبخ، كما هلت روائح القرفة والقرنفل. شعرت فجأة بالبرد وارتعشت يداها. وبحذر أعادت تعليق العقد الخشبي على الخزانة، لكنها أبقت على الورقة في يدها. وجدت معطفها في الطرقة فطوت الورقة ودستها في جيب المعطف وغادرت الشقة. اصطفق الباب وهو يوصد وراءها، فاستدارت حين وصلت إلى صندوق البريد لتقرأ البطاقة فوجدت تحت اسم أندرياس هيلبيرج اسم لاريسا زخارياس.
فعلقت تعليقا خاطفا: «اسم فنانة.»
في وقت ما بينما هي في الطريق انطلق رنين هاتفها المحمول فقامت بإغلاقه.
وحين وصلت إلى المنزل وجدت ظرفا أبيض اللون في صندوق بريدها، كان يحمل ختم طبيب الأسرة. وضعته في المطبخ مؤجلة فتحه لفرصة أخرى إلى جوار القائمة، سيكون لديها وقت لهما حتى الغد. وبينما كان النعاس يداعب جفونها، رأت الصليب عريض الخط وكأنه قفز من القائمة ليستقر مباشرة على جبينها، فهبت فزعة. اللعنة، لقد نسيت أن أسأل عن وفاة جونتر هيلبيرج، ثم غطت وجهها بالبطانية وهي تفكر، وما يعنيني في الأمر؟ ثم غطت في سبات عميق على الفور. •••
في صباح اليوم التالي دس يوهانيس رأسه في فتحة باب مكتبها. كل شيء يسير وفق الخطة، فعينات الأنسجة تم تخزينها في سائل الحفظ اللزج. ماذا تريد أن تفعل بها؟ لم تكن فاندا تعرف بعد. كانت تحتاج متخصصا في تحاليل الجزيئات الحيوية. عرض يوهانيس عليها أن يحاول بنفسه. كلا. كان رفض فاندا قاطعا، لا يمكن إجراء التحليل في نفس القسم. الأفضل هو تكليف معمل مستقل بهذه المهمة. شخص لا يعلم عما يدور الأمر. عم تبحثين تحديدا؟ كان لا بد من التفكير المتأني في هذه المسألة، لم تكن فاندا تريد إفساد شيء باندفاعها ... فلتتحدث مع زابينة أولا.
سمعت خطوات توقيعية ترن في الطرقة. لقد عاودت «المتصابية» بونتي ارتداء حذاء عالي الكعب، إذن لا بد أن الرئيس قد عاد في موعده.
همس يوهانيس وهو يبدي وجها تآمريا: «لا علم له بشيء البتة.»
ردت فاندا بثقة: «إذن أنا عندي ميزة.» كانت قد قررت صباح اليوم وهي تغسل أسنانها أن تبادر بالهجوم. كانت لا تزال مشحونة جراء الأحداث التي وقعت في وحدة تجارب الحيوان، وكان على شتورم الآن أن يتصرف. «قل لي كلمات مشجعة!»
رد يوهانيس: «أنت تحققين دائما كل ما تعقدين عزمك عليه، أجهزي على شتورم!»
دخلت فاندا حجرة الانتظار المفضية إلى مكتب الرئيس دون أن تستأذن، كانت السيدة بونتي تتحدث في الهاتف ونظرت إليها متسائلة. مطت فاندا شفتيها بالعرض قدر ما تستطيع وأملت أن تبدو ودودة.
همست وأشارت إلى مكتب الرئيس: «علي أن أقابله. ضروري.» وجرت ببساطة في اتجاهه، كان الباب مواربا. كان شتورم يحدق في شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص به حين دخلت فاندا إلى الحجرة.
قال دون أن يحول نظره من الشاشة: «من فضلك ضعي الشاي على الطاولة.»
تنحنحت فاندا. «صباح الخير يا سيد شتورم» عمدت تجنب ذكر لقبه العلمي.
نظر شتورم مفزوعا وقال: «آه هذا أنت. من الجيد أنك حضرت. اجلسي.»
انزلقت فاندا على كرسي الضيوف وبدأ غضبها يضرب بجناحيه استعدادا للتحليق. «كانت رحلة بوسطون ناجحة أيما نجاح.» بادرها شتورم مقتحما ترددها. نستطيع الآن أن ننشر النتائج، أريدك أن تسافري إلى برلين في نهاية يناير حيث المؤتمر السنوي. علينا أن نعرض النتائج هناك. «لكن المهلة الممنوحة للتقديم ...» قاطعها قائلا: «انتهت منذ مدة طويلة ... أعرف ذلك ... لقد سويت كل تلك المسائل، وستقومين أنت بإلقاء المحاضرة.»
أخذت فاندا نفسا عميقا. «أرى أن زابينة ميرتينز هي الأولى بذلك.» فاجأها الثبات الذي بدا في صوتها. ألقى شتورم نظرة على الشاشة وظل مدينا لها بإجابة.
خفق قلب فاندا، ثم قالت بصوت عال نوعا ما: «ثمة مشاكل في وحدة تجارب الحيوان.» نظر إليها شتورم مستفهما. «الفئران في سلسلة تجاربي الأخيرة تموت مثل الذباب؛ ربما أصابها وباء.» «ماذا تنتظرين إذن؟ اقضي عليها جميعها، أعلني حجرا صحيا. افعلي أي شيء قبل أن ينتشر الوباء، فالأمر يقع تحت مسئوليتك.»
قالت وهي تراقبه بانتباه: «هل ينطبق هذا أيضا على الحيوانات المشاركة في دراسة شركة بي آي تي، فمنها بدأ الوباء.» اندهشت لسماع نفسها، وتعجبت أن طرأت هذه الفكرة على بالها، أما هو فكان يحدق فيها وهي لم تبعد ناظريها عنه. رد بحسم: «إذن سأتولى أنا هذا الأمر.» أومأت فاندا موافقة. «لقد تم بالفعل التكفل بكل شيء كما تم حرق الجثث أمس.» استند شتورم بظهره إلى الكرسي وترك ذراعيه تهبطان، فيما كان يتأملها مفكرا.
قال بنبرة محايدة : «لقد فعلت الصواب.» اندهشت فاندا؛ هل كان الأمر بهذه البساطة؟ لقد صدقها. بالطبع كان ما تقوله حقيقيا، في جزء منه. كانت نصف الحقيقة. ربما كان من الأجدى اكتساب ثقته بدلا من خوض حرب ضده، حتى لو بدت أمام نفسها كخائنة سيكون من الأفضل المناورة معه لو بقيت تحت جناحه. على أية حال، فإنها لم تكن لتتحمل الصدام معه طويلا، ويكفي أن زابينة طردت فعلا.
سألها فجأة: «كيف حال رقبتك؟»
أدارت فاندا رأسها.
أجابته مبتسمة ثم نهضت: «على خير ما يرام، فك تصلبها من تلقاء نفسه ... آه. محاضرة برلين. متى موعدها تحديدا؟» حين عادت فاندا إلى مكتبها لم تتمكن رغم انتصارها من التمتع بالهدوء.
سألت الكمبيوتر الخاص بها: «هل أنا خائنة؟» قررت منذ ذلك اليوم أن تطلق عليه اسم رودي تيمنا بالزميل الذي أهداها البرنامج التفاعلي. كانت تفضل ألا تأخذ رودي على محمل الجد؛ فقد كان هذا أفضل من أن تعترف لنفسها أن رودي الآن هو الوحيد الذي يتمتع بثقتها غير المشروطة، ربما يرجع ذلك إلى بساطته، وإلى السعادة التي يضفيها على يومها حين تجري تجارب بلا رقابة حين تغذيه بالمعلومات. أما شعورها الخفيف بالانزعاج من هذا النوع الغريب من التسلية، فسرعان ما كانت تنحيه جانبا. كانت تعتبر رودي شريكها، وهو شعور لم تكنه لأي من زملائها ولا حتى المقربين منهم. كانت الإجابات الموضوعية التي يمدها بها الكمبيوتر تشعرها بالأمان، فهنا كانت تسمح لنفسها أن تعبر عن ذاتها بحرية وهدوء بال، وبالطبع كانت تعي تماما أن أي شبكة معلومات لا يمكن أن تكون مؤمنة بشكل كامل، إلا أن حاجتها لحليف كانت تفوق مخاوفها.
وكالعادة تلقى رودي تقريرها حول الأيام السابقة بلا تعليق. تمسكت فاندا بسرد الحقائق: الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين صديقتها وبين عالم البلورات الشهير، الفئران النافقة، الأسماء التي على القائمة التي وجدتها عند أندرياس. وحين أتت على سيرة بانسيروتي ذكرت أنه شفي من متلازمة توريت، وعند جونتر هيلبيرج كتبت أنه توفي في ربيع عام 2005. لم تكن راضية. كانت مدخلاتها تفتقر إلى الدقة، وكان يتحتم عليها جمع المعلومات بشكل أفضل، لكن أنى لها أن تفسر لأندرياس هروبها المفاجئ مساء أمس؟ لم تفهم نفسها، وبدا الأمر كرد فعل لا إرادي. وقع نظرها على الزر الأحمر البلاستيكي، الغنيمة التي جنتها من جيسن. ظل قابعا إلى جوار الدوارة مثل التعليمات. ببضع نقرات على فأرة الكمبيوتر اتصلت بالإنترنت ودخلت على محرك البحث. لم توصلها كلمات البحث الأولى إلى شيء. فتحت «النقطة الحمراء» فوجدت روابط معرض أثاث حجرات النوم، ورابطة لحماية الحيوانات من التجارة الخاصة بحدائق الحيوان، وموقعا حول البقع الحمراء الناجمة عن إزالة الشعر، ومجموعات مساعدة ضد لدغ الحشرات أو النمش. أما في الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، فقد وجدت أن النقطة الحمراء حركة تشكلت ضد رفع أسعار المواصلات في نهاية الستينيات، وكذلك اسم مجرة بعيدة بعدة سنوات ضوئية عن الأرض، ظهرت كبقعة حمراء التقط صورتها التليسكوب الفضائي هابل. جربت فاندا البحث باستخدام كلمة «زر أحمر» فوصلت إلى عدة صفحات تطالبها بالضغط على زر للطوارئ لتبدأ نهاية العالم إن أرادت. لكن أيا من هذه الأزرار لم يكن يشبه الزر المستلقي إلى جوار الدوارة. كانت إحدى تلك الصفحات مكتوبة بالإنجليزية مما هداها إلى فكرة؛ إذ وجدت الترجمة الإنجليزية لعبارة «زر أحمر»
Red Button
على القدر نفسه من الشيوع الذي تتمتع به قريبتها الألمانية، وحين أوشكت فاندا على الاستسلام وجدت في الصفحة الثالثة الرابط الذي يحيل إلى الصفحة الرئيسة لجماعة نشطاء الزر الأحمر. نقرت الرابط فظهرت لها صورة مثالية لقرية هندية في الصيف منعكسة بصورة رائعة على بركة نصف دائرية، وبدأت حروف «والدن ...» المائلة بيضاء اللون تظهر على الشاشة وكأن يدا خفية تكتبها فوق الصورة المعبرة. كانت الكلمة تنزلق على سطح الماء مثل زورق صغير، وكان ذلك يشير إلى الصفحة التالية التي تعرف فيها الجماعة نفسها، كانت تسمي نفسها «والدن أربعة»، وتسترشد بأعمال فيلسوف الطبيعة الأمريكي هنري ديفيد ثورو. كان الحصول على مزيد من المعلومات يتطلب من الزائر أن يسجل نفسه. علمت فاندا على الصفحة بعلامة القراءة؛ إذ كان ما رأته هنا يكفيها في الوقت الحالي. حملت الزر الأحمر ووضعته قبالة الشاشة. كانت النقطة الحمراء التي تومض بالخط العريض تشبهه بدرجة جد كبيرة.
الفصل الخامس والعشرون
فلفل وبسكويت الحظ
أشرقت الشمس صبيحة الأحد على أسطح المنازل المنثور فوقها الصقيع مثل مسحوق أبيض كثيف. كانت السماء شاحبة الزرقة واعدة بصباح خلاب. غادرت فاندا شقتها حين اقتربت الساعة من العاشرة. ركضت على الجسر المطل على مقهى روزينبارك المؤدي إلى ضفة نهر اللان وانحنت عند طريق الدراجات الذي يتجه نحو الجنوب مارا بمحطة القطار. بدا كل شيء مختلفا عما علق بذاكرتها. كانت قد ركضت هنا آخر مرة في الربيع قبل أن تستلم عملها بالمستشفى التعليمي، مرت ستة أشهر منذ ذلك الحين. كان عليها أن تفكر في مسارها الجديد القصير عبر الغابة التي حل عليها فصل الخريف. بدت الأشجار وكأن أحدهم كنس كل أوراقها، بينما تمطى النهر عن يمينها متخذا انحناءة كبيرة. ما زالت بعض قطع الملابس التي جرفها الفيضان عالقة بالأغصان السفلية للأشجار، في حين أبعد نباح الكلاب بعض الإوز على صفحة الماء الشاحبة. قررت فاندا أن تمنح اليوم نفسها إجازة؛ وسيكون هذا هو اليوم الأول لها منذ عدة شهور. سيفيدها ذلك؛ فهي تقاوم منذ عدة شهور إحساسها الدائم بالإنهاك، لن تتمكن من مواصلة تلك المقاومة إلى الأبد. كان للآخرين أسرهم وأصدقاؤهم وهواياتهم، أما هي فلم يكن لديها سوى عملها.
كانت تنتظر مكالمة من ماري كامبل قرب الساعة الثانية. أعطتها فاندا رقمها الخاص ليتمكنا من الحديث في المنزل دون إزعاج. كانت ماري قد أرسلت لها الاستبيان الخاص ببيتر سنايدر بالبريد الإلكتروني، لكن فاندا أيضا لم تتذكر أحداثا خاصة وقعت في أثناء رحلة الحافلة إلى لوس ألاموس؛ كان الأمر قد وقع منذ مدة طويلة، بدلا من ذلك فإن مسألة الزر الأحمر لم تكن تفارق ذهنها، إلا أن شيئا ما منعها من أن تسجل نفسها على الصفحة الرئيسية لجماعة «والدن أربعة». صحيح أن وجه الجماعة يبدو مسالما، إلا أن العملية التي نفذوها في جيسن أيقظت حذرها ، وهي لم ترد بأية حال أن تدخل إلى دوائر مناهضة للدستور، وأرادت أولا أن تستعلم من مصادر أخرى. كان إحساسها ينبئها أن يوهانيس لا بد وأنه يعلم المزيد عن هذا الأمر. ما زالت تذكر جيدا شكل وجهه حين عرضت عليه الشارة الحمراء بعد المداهمة التي تعرضا لها في غرفة الكمبيوتر. كان يبدو لا مباليا على نحو غير عادي، كما أن الأمر الذي يثير ريبتها الآن، هو أنه لم يكن فضوليا على الإطلاق. كيف لم تواتها هذه الفكرة من قبل: أن يكون يوهانيس ناشطا متنكرا في مجال حماية البيئة؟ لكنه هو نفسه كان ضحية ذاك المجهول المشئوم. لماذا تفكر دائما أنه لا بد أن يكون ذاك المجهول رجلا؟ رغم كل شيء عليها أن تجد طريقا لمواجهة يوهانيس. الأفضل هو مفاجأته أمام شهود بالمعلومات التي تعرفها حتى الآن.
كما أنها لم تتمكن من جمع كثير من المعلومات من أندرياس؛ إذ كان لا يزال غاضبا منها لأنها تركته وهو يعد شاي اليوجي. لم يتمكن من استيعاب الصدمة التي ألمت بها بعد رؤية القائمة، وحكى لها بتردد عن الأسابيع الأخيرة من حياة جونتر هيلبيرج. كان الأمر يبدو وكأن روحا شريرة سكنت عقل والده. كان ميل أندرياس للتفسيرات الغيبية يلقي ظلالا سوداء على مسار الأحداث التي أدت إلى انهيار جونتر هيلبيرج المفاجئ، حتى توقفت فاندا في وقت ما عن محاولات اقتحام نفسه. لم يكن أندرياس قد ابتعد عن الأحداث إذ كان لا يزال أسير أحزانه، كما أن نتيجة التحليل الباثولوجي لم تظهر بعد. لقد استغرق الأمر أمدا أطول مما ينبغي في رأي فاندا، الأمر الذي دعاها إلى نصح أندرياس بأن يسافر إلى ميونخ لمعاودة استطلاع المسألة.
أخيرا أصبح حي المحطة وراءها. سعدت فاندا أن انتهت تلك المرحلة من سيرها التي تغطيها أكوام من زجاجات البيرة والويسكي الفارغة، ليبدأ الجزء الجميل من نزهتها، فالطريق يسير بمحاذاة نهر اللان في اتجاه الجنوب. كان البخار الخفيف المنبعث من فمها يتكاثف في الهواء البارد كالجليد ويضفي سحرا فضيا على منظر الجسور، والمدينة القديمة وقصر اللاندجراف. وفي فايدنهاوزن، عبرت الجسر الخشبي القديم ثم أخذت الطريق الصاعد عبر شارع جوتنبيرج، ومن مخبز كلينجيلهوفر ابتاعت لنفسها قطعة من تورتة بلاك فوريست بالكرز، وتمهلت وهي تتأمل نوافذ المحلات في طريق العودة إلى منزلها.
في تمام الثانية دق جرس الهاتف. حيتها ماري بحماسة متدفقة، فتسربت سعادة ماري إلى فاندا، فأخذتا تتحدثان لبعض الوقت عن الجو وتتبادلان أخبار مشروعاتهما البحثية، وفيما عدا بعض التشويش كانت جودة الاتصال الهاتفي مرضية بدرجة مثيرة للدهشة. كانت فاندا تستمع بانتباه كي لا تقاطع زميلتها الأكبر سنا بردود مستعجلة.
وأخيرا حولت ماري مسار الحديث نحو السبب الرئيسي من اتصالها: «هل وصلتك رسالتي الإلكترونية؟» «نعم شكرا لك، لكني اضطررت للإجابة على كل الأسئلة بالنفي.» ردت فاندا «وقمت بإعادة إرسالها إلى بيتر سنايدر.» «إن موت البروفيسور هيلبيرج ...» شرعت ماري تقول مترددة: «كان صدمة. إنني أفكر فيه طوال الوقت.» «سألت ابنه عن ذلك. لا بد أن الأمر كان سريعا، لقد سقط في غيبوبة فجأة في بداية مارس، ثم توفي في الثاني عشر من أبريل.» «هل يعرفون ما السبب في ذلك؟» «لقد توفي بسبب عفونة في الدم، لكنه كان مصابا بداء آخر؛ إذ كان مريضا بأحد الأمراض العصبية التي يبدو أن الأطباء لا يعرفون لها اسما. كل شيء يبدو غامضا، ونتائج التحليل الباثولوجي لم تظهر. لا أستطيع أن أقول المزيد في هذه المسألة، فالابن ليس طبيبا مع الأسف.»
ران الصمت عليهما برهة.
التقطت ماري طرف الحديث مرة أخرى: «هل تذكرين عشية رحيلنا عن سانتا فيه؟ كنا نأكل معا في ذلك المطعم الصيني.» نعم، تذكرت فاندا، لم تكن فاندا مستمتعة بتلك الأمسية.
واصلت ماري الحديث: «أنت، وأناتول، وبانسيروتي، وسنايدر، وهيلبيرج، وأنا. ربما - برأيي - يكمن بهذا مفتاح حل اللغز لكل الأحداث الغامضة.» «لا أفهم ...» «أعلم أن الأمر يبدو عبثيا. لكن هل تذكرين الرسالة التي ظهرت لك في بسكويت الحظ؟» سكتت فاندا؛ إذ لم تكن تريد أن تسمع مثل تلك الفرضيات الخرافية. هل يمكن أن تكون خدعت كثيرا في هذه الزميلة؟ ردت عليها: «كلا، ذاكرتي لا تحتمل هذه الأشياء.» «لن يبقى شيء على حاله. هذا ما كتب على ورقتي.»
غضبت فاندا، في الواقع لم تكن تريد سوى بعض النصائح التي تساعدها في تحسين مسودة البحث، أما الآن فصار عندها مشكلة جديدة. «هذه الروائح الغريبة ... في الحقيقة أتخيل أن كل ذلك سقيم على النفس.» «أرجو ألا تعتبريني مجنونة؛ فأنا عالمة من السكان البيض في جنوب أفريقيا، وأعلم ما أتحدث عنه.» «إذن، هلا أوضحت إلام ترمين؟» «لقد شفي بانسيروتي من متلازمة توريت، بينما أصبحت الهواجس تتحكم في أناتول، وأنا صرت ضحية اضطرابات في حاسة الشم. وهيلبيرج ... ألا ترين الرابطة في ذلك؟ إنها كلها حالات عصبية، أو نفسية لو أعدنا النظر في حالة أناتول.» «وماذا عن سنايدر وعني؟» «ننتظر لنعرف.» «... وماذا عن بقية الأسماء على القائمة؟» «انسي القائمة. نحن الستة فقط ذهبنا إلى المطعم الصيني.»
تنهدت فاندا، وأخذت تفكر في البداية كانت العرافة العجوز والآن حكاية بسكويت الحظ، كان علي أولا أن أتحرى جيدا عنها. ثم سألت في استسلام: «والآن؟» «الآن نهتم في الوقت الحالي بنشر بحثك.» ها قد عادت لها ماري التي تعرفها، ماري الموضوعية التي لا تبخل بتقديم حلول عملية لها. «أستضيف حاليا زميلا أمريكيا، ريتشارد مانزفيلد، من الممكن أن تذكريه في كلمة الشكر، وبهذا تكونين قد أوفيت مطالب الأستاذ المقرر، كما لن يكون بوسع أناتول أن يشتكي من اللغة الإنجليزية الركيكة، فقد أدخلنا من جانبنا بعض التصويبات اللغوية، وسأرسل لك في الغد كل شيء.»
قدمت فاندا الشكر لها وشعرت بالراحة، فهذه كانت حقا ماري كامبل التي أعجبت بها كثيرا آنذاك في نيو مكسيكو. لا بد أن مسألة اضطراب الشم تضايقها.
قالت ماري مودعة: «أعلميني بما ستئول إليه أمورك.» كانت نبرتها ملزمة كما توقعت منها فاندا، لكنها لم تفهم، كيف يمكن لإنسان أن يكون على هذا القدر من الاضطراب، ثم يكون في نفس الوقت عمليا على هذا النحو. لكن الآن، بعد انتهاء المكالمة، شعرت فاندا بهدوء مدهش. كانت ماري سيدة استثنائية، كانت آنذاك متفتحة وطيبة القلب، وكانت لها ضحكة مرحة تبعث السعادة في الجميع. كانت بتصفيفة شعرها المهوشة وجونيلاتها التي طرزتها بنفسها أقرب إلى غجرية منها إلى عالمة، وعلاوة على ذلك فقد كانت ماري تتمتع بسمة تميزها عن زميلاتها؛ فهي لم تكن تخشى الرجال، وأكثر من ذلك كانت تقاطع حديثهم لو دعتها الضرورة، لكنها كانت تفعل ذلك بلباقة وبلمحة من أمومة ممزوجة بسخرية من الذات، ورغم أنها كانت تتوازن على حبل رفيع، لكن لم يكن ليخشى عليها. كانت دائما ما تتحرك في صحبة عدد من الرجال الذين يتبدلون فجأة فيصبحون أكثر حيوية، ليعودوا فيضحكوا عليها من وراء ظهرها، لم يكن ذلك يضايقها؛ إذ كانت تتجاهله ببساطة. وماذا عن بروبوف؟ ما الذي أصابه؟ •••
في ذات المساء وصل رد بيتر سنايدر إلى فاندا، كان رسالة إلكترونية طويلة بشكل غير عادي: «مرحبا فاندا، كيف حالك؟ لم أتوقع أنك ستردين علي؛ فقد علمت من روتشيستر نبأ أنك عدت إلى ألمانيا، لكن علي أن أعترف أني لم أواصل البحث عنك، فقد كنت جد مشغول هنا. أين تقع ماربورج أصلا؟ كنت واثقا أن جماعة «والدن أربعة» ستتمكن من العثور عليك.» لم تخطئ القراءة، نعم مكتوب «والدن أربعة». إذن بيتر سنايدر يعرف هذه المجموعة، لكن كانوا يبحثون عني، لماذا؟، ثم عادت لتقرأ: «كنا قد أرسلنا إليهم القائمة في الربيع، وكان عليهم أن يتصلوا بالعلماء المتحدثين بالألمانية الذين حضروا ورشة العمل التي أقيمت في نيو مكسيكو، لم يكن العثور عليك بالأمر السهل، لكن من الواضح أنهم نجحوا في ذلك. وفي هذه الأثناء أحرزنا تقدما طيبا في تحرياتنا حول المسألة.» بالطبع، فهي قد نسيت أن تسجل نفسها في مكتب السجل المدني التابع لماربورج، فرسميا هي لا تزال تقيم عند والديها. لكن ما هي المسألة التي يتحرون عنها؟ ••• «أنا أعمل الآن في مؤسسة متخصصة في حماية البيئة. لا أعلم كيف حدث هذا على وجه التحديد، لكنه حدث بعد لقائنا في سانتا فيه بمدة وجيزة. ربما كان الفلفل حارا أكثر من المعتاد؟ هاها! على أية حال وجدت خطواتي ذات صباح لا تقودني إلى معمل الكيمياء في مبنى الأبحاث التابع للجامعة. ذهبت إلى مكتب مجموعة إي تي سي، وظللت عندهم. تستطيعين أن تقرئي عنا المزيد على الإنترنت، فنحن نعمل في أغلب الأحوال في مجال الزراعة، والتنوع البيولوجي للمحاصيل ... إلخ. كما نبذل مجهودات في مجال التوعية بالتقنيات الحديثة المستخدمة في التربية، وتجهيز التربة والماء، وحديثا بدأت في قيادة مجموعة مصغرة تهتم بتكنولوجيا النانو، وتم تكوينها في إطار المشروع الذي أعمل عليه الآن، فنحن قد تتبعنا إشارة في بداية العام ... أخ ... هذه حكاية طويلة ... دعيني أحدثك مباشرة عن نتائج تحرياتنا. أما زلت تذكرين يوم 23 مايو 2003؟ (أعترف أنه قد مر وقت ليس بالقصير)، في ذلك اليوم توجهت جماعة التقت في مؤتمر مكونة من عشرين مختصا عالميا في مجال علوم النانو، لتقوم برحلة جماعية إلى المعامل المشهورة، أو لنقل سيئة السمعة الواقعة في لوس ألاموس. أقلتهم الحافلة من سانتا فيه على الطريق الجنوبي عبر الهضبة.» عادت فاندا بذاكرتها فرأت نفسها جالسة مرة أخرى في تلك الحافلة، وهي تنظر من نافذتها إلى طبيعة لوحتها الشمس فضربت لونها إلى الحمرة البنية، ثم قرأت: «قبل الحادية عشرة والنصف بقليل وصلنا إلى الحدود الشمالية عند «باندلير ناشونال مونيومنت». إلى الغرب من ذلك لكن على نفس الارتفاع كانت طائرة إطفاء تقوم برش مبيد من الجو. وبحسب سجلات الطائرة فقد تلقت أمرا في الساعة الحادية عشرة وأربع وعشرين دقيقة بفتح خزاناتها. المادة المسجلة كانت «نانوباكت-إن بي 2701». هذا ما كان مكتوبا على الحاويات بحسب رواية قائد الطائرة الذي نفذ العملية. لم أكن أعرف كل هذا بالطبع حين كنت وقتها أنظر من النافذة وأشاهد الطائرتين. أما الاستبيان فكان يساعدني في العثور على شهود آخرين، لكنه لم يقد لشيء، فيما عداي وعدا ريكاردو بانسيروتي، ولم يتمكن الآخرون من تذكر أي شيء، وكان من حسن الطالع أن عثرت سريعا على قائد الطائرة. قال إن من كلفهم بهذه المهمة هو شركة أبحاث كاليفورنيا وودلاندز في أوريكا إلى الشمال من سان فرانسيسكو، ويبدو أن الشركة غطاء لأمر ما، وقيل إنها مسألة خاصة؛ فالأرض التي رش فوقها المبيد مملوكة لأفراد، والمسئول الذي أصدر أمر الرش غادر الشركة. لقد عدت لتوي من رحلة ثانية إلى نيو مكسيكو جلبت منها بضع عينات من التربة، لكن لا فكرة عندي عما نبحث تحديدا.» بدا لها سنايدر كمجنون، أو مهرج، كانت قد صنفته في ذاكرتها على أنه شخص غير مغامر. إلام يرمي الآن؟ «تحدث الطيار عن تنقية للتربة بعد تلوثها بالزيوت المعدنية؛ لو أن هذا الأمر حقيقي، إذن فإن مجموعة من الهواة هي من تقوم بالعمل، لكن توصيف «نانوباكت» يشي باستخدام إجراءات ميكروبيولوجية. في كل الأحوال فإن التربة هناك غير صالحة لإجراءات ميدانية؛ فهي جافة أكثر من اللازم، كما أن الأرض ينبغي إعادة تهيئتها بعد إجراء كهذا من أجل أن يصل الأكسجين إلى الميكروبات. ليس هناك مادة سحرية يمكن أن تصب عليها فتنتهي المسألة. لم أر بعيني في الموقع سوى أرض بور. لم يهتم أحد في العامين الماضيين بهذا الأمر. لا يمكننا سوى التكهن. هل كانت مضادات حيوية؟ أسمدة؟ كائنات دقيقة معدلة وراثيا؟ دائما وأبدا نفس اللعبة. الآخرون يخادعون، أما نحن فنلتزم بالقواعد لنثبت تلاعبهم، ولحسن الحظ تعرفنا على معمل جيد يقوم بكل التحاليل الميكروبيولوجية والجزيئية الحيوية لنا، بلا مقابل.»
بدأت فاندا تنزلق باضطراب على كرسيها صاعدة هابطة، هذا هو. معمل كهذا هو بالضبط ما نحتاج إليه. واصلت القراءة: «لا بد أنك تتساءلين عن السبب الذي يدفعنا لتكبد كل هذه المشقة. هناك شيء إضافي يضفي على المسألة برمتها لمحة شائكة. كالعادة نحن نعرض المشروعات التي نتحرى عنها على الإنترنت. وأمس تلقينا اتصالا من وزارة الخارجية الأمريكية، وفي الغد سيقوم بعض الشباب من الوزارة بزيارتنا لبحث مجالات التعاون، حسب زعمهم. لم نتمكن من أن نفهم الموضوع تماما، لكننا نشعر بالخطر. من الجيد أننا كلنا قرأنا أعمال كينكي فريدمان (إياك والكذب على وزارة الخارجية، والأفضل دائما هو الإجابة عن أسئلتهم بأسئلة). أما عينات التربة فقد أخفيناها بحسب وصفة كينكي المجربة في مرحاض القطط. لكن أرجو ألا تشي بالسر!
يكفيك هذا الكلام للوقت الحالي. أرجو أن نسمع أخبارك.»
بيتر
دار رأس فاندا، إذن فقد بحثت عنها جماعة «والدن أربعة» بتكليف من بيتر سنايدر. الشرطة الفيدرالية الأمريكية تبحث سبل التعاون مع منظمة عاملة في مجال البيئة، بسبب عملية تمت قبل عامين استخدم فيها مركب نانو غير معروف، أصيب به مجموعة من خبراء النانو في طريقهم إلى لوس ألاموس. كم يبدو الأمر برمته سخيفا! صحيح أن الطريقة التي وصفه بها بيتر لا تشي بأنه يمزح، لكنه أيضا لا يأخذ المسألة بجدية صارمة. لقد كان المعمل الذي تحدث عنه يهمها أكثر من أي شيء آخر ذكره. فالكفاءة المجانية هي بالضبط ما تحتاجه الآن. لا بد أن تسأل بيتر عن عنوان المعمل، لكن هنا تظهر مشكلة أخرى، كيف يمكن تمرير مائة عينة مجمدة من نسيج الحيوانات دون أن تلاحظ الجمارك الأمريكية أو الكندية؟ إلا أن تلك المادة الغامضة التي طالبتها دراسة شركة بي آي تي ببحث سميتها في المعمل، لا بد أنه من الممكن تهريبها ببعض المهارة. يا ترى أي نوع من المواد تلك التي لا يريد الرئيس أن يكتشف آثارها طويلة المدى؟ كانت في حاجة ملحة لأخذ عينة من هذه المادة. لقد حاولت أن تربط بين هذه الرسالة الإلكترونية وبين ما وجدت على كمبيوتر زابينة. ماذا فعلت زابينة فعلا يا ترى؟ تنهدت فاندا، إذ كانت تأمل أن تكون المواد المتبقية كافية لإجراء التحاليل. لقد حان وقت البوح بكل المسكوت عنه.
الفصل السادس والعشرون
المكاشفة
«سنفعلها بهذه الطريقة بالضبط»، قالت بيترا هذه العبارة وهي تلعق شفتها العليا المطلية بأحمر الشفاه بتلذذ. كانوا يجلسون في مقهى هافانا، كل واحد أمامه مشروب الكايبيرينها يشربونه من الماصة ببعض التحفظ. كانت زابينة تعبث صامتة بمكعبات الثلج، أما يوهانيس فقد احمر وجهه مرة أخرى، لكن الأمر بدا واضحا لبيترا بصورة قاطعة. «إذن، في أثناء أخذ يوهانيس لمفتاح خزانة السموم من درج مكتب ميشائيل ، سأقوم أنا بصرف انتباه العزيز ميشائيل عنه.» «لست أدري» قاطعتها زابينة «فالأمور كلها تسير بشكل سريع للغاية بالنسبة لي.»
وضعت فاندا يدا على فمها. الأفضل ألا أتفوه بأي شيء الآن، وعاجلا ستفشي زابينة ما تخفيه.
ردت بيترا: «لكننا ناقشنا كل شيء، إنها خطة عبقرية. كيف سيتسنى لنا إذن الوصول للبقية الباقية من المادة التي استخدمت في الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي، هل لديك فكرة أفضل؟»
عادت زابينة تحرك مكعبات الثلج في كأسها، ولم تنطق بكلمة. فكرت فاندا: إن لم تقل الآن، فلن تقول أبدا، وأضافت بحذر: «ربما لا يزال هناك أمر آخر يحتاج إلى توضيح.» وبينما كانت تمد يدها في جيب بنطالها، لم تسمح ليوهانيس أن يغادر ناظريها. كان جالسا قبالتها وبدا ناظرا باندهاش إلى الزر الأحمر الذي جعلته يتدحرج على الطاولة ليستقر أمامه مباشرة. قالت فاندا بحسم: «فلتبدأ أنت.» ضم يوهانيس عينيه، ثم ترك كتفيه تهبطان فجأة واستلقى للوراء في كرسيه.
تنهد قائلا: «حسنا. إذا كنا سنضع كل الكروت على الطاولة، فلا بد أن ينطبق ذلك على الجميع.» أومأت فاندا برأسها موافقة. رفعت زابينة رأسها ونظرت إليه نظرات ملؤها الدهشة. أما بيترا فواضح أن الكلمات تاهت منها؛ إذ ظلت جالسة فاغرة فاها دون أن تنطق. كان بعض من أحمر الشفاه عالقا بسنها الأمامية. «هل تتذكر الليلة التي قضيناها معا في غرفة الكمبيوتر المركزي؟»
أرادت فاندا أن تتناول الموضوع بسلاسة، لكن ملامح وجه يوهانيس ظلت جامدة، فتابعت فاندا: «وجدنا زرا كهذا إلى جوار جهاز الكمبيوتر. الآن أعرف عما يعبر هذا الزر، لكن بالتأكيد الآخرون أيضا يريدون أن يعرفوا، وأرى أنك أنت من ينبغي عليه أن يوضح لهم الأمر.» ازدرد يوهانيس ريقه.
حين كان يتحدث كانت تعلو شفتيه الرفيعتين ارتعاشة خفيفة، وكلما توقف عن الكلام انزلقت زاويتا فمه إلى أسفل. لا بد أن هذه السنة - فكرت فاندا - كانت قاسية عليه؛ لهذا فإن اعترافاته لم تدهش فاندا على نحو خاص. لقد استخدم يوهانيس مجموعة من النشطاء مثيري الريبة العاملين في مجال حماية البيئة؛ إذ كان يبحث عن أوراق ضغط تدين الرئيس. لقد ترك شتورم يوهانيس مدة طويلة دون أن يوضح له نيته بشأن تجديد عقد عمله، كما أنه رفض ببساطة أن يقوم طرف ثالث بتمويل مشروعه البحثي. كان الأمر يبدو وكأن الرئيس يريد التخلص منه.
في النهاية حصل بالفعل على تمديد لعقده، ولم يتمكن أحد من فهم لم كانت حرب الأعصاب تلك ضرورية؟ وتحت وطأة الشعور بالذل هبطت أيضا فتحتا منخاره إلى أسفل مثل زوايا فمه. وحين وصلته أطراف أخبار عن الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي أصغى جيدا. كان ذلك في فصل الربيع، كان واقفا في غرفة الانتظار وسمع بالصدفة البحتة - وعليهم أن يصدقوه في ذلك - كل الحوار الذي دار بين زابينة وشتورم، وهنا بدأ في مراقبة حيواناتها سرا، كما سجل معدلات نفوقها، وأخيرا اتصل بجماعة «والدن أربعة» لتصل إلى البيانات.
قالت له فاندا: «هل كانوا هم من ضربونا على رأسنا، وفرغوا حساب زابينة من البيانات؟ يا لهم من هواة، هؤلاء الذين اعتمدت عليهم.»
هز يوهانيس رأسه. «أعترف أنني في البداية كانت لي نفس تلك الأفكار، وكان علي أن أصبر عدة أيام إلى أن يأتيني منهم رد.» صمت فيما كان ينظر إليه الآخرون بفضول، وكان هو يستمتع بأن يراهم مشدوهين. قاومت فاندا رغبتها في تأنيبه على أسلوبه. «لقد تم مسح البيانات عندما ظهر أحد رجالك عندنا.» «ثم قام بضربنا على رءوسنا لأننا أزعجناه فيما كان يريد أن يظل مجهولا، أليس كذلك؟» «بلى، إنهم يخمنون أن شخصا آخر سبقهم.» «وهل تعتقد أني سأصدق هذا؟» «بغض النظر إن كنت تصدقين هذا الكلام أم لا، هذا الأمر جائز الوقوع جدا، ممكن جدا، علاوة على ذلك، ما الذي سيجنونه لو عملوا ضدنا؟»
دخلت زابينة في الحديث: «إن افترضنا أنك تقول الحقيقة، فلا بد إذن من وجود شخص آخر في نفس الوقت بالقسم، شخص يستطيع دخول المعهد وله اهتمام ببيانات الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي.»
ألقى يوهانيس رده الفوري: «الرئيس على سبيل المثال.»
هزت زابينة رأسها غير مصدقة. «ما الذي يجبر شتورم على هذه السرية؟ فهو يستطيع النفاذ لأي مكان في أي وقت.»
قالت بيترا شيئا مثيرا للاهتمام: «أي شخص من القسم قد يكون هو الفاعل. أرجو ألا ننسى الزملاء من المستشفى التعليمي الذين يحق لهم استخدام المعمل، وكيف الحال مع ذاك البن لادن؟»
أشارت فاندا: «لنظل في نفس نطاقنا أولا.»
رد يوهانيس: «ولم لا؟ طالما راودتني ظنون أن الأمر وراءه أحد الرعاة العرب.»
زفرت فاندا وحكت سوالفها: «واضح أنك تقرأ الكثير من الروايات البوليسية السياسية.» لقد عاودها الخفقان المعتاد في الرأس منذ بضع ساعات. «لا نريد أن نضيع وقتنا في هذه الأحجيات الطفولية.» نظرت في المجموعة وقالت: «من يملك الدخول إلى غرفة الكمبيوتر المركزي وعنده اهتمام ببيانات زابينة؟»
اقترحت بيترا: «إذن لنبدأ بأنفسنا. صحيح أنا بإمكاني الدخول إلى الغرفة إلا أن هذه البيانات لا تهمني على الإطلاق.» «لقد صعدت إلى هناك من أجل أن أجلب بيانات زابينة من الكمبيوتر، وقد تم ذلك بالاتفاق معها، كنت أريد مساعدتها.» أوضحت فاندا، ثم نظرت إلى يوهانيس. «تملكني الفضول، كنت أخمن أن جماعة «والدن أربعة» ستنفذ العملية في تلك الليلة؛ لذلك بقيت في المعهد.»
سألت فاندا: «من كان هناك أيضا؟» «ميشائيل هو آخر من غادر المعهد، كان ذلك نحو الساعة الثامنة، شتورم غادر قبله بمدة قصيرة. لم يلاحظ وجودي أي منهما. كنت جالسا في غرفتي الصغيرة المظلمة وأتصرف بمنتهى الهدوء، ظللت أنتظر، وقبل منتصف الليل بربع ساعة سمعت أزيز الباب، ومن فرجة باب غرفتي رأيت كرة ضوء منبعثة من مصباح يدوي تتحرك على الجدران. بدا الشخص يتحرك بخفة قطة. لم أسمع وقع خطوات. انتظرت لبعض الوقت ثم تبعته. كان باب غرفة الكمبيوتر مواربا، والغرفة مظلمة، وفي نفس اللحظة التي أشعلت فيها النور عاجلني بضربة على رأسي.» نظر إلى فاندا وقال: «أما الباقي فأنت تعرفينه أفضل مني.» «أنت لم تر شيئا حقا؟»
هز يوهانيس رأسه بالنفي.
تنهدت فاندا قائلة: «لست أفهم حقا. لقد وصلت بعدك بدقائق قليلة. للأسف لا أذكر إن كان الكمبيوتر مفتوحا. لو افترضنا أن ذلك الغريب المجهول كان يريد حقا الدخول على حساب زابينة، ففي الغالب كنت أنا سببا في إزعاجه.» نظرت في الوجوه المتطلعة إليها على الطاولة. «لماذا إذن سرق مني الورقة التي عليها كلمة المرور؟»
ردت بيترا: «من أجل الدخول إلى البيانات.»
ردت فاندا: «لا بد إذن أنه كان يعلم بوجودي. من بخلاف زابينة كان على علم بخطتي؟»
توجهت أنظار الجميع إلى زابينة التي قالت مدافعة عن نفسها: «لقد قضيت الأمسية كلها مع فولفجانج، وآويت إلى فراشي في وقت مبكر نوعا ما، وهو ليس بالأمر العجيب بعد يوم كذاك.» «وفولفجانج؟» سألت فاندا «لقد استمع إلى حديثنا الهاتفي.» «هراء.» ردت زابينة غاضبة «فولفجانج ينكمش على نفسه إن اضطر أن يعبر الطريق والإشارة حمراء، فأنى له أن يدخل إلى المعهد، ثم إن مفتاحي الإلكتروني كان معك أنت.»
سكتت فاندا، لم تكن هذه هي الطريقة السليمة لدفع زابينة إلى الكلام. بعد تلك الرسالة الإلكترونية التي وجدتها على كمبيوتر زابينة صارت فاندا تشك أن صديقتها تنفذ خططا سرية. ما الذي يدفعها لكل هذا العند؟
قالت بيترا في محاولة لتهدئة الموقف: «لم لا يكون هو الناشط البيئي؟ ألم يكن هناك في تلك الليلة؟»
علقت فاندا: «كان سيثير مخاطر جمة ... وعمل غير مسئول أن يضربنا ببساطة ثم يتركنا مستلقيين على الأرض.»
أردف يوهانيس: «أو يكون قد جاء بعد أن غادرنا» ... تأملته فاندا متسائلة، فواصل الكلام: «لا أعرف حقا. لم أتحدث مع أحد منهم من قبل، ناهيك عن أن أقابله وجها لوجه. لقد جرى الاتصال عن طريق البريد الإلكتروني. قصير وموجز.» لم تترك فاندا الزمام يفلت منها: «من الذي أدخل محاربي «والدن» أولئك إلى المعهد إذن؟» «لا تسأليني. بطريقة ما نجحوا في قرصنة النظام الأمني. لقد تركت لهم مفتاحي الإلكتروني طوال عطلة نهاية الأسبوع بأكملها.» «كيف حدث التسليم والاستلام؟» «في بيت دعارة بمدينة هانوفر، من خلال المنظمة الأوروبية لنقل الزهور. الذريعة عيد الحب.» «إنك تخاطر بكل شيء. هل الأمر يساوي كل ذلك بالنسبة لك؟»
تصلب فك يوهانيس السفلي على نحو منذر ولم يجب بشيء. جلسوا بلا حيلة بعضهم أمام بعض، وكان الوقت مناسبا لطلب دور ثان من شراب الكايبي. أما بيترا فكانت تلمس الزر البلاستيكي الأحمر بأناملها.
غمغمت وهي تفكر: «غريب.»
سأل يوهانيس: «ما الغريب؟» «لقد رافقني أحدهم، كان لديه كيس بكامله مملوء بهذه الأزرار. كنت أظنها قشاط لعب.» ثم ألقت بالزر إلى منتصف الطاولة وغمغمت بالفرنسية: «لا أكثر من ذلك.»
ظلت نظراتهم جميعا معلقة بالزر الأحمر لبعض الوقت. «حدث ذلك بعد الديسكو، يوم الأحد قبل أسبوعين، وحين استيقظت صباح اليوم التالي، كان قد اختفى. خسارة حقا!»
قالت فاندا: «اللعنة، لقد هوجمنا أنا ويوهانيس يوم الاثنين، يا بيترا إن هذا لخيط.» «ما اسمه؟ ما شكله؟» استعاد وجه يوهانيس بعضا من لونه «ماذا حكى لك؟»
دافعت بيترا: «تمهلوا قليلا، لم نتحدث كثيرا مع بعضنا.» ثم ابتسمت وقالت: «طويل، مفتول العضلات، أسمر البشرة. كان يروق لي. لم أره هنا من قبل، وكذلك بعدها لم أره مطلقا. مايك، على الأقل هكذا كان يدعى.»
ألحت فاندا: «ماذا أيضا؟ حاولي أن تتذكري.» «ما تطلبونه كثير حقا. كان يرتدي ملابس سوداء، لا أعلم إن كان في وسعي التعرف عليه ثانية في ضوء النهار. ربما من رائحته. نعم. كان يعبق برائحة تربة الغابة.»
نظرت فاندا إلى المجموعة متسائلة: «ماذا ترون؟» أطلقت زابينة صفيرا ينم عن أنها لم تتوصل إلى أي أفكار، بينما هز يوهانيس كتفيه وقال: «ممكن أن يكون. وممكن ألا يكون. إنه البحث عن الإبرة في كومة القش.» ثم دفع الزر تجاه بيترا متسائلا: «هل أنت متأكدة أن الأزرار كان شكلها تماما مثل هذا الزر هنا؟»
رفعت بيترا حاجبيها وقالت: «لقد انزلق الكيس من جيب معطفه، وانفجر في كل الاتجاهات على الأرض.» ثم ابتسمت واستطردت: «يعني. كما تعلمون. ساعدته في جمعها. وكان الأمر مرهقا لأنه أصر أن نبحث تحت الدولاب والفراش، لقد كان مصمما على أن يجدها كلها.» ثم التقطت الزر مرة أخرى في يدها، «نعم ، بالفعل، كانت كلها بهذا الشكل، لكني لا أستطيع أن أقسم على ذلك.»
قالت فاندا: «حسنا يا فتيات.» ثم ألقت نظرة على يوهانيس بطرف عينها: «دعونا نغلق الدائرة على الفاعل.»
سألت بيترا: «ألا يمكن أن يكون الفاعل امرأة؟»
غريب - فكرت فاندا - هذا السؤال طرحته أنا أيضا على نفسي من قبل. ما الذي يجعلني متأكدة تماما أن الفاعل رجل؟ قررت بيترا أن تراقب ميشائيل، ونوى يوهانيس أن يدعو أستريد مرة أخرى على الطعام، واقترحت زابينة أن تهتم فاندا بأمر توماس. «بوصفه من الإداريين يستطيع أن يراقبنا جميعا في أي وقت.» فقالت فاندا معترضة: «إنه ليس في الحسبان.» «ربما ليس كفاعل»، ردت عليها زابينة ورمقتها بنظرة لم تستطع فاندا تفسيرها، وكان يضايقها أن يوهانيس يراقبها بانتباه، ثم سأل متمنيا: «ومن يراقب الرئيس؟» فعلقت فاندا تعليقا لاذعا: «لا نريد أن نستغني عن خبرتك في مراقبة هذه الأجناس القيادية.» فابتسم يوهانيس راضيا، وقال: «بالإضافة إلى ذلك، سأجرب حظي مرة أخرى مع جماعة «والدن». ربما أمكنني اجتذاب ذاك المايك من خارج المحمية.» فردت بيترا متشككة: «إن كان يوجد هناك أصلا.» «قبل أن أنسى. عبث أحدهم بمكتبي قبل المداهمة بمدة وجيزة.» قالتها فاندا وهي توجه ناظريها إلى يوهانيس الذي ارتعشت أجفانه سريعا ثم أومأ برأسه. «ذاكرة اليو إس بي، كانت لدي شكوك. أعرف أن هذه حماقة.» «وأية حماقة! نعم، ولكن كيف دخلت مكتبي؟» «سأريك، ولكن كيف لاحظت ذلك؟»
لم تجب فاندا. في المجمل كانت تشعر بالارتياح أن شتورم لم يكن الفاعل، واقترحت: «علينا أن نتقابل مستقبلا بصورة منتظمة، فلنقل كإجراء لبناء الثقة. حين نتبادل المعلومات بصراحة لن نكون في حاجة إلى أن يتجسس بعضنا على بعض.» واتفقوا على أن يلتقوا مساء أيام الاثنين في مقهى هافانا.
سألت بيترا بنفاد صبر: «وماذا نحن فاعلون بشأن خزانة السموم؟» ازدادت بقعة أحمر الشفاه على أسنانها. «هلا فعلت هكذا.» قالتها فاندا وهي تمر بلسانها على الفتحة التي بين الشفة العليا والقواطع الأمامية، «فثمة شيء عالق بأسنانك.» فعلت بيترا ما طلبت فاندا ، لكن ليس بدون أن تسدد عينيها المستديرتين على أرنبة أنفها حتى احولت عيناها، وليس بدون أن تستدير شفتاها المكتنزتان وكأنها تستعد للتقبيل، مصدرة صوتا يشبه الرضيع وهو يمص. لم تكن فاندا متأكدة إن كانت هي الشخص المناسب ليحمي ظهر يوهانيس في مهمته، لكن لم يكن ثمة خيارات أخرى؛ فحسبما تقول زابينة لا تزال بقية المادة التي أرسلتها شركة بي آي تي مخزنة في دولاب السموم؛ لأنها قد تمكنت من الاقتصاد في استخدامها بأكثر مما كان متوقعا. صحيح أن الاتفاق الموقع بين الشركاء يمنع بشكل قاطع عمل أي أبحاث على المادة، لكن حقيقة أن شتورم لم يكن يريد أن يعرف الآثار المتأخرة لدراسة السمية أقنعت زابينة بأن عليهم أن يتولوا الأمر بأنفسهم.
قالت معترضة وبدت غير سعيدة بالخطة: «لكنكم لا تعرفون حتى من سيقوم بالتحاليل؟»
حاولت فاندا أن تبدو عفوية: «سمعت عن مختص في نيويورك، يدعى نادريان سيمان. متخصص في علم البلورات، ويبدو مناسبا للمهمة.» راقبت كيف تسمرت زابينة، ثم أخذت الصديقة نفسا عميقا، وقالت بصوت خفيض: «لقد فكرت فيه أنا أيضا، بل إنني حاولت الاتصال به.» ثم سكتت قليلا، «لكن الرسالة صادرتها الجمارك الأمريكية.» ثم واصلت بصوتها الخفيض: «ثمة منع لدخول المواد العضوية. كنت صادقة أكثر من اللازم وأعلنت بغباء أن الطرد يحتوي على مواد حيوية نشطة، سيقومون بإعدامه. ما نفعله الآن هو الفرصة الأخيرة.»
وأخيرا، فكرت فاندا بارتياح، كانت سعيدة أنها لم تضطر للإفصاح عما اكتشفته سرا في شقة زابينة. لم تكن تريد أن تثير حفيظتها بأكثر مما فعلت. «هناك أيضا عنوان آخر يمكننا اللجوء إليه في النهاية، لكنه أيضا هناك في أمريكا، سأستوضح أولا عن كيفية تمرير المادة هذه المرة عبر الحدود، لكن هذه هي الخطة (ب). علينا أولا أن نحصل على المادة.»
عادت بيترا لإلحاحها: «إذن غدا في الظهيرة الخطة (أ)؟ معظمهم يكون ساعتها بالمطعم.»
تذكرت فاندا حفل الصيف، ونظرات ميشائيل الهانئة، وساقي بيترا العاريتين ترتاحان باسترخاء على ركبتيه. لم تكن متأكدة إن كان ميشائيل الذي يبدو دائما متفانيا في عمله من الممكن مخاطبته في المعمل، لكن الذي تحدث الآن كان يوهانيس: «لا يمكن لأحد أن يخطئ، وإلا فسيجدني أنا في ظهره.» فردت بيترا وهي تمسد ذراعه بود: «لا لا لا يا يوهانيس. اتركني فقط أعمل، إن هذا مجرد تمرين سهل بالنسبة لي.»
قالت فاندا محذرة: «من فضلك يا بيترا لا نريد مناورات تعرضنا للخطر ... إذا أفسدت الأمر فسينفجر في وجوهنا جميعا.»
ابتسمت بيترا ابتسامة تشي بالكثير، ولعقت فمها بطرف لسانها. هذه المرة ومضت أسنانها المنتظمة بشكل يدعو إلى الحسد كحبات لؤلؤ صغيرة متراصة في الفرجة بين الشفتين. «سأقوم بجذبه إلى حمام السيدات، تعرفونه؟ ذاك المستقل الصغير إلى جوار غرفة النظافة.» ضحكت وهي تقول: «ستنجح الخطة، أضمن لكم ذلك، لقد نجحت بروفة سابقة.» فتأملتها فاندا متسائلة. «لقد حدث هذا من قبل.» قالت بيترا، ثم فردت ظهرها لدرجة مطت ملابسها العلوية شديدة الضيق فوق نهديها، فبرزا مثل شراعي زورق تدفعهما الرياح، وواصلت حديثها: «أنا متأكدة أنه سيسعد بلعب دوره في المسرحية مرة أخرى.» وبعد فترة صمت قصيرة قالت: «أنت يا يوهانيس. أنت عليك أن تحضر مفتاح دولاب السموم ثم تعيده إلى مكانه مرة أخرى، بحسب علمي هو يضع المفتاح في درج المكتب العلوي الأيسر، في الصندوق الصغير إلى جوار دبابيس الدباسة. لا يكون الدرج مغلقا بالمفتاح طوال اليوم، سأمنحك عشر دقائق للعملية برمتها، لا أكثر ولا أقل!»
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بقليل حين دخلت فاندا إلى طرقة منزلها، هذه المرة كان النور يضيء السلم. وجدت في صندوق البريد ظرفا أبيض اللون يحمل ختم موثق العقود. تذكرته. كان نفس الشخص الذي راسلها وهي في أمريكا، وحين فتحت الشقة افتقدت الشعرة التي بدأت تثبتها في الآونة الأخيرة ما بين الباب وحلقه، بعد أن قررت أن الخدعة التي تستخدم فيها قصاصة الورق مكشوفة أكثر من اللازم، ففي الحمام يتساقط شعر كثير، وكانت دائما ما تجد واحدة طويلة وداكنة اللون بحيث تناسب المهمة، لكنها سرعان ما نحت المسألة جانبا؛ لأنها لا تذكر إن كانت قد تذكرت وضع هذه الوسيلة التحذيرية موضع التنفيذ أم لا، نظرا لأنها غادرت في الصباح على عجل. وفي مكان ما بين الطرقة والمطبخ وضعت حقيبة يدها لتسقط مدوية على الأرض، كما خلعت معطفها وألقته على ظهر الكرسي المجاور لطاولة الطعام الصغيرة الموضوعة تحت نافذة المطبخ. ظلت تنقب في الدرج عن السكين الحاد، فهكذا كانت تحب فض المظاريف. كان قطع المظروف من حافته العلوية بنظافة يمثل لها تجربة نجاح سريعة ورائعة.
كان ورق الخطابات السميك يحمل الأحرف الأولى لمكتب استشاري محاماة بمدينة جوترسلوه، أما النص فقصير ورسمي ويطالبها بالاتصال بهم في غضون أسبوعين. كان الأمر يتعلق بالميراث، وشعرت بتلك الوخزات تعاودها في صدرها. لم تكن تريد أن ترث شيئا البتة؛ تحديدا من والديها، ألا يستطيع روبرت أن ينهي هذه المسألة بمفرده؟ في الغالب سيتعين عليها أن توقع أوراقا ما. وماذا لو ظهرت ديون؟ لن يعفيني روبرت أبدا منها، هذا هو ما آل إليه. محاسب. ألا يعمل في بنك؟ الأفضل أن أنتهي من هذه المسألة في القريب العاجل، لكنها لم تكن تريد أن تسافر بالقطار؛ فهذا من شأنه أن يجعلها معتمدة على مواصلات ضعيفة في تلك المنطقة الريفية، وتحت رحمة أخيها ومزاجه. كانت تنقبض لفكرة أنها من الممكن ألا تتمكن من الخروج من هناك بالسرعة الكافية. ربما من الممكن أن يعيرها يوهانيس سيارته يوم الجمعة. سقطت نظراتها على حافة النافذة، وكان هناك إلى جوار قائمة سنايدر خطاب طبيب الأسرة. ظلت تديره لبعض الوقت بين يديها. شعرت بالقلق. أولا مكالمات هاتفية، ثم ثانيا هذا الخطاب. ربما لا يكون سوى كشف الحساب. لكن حساب ماذا؟ وفي حركة واحدة فتحت الظرف. كان فتحه أسهل من قراءته. طلب منها دكتور جليزر أن تحضر لعيادته للقيام بفحص آخر. كان الشيء الغامض الذي ذكره الدكتور لا يزال يشغل بالها، وهي تحاول محاولات غير مجدية أن تنام. لاحقتها صور وأزعجتها. وفجأة وجدت أمامها وجه جونتر هيلبيرج شاحبا وغريبا، وفئرانا بيضاء نافقة في ازدياد مستمر مكونة كثيبا لا يمكن تقدير حجمه، ثم إضافة لذلك ماري كامبل وهي تقول بصوت متحشرج: «ننتظر لنعرف.»
الفصل السابع والعشرون
هواء ثلجي
امتلأت السماء صباح يوم الثلاثاء بغيوم مثقلة رمادية، لكنه ليس ذاك الرمادي الداكن الذي يميز غيمات نوفمبر المطيرة؛ إذ كانت درجة لونها أفتح. تشممت فاندا الهواء ورفعت رأسها مشبعة بالأمل نحو السماء، كانت في طريقها إلى محطة الأتوبيس، متأخرة كعادتها. وقد كان بالهواء هشاشة استشعرتها، وبحسب ما تحمل ذاكرتها فقد كانت تنتظر هذه اللحظة كل سنة؛ ففي مثل تلك الأيام كانت تنظر كل حين من النافذة. لم تكن تريد بأية حال أن تفوت اللحظة التي تتساقط فيها ندف الثلج الأولى، كما أنها كانت تريد أخيرا أن ترتدي حذاء الشتاء طويل الرقبة الذي جلبته معها من أمريكا.
كان أول ما فعلته حين وصلت المعهد هو كتابة رسالة إلكترونية لبيتر سنايدر. أوضحت له طلبها بإيجاز، لكنها تجنبت الإفصاح عن مصدر المادة التي كانت تريد أن ترسلها إليه بغرض تحليلها، كذلك طلبت منه النصيحة حول كيفية تفادي الجمارك الكندية. كان يوهانيس يظهر في غرفتها كل نصف ساعة، فيجلس على الكرسي المعيب واضعا فنجان قهوته على المكتب. بنفاد صبر كان يغير وضعية رافعة الكرسي التي تضبط ارتفاع الجلوس، ثم يستسلم سابا لاعنا. ويقول بضع كلمات عن وجوب تكهين هذا الكرسي، ثم يسحب كتابا من الرف مقلبا في صفحاته بلا هدف ثم يخرج ثانية. كان يوتر أعصابها. علي أن أبقيه خارجا، هكذا تقول لنفسها لتهدأ. كان يوهانيس يتمتع بأفضل إطلالة على «أفعى التايبان السامة»، هذا هو الاسم الذي أطلقوه على قطعة الأثاث بالمعمل التي يتم فيها الاحتفاظ بالمواد التي تشكل خطورة خاصة، وكل ما لا ينبغي أن تتداوله الأيدي، والأرجح أن المادة الخاصة بشركة بي آي تي تنتمي للصنف الثاني. كانت التسمية تشير في الواقع إلى ثلاجة مكتظة عن آخرها بالمواد الكيماوية الملصقة عليها صورة غير واضحة لرأس أفعى. كانت الثلاجة في معمل البيولوجيا الجزيئية يزينها قفل معلق مثل تميمة حماية، وحتى وقت قصير مضى لم يكن هذا القفل سوى التزام بتعليمات تخزين المواد الخطرة، وكان المفتاح متاحا للجميع على لوحة المفاتيح. أما تدوين المواد والكميات التي تم أخذها في سجل السموم، فكان أمرا متروكا للرقابة الذاتية، لكن قبل أسبوعين نقصت أمبولتان خاصتان بمواد مخدرة، ومن ساعتها أصبحت مراقبة حركة المواد السمية مهمة ميشائيل.
كانت زابينة قد وصفت ليوهانيس بالتحديد المكان الذي وضعت فيه العلبة آخر مرة، بما فيها من أسطوانات ثلاث بلاستيكية صغيرة. كانت المادة مركبة من ثلاثة عناصر: مادة فعالة، ومادة مذيبة، ومادة ثالثة رجحوا أنها نوع من المواد المحفزة. كانوا في حاجة للعناصر الثلاثة جميعها. كانت زابينة قد اقتصدت في استخدامها؛ ولذا فهذه هي الكمية المتبقية التي سيستخدمونها في التحليل. كان ثمة أمر إضافي يتعين عليهم مراعاته في الوقت المخصص لتنفيذ العملية، ألا وهو أنه رغم أن دولاب السموم كان متاحا للاستخدام - أو ربما لهذا السبب تحديدا - فإنه لم يكن منطقة محايدة، فمثله مثل أي ثلاجة في سكن مشترك ليس فيه نزاعات ظاهرة، لكنه مليء بالصراعات التي لا يمكن تجاهلها، فهي لا تبرد الأطعمة والأشربة فحسب، لكنها أيضا تسخن مشاعر البعض على البعض الآخر، ولعل الأمر يتعلق بمحتواها غير الصحي، حيث تصطدم بها شتى أنواع الطاقة السلبية، مهددة بالتراكم في محيطها. النزاعات على المساحة كانت أسوأها؛ لأنها كانت تحكم على المواد الخاصة بالحزب المعادي بالنفي في الزوايا الخلفية أو الأرفف الدنيا، وأحيانا يحدث ذلك بلا تفكير ولا سوء نية مبيت. كان عليهم إذن أن يتوقعوا أن المادة الخاصة بشركة بي آي تي قد لا تظل في المكان نفسه الذي خزنتها فيه زابينة المرة الأخيرة؛ لذا أملت فاندا بشدة ألا يضطر يوهانيس للبحث طويلا. سيتعين عليها هي أن تراقب الطرقة وتصرف انتباه أي شخص ينوي أن يتجه نحو معمل البيولوجيا الجزيئية، بالدخول في حديث معه إلى أن ينتهي يوهانيس من المهمة الحرجة. في الوقت نفسه كانت بيترا تؤدي واجبها الذي لم تحسدها عليه فاندا؛ إذ لم يكن ميشائيل هو النوع المفضل لها ، على العكس، كان ميله للاستسلام يثير غضبها، لكن ربما يكشف في العلاقة الحميمة عن جوانب لم يمكن التنبؤ بها. لم تكن فاندا تهتم بمعرفة التفاصيل. أهم شيء أن يصلوا إلى المادة دون أن يرتاب أحد في الأمر.
بدأ العاملون في مغادرة القسم في مجموعات صغيرة قرب الظهيرة. كانت فاندا قد تركت باب حجرتها مفتوحا لتنصت إلى وقع خطواتهم ورنين أصواتهم في تزايده وانحساره، وكلما ظنت أنهم ذهبوا جميعا، سمعت صوت قفل يوصد وخطوات أحدهم تسارع بالخروج، ثم ظهر رأس يوهانيس المحمر في إطار بابها. «حان الوقت.» «هل نسيت دواء ضغط الدم؟» قالت باقتضاب وتبعته عبر الطرقة.
أخذ يوهانيس نفسا عميقا. نظر يمينا ويسارا أمام باب غرفة ميشائيل ثم ضغط الأكرة. فتح الباب. لقد أنجزت بيترا الكثير، فميشائيل ذو الضمير اليقظ تخلى عن كل حذره وترك الباب غير موصد، يبدو أنه كان على عجلة من أمره. أما باحثا الدكتوراه اللذان يشاركانه الغرفة، فكانا مثل الآخرين في طريقهم إلى المطعم. انسل يوهانيس داخلا وأغلق الباب خلفه. أرهفت فاندا السمع، ثم ارتعدت فرائصها إذ سمعت صوت طابعة ليزر آتيا من غرفة السكرتارية. هل كانت بونتي لا تزال هناك؟ لم يكن بين غرفة السيدة المتصابية بونتي وغرفة ميشائيل سوى غرفتين. نظرت فاندا من باب غرفة السكرتارية نصف المفتوح. لا يصح أن تترك الطرقة غير مراقبة. كانت المتصابية بونتي تقف إلى جوار جهاز الفاكس تقرأ الرسالة التي وصلت للتو، يتدلى فضفاضا من على كتفيها معطف الفرو، أما شفتاها المزمومتان فوشتا بأنها في عجلة من أمرها.
قالت فاندا مشيرة إلى صندوق بريدها: «علي أن أتحقق منه سريعا.»
ردت بونتي بلمحة احتقار: «لا يأتي إلا مرة في اليوم»، ثم نظرت إلى فاندا متفحصة: «المفترض أنك صرت تعلمين ذلك.» «ظننت أني فوت شيئا اليوم.» ردت فاندا معتذرة، وأحنت رقبتها ثم ألقت نظرة خاطفة على الطرقة. لا حركة على الإطلاق. ابتهلت فاندا في سرها من أجل لحظة إضافية، فلا يجب أن تعرف بونتي متى سيخرج يوهانيس. «ألا يزال أحد هنا؟» سألت السكرتيرة وأشارت إلى الباب. في تلك اللحظة انسل يوهانيس من غرفة ميشائيل خارجا، وأصدر القفل صريرا خافتا وهو يغلق الباب بحذر. ابتسم ناحية فاندا وأخذ يلوح بالشريط المعلق به المفتاح منتصرا. رأت فاندا كيف خفت حمرة وجهه، ثم طار شيء فضي في أقواس عبر الهواء ليسقط على بعد عدة أمتار منه في نفس اللحظة التي دفعت فيها بونتي فاندا إلى الطرقة. لكن يوهانيس تصرف على الفور، فبسرعة البرق أخفى بيد الشريط اللافت للنظر في ردائه الأبيض، بينما التقطت الأخرى المفتاح. «غداء شهيا» قال يوهانيس واختفى بسرعة في معمل البيولوجيا الجزيئية، بينما أغلقت بونتي باب السكرتارية. لم يكن الباب المبطن يستقر بسهولة في الزوايا؛ لذا كان يلزمها أن تسحبه من الأكرة لتحكم وضع الترباس. أدارت المفتاح مرتين. وقد استأثرت تلك العملية بجل اهتمامها فلم تلاحظ شيئا، فتنفست فاندا الصعداء. «لو سأل «أحدهم» عني فإني هناك في المكتبة» أومأت فاندا. وهذا ليس بالنعت السيئ للرئيس. «أحدهم» يريد أن يحدثك، «أحدهم» يريد أن ينشر اسمه بشكل ضروري على البحث، حتى لو لم يسهم بشيء فيه، «أحدهم» قال لي اليوم في حديث خاص إني حققت الكثير رغم كوني امرأة. ورغم ذلك لا يمكن «لأحدهم» أن يستفيد من عملي في شيء. لا، فإن «أحدهم» لا يهتم به على الإطلاق. قررت فاندا أن لا أحد يمكن أن يكون بهذه الأهمية.
توجهت السيدة بونتي الآن بخطوات واثقة إلى الحمام الكائن إلى جوار غرفة النظافة. فكتمت فاندا أنفاسها، وتساءلت هل تذكرت بيترا أن توصد الباب؟ كانت المتصابية تهز الباب بقوة. «مغلق» فلتت الكلمة من بين شفتي فاندا بارتياح.
تلفتت السكرتيرة حولها. «لماذا؟» سألت بصوت عال، «هل الحمام به عطل ثانية؟» هزت رأسها مستنكرة، ثم سارعت بالخروج. وضعت فاندا كفيها على وجهها.
غمغمت: «من فضلك ... امنحيه لقاء مثيرا.»
سمعت أزيز الباب فعاودت النظر إليه. كانت بونتي قد انحنت لتوها عند الزاوية، لكن أستريد دوبرمان ظهرت بالمدخل. الحذاء قصير الرقبة على البنطال الجينز الضيق يقترب بسرعة منذرة. كانت فاندا لا تزال تعد الخطوات الواسعة وكأنها منومة مغناطيسيا، حين وجدت الزميلة قد وقفت أمامها فعلا ترمقها بنظرات باردة من أعلى لأسفل. «هل تعرفين أين غطس يوهانيس؟» طرحت السؤال دون أن تتهدج أنفاسها للحظة.
تجمدت فاندا. ماذا أقول الآن؟ بالتأكيد ستبحث عنه في المعامل، عليها فقط أن تبتعد عن معمل البيولوجيا الجزيئية الآن.
عدت فاندا الخطوات إلى هناك في صمت. كان الاضطراب الذي تستشعره في معدتها قد نزل إلى قدميها. أستريد - فرس الرهان تلك - ستسبقها بمسافات.
خطر ببالها للتو أن تقول: «لقد اتصل مدير المبنى منذ قليل، يقول إن ضوء سيارتك موقد.»
حولت أستريد ناظريها: «هل هذا أكيد؟ هل ذكر لك رقم لوحتي المعدنية؟» «قال السيدة الدكتورة دوبرمان، التي ليست من مونستر.»
ندت عن أستريد إيماءة غضب وقالت ثائرة: «ومنذ متى يعرف ذاك الشخص سيارتي؟» ثم دارت كراقصة باليه عائدة إلى المصعد.
مرت الدقائق الثلاث التالية بهدوء، هدوء الأشباح. نظرت فاندا في ساعتها. مر نصف الوقت الذي قررته بيترا لهم. ظلت تبدل وقفتها من ساق لساق. أين ذهب يوهانيس؟ كانت تريد أن تذهب إليه في المعمل، لكن أولريكه ظهرت في الطرقة، مرت إلى جوار فاندا متجهة مباشرة إلى معمل البيولوجيا الجزيئية.
نادتها فاندا: «مرحبا ... هل عندك برهة من الوقت؟» «كلا ... علي أن ...» «أرجوك.»
هزت طالبة الدكتوراه رأسها بالنفي، وغمغمت بأنفاس لاهثة: «الحضانة، لقد نسيتها.» ثم اندفعت داخلة إلى المعمل، فقابلها يوهانيس خارجا. «أحسنت» همس لفاندا، ثم خبط الجيب العلوي لردائه الأبيض «ما أخبار العصافير الصغيرة؟»
فهمست إليه فاندا: «أسرع» ثم انسلت إلى مكتبها، فلحقها يوهانيس بعد دقيقة، فقالت معنفة: «هل كنت تحرث الأرض؟»
رد بعصبية: «ما هذا الكلام، ألم أخاطر برأسي؟ كما أن ذاك الشريط الغبي ... كان لا بد أن أعيد ربط المفتاح فيه.» «لولا جولاتك الإضافية لكانت مشاكلنا أقل.»
طوح يوهانيس الطرد الذي اقتنصه على مكتبها، كان أبيض اللون خاليا من أي عنوان. كان يريد أن يغادر الغرفة، لكن في نفس اللحظة ظهرت بيترا بالباب، رأت الكرتونة فأشرق وجهها . «أحسنتم.»
أز كرسي الزوار منذرا عندما هبط عليه يوهانيس فجأة. «وما أخبار أمير الأمراء؟»
شدت بيترا شعرة علقت بالبلوفر وقالت: «لقد ذهب لتناول طعامه، فقد استحقه عن جدارة.» بعدها سمعوا طرقا على الباب فجفلوا.
كان الطارق هو السيد فايدنرايش مدير المبنى داسا رأسه الأصلع داخل الغرفة. «أخبروا السكرتيرة أن كل شيء في الحمام على ما يرام.» «سيد فايدنرايش.» سمعوا النداء، ثم وقع خطوات قوية آتية من الطرقة. سحب مدير المبنى رأسه من الباب، كان صوت أستريد العالي الرفيع قريبا جدا الآن، واستأنفت قائلة: «رقم لوحتي المعدنية هو إم إر-آه ديه 327، أرجو أن تحفظه.» ثم ابتعدت بخطواتها القوية.
تفرست فاندا في وجهي بيترا ويوهانيس المليئين بالأسئلة وهمست: «عشت الجحيم هنا.» ثم أخبرتهما بما حدث في جمل قصيرة، وبعدها ذهب كل واحد إلى عمله المعتاد. «نحن فريق جيد.» كتبت فاندا هذه العبارة لرودي، وتابعت مداخلاتها التي كالعادة يبتلعها الكمبيوتر. قضت فاندا بقية اليوم في راحة وحيوية مثل تلك التي يهبها الجلوس على أرجوحة الأطفال. وكانت تنوي - زيادة في التأمين - أن تأخذ الكرتونة التي تحوي مركب النانو معها إلى المنزل في المساء. •••
بحثت في صباح اليوم التالي عن رسائل جديدة في صندوق بريدها الإلكتروني. رد عليها بيتر سنايدر بسرعة.
وعرض عليها أن يتولى عمل التحاليل وطرح بعض الأسئلة بخصوص المادة، وألن يسافر أي من معارفها إلى كندا في القريب؟ فأن يحضر شخص ما المادة معه أفضل من أن ترسلها هي، ولا يهم إلى أي مطار سيصل: تورنتو، مونتريال، أونتاريو، لا يهم؛ ففي كل المطارات متعاونون يمكن أن يتلقوا المادة.
فكرت فاندا: ألم يكن الرئيس يريد أن يسافر الأسبوع المقبل إلى تورنتو لحضور مؤتمر؟ واصلت القراءة:
بالمناسبة كنت قد حكيت لك عن زيارة وزارة الخارجية. كانت زيارة كاشفة؛ فقد علمنا منها أن جزءا من هذه المادة تم تطويره في المعامل التابعة لإدارة السلاح الأمريكية في نيو مكسيكو، وعلى ما يبدو فإنها جزيء موصل، نوع من مسبار نانو لنقل شيء لا نعلمه بعد، ويتم بيعه فيما بعد للمصنعين تحت مسمى «إن بي 2701»، وإدارة السلاح الأمريكية يثير اهتمامها الآن كل إشارة تخبر عن مصير وليدها، ولم نفهم السبب في ذلك بعد. كانوا يريدون حتى شراء عينات التربة مني، ولأنهم كانوا على أرض كندية كان عليهم التزام التحفظ، لكني أخشى أنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لمصادرة المادة لو لم نبد استعدادنا للتعاون معهم. وفي كل الأحوال تحافظ الصناعة على غطائها. ونحن نحاول الآن الوصول إلى اتفاق مع وزارة الخارجية، لنرى إن كانوا سيفصحون عن معلومات أخرى. إن ذلك من شأنه أن يسهل تحاليلنا كثيرا. سي آر دبليو سي، تلك الشركة بكاليفورنيا لم تكن سوى واحدة من العملاء الذين قاموا بشراء المادة بطريقة قانونية قبل ثلاث سنوات من السلطات الفيدرالية، كما أن بيانات التشغيل صارت في هذه الأثناء متاحة. ستجدين أسماء المشترين على صفحتنا على الإنترنت، وستتمكنين هناك أيضا من قراءة المزيد من التفاصيل التي أسفرت عنها تحرياتنا.
اكتبي لي سريعا متى ستصل شحنتك؟ تسعدني المساعدة دائما.
بيتر
جفلت فاندا لبعض الوقت. هل من الممكن أن تكون مراسلاتها مع بيتر مراقبة؟ ففي نهاية المطاف، من المعروف أن البريد الإلكتروني غير مؤمن، ولم تكن تستعمل أي برنامج حماية، إلا أن بيتر أثار فضولها، وما هذا الذي قرأته لتوها؟ إلا أنها نحت ظنونها جانبا. لم تتردد كثيرا ونقرت لتصل إلى الصفحة الرئيسية لمنظمة حماية البيئة الكندية. وجدت ما تبحث عنه تحت باب أهم الأخبار. كانت قائمة الشركات الخاصة التي اشترت مادة «إن بي 2701» تضم ما لا يقل عن عشر شركات مرتبة أبجديا. حدست فاندا أمرا في ركن قصي من وعيها، لكنها لم ترد الاعتراف به صراحة، فضربتها الحقيقة كسهم من عاصفة، تعمدت أن تتجاهل وميض برقها وهزيم رعدها؛ ففوق اسم شركة كاليفورنيا وودلاندز للأبحاث التي اتخذها بيتر هدفا لهجومه، وجدت فعلا اسم شركة بي آي تي - شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة.
الفصل الثامن والعشرون
ندفات الثلج الأولى
غلالة رمادية لفت الطبيعة التي كانت تحاول أن تقطع طرقاتها بسيارتها. كانت تتجه غربا، لكن الشمس لم تشرق قط ذلك اليوم. كانت قد انطلقت قرابة الساعة الثامنة والنصف، إذ دبر لها موثق العقود في جوترسلوه موعدا سريعا، وهي أفرغت نفسها اليوم لهذه المهمة، يوم واحد لا غير. لم تكن تريد أن تنفق أكثر من ذلك على هذا الأمر، كما أن روبرت لم يفكر في دعوتها لقضاء الليل، وعلى الأرجح لم تكن هي لتقبل بعرض كهذا لو قدم.
كانت الشوارع تعج بالحركة صباح تلك الجمعة. أحكمت إمساك عجلة القيادة حين مرت بالهضبة شديدة الرياح عند ضاحية هايجر بورباخ. كان يوهانيس شارد الذهن حين أحضر لها بالأمس مفتاح السيارة. «عقد عملك لا يزال ساريا لفترة، وهي فترة كافية لسداد الأقساط لو حدث أي تخريب للسيارة.»
صحيح أن فاندا كانت لا تجيد القيادة على النحو المرجو، إلا أن قيادة السيارات كانت تشعرها بمتعة كبيرة، كانت تشعر وكأنها فرت من قفص. متعة أن أقود خطواتي بنفسي مباشرة على الطريق، متى كانت آخر مرة مارست فيها ذلك؟ ففي عملها ازداد إحساسها أن أحدا يقودها من بعيد، كما أن المعلومات الأخيرة التي حصلت عليها من بيتر سنايدر لم تسهم في التخفيف من هذا الإحساس، لكن ربما يكون «إن بي 2701» هو المفتاح لمعرفة مادة النانو الغامضة تلك التي استقرت الآن في ثلاجتها - حتى إشعار آخر - إلى جوار البيض. كانت تفكر بجدية في أن تفصح لسنايدر عن كل شيء، وعليهم يوم الاثنين أن يقرروا ما الذي سيتعين فعله بعد ذلك. ألقت فاندا نظرة خاطفة على الكرسي المجاور للسائق، حيث طبعت خريطة الطريق التي بحثت عنها في الإنترنت بالأمس. كانت المسافة التي قطعتها في البداية غريبة عليها، لكن بدءا من بريلون انتابها إحساس أنها مرت بكل ذلك من قبل، ثم بعد ساعتين من القيادة تمكنت من إعادة التعرف على البيئة التي نشأت فيها.
أرض مسطحة، «تستطيعين صباحا رؤية المكان الذي ستنامين فيه مساء» قالها لها صديق ذات مرة. في الثلاثين كيلومترا الأخيرة قررت أن تتصرف كالحمام الزاجل وتعتمد كلية على غريزتها .
وبعد أن تركت الشارع الرئيسي وانحنت لتدخل إلى المنطقة السكنية، توقفت قليلا. المفترض أن كنيسة السيدة العذراء تكون في هذا المكان، أنزلت فاندا زجاج النافذة لتتأمل شجرة الدردار القديمة. مرت اثنتا عشرة سنة. كان الطريق إلى منزل والديها يسير كما في أحلام يقظتها بين كنيسة العذراء وأشجار الدردار وكأنها بوابة دخول إليه. أين ذهب المبنى المطلي بالأبيض بتمثال العذراء، فالسيد المسيح، والزهرية النحاسية التي كانت تضع بعض الورود فيها؟ ورود من الحديقة. قرأت اللافتة الجديدة، «بيركين آليه»؛ أي ممر أشجار التبولا، وبالفعل زينت حافة الطريق المسفلت عن يمينه ويساره أشجار تبولا حديثة الغرس ذات جذوع تذكر بأطفال كبروا قبل الأوان.
كثيرا ما ماطلت فاندا في زيارة والديها، والآن قضيا نحبهما. بحثت في حقيبتها وأخرجت منها خطاب موثق العقود. هل كان روبرت ينتظر الآن حضورها؟ هذه المرة لم يبق لها من حجة. كانت عودتها لهذا المكان واجبة. دارت أمام وجهها بلورات ثلج رقيقة، فنظرت فاندا حولها، لماذا الآن تحديدا يبدأ الثلج في السقوط؟ أغلقت نافذة السيارة وواصلت السير.
بعد بضعة مترات قليلة انحنت يسارا ووصلت إلى مدخل المنزل. بدأت أصوات طرقات تدق رأسها، وتسارع نبضها بصورة مخيفة. طرقات البلاط غير المثبت حين ينهرس تحت عجلات سيارة والدها العائد من العمل، البلاطات الآن جديدة ومثبتة بإحكام، لا يصدر عنها أي صوت، فرض عليها الصمت.
كان المنزل متدثرا بالسكون، مظلما إذ كل ستائره المعدنية مسدلة، فيما علت أشجار إبرة الراعي جافة من أصيص على السلم. من ذا الذي زرعها؟ لقد مات أبواها الآن منذ أكثر من سنة، لا يمكن أن يكونا هما من قاما بذلك، ألم تكن ثمة سيارة مركونة إلى جوار الطريق الخارج؟ أوقفت فاندا محرك سيارتها فساد الهدوء التام.
كان هذا هو المنزل الأول في هذه المنطقة. في البداية كانوا يعيشون أمام الماء المنساب عبر المراعي الموحلة والمباني الأسمنتية باحثا عن شقوق رفيعة نادرا ما وجدها. كانت الطبيعة تحاول أن تحمي نفسها من تغول جدران القبو المبنية كأسوار حصن، لكن مقاومتها لم تجدها نفعا، الأمر الذي كان مبعث فخر والدها. ثم جاء الجيران الأوائل، بنيت بيوت، وزرعت حدائق. انحسر الماء، مروضا هادئا مثل طفل شب عن الطوق. هكذا حكى لها والداها عن الأحوال.
أحكمت فاندا لف شالها حول رقبتها وخرجت من السيارة. كان الهواء المشبع بالجليد يخزها في أنفها. كان باب البيت مواربا، أما المدخل فانبعثت منه رائحة أحذية لم تتم تهويتها. «روبرت، هل هذا أنت؟» لم تحصل على إجابة. وجدت طريقها عبر المطبخ إلى غرفة الطعام الصغيرة. كان الموقف مثل الحلم الذي يراودها. طاولة من الخشب حولها خمسة كراسي، لماذا حقا خمسة؟ الطاولة الصغيرة التي تحمل الهاتف القديم رمادي اللون ذا السماعة البيضاء، تماما كما ظهرت لها في الحلم، ثم رأته. كان يجلس في مقعد ظهره إليها، وينظر من النافذة تجاه الحديقة. كان يسند ذراعه اليسرى على مسند المقعد، ومضت سيجارة بين أصابعه. أعسر، كان روبرت أعسر. تذكرت الآن.
قالت بصوت منخفض: «مرحبا، ها أنا ذا.» «كان الوالد يجلس هنا دائما حتى قبل انتحاره بقليل.» رد ببطء. اللعنة، ألا يستطيع حتى أن يتحدث معي بصورة طبيعية؟ لا تبدئي في الإحساس بالذنب الآن. «أنا هنا الآن، وبرأيي الأفضل ألا نطيل الموضوع بيننا كثيرا.» «نعم، فلنقصر المسألة. كان الأمر أيضا قصيرا وغير متوقع.» كم كان يرتعش صوته وكيف يمص سيجارته، إدمان الأب، لقد ورث إدمان الأب مثل النار التي تشتعل ثم يأكل بعضها بعضا في النهاية. «أولا، ماتت الوالدة بعد مرض قصير، ثم أعلنا عن ذلك في صفحة الوفيات بالجريدة.» أكمل روبرت كلامه «ثم مات هو بعد حزن قصير ... أم كان علي أن أكتب بعد إدمان طويل للكحول؟»
ألا تستطيعون أن ترحموني من معاناتكم؟ بالنهاية لقد ماتا، فلنترك الأمر يمر بسلام. لا أريد أن أفكر كثيرا في الأمر، أريد أن أحتفظ بهدوئي. «لم أحضر إلى هنا من أجل استعادة القصص القديمة.» «لكني أريد أن أتحدث عنها» رد عليها معاندا. «أريد أن تهتمي لأمرهم، ففي النهاية، هذه هي أسرتك.»
لا أستطيع، لن أستطيع أن أكترث لأمره. لماذا أفكر في هذا الآن تحديدا؟ أسبوع بأكمله قضيته بشفاه متورمة، فيما اختلقت قصة حول طبيب الأسنان. لكن السبب فيما حدث لي كان الوالد وهو في حالة سكر كامل، بعد أن حكى عني الأخ الأصغر حماقة ما. أنت أيها الشكاء الصغير، كنت دائما ماهرا في العويل، وكنت أنا من تحتمل الضرب نيابة عنك، ولم يحدث ذلك مرة واحدة فحسب. «وكان علي وحدي أن أتعامل مع الموضوع.» «لقد هربت. صنعت لنفسك حياة جميلة في أمريكا، إنك حتى لم ترجعي لحضور الجنازة. أما الآن وقد صار ثمة شيء تأخذينه ...» «لم آت لهذا السبب.» لماذا أصلا؟ لأتحدث معه؟ نعقد سلاما؟ هل اعتقدت فعلا أن هذا سيحدث؟ «لماذا إذن إن كان لغير ذلك؟» استدار روبرت بوجهه نحوها بسرعة أثارت فرقها؛ فقد زم عينيه وأخذ يرمقها بنظرات عدوانية. كانت تعرف تلك النظرة، نظرة والدها. لا أفهمه. لم أفهمه قط. إنه لا يريدني أن أعرف. لكن ماذا؟ ولماذا؟
قالت بلا ثقة: «ما الذي يمكن أن يكون سببا لعودتي؟» التزم الصمت وانكمش في ذاته مثل حيوان جريح يتسلل ليقبع في وكر جروحه. كانت ترى سهام تنهداته تنغرس في جسده الغائم حاجبا وجهه خلف أصابعه العظمية، فقط الوهج المنبعث من عقب السيجارة هو ما لم تستطع تجنب رؤيته. كان الرماد يتساقط على بنطاله المصنوع من القماش. ازداد وزنه. لماذا لا أشعر بشيء؟ لا شيء البتة ولا حتى الاشمئزاز؟ ترك روبرت ذراعيه تهبطان.
قال بنبرة محايدة: «لا أعرف.» نظرت في عينيه المحمرتين. «هل تريد حقا البقاء هنا؟» «يتعين على أحدهم أن يبقى.» «هيا، دعنا نذهب من هنا.» «لكني أعرف المكان هنا حق المعرفة.» هل هذه حق المعرفة؟ أنت تلتصق بوحل ماضيك، أوحال ماضينا. لا أستطيع أن أسحبك خارجا، يكفيني ما هو عالق بساقي. «هل كان على والدينا ديون؟» «نعم، الدين» صاح فجأة «أنت المدينة بكل شيء.» «تمالك نفسك.» ليس معي، هذا لا يفعل بي، لن يفعل بي ثانية. وقفت فاندا بالفعل في طرقة الباب، وسمعت أنه يتبعها. «علينا أن نبيع المنزل» صار صوته فجأة موضوعيا، «عليك أن توقعي. لن يتبقى الكثير لنا، لكن ثمنه سيكفي لسد الديون.» حتى كلامه كان يضايقها، كالعادة، لم أتوقع غير هذا. الوضع مرير عليك، أنت يا من دائما تأتين بعد فوات الأوان ولا تجدين من يتعاطف معك، من ناحيتي تستطيع أن تحتفظ بالنصيب الباقي كله. اتجهت خطوة نحو الباب وقالت: «إذن لننه المسألة.»
وفي وقت لاحق أخذا جولة أخرى في المنزل. كان الوالدان قد تصرفا في غرفة فاندا وقاما ببيع أثاثها، وأهديا ألعابها. لم تجد ثمة أثر يعيدها إليهما. ماذا أيضا كانت تريد أن تتهمهما به؟ ففي نهاية المطاف، فإنهما لم يفعلا سوى كتابة النهاية لما بدأته هي برحيلها. في غرفتها السابقة، وجدت المكتب ذا الأرفف القديم الأثير لدى والدها، وقد ورث تلك القطعة كما قال، لكنها لم تعرف عمن ورثها. كانت الطاولة الدقيقة للمكتب تقف كمهر ذي ساقين طويلتين. حق لها بما فيها من قوارير عطر وعلب بودرة أن تكون لامرأة، لا لرجل عجوز سكير. جلست فاندا على الكرسي المقابل لها ونظرت في المرآة البيضاوية التي تعلو الأدراج. «هل كان يجلس هنا؟» رأت في المرآة كيف أن روبرت فتح يديه وأغلقهما أمام بطنه السمين في إيماءة بأنه لا علم له. حاولت أن تتخيل وجه والدها في المرآة. بحثت عنه خلف عينيها الداكنتين، شكل أنفها أو الأجزاء التي حول فمها الدقيق. كانت ببساطة أقرب شبها بوالدتها. أحست تحت يديها بالقرص الرخامي البارد. سحبت أصابعها خطا رفيعا في طبقة الغبار التي علت الرخام البني المرقط. كانت درجة لونها تتوافق مع درجة لون الخشب المائل للحمرة ذي الزخرفات البارزة التي تؤطر الطاولة والمرآة، ربما تعود لطراز «الآباء المؤسسين» أو ربما ترجع لطراز الفن الحديث «يوجيندستيل». لم تكن تفهم كثيرا في هذه الأمور. كان بها درجان، سحبت فاندا مقبض الدرج الكبير أسفل الطاولة الذي لم يرد أن ينفتح. «ثمة مفاتيح؟»
هز روبرت كتفيه. «يمكنك الاحتفاظ بها، فليس عندي لها مكان.»
في المساء عادت تقود السيارة على الطريق السريع ثانية. في هذا الجو على الهضاب؟ كان رأي روبرت أن هذا يسبب الإنهاك الشديد. ظلت تبكي طوال طريق العودة، لم تذكر أنها فقدت كل هذا الماء من عينيها من قبل. شغلت مساحات الزجاج. كانت أضواء السيارات التي تأتي من الاتجاه المقابل تتراقص بين الثلوج المتساقطة مساء. ما الذي حدث لها؟ لقد وقعت عقد البيع للبنك. البنك الذي يعمل به روبرت، سيتحمل الموضوع. لقد انتهى الكابوس، بالنسبة لها على الأقل. هل هذه هي الراحة المنشودة؟ خطرت ببالها كنيسة العذراء ثانية. حاولت أن تبتلع الغصة التي في حلقها. لم يكن ثمة شيء على حاله كما كان في البداية. كيف بدأ الأمر حقا؟ تخطتها العربة الخلفية متجاوزة إياها لتجعلها خلف شاحنة. لقد مرت السيارة من طراز تويوتا بخفة مخلفة لطخات من الطين الممتزج بالثلج تصطفق على زجاجها الأمامي، وبحركة غريزية، حاولت تجنب الأمر برد رأسها للوراء. يتعين عليها الآن النظر إلى الأمام.
بعد أربع ساعات بدت لها كعمر بأكمله وصلت إلى ماربورج. كانت فاندا في غاية التعب حين صعدت السلالم المؤدية إلى شقتها، وكانت صناديق البيرة الفارغة التي تخص جيرانها قد ولدت جيلا جديدا. افتقدت فاندا الشعرة التي تضعها في إطار الباب، كما نقصت من الثلاجة ثلاث بيضات. مست كرتونة مادة النانو الموضوعة في الركن الأخير من درج البيض فاستراحت. هزت رأسها غير مصدقة. هل صرت أخرف الآن أم أني أخطأت العد فحسب؟ جابت شقتها بانتباه. كان كل شيء كما تركته. وكانت تجد ألفة في فوضاها. لم كانت تحب ترك الفوضى على حالها؟ ترى كيف كان يبدو شبح غيابها؟ تذكرت الفيلم مرة أخرى. ساكن سري؟ كانت سلة الورق ممتلئة، لم يحاول أحد حمل جبل الغسيل، كما أن أكوام الورق المطبوع على مكتبها ظلت في انتظار أن تقوم هي بتصنيفها. فكرت أن تمر سريعا على زابينة، لكنها كانت تفضل أن تأوي إلى فراشها. أوصدت باب الشقة مرتين، ثم دخلت فراشها سريعا. واستغرقت بعض الوقت إلى أن هدأت نفسها.
الفصل التاسع والعشرون
الطرد الهش
في الأسبوع التالي استمرت البرودة، وعلت الأحذية حواف بيضاء وتشققت النعال وأصبحت تصدر صريرا، وعلى الطريق الجانبية حولت الشمس قطع الجليد التي لم تكسح منها إلى طين ذائب، بينما ومضت ألسنة لامعة من الثلوج في ضوء مصابيح الشارع.
كان الوقت مناسبا لسوق عيد الميلاد. اتفقوا على اللقاء في الساعة السابعة مساء أمام كنيسة إليزابيت؛ إذ كان النبيذ الساخن هناك أرخص من مثيله في جنوب المدينة. انتظرت فاندا أمام البوابة الرئيسية. تعرفت على زابينة من القلنسوة النرويجية التي اعتمرتها، تلك التي شغلتها أمها. كان الشريطان الرقيقان اللذان يتدليان من القماش العريض على كلا الجانبين يتبختران بدلال مع كل خطوة من خطواتها الواسعة. وكانت زابينة قد قررت أن تأتي بمفردها؛ فدرجات الحرارة الأدنى من الصفر لا تناسب جوسي بالمرة. «وااو» بدا على زابينة إعجاب حقيقي، وقالت: «فعلا مثل ما قبل التاريخ. وبهذا تسيرين مخلفة آثارا مثل الماموث.» تأملت فاندا بفخر حذاءها الفرو ذي الرقبة العالية، وهو واحد من التذكارات النادرة التي استطاعت أن تجلبها إلى ألمانيا من العالم الجديد. «هي أقرب لأحذية وقوف فقط، ما يجعلها تناسب تماما سوق عيد الميلاد.» «سوف نرى كم من النبيذ الساخن تحتملين.» كانت زابينة قد اتخذت اتجاها واضحا، وتبعتها فاندا عليه. «هل تعرفين إلى أين تودين الذهاب؟» ««فان إلكان» يخمرون الأفضل حتى الآن.» وأشارت بذقنها ناحية أكشاك البيع الأخرى، «أما الباقون فانسي أمرهم.» بعد وقت قصير كانت أصابعهم المجمدة من البرد تقرع كئوس الأنخاب الدافئة. «هل تلقاه يا ترى؟»
سحبت فاندا هاتفها المحمول من جيب سترتها. لا بد أن يكون شتورم قد وصل إلى تورنتو قبل ساعة لو أن كل شيء سار على ما يرام. «كان سنايدر سيرسل رسالة نصية بمجرد أن يحصل على الطرد، لكن لم يصلني شيء بعد.» «ماذا لو أن سنايدر فتحه في الطريق ...؟ أو عند الجمارك ...؟» «ربما هو في هذه الأثناء يسبح عبر الأطلنطي. لن نستطيع تخيل الأمر. ليس في أيدينا سوى الانتظار.»
ابتسمت زابينة «ربما يتمسك به.» «من ؟ شتورم؟ في منتصف الأطلنطي؟» لم تملك فاندا إلا الابتسام بعد تخيل الموقف. «لن يفيده شيئا.»
عارضتها زابينة: «فكري بالأمر. إن فعلتنا هذه قد تكون أنقذت شتورم من حماقة كبرى، حتى لو كان سيعارضنا في ذلك الآن، من الممكن أن نوضح له المسألة. وإن اتضح أن المادة مصدر مشاكل جمة كما نخمن، فلا يمكن إلا أن يكون ممتنا لنا.» «لم أنظر للمسألة بهذه الصورة من قبل قط. أنت محقة تماما. نحن ننقذ رأسه كلما أمكن.»
رسمت زابينة ملامح جادة على وجهها وقالت: «هذا يسمى تدعيم المهارات القيادية لدى الرئيس.» من الواضح أن تدريبات التنمية البشرية التي تحضرها في مركز التوظيف قد أفادتها، على الأقل أثرت ثروتها اللغوية ومكنتها من النظر إلى الأمور من زاوية مختلفة. لقد رجت فاندا الرئيس أن يحمل معه طردا إلى كندا؛ هدية عيد ميلاد قابلة للكسر لصديق عزيز، وقد توردت وجنتاها بحمرة الخجل وهي تخبره، ففهم شتورم المسألة خطأ، أو ربما على النحو الصواب. في النهاية كان يبدو أنه ابتلع قصة علاقتها الرومانسية العابرة للمحيطات، وأخبرت بيتر سنايدر بحيلتها، فأراد أن يستقبل الطرد الذي يحوي مادة النانو بنفسه في تورنتو. كان الأمر من الأهمية، وهو من المهارة بحيث يمكنه أن يقلد دور العاشق سعيد الحظ، بل سيشرفه أن يفعل ذلك، وكونه لم يتصل حتى الآن كان يقلق فاندا.
تناقشوا كثيرا حول هذا الأمر في مقهى هافانا، حتى وصلوا إلى نتيجة مفادها أنهم يحتاجون إلى هذه القطعة بشكل حتمي من أجل أن تكتمل صورة اللغز. كان عليهم أن يعرفوا عما يبحثون بالضبط حين يفحصون أنسجة الحيوانات المريضة. كان بيتر سنايدر هو الشخص المناسب، فعنده كل المعلومات اللازمة حول مادة «إن بي 2701»، وبمساعدته يمكن لهم أن يعرفوا إن كانت المادة التي حصلوا عليها من شركة بي آي تي هي ذاتها مادة النانو التي تستعمل جزيئاتها في معامل الولايات المتحدة للأسلحة. فمنذ أن حكت له فاندا عن الوفاة الغامضة لجونتر هيلبيرج، وهو يسأل باستمرار عن نتائج تشريح الجثة، لكنهم لم يتوصلوا لشيء بالطرق الرسمية، وقد وجدوا صديق دراسة سابقا لأندرياس يعمل طبيبا مساعدا في معمل تحاليل مستشفى ميونيخ الكبير الذي توفي فيه هيلبيرج. كان يريد مساعدتهم، لكن ملفات هيلبيرج كانت محظورة التداول، وكان عليهم أن يفكروا في وسيلة أخرى. «هذا الأندرياس، هل يمكن الوثوق فيه؟» سألت زابينة فجأة وكأنها كانت تقرأ أفكار فاندا. «أعتقد أنه وقع في غرامي.» «هذا جيد، لكن سيئ من ناحية أخرى، وماذا عنك؟» «يمكنه أن يكون أخي الأصغر.» «بدأت أقلق عليك يا فاندا، فأنت معرضة لخطر الضمور جنسيا.» «معرضة لماذا؟» «النضوب.» «لا تقلقي علي. أنا أشعر كما لو كنت بقرة حلوبا في أفضل سنوات إنتاجيتها. وأنت كيف حالك مع فولفجانج، هل يسعدك؟» «هو على الأقل لا يسبب لي التوتر ... إلا أن ...» مطت زابينة شفتيها وقالت: «الآن حيث لا عمل لي، كان عليه أن يحاول أن يكون أكثر جاذبية.» «المسكين! لا أتصور أنها مهمة سهلة.» «ما هي؟» «أن يحاول أن يرضي عالمة مفصولة.» أفرغت فاندا كأس النبيذ في جوفها. «ربما الأفضل تجنب العلاقة الحميمة بدلا من ملء الزهرية ورودا باستمرار.» «ليس الأمر بهذا السوء.» بدا أن زابينة استاءت.
أكملت فاندا: «أندرياس يشبهه. أعتقد أنه جبان يفضل أن يتعامل مع النساء في المنطقة اللينة على أن يختبر الحافة. مجرد رخو جبان.» «إنك تحبينه.» «نعم بالفعل، لكن ربما كشاعر عذري.» «وهل لهذا السبب تريدين مساعدته في كشف ملابسات وفاة والده؟»
هزت فاندا كتفيها. لم يكن يعلم بأمر قائمة أسماء العلماء الذين حضروا المؤتمر سوى سنايدر وأندرياس. هل عليها أن تخبرها أن اسمها أيضا كان على هذه القائمة؛ لأنها هي نفسها كانت في نيو مكسيكو؟ أعترف أن الأمر يخصني أيضا بصفة شخصية؟ من العدل أن أخبرها، لكني أعرفها، لن تجعل المسألة تمر دون أن تطرح أسئلة مزعجة. هكذا هي طبيعتها. «وماذا عن توماس؟» وبهذا السؤال عادت زابينة إلى موضوعها الأثير. تنهدت فاندا: «إنه مليء بالأسرار.»
ابتسمت زابينة بضيق: «يا للإثارة! بالتأكيد هو ليس من النوع الذي يغير الحفاضات، ويطعم الحيوانات الأليفة، وينظف الحمام.» «الآن تحديدا تفكرين في إنجاب الأطفال؟» «ربما عندي الآن حقا وقت طويل جدا للتفكير، لكن فولفجانج رجل تربوي، ولاحقا يمكنه قضاء نصف الوقت بالمنزل. لا أتصور أن يحدث لي ما هو ألطف من ذلك، ففي نهاية الأمر، أنا أريد لحياتي أن تستمر، ووجود عاشق ولهان ببساطة أمر يجعل الحياة أصعب من أن تحتمل.» «أها. أفهمك الآن. وراء كل امرأة عظيمة رب منزل بلا شغف!» «يبدو الأمر هكذا حقا، وأنا أريد أن أبدأ في ترتيب حياتي.» «فلتبحثي إذن أولا لنفسك عن وظيفة محترمة.»
انطفأت نظرات زابينة. «أريد أن أخرج من البلد مرة أخرى، وبأسرع ما يمكن. حين يعرف الموضوع هنا لن يقدم لنا أحد أي عمل.» كانت على حق، كانوا كلهم يخاطرون بكل شيء. وأنا؟ أنا ما زلت أستغلهم أيضا.
علقت فاندا بملحوظة متشكية: «لا بد أن ثمة شيئا موجودا اسمه العدالة.» سحبت زابينة زاويتي فمها لأسفل. «سينتهي الأمر إلى لا شيء بعد أن يحدث جلبة كبرى.» «لم يصل الأمر بعد إلى ذلك الحد. ومن قال إن علينا أن نذيع نتيجة تحرياتنا ليعرفها القاصي والداني؟ لكن يمكننا أن نضغط بها على شتورم بحيث يعيد توظيفك ثانية.» «ماذا؟ هل تعتقدين حقا أني يمكن أن أحرك ساكنا من أجل هذا الشخص مرة أخرى؟» «على الأقل إلى أن تجدي وظيفة جديدة.»
نظرت فاندا فوق رءوس الواقفين متتبعة سلاسل الأضواء التي تمتد حتى أكشاك البيع. أسرتها الأضواء الدافئة المنبعثة من المصابيح والمعروضات الملونة. ظلت عيناها معلقتين بمنزل ذي ألعاب خشبية. وقف هناك رجل معه طفلان، وحين أدار وجهه ناحيتها كانت متأكدة: إنها أنف جليزر الضخم تظهر في تناقض لا سبيل لحله مع سائر ملامحه الدقيقة. وبسرعة أدارت فاندا ظهرها لطبيبها، وأحكمت غلق سترتها على رقبتها ووجهها.
سألتها زابينة: «هل تشعرين بالبرد؟ أعرف علاجا جيدا لذلك.» اختطفت بسرعة كأس فاندا وتسللت من بين الجموع لتصل إلى بار النبيذ الساخن. إنك جبانة! سمعت صوتا في داخلها، إنك تختبئين وتتجنبين وتلعبين لعبة سرية. ثم فكرت في نفسها: لكن يتحتم علي أن أعارض تخمينات سنايدر تماما؛ فأسئلته الدائمة صارت أصعب من أن تحتمل. وماذا لو تأكدت مخاوفه؟ ماذا لو بدأ مرض جونتر هيلبيرج الذي مات بسببه في نيو مكسيكو؟ سأثبت له أن الأمر ليس كذلك.
عادت زابينة وضغطت في يدها الكأس الساخن، وقالت: «بالمناسبة، ما آخر أخبار أخيك الأصغر؟»
حكت لها فاندا أنهم اضطروا لبيع منزل والديهم، ولأول مرة تحدثت معها عن شكها في أن أخاها يخفي أمرا ما؛ معلومة أو فكرة عن شيء صحبه والداها معهما إلى القبر. «صوتك حزين.» «ربما لن أعرف ذاك الشيء أبدا، وربما يكون الحال هكذا أفضل. رغم ذلك لا يترك لي الأمر مجالا للراحة، لا سيما أثناء الليل.» «أعرف وصفة مفيدة.» مرة أخرى أطلت من عيني زابينة نظرة مربية متمرسة «ترقدين على سريرك في الاتجاه العكسي، رأسك عند مؤخرة الفراش. سترقد قدماك على المخدة، وهي التي سيكون عليها التفكير.» نقرت جبهتها وقالت: «الخواطر في الداخل لا ترحم.»
اهتز هاتف فاندا المحمول. لقد وصلت رسالة من بيتر سنايدر: وصل الطرد!
لم يتبق سوى عدة أيام ليعرفوا إن كانت تخميناتهم في محلها.
الفصل الثلاثون
الفرضية
بعد أسبوع من الانتظار الطويل وصلت أولى النتائج من أوتاوا. كانت المادة التي جلبتها شركة بي آي تي لتختبر في ماربورج خارجة بشكل قاطع من مصانع السلاح الأمريكية؛ إذ إن لها ذات الجزيئات. التقرير الذي وصل بعد ذلك باثنتي عشرة ساعة حمل تفاصيل أكثر.
في البداية، أكد التقرير على الأخبار الأولية لكن مع تحفظ، ألا وهو: أن الجزيئات ليست متطابقة بشكل كلي، ورغم أن صورها على الميكروسكوب الإلكتروني كانت تشبه بعضها بعضا، مثل أي بيضة تشبه أختها، فإن حركتها كانت مختلفة. قام فنيو المعامل الكنديون بحقن أجزاء صغيرة من العينة بالنقاط الكمومية (وحدات الطاقة)، حتى يتمكنوا من ملاحظة نموذج حركتها بصورة أفضل تحت مجهر الفلورسنت.
في المساء، قبل أن تعود فاندا إلى منزلها بقليل، اتصل سنايدر بها. كان صوته غاضبا: «تخيلي أنك واقفة في كازينو قمار بين طاولتي بلياردو. على كل طاولة عشرون كرة، كلها متشابهة. في كل الأحوال، لا يمكنك التفريق بينها، وعليك أن تقرري على أي طاولة ستلعبين، ولهذا تدورين حول كل طاولة وتضربين كرة عبر الملعب. تتحرك الكرات ويصطدم بعضها ببعض، لكن على الطاولة التي إلى يسارك سرعان ما تعلق الكرات بعضها ببعض، فتنشأ كومات متفاوتة الحجم، ثم لا يتحرك شيء. تتجهين نحو اليمين، فتجدين كل شيء يتحرك. الكرات تدور بعضها حول بعض ويصدم بعضها بعضا. إحساسك يدفعك للإبقاء على اللعبة. القرار لك.»
ردت فاندا بحزم: «لن ألعب في أي مكان.» «أعترف أن النموذج ميكانيكي أكثر مما ينبغي، لكن هكذا نفكر.» «لا أقصد هذا، أعني أني ما دمت لا أفهم هذه الكرات العجيبة القادمة من بوسطن، فلن أجازف باللعب بها، الكرات التي يصدم بعضها بعضا هي تلك المادة في الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي. هل أنا على حق؟» «نعم ولا. تذكرين أن الطرد الذي حصلنا عليه منكم كان يحوي ثلاث أمبولات؟ واحدة منها كانت تحمل جزيئات النانو، والثانية تحوي مركزا للمادة المذيبة، عندما نقوم بإذابة المادة فيها تتصرف جزيئاتها فعلا مثل الكرات التي على الطاولة إلى اليمين. لاحقا أضفنا إليها محتوى الأمبولة الثالثة في طردكم، فتكتلت الجزيئات فورا بعضها مع بعض، تماما كما تفعل الجزيئات في العينة التي تركتها لنا وزارة الخارجية الأمريكية. لا بد أن لهذا علاقة بسطح الجزيء. نحن لا نزال في انتظار نتائج البيولوجيا الجزيئية وصور الأشعة للتحليل الهيكلي.»
أخذت فاندا تفكر. الأمر يبدو وكأن شركة بي آي تي أخذت مادة خاما من مصانع السلاح بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم تمكنت من تعظيم قيمتها بإضفاء خواص غير عادية عليها. جزيئات نانو لا تتكتل لتتوزع بخفة في قنوات التنفس، هذه لم توجد بعد، وهي في الواقع التي يمكنها أن تمثل اختراقا تقنيا لأشكال من العلاجات جديدة تماما.
أخطرت فاندا زابينة ويوهانيس سريعا بالبريد الإلكتروني، ورد الاثنان من فورهما. كانا مقتنعين مثلها أن كرات بلياردو النانو غير منضبطة الحركة هي التي أمرضت فئران زابينة.
تواترت لقاءاتهم هذا الأسبوع، مرة عند فاندا، ومرة في منزل زابينة، وتناقشوا في فرضية عملهم. في الوقت ذاته زاد اهتمام سنايدر بحالة جونتر هيلبيرج. ولم تستغرب فاندا ذلك. كان الطيار قد تحدث عن مادة مسماة «نانوباكت-إن بي 2701»، وكانت المادة التي حصلت عليها شركتا بي آي تي، وسي آر دبليو سي من الجيش الأمريكي تشتركان مع هذه المادة - لنقل - في اسم العائلة. لا يمكن أن يكون هذا الأمر من قبيل الصدفة. هنا يكمن قطب الرحى التي تتقاطع فيها تحرياتهما. في كل الأحوال لم يكن من الممكن التخلي عن فكرة أن هناك رابطة بين تحريات سنايدر في نيو مكسيكو ووفاة هيلبيرج. هاجمتها صور مخيفة. كانت تتقلب في فراشها من صور فئران تنفق من التشنجات المميتة، وهيلبيرج يضحك ثم يسقط رأسه فجأة، وعيون دكتور جليزر التي تخترقها اختراقا. لم تكن تريد لحياتها أن تنتهي مثل نهاية جونتر هيلبيرج. لا، وحاولت أن تحتفظ بهدوئها؛ لأن كل مخاوفها لا أساس لها بالمرة، ستثبت بنفسها أن الأحداث في نيو مكسيكو لا علاقة لها بوفاة طبيب الأعصاب في ميونخ. فليس ثمة تلوث. كانت تهدئ من روعها بقول إن الصداع الذي كان ينتابها صار نادرا ما يداهمها، أما ما يخص رعشة يديها فقد تعودت أن تضم قبضة يدها في حضور الآخرين وتضعها في حجرها، وهكذا لم يكن أحد يلاحظ الأمر، ولأن أحدهم لم يشاهد المسألة كانت تتمكن من تنحيتها جانبا.
لم يكن من الصعب على فاندا أن تقنع زملاءها بسبب اهتمامها بتحريات سنايدر، وأنهم يدينون له بما وصلوا إليه من معلومات. وهكذا بررت لهم في لقائهم قرارها أن تتابع «حالة جونتر هيلبيرج» بنفسها.
كانت مادة البحث محفوظة في قسم علم الأمراض بمستشفى ميونيخ الكبير، كما عبر زميل أندرياس السابق عن رغبته في مساعدتها للوصول إليها. لقد كان الطريق الرسمي مليئا بالمخاطر، كما أن الروابط بين المعاهد لا يمكن سبر غورها، ولا ينبغي لشتورم أن يعرف بأمر التحريات التي تجريها. كانوا قد اقتربوا من هدفهم، وهو الكشف عن لغز المادة التي تستخدمها شركة بي آي تي، وإذا ساورته شكوك بشأنهم فسيمنعهم من مواصلة عمليتهم ويطردهم جميعا، وستضيع كل مجهوداتهم هباء. «لا تراجع»، قالت لزملائها «لقد توغلنا في المنطقة العميقة لدرجة أننا مضطرون لمواصلة البحث.» «حقا؟» بدت زابينة مترددة فجأة.
فحذرت بيترا: «لو فشل الأمر فأنا لم أكن معكم، أتمنى أن يكون ذلك واضحا لكم جميعا.» كان يوهانيس يعض على أسنانه بلا توقف. نظرت زابينة إلى فاندا متفحصة. «ما الذي يدفعك للمواصلة؟»
هزت فاندا كتفيها وبدت فاترة فجأة: «أستطيع أيضا أن أسقط الموضوع.» قالتها وهي تحاول أن تبدو غير مبالية قدر الإمكان. «إذن؟» تأملتها زابينة متفرسة. «ماذا تريدين؟» لم تتمكن فاندا من إخفاء ثورتها، «ففي النهاية، أنا التي تحملت الورطة التي تسببت فيها.»
تدخلت بيترا: «هذا يكفي. بالتأكيد علينا أن نكمل المشوار، ونحن لا نستطيع الآن أن نقرر كيف سنستخدم كل ذلك. فالمعلومات التي لدينا ببساطة لا تزال منقوصة.»
لم تشأ زابينة أن تستسلم وقالت: «أريد أن أوضح أمرا ما هنا. أنا لم أطلب منكم شيئا، كل واحد منكم لديه أسبابه الخاصة للاشتراك في العملية.» أحست فاندا بنظراتها التي تخترقها فقالت: «أنا أريد معرفة الحقيقة.» «أي حقيقة؟»
لم تحر فاندا جوابا. •••
وفعلا في عصر يوم الجمعة كانت تجلس مع أندرياس في القطار السريع المتجه إلى ميونيخ. كان لا يزال الغضب ظاهرا عليه، مرت ثلاثة أسابيع منذ لقائهم الأخير. وكانت فاندا قد انسلت بهدوء وسرية من شقته ذاك المساء بعد أن وجدت قائمة الأسماء، ومؤخرا حدثها على الهاتف بكلمات مقتضبة. كانت فاندا تريد أن تعرف المزيد عن موت والده. لماذا إذن أراد أن يشترك في هذه العملية بميونيخ؟ هذا ما ظل لغزا عليها، لا بد أن فكرة سنايدر في البحث عن جزيئات نانو لدى هيلبيرج قد أقنعته، بخلاف ذلك لم تستطع أن تقتنع أنه يصاحبهم في هذه الرحلة بلا تحفظات. أما مسألة شركة بي آي تي فقد احتفظت بها فاندا لنفسها؛ إذ لم يكن أندرياس ضمن فريق التحريات.
بدءا من مدينة شتوتجارت جلسا بمفردهما في المقصورة.
قالت وكأنها تعتذر: «سيتعين علي أن آخذ بعض العينات من مخه.» أدار أندرياس رأسه نحو النافذة ولم يجبها، زفرت فاندا بصوت خفيض، وفكرت: لا أستطيع أن ألومه. الخطة جيدة، لكن هذا هو كل ما في الأمر. لا يزال الشق الأيسر من مخ هيلبيرج محفوظا في الفورمالين في ثلاجة عيادة قسم الأمراض، عرفوا ذلك من رايموند - ذاك الشخص من معارف أندرياس القدامى أيام دراسته للطب - وهو أمر مستغرب أن لا يزال محفوظا هكذا رغم مرور ستة أشهر كاملة. في الحالات العادية يتم تشريح العضو بأكمله. جال ببال فاندا أن ذاك أفضل بالنسبة لنا لو أعماهم عنه النسيان. كانت تقلب صفحات أطلس التشريح في حجرها. هل سأتعرف أصلا على بنيته؟ كانت مناطق النظام اللمبي التي أرادت أن تأخذ منها العينات ملونة على الرسم. فذكرتها بالصور الملونة التي توضع في كتب رسوم الأطفال ليلونوها، وكذلك كان ملونا ومنظما وسهل التفكيك ذاك النموذج الصناعي للمخ البشري الذي أحضره لها يوهانيس ليريها عليه كيف يمكن أن تستخرج أجزاء صغيرة من الوطاء (تحت المهاد)، وأخرى من القنوات الشمية من أسفل عبر الفص الصدغي، ثم الحصين؛ إذ يخمن سنايدر وجود جزيئات النانو في تلك المناطق. وهو يتكهن أيضا أن جزيئات النانو التي تم رشها من الطائرة لا بد وأنها تسللت عبر فتحة جهاز التكييف إلى داخل الحافلة، وقام الركاب باستنشاقها. شعرت فاندا بالبرودة تسري في أوصالها، فالراجح أنهم كانوا يجلسون مثلهم مثل أرانب التجارب في ذلك القفص المتحرك، وحسبما يقول سنايدر فإن الكوكتيل الذي تم رشه في نيو مكسيكو تضمن مادة «إن بي 2701»، وهي التي أعطتها له معامل إدارة السلاح الأمريكية لمقارنتها بالتحاليل الأخرى، وهي أيضا المادة الموجودة آثارها في نانوسنيف، وكان عليه أن يعد الأمريكيين بإعطائهم إيضاحات غير منقوصة حول النتائج. لقد كان لدى سنايدر من الذكاء ما يكفي ليعرف أن ذراع سلطات دولة الجوار كانت ستطول بالدرجة التي تمكنها من مصادرة العينات برمتها، لو لم يوافق على اتفاق التعاون مع الأمريكيين. كان رفضه ليودي به وراء الشمس منذ مدة طويلة. ومن جانبه كان قد تعمق في المشروع بدرجة يصعب معها المجازفة بعدم معرفة المزيد عن «إن بي 2701». كانت وجهة نظر سنايدر هي أن جزيئات النانو وصلت إلى دماغ هيلبيرج عن طريق قنواته الشمية، وأحدثت التأثير الضار الذي أحدثه نانوسنيف في الفئران بمعامل ماربورج، وكان سنايدر يستند في فرضياته إلى الأعراض العصبية مثل الرعشة واضطراب الحركة التي لوحظت على هيلبيرج وعلى حيوانات التجارب على حد سواء. فرضية تتسم بمزيد من الجرأة برأي فاندا، في حين ثبت أن جميع تحاليل عينات التربة المستجلبة من نيو مكسيكو في غاية الصعوبة. لقد كانوا يتلمسون طريقهم في الظلام. ربما كان السبب يرجع لبعد المسافة الزمنية. ثم ألا تصاغ الفرضيات من أجل دحضها؟ وهذا تحديدا ما ستقوم هي به.
كلفها يوهانيس أن تنتبه لعلامات النخر والضمور. رائع. أنا أصلا لا أعرف الشكل في الحالة الطبيعية الأصلية، وكان الأفضل أن تطلب من زميلها أن يرافقها، لكنه أفهمها أن الأراضي الغريبة مناطق محرمة عليه، لكنه سيؤازرها عبر الهاتف، فأخذت معها السماعات في حقيبة الظهر.
لا يزال أندرياس ينظر من نافذة المقصورة: «ماذا تعرفين عن هذه الجزيئات؟» يبدو أنه وجد لغة للحديث من جديد. «هي بلورات دقيقة تبدو تحت المجهر الإلكتروني ذات زغب رقيق مهوش يحيط بها من كل الاتجاهات. ثمة فيروسات تكاد تتخذ نفس الشكل تماما.» «وكيف تعرفون أنها ليست فيروسات؟» «سؤال وجيه. لأن معظم الفيريونات مكعبة.» «فيريونات؟» «هذا هو جسم الفيروس، إنه الهيكل الذي تجده عندما تقوم بإعادة بناء ثلاثي الأبعاد بمساعدة تحليل الأشعة السينية. جزيئاتنا تتكون من عشرين مثلثا متساوية الوجوه؛ لذلك اسمه عشروني الوجوه المنتظم.» «جسم أفلاطوني.» «ماذا؟» «سيان. كيف تكونين متأكدة تماما أنه ليس فيروسا؟» «قشرتها، لا علي أن أقول قفيصتها. هذه القشرة المكعبة هي في الحقيقة تقليد مثالي لفيروس شلل الأطفال بقطر يصل إلى عشرين نانومترا إلا قليلا، وهو فارغ من الداخل.»
قطب أندرياس جبينه.
أوضحت فاندا: «إنها لا تحمل الجينوم . من الممكن القول إنها فيروس شلل الأطفال بلا دماغ.» ثم هزت كتفيها وأكملت «أو بلا روح؟»
إنهم يعرفون منذ الأمس، فقد أرسل سنايدر نتائج تحاليل الجزيئات الحيوية. لنقل إن «إن بي 2701» ما هو إلا سرقة علمية. لقد نجح العلماء في معامل مصانع الأسلحة في الولايات المتحدة عمليا في تقليد بنية فيروس شلل الأطفال في أنبوب الاختبار، وقاموا بذلك بنفس البديهية التي يقوم بها الصينيون بتقليد السيارات الغربية، ولكن على خلاف الصينيين كان يمكنهم الحصول على براءات اختراع على منتجهم المقلد. وقامت شركة بي آي تي بإدخال بضعة رتوش عليه وزودته ب «جين»، لكنها لم تشأ أن تخبر أندرياس بذلك؛ إذ كان عليها أن تستوضح الأمر مع نفسها أولا حول معنى هذه المعلومات الجديدة بالنسبة لها.
حين وصلا محطة آشافينبورج دخل مقصورتهما زوجان شابان، فيما حاولت سيدة بدينة وراءهما أن تشق طريقها بأمتعتها الثقيلة. عرض أندرياس عليها المساعدة، لكنها أصرت أن تترك الحقيبة الكبيرة في الممر، وحين تحرك القطار ربطت منديلا حول رأسها. تناثرت رائحة ماء كولونيا في الهواء وغثت نفس فاندا التي كانت تتنفس بصعوبة. لم تكن الرائحة أفضل في الحمام، كانت فقط مختلفة. لم يكن ثمة مفر؛ فقد كان القطار محجوزا بالكامل بعد ظهيرة يوم الجمعة. •••
استقبلهما رايموند هالر في المحطة واصطحبهما إلى شقته التي كانت عبارة عن جحر متواضع في منطقة مظلمة. لم تكن فاندا تعرف ميونيخ جيدا، ففقدت الاتجاه بمجرد أن صحبتهما. كان هالر يتحدث بلا توقف، وحينما سلم لأندرياس مفاتيح قسم علم الأمراض، لمعت حبات عرق على أنفه. كان شق دماغ هيلبيرج موجودا في دلو أبيض يحمل رقم 173 / 05، كان عليهما أن يحفظا الرقم، ثم أعطاهما خريطة للمبنى، ورداءين مخصصين للاستعمال مرة واحدة، وصندوقين من قفازات لاتيكيس، وكيس قمامة رماديا. وعلى أحد الصندوقين كتب حرف «إم» بالخط العريض، وعلى الآخر كتب رقم «7»، ثم توجه إلى أندرياس وسأله: «هل كل شيء على ما يرام هكذا؟»
أومأ أندرياس إليه بالإيجاب. كان عليهما أن يرتديا الرداءين قبل أن يدخلا إلى مبنى علم الأمراض، ويغيراهما عند اللزوم، لكن من الضروري ارتداء القفازات دائما، ثم يلقيا بالمخلفات في كيس القمامة، والأفضل أن يتخلصا منها عندما يعودان إلى ماربورج، لقد فكر في كل شيء، ثم وضع يده على كتف أندرياس قبل أن يذهبا. كان بينهما ثقة جعلت فاندا تشعر أنها خارج نطاقها. كان أندرياس غريبا عليها حين عاد إلى السياق البافاري.
قرب العاشرة استقلا مترو الأنفاق إلى محطة جروسهادرن. «لماذا يساعدنا؟» أرادت فاندا أن تعرف.
ابتسم أندرياس وقال متوترا: «كنا صديقين حميمين.» ها هو يبتسم من جديد رغم التوتر.
حين سارا أسفل شارع ماركيونيني غامت أعينهما بالدموع بسبب الرياح الثلجية. كان الطريق إلى مبنى علم الأمراض يمر في خط مستقيم عبر منطقة ضخمة مخصصة لوقوف السيارات، وقد بدت المساحة بالأماكن الفارغة بين السيارات الفرادى كمنطقة أقفرت بعد أن تم إخلاؤها، وعلى جانبي الطريق تمدد بساط ثلجي هو كل ما تبقى من الثلج الذي هبط ليعلن بداية الشتاء، فأفزعه ارتفاع درجات الحرارة المفاجئ في ماربورج. يسارا لمعت نوافذ المبنى الرئيسي الذي بدا بكتلته الحجرية الضخمة وكأنه المركبة الفضائية أوديسا 2001 سقطت وسط الأرض المنبسطة. كان مبنى علم الأمراض يقع على الجانب الأيمن. ومض ضوء الطوارئ في المدخل عبر الواجهة الزجاجية للمبنى. قال رايموند إن المبنى يصير وحيدا مساء أيام الجمعة، وبهذا تقل فرص أن يراهما أحد. كانت فاندا ترتجف؛ فقد تذكرت رغما عنها حادث مداهمتها في مركز الأبحاث. كان الرعب قد استقر في عمق لم تشأ الاعتراف به، وكانت سعيدة أنها ليست بمفردها. فتح أندرياس باب المدخل كأمر مفروغ منه بعد أن ناولها قفازا ومصباح جيب، ثم سار نحو هدفه عبر الممرات المظلمة، فتبعته. توقفا أمام باب مزدوج، وسادت الظلمة وراء نوافذ الباب المستديرة، ثم تقدم أندرياس. كان أطلس التشريح القابع في حقيبة ظهر فاندا ثقيل الوزن، كما أن القاعدة الضخمة لمصباح الطاولة كانت تضغط على عمودها الفقري. أم هل كان ذلك مقبض سكين التشريح؟ كلا، لقد لفت أدوات التحضير جيدا بالسيليلوز، كما وضعت العلب البلاستيكية المخصصة لعينات الأنسجة في كيس مبطن. ذاك الشيء الذي على ظهرها صرف انتباهها قليلا. وفجأة تعثرت وانحنت ثم سقطت على ظهرها، فانعكس ضوء مصباح الجيب على السقف بسرعة. لقد كان وزن حقيبة الظهر من الثقل بأن جعلها تترنح إلى الوراء. يا إلهي المشرط. ظلت تترنح وهي تفكر: لا أريد أن أموت، ليس هنا. لكنها سقطت، لقد سمعت الصوت، ليس ثمة توقف، ولا شيء يمكن عمله. وفجأة أمسكت بها يد قوية من ورائها حملتها فوق ذراع. في حين وضعت اليد الأخرى على فمها، وبين جسديهما علقت حقيبة الظهر مثل أكمة تملؤها النفايات.
همس أندرياس في أذنها: «ششش، ستوقظين الجميع هنا.»
انحنت فاندا قليلا إلى الأمام، وهي تتصبب عرقا. «ماذا كان ذلك؟»
أسقط ضوء المصباح على الأرضية، في مكان ما كانت تغطية الأرضية بارزة قليلا. واصل أندرياس سحبها إلى الغرفة. أصدر الباب طقطقة منخفضة الصوت بمجرد أن أغلقه وراءهما، فتنفست فاندا بعمق.
قالت فاندا وقد تملك منها الخوف: «هيا، لنكمل.» أسقط أندرياس ضوء المصباح على وجهها، فانعكس على عينيه بعض الضوء الشاحب. «هل أنت متأكدة؟» سألها بقلق باد، ازدردت ريقها ثم أومأت إليه برأسها. أعطاها إشارة بأن تبقى في مكانها، ثم اختفى عبر باب على الجانب المقابل.
كانت الغرفة تعبق برائحة الفورمالين، فتركت فاندا ضوء مصباح الجيب يدور في الغرفة التي بدت جرداء. فومضت طاولات مصبوبة من الفولاذ الأبيض المقاوم للصدأ. لا جثث، ولا توابيت. اكتشفت طاولة عمل مرفوعة في أحد أجزاء الغرفة، كما وجدت على أحد الحوائط الجانبية مقبسا لسلك التوصيل مثل الذي معها في حقيبة الظهر، فتركتها تنزلق من فوق كتفيها على إحدى طاولات القسم وفتحتها. كانت أدوات التحضير بما فيها السكاكين قد انزلقت من لفتها وتوزعت في الكيس، لكنها وجدت كل شيء على ضوء مصباح الطاولة. وضعت السكين ذا الحد الطويل المزدوج على يمين حافة اللوحة البلاستيكية البيضاء التي كانت ستشرح عليها، إلى جوارها المشرط، ثم الملقاط الجراحي. دست نفسها في واحد من الأردية التي تستعمل مرة واحدة ، وأخرجت صندوق القفازات ووعاء العينات، ثم وضعت كيس القمامة إلى جوارها، وضعت كل شيء في متناول يدها، ثم السماعات على رأسها. نجح الاتصال بالهاتف المحمول، وكان رقم يوهانيس يومض بالفعل على خانة استدعاء الرقم المطلوب. انتظرت فاندا، وأمسكت يديها في ضوء المصباح. كانتا ترتعشان ارتعاشا خفيفا، وترتفعان وتهبطان مع كل شهيق وزفير، وبالتدريج بدأت فاندا تهدأ.
عاد أندرياس يحمل وعاء أبيض، كتب رقمه على الغطاء بطرف قلم أسود. فناول فاندا الوعاء صامتا، ثم اتخذ موقعه أمام فتحة المدخل حسبما اتفقا.
الفصل الحادي والثلاثون
شوكولاتة قديمة
قدرت فاندا أن وزنه لا يزيد عن 700 جرام؛ وزن شق مخ هيلبيرج لا يزيد عن القرنبيط الذي اشترته مؤخرا من السوق الأسبوعية بشارع فرانكفورت. إذن الدماغ كله يصل وزنه إلى كيلوجرام ونصف. كرأسي قرنبيط متوسطي الحجم، هل هذا طبيعي؟ قلبت فاندا الشق الأيسر في يديها بحرص. كان العضو عاجي اللون، سميكا، لكن ليس صلبا بأية حال مثل مرجان مخ متحجر. لم تمس فاندا مخا بشريا من قبل قط. داخليا تراجعت خطوة إلى الوراء، لم تكن تريد أن تفكر في هيلبيرج الآن، فقد اختفى وراء تلافيف المخ، وبين ثنياته وتجعيداته الفنية، بين الفص الجبهي والفص الصدغي، ووراء الموضوعية التي تحاول أن تمارس بها عملية التشريح. فقط البرودة التي زحفت من أصابعها إلى ذراعيها، جعلت قشعريرة تسري في بدنها كله. كانت رائحة الفورمالين تخز أنفها سلفا. سيتعين عليها العمل بسرعة. تعرفت على قنوات الشم في الجزء السفلي. لم تكن سوى شريط يبلغ طوله خمسة سنتيمترات، يبدأ من رأس صغير هو البصيلة الشمية. بحذر استخرجت حزمة الألياف ووضعتها على غطاء الوعاء البلاستيكي. كان كل من المخيخ وجسر فارول الموصل إلى النخاع المستطيل، قد تم فصلهما. فنظرت فاندا في الوعاء البلاستيكي فلم تجدهما. ظلت كتلة المخ في قبضة يدها اليسرى بينما هي تتفحص أجزاءها الداخلية، إذ كشفت عنها من خلال شق متمكن بين نصفي المخ. كانت فاندا تفكر أنها أمام تمثال منحوت يتعين عليها أن تستنتج مغزاه. سيتعين أولا فهم ذاك الجزء الصغير الذي استأصلته. كان شاحبا مثل حبة فول صويا، لكن أصغر بكثير، لا بد أن هذا هو الجسيم الحلمي الأيسر بالجهاز الحوفي. من هناك دخلت بسبابتها في انحناء خفيف حول منطقة تميل للون الرمادي البني، تهجع بين الثنايا المتشققة مثل بحيرة في قلب جبل. وجدت طريق الشاطئ أصفر اللون عبر الجزء الشمالي الرفيع من هذه البقعة العميقة. كانت فخورة بنفسها أن تمكنت من التعرف على المهاد والقبوة دون مساعدة يوهانيس. المهاد يعد هو البوابة للوعي، أما القبوة فتربط الجسيمات الحلمية بقرني آمون
Cornu Ammonis ، فتسمح للأحاسيس والخبرات بالمرور مانحة إياها ما يشبه ختم الدخول، وبغير هذا لا يمكن استدعاؤها من الذاكرة بتاريخها الصحيح، مما يمكن من تتبع تسلسل حدث ما في الماضي. ظنت لوهلة أنها تقف ثانية في حجرة المعيشة بمنزل والديها، شاعرة بالعجز كما في الحلم الذي يتكرر. ابتلعت الغصة التي ولدت في حلقها. الآن فقط لاحظت فاندا أنها كانت تتنفس من فمها؛ إذ كان أنفها مسدودا تماما، وكذلك عيناها كانتا ملتهبتين من الفورمالين. سحبت منديلا ورقيا من العلبة المثبتة على الحائط وتمخطت. لم يجدها ذلك نفعا. فحملت مصدر الأذى تحت مصباح الطاولة وتأملت بنيته التي اكتشفتها للتو. هنا في الجهاز الحوفي تختفي طبيعتنا البرية: الهروب، والإطعام، والقتال، والجنس. في هذه المنطقة أظهر علاج النانو الذي استعملته زابينة على الفئران التأثير الأكبر، كما أن هنا اكتشف يوهانيس سحجات كبيرة الحجم عند تشريح أمخاخ الفئران. أغلقت فاندا عينيها اللتين أخذتا تقطران بسبب التهيج غير المعتاد، كانت بضع دمعات قد انسابت على وجهها. لم تتمكن من اكتشاف شيء غير طبيعي، لكنها أيضا ليست خبيرة في الأمراض العصبية. ومن ثم، حان وقت الاتصال بيوهانيس.
أجاب يوهانيس اتصالها فورا، فوصفت له فاندا ما تراه.
أراد أن يعرف: «هل تستطيعين التعرف على المادة السوداء؟» مسحت فاندا جذع المخ المشقوق أسفل الجسيمات الحلمية. «لا تستحق هذا الاسم. فلونها أحد درجات اللون الرمادي إن كان لها لون.»
علق يوهانيس باقتضاب: «ناقصة الصباغة»، وكان يدون الملاحظات ، ثم قال: «ألم يكن هيلبيرج يرتعش؟» «ماذا؟» نظرت فاندا ناحية أندرياس الذي كان يقف أمام الباب يراقب الطرقة. «أقصد مرض باركنسون، هل كان يعاني من الشلل الرعاش؟» «هل من الممكن أن نتحدث عن ذلك لاحقا؟» لاحظت فاندا أنها بدأت تتوتر. «أفضل أن تخبرني ماذا بعد؟» «هل تستطيعين رؤية النتوء أسفل الجهاز الحوفي؟ إنه الوطاء، ومنه يمتد الحصين. لا بد أنك تعرفت عليه. إنه مركز كل ما يدخل إلى أنوفنا، إن كانت جزيئات النانو قد دخلت فلا بد أننا سنجدها ها هنا. لكن ينبغي علينا أولا أن نواصل فحص كيف يبدو الوضع من الداخل. خذي قطعا أماميا على نفس ارتفاع الجسيمات الحلمية.» لم تعجبها بتاتا ومطلقا النبرة التي يحدثها بها، كما أن ما يطلب منها يوهانيس فعله كان يضايقها بشدة. «ألم نتفق بالأمس على أخذ بعض الأنسجة فحسب حتى لا نلفت النظر، والآن وفجأة علي أن أشرح هذا الشيء؟ إن أي عامل في قسم التشريح سيلاحظ أن أمرا ما ليس على ما يرام.» تمخطت فاندا بصوت عال. «هل علي أن أواسيك، أم لعلك تحتاجين مذيبا للمخاط؟» ألا يستطيع ألا يغير الموضوع. تنحنحت فاندا، فكان عليه أن يسمع أنها غاضبة.
أكمل يوهانيس بنبرة أكثر جدية: «لقد أظهرت فئران زابينة النافقة أعراض عته مبكر. وحيواناتك أيضا إن كان من المسموح لي أن أذكرك بهذا ... هل أصابك ألزهايمر فنسيت أننا نبحث عن تشابهات.» فكرت فاندا وهي تشق بالسكين «ليتك تغلق فمك.»
كانت هذه واحدة من اللحظات النادرة التي تنجز فيها عدة مهام في آن واحد، والتي عادة تسعد بتذكرها، إلا أن هذه المرة خاصة جاءتها كصدمة. لقد انحشر سكين التشريح في منتصف شق مخ هيلبيرج حين انطفأ النور فجأة، ووجدت أندرياس أمامها يهمس بأمر ما. لم تفهم منه شيئا لأن ثرثرة يوهانيس سدت أذنيها. حبست فاندا أنفاسها، اللعنة، سأفسد كل شيء. هذا الأحمق. لماذا؟ أكملي! من يقول ذلك؟ أعمى؟ أكملي! ارتطم السكين بالرف السفلي محدثا طقطقة مكتومة. شعرت فاندا كيف أن كتلة الأنسجة تنحل بعضها من بعض. وفي الضوء الشاحب الذي تسلل من المدخل إلى الغرفة رأت أندرياس، كان ينظر متوترا نحو الطرقة. رفع يده في إشارة لها أن تظل ساكنة.
سأل يوهانيس بنفاد صبر: «ما الذي يحدث؟»
همست فاندا: «ششش ... أخشى أن أحدهم سيزورنا.» «اللعنة!»
مرت لحظات كدهر كامل، ثم أرخى أندرياس ذراعه ببطء.
قال أخيرا: «يمكنك مواصلة العمل.»
وماذا كنت أفعل طوال الوقت يا ترى؟ لم تبح بخاطرتها، لم تكن منتبهة ولهذا لم تلاحظ إشارة أندرياس التحذيرية، مما اضطره لترك موقعه فحضر إليها وأطفأ نور مصباح الطاولة.
ردت بصوت منخفض: «شكرا.» «لا بأس ... ليس هناك ما يستوجب الشكر.» جاءها هذا الرد من السماعات. «إلى أين وصلت؟» في النور أخذت تقيم المحاولة التي أجرتها في الظلام، لم تكن سيئة البتة. «أعتقد أني أعرف الآن ما هو المحلل الأعمى.» كان ذلك مصطلحا قرأته كثيرا في الأبحاث العلمية المنشورة، كان يشير به مؤلف البحث إلى أن تجربته نجحت تحت معايير موضوعية، بمعنى أن الشخص الذي يقيم النتائج، يعطي المستحضرات أرقاما مفتاحية لا يعرفها، بحيث لا يعلم إلى أي مجموعة تجارب تنتمي حتى لا تؤثر توقعاته على النتائج. «هو ليس بالأمر المادي، بل نوع من التعمية الذهنية.» رد يوهانيس فورا. «لا ينبغي عليه أن يعرف ما الذي يراه.» «فعلا.» زفرت فاندا. صارت الآن تحمل ربع مخ في كل يد ناظرة إلى مساحات القطع الملساء. هزت رأسها في إحباط، كانت لتعرف أكثر لو أن ما بيديها ديدان الأرض. «كم أفضل لو كان الجهاز العصبي مصنوعا من الحبال. بل لو كان قطعة خبز لكان أوضح.» «هل ثمة غرف مجوفة كبيرة؟» «غرف مجوفة؟» «نعم، شبيهة بقطع الجبن السويسري؟» «لا، هي أشبه بحبة حلوى محشوة بالنوجة من الداخل، ومكسوة بطبقة من الشوكولاتة التي تغير لونها من الخارج. لحاؤها مبرقش قليلا. ثقوب! الأوعية الدموية متباعدة ومستديرة. مفتوحة.»
غمغم يوهانيس: «هذا شكل تعفن الدم لا العته. نحتاج التقاط صور بالضرورة.»
انتهوا بعد نصف ساعة. بعد معارضة وبامتعاض وافق أندرياس على طلب يوهانيس والتقط بعض الصور بكاميرته الرقمية. وضعت فاندا عينات الأنسجة في أوعية بلاستيكية بعد أن ملأتها ببعض الفورمالين الذي أخذته من الوعاء الأبيض. أعاد أندرياس الوعاء إلى مكانه في الوقت الذي قامت هي فيه بوضع المصباح، فالسلك الكهربي، وأدوات التشريح، وعينات الأنسجة في حقيبة ظهرها. هذه المرة تأكدت أن السكاكين موضوعة بأمان. غادرا قسم علم الأمراض من نفس الطريق الذي جاءا منه.
سار أندرياس أولا. كان يبدو مثل الزبال وهو يحمل كيس القمامة تحت ذراعه. وفي الخارج استقبلتهما سماء صافية تتلألأ فيها النجوم، أفادهما الهواء النقي. لم يكن يراقبهما سوى كوكب المريخ الأحمر. «لماذا هو شديد الحمرة؟» أرادت فاندا أن تعرف. خبأ أندرياس رأسه في رقبته. «إنه خجلان منا.» «هل يؤنبك ضميرك؟»
هز أندرياس كتفيه. سارا على طريق العودة المؤدي إلى محطة مترو الأنفاق صامتين، وكان رايموند قد عرض عليهما المبيت عنده.
جاء سؤال أندرياس مترددا وكأنه لا يريد أن يطرحه: «هل يمكنك أن تقولي شيئا الآن؟» هزت فاندا رأسها بالنفي. في الواقع، كان يمكن لها أن تكون راضية. إن كانت قد فهمت يوهانيس على النحو الصحيح، فإن النتائج الميكروسكوبية التي وجدها لدى حيوانات التجارب لا يؤكدها ما وجدوه عند جونتر هيلبيرج. «أخشى أن الأمر أكثر تعقيدا مما نظن.» وتعجبت من كلماتها التي تلفظت بها.
الفصل الثاني والثلاثون
جزيء عظيم الشأن
كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق حين دخلت فاندا المعهد يوم الاثنين. تولت بيترا مباشرة العينات. يوهانيس أراد أن يتناقش معها بصورة ملحة حول الصور التي أرسلتها له فاندا في اليوم التالي فورا من ميونيخ.
وجدت في صندوق بريدها رسالة من قسم علم الفيروسات، ألصقت عليها ورقة صغيرة صفراء مكتوبة بخط لا يكاد يقرأ، تعرف منه أنه لشخص أعسر تم تدريبه ليكتب باليد اليمنى. كان الزميل يعتذر أن التحاليل استغرقت كل هذا الوقت، ويقرر أن النتيجة غريبة بحسب ما ستقرأ بنفسها. بخلاف هذا فإن الفيروس ليس نادر الانتشار بين الفئران، صحيح أنه مزعج لكنه لا يمثل مشكلة.
في الطرقة اصطدمت بالرئيس الذي طلب منها أن تفرغ نفسها ذلك المساء. ناولها الدعوة بعد أن مر من جوارها، في حين أطلق نعلاه صريرا على بلاط الأرضية الصناعي. الضيف المحاضر سيأتي اليوم مساء من روتشيستر، وهذا أمر بالغ الأهمية، وبالتأكيد سيكون لديهما الكثير من الأحاديث يتبادلانها. ألم تكن فاندا هناك؟
أومأت فاندا، وكانت قد نسيت تماما أمر الندوة التي ستعقد بالمعهد. «إذن في تمام الثامنة في مطعم ألتر ريتر.» صاح شتورم قبل أن يختفي في مكتب السكرتارية.
اليوم تحديدا كانوا متفقين على اللقاء في مقهى هافانا؛ إذ كان عليهم مناقشة العديد من المسائل، كما أنها لا تشعر بالراحة كلما تخيلت أنها ستقابل أحدا من روتشيستر. كانت تعرف المحاضر معرفة سطحية؛ إنه شخص مهم وعلى الأرجح صديق رئيسها السابق. لم يكن بها أدنى رغبة للتحدث في قصص قديمة.
واساها يوهانيس بقوله: «حاولي أن تعتبريها فرصة لمراقبة العدو، وبغض النظر عن أي شيء آخر تطلبين لنفسك أغلى طعام.» لم يقنع هذا فاندا كثيرا.
في هذه الأثناء توافرت معلومات جديدة كان ينبغي تصنيفها أولا، وكانت تعتمد في ذلك على رودي، جهاز الكمبيوتر الخاص بها. «صباح الخير أيتها الجميلة.» حياها هذه التحية في هذه المرة، وكانت فاندا فخورة أنها تمكنت من برمجته ليقول ذلك. «شخص آخر يريد أن يطويني تحت جناحه»، غمغمت باسمة وأخذت تنقر أحدث ما توصلت إليه تحرياتهم.
سنايدر لم يتركها تنتظر طويلا أي جديد يخص «إن بي 2701»؛ فبالأمس بعث لها رسالة إلكترونية يشرح لها فيها تفاصيل أخرى تخص المادة الخاصة بشركة بي آي تي، والتي تشبه كبسولة الفيروس. لقد كانت زابينة على صواب في تخميناتها. لقد كانت جزيئات النانو تحمل على سطحها مستقبلات خاصة لخلايا الشم المخاطية. كانت فاندا تتخيلها مثل قنافذ البحر تتخللها هذه الجزيئات البروتينية من جميع أنحائها، وبهذا تتعاظم فرصتها في الرسو على الغشاء المخاطي المبطن للأنف.
إلا أن السلوك الخاص لجزيئات النانو هذه لا يزال يسبب لسنايدر إزعاجا كبيرا كما كتب في رسالته؛ إذ اتضح أن المادة العازلة التي يجب أن تتناول مع هذه الجزيئات عبارة عن مذاب الكالسيوم عالي التركيز. ووفقا لهذا، فإن ظاهرة الرفض العجيبة التي حاول أن يشرحها بتمثيل كرات البلياردو يكون مردها إلى المبدأ البسيط وهو «الأقطاب المتشابهة تتنافر». على الفور اتصلت فاندا بزابينة لكي تشاورها في الأمر. «جزيئات نانو حرة في محلول كالسيوم مائي عالي التركيز. كيف لي أن أتخيل ذلك؟» «الفكرة ليست سيئة.» كان رأي زابينة التي بدا أنها فهمت ما يقصده سنايدر بكلامه. «ليتم ذلك لا بد من شحن سطح الجزيئات بشحنات سالبة، على سبيل المثال من خلال غطاء من أيونات الفوسفات. الشحنات السالبة تتنافر، وحين تكون محاطة بطبقة حاملات الشحنات الموجبة مثل أيونات الكالسيوم يمكن أن ترش من خلال البخاخات بشكل رائع.» «هل تعنين أن ذلك يشبه البحر، حين يقذف الرذاذ ملحا في الهواء، فنتذوقه نحن على ألسنتنا؟» «نعم، القشرة الملحية التي تعلق على شفاه الواحد منا لتحلي قبلاته ليست إلا جزيئات نانو متبلورة.» أكدت لها زابينة وسألتها: «هل جربت ذلك على الشاطئ من قبل؟»
ضحكت فاندا قائلة: «هذه مسألة مرملة أكثر منها مملحة!» «من الممكن أن ينجح ذلك تماما. تتحول الجزيئات في الأنف إلى بلورات لأن طبقة السائل تتبخر.» استطاعت زابينة تغيير الموضوع كما تغير الحرباء لونها. «لكنها لا تسيل بعضها مع بعض كما العادة في البخاخات؛ لأن الجزيئات لا تزال تتنافر. تصل إلى الأغشية المخاطية وتظل عالقة هناك بما عليها من مستقبلات ...» «... ويتم امتصاصها بواسطة الخلايا.» أكملت فاندا الفكرة. «لحظة. هذا لا يتم إلا إذا كانت الجزيئات محايدة؛ أي لا تحمل شحنات.» قالت زابينة مقاطعة ثم همست: «المكون الثالث.»
تذكرت فاندا أن الصندوق كان يحوي ثلاث مواد، اثنتان منها فقط هما ما تدخلان الأنف. «ماذا عنه؟» «من الممكن أن يكون أحد الإنزيمات. الفوسفاتيز ربما، ليتصدى للأيونات السالبة على بوابات الخلايا مباشرة ويعادلها.»
قالت فاندا بأسى: «لن يمكننا أن نتثبت من ذلك، فقد نفدت المواد.» «لماذا لم أعرف هذا بنفسي؟» لم يكن من الممكن تجاهل أن زابينة غاضبة. «أفهمك. من الممكن أن يكون كذلك، لكن نحن نتكهن. ما الذي يفيدنا أن نعرف كيف يعمل «إن بي 2701» بالتفصيل؟ أفضل أن تخبريني أي مسافر مهم نحن نتعامل معه؟ من ذاك الذي استقبل في قاعة كبار الزوار، وألبس بدلة الفيروس ليتم رشه في مخ الفئران؟» «كبار الزوار؟» «لنقل إذن: شخص عظيم الشأن أو بالأحرى جزيء عظيم الشأن.»
تنهدت زابينة. «رغم كل شيء نحن نعرف أنه كود جيني.» •••
بروفيسور هارتموت فيبيلينج، معلمها في الفصل الدراسي الأول كان ليتحدث عن الحد الأدنى من المعلومات، خلافا للحد الأقصى من المعلومات التي تقترب من الحدود العليا للحقيقة؛ لأنها تشتق من التجارب. ليس ثمة خيار آخر. كما أنه ليس من النادر أن يتجاور الاثنان بصورة تكاد تكون لصيقة، وعلى الباحث أن يتعلم أن يرضى بالقليل، كانت هذه هي وصيته للجيل الصاعد من العلماء. لكن ما البحث سوى التشجيع على إعادة البحث من جديد؟
لقد كان رودي هو من قاد فاندا إلى خيط مثير في بحثها ذاك الصباح؛ إذ أثبتت ذاكرة البيانات أنها كنز ثمين، كما أن البرنامج صار يصنع تركيبات لغوية أفضل من ذي قبل. إن المستخدم السابق لهذا الكمبيوتر كان يبحث عن الأعراض السمية لمادة البيلوباليد، وهي إحدى مكونات مادة الجنكة التي ذاع صيتها كمادة ذات تأثير معجز ضد النسيان وشيخوخة خلايا الأعصاب، ولهذا لم يكن مستغربا أن مصطلحات البحث مثل «العلاج الجيني العصبي» أو «تجدد» ولدت إضاءات كثيرة بمساعدة رودي. لقد أثارت فاندا الطريقة التي قفزت بها على الشاشة دراسات بكاملها حول العته في الشيخوخة، وموت الخلايا، والحماية العصبية. لقد جعل التتابع اللاهث لنتائج البحث فاندا متوترة. ورغم أن عقلها كان يكبح جماح أفكارها، فإنها ظلت تخشى أن يستهلك الموضوع رودي تماما فيما قد يسمى بالنضوب الرقمي، ثم توقفت الشاشة فجأة. سارت ببطء من الخلف للأمام في النص، وقلبت الشاشة صفحة صفحة، وقرأت سريعا الفقرات الملخصة، إلى أن اصطدمت بمقطع من مقالة بجريدة: «شباب إلى الأبد - الآليات الجينية تجعلنا نشيخ - كيف يمكننا أن نحافظ على نشاط جيناتنا ». لم تتمكن من معرفة السبب، لكنها استشعرت حقيقة المعرفة مثل صعقة كهربية سرت فيها فشدت ظهرها ووسعت عينيها. كادت تطير من الفرح إذ كانت متأكدة تمام التأكد أن هذه هي الإشارة التي ظلت تبحث عنها طول الوقت.
الفصل الثالث والثلاثون
خزف مايسن
وقفت فاندا أمام مطعم ألتر ريتر بعد الثامنة بقليل. كانت قد جلست عدة مرات في فصل الصيف في الحديقة المجاورة له مع زابينة تراقبان الناس في المطعم الراقي. وكانت قادمة من المعمل، لا غيرت ملابسها ولا عدلت زينتها، وإنما ارتدت السترة الرمادية التي تعلقها دوما في المعهد. مؤخرا صار من الممكن غلق أزرارها دون أن تبدو مشدودة عند البطن. وحين وقفت على الطريق الحجري بالأسفل تقرأ شاردة الذهن قائمة الطعام في المطعم الراقي، خطرت ببالها ثانية نتيجة البحث التي جاءتها من قسم علم الفيروسات. فيروس الفئران غير مؤذ حسبما كتب الزميل، شعرت بالارتياح إزاء تلك النتيجة، إلا أن هذا معناه أن تواصل البحث لتجد السبب وراء موت الفئران. ستبدأ في ذلك من الغد. نوت أن تقرأ التقرير في اليوم التالي مرة أخرى بعناية، فلربما تأتيها فكرة تدلها كيف تواصل البحث.
كان الرجال قد جلسوا فعلا إلى الطاولة. قفز شتورم واقفا حين رآها وشد على يديها مرحبا. بدا على وجهه المحمر لمحات لوثة من فرط الحماسة، ثم وضع يدا على كتفها مرحا، في حين أشار بالأخرى إلى الكرسي الشاغر إلى جوار تيمي - المحاضر الزائر - حسبما سمى ضيفه غامزا. إذن كانا قد تجاوزا مرحلة التكلف في الخطاب، وبلغا مرحلة الصداقة، على الأقل بالطريقة التي يصفها الأمريكيون، وربما هم وحدهم الذين يفهمونها. كانت هذه إذن تقدمة مجانية للأستاذ تيم بيكر الذي أهداها شدقيه المبتسمين عن آخرهما. ولا عجب في ذلك، فشتورم قدم له مساعدته في العمل على أنها سيدة المائدة. إن طقوسه لتشي مرة أخرى باختلال في عقله.
رفعت فاندا شفتها العليا، أوليس الابتسام في الأساس هو إظهار الأسنان؟ حاولي أن تفكري في شيء لطيف حتى تتمكني من التبسم! لم يخطر ببالها شيء. إلى جوار شتورم جلس ميشائيل فالاخ. كان به سمنة الأطفال، ذو شعر مدهون ووجه شاحب وكاريزما تلميذ. هز رأسه بحماس، إلا أن عينيه تعلقتا بزر سترتها السفلي الذي صار يغلق دون أن يشد القماش. ما رأيك في غراميات مع هذا الرجل الذي لا يقاوم؟ أخيرا استطاعت أن تبتسم. لم يقدم لها الرجال الأربعة الآخرين على المائدة. فهمت أن عليها فقط أن تتولى الاهتمام بذاك المهم، واتضح أنها أصابت الفهم. «فيم تبحثين الآن؟» سألها تيم بيكر.
المدخل المعتاد للكلام. لم تكن في حالة تسمح بإجابات لائقة؛ إذ كانت مشغولة بالنظر في قائمة الطعام. كان طبق لحم كبش بالتوت البري هو أغلى الأطباق جميعها. يوهانيس كان ليصر عليه إلا أن فاندا لم ترغب في أكل لحوم، خصوصا لحم حيوان كهذا. بالتأكيد قتلوه بعد أن كسرت ساقه وهو يهرب إلى حريته فوق خندق الماء. كانت تفضل رؤية الكباش في أفلام هاينز زيلمان، وكانت تعد نفسها من معجبي شفايجر وأريندت. لا، لن أتناول طبقا من أفريقيا. قررت أن تطلب كانيلوني محشوا بمزيج من الجبنة الطازجة والجبن الريكوتا، وأجلت طلب الحلوى لوقت لاحق.
بالتأكيد لم يكن السبب هو النبيذ؛ لأنها لم تشرب سوى كأس واحدة، وكذلك ليس تأثير كرات عيد الميلاد المذهبة المعلقة على شجر الصنوبر وما تشيعه في الجو من بهجة. لم تتمكن فيما بعد من معرفة أي عفريت ركبها حين بدأت تتحدث عن أكثر موضوع يشغل بالها الآن. «حان الوقت لتحرير علم السموم. ألا ترون هذا؟» رفعت فاندا كأسها وأرسلت نظرة تقول الكثير للسيد الجالس قبالتها. «نعم، وأرى أيضا أن علينا أن نجتذب المزيد من السيدات للعمل في هذا التخصص.» «أوافقك الرأي، لكني أعني شيئا آخر.»
نظر إليها الأمريكي بانتباه. «أنا أفكر في مهامنا، في القضايا التي تشغلنا، علم التخلق مثال جيد على ذلك.» استطاعت بطرف عينها أن تلاحظ كيف تصلب شتورم، أكد لها رد فعله صدق حدسها هذه المرة. إن إمكانات «إن بي 2701» أكبر بكثير جدا مما جرؤت على التفكير به. في الغالب إن هذا الجين الذي تم تسريبه إلى مخ الفئران قد شغل مفتاحا أو عدة مفاتيح في نفس الوقت، لقد كان العلاج واسع المدى وينتشر مثل التهاب، ولا يبدو أنه كان محددا. نجحت المناورة باستخدام عنصر قيادي عالمي يستطيع أن يتكيف في كل الأماكن، فهو يشبه بطاقة الهوية التي تدخل في ماكينات الصراف الآلي الخاصة بالبنوك وتتناسب مع أجهزة قراءة أخرى، وهناك يغير الحالة رقم كودي في مكان ما بنظام البيانات فيمهد الطريق للدخول على الحساب البنكي. يتطابق الرقم الكودي مع المعلومات التي يحملها الجين المتسرب إلى المخ، والخلية هي النظام الذي يترجمه إلى إنزيم - على سبيل المثال - يستطيع أن يفتح الجينوم، أو الحساب البنكي، ثم يعيد غلقه. وإذا افترضنا أن الرصيد في هذا الحساب البنكي مثله مثل الحمض النووي دي إن إيه لن ينفد أبدا - وهذا تصور رائع - إذن فلن يمكن عرقلته إلا من الخارج. علاوة على ذلك فإن وحدة شيخوخة متكاملة من شأنها أن تمنع أيضا أن تعيش الوديعة أطول من مالكها؛ لأن حساب المال كان مربوطا بحساب الوقت الذي كان يمثل الوقود بالنسبة للنظام. وكل حجز للمال كان يستهلك جزءا من ميزانية الوقت، ومع مرور السنوات توقفت الحجوزات. في البداية لم تتأثر سوى المبالغ القليلة، لكن سرعان ما توقفت أيضا تحويلات المبالغ الكبيرة. كانت ممنوعة. كان النظام يشيخ. ليس فقط بسبب أنه مع الزمن ظهرت على العملات المعدنية شروخ، والعملات الورقية شقوق، فالمال لا يزال يوفي الغرض منه. لكن التدخل في الموارد ظل يمنع في اطراد، وهذا ما حدث للجميع، بعضهم عاجلا، والبعض الآخر آجلا. بعضهم نفدت طاقته سريعا، صار مريضا أو معسرا، والبعض الآخر استمر في ممارسة أعماله حتى النهاية. لماذا هذه الاختلافات؟
أكملت فاندا: «في هذه اللحظة تكتب سيناريوهات قصص أمراض المستقبل. إن ما يحدث الآن في نوى خلايا الأجيال الحديثة من شأنه أن يؤثر على جودة الحياة بالنسبة لأولادهم ولأحفادهم، ألا يقع في نطاق مسئوليتنا أن نبحث في أسباب ذلك؟» «أنت تتحدثين عن الفرضية التي تقول بأننا نمرض بسبب خطايا التغذية التي ارتكبها أجدادنا.» لقد كان تيم بيكر ينصت لها حقا. «أنا أفكر أكثر في المستقبل، في العدد الكبير من المواد الضارة بالبيئة، في كميات الكربوهيدرات المفرطة التي يتناولها صناع أجيال المستقبل. وبغض النظر عن هذا، هي ليست فرضية فحسب، بل توجد دراسة من السويد ...» «تقول بأن السمنة في الأجداد تزيد من نسب إصابة الأحفاد بداء السكري، وأمراض القلب والجهاز الدوري.» بدت أمارات الريبة على وجه الأمريكي. «هذا الزميل في الأغلب قرأ في علم الأنساب وتعثر في بعض النتائج التاريخية وبنى عليها، لكن ليس ثمة دليل تجريبي على ذلك.» «هذا من دواعي البؤس.» تدخل أحد الرجال في الحديث، كانت جبهته مقوسة وكأنها هضبة جدباء، في حين تدلت على أذنيه وياقة بدلته خصلات صغيرة من شعره الأشقر الضارب للحمرة. «أخيرا صببنا الخرسانة فوق الأساس الذي وضعه داروين ظانين أن لامارك العجوز آمن في تربته، في حين أنه يتقلب يمينا ويسارا في تابوته.» كان وجهه يبتسم بكل ما فيه من ثنيات لا تعد، وأطل الشر من عينيه. «نعم، ألن ينتهي هذا أبدا؟» بدا مستاء وخبط بيده على الطاولة. «ليس غريبا.» كان هذا هو رد جاره، رجل أسمر ذو شعر قصير كثيف، بوجهه تجعيدتان حادتان تمتدان من أنفه حتى زاويتي فمه مهددتين بسحب الأنف إلى العمق معهما. كانت نظراته الحادة تطل من عينين ضيقتين. «لقد أساءوا معاملته على الدوام، جان بابتيست أعني، ذاك الرجل الذي عني بالحقيقة دائما.» كان نطقه لكلمة بابتيست يتشبه بالفرنسيين إذ مد الياء عن آخرها. «المذكور عنه في كتبنا التعليمية ليس جيدا، لقد استهزأنا به طويلا، ويوما ما سيثأر منا.» وضع يديه على يمين الصحن ويساره. كانت أظافره مقلمة ولامعة. «إنها تلك الأرواح المسفوكة التي تبقي عائلات بكاملها معلقة حين لا ننجح أخيرا في تكريمها.» «ربما لدى طبيبكم النفسي تفسير لهذا.» غمغم الرجل الثالث الذي لا تعرفه الذي كان يجلس قبالة الأمريكي ولم ينظر لفاندا. «هكذا هي الحال.» أجابه المخاطب بإيماءة خفيفة. انزلقت الأظافر المقلمة أسفل الطاولة؛ إذ قدم الحساء مشيعا جوا ألطف. تأمل تيم بيكر الخزف. كان يظنه مصنوعا في مايسن، لكن الرجل الرابع الغريب هز رأسه بالنفي. كان العميد، ويبدو أنه كان يفهم في أنواع الخزف والصيني الرقيقة. «هل كنت تعرف أن فيليب روزنتال هو من حمل فالتر جروبيوس على بناء مصنعين للخزف؟»
رد شتورم بحماسة، في حين تحركت كسرة خبز تائهة في زاوية فمه: «هذا مثير للاهتمام. هل تعرف فورو؟ إنه فريق يبني طرزا معمارية. يغامر برص الفناجين. يصنع منها أبراجا.» «ومنها أيضا برج بيزا؟» سأل جاره الكوميدي ذو الشعر الذي يشبه فراء الثعالب. اتضح أنه أستاذ كرسي في تاريخ الطب، وسرعان ما دار الحديث حول شكاوى التربويين، ومشكلات الأجيال الجديدة من الباحثين، وخطط إسراع العملية التعليمية. اختار معظمهم مثل الصيادين القدامى تناول الحيوان البري الأفريقي كطبق رئيسي. هل كان هذا أفضل من سمك القرش أو ربما من التمساح؟ اقترحت فاندا طبقا من القواقع، إلا أن السادة الرجال لم يكن لهم رغبة في تناول اللحم الرخو. ما هي القواعد التي تجري وفقها المحادثات؟ سألت نفسها. لقد علقت موضوعها وكانت تفكر منذ برهة كيف يمكن لها أن تستأنف بمهارة الحديث فيه. «سواء تناولنا الكبش، أو القرش أو التمساح، فلن يجدينا ذلك نفعا.» قالت فاندا بوجه نادم وأكملت «فنحن لسنا سوى نتاج ما أكلته أمهاتنا.» «حبة بطاطس؟» كان أستاذ تاريخ الطب الأشقر المحمر هو من رد عليها. «أعد النظر بدقة.» قال الرجل الجالس إلى جوار تيم بيكر الذي لم تكن فاندا تتطلع إليه رافعا سبابته. «هذا الزميل هو المثال الحي على أنه لا يوجد ما يسمى بنظرية لامارك في النشوء، وإن أنكرتم ذلك الآن فسيشعر بالإهانة.» «لكن نوعا ما من علم الوراثة وفق نظرية لامارك لم يعد مستبعدا بعد أن أصيبت دوللي بالتهاب المفاصل.» بهذه الكلمات وزع العميد النبيذ المتبقي وأردف: «رغم تطابقهما الوراثي، لكن أمها كانت صحيحة معافاة.» «إن النعجة المستنسخة ما هي إلا منتج صناعي»، عارضه جاره. «تم تصنيعها من خلية الضرع التي تحمل طبعا حقيبة التخليق الجينية خاصتها، وفي الجيل التالي قامت نوى الخلايا بالتخلي عنها لبدء بداية جديدة.» «هذه حال الفن.» قال أستاذ تاريخ الطب متفكرا. «أنا أرى أن كل فنان يتوفى هو خسارة لا يمكن تعويضها. إني أطالب بقائمة حمراء. ففي الأسبوع الماضي كنت في هامبورج. عند الجسر. لا بد من ضم كيرشنر إلى القائمة، وكذلك رولفس.» «... وماذا عن السلالة الجرثومية.» رفع تيم بيكر كتفيه عاليا. «نحن نعيش أوقاتا عصيبة. أقول إن كل شيء ممكن.» «هكذا هي الحال!» علق المؤرخ ضاغطا منديل المائدة على فمه. «ألا يعد أنصار داروين اليوم في الحقيقة هم الأنصار السريين للامارك؟ لكن من يريد الاعتراف بهذا. ماذا نمارس أصلا حين نمسك بيدنا صندوق الإرث إن لم يكن ممارسات لامارك؟»
فجأة تحركت كل الرءوس في آن واحد. من الإيماءات الموافقة، والتردد بين هنا وهناك، وبين هز الرأس بالنفي، كانت كل الحركات متوافرة مصحوبة بأصوات متداخلة وضحكات، مثل الأوركسترا الصغيرة التي أعطتها قائمة الحلويات فرصة سانحة لإعادة التناغم فيما بينها. طلبت فاندا موس الكستناء بالنوجة المقدم مع كمبوت البرتقال. «كلام في الفن.» علق الطبيب النفسي تاركا ملعقته تتأرجح بين أظافره المقلمة فوق الحلوى. «هل تابعتم المناقشات التي دارت حول لوحة «النظرة الأولى» لجيرهارد ريشتر؟» سأل متفرسا في الحضور. «كان هذا منذ فترة. أنا أرى أن هذا العمل يحركنا نحن العلماء خصوصا للتفكير في البصر وفي اللغة التي نوصل بهما الحقائق المرئية.» «هل تقصد الصورة الملتقطة بالمجهر الذري لإحدى ذرات السيليكون؟ ألم تنشر قبل عدة سنوات في مجلة ساينس؟» بدا أن شتورم يعرف ما يتحدث عنه. «إن لم تخني الذاكرة كان المؤلف يدعى جيسيبل. أما جريدة «فرانكفورتر ألجيماينه تسايتونج» فكتبت تحت عنوان: النظرة الأولى في داخل الذرة.» «نعم، وقد قام ريشتر بتحويل الصورة في طابعة أوفسيت.» أكمل الطبيب النفسي. «وعليها يرى علماء الفيزياء سحابة الإلكترونات الموجودة في ذرة السيليكون. أما الفنان فيتحدث عن نبات عيش الغراب المستلقي ذي القبعة والساق. إن هي إلا نتيجة قابلة للقياس تلك التي نحاول تفسيرها حين نستخدم الصور المألوفة لدينا. أحدهم يتحدث عن عيش الغراب بينما يتحدث الآخر عن سحابة، ولعل هذه التشابهات تساعدنا في فهم هذه الظواهر الجديدة، لكننا في نهاية المطاف لن نتمكن من فهمها أيضا.» «نستطيع أن نحيط بها رياضيا.» تحدث الآن الرجل الجالس قبالته. هذه المرة أدار رأسه قليلا في اتجاه فاندا بحيث تتمكن من التعرف على وجهه. تذكرت الآن. لقد رأته من قبل في إحدى الحلقات النقاشية بالمستشفى، لقد كان رئيس قسم الأعصاب. «لكن علاقتنا بالعالم تتشكل من خلال حواسنا ومشاعرنا.» عارضه الطبيب النفسي، «إننا نريد أن نرى، ونسمع، ونلمس، ونشعر. إن صور هذه الذرات ليست مكبرة. إنها مستنسخات. ليس في وسعنا سوى تفسيرها. وعلينا، سواء رضينا أم أبينا، أن نعمل عقلنا الميكانيكي مع عكازاتنا المكتسبة من خبراتنا المجهرية، وبرأيي هذه هي الطريقة الوحيدة التي يجب أن نتعامل بها معها، وإلا فنحن نخادع أنفسنا، فهذه الصور آتية منا نحن، ونحن نفسر. فالظواهر الآتية من ذاك العالم المتناهي الصغر، عالم النانو، لا يمكن حقا إدراكها كما هي في الواقع.» «لكن بشكل أو بآخر لا بد من الإمساك بهذه الذرات من أجل قياسها، أم ماذا ترون؟» تدخل أستاذ تاريخ الطب.
أجابه طبيب الأعصاب: «إن هذا الأمر باهظ التكلفة، لكنه إجراء في منتهى الأناقة. إن المجهر الذري هو برأيي أهم اختراع في عقد التسعينيات، وكان أحد مطوريه السويسريين قد قال ذات مرة: الأمر مثل أن تقلب جبل الماترهورن رأسا على عقب من أجل أن تتفحص حبات الرمل. الماترهورن في هذه الحالة ما هو إلا عتلة ذراع معلقة ومتحركة مكونة من ذرات السيليكون، حيث بين ذراته وبين ذرات الأرض توجد سلسلة من التأثيرات المتبادلة، ووفقا للتجاذب أو التنافر بين الذرات ترتفع أو تنخفض عتلة الفحص. والعملية برمتها مرتبطة بالتتبع بواسطة أشعة الليزر وتكنولوجيا الكمبيوتر بشكل يسمح بحساب السطح الذي يظهر كصورة.»
فعلق العميد: «إذن إن شئنا الدقة نقول إنها طاقات، تلك التي نراها في الصور.» فضحك الطبيب النفسي.
لا بد أن الأمر كان ذا صلة بالحلوى التي تناولوها حين آذنت الأمسية بالانتهاء؛ إذ علا الأنفس الشبعى تثاقل. كان الطبيب النفسي يتحدث الآن عن الفن الحديث المشكل من العظام والرءوس المقطوعة. «إن الموت ليستفز لحظات داخلية حميمة في الذات. هل سنقوم في النهاية بالقضاء على أنفسنا؟» كان وقع السؤال يشبه الأسئلة البلاغية، وقد سقطت زاويتا فمه إلى أسفل، بينما هو يجول بنظره بين الحضور من واحد لآخر. لم يحصل إلا على همهمة، وهزات رءوس، وسعال مكتوم. لماذا يصيب الاكتئاب كبار السن حين تكون المعدة ممتلئة والأمسية توشك أن تنتهي؟ سألت فاندا نفسها. هل كانت هذه أعراض الامتلاء؟ أم لعلها برمجة تخليقية جينية؟ «هل من الممكن للعلاج الجيني المستخدم لمقاومة خرف الشيخوخة أيضا أن يرفع عمر الأفكار المرضية؟» هكذا فلت السؤال من فاندا ليصير محور الحديث بقية الأمسية. قال أحدهم: «هذا مقياس جيد»، بل وتطوع أن يجرب على نفسه.
مد تيم بيكر يده إليها مودعا وقال: «أحييك أيضا بالنيابة عن ريك.» ماذا يقصد بذلك؟ وماذا حكى له ريك؟ ردت التحية وحاولت أن تبدو فرحة، لكنها كانت تشعر بالضآلة.
الفصل الرابع والثلاثون
التجميع الذاتي
حين استيقظت في اليوم التالي لم تعرف في اللحظة الأولى أين هي. استغرق منها الأمر برهة إلى أن أدركت أنها نامت في وضع مقلوب، واضعة قدميها مكان رأسها على الوسادة.
وبعد ساعة كانت قد استخرجت تقرير أخصائي الفيروسات من درج مكتبها. ألقت نظرة متعبة من النافذة، كان الثلج قد انقضى، لكن يبدو أن الأيام كانت حزينة عليه. سرعان ما سيحل عيد الميلاد، وهي لم تفكر بعد كيف تريد أن تمضي الوقت «ما بين السنين» كما يدعوه الكثيرون. في الحقيقة كانت تعجبها أجواء نهاية العام، فمنذ توقفت عن الاحتفال بعيد الميلاد وهي تستمتع أكثر بأيامها، فتغيير السنين كان يبدو لها مثل الوقفة القصيرة التي تلي الزفير، فقد كانت واحدة من اللحظات النادرة التي تهدأ فيها نفسها حقا. يمكنها أن تسافر جنوبا، أو تستمتع بالنسمات القوية لبحر الشمال ، أو ببساطة تظل هنا تعمل وتحصل على أقساط وفيرة من النوم. على الأرجح أن هذا ما سيحدث، وأخيرا تنظيف الشقة مرة.
أما في القسم فكانت أجواء نهاية العام واضحة بالفعل؛ كان الجميع في حالة مزاجية جيدة، تكاد تقترب من الانفعال المبالغ فيه، مثل الأطفال الذين يعتقدون في وجود بابا نويل. لقد كان عيد الميلاد حالة استثنائية؛ إذ كانت الإدارة تغض الطرف عن إساءة استخدام غرف الخدمة، ربما كنوع من الاعتذار إلى العاملين الذين لم يحسب حسابهم في تخطيط المبنى بتوفير غرف لأنشطتهم الاجتماعية. لقد نسوا الأمر برمته إن شئنا الدقة. على أية حال، يوجد الآن في قاعة الاجتماعات طبق من البسكويت تتآمر عليه مجموعات صغيرة في وقت الراحة، في حين تتلألأ فوق رءوسهم سلسلة مصابيح ملونة، إذ كانت الشموع ممنوعة بطبيعة الحال. وفي الأيام التي كان يغيب فيها شتورم عن المبنى كانت الطرقة تعبق بروائح الشمع والنبيذ الساخن بالتوابل، بل إن السيدة بونتي نفسها كانت تجلب معها بعضا مما قامت بخبزه بنفسها. كانت الأمور التي لم تنته بعد إما يفرغ منها أو يجمد العمل عليها، أما المسائل التي لم تبدأ فيتم تأجيلها للعام الجديد.
وفجأة صارت الحياة الشخصية أهم من العمل؛ إذ حرص معظم الزملاء على العودة إلى منازلهم في الموعد. وكان هذا هو الوقت المثالي للأنشطة السرية، فإذا كانت فاندا وعصابتها ترغب في تحليل عينات شركة بي آي تي بنفسها، فالآن هو الوقت الأمثل.
وعلى غرار كل عام، سيقام احتفال عيد الميلاد الخاص بالقسم يوم الجمعة، وفي هذا العام لم يقم شتورم بالحجز في مطعم كما هي عادته، وإنما دعاهم للاحتفال في منزله، وهو أمر يحدث للمرة الأولى، فقابلوه جميعا بمشاعر مختلطة. وبعد ذلك سيرحل كثير من الطلاب إلى عائلاتهم، وكذلك كثير من الزملاء، وخصوصا غير الألمان، سيسافرون إلى بلادهم في إجازة عيد الميلاد. قررت فاندا أن تستغل هذه الفترة الهادئة في الإعداد لمشروعاتها في السنة الجديدة، فتكتب طلبات التمويل، وتنتهي من تقارير الإشراف التي كلفها شتورم بها. علاوة على ذلك كان عليها أن تطلب حيوانات جديدة من أجل أن تعيد التجارب التي فشلت. كان مجرد التفكير في ذلك يجعل الدماء تتجمد في عروقها. سيتعين عليها أن تعيد كل شيء من جديد. لقد كلفتها العدوى التي انتشرت في الحظيرة على الأقل ثلاثة أشهر إن لم تكن أربعة. أجرت حساباتها وتوصلت للنتيجة أن هذا يمثل نحو عشرة بالمائة من مدة عقد عملها.
أخذت فاندا تقرير أخصائي الفيروسات في يدها وشرعت في القراءة. لم ينبئها اسم الفيروس بشيء، قيل إنه فيروس فئران منتشر نسبيا. ليس جين مرض، لكن تنويعة جينية. ومن أجل تشخيص أدق يلزم عمل تحليلات إضافية لسلسلة الحمض النووي الوراثي. كما يلزم إجراء المزيد من الاختبارات لمعرفة إن كان التغيير في الجينوم له تأثير في قدرة العامل المسبب للمرض. قلبت فاندا الصفحة لتواصل القراءة، كادت أنفاسها تتوقف مما رأت. كانت صورة بالمجهر الفلوريسنتي، تعرفت على النقاط الخضراء المضيئة فورا. لقد تمكن الأخصائي من جلب الدليل. ولم يكن ثمة شك بالأمر. كان البروتين المشبع بالفلوريسنت هو ما يومض باللون الأخضر، وهي العلامة المميزة للدراسة الخاصة بشركة بي آي تي. لا بد أن هناك خلطا ما، فهذه لم تكن قط حيواناتها. يبدو أن بيترا أخذت العينات الخطأ، فتوقفت فاندا عن القراءة وجرت إلى المعمل، لكنها وجدتها بصحبة عدة زميلات حول طبق من البسكويت في غرفة الاجتماعات التي تستخدم هذه الأيام في غرض آخر. «... سلام وسعادة في كل مكان ...» كان النداء المنبعث من سماعة الهاتف المحمول الموضوع إلى جوار صحن البسكويت. ظلت فاندا واقفة بالباب تعطيها إشارة أنها تريدها لأمر هام، ثم جرت عائدة إلى مكتبها وعاودت تصفح النتائج بنفاد صبر.
لم تتركها بيترا تنتظر كثيرا، «ما الذي حدث؟ تبدين شاحبة مثل ملاك مصنوع من الشمع.» «ليس عندي أخبار مفرحة لو أن المكتوب هنا صحيح.» ونقرت فاندا بإصبعها السبابة على التقرير.
كلا لم تقم بيترا بتبديل العينات، بل كانت غاضبة من شك فاندا فيها أكثر من غضبها من النتائج المنذرة. أعادت فاندا مراجعة أرقام العينات مرارا وتكرارا، كانت تقرأها بصوت عال في حين جلست بيترا إلى جوارها مزمجرة.
قالت فاندا لزميلتها الغاضبة: «هل تفهمين حقا خطورة الموقف هنا؟ هذا يعني أننا في الغالب مصابون بالمرض.» وأسوأ ما في الأمر هو أنهم ربما يكونون قد صنعوه بأنفسهم. هذه المرة كانت فاندا لتسعد لو أن بيترا قد أبدلت العينات.
لكنها كالعادة أجرت كل شيء على النحو الصحيح. في الواقع، كان على فاندا أن تعرف ذلك مباشرة؛ فأخصائي الفيروسات كتب عن فيروس خاص بالفئران، أما في عينات زابينة فالأمر يدور حول جزيئات نانو كانت جديرة بلفت أنظار أخصائي الفيروسات تحت المجهر الإلكتروني. على الأقل كانت لتوجد إشارة إلى بنى غريبة في تحليل البروتين. أما الاستنتاج الذي بقي فقد أخافها كثيرا؛ إذ لم يكن مبشرا بأي خير. إن كان فيروس الفئران المنتشر نسبيا قد اندمج حقا مع مركبات جزيئات النانو، فقد آن الأوان لمقاومة هذا الأمر، فبواسطة الحمض النووي وصلت معلومة إلى عضو يستطيع أن يتكاثر، وأن يصنع الرسالة الغريبة أضعافا مضاعفة. ومن حسن الحظ أن وحدة تجارب الحيوانات الخاصة بعلم السموم تقع في جناح مستقل، فإن كانت الحواجز المانعة لنقل العدوى تعمل بكفاءة، وإن كان القائمون على رعاية الحيوانات ملتزمين بالقواعد، فسيمكن تجنب انتقال المرض لكل الحيوانات بالمعهد، كما أنها لم تسمع بحالات مرضية لدى الوحدات المجاورة. لكن هذا قد لا يحدث بالضرورة، فمن ذا الذي يعترف بأريحية بوجود ما يسيء في ثروته الحيوانية؟ كما أن شتورم لم يرد أن يسمع شيئا حول الموت الغامض للفئران في الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي. ظلت فاندا تقلب الأمر على كافة وجوهه، ولم يكن ثمة حل آخر، لقد كان لزاما عليها إبلاغ الرئيس. ••• «إنه الآن نائم بسلام في درجة رجال الأعمال، على ارتفاع عشرة آلاف متر فوق المحيط الهادي.» هكذا أخبرتها السيدة بونتي التي كان يكسو وجنتيها ظل من لون وردي، ثم ابتسمت قائلة: «السيدة الدكتورة فالس، إن كعكة المكسرات خاصتك لهي قصيدة من الشعر.» تحركت نظراتها وكأن كاميرا موجهة نحوها من سقف الغرفة، وقالت: «هلا أطلعتني على الوصفة؟» هل كان ما سمعت صوابا؟ السيدة الدكتورة فالس؟ صحيح إن بمقدور روح عيد الميلاد أن تحرك جبال الثلج. لا بد أن لهذا علاقة بالتغير المناخي. هل عساي أن أخبرها أن قطعتي الفنية المخبوزة ما هي إلا نتاج ليال جافاني فيها النوم؟ أجبرت فاندا نفسها على الابتسام وأومأت إليها موافقة. «طبعا سأعطيها لك!» كان لديها الآن مشاكل من نوع آخر؛ فشتورم الآن على متن طائرة آتية من طوكيو، ولن يكون الاتصال به ممكنا في الساعات القادمة. هل عساها أن تجلس هكذا لا تحرك ساكنا؟ لا بد أن يفرض شخص ما حجرا صحيا على حظيرة الحيوانات. يوهانيس اختفى ثانية. وزابينة لم تعد ذات صفة هنا. ماذا عساها أن تفعل؟ مرة أخرى قرأت سريعا تقرير علم الفيروسات. لو قاموا بتحليل إضافي للسلسلة الوراثية كما اقترح التقرير من أجل الوقوف على مواصفات الفيروس بشكل أكثر دقة، فسيتم كشف كود المادة الخاصة بشركة بي آي تي على أنها مادة غير معروفة، وبهذا يمكن أن يوفروا على أنفسهم عملا كثيرا. علاوة على ذلك فسيمكنهم أن يعرفوا إن كان الجين الغريب قد سبح حقا في مخ هيلبيرج.
فكرت: إنها فرصة فريدة، علي أن أعرف.
استدعت بيترا لتحضر إليها وقامتا معا بتحضير عينات الأنسجة. هذه المرة شملت العينات من كل بستان زهرة، من حيواناتها وحيوانات زابينة ومن مخ هيلبيرج، ووضعتا مفاتيح رقمية جديدة لا يمكن التعرف على العينات بغيرها. ووضعت فاندا الورقة التي تترجم المفاتيح الرقمية في درجها وأغلقته بالمفتاح، ثم طلبت الدكتور كانتيرات مباشرة، هذا هو اسم أخصائي الفيروسات. طلبت منه فاندا تأكيدات إضافية هامة، وأن يشمل ذلك مراجعة البرنامج كله مرة أخرى بما فيه تحليل سلسلة الحمض الوراثي النووي للفيروس، فهذا أمر عاجل. وعدها أن يقدم لها نتائج التحاليل كهدية عيد الميلاد. وكانت تفهم أنه يقصد ذلك على نحو لطيف، فمن أين له أن يعرف وقع الكلمات المروع على أذنيها؟
أشار عليها رودي أن تتراجع لتتدبر، ولا ينبغي لها أن تقفز فوق قدراتها. تعجبت فاندا من نبراته الجديدة. برنامج كمبيوتر يفقه في قواعد السلوك السليم! هي لم تعلمه ذلك.
وحينما سمعت طرقا على الباب مسحت سريعا آثار المكتوب على الشاشة.
بفضول دس توماس رأسه في الباب. «كل شيء على ما يرام؟» وغمز بعينيه بمكر. ضحكت فاندا في ارتياح. «إذن أنت لست غاضبا؟» فتصرف وكأن لا علم له بشيء. تمنت فاندا فجأة أن تجد شخصا تفضي إليه بكل شيء، كانت في حاجة إلى نصيحة نافعة. هل من الممكن أن تخبره؟ صحيح أن توماس ينتمي للقسم، لكن الأمر لم يكن يمسه بشكل مباشر، كما أنها لم تسمعه يتحدث بسوء من قبل عن الرئيس أو الزملاء، وكانت تشعر دائما أنه وفي، ويستطيع دائما أن يظل هادئا. علاوة على ذلك، بدا أنها معجبة به. أنصت لها توماس بانتباه حين حكت له عن تجارب زابينة العلاجية باستخدام «إن بي 2701».
كما أنها لم تغفل أمر الفئران النافقة التي لم يرغب شتورم في سماع كلمة بشأنها، وأخيرا أبلغته باكتشافها الأخير: الانتقال الجيني غير المقصود من مركبة النانو إلى فيروس الفئران. كانت قلقة بشأن ثروة المعهد الحيوانية، ترى هل لاحظ اختلاج صوتها؟ لكنها ذكرت نفسها أن عليها أن تبقى موضوعية، فالذعر يقوض المصداقية، والانفعال يضر العمل. جلس توماس على الكرسي المعيب إلى جوار مكتبها، متأملا الدوارة الخشبية التي تستخدمها كجهاز إنذار. «الأمور تسير بصورة أبسط كثيرا مما تتخيلين.» «عم تتحدث؟» «أقصد المزاوجة بين إنسان آلي وكائن حقيقي، إن كان يحق لنا أن نصف الفيروسات بذلك، فالحدود تكاد تكون مفتوحة في عالم النانو بين التكنولوجيا وعلم الأحياء.» «توماس، الأمر لا علاقة له بالفلسفة، أنا أواجه هنا مشكلة عملية.» «أعرف، أنا فقط أتساءل إن كانت هذه الأجسام الآلية المصنوعة من النانو مثالية حقا، كما أن توالد الفيروسات ليس أيضا بالأمر المثالي، الأحرى أن نقول إن تعبئة جينات الفيروس في كبسولات عملية كبرى؛ ولذلك يظل الجزء الأكبر من الفيريونات خاليا. إن ما يستثير الجهاز المناعي ويمهد الأرض لإخوتها من الطفيليات ليس سوى الكسوات الخارجية، وهي ليست حاملة للعدوى رغم كونها مساعدات هامة.» «لا يوجد رد فعل في صورة التهاب لدى استخدام نانوسنيف، إن كان هذا ما تعني.» «لا، أنا أفكر في أن العلاج اتخذ هذه النهاية المأساوية لأن الفئران كانت مصابة بالفيروس. إن كان هذا التحول من الجين إلى الفيروس قد تم كما تقولين، فلا بد أن تكون فئران زابينة قد أصيبت أيضا.»
انتابت فاندا الشكوك. إلام يرمي تحديدا؟ «توماس لقد قمنا بتخليق جين مرضي، وهو آخذ في الانتشار في حظيرة الحيوانات، ولا أفهم ...» «أريد أن أقول فحسب إنه ليس بالضرورة أن يكون نانوسنيف خطيرا في حد ذاته، الأرجح أنها الظروف المحيطة، فهو لا يستطيع أن يتوالد بنفسه، أم ماذا؟» «لا، ليس على حد علمي، أنا أخمن أن جزيئات النانو يتم تخليقها في المعمل، ربما بمساعدة البكتيريا أو مزارع الخلايا أو ربما أيضا بشكل صناعي محض، ويكون في مقدور القشرة أن تنظم نفسها بنفسها كما الحال في الفيروسات.» «التنظيم الذاتي أمر رائع.» كانت عيناه تلمعان. هل كان يسمعها حقا؟
أتى توماس بحركة تمثيلية وكأنه يطرق مسحوقا ليخرج من أنبوبة صغيرة. «قليل من البروتين نضعه في أنبوب الاختبار. هذه هي المونة.» ثم بسط كفيه وطواهما وكأنه يشكل كرات، «هذه هي القوالب الصغيرة، إنها البروتينات التي تشكل وعاء البناء، ثم يأتي بعد ذلك الجين.» ثم التقط شعيرة من البلوفر الذي يرتديه وتركها تسقط من بين أصابعه المدببة على الأرض. «أبراكادابرا. إن كنت لا تفهمين ذلك، فلا بد أن تفكري في السحر. لكن التنظيم الذاتي خدعة، إنه النتيجة البسيطة لعدد ضخم جدا من حركات المصادفات التي تقوم بها جزيئات متناهية الصغر في تجربة لا تكل ولا تمل. لكن فقط، من أين لها أن تعرف مصيرها؟»
الأمر مثله مثل اللغز المصور، كان أحد المعلمين قد حاول أن يشرح لها الفكرة الرئيسة من قبل. تذكرت فاندا، فالمعلومات الخاصة بالصورة الجاهزة مخبوءة في الجزيئات نفسها. «إنها مصيرها.» جاء ردها متأخرا قليلا . «أعني أن ... النتيجة تكمن في طبيعة الجزيئات المفردة، فالأمر يشبه اللغز المصور، حيث إن كل قطعة لا يناسبها سوى مكان واحد فقط.» «هذا التشبيه مغر، لكن ...» رفع توماس يده محذرا واستأنف: «لكنه قد يقود لسوء الفهم. حين نتحدث عن قطعة لغز فنحن نرى الشكل أكثر، نتوءاته وانحناءاته، أنوفه وأفواهه. وهذا تفكير ميكانيكي محض، لكن هذا لا يلعب دورا في عالم النانو إلا نادرا. هنا تعمل قوى التجاذب والتنافر. تخيلي أن سطح الجزيئات لزج نوعا ما، لو أردت التشبيه فلنقل إنها تتلمس بعضها بأصابع التصق بها عسل نحل، فتعلق بعضها ببعض، ثم تنفلت من بعضها ثانية، وهكذا دواليك، إلى أن يتم إعداد كل شيء حتى يظهر شيء جديد للحظة، ومضة فكرة أو معلومة.» «... للحظة؟» أعادت فاندا الكلام متدبرة «ماذا تعني؟ هل هناك فرصة أن يختفي الجين الغريب من فيروس الفئران ثانية؟» «إنها ظاهرة معروفة، إن الأجسام متناهية الصغر تفقد بسهولة الشذرات الجينية المدسوسة، وأعتقد أن هذا يحمينا كل يوم من أن نواجه كارثة واحدة على الأقل. من ناحية أخرى ...» تردد أن يكمل. «من ناحية أخرى؟» «هناك حركة براون الجزيئية التي تخلط كل شيء وتشوه مناطق الاتصال اللزجة على الجزيئات، ويتوقف نجاحها في ذلك على المادة التي تبقيها متماسكة أهي عسل النحل أم الصمغ؟»
تخيلت فاندا أمام ناظريها حوض سمك مليئا بالفقاعات، به كائنات حية دقيقة تدور بعضها حول بعض بسرعة كبيرة، تلتصق بعضها ببعض فتسقط إلى القاع حيث تغرق في كتلة غروية. «إنها مسألة توازن بين النظام والفوضى.» سمعت صوت توماس الرخيم ثانية يقول: «الأنظمة الفوضوية لا تحمل أي معلومات، هي غبية إن شئت القول، لكنها تغريك بالثرثرة. أما النظام المطلق فهو عبقري وعنيد ولا يفصح عن نفسه، فقط الطريق الأوسط هو الذي يجعل لهما معنى. إن التنظيم الذاتي هو الحالة التي بين النظام والفوضى؛ ولهذا هي صاحبة اليد الطولى.»
تنهدت فاندا قائلة: «كم سيساعدني كثيرا في وحدة الحيوانات لو أن التنظيم الذاتي عني بعدم ترك الأمور تحت سيطرة الفوضى؟» «نعم ، فقد سكب كوب الماء ... هذا هو المبدأ الثاني في الديناميكا الحرارية ...» «أرجو أن تعفيني الآن من نظريات الكوارث الفيزيائية.» قاطعته فاندا بشكل مفاجئ «لن يساعدني على الهدوء الآن أن أتخيل أن فوضى الكون في تزايد مطرد.» هز توماس رأسه رافضا. «هذه تحديدا هي المشكلة، إننا نفهم خطأ جملة حفظ الإنتروبيا (التدهور الحتمي) لأننا لا ننطلق من ملاحظة العمليات إحصائيا. إن الجزيئات التي في كوب الماء من الممكن أن تتخذ عددا رهيبا من الحالات المختلفة، من أجل أن تظهر لأعيننا في صورة المظهر المرتب لوعاء يملؤه الماء مقدم على المكتب.» «ها قد وضعت يدك على الداء.» تحمست فاندا «الخطر يتهددنا خفية في حين نظن نحن أن كل شيء منظم وعلى ما يرام، لأننا نريد أن نرضى بالمظاهر التي نراها.» «لا، هذا أمر فيه كثير من التبسيط. خذي مثلا دولاب ملابسك.» ظل يواصل بلا هوادة. «البلوفرات في الأعلى، القمصان القطنية في الدرج الذي يليها، وفي وقت ما سنصل إلى درج الجوارب.» لاحظت فاندا أنه لم يذكر درج الملابس الداخلية. «وأثناء ترتيبك للدولاب قمت بتصنيف كل شيء حسب لونه، وفي وقت ما بحثت عن بلوفر، ولأنك لم تجديه مباشرة قمت بتقليب أشيائك كلها، فاختفى الترتيب وفقا للون، ثم تقومين بدس الملابس ببساطة ثانية في الدولاب وتغلقين الباب. زادت درجة الفوضى في الدولاب، ورغم ذلك أنت لا ترينها؛ لأن الشكل الخارجي لم يتغير. فقط حينما تدسين المزيد والمزيد من الملابس في الداخل، لا تقفل أبواب الدولاب ...»
قاطعته فاندا: «وماذا لو أن عندي حشرات عث بالدولاب قامت بقرض البلوفر؟» «من ناحية المبدأ، نفس الشيء. أردت بهذا المثل أن أوضح فقط أن الأنظمة تتجه بشكل طبيعي إلى أن تتخذ أعلى شكل من أشكال الفوضى العارمة.» «لكن هذا أيضا ما كنت أعني.» «بالطريقة التي صورت بها الأمر فإن كل شيء سوف يسقط في الفوضى، إن عاجلا أو آجلا، وهذا يسري على الأنظمة المعزولة التي لا وجود لها. أما جملة حفظ التدهور الحتمي، فتعني أكثر من ذلك بكثير ! إنها واحدة من أهم قوانيننا في التعامل. الماء يصير صلبا بتحوله إلى ثلج معطيا الكثير من الدفء للبيئة المحيطة، وبهذا تتحرك جزيئات الهواء، وبهذا ينقص التدهور الحتمي في موضع على حساب الموضع الآخر. أما أنت حين تقومين بتنظيم دولابك، فأنت تستعملين معرفتك بالألوان والأنواع، وهذه المعرفة تقلل الفوضى.» «ولهذا أيضا أريد أن أعرف ما الذي قتل الفئران. أحتاج إلى هذه المعلومة من أجل أن يعود النظام إلى الحظيرة من جديد.» وإلى رأسي أنا، كما جال بخاطرها. «بالتأكيد.» قال بهدوء، «عليك فقط أن تفكري أن لهذا أيضا ثمنه.» نظرت له فاندا وهي لا تفهم ما يعني. «زابينة لم تعمل بنظافة.» قالها وكأنه يقرر حقيقة لا اتهاما. «كانت تجري أبحاثها على حيوانات مصابة بالعدوى. شتورم ما كان ليقبل بذلك، وكذلك أيضا شركة بي آي تي.» «لا نستطيع أن نتهم بينة ب ...» ثم سكتت دون أن تكمل جملتها، واستطردت: «ماذا تقترح؟» «لن نقحم أنفسنا في شيء. سأخبر الرئيس، إذا أردت، بمجرد أن يعود.» «لا أعرف.» لم تقتنع فاندا. «هل تستطيعين أن تحافظي على هدوئك حين ينفجر ساخطا متهما زابينة؟» طقطق الكرسي منذرا حين عاد بظهره للوراء. كان توماس على حق. «لن أستطيع في الغالب، ما يعنيني الآن هو أن يعرف بالأمر.» أومأ توماس موافقا. «لن أستطيع أن أفعل هذا من أجلك إلا إذا وعدتني أن تتركي المسألة تهدأ بعدها. لن تقومي بتحاليل إضافية. سوف أقنع الرئيس أنك اكتشفت الأمر بالصدفة، وسأقول إن الفلوريسنت الأخضر هو ما أهداك تلك الفكرة. لكن أي شيء بعد ذلك عليك أن تدعيه هو يتصرف فيه.»
ازدردت فاندا ريقها، وفكرت في مفاتيح الأرقام في درج مكتبها. هي لم تحك لتوماس عن هيلبيرج. هل يشك في شيء؟ كان يتفرس ملامحها بانتباه.
ثم قال مبتسما: «سأضع شرطا إضافيا.» «عليك أن تعديني بأن تحضري إلى حفل رأس السنة الذي أقيمه.»
شعرت فاندا بالارتياح؛ فلهذا السبب إذن حضر إلي. تحت ظروف أخرى كانت لتظهر فرحتها بهذه الدعوة بصورة أكثر وضوحا. «يسعدني الحضور.» ابتسمت قائلة «لكني فقط ...» «تختلط الأمور علي.» أكمل توماس جملتها. «يؤسفني أني أزعجتك بكل هذه الثرثرة، فلقد أخذتني الحماسة. الموضوع يفتنني ببساطة، حتى لو كانت أمثلة اللغز الورقي ودولاب الملابس غير مناسبة لشرح العمليات إلا بشكل محدود، ونحن في هذا نغفل أن البنى التي تستطيع أن تنظم نفسها بنى رخوة. هذا يعني أنها تدور وتدور، ترتعش، تتأرجح أعلى وأسفل، تظل في حركة مستمرة ولا ترسو في أي مكان. بالأساس هي قوية جدا لأن لديها القدرة على إعادة إنتاج نفسها من جديد.» ثم رسم على وجهه علامات الإحساس بالذنب، وقال: «أترين، يبدو أني لا أستطيع أن أترك الموضوع.» ثم ضحك ضحكة قصيرة ونهض وتأملها بنظرات فيها شغف، تمنت فاندا أن تكون هي السبب فيها، بعدها وضع يده على كتفها مودعا وقال: «أنا متأكد أنه من الممكن تقليل الخسائر.»
الفصل الخامس والثلاثون
ارقدي في سلام
جلست فاندا على مكتبها بالمعهد، ولم تتمكن من التركيز جيدا على رسالة الدكتوراه التي كان شتورم قد وضعها لها في الدرج قبل سفره. كان المطلوب هو أن تكتب تقريرا عنها، لكن عذبتها اللغة الطبية الطنانة التي تشي بوضوح بأن كاتبها مبتدئ لم يؤلف نصا علميا من قبل قط. كان الأمر جد شاق، وأيضا أغضبها أنها هي التي ستدفع ثمن أن هذا الباحث لم يتلق الإشراف الجيد. لماذا ليس من الممكن إظهار تقصير الأستاذ المشرف دون الإضرار بالطالب؟
ظلت نظراتها تتجول خارج النافذة وتشرد في الطبيعة الممتدة أمامها بلونيها البني والرمادي. لم يفارق حديثها مع توماس ذهنها. لقد تصرفت وكأنها طفلة صغيرة بائسة ما لبثت أن تعلقت بذراع زميلها المنقذ الذي كان مارا بالصدفة، ورغم أنها شعرت بالارتياح للمنحى الذي اتخذته الأمور، فإنها لم تكن راضية. لكن لماذا؟ ألقت باللائمة على نفسها: «لقد تصرفت منذ قليل بعفوية وكأن الأمر يخصك وحدك، لم تتشاوري حتى مع زابينة»، لكنها كانت معتادة على أخذ القرارات بمفردها، فهي لها رأس بذاتها، وهذا الرأس هو ما يميزها كعالمة. الآن يريد توماس أن يساعدها في الخروج من الورطة. كانت تحسده على وضوح رؤيته. لقد أراني كيف أخرج نفسي من المأزق، إنه محق، الأفضل بالفعل أن أترك الأمر. لماذا لا أنجح في ترك المسألة؟ تأملت الهاتف وسألت نفسها: ولماذا لا أتصل الآن بقسم علم الفيروسات وألغي كل شيء؟ إنهم بالتأكيد لم يبدءوا بعد. لم تمارس زابينة عملها على النحو السليم. لكن هذا قد يحدث لأي شخص، ربما كانت الحيوانات مصابة سلفا حين أتى بها المربي إليهم. وإن كان. كان بإمكانها أن تفحصها أولا. لكن من أصلا يفعل هذا؟ أنا أيضا لم أفحصها. أستريد ستهرع إلى الرئيس مباشرة حين تعرف المسألة. رودي عنده حق. علي ألا أحمل الأمور أكثر مما تحتمل. ماذا أريد أن أثبت لنفسي؟ أنني أيضا أستطيع أن أكون وفية لو تطلب الأمر؟ أني واعية بواجباتي وأني مخلصة؟ لا، لكني لا أحب المفاجآت. ولهذا كانت دائما تفضل أن تكون مستعدة لأي موقف شائك، وكانت دائما تتخيل كيف تتصرف في الحالات المختلفة. الآن ولأول مرة تظهر مشكلة من العيار الثقيل مما أصابها بالذعر.
كان الكرسي لا يزال على الوضع الذي تركه عليه توماس، غائرا بفعل وزنه، دافئا برائحة جسده، ثم رنين صوته في الغرفة. شيء ما منه ظل عالقا في الغرفة، كانت لا تزال تستشعر الحيوية التي يستطيع أن يوقظها فيها، وكأن برعما خفيا يتفتح بداخلها. كان تبلد مشاعرها ملقى على الأرض مثل شرنقة قديمة. رغم ذلك كانت تشك في استمرار هذه الحالة وثباتها. فتخيل وجود توماس في الغرفة كان ألطف كثيرا من وجوده الفعلي حين جاء وجلس وأربكها بملاحظاته وأسئلته، هذا لا يمنع أنها تستطيع أن تقول لشبحه إنها في غاية السعادة وتتطلع لحفل رأس السنة الجديدة بشغف.
غادرت فاندا المعهد نحو الساعة الخامسة. لم تكن قد اتصلت بأخصائي الفيروسات، ولا حاولت أن تتصل بزابينة أو يوهانيس، لكنها كانت تستشعر الرغبة الملحة في أن تفضي بكل شيء. في الغد سيتحدث توماس إلى شتورم، ثم سنرى بعدها.
في طريقها إلى المحطة أشارت بيدها إلى الحافلة التي أغلقت أبوابها قبل أن تصل إليها فاندا. لم يرها السائق أو ربما لم يرد أن يراها. أخذت الحافلة التالية التي وصلت بعد الأولى بقليل وكانت تسير عبر الطريق الطويل في قلب المدينة، وهناك نزلت فاندا واشترت زبدا، وجبنا، وبيضا، ودقيقا ووجدت عرضا خاصا على النبيذ الأحمر من نوع شيانتي، ثم عادت إلى المنزل سيرا على الأقدام، لتجد عربة نقل صغيرة مركونة في مدخل البيت، وحين حاولت أن تنسل بين الحائط والعربة تمزق كيس مشترياتها، فتدحرجت زجاجة الصابون على الأرض، لكنها كانت من البلاستيك فلم تنكسر. أما النبيذ فقد التقطته فورا.
في طرقة المنزل صعدت رائحة بيرة قديمة إلى أنفها، وبدا أن عدد صناديق الكحول الخاصة بجيرانها لم يتغير. علت الشعرة الداكنة التي تضعها في إطار باب شقتها ثنية مزدوجة، هكذا كانت تشبه آخر حرف في الأبجدية. معجون أسنان، لقد نسيت أن تشتري معجون أسنان. كانت فاندا تشعر بالإنهاك، وفي الوقت نفسه استشعرت دفئا قويا يملأ نصفها السفلي. فكرت لوهلة أن تغير ملابسها وتستلقي في فراشها حتى تتخلص من التوتر، لكنها ظلت تفكر كثيرا؛ إذ كان الصمت غير المحتمل في شقتها يشكو إليها حاله: بالكاد تتواجدين هنا، لا تفعلين أي شيء من أجلي بتاتا، من أجلنا جميعا. هل تريدين حقا استقبال ضيف في هذه الحظيرة؟ كيف يا ترى يعيش توماس؟ وما إن بدأت تشغل سي دي، وتشرع في رص البيض بالثلاجة حتى دق جرس الباب. هدر صوت رجالي من سماعة الاتصال الداخلي يخبرها أنهم جاءوا لتسليم طاولة. تذكرت فاندا أمر عربة النقل الصغيرة، لقد كانوا في انتظارها هي. «لكنكم كنتم ستحضرون في الغد.» فلتت العبارة منها بمزاج معتل. «نحن هنا اليوم.» فتحت فاندا الباب، فدخل الرجلان إلى الشقة ثم حملا المكتب ذا الأرفف إلى غرفة المعيشة. وطلب البدين الذي كان يعتمر قبعة المال فورا ونقدا، بينما استغرق زميله الضئيل في نوبة سعال جاف ابتلعت صوته. دفعت وكانت سعيدة أن الرجلين غادرا، إلا أن رائحتهما علقت بالشقة؛ مما اضطر فاندا إلى فتح النوافذ.
طردت نسائم المساء الباردة روائح العرق والنيكوتين. دارت حول المكتب تمسحه وتفكر فيما إذا كانت فكرة أن تأخذه عندها فكرة سديدة حقا. أين المكان المناسب لوضعه؟ أمسكت بالمرآة التي تأرجحت، وبحذر جرته إلى جوار رفوف الكتب. كان المكتب يتأرجح كلما وضعت يدها على القرص البارد، فأخذت ورقة وطوتها ودستها في الفراغ ما بين الأرضية ورجل المكتب. هل رأيت أبي يجلس يوما إلى هذا المكتب؟ لا أذكر. لقد كان أبوها سريع الغضب لدرجة أنها لم تعد تجرؤ أن تدخل إليه في غرفته على سطح المنزل. الآن يقف مكتبه عندها هنا.
كان الدرج لا يزال مغلقا. «لم أستطع أن أتمالك نفسي، كان لا بد أن أراك ثانية.» سمعت صوت المطربة نورا جونز العابث يزيد من اضطرابها الداخلي، «في وسعك أن تحلمي.» حين تذكرت هذا السطر كانت قد استغرقت في أنغام الموسيقى، واستطاعت أن تسمع صوت الصداع الذي أخذ ينتشر في كل نقطة من نصف وجهها. هل يداهمني دائما حين أحاول أن أسترخي، أم تراني لا أشعر بوجوده إلا حين أسترخي؟ أحيانا الطعام يخفف من ألمه. جهزت مكرونة اسباجيتي في دقائق معدودة، وصبت صلصة البستو من البرطمان. بعد الأكل خفت حدة الألم قليلا، لكنها لم تثق تماما في هذا الهدوء اللحظي، ولهذا تناولت قرصي مسكن قبل أن تخلد للنوم. •••
تجري في شوارع غريبة خلف توماس، ثم يقفان أمام منزل متعدد الطوابق. يبدو المنزل مألوفا لها. الشقة بالطابق الأرضي مضاءة وفارغة، تعجبهما كليهما. تعرف أنه ثمة أثاث يخصها في الطابق العلوي، لكنها لا تجرؤ على الصعود، فالشقة في حوزة المافيا. تعرف الرجال، فقد كانوا في انتظارها. كانوا يريدونها أن تعود ولن يتركوها تغادر ثانية. أومأ توماس موافقا وكأنه يفهم الأمر. تراه من الخلف. ثم يستدير فجأة لتجد وجهه يحمل ملامح أبيها، وحين استيقظت فاندا تذكرت أن هذا لم يكن سوى قناع أخذ في الاختفاء كلما استردت بعض الوعي. لم يكن في مقدورها تثبيت الصورة. •••
في صباح اليوم التالي وجدت ثلاث رسائل في انتظارها على الكمبيوتر الخاص بها بالمعهد. فتحت الرسالة الأولى التي جاءت من روتشيستر. كان ريك يطلب منها مسودات بيانات أبحاثها، إذ قام بتجربتين إضافيتين ويحتاج إليها من أجل مقارنتهما إحصائيا بقيم القياسات الجديدة. هذا الأمر أيضا! أخذ قلبها يخفق اضطرابا، سيتعين عليها أن تفكر في شيء، فلا يمكن لها أن تتعجل الرد على هذه الرسالة. وضعت فاندا الطلب في ملف المهام التي يتعين إتمامها فيما بعد. كانت الرسالة الإلكترونية الثانية من شخص لا تعرفه. موقعة من بيتر سنايدر. كانت رسالة مضطربة، وكأنه يريد أن يحذرها من شيء دون أن يفصح عنه صراحة. لقد علمت وزارة الخارجية الأمريكية أنهم قاموا بفحص مادة النانو السرية المستخدمة في الدراسة الخاصة بشركة بي آي تي، وقاموا بتفتيش المقر، لكنهم لم يجدوا شيئا؛ ولهذا السبب أرسل من عنوان جديد. كان هذا هو كل القدر الذي فهمته، ثم أخبرها بأمر تحريات سرية للبحث عن متواطئين محتملين في أوروبا بسبب إساءة استغلال براءة الاختراع وخرق العقد المبرم، ووجود ثغرة في صفوفهم هم؛ ولهذا فعليها ألا تكتب إليه إلا على هذا العنوان حتى إشعار آخر، لتأمين سلامتها. عم يتحدث هذا؟ شعرت وكأنها إليزابيث سوان التي أجبرها الكابتن جاك سبارو على البقاء في القمرة بحجج مقنعة في ظاهرها، ربما السبب أيضا أنها لم تفهم فعلا ما حقيقة المسألة. أما في خانة المرسل للبريد الإلكتروني الثالث فكان اسمها هي؛ لأنها تعمل من منزلها أحيانا وترسل لنفسها رسائل لتبادل المعلومات بين الكمبيوتر في المعهد والكمبيوتر المحمول في منزلها، لكن هذه الرسالة فتحت في الوقت ذاته صفحة على الإنترنت. تطايرت دوائر بألوان فاقعة على الشاشة مثل البالونات، ثم ظهر شكل في الخلفية يحاول أن ينسل من بينها. كان الشخص يجري بشكل غير طبيعي في اتجاهات مربعة ويكبر حجمه تدريجيا إلى أن اقترب أخيرا من المقدمة، ووقف في منتصف الصورة المتحركة. كان مجرد تمثال بلا تفاصيل، يشبه نموذج إنسان ثلاثي الأبعاد، ذا تجويفات مكان العينين، وبروز في الأماكن التي عادة تتقوس فيها الجبهة، والأنف ، والأذنان. كان الجسد يحمل استدارات أنثوية واضحة، لكن بلا تفاصيل، كان بمثابة نموذج ينتظر نحاتا يضفي عليه نفحات الفردانية. وفجأة ملأ الوجه الشاشة بأكملها. في البداية فتحت عين واحدة، ثم تفرق الوجه إلى مربعات صغيرة تدور مثل كتل لعبة اللغز المصور للأطفال، ثم تختار لنفسها موضعا، حتى فهمت فاندا أخيرا. لقد كانت تنظر إلى وجهها هي ذاتها، إلا أن البشرة كانت بها لمعة معدنية. ظلت العين الثانية مخبأة تحت غطاء فضي. أطلقت فاندا ضحكة قصيرة، لكن حينما طار الغطاء من على العين استبد بها الذعر. كان تجويف العين أسفله فارغا. حدقت فاندا في الثغرة، فرأت كيف تتشقق البشرة عن وجهها وتنفجر، وكيف تتعرى العضلات، ثم الأعصاب، ثم الأوعية الدموية طبقة طبقة، ثم تسقط وكأنها تتحضر للتشريح، لكن كل ذلك تم في وقت قصير جدا. في النهاية نظرت إلى الجمجمة التي أخذت تدور مثل كرة تخرج من مرمى البصر بعيدا. تغير المشهد فجأة. في البداية لم تر سوى لون أخضر، تعرفت فاندا على أشجار وعيدان يظهر من بينها بعض براعم الزهور بما يشبه الحديقة، بعدها رأت الأحجار. أخذت اللقطة تكبر من تلقاء نفسها إلى أن اقترب تماما ذاك الحجر الأسود من الرخام المصقول، وتمكنت من قراءة الكلمات المحفورة عليه. فتحت فاندا عينيها جيدا. هذا أمر لا يصدق! أغلقت جفونها لوهلة، وبحذر بدأت تسترق النظر عبر رموشها. ظل النص كما هو:
د. فاندا فالس
1973-2006
ارقدي في سلام.
انتابتها موجة عارمة من الضحك الهستيري، لم تشأ أن تخلي سبيلها، ثم أخذت تسعل. كانت سنة ميلادها صحيحة. وفي رد فعل سريع ضغطت على زر الفأرة ومسحت الرسالة وقالت إنها خطأ، لكنها وجدتها ثانية في سلة المهملات الإلكترونية. أخذت الرسالة ثانية إلى الشاشة. كانت الحديقة غير حقيقية ورغم ذلك شعرت أنها حقيقية. من يمكن أن يفكر في أمر كهذا؟ رأت اسمها هي في سطر المرسل. لقد اخترق أحدهم حسابها الإلكتروني وأرسل الرسالة، أليس واردا أن تعلق الرسائل الغريبة بالبريد الإلكتروني العادي مثلها مثل فيروسات الكمبيوتر ؟ في محرك البحث جوجل بحثت عن «المقابر الافتراضية» ووجدت عدة صفحات إنترنت بالنهاية لم تفدها كثيرا. بالتأكيد هي مجرد صدفة، أو دعابة شريرة أرسلت آلاف المرات، طريقة غادرة لإرهاب البشر. لكن كيف وصل وجهها إلى هذا الرسم المتحرك؟ ربما استخدم أحدهم صورتها من على الصفحة الرئيسية لقسمها، وما معنى ذاك الرقم الغبي 2006؟ نقشت الأرقام على ورقة صغيرة بلا أية فكرة عما تفعل. كان خوفها ممتزجا بالغضب، نظرت إلى التقويم على الحائط. كان اليوم هو الثالث عشر من ديسمبر 2005. «هراء!» قالت ثم كورت الورقة في راحة يدها وألقت بها فورا في سلة المهملات ... الحقيقية، الموضوعة على يمين المكتب.
الفصل السادس والثلاثون
سهل التنظيف
انهمر المطر على المظلة التي قدمت فضعفت، في حين صعدت فاندا فوق درجات رفيعة وعبرت حارات وركضت في شوارع مظلمة. كانت متأخرة عن الموعد ولا تزال تبحث عن رقم المنزل. كان مسكن شتورم يقع عند سفح داميلزبيرج، قريبا من قصر لاندجراف، حي الأساتذة. كانت قد قفلت راجعة عدة مرات، ثم عادت أدراجها من جديد. وتساءلت هل هي أصلا في الشارع الصحيح؟ لقد اشتد المطر مكونا ستارا خفيفا يحجب أنوار مصابيح الشارع إلا قليلا، وحينما تمكن منها الإحساس بأنها ضلت طريقها كلية، وجدت نفسها فجأة أمام صندوق بريد أبيض فيما أضاء مصباح المنزل المجاور رقم 57. لقد وجدته فعلا. قادتها السلالم إلى بوابة حديقة صغيرة فوق مستوى الشارع، وبمجرد أن مرت أضاء نور مصباح كهربي، ثم ضغطت جرس الباب. فتحت لها سيدة مسنة نحيلة يؤطر شعر رمادي وجهها المتعب ذا العينين الزرقاوين اللتين لمعتا بمجرد أن قدمت فاندا نفسها. «ها أنت ذي.» رحبت بها بود وطلبت منها الدخول. «لقد افتقدك زوجي.» كانت تصلح أن تكون حماته. أخذت منها السيدة شتورم المظلة من يديها. تبعت فاندا السيدة وقطرات الماء التي انسالت بلا صوت من بين ثنيات قماش المظلة فوق الأرض الرخامية. وضعت حذاءها الذي أغرقه المطر إلى جوار أزواج الأحذية الأخرى المصطفة في الطرقة، وكانت أظافر أصابعها الكبرى تبتسم بخبث عبر جواربها القطنية المهترئة. «هل جلبت العفريت؟» سألتها زوجة الرئيس؛ إذ كان عدد من زملائها مدفوعين بحماسة عيد الميلاد قد تمنوا لعب تمبولا؛ لذا كان على كل واحد فيهم أن يجلب معه شكلا مخيفا، شيئا مرعبا أو غير ذي فائدة، ويريد أن يتخلص منه. لعبت السيدة شتورم دور الجنية الطيبة، ووضعت رقما على كل هدية لتجرى عليها القرعة فيما بعد. جرت فاندا إلى الدولاب ثانية ودست يدها في جيب سترتها، وناولتها عبوة صغيرة ملفوفة في ورق القصدير، وبالتالي كان من حقها سحب رقم حظ من صندوق اليانصيب. ضحكت المضيفة ضحكة غامضة. كانت تبدو أصغر حين تبتسم.
كان حفل عيد الميلاد على أشده. تدافع من غرفة صوت موسيقى مكتومة وأصوات متداخلة، وعبق الجو بروائح اللحم المقلي مع الخل. سال لعاب فاندا إذ لم تكن قد تناولت شيئا منذ الصباح. أتمنى ألا يزال بعض الطعام باقيا، فكرت فاندا بقلق، فقد كان على الرئيس أن يضيف أربعين زميلا، ومسألة بخله ليست خافية، بل إن الزملاء كانوا يتهامسون فيما بينهم أن دعوتهم إلى منزله هذا العام ما هي إلا خطة لتدعيم الميزانية، ولا شك أن فاتورة المشروبات التي أرغموه على دفعها العام الماضي هي الدافع لانسحابه هذا العام إلى المنزل، كما أنهم اعتبروا أكياس خلات الأسنان المتناثرة على كل طاولة بمثابة دعاية ضد حرقة المعدة؛ لأنها حملت شعار شركة دواء كبرى، ربما يكونون قد تجاوزوا ميزانيتها التي خصصتها لهم.
كانت غرفة معيشة آل شتورم تشبه صالة فنون حديثة بين معرضين. لم تتمكن فاندا من النظرة الأولى أن تتبين وظيفة بطاطين الصوف العديدة المفرودة على الأرضية الملساء الفاتحة اللون؛ إذ كان يمكن أن تعتبر معروضات، وفي نفس الوقت تعتبر بقايا عمليات بناء وتركيب. في جميع الأحوال كانت كلها تتجمع فيما يشكل سجادة ملونة مبرقشة تستلقي في تباين لطيف مع طراز الأثاث الصارم. جلس الناس على الوسائد، وقفوا معا أو تجمعوا في مجموعات صغيرة مثل جماعات من البدو قررت بحماسة أن تتجاهل الأريكة الجلدية باهظة الثمن المستندة إلى الجدار الخلفي للغرفة، ليس بسبب عدم تحضرهم، العكس هو الصحيح؛ إذ لم يرغبوا بتاتا في التفكير في لطخات الدهون، أو بقع النبيذ الأحمر، أو بوالص التأمين ضد المسئولية. كانت الأجواء مثالية لقتل أي شعور بفقدان السيطرة في مهده.
كان يوهانيس جالسا مع بيترا أمام النافذة الكبيرة المطلة على الحديقة وغمز لها. في الخارج، خلفهم مباشرة، صفرت الرياح بين أفرع شجرة عيد الميلاد المضاءة. مرت فاندا إلى جوار زملائها الجالسين القرفصاء الواضعين أطباقهم في حجورهم، يقرضون أرجل الدجاج، أو يملئون جوفهم بسلطة البطاطس والكرنب الأحمر. أما الرئيس فكان جالسا على الأرض فاردا ساقيه بين ميشائيل فالاخ وشخص آخر لم تكن تعرفه. كان يمضغ اللحم ويضحك بفم مفتوح. بدا أن جوربيه جديدان. بالأمس تحدث إليه توماس وأخبرها أن كل شيء على ما يرام. توقعت فاندا أن شتورم سيسعى للحديث معها لكنه لم يفعل. حياها كالمعتاد، لكنها استشعرت مزيدا من التحفظ من جانبه أثار قلقها، لكن على أية حال، صارت تتخذ إجراءات صارمة لتطهير الحظائر منذ عودته من اليابان. كان عمال الرعاية يطلقون عليها عملية تنظيف عيد الميلاد. «علمت أنه ركب لك كمامة على فمك.» قال يوهانيس وهو ينقر على جوربها المهترئ «إن عاملات الرعاية يشعرن ببعض السخط أن برنامج عملهن قد اضطرب بشدة قبل أيام الإجازة بوقت قصير.» كان ينظر إليها ويبتسم بوقاحة. ركعت فاندا ثم ثنت ساقيها تحتها لتجلس إلى جواره على الأرض. كان الموضع الذي يجلسان فيه يبتعد قليلا عن مجرى الأحداث، لكن يسمح بنظرة شاملة لعموم المكان. كانت السيدة شتورم تتحدث إلى أستريد، بينما كان توماس حقيقة يغازل طالبة الدكتوراه الجديدة. «هل تنصتين إلي أصلا؟» سألها يوهانيس سؤالا أقرب للشكوى. «أكاد أموت جوعا.» «فلتظلي جالسة، وسأحضر أنا لك شيئا.» قفز يوهانيس واقفا سريعا خفيفا، ثم رسم على وجهه أمارات الجد وقال: «لا يمكن أن أدعك تذهبين إلى المطبخ بهذين الجوربين.» أحيانا يكون في غاية اللطف. لا، صححت نفسها: الواقع أنه مساعد للآخرين بطبيعته، لكن هذا لم يكن يجدي ؛ فالعناية بالآخرين ليست من مكونات وصفة النجاح في المجال العلمي.
بعد دقيقة عاد إليها يوهانيس بطبق مليء بما لذ طعمه وطابت رائحته. «على الأقل قدم خدمة متميزة للحفل. صحيح أن عدد الأصناف محدود إلا أنها كلها طيبة المذاق.»
ابتسمت فاندا، كان جميلا أن يخدمها أحدهم وأن تدخل شيئا إلى جوفها. جلس يوهانيس وراءها فيما كانت تعترف له ولزابينة بفعلتها الأخيرة، وكان رأيه أنهم سيوفرون الكثير من الوقت والمال إن تركوا عينات الأنسجة كي يحللها أخصائي الفيروسات، كما أن هذا الأمر لا ينطوي على خطورة أن يمسك بهم أحد، ولن يستدعي الأمر أعمالا سرية في ساعات متأخرة بالمعمل. سيتعين عليهم انتظار النتائج فحسب.
وافقت زابينة على هذا الحل، لكنها لم تسعد بحقيقة أن توماس يعرف بالأمر، وكان على فاندا أن تعدها ألا تواصل إطلاعه على ما يستجد. شعرت فاندا أنها خسيسة، فرغم رجائه الحار، لم تقم بسحب طلبها من أخصائي الفيروسات، ثم استغلت استعداده للمساعدة بلا خجل. أنا سيئة، فجأة شعرت بالذنب. كان الأمر مثل حالها في الماضي، حين كانت تغضب لأن والدها عاد إلى المنزل سكران. «أنت تتخيلين الأمر» سمعت صوت أمها من جديد، سمعت كلماتها بوضوح مثلما في الماضي، كلمات من شأنها أن تجرها إلى آخر غرفة في كيانها. كانت تنظر منها دون شعور أن الأمر يمسها في شيء. هل لهذا اخترت هذه الوظيفة؟ ففي عملها، كانت هذه المسافة أمرا مرغوبا، كانت تسمح لها أن تبقي الأحداث تحت سيطرتها؛ لأن كل شيء يسير وفق الخطة التي حددتها وراقبت تنفيذها حتى النهاية. كانت تمنع دخول الهواء إلى الخلايا، وتخرج الحضانات، وتفتح المجهر. كانت هي التي تحدد المسافة التي ستقطعها، وأي خطوة ستكون الخطوة التالية؛ هي بنفسها. لم يحدث أن ضايقها أحدهم بتعليق حول حالتها العقلية، بل العكس هو الصحيح تماما؛ إذ كانت تنال الثناء بفضل طريقة عملها المنظمة. لكن الآن فلتت الخطة من بين يديها. ولم تعد ترى ما نهاية تجربتها. كانت تريد أن تدحض فرضية سنايدر، فإذا بها تقف الآن أمام مشكلة جديدة تماما. خرجت الأمور عن نطاق السيطرة. شعرت أنها على هامش الأحداث بالحفل، وأن النبيذ يطيب طعمه مع كل رشفة. اعتراها إحساس لطيف بالامتلاء كاد أن يدفعها نحو واحدة من البطاطين. كانت لتدفع الكثير في مقابل أن تتمكن الآن من التمدد على الأرض وأن تغلق عينيها لدقيقة. «أريد أن أقوم بفعلة كبرى.» قالت بيترا، فقاطعت المشاعر التي أغرقت فاندا، فقهقهت بلا مقاومة. أما يوهانيس فقلب عينيه وقال: «هلا أوضحت قليلا؟»
ردت بيترا: «لاحقا» وظلت تبحث عن المكان المناسب. تلفتت فاندا في الغرفة، ابتسم توماس حين التقت أعينهما. كان في هذه الأثناء يتحدث مع علي. بدأت صلابة الناس تتلاشى بالتدريج، فعلت الضحكات وتدريجيا أخذ مستوى الضوضاء يغطي على نغمات الجاز في الخلفية. كانت عينا فاندا تبحثان بلا جدوى عن جهاز الاستيريو. كان يوهانيس واثقا أنه موجود في دولاب الحائط الضخم الذي أمامهم، ذي التصميم الإيطالي، من مولتيني. الخشب من الكونغو، بل إنه ادعى أنه يعرف ماركة السماعتين. مثل قلمي رصاص مقلوبين كانت علامة بانج وأولوفزين تحليان جانبي الشاشة المسطحة ضخمة الحجم. شعرت فاندا أن يوهانيس يصحبها في جولة خلال أروقة محل راق لبيع الأثاث. لا يمكن إنكار أن الأريكة الجلدية ماركة كور. فقط اللوحة كبيرة الحجم ذات ضربات الفرشاة التجريدية الموضوعة في صدر الغرفة ظلت له بغير معنى. من الممكن أن تكون زوجة شتورم هي من قامت برسمها، فمعظم زوجات الأساتذة يمتلكن موهبة فنية في الفترة الأخيرة. لقد بدأ ميل يوهانيس للسخرية العدمية يتصاعد؛ لذا حاولت أن تغير الموضوع. «هل استطعت حقا أن تعرف شيئا عن ذاك الشخص المدعو مايك؟» «لا شيء حتى الآن، لكني سأواصل البحث.» لم يستمر الكلام لأن بيترا التي عادت من الحمام كانت تجر جورج وراءها، ويرتسم الإحباط على ملامحها. «لم تفلح المحاولة.» «يؤسفني ذلك.»
أشاح يوهانيس بوجهه وقد بدت عليه علامات التقزز. «لا ليس الأمر كما تتخيل. بالطبع تمكنت من الجلوس على قاعدة المرحاض غير ذات الحافة في ذاك الحمام الذي يحمل توقيع أشهر المصممين وينظف بسرعة البرق؛ إذ يعمل السيفون بتقنية الخلايا الكهروضوئية، وتغوطت وأنا أتخيل أني أفعلها على وجهه المقرف ذي الضحكة الخالية من الأسنان. لقد كانت لحظة رائعة.» أبدت فاندا دهشتها. «حمام الضيوف ...؟» «هراء؛ حمام الضيوف» أكملت بيترا حديثها. «لقد صعدت إلى الحمام بالأعلى. وكأني كنت في معرض. كنت أجلس على المرحاض وأفكر أنه ربما يمعن الجميع الآن النظر إلي.» «لكن لم يوجد أي خنزير ينظر نحوك» قال يوهانيس ضاحكا «هل لهذا أصبت بخيبة أمل؟» «لا. لقد كنت أريد أن أترك له الغائط في المرحاض. لكن اشتغل السيفون ربما عبر حاجز من الضوء فجعل ذاك الشيء ينزلق بخفة إلى فتحة المرحاض. ولم يخلف أية آثار للانزلاق. ولا أية روائح كريهة.» «أتفهم» غمغم يوهانيس «فتحة المرحاض هي عماد أساسي لمجتمعنا ومجتمعنا أيضا يشبهها.» «هذا كلام توشولسكي» عقب جورج. «أنت لا تفهم على الإطلاق» ردت بيترا وقد شعرت بالإهانة. «أراهن على أن المرحاض به تقنية تأثير اللوتس.» «بل تقنية سهل التنظيف» صوبتها فاندا. «بالتأكيد.» «لا، أقصد المبدأ الذي يتبعه اسمه هكذا سهل التنظيف، وهو يتطلب أن يكون السطح أملس بدرجة عالية جدا وناعما مثل مؤخرة رضيع. أما تأثير اللوتس فلا يتم إلا إذا كان السطح على العكس من ذلك تماما.»
أكمل يوهانيس: «أي حين يكون السطح مجعدا مثل بشرة جدتك.» نقلت بيترا ناظريها ببلاهة بين فاندا ويوهانيس، ثم صفق أحدهم بيديه. كان شتورم، وكان يقف أمام طاولة مليئة بالأشياء المرعبة ليفتتح التمبولا. كان يضحك ضحكات مبالغا فيها على النكات التي يلقيها بنفسه، وكان على الجمع أن ينصت له بانتباه حتى النهاية، لكنه أدار اللعبة بذكاء. فقدت فاندا كرة الثلج التي تحوي قصر لاندجراف لصالح لي وانج التي سعدت بدورها أيما سعادة بهذا التذكار المميز لمدينة ماربورج. أما جولة فاندا فجعلتها مالكة مركز أرصاد، به حديقة أمامية ونجيل صناعي داكن الخضرة.
قال شتورم وهو يناولها هديتها: «حين يتقلب الجو يحتاج المرء إلى بارومتر يثق فيه.» ارتعدت فرائص فاندا، ترى ماذا كان يعني؟ إذ لمحت بصوته بعض التهديد.
بعد التمبولا تحولت الحفلة إلى ما يشبه عيد ميلاد أطفال؛ إذ انصرف كل انتباههم إلى اللعب الجديدة. جلس معظم الحضور على الأرض يتعجبون، ويتبادلون الأشياء، ويفاصلون، ويختبئون. لم تكن فاندا في حالة تسمح باللعب، وكانت تتمنى أن تتحدث إلى توماس الآن، لكنها لم تتمكن من العثور عليه. وضعت فاندا الجائزة التي ربحتها - والتي تساعد على تحديد حالة الطقس - أمامها على الغطاء، وشاهدت فيها السيدة ذات القبعة الصيفية والرجل ذا معطف المطر وهما يتأرجحان جيئة وذهابا في محاولة لتحديد حالة الجو بالخارج. ظل الرجل والسيدة يتشاجران على من من حقه البقاء في الخارج، لكن ذلك لم يساعد فاندا البتة في معرفة حالة الجو بالخارج، وتعين عليها أن تتخذ قرارها بنفسها. لم يلاحظ أحد حين نهضت فاندا وغادرت.
كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة حين وقفت بالباب. كان المطر قد توقف إلا أن الهواء المحمل بالرذاذ البارد كان يضربها في وجهها مثل منديل مبتل. بعد مسيرة قصيرة على قدميها لاحظت أن الشارع الصغير آخذ في الارتفاع، ولأنها لم تستشعر رغبة في أن تتوه ثانية قررت أن تظل سائرة على الطريق، وفي حال ارتابت فستتخذ الطريق الدائر حول القصر الذي يهبط إلى قلب المدينة. رأت ظلا يسير تجاهها، فغيرت بسرعة طريقها وسارت في الطريق المقابل. ربما كان الأفضل أن أنحني مع شارع كلفين. ضغطت قابضة على «بخاخ الفلفل». لكن ما إن اقترب منها الرجل وأصبح على نفس ارتفاعها حتى تعرفت عليه. «ماذا تفعل هنا؟» سألت وهي تشعر بالارتياح، فجاء صوتها عاليا.
جفل أندرياس وبدا عليه الارتباك. «كنت أريد أن أرافقك للمنزل.»
لوهلة نظرت إليه دون أن تفهم.
قال لها: «تعالي. دعينا نتحدث.»
ثم سارا أحدهما إلى جوار الآخر، وقبل المنحنى الكبير الذي ينطلق من القصر ليهبط إلى جنوب المدينة وقفا لوقت قصير. كان الأسفلت يلمع تحت ضوء مصابيح الشارع مثل معدن أبيض. وفجأة، مزق صوت فرقعة الصمت مثل حيوان يصرخ فزعا. بدا الذعر زمانا خارج الزمان، والتجمد دهشة وسيلة حماية تلقائية، وفي كليهما رأت فاندا السبب في عدم مقدرتها على تذكر أوان انطلاق الطلقة التالية التي معها انكسر زجاج فوقهما، وعلى الفور ساد الظلام. شعرت فاندا بمن يمسك بكتفها ويسحبها إلى الأمام. كان أندرياس يجرها معه ليختبئا في شارع جانبي. مرت الطلقة الثالثة بجوارهما محدثة صفيرا حادا. هربا. لكن إلى أين؟ كانت المنطقة غريبة عليهما. ظلا يركضان في الظلمة حتى وصل أندرياس في وقت ما إلى درجات سلم فصعده، درجتان في المرة ممسكا فاندا بقوة فتتبعه. كانت تتمنى لو صرخت لكن الظلمة ابتلعت صوتها. اصطدما على غير هدى بغرفة ذات حوائط مظلمة فدخلا فيها. أندرياس وحده كان يركض بثقة نحو هدفه. مزيد من الدرجات الصاعدة. بدأ يقفز بعد عدة درجات إلا أن الأرض كانت زلقة تحت قدميها بفعل المطر. ليس ثمة ضوء، ولا حتى في السماء. في النهاية رأوا ضوءا كثيفا من بعيد، وراء جذوع الأشجار القوية الواقفة مثل فيلة تمشي على مهل. لا بد أنهم في حديقة القصر، ثمة مصباح يضيء المسرح الصيفي. وقف أندرياس فجأة بعد الدرجة التالية فاصطدمت فاندا به بقوة. كانت تلهث باحثة عن الهواء مستشعرة وخزا في كامل نصفها الأيسر. وقفا خلف جذع شجرة يراقبان المدخل المضيء لباحة القصر، حيث اصطفت عدة سيارات. خيم الصمت على كل شيء. لم تفهم فاندا سبب تردد أندرياس. لا بد أنهما تخلصا منه منذ زمن. ممن يا ترى؟ أمسكت فاندا بجنبها وحاولت أن تتنفس بعمق، لكن إن لم يكونا تخلصا ... عانت فاندا دوارا خفيفا. وماذا لو اتخذ طريقا مختصرة إلى حديقة القصر وسبقنا لينتظرنا في هذا المكان خاصة؟ ضغطت على يد أندرياس، لكنه لم يلتفت إليها. كان وجهه الشاحب مركزا على باحة القصر. بدا لها في تلك اللحظة قصيا إلى أبعد مدى. لا يتوقف الوخز في جنبها. اللعنة. إنه فخ. لماذا نحن هنا أصلا؟
همس دون أن يغيب المكان عن ناظريه: «ليس ببعيد.» كان البخار يخرج من فيه مع كل نفس يأخذه. ضغط على يدها ضغطة خفيفة ثم انطلق راكضا. كانت تتعثر وراءه إذ كان لا يزال محكما قبضته على قبضتها، ولم يفلتها رغم تمايلها وراءه بين العربات المصطفة. كان لا يزال ينحني لأسفل ويسحبها هي أيضا نحو الأسفل، ثم قفز ليسرعا نحو بوابة تمكنا من الانسلال عبرها في الظلمة. هذه المرة كانت الفرقعة من ورائهما، مرتين متتاليتين. واصل أندرياس سحبها إلى أسفل. تعثرت فوق الأسفلت الخشن ثم انزلقت على السلالم اللزجة التي واصلت الهبوط. سحبها ثانية عبر منحنى كبير زلق ثم واصل الركض. انسلت من يده. أنا أكره هذا. لا أريد الاستمرار! في تلك اللحظة فقط رأت مخروط الضوء الذي تساقطت أشعته على البوابة الحديدية، وبسرعة أدخل مفتاحا فانفتحت درفتا البوابة فدفعها للدخول في حفرة قاتمة.
الفصل السابع والثلاثون
في غياهب السجن
تعثرت فاندا واصطدمت بحافة صلبة فشعرت بألم في قصبة ساقها. سمعت صلصلة مفاتيح ونظرت في الضوء الذي يتحرك من درجة لأخرى إلى جوارها، يميل صاعدا ثم هابطا إلى أن استقر عند قدميها، عندئذ فقط أدركت أنهما واقفان عند بداية سلم حاد الميل.
همس أندرياس قائلا: «آسف، كان علي أن أحذرك، لكني لا أريد أن أزيد من درجة الإضاءة هنا. تكفي إضاءة مصباح الجيب.» نظرت فاندا إلى المصباح وقالت: «من أين لك به؟» «سأشرح لك فيما بعد.» أمسك أندرياس بيدها وحاول أن يصعد السلم. «هلمي، تعالي.» لكن فاندا ظلت واقفة. «أين نحن؟» «في مخبأ قصر لاندجراف.» ثم أضاء الدرجات التالية وقال: «تعالي هنا، أرجوك، فأنا أعرف هنا مكانا آمنا.»
كانت الدرجات عالية أكثر من المعتاد، كما بدا أن السلم لا يريد أن ينتهي. نظرت فاندا إلى الأسفل، ثمة ضوء أزرق يتخلل القضبان التي أغلقها أندرياس خلفهما. وهكذا، يدا بيد في ضوء مصباح الجيب، كانا يشكلان هدفا مثاليا. أسرعت فاندا خطاها. انحنى الطريق في نهاية السلم انحناءة حادة نحو اليسار، ثم جاءت بضع درجات إضافية صاعدة، وبعد عدة خطوات هبطت مرة ثانية. كانت منهمكة أيما انهماك في تثبيت خطواتها بشكل صحيح على الدرجات الحجرية الزلقة، بحيث لم تلاحظ الفتحة على اليمين إلا عندما مرا منها وتقافز ضوء مصباح أندرياس على السلم فشعرت بالتغيير. وفي ضوء المصباح الذي دار يمينا ويسارا عرفت أنها في غرفة تكاد تكون مستديرة. «سنكون هنا في أمان تام.» قالها أندرياس وهو يقودها على آخر الدرجات حتى دخلا الغرفة وظلا واقفين فيها. «هذا مكان مختلف.» خرجت العبارة من فيها فاستغربت من الراحة التي اعترتها على حين غرة. خطت عدة خطوات حذرة في حين كانت الأرضية تصدر صريرا تحت نعلها. ارتعدت فرائصها وتجمدت. كان أندرياس إلى جوارها وأمسك بها. «هل كل شيء على ما يرام؟» كان الضوء ينير وجهها، فأغلقت عينيها وأومأت برأسها. «من كان ذلك؟» «لا فكرة لدي.» كانت أنفاس أندرياس لا تزال تتهدج وهو يجيب، «مجنون؟ لم أتعرض في حياتي لمثل هذا الأمر قط.» «وأنا التي كنت أظن أن ماربورج فردوس على الأرض.» أدارت فاندا رأسها، إلا أن الغرفة ابتلعت ضوء المصباح الملقى على الأرض أمام أقدامهما. لا أرى الجدران. وشعرت أنها في قبو. «ماذا عسانا نفعل الآن؟» «هل معك هاتفك المحمول؟»
كانت تهز رأسها بالنفي وأمارات الندم تعلو وجهها، إلا أنه كان يوجه ضوء المصباح نحو يديها هذه المرة، فتنهدت قائلة: «كلا، إنه الآن متصل بمقبس الكهرباء ليشحن.» «إذن نحن مضطران للمكوث هنا حتى يطلع النهار.»
لنبق إذن. فجأة لم تكترث للأمر. كانت ساقاها ترفضان المسير ولو خطوة واحدة. جلس أندرياس خلفها وأسند ظهره إلى ظهرها. انزلق رأسها المثقل إلى الوراء إلى أن نامت على كتفه. «ماذا كنت تعنين سلفا بأن المكان هنا مختلف؟» كانت نبرات صوته تسري في عمودها الفقري فتشعرها بالراحة. فكرت فاندا ثم أجابته: «المكان هنا يعبق برائحة البرودة، برودة أزلية.» «صحيح، برودة جافة مستمرة، لكن بلا صقيع. هذا المكان يعد في الصيف أحد أكثر الأمكنة برودة في ماربورج، وأنا آتي إلى هنا أحيانا في الأيام شديدة الحر. أستطيع هنا أن أفكر بهدوء.» توقف قليلا ثم واصل الكلام: «بالمناسبة أنت محقة، إنه مكان آخر بالفعل.» كانت عباراته تشي بالتقدير . «السلالم التي صعدنا عليها كانت تؤدي في السابق إلى المخابئ على الجانب الشمالي، وهي غير موجودة الآن. بعد بنائها في القرن السابع عشر كان المدخل إلى هذه الغرفة مغلقا تماما. نحن في الحقيقة في أسفل دور من مبنى آخر أكثر قدما.» «أين تحديدا؟» «في سجن برج الساحرات.» «وأنت السجان الذي يحمل مفاتيح السجن؟»
ضحك أندرياس ضحكة قصيرة: «أنا مجرد مرشد سياحي ممل، وهذا بالمناسبة السبب أني أحمل مصباح الجيب. فهو، إلى جانب المفاتيح، من أهم أدوات عملي.» شيء في نبرته أثار حنقها.
لقد جرها إلى السجن إذن. «لم أحجز لديك جولة سياحية.» «وأنا أيضا لم أطلب قاتلا مأجورا.» «هل تعتقد أن الأمر مقصود؟ لا أستطيع تخيل أن أحدهم ...» قطعت حديثها. وماذا لو أن أحدا بالفعل ب ... تلك المداهمة في المعهد ... «أنا خائفة.» قالت بصوت منخفض. «لقد كاد ينجح هذه المرة. لكن هنا بالأسفل لا يمكن أن يقع لنا مكروه.» «متأكد؟» «نحن في أسفل طابق بالبرج الأبيض، هكذا كان يدعى المبنى حين انتهى بناؤه في عام 1478، وقد كان في الأصل برجا من أبراج الدفاع.» ترك الضوء يدور ببطء وهو يقول: «كانت ثمة فتحات في الحائط، تبدو مثل نوافذ ذات أحجام مختلفة. هذه فتحات الرماية، لكن تم إدراك الخطأ التقني في البرج الأبيض في مرحلة متأخرة، ففي منتصف القرن السادس عشر كانوا قد أدركوا أنه لا يطابق المواصفات المطلوبة لبرج دفاع، فبني سور أمام فتحات الرماية وردم الطابق الأرضي الذي نحن فيه هنا الآن، وتم تعديل البرج برمته ليصير سجنا.» «للساحرات؟» «ليس بالضرورة. كانت محاكمات الساحرات يفصل فيها بسرعة، فمن يتهم بممارسة السحر من الرجال أو النساء كان لا يمكث هنا سوى فترة وجيزة.» «أتسمح لي؟» أخذت فاندا مصباح الجيب من يد أندرياس وتركت الضوء يتجول في الغرفة. لم تكن كبيرة، ربما يبلغ قطرها خمسة أو ستة أمتار. كان السقف مقببا ومسننا مثل جلد تنين، قدرت فاندا أن ارتفاعه يبلغ أربعة أمتار، وبعد إمعان النظر تمكنت من رؤية الأطراف الرقيقة للمقرنصات. وجهت الضوء صوب منتصف السقف فوجدت فيه فتحة. «ما هذا؟» «في البداية كانت فتحة مدفأة يمكن لدخان المدافع أن يخرج منها، ولاحقا صارت الفتحة التي يلقى منها المساجين إلى السجن.» شعرت لوهلة أنها يلقى بها من أعلى. أطفأت الضوء فساد ظلام تام. وحين بدأ أندرياس في الحديث بدا صوته قريبا جدا: «السجين لا يريد أن يقفز، فلا يملك السجان إلا أن يركله ليسقط في غياهب السجن. للسقطة وقع مكتوم، وخز مؤلم في الساقين. ثم يسمع صوت قعقعة من عل، فيعرف أن السجان يسحب الآن حجرا ثقيلا يسد الفتحة التي سقط منها للتو. الأمر ميئوس منه إذ كيف عساه يهرب من مكان كهذا؟ فجأة يسود الظلام والصمت. إنه قبر، لقد دفن حيا. يصرخ وهو يعلم تماما أن صرخاته ستضيع سدى. رائحة كريهة تكاد تخنقه، لقد تبلل بنطاله. هذا من الذعر، هكذا يقول لنفسه وكأن عليه أن يعتذر. لكن لمن؟ إنه وحيد. قميصه ملتصق بجروح ظهره المفتوحة جراء التعذيب. كم يشتد ألمه. ينصت، فيسمع صوت رشرشة وصرصرة، فيفكر أنها الفئران، هذا قبل أن يغيب عن الوعي على إثر الإنهاك.
في وقت ما يستيقظ ثانية، لكن تظل عيناه مغمضتين. ثمة قمر كبير خلف جفونه. تتخفى النجوم في ضوء الفجر الشاحب. هل أتى الصباح؟ شيء ما يمسح قدمه. يجفل ويتنهد ويفتح عينيه، لكنها لا ترى سوى العتمة. كم ظل هنا؟ إن مفاصله المتصلبة وفمه الجاف لدلائل موثوقة على أنه مكث لفترة طويلة. لا يتذكر بوضوح. لا يتذكر إلا أنه من المؤكد قد سقط من ارتفاع شاهق.» «كم من الوقت يظل هنا؟» سألت فاندا بصوت امتزج فيه القلق مع الذعر. «أقدر يومين، أو ثلاثة. لم يكن أحد ليعيش أكثر من ذلك. كما أظن أن لا أحد كان يود تحمل مسئولية جثة، وإن كنت أستطيع تصور أن بعض الأشخاص قد قضوا نحبهم هنا.»
ارتجفت فاندا وقالت: «ماذا فعلوا؟» «وما يدريني؟ أنا أخترع هذه الحكايات، والزوار يستمعون إليها بسعادة. قد يكون من قضى نحبه هنا قد قتل أحدهم ، لكن كان اعترافه ضروريا.»
قالت فاندا: «ربما كان مخادعا. أنا أيضا خدعت شخصا، فهل أنا هنا لهذا السبب؟» «ربما كان بريئا، لكنه يقف في طريق شخص آخر.» تلمست يدا أندرياس الأرض بحثا عن المصباح، لكن فاندا كانت لا تزال قابضة عليه. «لقد زورت بيانات.» لقد خرجت الحقيقة الآن. أنصتت في توتر لرد فعله. «لقد خذلت والدي.» «هذا أمر مختلف.» «أترين هذا؟» «لقد أخطأت، زورت، ألا تفهم؟» «كان أبي ليقول أيضا: ها قد ارتكبت خطأ، لقد زورت الخطة التي رسمتها لك.»
هزت فاندا رأسها. «هذا شيء مختلف تماما.» «ماذا زورت؟»
حكت له عن الدراسة التي أجريت في روتشيستر، وكان ينصت لها في انتباه. «لقد تلاعبت بالبيانات من أجل أن ينشر اسمي في بحث متميز.» «وأين المشكلة؟» «ريك يريد البيانات الأصلية.» «ماذا يمكن أن يحدث لك لو اكتشف الأمر؟» «لن يقوم بتفنيد البحث، ففي ذلك خسارة فادحة لماء وجهه. لكن سيخيب ظنه بي.» «أرأيت؟ لقد قلت لك إن المسألة هي هي.» ظلا صامتين لبعض الوقت، ثم ساور فاندا القلق. لا بد أن نبلغ الشرطة، لا بد أن هناك آثارا.
كانت تفكر في مصباح الشارع الذي انكسر من الطلقة، وفي الطلقة الأخيرة في الجراج. كان الإنهاك قد بلغ منها مبلغه، فأزاحت ذكرى الحادث الأخير إلى زمن آخر، ولذلك كانت تظن أيضا أن ما أصابها بالذعر طلقات مدافع. ربما كان ذلك حلما لأنها حين استيقظت كان جسدها لا يزال محنيا إلى الأمام. كانت تشعر بالبرد القارس لدرجة أنها فقدت الإحساس بقدمها اليسرى. تبرم أندرياس عندما تحركت هي وأضاءت المصباح. كانت الساعة قد بلغت الرابعة. حاولت النهوض إلا أن مؤخرتها كانت متصلبة من التجمد، وحين نهضت مرتعشة سقط أندرياس جانبا وتدحرج ضاما جسده مثل قطة. خطت فاندا بضع خطوات، فبدأ الخدر يختفي ويعود إليها الإحساس بقدمها تدريجيا. في جولتها القصيرة اكتشفت فراشتين بجناحين مضمومين عالقتين بالقبة، لاجئتين مثلنا، ظانتين أنهما بأمان هنا، إلا أن خيوط عنكبوت كانت عالقة بفتحة من فتحات الرماية. «أنا أشعر بالبرد .» قالت فاندا بلا مقدمات، وبدأت تقفز في مكانها «إلى متى تريد أن تظل هنا؟»
أجاب أندرياس وهو يتثاءب بصوت عال: «إلى أن يطلع النهار.» حركت المصباح في الاتجاه الذي أتى منه صوته، فوجدته قد جلس مستندا بظهره إلى الحائط وأخذ يفرك عينيه.
قالت فاندا وهي تتحرك في دوائر ويطقطق الحصى أسفل نعليها: «هذا معناه أن نظل هنا على الأقل ثلاث ساعات أخرى. سأكون قد تجمدت حتى ذلك الحين.» «ستموتين رميا بالرصاص بأسرع ما تموتين تجمدا. ثم إن المساجين هنا فيما مضى كانوا يتحملون الحياة لعدة أيام دون معطف ثقيل كالذي معك.» ثم خبط أندرياس على المكان المجاور له وقال: «تعالي، الدفء ينساب دوما من الدفآن إلى البردان. إنه القانون الأول للديناميكا الحرارية.» «الدفء هو حركة عشوائية غير قابلة للتنبؤ لجزيئات العناصر ...» ثم ضحكت فاندا من كلماتها، واستطردت: «إن لم ننتبه إليها فستؤدي إلى الفوضى. القانون الثاني للديناميكا الحرارية.» «لكن فقط في نظام مغلق.»
بمصباح اليد أسقطت ضوءا مرتعشا سريعا يدور بالغرفة قائلة: «وهل هذا غير ذلك؟» «هل لهذا تتحاشينني؟» لم تجب سؤاله، فقط كانت تشعر أن البرودة تشق شروخا في جدران مقاومتها الداخلية، فجلست إلى جواره. حين أحاطها أندرياس بذراعه شعرت برائحة كريم ما بعد الحلاقة الذي يستخدمه تحيط بها. كانت يداه دافئتين على نحو مدهش. مر بعض الوقت حتى بدأت الكلام. تلعثمت في البداية مثل محرك بارد، تحدثت حديثا غير واضح عن نتائج طبية ما، وعن خوفها من مرض قاتل، على الأرجح مثل المرض الذي قتل والده. تهتهت وهي تقول إنه ربما يكونون جميعا قد أصيبوا بتلوث ما حين كانوا في نيو مكسيكو، أو إنهم أصيبوا بعدوى شيء جديد، خطير، شيء لم يكشف الطب كنهه تماما بعد، وربما يكون ذلك كله مجرد وهم. سحبت شكوكها ثانية. أشعرتها حالة الهستيريا بالحرج، إلا أن أندرياس ضمها إليه بقوة، فما كان منها إلا أن واصلت حديثها عن إدمان والدها، وهو أمر يجعلها تشعر بالذنب تجاهه دون أن تعرف لماذا. تركت العنان لذكرياتها لتتحدث، ومضات برق فكرية في جلسة عصف ذهني. تحدثت عن المداهمة بالمعهد، عن صورة القبر الرقمي الذي حمل اسمها وسنة وفاتها. لا بد أنه يظنك مجنونة. إلا أن تدفق الكلام كان أقوى من أي نقد توجهه لذاتها. ومثل طفل غاضب يلقي بقطع اللغز المصور، ألقت أمام قدميه بآخر ما توصلت إليه من معلومات خاصة بدراسة شركة بي آي تي التي يحاول رئيسهما أن يتفوق من خلالها، فلم يعد بها أي رغبة أن تسخر نفسها في خدمته بعد ذلك، وأن عليه أن يهتم هو ب «نانوسنيف» بنفسه. حتى هذه النقطة كان أندرياس يستمع لها بانتباه ويلمسها برقة إن بكت. «ربما لك بالفعل عدو. من تراه لا يرغب أن تذيعي هذه المعلومات؟» «لا أعرف حقا. أحيانا أحلم به، لكني لا أرى وجهه، وأحيانا أظن أني أختلق الأمر برمته.»
وبدلا من التقاط هذه الفكرة واصل أسئلته: «هذا الفيروس المتحول لا يصيب سوى الفئران، فما الخطير في ذلك؟» «ليست لديك فكرة، الفيروسات تستطيع تغيير مضيفها كما تغير أنت قميصك. تشويه في تركيب إنزيم على السطح الخارجي ... ثم ... فجأة» طرقعت فاندا أصابعها «تنتقل إلى نوع آخر من الكائنات الحية. وهناك أيضا فيروسات حيوانية تحورت لتصيب الإنسان. سارس، إيبولا، فيروس-ماربورج ... لكن هذه ليست مشكلتنا الآن، فقد ظهر في تجاربنا عضو جديد. أم عساي أقول روبوت صغير مستقل؟ يبدو الأمر مثل الخيال العلمي، ورغم ذلك لا يمكن دفعه بعيدا. أتمنى أن نقضي عليه قبل أن يستطيع أن يتغلب علينا، لكني لا أعتبر السكوت على هذه المسألة أمرا صائبا.» «كيف يمكن أن يحدث ذلك؟» «كان السبب في ذلك هو عدم النظافة، عدم الدقة في تخطيط التجارب. سمه حادثا إن شئت. لقد حقنت الفئران بفيروس كان يأوي الجين المنزلق. عمليات النقل تلك ليست بالضرورة مستقرة، لكن في حالتنا هذه أخشى أن الأمر وصل إلى ما قد يسمى منحة لا ترد، بمقتضاها تحول مثير غير مؤذ إلى آخر مميت.» «ماذا تريدين أن تفعلي؟» «ليس من المعتاد التحدث عن هذه الأخطاء. لن يتوجك أحد بإكليل الغار. الأرجح أن أمرا كهذا يلقي عليك أضواء سلبية في المجتمع العلمي، كما أن تورط الصناعات الدوائية في هذه المسألة يعقدها. أراهن أن الشركة ستلغي المشروع برمته بمجرد أن تعرف بالذي حدث.» «ربما يكون هذا حلا. لماذا لم تخبريهم من قبل؟» «بهذا أعيد المشكلة ثانية لكن تحت الطاولة. فيطوي النسيان الموضوع ولن يعرف عنه أحد. علاوة على ذلك، أخشى أن أفقد وظيفتي.» «من سيستفيد من إعلانك للخبر؟ أعني هل تريدين الانتقام أم أن يقام لك نصب تذكاري؟» فكرت فاندا. أن ترى الرئيس غارقا في عرقه، هذا وحده يكفي ليجعل المخاطرة مجدية. «للأمانة أقول بعضا من كلا الأمرين، ناهيك عن أني سأتمكن من التعبير عما أفكر فيه بصراحة. لقد فاض بي الكيل ولم أعد أتحمل أن أظل أتصنع وأمثل طوال الوقت، أن ألبي التوقعات، وأوقظ الآمال. إنها طبيعة علم السموم، أن تكون ذا عقل ناقد، لكن عليك أن تلعب مع الذئاب، إن كنت تريد أن تنال من مغانمها. إنها مسألة حياة أو موت. عليك أن تتأقلم معها وتجد نفسك قد تغيرت. وإن كنت تسمح لنفسك بالتلاعب، فستتجاهل ما يقوم به الآخرون في وقت ما. أليس من الممكن أن يكونوا هم مستقبلا من يقيمون أبحاثك العلمية؟» سقطت قطرة من أنفها، فدست يدها في جيب معطفها باحثة عن منديل ورقي، أخرجته وتمخطت. «فقط حين نستعرض أخطاءنا ونقاط ضعفنا بوضوح أولا، سنستطيع أن نصل إلى شيء. يمكن للناس أن تصدقنا. أريد مزيدا من الانفتاح على الناس، والبعد عن تجنبهم.» «أنت تريدين إذن أن تطلعي المجتمع العلمي على أمر يعرفه منذ مدة طويلة، لكنه يرفض الحديث عنه بوضوح. أشك أنك ستنالين جائزة عن ذلك.» «إنك تسخر مني.» «لا أبدا، على الإطلاق. هناك جائزة يحصل عليها الواشي؛ تبلغين عن خديعة، أو عن معلومة غير مريحة، فيتم تكريمك على ذلك.» «ليس الأمر بهذه البساطة. إن الجائزة التي تتحدث عنها لهي تكريم من العيار الثقيل، في وسعه أن يحمي العالم من الإفلاس إن كان نشر أبحاثه الموثقة سيكلفه وظيفته. مقارنة بهذا لست إلا ومضة صغيرة. لا ينال هذا سوى كبار العلماء.» «ومن يرعى شئون الآخرين الكثر المرتبطين بعمل الكبار؟ أولئك الذين نسميهم نخبة المستقبل؟» «على هؤلاء أن يبرزوا أولا في مجالهم. أينشتاين مثلا دعم في البداية البرنامج النووي، لكنه ابتعد عنه لاحقا، قرب نهاية مساره الوظيفي، حين كان في وسعه تحمل تكلفة أن يكون ناقدا.»
مس أندرياس أذنها برقة بأرنبة أنفه. كانت باردة، لكن أنفاسه بثت فيها الدفء. «لم تكن صدفة أن آتي إليك في المعهد.» «ماذا؟» «لقد رأيتك آنذاك في القطار. كنت قادما من جنازة أبي.»
قالت فاندا: «صحيح. قائد الفرقة الموسيقية.» «من؟»
ابتسمت وقالت: «الصدف واردة.»
رد أندرياس: «لقد قلت للتو إني حضرت إليك قصدا.» صمتت فاندا. وعاد السكون يخيم مع الظلمة مرة أخرى. كان عليها أن تعترف أنها تستمتع باقترابه. لكني لن أقبله، ليس الآن. «من تكون إذن لاريسا زخارياس؟» لم يخرج السؤال عفويا على لسانها كما تمنت. لم يجب أندرياس مباشرة. «إنها جد بعيدة نسبيا.» «هذه ليست إجابة.»
قال مترددا: «نحن معا منذ عامين. هي الآن في نيكاراجوا.» •••
استيقظا مع أول قرعة جرس من أجراس الكنيسة في الساعة السابعة. كان لا يزال الظلام سائدا، إلا أن فاندا ظلت تلح كثيرا على أنها ستتجمد من البرد إلى أن استسلم أندرياس لرغبتها في مغادرة المكان. عادا من نفس الطريق الذي جاءا منه. من بين أقواس الحماية الحديدية في الحصن الأثري أطل قمر آخذ في الزوال. أحيانا كانت قطع السحاب تحجب ضوءه الكثيف. كانت السحب قد انقشعت في الليلة الماضية وانخفضت الحرارة بدرجة ملحوظة. لم يعودا إلى باحة القصر وإنما أسرعا في الهبوط على السلالم المؤدية إلى رنتهوف. لم يتلفتا حولهما، بل ظلا يركضان بما سمحت به لهما سيقانهما المرتعدة من سرعة. هذه المرة لم يتحرك شيء وراءهما.
أصر أندرياس على أن يوصلها إلى بيتها. لم يكن بالطريق سوى بضع سيارات قليلة، فقط أمام المخبز النشاط المعتاد أيام السبت متأخرا عن موعده في باقي الأسبوع. افترقا أمام باب منزلها. كانت الشقة باردة، فبدأت أسنان فاندا تصطك وهي تخلع ملابسها، والماء يخر في حوض الاستحمام. وخزها بإبره الدافئة فتحلل تصلب مفاصلها، لكنها لاحظت أنه لن يتمكن من طرد البرد الذي استقر في عظامها.
الفصل الثامن والثلاثون
ذخيرة ذاتية التحلل
حررها رنين من حلمها؛ إذ كانت فاندا واقفة منذ لحظات في القبو المظلم بمنزل والديها ترتعد ذعرا، في حين يلاحقها شخص لا تعرفه، ثم يترصدها خلف الباب في زاوية قصية. كان نفس الحلم الذي يطاردها. وقد كانت سعيدة بالتحول المفاجئ إلى الحقيقة، لكنها تلمست طريقها وكأنها آلية يتحكم بها عن بعد، وهي تمضي في اتجاه الصوت. كان هاتفها يدق على الخزانة الصغيرة بالمدخل. كان لا يزال متصلا بمقبس الكهرباء.
لم يلتقط سوى اتصال من شرطة ماربورج. كان المتصل يسأل عن السيدة الدكتورة فالس. تنحنحت فأدركت كم كان حلقها محتقنا. «هذه أنا.» خرج صوتها ناعقا، وبدت في حلقها نار ملتهبة، أنفها مسدود وفي جمجمتها طنين. لقد تم تعيينك شاهدة من قبل من يدعى أندرياس هيلبيرج الذي قام صباح اليوم بتقديم بلاغ ضد مجهول. تم تحديد موعد للمعاينة عند القصر في تمام الواحدة ظهرا؛ أي بالضبط بعد ساعة من الآن. سيكون من الجيد لو استطعت الحضور. قال إن مكان اللقاء هو محطة الحافلات الكائنة بعد المنحنى جنوب جينوزينفيج.
حين وصلت فاندا كان بانتظارها بالفعل شرطيان، رجل وامرأة. كانت الشرطية تدون ملاحظاتها. انحنى زميلها متفحصا الزجاج على الأرض أسفل عمود الإنارة الذي انكسر مصباحه من الرصاص. كان يحمل في يده عصا معدنية في نهايتها قرص من المعدن كذلك. كان أندرياس في تلك اللحظة قادما من طريق جانبي. لا بد أن هذا هو الطريق الذي هربا منه في الليلة السابقة. حيا الشرطي فاندا باقتضاب وفتور. قال إنه يدعى ترامبيرت وإن زميلته تدعى فازا، لكنه كان يخاطبها باسمها الأول ليديا. كانت شابة شقراء يظهر عليها بوضوح بالغ علامات حداثة السن، وشقرة الشعر فلكأنها خبز مقرمش سويدي. «لن نجد آثارا أخرى على الأرض، فقد قامت الأمطار بإزاحتها كلها.» كانت نبرته تشي بأمر بالذهاب بأكثر مما تحمل نبرة تصريح موضوعي. «لو استطعتما أن تخبرونا من أي اتجاه جاءت الطلقات لتوفرت لدينا فرصة العثور على مقذوفات.» وقف أندرياس في ذات المكان الذي كان واقفا فيه بالأمس حين بدأ إطلاق النار. تلفت حوله باحثا. لقد كان الظلام دامسا؛ لذا فالطلقات من الجائز أنها صوبت تجاههما إما من مخبأ أو من نافذة مظلمة. أدركت فاندا في التو واللحظة أن المكان مكشوف للغاية. هل أخطأ ذلك المهاجم المشئوم التصويب حقا؟ لقد كانا يقفان ها هنا مثل حلوى المارزبان على طاولة عرض محل الحلويات. أصابتها الفكرة بقشعريرة سرت في بدنها. إن أي طفل كان بوسعه إصابتهما بسهولة. لا بد أن الرامي كان من أسوأ ما يكون. هل كان ثملا، ربما؟ أشار أندرياس إشارة مترددة في اتجاه غير محدد. «متى إذن سقطت الرصاصة الثانية؟» أراد الشرطي أن يعرف. لم تتمكن فاندا أن تحدد بدقة وأخذت تنظر إلى الطريق المسفلت الذي هربا منه.
سألت الشرطية: «هل كان أزيز الرصاصة مزدوجا؟ هذا يمكن أن يخبرنا بشيء عن المسافة التي كان يطلق منها الرامي رصاصه.» نظرت فاندا إلى أندرياس بحثا عن المساعدة، لكنه هز كتفيه وبدأ الحديث عن طلقة ثالثة ورابعة وخامسة، وكأنهما كانا يقفان في مرمى خط النار. فاندا عايشت الموقف بصورة مختلفة، لكنها لاحظت أن ترامبيرت هز رأسه برفق في إشارة إلى زميلته مما دفعها للإحجام عن قول ما تريد خوفا من أن تزيد من حنقه. لم يكن الشرطي يصدقهما، وفي النهاية سيحملهما مسئولية مصباح الإنارة المنكسر.
توجهت نحو الجرف الأيمن دون مزيد من اللغط وقالت: «لا بد أن الطلقة صوبت من مكان ما هنا.» توجه ترامبيرت ناحيتها وحرك عصا الكشف المعدنية على المكان الذي أشارت إليه، لكنه لم يجد شيئا.
قالت فاندا بعد فترة من البحث غير المجدي: «ربما يكون لنا حظ أوفر إذا ما صعدنا القصر. من الجائز أن الطلقة الأخيرة اصطدمت بسور البوابة عند الجناح الشمالي. المكان هناك مكشوف أكثر من هنا.»
أعلن الشرطيان موافقتهما، وهكذا ركبوا السيارة حتى وصلوا إلى الجراج في باحة القصر. ضيقت فاندا عينيها في شمس الشتاء الرقيقة، وفتح الهواء العليل أنفها المسدود. وجدوا أن سور البوابة لم يمس كما لم يعثروا في الأرض أمامه إلا على كوب ورقي مجعد وعلكة وبعض أعقاب السجائر. وقفوا في حيرة من أمرهم ما عدا الشرطية التي جلست ملاصقة للسور، وأخذت تدرس الأحجار وكأنها تبحث عن نقش خاص، لم يكن ينقص إلا أن تطلب عدسة مكبرة. تغير وجه ترامبيرت المعبر عن الملل ليعبر عن الاستفزاز. «هل أنتما متأكدان أنكما سمعتما صوت إطلاق نار؟» رأت فاندا أن أندرياس أيضا لم يفهم ماذا كان يقصد. أوضح ترامبيرت: «ارتطام الطلقة بالسور؟» لكنه لم ينتظر إجابتهما، وإنما تبع إشارة زميلته التي غمزت له كي يذهب إليها. لم تتمكن فاندا من رؤية الشيء الذي رغبت أن تريه إياه؛ إذ كان كلاهما يغطي على المكان. كانت تتحدث بصوت خفيض وبدت كأنها تشرح له أمرا. أومأ برأسه. بعدها نهضت وذهبت إلى السيارة.
نادتها فاندا متسائلة: «ما الأمر؟» «أحتاج لحظة بعد.» لم تمكث الشرطية كثيرا، ولما عادت كانت تحمل في يدها أنبوبة بلاستيكية صغيرة الحجم. تبعتها فاندا وأندرياس نحو السور، فأخرجت من الأنبوب ملعقة صيدلاني. كانت أدواتها تبدو مثل تلك المستخدمة في أخذ عينات البراز. بدأت ليديا فازا في الخربشة على السور. وفي تلك اللحظة فقط تعرفت فاندا على الشيء الداكن المستدير في الجزء العلوي من قاعدة السور، لم يكن أكثر سماكة من علامة قلم رصاص عريض. وقف ترامبيرت إلى جوارها يراقب أخذ العينة بارتياب لا يخفيه، وأخذ يحك فمه. «لست متأكدة.» نظرت الشرطية إلى فاندا بعينين زرقاوين متسعتين حين بدأت تتكلم. لقد كانت جميلة حقا. وكانت بشرتها الناعمة ووجنتاها اللتان وردتهما البرودة تجعلها تبدو مسترخية، على عكس فاندا. كانت تشير بأناملها الرفيعة نحو الخط الداكن. «إن هذا هنا يبدو مثل أثر ذخيرة ذاتية التحلل، لكني قد أكون مخطئة. ليست عندنا خبرة بذلك .» نظرت فاندا متسائلة. «إنه شيء جديد، ذخيرة ذاتية التحلل، ربما لهذا السبب لم نجد أثرا للمقذوفات؛ فباستخدام ذخيرة ذاتية التحلل لا يبق أي أثر، أو إن شئنا الدقة، ليس ثمة أثر يرى بالعين المجردة، إلا إذا اصطدمت الرصاصة بشيء صلب مثل هذه هنا بالسور.» «وما هي تحديدا؟» سألت فاندا.
أجابت ليديا فازا: «إنها جزيئات نانو. إن مقذوفات الذخيرة ذاتية التحلل تتفتت إلى غبار ناعم غير مرئي وتتوزع، وهي تترك آثار روابط كربونية لا يمكن إثباتها إلا باستخدام طرق معينة. إن كانت هذه العلامة بسبب ذخيرة ذاتية التحلل فسنتمكن من إثبات ذلك باستخدام هذه العينة.» «هل تبحثون مثلا عن الفوليرينات؟» كانت فاندا قد تحولت كلها إلى آذان مصغية، فإلى جوار الجرافيت، والماس، كانت الفوليرينات تمثل رابطة الكربون الطبيعية الثالثة، لقد كان العلماء واثقين حتى في عقد الستينيات من وجودها، رغم أنها لم تكتشف إلا في منتصف الثمانينيات عن طريق الصدفة. «نعم، بالضبط.» نظرت إلى فاندا بانتباه وسألت: «هل أنت مطلعة على هذه الأمور؟» ضحكت فاندا قائلة: «عملي بالكامل يعتمد على هذه الأمور، أنا متخصصة في علم السميات، لكني لم أكن أعلم أن أحدا يمكنه أن يطلق النار مستخدما «كرات بوكي».» إن «كرات بوكي» بقطرها الذي لا يتجاوز النانومتر تمثل أصغر الفوليرينات على الإطلاق. قام المعماري ريتشارد باكمينستر فولر (ويدعى اختصارا بوكي) بتسميتها في براءة الاختراع؛ لأنها كانت تذكره بالقبات الكروية الجيوديسية التي اشتهر بتشييدها، ولأنها تحتوي على ستين ذرة كربونية اعتبرت إنها بمثابة كرات القدم في عالم النانو، لأنها كانت مثل كرات القدم، مركبة من اثني عشر خماسيا، وعشرين سداسيا تضمن لها استدارة الشكل. كانت الوليد الجديد في عالم صناعة الشرائح. أما أخواتها الطولية، أنابيب النانو، فوصلت إلى قوة شد عالية من شأنها أن تسعد الأجيال الجديدة من لاعبي التنس بهذه الكرات العجيبة، فلماذا إذن لا تقتحم هذه الأقزام تكنولوجيا السلاح؟ «ومن يطلق النار مستخدما شيئا كهذا؟» سأل أندرياس.
أجابت الشرطية: «هذه الذخيرة ليست متوفرة في السوق بعد. يتم تطويرها للاستخدام في الأسلحة ذات العيار الصغير، وهي قاصرة على استخدام الجيش والمخابرات. أنا أعلم بهذا الآن فقط بسبب حضوري دورة تدريبية.» زمجر ترامبيرت بنفاد صبر، فنظرت إليه زميلته بهدوء وقالت: «ربما أيضا أكون قد جانبني الصواب تماما، إلا أن زميلي يرى أن تحليل البقايا ليس خطأ. إن حالفنا الحظ فسيثير الأمر اهتمام معمل متخصص في كارلسروه.» دست ليديا فازا أنبوب العينة في جيبها. «هذا ما لدينا!» استدارت للذهاب وكان ترامبيرت قد سبق إلى السيارة.
قال أندرياس: «شكرا على مجهودك.» «سنتصل بكم.» ثم مدت يدها لتصافحهما مودعة، واستطردت: «لكن لا تعقدوا آمالا عريضة.»
الفصل التاسع والثلاثون
نجمة وألعاب نارية
قبل عيد الميلاد بقليل سقطت الثلوج مجددا، وظلت تهطل بلا انقطاع حتى اليوم التالي، وتحت غطاء الثلج الأبيض اختفت ألوان الهضاب المحيطة بدرجاتها القاتمة. كانت الحافلات تنزلق إلى سفح منحدرات اللان ولا تعاود الصعود؛ إذ انهارت شبكة المواصلات العامة تماما لوقت قصير، ولأول مرة أخذت فاندا الطريق المار عبر الغابة سيرا على قدميها صاعدة أورتينبيرج حتى المستشفى. كانت السماء لا تزال ملبدة بغيوم رمادية مثقلة هطلت منها أيضا ثلوج كثيفة في الأيام التالية. صارت المدينة أكثر هدوءا مما جعل فاندا تتساءل إن كان السبب هو سفر معظم الطلبة في وقت عطلة عيد الميلاد، فبدت المدينة وكأنها خاوية على عروشها، أم أن ذلك يرجع إلى أن سقوط الثلوج خفف من ضوضائها؟ وحين فتحت ستائر نافذتها في أول يوم جمعة بإجازة عيد الميلاد، نظرت إلى سماء زرقاء فاتح لونها صافية بلا غيوم. انخفضت درجة الحرارة إلى عشر درجات تحت الصفر. خرجت فاندا قرب الظهيرة وسارت فقط بمحاذاة النهر، تتبع المشاة المتعطشين لضوء الشمس الذين خرجوا يتنزهون ومعهم المعاطف الجديدة أو الفراء أو الشيلان أو القلنسوات أو حتى كلبهم العجوز. في ضوء الشمس لمعت المروج الناعسة على ضفة نهر اللان، المغطاة بطبقة سميكة من الثلج. كانت تتخير لنفسها في كل يوم طريقا جديدا لتكتشف المكان الذي تعيش فيه. أما فترة ما قبل الظهيرة فكانت تكرسها لشقتها : تنظف، تصنف، ترتب وتتخلص مما لا لزوم له. كانت تفكر في شروحات توماس حول العلاقات التجارية بين الفوضى والنظام، وتتساءل عن الثمن الذي تدفعه الآن من أجل التخلص من الفوضى الضاربة في شقتها. ظلت تلمع خشب مكتب والدها ذي الأرفف بالزيت حتى صار له بريق مائل للحمرة، لكنها حتى اللحظة لم تخطر ببالها فكرة تمكنها من فتح قفل الدرج المغلق. ولأول مرة بدأت تشعر بالرضا عندما تعود من نزهاتها إلى الشقة.
بعد ذلك كانت تراجع الأشياء التي أنجزتها في الصباح. لقد كان ترتيبا رائعا متوازنا لساعات اليوم دون إزعاج من أحد. وهكذا مرت أيام العطلة سريعة دون أن تقابل أحدا كذلك؛ إذ سافرت زابينة إلى عائلتها على الشاطئ، ويوهانيس يتزلج على منحدرات آسبن، أما بيترا فلا يعلم مكانها إلا الله، وأندرياس يمضي أيام الإجازة لدى والدته في ميونخ. إلا أن فاندا لم تكن بمفردها كلية، لقد تركت زابينة جوسي عندها، فكانت تقتسم مع الفأرة البسكويت الذي خبزته سريعا ليلة عيد الميلاد المجيد، وأخذتها في حضنها لتتفرجا معا على الأفلام متوسطة القيمة التي يعرضها التليفزيون. لقد نجحت بالفعل أن تركب جهاز التليفزيون ذي الشاشة إل سي دي، وأن تضبط درجة الصوت في جهاز استقبال القنوات الفضائية لتختار واحدة من سبعين قناة تستقبلها بصورة واضحة، لكنها لم تتمكن من فعل أكثر من ذلك. أعارها أندرياس بعض أقراص دي في دي، لكن كان يتعين عليها أن تصلها بالكمبيوتر المحمول الخاص بها، وكان ذلك من شأنه أن يكلفها كثيرا من الوقت للبحث عن منافذ الكمبيوتر التي لن تجدها في النهاية. وكانت تعلم أن كتيب التعليمات لم يكن لينجح إن قيمه تقني متخصص فقررت ألا تعتمد عليه، لهذا كان عليها أن تكتفي بالقدر الذي تقدمه القنوات العامة المفتوحة والخاصة لمشاهديها، خصوصا أن هذا الأمر لا يمثل مشكلة لجوسي، التي بعد أن تنظف الصحون من بسكويت فاندا تستقر في الوادي ما بين نهديها، راغبة ألا يزعجها أحد.
الاسترخاء أمام التليفزيون بصحبة ضيفتها الجذابة كانت المكافأة التي تهديها فاندا لنفسها لقاء أعمال تنظيف الشقة التي تجريها يوما بعد يوم، وبهذا الإيقاع عاد إليها هدوؤها الداخلي، وبدأت ذكرى الأحداث المهددة تذهب بالتدريج. أما الهجوم الذي تعرضت له بجوار القصر فاعتبرته عمل مجنون تصادف أن اعترضت طريقه، كما اعتبرت القبر الرقمي دعابة مروعة أرسلها شخص لا تعرفه. لم تستطع أن تتصور أن شخصا يمكن أن يكرهها إلى الحد الذي يجعله يتمنى لها الموت. فكرت أن تسأل في مركز البيانات بالجامعة، لكنها تراجعت لما وجدت المسألة ثقيلة على نفسها. شيء واحد فقط كان يغضبها، ألا وهو أن النتائج المنتظرة من خبير الفيروسات لم تصل بعد.
اتصل بها الدكتور كانتيرات - الزميل العالم المختص بعلم الفيروسات - قبل عيد الميلاد بمدة قصيرة، واعتذر لأنه لم يتمكن من إجراء التحاليل من أجلها، لكنه وعدها في نهاية الأمر بعد أن تلعثم قليلا أمام إلحاحها في الطلب، أن يعاود الاتصال بها في العام الجديد.
ما الذي أغراها بالمضي قدما في هذه المسألة؟ بدلا من التجول في المدينة لتسأل في محال الأنتيكات على كيفية فتح الأقفال القديمة دون إتلاف قطعة الأثاث، كان يمكنها أن تجمع الأرقام، وترسم أشكالا بيانية وتعد للخطوات القادمة. أو حتى ترتب خططها الشخصية الخاصة. في هذه الأثناء صارت مقتنعة أن عليها أن تجري فحصا شاملا، وكانت تريد أولا أن تعرف ماذا أصاب جونتر هيلبيرج وتتمنى أن تستفيد من هذه المعرفة في تشخيص حالتها؛ إذ لم يكن بها أي رغبة في بدء فحوصات طويلة الأمد لا تعرف عما تبحث تحديدا، فتفضي بها كالعادة لا إلى معرفة الجديد وإنما إلى مزيد من تحطيم الأعصاب. لقد كانت تحتاج نتائج تحليل أنسجة مخ جونتر هيلبيرج ليكون دليلا تسير على هديه الفحوصات الطبية الخاصة بها.
رغم أن تقرير الأرصاد قد أعلن عن ذلك، فإن ذوبان الجليد جاء أسرع من المتوقع. لقد تغير اتجاه الريح في ليلة الحادي والثلاثين من ديسمبر، وفي اليوم التالي صارت الشوارع مبتلة بماء الجليد الذائب، وأخذ الماء يقطر من الأسقف ومن الأشجار. خلت الجراجات المنتشرة على ضفة نهر اللان من السيارات، في حين أغرقت المياه الجسور وبعض مسارات الدراجات. لكن تغير الجو لم يغير شيئا من التوتر المبتهج الذي كانت تشعر به فاندا كلما فكرت في ليلة رأس السنة، ورغم ذلك لم تكن تملك ملابس مناسبة ترتديها في حفل توماس. ليس في مقدورها أن تصرف الكثير على مظهرها، فجزء من تكاليف الانتقال وتأثيث الشقة لم تكن قد سددته بعد، كما أن جهاز التليفزيون الفاخر - الذي أقنعها بشرائه بائع جذاب في متجر كاوفبارك - كلفها مبلغا كبيرا، وبالنظر لمتوسط استهلاكها السنوي القليل فلا ضير من اعتبارها واحدة من الطبقة الوسطى بجدارة. صحيح أنها تجني الآن أموالا أكثر من تلك التي كانت تكسبها في أمريكا عقب حصولها على الدكتوراه، لكن لا يزال راتبها أقل من زملائها الأمريكيين. لكني أحب عملي، هذا ما داومت على قوله لنفسها كلما راجعت كشف حسابها البنكي. سيكفي ما سحبته منه لشراء بنطال جينز جديد وبلوزة أنيقة.
وفي ليلة رأس السنة، استقلت سيارة أجرة متوجهة إلى شقة توماس التي تقع بالقرب من فيلا شتورم، في الطابق الثاني من عمارة حديثة. «هل بكرت في الحضور؟» تعجبت فاندا أن الوضع عنده لا يزال هادئا.
كان توماس يرتدي مريلة مطبخ سوداء، عليها رسوم طباشيرية لرجال صغار الحجم يرقصون. ورغم أنها لم تكن تفهم في الفن كثيرا، فإنها تعرفت على أسلوب كيث هارينج الذي لا تخطئه العين. شابت ابتسامة الزميل بعض التوتر وهو يساعدها على خلع معطفها، ثم اختفى عبر باب ربما يؤدي إلى المطبخ. سمعت همسا وهمهمة، فأخذت تتفحص مرآة الحائط المعلقة عاليا في الغرفة. كانت البلوزة الملتصقة بجسدها التي يطرز حافتها الخرز اللامع وتحلي الدانتيلا أكمامها، تبدو مثالية تماما عليها، ورغم ذلك شعرت أنها عارية؛ فهي ليست معتادة أن تظهر بهذا الشكل. على الأقل كانت راضية عن مظهرها من رأسها حتى الرقبة. شعرها الذي لم تقصه إلا بالأمس أضفى رقة على مظهرها، وتلألأت عيناها الداكنتان ببريق. ورغم أنها كانت متعرقة من إبطيها، فإن يديها كانتا متجمدتين، وحين دخلت إلى المطبخ كان توماس يشوح اللحم في الطاسة ويسقيه بالنبيذ، فيما اشتعلت شمعة على طاولة عالية تشبه طاولات الحانات الصغيرة. بدت الطاولة معدة لاثنين.
قال توماس وهو يناولها كأسا من النبيذ الأحمر: «بل أتيت في الوقت المناسب تماما. اجلسي.» ثم أضاف ووجهه متوهج: «هيا تذوقيه.» ثم عاد للوقوف أمام الموقد، في حين جلست فاندا على أحد الكراسي العالية. «نحن الاثنان فقط؟» ورشفت رشفة، كان النبيذ الأحمر ناعما وجافا، يلائم ذوقها تماما.
فقال توماس: «فقط انتظري لتري، لن تريدي أن تتقاسمي هذا مع أي أحد.» ثم غمز بعينه. ما الذي يدفع الرجال لإثارة كل هذه الزوابع حين يطهون؟ هل أخطأت في فهمه؟ لا يهم، فلن يشهد عليهما أحد. لاحظت كيف أن توتر الساعات الأخيرة يغادرها. بعد البابايا بلحم الخنزير، جاء الدور على شرائح الديك الرومي، مع صلصة لذيذة بجوز الهند، مع الفطر الذي قدمه مع الأرز البسمتي. كيف عرف توماس مأكولاتها المفضلة؟ بينما في الخلفية غنى صوت برازيلي على نغمات موسيقى الجاز. ترنحت فاندا واستمتعت بالدغدغة التي تنشرها نظراته العميقة في جسدها. كان توماس يتحدث عن الفن والموسيقى، لكنها لم تكن مصغية إليه تمام الإصغاء، وإنما تكتفي بالابتسام حتى يواصل الحديث. كان من الرائع ألا تضطر إلى التفكير في تعليقات تتصنع بها الذكاء كي تبقيه على حالته المزاجية تلك. كان صوته الأجش يمس عنقها، فيما لف جسدها دفء لطيف، فبدأت تتراقص وتتمايل بنعومة على أنغام الموسيقى دون أن يبدو عليها. «هل تفضلين الحلوى الآن مباشرة، أم تشربين قهوة إسبريسو أولا؟»
أطلقت فاندا تنهيدة مستمتعة، وقررت أن تأخذ القهوة. نهض وتوجه نحو منطقة العمل بالمطبخ. كان قميصه الواسع يتهدل بحرية فوق بنطاله الجينز. إنه أيضا مغرور. ماذا كنت تنتظرين؟
قالت فاندا متفاخرة: «بالمناسبة لقد نجحت في تشغيل جهاز التليفزيون الخاص بي بمفردي تماما.»
فسمعته يقول: «يا للخسارة! إذن تقللين حججي لزيارتك.» «صحيح أني أمتلك جهازا عالي التقنية، لكني لم أتمكن إلا من تشغيل التليفزيون. لم أتمكن من تشغيل الدي في دي ولا عمل أي تسجيلات.» «هذا مؤسف.»
واصلت فاندا حديثها: «لو أني أردت أن أفهم كتيب التعليمات لربما تعين علي حضور دورة تعليمية في اللغة. ترى هل هي مكتوبة بسوء هذه الترجمة في اللغة الكورية أيضا؟» «المشكلة برأيي تكمن في شيء آخر.» وصب القهوة في فنجانين صغيرين وهو يقول: «أزعم أن الرجل الآسيوي العادي أكثر تمكنا في التعامل مع التكنولوجيا من الرجل الأوروبي العادي.»
وقعت عينا فاندا على الكاميرا الرقمية الموضوعة على حافة النافذة. «صحيح. لقد نسيت تماما أن الكاميرا ترى نور العالم من خلال جهاز تصوير متكامل.» وضعت سبابتها أسفل إحدى عينيها وشدت الجلد قليلا إلى أسفل. «في الوقت الذي نسجل نحن فيه عيد ميلادنا على الورق، تومض أسفل جفنها إشارة ضوئية.» انزلقت فاندا وهي تتحدث من على الكرسي العالي وتوجهت نحو النافذة. أمسكت الكاميرا بين يديها بحذر، كانت من نفس ماركة الجهاز الذي افتقد قبل عدة أسابيع من غرفة الميكروسكوب. «هل عندك نفس الجهاز؟» سألت متعجبة، وغضبت من نفسها على طرح السؤال بلا تفكير. «ماذا؟» التفت توماس نحوها ونظر إلى يديها. «قام والدي بإعارتي إياها.» جاءت إجابته هادئة جدا. تمنت فاندا لو أنها ضربت نفسها على أصابعها. لماذا عليك أن تمسي كل شيء؟ وأعادت الكاميرا.
قال توماس: «تعالي. دعينا نشرب القهوة في غرفة المعيشة.»
كانت الغرفة تنتهي بواجهة زجاجية عريضة، ربما كانت الغرفة توحي بأنها كبيرة الحجم لما فيها من عدد قليل منتقى من قطع الأثاث. رجل آخر عنده أريكة من الجلد الأسود، أم تراه أزرق داكنا؟
وضع توماس الفنجانين على سطح المكتب الزجاجي الذي علق فوقه رف حشرت فيه الكتب حشرا. كان جهاز الكمبيوتر مفتوحا. تأملت فاندا نقشة قماش الأريكة بانتباه. «هل تعرفين ماذا قال كاندينسكي مرة عن اللون الأزرق؟» سمعت توماس يسألها، لكنه لم ينتظر أن تجيبه وأكمل: «كلما دكن لونه، نادى الإنسان نحو اللامتناهي، وأيقظ داخله الحنين إلى النقاء، وأخيرا إلى ما لا يدرك بالحواس.» لاذت فاندا بالصمت. كان الوضع أشبه بتلك اللحظة في حفل موسيقي حين تصمت الموسيقى لبعض الوقت، لكن القطعة الموسيقية لم تنته بعد. في تلك اللحظات كان الجهلة فقط يبادرون بالتصفيق، هي نفسها كان يحدث معها ذلك من آن لآخر؛ ولهذا عودت نفسها ألا تبدأ التصفيق إلا عندما يبلغ تصفيق الجماهير قوة تقنعها أن الوقت المناسب قد حان. أصغت إلى وقفة توماس الموسيقية، لكنه لم يتحدث بعدها.
قالت أخيرا: «أنا لا أفهم كثيرا في الفن، أحيانا أرجح أن السبب يرجع إلى الأهل. ما طبيعة عمل والديك؟» «أبي تاجر فنون.» «حقا؟» «لااااا.» سمعت ضحكته المبحوحة، «إنه تاجر سيارات مفلس، يسمونه اليوم معسرا، لعل في ذلك أملا، ويتلقى بموجب ذلك استشارة للمعسر. أما مفلس فتذكر بالخردة. والدي حالة ميئوس منها.» ألقى نظرة طويلة على النقش بالجدار ثم قال: «الشيء الوحيد الذي لا يزال يربطنا هو الولع باللون الأزرق.» نظرت إليه فاندا متسائلة. «لقد تم سحب رخصة القيادة منه. تصوري تاجر سيارات دون رخصة قيادة! هذا أمر يثير الضحك. منذ ذلك الحين وهو يراهن على الخيول.» «ووالدتك؟» «هربت بعد حصولي على الشهادة الثانوية، أعتقد أنها تتبع نزواتها الآن. يأتيني منها بطاقة معايدة بين الحين والآخر. مرة من إسبانيا، وأخرى من فرنسا، ومالطة، وإيطاليا. تصنع مشغولات خزفية، تمارس شعائر التانترا الهندية، وتعقد دورات في أشياء لناس.» كانت ضحكته توحي بالمرارة. «مثل دورة كيف تصنع الفخار في توسكانا وأنت عار.» «هل لك إخوة؟»
هز توماس رأسه. سحب كرسيا ثانيا أمام المكتب وأشار إلى فاندا بيده كي تجلس إلى جواره. رأت مجموعة من فأرات الكمبيوتر متكومة على أحد الأرفف، تمثل موديلات قديمة قذرة ومتآكلة، يلتف حولها سلكها كأنه ذيل. «هذه حيواناتي المنزلية.» قال توماس موضحا حين لاحظ نظراتها، «صحيح أنها تتكاثر خارج حدود السيطرة، إلا أنها مع ذلك في غاية القناعة.» في أثناء ذلك كان يضرب الغبار فيتشكل في سحابة، فأضاف: «أعتقد أنه سيتعين علي أن أنظف المكان ذات مرة.» «كان علي أن أحضر جوسي معي.» «قطتك؟»
ضحكت فاندا، وقالت: «جوسي فأرة زابينة.» أدار توماس رأسه سريعا إلى الجانب، فرأت فجأة في صورته الجانبية صرامة وتجهما، كما أن عضلات فكه انقبضت وكأنه يلجم نفسه، ثم عاود النظر إليها وابتسم بخبث: «لقد حضر الآن الضيوف الآخرون، أريد أن أعرفك عليهم.»
لم تكن فاندا قد انتبهت حتى ذلك الوقت لشاشة الكمبيوتر. أخذت سطور مكتوبة تتطاير على الشاشة المسطحة كما الحال في غرف الدردشة، كانت معظمها تعبيرات عن الإعجاب بصلصة جوز الهند بالفطر، كما أن متحدثا اسمه باستي أراد أن يعرف متى سيتم تقديم الحلوى. في الخلفية كان كنالفروش وبونش يتجادلان حول جدوى وعدم جدوى استخدام الألعاب النارية في ليلة رأس السنة، التي يدعون أنها تزيد من توزيع الإندورفينات في الجسم، وتؤدي إلى أرباح وتعمل على إبقاء الأطباء محدودي الدخل مشغولين. كان من رأي كنالفروش أن ارتفاع إجمالي الناتج القومي لا بد له من ضحايا، فما كان من بونش - الذي بدا أنه فقد قدرته على كتابة كلمات كاملة - إلا أن رد عليه ب «بررررررروووم 2006!» إلى جوار ذلك كانت ثمة نجمة تقاوم عددا كبيرا من الرجال الذين يدعون أن عليها كتابة اسمها بالطريقة الصحيحة، مما أشعل الحوار وجعل كلام الكل يتداخل بعضه مع بعض. هانزي أعلن عن إعجابه بالصرخات المكتومة، واقترح أن يقوم بلف رقبة مشترك اسمه تروتهان ببطء شديد. كليوباترا فقدت سوطها أثناء ركوب الخيل، ومادونا تبحث عن مشبك صدرها. كنالفروش وبونش عادا للتواصل، فقط نجمة غادرت، وباستي ألح في طلب الحلوى. نقر توماس تحية على لوحة المفاتيح، فطارت الشاشة سريعا إلى أعلى جراء الشلال المنهمر من التعليقات التي تنوعت بين «مرحبا توم»، و«شكرا» إلى نغمات أخرى من المديح على الانتقاء الموفق لوصفات الطعام. ثلاثة عشر شخصا سجل نفسه لحضور دردشة ليلة رأس السنة، وكان جليا أن توماس هو المضيف. أما الحفل فكان في أوجه. «إنهم في انتظار خوارزمية الحلوى.» كان توماس يستمتع بجعل ضيوفه يتململون. «في انتظار ماذا؟» «تعليمات التصرف، الوصفة إن شئت استخدام هذه الكلمة، وصفة بيوريه الكاكي مع المارزبان.»
لم يكن ليخطر ببال فاندا أنها مدعوة إلى حفلة رقمية، ولو علمت لربما لم تكن لتوافق. وبعد أن قامت بزيارة عدد من غرف الدردشة وصلت إلى نتيجة مفادها أن هذا الشكل من أشكال التواصل مع الناس لا يناسبها. التغيير الرهيب في الموضوعات، التلميحات المغرضة، لم تحب أيا من ذلك. كانت الرموز المتداولة مألوفة لها، وكانت تتسلى بها، لكن بالأساس لم تكن أكثر من علامات مكتوبة. كانت تعطي شكلا للمشاعر، وكانت فاندا تستطيع التعرف عليها وتفسيرها، لكنها لا تشعر بها. كانت تفتقد المباشرة التي تجدها في نبرة صوت تتغير، أو في تعبير للوجه أو في لفتة يد؛ ولهذا قصرت دردشاتها على تبادل المعلومات بين شخصين غيرها لا أكثر في وقت واحد. أي شيء أكثر من ذلك كان يخضع لظاهرة «غرفة النادي»؛ لأن أي جماعة دردشة تنقسم في كل الأحوال إلى مجموعات صغيرة من المدردشين، وكان يضايق فاندا كثيرا أن كل واحد في النادي الرقمي يستطيع أن يتابع الحديث الدائر على الطاولة التي تجاوره، وفي وسعه أن يتدخل في الكلام متى أحب؛ لذا لزم وجود قائد يلفت انتباههم ليركزوا على شيء بعينه، يكون في مقدوره أن يتغلب على هذا التفرق مثلما يفعل توماس الآن، الذي بدأ أخيرا في الإفصاح عن وصفة صنف الحلوى. عليهم أن يقشروا ثمار الكاكي، ثم هرس واحدة منها مع الفانيليا، والمارزبان والفلفل هرسا ناعما، ثم يقطعوا شرائح من القراصيا ويخلطوها معها، ويملئوا بها أطباق الحلوى، بعد ذلك ينثرون عليها ثمرة كاكي أخرى مقطعة مكعبات، ويزينوا الطبق بالكريمة المخفوقة ورشات من الفستق. وبالهناء والشفاء. اختفى توماس في المطبخ، فصمتت الشاشة أيضا، وبعد أن عاد وناولها كوب الحلوى تساءلت إن كان باستي الآن راضيا، ربما ليس هناك باستي على الإطلاق، ربما كان هو مجرد فكرة يكفيه فقط أن يستمتع بالوهم. فجأة خطر لها أن كل ذلك مجرد تمثيل. مسرحية تفاعلية. هل دعاني لأنه يحتاج إلى مشاهد حقيقي؟ رغبت نفسها عن الحلوى.
سألت بحذر: «ماذا يفعلون الآن؟» نظر لها توماس دون أن يفهم ماذا تعني. «أقصد ضيوفك .» «ربما يأكلون الحلوى الخاصة بهم.» «من أين تعرفهم؟» «لقد وضعت الدعوة مع الوصفات في منتدى معين، وأقابلهم اليوم للمرة الأولى.» «علي أن أعترف أني فكرت أنك ستقيم حفلا حقيقيا.»
علا الاشمئزاز وجه توماس وقال: «أتقصدين حفلا بأناس يبقعون سجادتك بالنبيذ والكاتشاب، ويقلبون غرفتك رأسا على عقب، ويكبون منافض السجائر، ويتركون صحونا متسخة؟ أنت لا تعرفين ماربورج. ما إن ينتشر خبر الحفل حتى يزورك كل المتطفلين، وعلى أكثر تقدير لن تتعرفي على غرفتك قرب منتصف الليل؛ لأنك ستجدينها تحولت إلى حانة تقدمين فيها البيرة مجانا لأناس لا تعرفينهم أصلا.» «وماذا لو دعوت عددا قليلا من الأصدقاء؟»
ظهرت تجعيدة طولية بين حاجبيه الكثيفين: «أتعنين أولئك الذين يزعجونك بمكالمات هاتفية ثقيلة الظل أو يحرجونك بالزيارة؟ عندي دائما شخص أتحدث إليه إن أردت الحديث.» «أمر واحد لا أفهمه!» قالت وهي تؤرجح كأسها المملوءة بالنبيذ الأحمر. السجادة البيج الممدودة أسفل قدميها بدت غير رخيصة. «لماذا دعوتني أنا إذن؟» «إن شئت يمكننا نحن أيضا الذهاب.» وأمسك بفأرة الكمبيوتر. «إنهم لديهم كل ما يحتاجون إليه، نستطيع أن نغادر الحفل و...» تردد توماس. «... وماذا؟ ...» تطلعت إليه فاندا بفضول.
وبدلا من أن يجيب سحب الفأرة وأخذ في النقر لغلق النوافذ، أصابعه المتمكنة أعادت إليه سيطرته القديمة. إنه يعجبها هكذا أكثر. أشارت ساعة الكمبيوتر إلى الحادية عشرة ليلا. وضع توماس سي دي جديدا في الكمبيوتر، «إيزي لسينينج»، لم تكن فاندا تعرف هذه الفرقة. جلسا صامتين لبعض الوقت أمام الحلوى. كانت فاندا تفكر بسرعة. إنه لا يسهل عليها الأمر، لكنها أيضا تستطيع أن تكون عنيدة إن وضعت شيئا في رأسها. مدت يدها نحو المكعب الأصفر من الورق ذاتي اللصق وكتبت شيئا عليه، ثم قطعت الورقة وألصقتها على الشاشة. ضحك مستريحا حين قرأ الملحوظة وقفز. «في الحقيقة أنا مضيف سيئ.» قال وهو يصدر بعض الضجة في المطبخ، بينما هي تفكر في الكلمات التي كتبتها «أنا عطشانة» عطشانة إلى ماذا؟ إلى الحياة؟ إلى الحب؟ لقد فهم عبارتها بحرفيتها. بالمثل كان يمكنني أن أكتب «بي رغبة» لم يكن ليخطئ فهمها. أنت جبانة يا فاندا. عندما عاد توماس كان يحمل في يديه كأسي شامبانيا.
سألها: «شامبانيا؟» فأومأت موافقة وسألت عن مكان التواليت.
لاحقا بدآ في الرقص. في البداية كانا يتحركان ككائنين منفردين على مذنب بعيد، لكن كان من المستحيل أن يظلا متباعدين. تلامست ركبهما، وأحاطها بذراعيه برقة. كانت أنفاسه تداعب أذنها. استغرق الأمر زمنا طويلا، ثم في وقت ما أحاطت رقبته بذراعيها واحتضنته. نادتها رغبتها الداخلية أن تتشبث به بقوة، لقد كان أقرب ما يكون كما لم يكن من قبل. لم تتركه وظلت تبحث عن سبب يجعلها تسقط، لكنها اصطدمت بالخواء. لم تسمع رنين جرس الباب على الإطلاق، لكنها أحست به وهو يبعد ذراعيها عن رقبته بخفة. وقفت مأخوذة، وحيدة في الغرفة بذراعين معلقتين في الهواء كما لو أنها تقف بعد معركة خاسرة، فتوهجت وجنتاها، ورغم ذلك شعرت بالبرد. وقعت عيناها على الصور المعلقة على الجدار المقابل لها. تعرفت على خطوط وعلامات، مثلثات ومربعات، وحلقات، كانت الحدود حادة بين الفاتح والداكن، ورغم الظلال لم يكن بالصور أي عمق. كان ثمة ضوء يشبه ظهيرة يوم صيف قائظ حين يتخشب كل شيء من الحرارة، حتى الزمن يتوقف ويختنق أي شعور. اتزان ولا عزاء لأن الممل لا يعاني. سمعت أصواتا رجالية في الطرقة. «صديق ثقيل الظل؟» ثم ظهر وجهه على باب غرفة المعيشة.
قال أندرياس مخاطبا إياها: «تعالي معي من فضلك. الأمر عاجل!»
الفصل الأربعون
نخب العام الجديد
كانت فاندا غاضبة.
صاحت: «ألا يمكن أن ينتظر ذلك إلى الغد؟ علاوة على ذلك، من أخبرك أين أكون؟» كانت تجري، تكاد تهرب. كانوا يتوجهون إلى المدينة بالأسفل.
أجابها أندرياس: «أنت نفسك أخبرتني بذلك ذات مرة.»
لا تذكر فاندا أنها أخبرت أندرياس بخططها لليلة رأس السنة.
قال بحذر: «لقد اتصلت بي الشرطة أول أمس. لذلك عدت إلى ماربورج قبل الموعد. لم أكن أريد أن أخبرك هاتفيا حتى لا أثير قلقك. الآثار على السور في باحة القصر مصدرها ذخيرة ذاتية التحلل فعلا . ربما بالفعل ثمة علاقة ...»
قاطعته قائلة: «هراء!» كانت فاندا مذهولة؛ فقط لأن الشرطة اكتشفت بالفعل آثار ذخيرة ذاتية التحلل، تلك العينة التي أخذتها تلك الشقراء مثل الخبز المقرمش ذات الاسم الذي يصلح أن يكون اسم سفينة، يأتي ليفسد علي الأمسية؟
قال بصوت محبط: «أرى أن هذه المعلومة شديدة الأهمية، خصوصا أن الذخيرة ذاتية التحلل تلك ليست بالذخيرة المتاحة للمستهلك العادي.» «وماذا يقول لنا هذا إذن؟ إن المخابرات تلاحقني أو تلاحقك؟ لا تجعل من نفسك أضحوكة.» ألم يكتب سنايدر على عمليات السلطات الفيدرالية الأمريكية في أوروبا؟ لكن لماذا يطلقون علينا النار؟ هزت فاندا رأسها. «لم يكن سوى أحمق ثمل.» قالتها بتوكيد لم يدع مجالا لمعارضة، «لن أندهش إن وجدنا هذا الشيء في السوق السوداء.»
أرادت فاندا العودة إلى المنزل. سبقته، وسرعان ما وصلا إلى المدينة القديمة ومنطقة المشاة. حتى تلك اللحظة ظلا يتجادلان، كان الشارع مليئا بالناس قبل منتصف الليل بقليل. دفعت أجواؤهم الاحتفالية فاندا للصمت رغم أنها كانت لا تزال تغلي من داخلها. ما الذي يفكر فيه هذا الغر؟ تذكرت حكاياتها مع أخيها، وكيف أنه كان يتبعها سرا إلى حفلاتها الأولى. ذات مرة وقف على غير انتظار بباب معلمها الجزائري، كانت في الخامسة عشرة وجميل في الثالثة والعشرين، وكان المفترض أن يعلمها الفرنسية. كان أسلوبه في التدريس عمليا وقريبا من الحياة المعيشة، أما مذاقه فكان مثل الثوم ومثل أحد التوابل الغريبة. لم تعرف أنه حب الهال سوى بعد ذلك بكثير، من محل وجبات سريعة أفغانية، قريب من مسكنها في فترة الدراسة الجامعية، وكانت تعتمد عليه لتأمين استمرارها على قيد الحياة فترة الامتحانات. مع المذاق عادت ذكرى جميل مثل الآن، حسية وكلها شغف. آنذاك كان يشتعل بداخلها وهج أقوى من الجوع ومن الحاجة إلى النوم، ثم جاء ذلك الأخرق ليقف بالباب، ويتراجع مرتبكا ليدوس ساقا بالأخرى؛ لأنه كان قد وصل إلى سن يفهم فيها ما يحدث. سبت ولعنت وصاحت واعتبرت أن والديها كانا وراء ذلك. عوقبت بالمكوث في المنزل شهرا كاملا ، ولم تر جميلا ثانية.
ترى هل يأكل توماس الآن الحلوى الخاصة بي؟ لقد تركها تمضي ببساطة، بلا حجج معارضة، دون أن يبدي أي إشارة لخيبة أمل. لقد ظل خلفها في الطرقة، لكنها رأت وجهه في المرآة، لم يبد عليه أي أثر، فشعرت بالإحباط. هل ذهبت مع أندرياس لهذا السبب؟
جفلت حين انفجر صاروخ ناري بجانبها. وفي ميدان السوق أمام مجلس المدينة القديم وقف الناس في مجموعات صغيرة مسترخية. أسرعت فاندا خطواتها. مرت من حول المنتظرين دون أن تكترث إن كان أندرياس يسير وراءها، وواصلت الخطو بهمة نحو هدفها. كانت تريد أن تتخلص منه، لكنه ظل يتابعها.
تبعثر الطين تحت قدميها حين قفزت على درجات الزقاق، وفي اللحظة التي عبرت فيها تقاطع بيلجريمشتاين بدأ الهدير. جاء الصراخ والطرقعة والفرقعة من كل مكان، وأخذت أجراس الكنائس تدق. تناثرت الشرارة فوق رأسها. كانت لا تزال تجري تتعجل الدخول في العام الجديد بخطواتها الواسعة كثيرا. كانت تتخيل الأمر على نحو مغاير. في أحضان رجل ربما؟ كيف يمكن أن أكون بهذا الغباء؟ إنه لا يريدني بتاتا. ارتعبت عندما أمسكها أندرياس من ذراعها، وشل الارتباك قدرتها على الاعتراض وتبعته في نزوله على درجة سلم مظلمة على طريق موحل. بدت لها أشجار الحديقة النباتية العملاقة أكثر ضخامة من حجمها بالنهار، ومع كل طقطقة كانت الغربان تضرب بأجنحتها ثم تعاود الهبوط الوئيد على الأغصان التي ينامون عليها. أخرج أندرياس زجاجتي بيكولو من جيبه وفتحهما وناولها واحدة بابتسامة تشي بالندم. «نخب العام الجديد!» قال بصوت خفيض وقرع الزجاجتين إحداهما بالأخرى. شربت فاندا ثم مسحت فمها، وعاودها غضبها القديم. «بالمناسبة الألعاب النارية توزع الجزيئات بكفاءة وتحمل الأجواء، خصوصا في ليلة رأس السنة، بنسب عالية جدا من غبار النانو.»
تطلع أندرياس إلى سماء الليل التي تنهمر منها أمطار الضوء. «لكنك تتمتعين بجمالها قبل أن تقتلك.»
راقبت فاندا كيف أنه يقف إلى جوارها بفم مفتوح. طفل كبير. دس رأسه في رقبة المعطف في حين التمعت على عدسات نظارته انعكاسات الأنوار الملونة.
قالت ببرود: «هذا الموت يأتي متسللا. يبدأ بالسعال وأزمات التنفس، ثم تتسارع ضربات القلب وتتحلل الرئتان أو يتضاعف حجمهما. سيان. النهاية واحدة. هل تعتقد حقا أنك ستذكر هذه الألعاب النارية وأنت تختنق؟»
نظر أندرياس إليها بقلق. «هل ذهبت للطبيب؟»
هزت فاندا رأسها. «حتى متى تسكتين على هذا الوضع؟» «حتى أتأكد.» «لن تتأكدي إلا من الطبيب.» «أتعلم ...» تناولت رشفة شامبانيا أخرى واستطردت: «أحيانا أعتقد أنه سيزيد من سوء الأوضاع. هل تعلم أن نسبة الجزيئات الصغيرة قد زادت في الهواء بعد أن تم تركيب فلاتر السخام في محركات الديزل؟» وبعد وقفة قصيرة أكملت: «في السابق كانت الجزيئات الكبيرة تبقي الصغيرة تحت السيطرة، كانت تربطها وتبطل مفعولها الضار، والآن بعد التخلص من الكبار صارت الحلبة خاوية يرتع فيها الصغار بمفردهم.»
فتح توماس ذراعيه عن آخرهما وتراقص في مكانه: «حين يختفي الطغاة يرقص الشعب.» كان يترنح خفيفا. هل ثمل؟
ردت فاندا بفظاظة: «أنا أعني شيئا آخر. في كل مكان لا يتم إلا معالجة الأعراض، وكل تدخل يخلق مشكلة جديدة: فلاتر السخام أدت إلى إزاحة في جدول أحجام الانبعاثات الملوثة، تناول الأدوية يؤدي إلى عدم تحمل الأدوية، فيؤدي إلى أمراض لا تعالج إلا بأدوية أخرى، يزعمون أن جينا بعينه فيه الشفاء من كل داء يتحول إلى سلاح فتاك.» خرجت عباراتها متهدجة. ماذا قلت الآن؟ سلاح فتاك؟ هراء! «على أية حال نحن لا نطلع على عواقب أعمالنا، إنما نخادع أنفسنا، ونحن نعمل في إطار ظروف معزولة، ونضع نظما مثالية لنماذجنا؛ لذا نحقق النجاح، لكن الحذر الحذر إن أطلقناها حرة؛ تتحول أفعالنا إلى ردود أفعال، ونبدأ في ملاحقة الظواهر بعد تفشيها.» «يرى أفلاطون أن مكتشف فن ما ليس بالضرورة هو أنسب الأشخاص للحكم على الجيد أو السيئ الصادر عن أولئك الذين يمارسون فنه.»
لم تخل نبرتها من شماتة وهي تقول: «... وهم لا يعرفون بالضرورة كنه ما يفعلون. الأمر تحول إلى تفويض مطلق لم يحن وقته بعد. لا يزال العلم الحديث كيانا مخنثا، يملي فيه المصنع ما يريد على المكتشف. وقد يحدث أن يفتن شخص بكلا الدورين ...» قطعت كلامها وابتسمت من زلة اللسان، «أقصد أن يقوم شخص واحد بكلا الدورين. من يتحمل المسئولية في هذه الحالة؟» «إن محاولة أي فرد أن يحل لنفسه مشكلة تمس الكل محتومة بالفشل. هذه مقولة فريدريش دورينمات في رواية الفيزيائيون.» تذكرتها فاندا، توماس أيضا استخدم استشهادا. هل كان استخدام الاستشهادات هو العلامة المميزة للخرعين؟
سألت مستفزة: «هل تردد كل شيء مثل الببغاء؟ ثم ماذا يقصد بالفشل؟ حين يضع المجتمع إرضاء نرجسيته هدفا، سيصيب النجاح حتما، سيظل هناك سبب لدعم التغيير. من ناحية أخرى أين يبدأ التغيير إن لم يبدأ بالفرد؟ أليس عملنا يصب في الصالح العام؟ ولذلك كل عالم ملزم بأن يختبر دوافعه بمفرده، بل إني سأذهب خطوات أبعد وأزعم أننا نتصرف فقط من أجل إيجاد حلول لمشاكلنا الخاصة جدا.»
ابتسم أندرياس. «هل تريدين لزملائك مثلا أن يكتفوا بالجلوس على الأريكة؟»
هزت فاندا كتفيها. «أريد فقط أن نتوقف عن خداع أنفسنا.»
أومأ أندرياس. «لقد تشاجرت مع أبي حول هذا الموضوع قبل أن يدخل في غيبوبة بفترة وجيزة. ما زلت أعتب عليه أنه لم يخبرني الحقيقة، فقد كان يعرف أنه مريض.»
ردت فاندا وقد بدأ غضبها يهدأ: «ربما كان خائفا.»
زفر أندرياس وقال: «نعم بالتأكيد، لكن ما نتيجة أن نزحف خائفين لنختبئ خلف وضعنا الاجتماعي، أو لقبنا العلمي، أو حسابنا في البنك، أو صناديق الادخار والأسهم ومعامل التميز في الدورية العلمية ...»
سألت فاندا نفسها: أو ربما نختبئ من أنفسنا ذواتها؟ لكنها لم تنطقها. مستها نظرة أندرياس، فقد بدا مثل صبي صغير يلقي قصيدة. ثم قالت وهي تتصنع أنها تمر بالموضوع عرضا: «بالمناسبة ... هل من الممكن أن تكون الغيرة هي دافعك؟» «هل ثمة سبب يدفعني إلى ذلك؟» قبل بضع ساعات كانت لتجيب بنعم، أما الآن فلم تعد متأكدة. على بعد خطوات منهما كان ثمة صندوق قمامة مملوء عن آخره، فوضعت زجاجات الشمبانيا الفارغة إلى جواره على الأرض.
ثم قالت: «وما أخبارك؟ هل بعثت برسالة تهنئة بالعام الجديد إلى لاريسا؟»
زم أندرياس شفتيه ورد باقتضاب «لاحقا سأفعل. بسبب فروق التوقيت. الحفل سيبدأ الآن.» من مكان ما انطلق صاروخ رأس السنة، ورن من بعيد بوق إنذار. لم تكن فاندا قد لاحظت الهدوء الذي ساد من قبل. شعرت بالبرد وأرادت العودة إلى منزلها، ثم مشت أمامه فلم يتحدثا معا. أوصلها أندرياس حتى باب المنزل، فالتفتت نحوه ثانية لتودعه. «بلغها التحية مني!» ثم تمنت له ليلة سعيدة. •••
كان مصباح بئر السلم معطلا ثانية. وأخيرا فتحت باب شقتها قرب الساعة الواحدة، كانت ترتعد من البرد إذ ظلت بالخارج أكثر من ساعة. بالداخل أيضا ساد الظلام حتى بعد أن ضغطت على مفتاح النور. كان باب المطبخ مفتوحا كالعادة، في حين ألقت أضواء المدينة عليه ظلالا رمادية تميل للزرقة فجعلته يلمع وكأنه صورة مطلية بالرصاص. كانت تستطيع كل مرة أن تشعر باللحظة التي تنضبط عيناها فيها على الرؤية الليلة، كان ذلك إجراء فسيولوجيا طبيعيا تنشط بموجبه خلايا الإبصار المسئولة عن التمييز بين الأبيض والأسود، وكأن أحدهم رفع حجابا داكنا من أمام وجهها، فتتخذ الأشياء فجأة في محيطها حدودا خارجية. تزداد حدة التباين بين الفاتح والداكن، كما تستنتج عمقا في المكان تستطيع أن تتجرأ وتتقدم فيه. اصطدمت قدمها بشيء رخو، فتعثرت وتعرفت على جوال الغسيل الذي أرادت أن تأخذه إلى القبو، لكنها اضطرت لتركه عندما دق جرسها سائق سيارة الأجرة ليعلمها بوصوله. عثرت على مصباح الجيب في دولاب المطبخ. بمزيد من السرعة حركت قرص الضوء في الغرفة، وهي تسب وتلعن في داخلها. الآن تحديدا. إن لم أفعلها الآن فسأظل غدا في الفراش طوال اليوم. كانت قد قرأت على لوحة الإعلانات بالأسفل «لا مدير للمنزل في رأس السنة.» كان مجرد التفكير أن المدفأة عطلانة يجعلها ترتعد بردا. في طريق العودة إلى الطرقة تلقى جوال الغسيل ركلة غاضبة. كانت الصورة فوق صندوق الكهرباء مائلة، فأخذتها من على الحائط وأرادت أن تضعها على الخزانة الصغيرة أمامها، فاصطدمت بالزهرية التي لا تضعها عادة في هذا المكان، لكنها أمسكت بها في الوقت المناسب. وعلى ضوء مصباح الجيب رأت مفاتيح الكهرباء قد قفزت لأسفل، وحين مدت يدها لترفعها شمت الرائحة، استدارت فرأت رجلا، كان يرتدي جوربا في رأسه. أمسكها من كتفها، وعلى الفور ضربتها الرائحة المنتنة وكأنها خرقة كبيرة لزجة تضرب وجهها. فصرخت لكن صوتها انحبس. شعرت بثقل ذراعه يضغط على صدرها. أدارها بحركة واحدة وضغط على جسدها. كادت تختنق حين وصل الأثير إلى حلقها وأفقدها الوعي، فاسترخت كل التشنجات. آخر ما رأته كان الألعاب النارية وكأنها في صورة فوتوغرافية، نقاط بيضاء على ورقة كرتون، ثم ظلام دامس. •••
إصبع قدم ضخم يأتي ناحيتها. هذا الوجه، أنا أعرفه، إنه الجار. ساعدني! ماذا يحمل في يده؟ كرتونة بيض؟ أنا عطشانة. لماذا لا يسمعني؟
حين استعادت فاندا وعيها كان الضوء منيرا في المطبخ. وكانت ذقنها تضغط بقوة على ظهر كفها وهي مستلقية على بطنها تحت غطاء، ورأسها يهدر كما لو كانت قضت الليل تشرب الخمر. ضيقت عينيها، وهي تتساءل ألم يكن الجار هنا منذ قليل؟ شعرت فجأة بالغثيان، فتقيأت قطع الديك الرومي والمخاط. بعناء شديد ذهبت إلى الحمام وهناك نهضت ونظرت في المرآة، بدت مثل شبح. كان وجهها ظاهر الشحوب مثل الطباشير، وإنسان العين يومض بلون زهري. استيقظت ثانية في منتصف الليل، كانت متكورة تحت دواسة الحمام. بدأت دمعاتها خفيفة كالرذاذ، ثم سرعان ما تحلحل الاحتقان في صدرها على دفعات، فصار بكاؤها عويلا مثل صاروخ رأس السنة منطلقا في عتمة الفجر.
الفصل الحادي والأربعون
حمى الصيد
أطل العام الجديد بجانبه المشرق. انخفضت درجات الحرارة انخفاضا ملحوظا إلى ما تحت الصفر، تمدد الصقيع على أسقف المنازل وأسطح السيارات. بلغت البرودة حدا لا يسمح بسقوط الثلج.
عاد معظم الزملاء من إجازة عيد الميلاد مع بداية الأسبوع الثاني من العام الجديد، ما عدا الرئيس الذي مد إجازته التي يقضيها في التزلج عدة أيام قبل نهايتها بمدة قصيرة، وبالتالي ألغيت مناقشات يوم الاثنين أيضا قبل موعدها بمدة قصيرة. لم يعترض أحد.
شعرت فاندا بخيبة أمل لأن نتائج الفحوص الفيروسية لم تصلها بعد، وحين اتصلت هاتفيا أبلغت أن الزميل المختص سافر لإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يتوقع عودته قبل بداية الأسبوع المقبل. شيء ما أزعجها في ذلك الخبر؛ إذ كانت تظن أن الدكتور كانتيرات أكثر التزاما. هل أخطأت خطأ كبيرا في فهمه؟
وفي مساء التاسع من يناير ذهبت إلى مقهى جورنال لتلتقي زابينة. اقترحت فاندا هذا المكان لقربه الكبير من شقتها، وكانت زابينة تريد أن تستعيد جوسي بعد ذلك؛ فمنذ عدة أيام تتصرف الفأرة على نحو غير طبيعي. تتحرك كثيرا في قفصها بعصبية، ولم تعد تنام في حضن فاندا إلا فيما ندر. ربما كان حالها مثل حال فاندا التي تصرخ فجأة ثم تتملكها رغبة هستيرية في العمل، لكنها في المساء لن تكون وحيدة وهي تفتح باب الشقة. هدأت الفكرة من روعها. فبعد التعدي عليها في شقتها ليلة رأس السنة صارت لا تحب العودة إلى المنزل. ولدهشتها، لم يضع شيء من منزلها، لكن هذا الأمر تحديدا كان يشعرها بالخوف. ورغم غرابة هذا الأمر، فإنها كانت ستشعر بارتياح أكبر لو أن المقتحم حمل معه جهاز التليفزيون ذي الشاشة إل سي دي، وكذلك الكمبيوتر المحمول. لم يترك لها ثغرة تنفذ منها لتفسر الدافع وراء جريمته؛ ولهذا لم يبق لها سوى انقباض قلبها جراء الحادث البشع. وفي الأسبوع الأول مباشرة قامت بتغيير الكالون ووضعت سلسلة على الباب، لكن هذا لم يخفف من الاضطراب الذي كان يعتريها كلما دخلت إلى شقتها. أقنعت مدير المنزل مؤخرا أن يصحبها إلى أعلى حيث ادعت ببساطة أن الشرخ القديم في جدار الحمام زاد طولا، وبينما كان يفتح المسطرة المطوية لقياس الشرخ، نظرت هي سريعا خلف الأبواب وتحت السرير. غام وجه جارها الذي رأته وهي مستلقية على الأرض لا تستطيع أن تحرك ساكنا. هل كانت هلوسة؟ أم هل كان بالفعل موجودا في شقتها؟ هز مدير المنزل كتفيه وعلت وجهه أمارات الاشمئزاز حين أخذت تستفسر عن الجار.
دخلت فاندا المقهى قبل الموعد بربع ساعة، ولم يكن بالمكان أناس كثيرون. سحبت صحيفة من حامل الجرائد وجلست على طاولة قريبة منه. ومن هناك حظيت بإطلالة شاملة على المكان. كانت النادلة مستجدة، لكن مثلها مثل كل زميلاتها كانت شقراء ذات شعر طويل. ذكرتها بالشرطية ليديا فازا. ترى هل عملت ملكة جمال الخبز المقرمش هنا كنادلة يوما ما؟ كانت تستلطف الشرطية. مرت فاندا بعينيها على عناوين الصحيفة وكان أحدها: منع المرور لا يكفي. كان الخبر يدور حول زيادة نسبة الجسيمات الملوثة في مراكز التجمعات السكانية، لدرجة لم يعد معها حظر مرور السيارات كافيا. واصلت تصفح الجريدة وهي شاردة الذهن.
ظلت زابينة ويوهانيس يلحان عليها بلا توقف للإبلاغ عن حادث اقتحام شقتها. لكن ماذا عساها أن تقول للشرطة؟ فلا هي تلقت ضربات ولا ببدنها آثار جروح، كما أنه لم يغتصبها ولم ينقص شيء من شقتها؛ لهذا لم تتوقع فاندا الكثير من وراء البلاغ، اللهم إلا أكواما من الأوراق السخيفة وأناسا غرباء يعبثون بأشيائها. وفي كل الأحوال، لقد نظفت المكان مرة ثانية، ثم خطر ببالها أن تبوح بسرها للشرطة. لكن ثقل عليها أن تضطر إلى أن تدافع عن نفسها من أجل الوصول إلى أي شيء. شعرت أنها في طابور انتظار طويل. كانت تحتاج نتيجة تحليل الأنسجة لتقرر ماذا ستكون الخطوة التالية، تعرف مدى جنون هذه الفكرة، رغم ذلك صممت عليها؛ إذ اعتبرتها مفتاح المرور من الباب السري التالي الذي تختبئ وراءه مهمتها الجديدة. يتعين عليها أن تأخذ خطوة تلو الأخرى، ولم تكن حرة في كسر القواعد التي تضعها لذاتها.
حين رفعت فاندا ناظريها وجدت زابينة أمامها تخلع لتوها القلنسوة النرويجية عن رأسها، ثم هوشت بأناملها شعرها الذي سوته القلنسوة. بدت مسترخية. تعانقتا سريعا، وكان لزابينة رائحة الرياح المنعشة. بدأت تحكي لها عن إجازتها على شاطئ بحر الشمال شتاء، وعن أصدقائها القدامى الذين قابلتهم، وعن الطعام الطيب في بيت والديها. «لماذا لم تمكثي هناك مباشرة؟» لم يفت زابينة نبرة المرارة في صوت فاندا. مطت وجهها وأجابت بحدة: «هل نسيت أن علي التزاما بالحضور. سيتعين علي في الغد أن أسجل نفسي مرة أخرى في مكتب العمل. إجراء جديد.» ثم خفضت صوتها وقالت: «ثم هناك أمر لا يزال يتعين علي الانتهاء منه.» أنصتت فاندا بانتباه إذ كان لديها حس قوي للحظات الثمينة، وكانت تشعر أن هذه واحدة منها، وأنها ستسمع اعترافا لم تحسب حسابه من قبل. بدت لها زابينة متغيرة، أكثر حسما من تلك الأسابيع البائسة في العام الماضي، وكان من الواضح أن تغيير الجو أفادها كثيرا، وفجأة وصلت بيترا محمرة الوجه. فكت الشال الطويل عن رقبتها، طلبت كأسي نبيذ بصوت عال، وتركت نفسها تسقط على كرسي.
كانت زابينة هي أول من بدأ الحديث: «كنت أعرف طوال الوقت. المثبتون في وظائفهم لا يستطيعون الفكاك بسهولة.» انسلت بيترا من معطفها وشدت كميها. «أنتن فتيات في غاية الذكاء، لكن هذا لا يجديكن نفعا.» تفرست نظراتها المستهينة في كلتا العالمتين «أسأل نفسي إن كان يصح أن أحكي لكما ما شهدناه اليوم. يوهانيس ما زال يبحث عن مكان لصف سيارته، فلننتظره.» •••
حين دلف يوهانيس إلى المكان رفع كثير من الزبائن رءوسهم وتطلعوا إليه؛ بدا في معطفه الكشمير ذي اللون الرمادي الداكن وشال رقبته الأزرق مثل زهرة ندى العنبر، ووجهه الذي لوحته شمس الجبال مضفية على مظهره سمت الموسرين، فلكأنه أب ثري اضطر لترك سيارته الجاجوار في مكان ممنوع الانتظار حتى يستعيد ابنته المراهقة. على الأقل لم يرتد ربطة عنق، هكذا فكرت فاندا حين فك أزرار المعطف وألقاه بلا اكتراث على الكرسي إلى جواره. حياهم يوهانيس ببرود وكأنهم لا ينتمون حقيقة إلى عالمه.
برق شريط مبيض بين الذقن وياقة القميص العالية، فبدا وجهه المسمر وكأنه يرتدي قناعا، ورغم ضحكه بدا متوترا. أحضرت النادلة الشقراء كأسي نبيذ، فوضعت بيترا واحدة أمام يوهانيس.
صاحت زابينة فجأة: «فوانيس. هذا هو اسم الفيلم.» تلفتت حولها باحثة عن مساعدة من فاندا. «إنه المشهد بالفيلم الذي تعترف فيه لوالدها أنها حامل.» مثل طفلة صغيرة تبحث عن مؤيد لها، لمحت بريقا في وجوه بيترا ويوهانيس. «هل حزرت صوابا ؟» هزت بيترا رأسها بالنفي. «كان أكثر تشويقا.» وأحاطت الكأس الساخنة بيدها، رشفت وقالت: «لقد رأيته اليوم، في كروبكيه بهانوفر.» وضعت الكأس على الطاولة «وبعد ورشة العمل أتيحت لنا ساعة من الوقت قبل أن يغادر قطارنا. جلسنا في مقهى كروبكيه، يوهانيس وأنا ليحكي لي للمرة الثالثة حكاياته عن الأمريكيين المجانين على الزحافات، وكنت أنظر من النافذة المطلة على الميدان الكبير، وفجأة رأيته.» «من رأيت؟» سألت فاندا التي لم تفهم شيئا، إلا أن زابينة وضعت يدها على ذراعها في رجاء أن تلزم الصمت.
زفرت بيترا وقالت: «بدا شكله تماما مثل تلك المرة في الديسكو. أنا أتحدث عن مايك الوسيم، من كانت معه الأزرار الحمراء. خرجت وتوجهت إلى الكشك الذي كان يشتري منه الجريدة.» تهدج صوتها: «كنت غبية، ما كان يجب أن أركض هكذا، ربما أدرك وجودي لهذا السبب. على أية حال، لقد نظر تجاهي، استدار ثم فر هاربا، ركض هكذا ببساطة. يا له من أحمق!» زمجرت غاضبة. «وأنا طبعا ركضت خلفه. لكن كانت هناك تلك الحافلة اللعينة. فريق احتفالية ما وقف بحافلته في منتصف الميدان. وهكذا اختفى مايك وراء الحافلة وهرب. ثم رأيت يوهانيس قادما نحوي. وحينئذ رأيت الرجل يثب هابطا سلالم ممر التسوق وراكضا في اتجاه المحطة الرئيسية. أعطيت يوهانيس إشارة وانطلقنا في إثره.» «لقد لاحظت من الطريقة التي انتفضت بها خارجة نحو الكشك أن للأمر علاقة بالشاب الوسيم هناك.» غمز يوهانيس للأخريات بعينه وأكمل: «لكن ليس كل الناس يفضلون الهجوم المباشر. على أية حال كان معي ما يكفي من الفكة كي أحاسب على طلبنا، وألم ملابسنا وألحق بكما.»
قاطعته بيترا: «كم كانت رائعة الطريقة التي تصرفت بها.»
واصل يوهانيس: «السخيف في الأمر ... أنه هرب إلى ممر التسوق بالطابق السفلي ذي السقف المفتوح، وعندما يصعد المرء مجموعات متتالية من السلالم يصل إلى وسط المدينة، فكل مرة يصل فيها إلى عتبة بين الدرجات لا أعرف إن كان سيهرب إلى الطابق التالي، أم أنه سيعاود الظهور على الناحية الأخرى من السلم.»
التقطت بيترا طرف الحديث: «ولهذا قسمنا أنفسنا. أنا أركض يسار السلم، ثم في خط مستقيم، ويوهانيس يأخذ الجانب الأيمن للممر، وأمامنا مايك يركض حول الأعمدة الخرسانية في خط متعرج مثل الأرنب، يظهر ثم يختفي، ثم يظهر ثانية ويختفي.» «أردنا أن نمسك به في كماشة، لكن لم يتضح لنا إلا بعد فوات الأوان أننا اخترنا طريقة خاطئة، ففي يوم شتوي صحو مثل هذا يصير الواحد ضائعا تماما إن سار في خط مستقيم، فعلى ناحيتي وضعت حوامل تعرض ملابس داخلية نسائية، فوقفت إلى جوارها السيدات. العبور من الأعمدة الخرسانية أسهل كثيرا من العبور من بين السيدات!»
واصلت بيترا حديثها: «بالنسبة لمايك لم تعد المسألة كونها لعبة. على الأقل كان هذا ما يبدو عليه؛ إذ كان يتحرك بخفة مثل ابن عرس. أنا متأكدة أنه كان يعرف من البداية إلى أين يتجه. سيان الآن.» أحكمت قبضتي يديها وضغطتهما ببعض وهي تقول: «واصلت ملاحقته ومطاردته عبر الممر. كنت أريده. ذاك الشرير. كان لا بد أن أصل. وعلى السلم الكهربائي الطويل بلا نهاية المؤدي إلى مترو الأنفاق تركني معلقة بلا رحمة، مثل مشهد في فيلم، قفز إلى عربة المترو وأغلقت الأبواب وأنا أقف على الرصيف وأمسك خصري وأنظر في بلاهة إلى أضواء عربة المترو وهو يمضي معها.»
قالت زابينة في صوت ينم عن خيبة الأمل: «يعني لا نهاية سعيدة؟»
قال يوهانيس: «من الأفضل أن نقول إن الشرير حالفه الحظ في هذه الحلقة، وإن للمسلسل بقية.» في أثناء ذلك أخرج كاميرا رقمية من جيب بنطاله، ونقر عليها عدة نقرات ثم ناولها إلى فاندا.
كانت الصورة مهتزة قليلا، لكنها استطاعت أن ترى وجه الشاب بوضوح عندما كبرت اللقطة. كان نحيفا ذا ملامح واضحة تكاد تكون طفولية، له شعر قصير أشقر داكن. قدرت أنه في بداية العشرين من العمر. كان ينظر بفزع نحو الكاميرا.
أوضح يوهانيس: «كانت تلك اللحظة التي رأى بيترا تركض نحوه فيها. لكن نظرا لأنني التقطتها من المقهى فلا يمكن اعتبارها صورة سيئة.»
نظرت زابينة للصورة من فوق كتف فاندا، وقالت بإعجاب: «نظيفة. صورة رائعة لمطاردة، ربما تمكن فولفجانج أن يستخرج منها المزيد بواسطة برنامج الفوتوشوب.»
ابتسم يوهانيس ابتسامة منتصرة وهو يقول: «وأنا عندي فكرة لتتمة المسلسل. لن يهرب مني هذه المرة.»
الفصل الثاني والأربعون
عد القطط في زنجبار
في ذات المساء ذهبوا إلى شقة فاندا وبعثوا بصورة مايك عن طريق البريد الإلكتروني إلى جماعة «والدن أربعة». كان يوهانيس يأمل أن يكون هذا دافعا لإخراج الجماعة من مخبئها، وهذا ما حدث فعلا؛ إذ وصلهم بالبريد العادي عرضا باللقاء في اليوم التالي مباشرة في ماربورج، وقد طالب المرسل - شخص ما يدعى تيد - بتوخي الحيطة. مكان قصي لا جمهور فيه، يفضل في الغابة. على فاندا أن تحضر بمفردها، وأكد أنه سيعود فورا لو لم تلتزم بالشروط.
نال الإحباط من بيترا؛ فقد كانت تظن أن مايك هو من سيحضر. ظلوا في شقة فاندا حتى منتصف الليل يدبرون الخطة لليوم التالي، سيبقى يوهانيس وزابينة بالقرب من فاندا. كانت بيترا تريد الاحتفاظ بوظيفتها في المعمل، وبعد أن اتضح أن مايك لن يحضر قررت أن تلتزم بواجباتها الوظيفية، فالموظفون لا يحظون بمواعيد عمل مرنة. اقترحت زابينة أن يتم تزويد فاندا برابط بينها من خلال الهاتف المحمول وبين محطة عمليات رئيسة. ستجلس زابينة في مقهى البرج وتتصل بيوهانيس مباشرة إن احتاجت فاندا للمساعدة. سعدوا جميعا بفكرتها، وتواعدوا على اللقاء في ظهيرة اليوم التالي في مقهى البرج ليتدربوا على العملية، ثم حل الموعد في تمام الساعة الثانية بعد ظهيرة يوم الثلاثاء. ووقفت فاندا على منصة العرض الخاصة ببرج القيصر فيلهلم.
وكعادة أيام العمل كان اليوم هادئا أيضا، فانتظرت فاندا. أحاطت غلالة رقيقة من الضباب بالمدينة، وكانت فاندا قد اعتادت على أن الشمس لا تنجح في إزاحتها إلا فيما ندر. أحيانا كانت تحضر إلى هنا ظهرا لتقرأ مقالا علميا دون أن يزعجها أحد، أو حتى تعثر على الأسلوب القاطع في صياغة أحد الأبحاث. ضغط ركاب سماعات الرأس على رقبتها، فسحبته إلى الخلف بحذر حتى لا ينزلق الميكروفون المخبأ وراء الرقبة العالية لمعطفها السميك. كان السلك يمتد منه إلى الهاتف المحمول في الجيب الداخلي، أما الهاتف فيخص فولفجانج صديق زابينة وكان مفتوحا. في هذه الأثناء جلست زابينة في مقهى البرج المجاور، في نهاية الطرف الثاني للوصلة، سارت الأمور على ما يرام في البروفة التي أجروها، إلا أن فاندا لم يعجبها عدم تمكنها من سماع زابينة، في حين أن الأخيرة تسمعها. في الأحوال العادية كانت فاندا لتستمتع كثيرا بقدرتها على الثرثرة بالهراء في أذن صديقتها، لكن الآن ودون أي إشارة مسموعة منها شعرت وكأنها تنظر إلى مرآة خاوية مما زاد من توترها، لكنها حاولت أن تهدئ من نفسها بأن هذا الوضع أفضل من لا شيء. وفي حال قطع الاتصال ستقوم زابينة بالاتصال بها على هاتفها، سترن مرتين، بعدها على فاندا أن تحاول إنهاء المقابلة أو أن تتمها في مكان أكثر حيوية. وماذا لو دخلت إلى منطقة ليست بها تغطية للهاتف المحمول؟ أرادت فاندا أن تعرف. هم أيضا فكروا في هذا الاحتمال، إن فشلت التقنية في تتبعها يبقى الاعتماد على المراقبة الحركية التي ستكون على أتم استعداد: لقد كانت مهمة يوهانيس هي حماية ظهر فاندا، وعن طريق محمول آخر ستستطيع زابينة أن تصل إليه طول الوقت.
صار له عشر دقائق وهو يمارس الركض البطيء حول أورتينبورج محاولا إبقاء فاندا في مجال بصره. ورغم أنها شكت في مصداقية تخفيه، فقد سعدت أنها لم تكن وحدها. في الواقع كان الجو أبرد من أن يصلح للركض. لقد كان يوهانيس يتباهى بطبقات الملابس الثلاث التي يرتديها وتخفي بنيته الضعيفة. هذا الامتلاء بالحشو المنفوش، مع سمرة البشرة التي تشبه الجلد المدبوغ، من شأنهما أن يزيلا أي شك في انتماء هذا الكائن إلى الفصيلة المنقرضة من مرتدي حمالات البنطال المرنة، والتي تعتبر كلمة «الهواء الطلق» كلمة أجنبية، والتي تقودها روحها الوثابة نحو الريادة إلى أن تخلف عطرها النفاذ في محطات البنزين، والسوبر ماركت، وأمام أكشاك بيع البطاطس المقلية، لكنك لا تقابل هؤلاء في الغابة إلا نادرا .
كانت فاندا تنظر إلى الأشجار وتعبث متوترة بالزر البلاستيكي في جيب معطفها، سيتعرفون بعضهم على بعض من الشارة الحمراء. كان الجراج بالغابة خاويا إلا من سيارة واحدة.
هناك ينتهي الطريق المسفلت بين المستشفى والبرج الذي يشق الغابة في خط مستقيم، بخلاف ذلك توجد طرقات التجول. تركت فاندا بصرها يتجول مرة أخرى فوق المدينة، كانت جلستها في البرج وكأنها على كف تمد منها أناملها المعوجة لتلتقط الطبيعة كثيرة التلال. كانت المرتفعات البعيدة هاجعة في حضن الضباب، وكل ما وراءها بدا جد بعيد، وحين استدارت وجدت خلفها هيئة داكنة تنظر تجاهها، لكنها لا تأتي بخطوة لتقترب منها.
همست في ياقة المعطف: «بدأنا.»
كان الشخص طويلا يرتدي معطفا أسود وحذاء عالي الرقبة ثقيلا، حين لاحظ وجودها ورأى أنها تأتي نحوه أدار رأسه ونظر يمينا ويسارا. ذكرها أنفه الطويل والتجعدات حول العينين اللتين لا تفارقانها أبدا بغراب جائع. كان يعبث بزر أحمر بين أصابعه، وحين اقتربت رأت نظراته الطاردة التي يخفيها جزئيا تحت غرته الكثيفة. أظهرت فاندا شارتها وذكرت اسمها.
وبحركة سريعة أزاح شعره من على وجهه، فبدا وجهه شاحبا بدرجة لا تناسب شبابه. كان في وجهه شيء مألوف، إلا أن الانطباع لم يمكث طويلا؛ لأنه استدار في نفس اللحظة. لمع شعر أبيض يتخلل الخصلات الأخرى في مؤخرة رأسه، فيما تناثرت قشرة الشعر على ياقته وأكتافه. خطا خطوات واسعة إلى داخل الغابة، لاقت فاندا صعوبة في متابعته.
وقف على الممشى العريض. «ماذا تريدين؟» تحشرج صوته وكأنه ينعق. «من هو مايك؟» «ماذا تريدين منه؟» «سأصفعه لطمة على وجهه.» قالت فاندا مراهنة، إلا أن تيد كان يسيطر على أعصابه. «هل هذا كل شيء؟» «لم يكن حذرا. لقد شوهد.»
لم ينطبق هذا الكلام مع الحقيقة تماما لكنه أتي بمفعول؛ إذ بدا تيد مرتبكا لبعض الوقت.
مط وجهه وهو يقول: «لم يكن كذلك.» الآن أحكمت عليك الخناق، قالت فاندا لنفسها في انتصار، ومشت ببساطة على ممشى الغابة. «هل تريد أن تتجمد هنا؟»
قال هامسا: «أولا، لا بد أن تختفي الصورة»، ثم تبعها على غير رضا. «انس أمر الصورة، هنالك شاهدة لها ذاكرة قوية، سأعرض عليك اقتراحا آخر: احك لي ما الذي حدث في قسمنا يوم السابع من نوفمبر. إن أقنعني كلامك فسنلزم نحن الصمت وستنسى الشاهدة كل ما رأت. فقدان ذاكرة مؤقت.» من الجيد أن بيترا لم تكن تسمعها.
ضربت فاندا بيدها على مؤخرة رأسها وقالت: «لا بد أن هذا مألوف لك.» نظر إليها نظرات سوداء. «من تعنين ب «نحن»؟» «يوهانيس ليبكنيشت، بيتر سنايدر، هل يكفي هذا؟ للأسف لم يكن من السهل إبعاد الشرطة عن المسألة تماما.» شد تيد غرته وتقوست شفته السفلى، والتزم الصمت. ومرة واحدة انفجرت هي في الكلام. «لا أستطيع تحمل أن يهاجمني أحد.»
ظل على عبوسه وهو يقول: «هذا ليس أسلوبنا.» «لكنك تعرف عم أتحدث.»
لم يحر جوابا. «ماذا إذن؟» بدا لها إظهار الغضب أمرا سهلا؛ ألأنها تشعر بالتفوق؟ بدا الشخص غير مؤذ، ما زال فتى صغيرا. إن كل التعب الذي بذلوه في المراقبة والوصلة الإلكترونية كان لا لزوم له، لقد بالغوا في المسألة كثيرا. كان تيد لا يزال صامتا، فواصلت فاندا الكلام: «أعرف ماذا تفعلون. أنتم تبحثون عن المعلومات المريبة من أجل أن تعاقبوا العلماء والباحثين بسببها، أعطاكم يوهانيس هذه المهمة، أن تحصلوا على بيانات خاصة بدراسة شركة بي آي تي، وهو الآن يريد أن يعرف إن كنتم حصلتم عليها.» رأت كيف أن ظهر تيد يتصلب وكيف تغوص يداه في جيوب معطفه، بينما تحملق عيناه على الطريق.
احتد صوتها وهي تقول: «سأحكي لك كيف كان الوضع. شعر مايك أننا نزعجه لذلك ضرب يوهانيس أولا ثم ضربني، بعدها أخذ البيانات من على الكمبيوتر ثم مسح كل شيء، لحساب من تعملون حقيقة؟» بينما كانت تتكلم لم ترفع عينيها من عليه. فهز تيد رأسه. «ماذا إذن؟»
تهدج صوته قليلا وهو يقول: «نحن لا نبيع ضمائرنا.» فتساءلت في أعماقها هل كان غاضبا؟ «نحن نتصرف من واقع قناعاتنا، نحن نريد أن نزلزل الأساس العلمي والتقني لمجتمع اليوم. هذا الهدف لا يتحقق بمجرد الإصلاح، ونحن لا نسعى وراء سلطة، العكس تماما، نحن نرفض أي سيطرة تفرضها المنظمات الكبيرة لأنها تسلبنا حريتنا.» أشار بيديه وكأنه يلقي بشيء «من الأفضل التخلص من النظام الفاسد والبدء من جديد.» «بمساعدة شخصيات مثل مايك؟» «لماذا لا نضرب النظام بنفس سلاحه؟» «لماذا تحميه إذن؟» «سنتضرر كثيرا لو تخلصنا منه، علاوة على ذلك لم يكن الأمر كما تعتقدين.» تردد قليلا قبل أن يكمل: «حين دخل إلى غرفة الكمبيوتر وجد شخصين على الأرض، رجل وامرأة كلاهما على قيد الحياة، ولم ير أي جروح بهما. ووجد جهاز كمبيوتر مفتوحا. وجد مايك بسرعة مدخلا إلى النظام، لكن حساب بيانات الشخص المقصود كان فارغا، وكذلك تم مسح محتويات سلة المهملات. وضع الزر الأحمر إلى جوار الكمبيوتر وغادر. ربما كان غبيا، لكن هذا يبرهن على براءته، وإلا فهل كان ليخلف أثرا كهذا؟» نظر إليها نظرات متسائلة توحي بالأمل ثم أكمل: «انتظر قليلا بالطرقة إلى أن سمعكما تتحدثان ثم اختفى.» «وتركنا هكذا ببساطة ملقين على الأرض؟»
قال تيد ناعقا: «هل كان عليه مثلا أن يفتح الباب لطبيب الطوارئ؟ ألم أقل إنه انتظر أن تظهرا علامة أنكما ما زلتما على قيد الحياة قبل أن يمضي إلى سبيله؟ كان ينبغي ألا يراه أحد، وكان لا بد أن يذهب ويختفي. لقد تصرف تصرفا سليما، علاوة على أنه انطلق من كونكما غادرتما المعهد قبله.» «ماذا؟» «لقد تحرك المصعد وهو لا يزال في الممر.» «متأكد؟» «هذا ما ورد في تقريره.»
أخذت فاندا تفكر؛ هي ويوهانيس لم يستعملا المصعد حين غادرا المعهد تلك الليلة، كان ذلك بعد الثانية عشرة والنصف. «هل رأى أحدا؟» «لقد قلت سلفا، لقد انتظر حتى غادرتما، لم يكن بالخارج سوى سيارة تويوتا، السيارة الأخرى لم تكن موجودة، بعدها اختفى هو أيضا.»
صاحت غاضبة: «انتظر لحظة، عن أي سيارة تتحدث؟» في هذه اللحظة رن هاتفها المحمول. دست فاندا رأسها داخل ياقة معطفها. كان الهاتف يرن في معطفها بصوت مكتوم مثل منبه قديم يختنق أسفل وسادة ، وبعد الرنة الثانية ساد صمت بشكل لا يصدق. مباشرة شعرت أنها ممسوكة من ياقتها، ثم سمعت السوستة تئز وشعرت بالهواء البارد على رقبتها، وقفت متصلبة إذ انفتح معطفها تماما. ضحك تيد ضحكة قصيرة وهو يصطاد الهاتف المحمول من الجيب الداخلي، تركها ثانية وأخذ يتفرس في شاشة المحمول. «هل أعاود الاتصال بزابينة كي تعرف كل شيء؟» لا بد أنه قرأ الاسم على قائمة المتصلين. من هو؟ وعم كان يتحدث؟ ثمة شيء فيه مألوف بالنسبة إليها، وكأنها رأته من قبل على شاشة عرض سينمائي، ورغم أنها بحثت في ذاكرتها عميقا، لكنها لم تصل إلى شيء. سمعت ضحكته المنتصرة وهو يقول: «أنت لا تعرفينني. أما أنا فأعرف عنك أكثر مما تودين أن تسمعي.» مس بإبهامه لوحة مفاتيح المحمول وهو يقول: «هل لدى زابينة خبر عن روتشيستر؟» تجمدت فرائص فاندا. أغلقت سوستة معطفها. «أنا لا أعرفك.» ردت وعيناها لا تفارقان أصابعه التي تتحرك على المحمول. هل ضغط على زر الاتصال؟ «كذبة بيضاء.» قالها وهو ينظر إليها بانتباه «ألم يلاحظ ريك شيئا بعد؟» كانت فاندا تفكر بسرعة: من هذا الشخص القميء؟
بدأ يصيح فيها قائلا: «أنت لست أفضل من الآخرين. لا تقولي لي شيئا عن الفضول العلمي، ولا عن الفائدة التي ستعم على البشرية، أنتم لا تعبئون بمثل هذه الأمور.» «ماذا يعنينا إذن؟» حاولت فاندا كسب بعض الوقت، وأخذت تمعن التفكير لكن دون أن تصل لشيء. خاطرت بإلقاء نظرة من خلال الأشجار. أين يوهانيس؟ هل يسمعها؟ «ماذا؟» كانت نبرة تيد تشي بالغضب. «ألا تعرفين دوافعك الحقيقة؟ نمطية مثل أي عالمة.» أخذ نفسا عميقا وأكمل: «طموحة وتهوين السيطرة مثل معظم زملائك. كلها تصرفات تعويضية. أهداف اصطناعية. لا شيء منها يمكن أن يحقق الرضا لشخص. أنت تنتمين إلى الحيارى إلى الأبد الذي يعلمون أكثر ويملكون أكثر، مفروض عليهم الفعل، تقودهم في ذلك حاجات شخصية نفسية لأن إشباع الدوافع البيولوجية الحقيقية أصبح أمرا تافها بالنسبة لهم.» «وأنت ما دوافعك؟» حاولت أن تلهيه عنها، وتمنت من داخلها ألا تكون زابينة تسمع هذا الحديث.
واصل كلامه بحماسة: «ربما يكمن تصرفك التعويضي في السعي إلى كشف سر شخصي.»
شعرت فاندا من فورها بغضب عارم: «ما المقصود من كل هذا؟ دورة تدريبية مكثفة في الوعي خاصة؟ ماذا تريد أصلا؟»
قال بهدوء: «أمر في غاية البساطة: تعملين على التخلص من الصورة، وأنا سألتزم الصمت.»
جفل كلاهما حين سمعا طقطقة فرع شجرة جاف. أمسكها تيد وسحبها خلف شجرة. كانت أصابعه تضغط بشدة على ساعدها، في حين أمسك الهاتف المحمول في اليد الأخرى. كان يوهانيس يركض على الممشى الموجود بالغابة، فتنفست فاندا الصعداء. «وماذا يا ترى تريد تعويضه بهذا السلوك الأحمق؟ هل هي حماستك لمعتقداتك تدفعك للتبشير بها؟ هل تريدني أن أبدل معتقداتي لأعتنق البحث في الحقول والغابات والمروج؟» «أنت لا ترين سوى ذاتك، مثلك مثل أولئك الأمريكيين الذين ينفقون مبالغ ضخمة لبحث جزيئات ضئيلة، ولهذا أيضا أنت لا تفهمين أي شيء.» صمت قليلا واسترق السمع، وحين لم يسمعا صوت خطوات أخرى واصل حديثه قائلا: «ليس الهدف أننا نريد أن نعد القطط في زنجبار كما في تلك الرواية، وإنما الهدف هو إعادة التحكم في الأمور الوجودية، في الشروط الأساسية التي تحدد الموت والحياة.»
ظلت فاندا تحدق في إبهامه، لكنها لم تجرؤ أن تهز يده، لم تكن تثق تماما في التغير الفجائي للموضوع. عن أي أمريكيين يتحدث؟ «لا بد أن نعرض أنفسنا لقوى الطبيعة. لا أعني بذلك الجولات المتطرفة على الأنهار المتجمدة، أو عبر عوالم الصحاري أو الأدغال بهدف زيادة نسبة ضخ الإندروفينات، إنما أعني الحياة البسيطة. كوخ في غابة بمنأى عن المدنية. لقد قدم ثورو مثالا على ذلك.» «من؟» «هنري ديفيد ثورو، وهو كاتب أمريكي ونحن نرجع إلى كتاباته. كتابنا الملهم اسمه «والدن»، لكننا لم نكن أول من يستلهم من أفكاره، لذلك نسمي أنفسنا «والدن أربعة».»
واصلت صياحها: «لستم إلا مجموعة من الفوضويين. أنتم حتى لم توفقوا في العثور على عنواني الحالي. الصدفة وحدها هي التي أوصلتني للقائمة التي كان سنايدر ينوي أن يرسلها لي أنا أيضا. كيف تريدون إصلاح العالم بهذه الاستعدادات المنقوصة؟» «رغم كل شيء ما زلنا على دراية بكل ما يحدث.» «هكذا إذن؟»
قال: «الأمريكيون يحومون حول المكان، يطلقون الرصاص على نحو أعمى، يتبعون منهج المحاولة والخطأ، لكن سرعان ما سيتمكنون من الإيقاع بالفريسة. إنها مسألة وقت ليس إلا وستعرف الحكومة الأمريكية أنكم تفحصون مادة إن بي 2701، تلك المادة التي أعلنت الحكومة أنها سر من أسرار الدولة، والحكومة تجمع الحجج الضرورية من أجل استعادة المادة التي وزعتها مصانع الأسلحة مؤخرا بسخاء بالغ.» ضحك ثم أكمل قوله: «وهي مسألة بسيطة للغاية بالنظر لحجم الجزيئات، لكن عليهم أن يسارعوا قبل أن يستحوذ الاقتصاد الخاص على براءات اختراعهم. فقط أتساءل: أي حكومة بوسعها أن تعترف علنا أن الإمكانية الحربية الكامنة في مادة ما أحب إليها مما تحوي من نفع للبشرية؟»
أدركت فاندا أن هذا هو السبب الذي دفع بيتر سنايدر لأن يكتب لها من عنوان متخف، لقد كان يريد أن يحميها. جاء صوت تيد الصبياني يخترق أذنها ثانية: «نحن لم نأخذ البيانات. وإن كانت لدينا لم نكن لنخبر بها أحدا، فالأمر جد خطير.» ارتعدت فرائص فاندا، كانت أصابع تيد ما زالت تضغط على ساعدها بقوة، لدرجة أن الخدر بدأ ينتشر في يدها اليسرى. ضيقت عينيها وتفرست في ملامحه سريعا، فنظر إلى الناحية الأخرى.
سألته بحذر: «هل علينا أن نعرف بعضنا؟» هز رأسه نافيا وقال: «الأفضل لا.» تركها وأمسك بالهاتف المحمول على أذنه ثم ناولها إياه، أتاها صوت زابينة المألوف وكأنه يخترق طبقات من الحشو ليصل إليها. ترى ماذا سمعت صديقتها؟ حين تلفتت فاندا حولها رأت ذيل معطف يختفي وهو ينحدر مع المنحنى الهابط. لقد ولى تيد هاربا. كان باستطاعتها أن ترسل يوهانيس وراءه، لكنها تساءلت: وما جدوى ذلك؟ كانت قد اقتنعت في غضون ذلك أن مايك لم يكن الرجل الذي يبحثون عنه، لكن ترى لمن كانت السيارة التي رآها في الجراج الكائن أمام المعهد؟ صعدت إلى البرج على طريق الغابة خائرة القوى متجمدة الأوصال، لاقتها زابينة ولم تطرح أية أسئلة. استراحت فاندا عندما سمعت أن تيد لم يعد الاتصال بينهما فعلا إلا في نهاية لقائه بها، وأمام المدفأة المتقدة في مقهى البرج أخذت الصديقة تدلك يدها إلى أن عاد فيها الإحساس، لكن ظلت خمس بقع زرقاء تبرقش ساعدها، كما ظل ضغط أصابعه يزعجها حتى اليوم التالي.
الفصل الثالث والأربعون
إحباط
أثناء الليل عاودها الحلم ثانية: هي في منزل والديها، تعرف أنه أسفل بالقبو. تغلق سريعا الباب المفضي لسلم القبو، تدير المفتاح، فيصدر القفل القديم صوت طقطقة متشكيا، وتسمع الباب ينفتح وهو يطلق صوت صرير. فجأة يغمر الضوء المكان. في المطبخ نافذة لا تزال مفتوحة، فتغلق باب البيت بالمفتاح وتسرع نحو النافذة. وهناك تجده جالسا في إطار النافذة، فيقفز ليقع أمامها منفرج الساقين، إنه حديث السن متهدج الأنفاس يقول: «لا أريد سوى أن أظل عندكم.» كانت نبرة الرجاء في صوته واضحة.
استيقظت بلا خوف وكانت على يقين أن هذا الحلم لن يتكرر ثانية.
كان هذا هو الحل. لقد كان ظلها وكان ينتمي إليها، كلما أقصته ألح في تتبعها. حاولت فاندا أن تحفر صورة وجهه في ذاكرتها فقد أعجبتها، كانت مثل صورة منعكسة على صفحة الماء تختفي بسهولة في دوامات أحداث اليوم المضطربة، ليتها تستطيع أن تصورها فوتوغرافيا لتحتفظ بها إلى الأبد.
ليتني كنت أستطيع الرسم، جال هذا ببالها.
تزاحم الناس في الحافلة رقم سبعة التي تصعد منحدرات اللان. اضطرت فاندا أن تنزل لوهلة عند المحطة الرئيسية لتسمح لطوفان من البشر بمغادرة الحافلة، إلا أن طوفانا يقاربه عددا صعد بدلا منه. كانت تقف في نهاية الحافلة معلقة من يدها اليمنى بقضيب مثل قرد صغير ذي ساقين جد قصيرتين. كانت الذراع اليسرى لا تزال تؤلمها. لمحت زميلها المختص بعلم الفيروسات في المقدمة واقفا إلى جوار السائق، أليس من المفترض أن يعود الأسبوع المقبل من رحلته إلى الولايات المتحدة؟ كان لا يحيد عن النظر أمامه.
كان كانتيرات أبعد من أن تحاول مخاطبته.
وعند محطة هانز-ميرفاين-شتراسه رأته يختفي وسط حشد من الشباب الذين يتحدثون ويتقافزون وهم متوجهون إلى محاضراتهم في المعاهد العلمية المقابلة. مشى منحني الظهر، وكان من الواضح أنه في عجلة من أمره، كما أنه أعطاها الانطباع أنه يهرب من أمر ما.
هذه المرة أخذت المصعد حتى القسم، وأخذت تفكر هل كان يقف هنا في المصعد بعد أن قام بضربها هي ويوهانيس وسرقة بيانات زابينة؟ إنها تعتبر أن الفاعل كان رجلا. أغلقت عينيها لبعض الوقت محاولة أن تستشعر وجوده في المصعد وهو ينزل. هل كان راضيا؟ هل حصل على ما كان يبحث عنه؟ آنذاك كان مضطرا أن يقف وراءها في غرفة الكمبيوتر لوقت قصير. بعدها تلك الثغرة في ذاكرتها التي لا يزال عقلها متمسكا بها رغم أنها لا تستطيع أن تملأها بشيء.
ومضت لمبة صغيرة على جهاز الرد الآلي الخاص بها، أحدهم ينتظر أن ترد مكالمته. تعرفت فاندا على رقم السكرتيرة. دخل يوهانيس وألقى بنفسه على الكرسي المعيب، وتأوه كلاهما.
قال وهو يسعل: «جسدي كله يؤلمني.» «ظننت أنك ذهبت للتزلج على الجليد.»
رد وكأنه يعوي: «هذا عبء مختلف تماما.» «هل مسحتم الصورة؟»
لم يرد وإنما ظل يتفرس فيها متشككا، وقال: «يبدو أن ذلك الشخص قد خلف انطباعا قويا لديك.» عبثت فاندا بكومة أوراق على مكتبها. لم تشأ أن يلاحظ يوهانيس توترها. فمساء أمس تعرفت على صورة تيد، كان بين نحو أربعين من العاملين في المعهد الأمريكي متراصين أمام المصور على درجات سلم المعهد. استطاعت أن تكتشف وجهه باستخدام العدسة المكبرة. نفس الشبه بالغراب الذي أنبأتها به فراستها، لكن شعره كان قصيرا وقتها. وجدته واقفا في صف من أواخر الصفوف، غير ظاهر للعيان. كان باحثا في مرحلة ما بعد الدكتوراه، مثلها تماما، لكنه كان في مجموعة أخرى. كان لا بد أن تعترف أن هذا الوجه لم يكن يحمل اسما في ذاكرتها، هل تيد هو اسمه الحقيقي؟ وقتها أيضا لم تتبادل معه فاندا أي كلام ولم تكن تعرف أنه ألماني. من أين عرف حكاية ريك؟ ورغم كل الغموض الذي يكتنف هذا الشخص فإن فاندا بذلت ما في وسعها من جهد كي تقنع زابينة ويوهانيس أنهما يمكنهما الوثوق به، كما أن المعلومات التي أعطاها بخصوص اهتمام الأمريكيين بمادة «إن بي 2701» خلفت انطباعا إيجابيا عندهما، لكنهما كانا مستغربين أنها لم تحاول معرفة المزيد حول أمر السيارة الثانية.
نقر يوهانيس على المكتب: «هييه. هل تسمعينني أصلا؟»
ردت فاندا متجنبة الرد: «كانتيرات كان اليوم صباحا في الحافلة.» بعدها نقرت زر معاودة الاتصال على هاتفها، فردت عليها السيدة بونتي. كان بروفيسور شتورم يخطرها أنه سيتولى بنفسه المحاضرة المقرر إلقاؤها في مؤتمر برلين، إلا أنه يأمل أن تنوب هي عنه في محاضراته، وبعدها انتهت المكالمة أيضا. وضعت فاندا السماعة وأخذت تنظر لزميلها متفكرة. «هناك ثغرة ما.»
حدق فيها يوهانيس دون أن يفهم ماذا تقصد. «سأوضح لك الأمر لاحقا.» أضافت في عجالة وتوجهت إلى الجناح المجاور الخاص بقسم علوم الفيروسات.
الفصل الرابع والأربعون
شعاب داروين المرجانية
دخلت أشعة الشمس من النافذة الجانبية للسيارة من طراز تويوتا على دفعات متوالية وكأنها نبضات من إنارة، إعتام، إنارة، إعتام، إنارة ... ضيقت فاندا عينيها. نظرت إلى الأمام مجهدة. تعدى مؤشر عداد السرعة المائة والثلاثين، بينما الإطارات الشتوية تضرب أسفلت الشارع، وصوت أناستازيا ينساب من المذياع، أدارت فاندا الزر لترفع الصوت. وعند تقاطع جامباخ أخذت الطريق السري
A5
المتجه إلى فرانكفورت. لا اختناقات مرورية، استراحت فاندا حين لم يرد طريقها في نشرة أخبار المرور. فيما عدا بضع عربات نقل تسد الحارة اليمنى، كان الطريق مفتوحا مبشرا أنها ستصل في الموعد.
منذ لقائها بتيد بدأت تشعر أن الخناق يضيق حولها تدريجيا. لم يكن بوسعها الهروب ولا التصرف وظلت كالمشلولة، ورفض عقلها أن يجد فارقا في السبب وراء ذلك، هل يرجع إليها أم يرجع إلى بيئتها المحيطة التي باتت تشعر أنها تقصيها باطراد.
لقد أعلنت الزميلة العاملة في قسم علوم الفيروسات بصراحة، أمام باب مدخله الذي ظل موصدا معزولا عن كل ما حوله، أن الزميل في غاية الانشغال، وسيتصل هو بها بمجرد أن يتوفر لديه الوقت. لم تصدق فاندا أي كلمة مما قالت. ثم ذلك الأمر مع الرئيس؛ فمنذ عودته من الإجازة لا يتواصل شتورم معها إلا عبر السكرتيرة التي لم ترد أن تحدد لها أي موعد معه قبل بداية فبراير. مع توماس أيضا لم يعد يتيسر الحديث؛ إذ ظل يتحاشاها بعد الطريقة التي غادرت بها ليلة رأس السنة. وأندرياس عنده امتحانات، على الأرجح أنها أخافته هو أيضا. بيتر سنايدر أكد لها ما لمح به تيد حول طموحات المخابرات الأمريكية، لكن لم تتمكن من الوصول إليه بعد هذا. ماري كامبل كانت «خارج المكتب» للأسبوعين القادمين، حسب الرد الآلي على البريد الإلكتروني، علاوة على ذلك، رأت أن يوهانيس وزابينة يجفلان ويؤثران الصمت بمجرد أن تتلفظ هي بكلمة نانوسنيف؛ ولهذا شعرت فاندا أن الكل يتحاشاها، وكأنها أصيبت بالجذام، لم تعد تتواصل إلا مع رودي الذي لا يوصلها إلى شيء؛ لذا فقد آن الأوان أن تجد لنفسها دعما مستقلا.
عند تقاطع باد هومبورج أخذت التفريعة المؤدية إلى أوبرأورزيل. كلما فكرت في هارتموت فيبيلينج رأت صورة رجل ضئيل البنية أمام عينيها، ذي وجه نحيل وشعر أشقر قمحي كثيف مقارنة بمن في عمره، ذي عينين في زرقة الماء تنظران عبر نظارة معظمة كبيرة الحجم. آنذاك كان دائما ما يرتدي قميصا أبيض عليه ربطة عنق برسم حيوان. لم تر فيبيلينج منذ ما لا يقل عن ست سنوات. أنى لها أن تبدأ معه الحديث مباشرة؟ في تلك الأثناء كان قد تقاعد. لقد كانت سكرتيرته القديمة من معهد علم الحيوان التابع لجامعة مونستر التي وصلت إليها فاندا على الرقم القديم سعيدة جدا بسؤالها وأعطتها أخباره، كما أوضحت لها بود أن الأستاذ عاد إلى بيته القديم الذي لا يبعد عنها كثيرا. لقد آثر الأستاذ المتقاعد هارتموت فيبيلينج أن يمضي سنوات تقاعده في كونيجزشتاين الكائنة في مرتفعات تاونوس، وأعطت فاندا رقم هاتفه. «آه، أنت السيدة الشابة التي كانت ترتدي جوارب عليها نقش الكنغر؟» ما زالت لديه تلك الضحكة الطفولية.
كان على حق، آنذاك تملكتها رغبة ارتداء جوارب عليها نقوش حيوانات. معقول أنه لا يزال يذكر ذلك رغم أنها لم تكن تدرس عنده أصلا؟ الصدفة وحدها جعلته يشرف عليها في الفصل الدراسي الأول لها بالجامعة، وها قد ثبت أنها كانت صدفة سعيدة أن يندرج اسمك في آخر كشف الأسماء المرتبة هجائيا مثل فيبيلينج، الذي آوى كل المبتدئين من أول تابيرت وحتى فونديرليش تحت جناحه فصلا دراسيا كاملا، وسرعان ما تحولوا إلى دائرة صغيرة تتحلق حول الأستاذ، تلتقي بانتظام، تنظم جولات في الغابة، أو زيارات إلى حديقة الحيوان، أو تذهب لتناول البيتزا وتدخل في مناقشات قد تمتد طوال الليل حول الإله والعالم، وتحكي عن أحلامها الوظيفية، إلى أن باعد بينهم أخيرا وفرقهم واقع الدراسة وإيقاعها اليومي. وكلما عادت فاندا بفكرها إلى الوراء، إلى ذلك الوقت، شعرت أن روح المغامرة تعود إليها متدفقة مثل يوم ربيعي دافئ، وتعيد إليها اليقين بأنها ستحقق كل ما تصبو إليه. في السنوات اللاحقة لم تعد ترى فيبيلينج إلا لماما؛ تلقاه لقاء خاطفا في طرقة أو في احتفالية كبرى، كانت سمعته تسبقه على أنه مدير معهد تتسم شخصيته بالمغامرة والحكمة. أول أمس تجنبت أن تلح عليه على الهاتف، لكنه سرعان ما استوعب أن ما يشغلها أمر مهم فدعاها إلى منزله. صحيح أنه مشغول نسبيا، لكن في وسعه أن يفسح لها ساعة من وقته إن كانت تكفيها. أسعدها أنها ستلقاه ثانية.
عند أوبرأورزيل تركت الطريق السريع عند مخرج كونيجزشتاين، وبعد بضع كيلومترات وصلت إلى منطقة مامولزهاين. كان من السهل رؤية فيلا فيبيلينج من الشارع، وهو لم يكن يبالغ حين قال إنها أكبر أرض على حافة الغابة. صفت سيارة يوهانيس على الممشى. كان الجرس عبارة عن حوض من النحاس في منتصفه زر، دقت الجرس ففتح هارتموت فيبيلينج الباب بنفسه. نفس العينين الزرقاوين زرقة الماء هما اللتان تطالعانها الآن بفرح وترقب.
لمع بريق فضي على شعره، عاودت فاندا الذكرى ثانية، تذكرت أنه حتى آنذاك كانت أرنبة أنفه منحرفة قليلا نحو اليمين، وكأنه يتشمم رائحة آتية من تلك الناحية على نحو مستمر، بينما هو مثبت النظر على محدثه. تلك اليقظة التي توحي بسيطرته على كل الاتجاهات، كانت تقوي من حضوره الطاغي الذي يتدبر به أمر محاوره أيا كانت حالته. اليوم يرتدي بنطالا من الجينز وبلوفر عالي الرقبة بلون الأزرق الفاتح، وسترة من الجلد. نظر إلى الخف الفرو الذي يرتديه في قدميه وبسط يده كما لو كان يعتذر. «لقد تعاركت معي زوجتي، لكن لم تكن بي رغبة لأن أبدل ثيابي.» ضحكت فاندا. كان الأزرق الفاتح يناسبه كثيرا، لكن حياءها منعها أن تقول له ذلك، وحين أرادت أن تخلع حذاءها أشار إليها ألا تفعل.
قالت وهي تضحك بخبث: «خسارة. هذه المرة موظ كندي.» فأصر على رؤية جواربها.
أدفأت الأرضية المكسية بالقرميد الرمادي قدميها. قادها فيبيلينج إلى غرفة مكتبه. أضفت السجادة فاتحة اللون تباينا لطيفا مع لون الخشب الداكن للمكتب القديم الذي لم يكن عليه سوى جهاز كمبيوتر محمول. أشار إلى ركن للجلوس إلى جوار النافذة، غطست فاندا في واحد من الكراسي الحمراء الصغيرة. فجلس هو على الآخر إلى جوارها. كان الماء يغلي بصوت مسموع في إناء صنع الشاي الموضوع على منضدة المشروبات.
قال وهو يناولها طبقا من البورسلين الرقيق: «تفضلي، قدمي لنفسك ما تشائين، أم تراك تفضلين قهوة؟»
هزت فاندا رأسها ووضعت الفنجان أسفل حنفية الشاي المطلية بالفضة. كان فيبيلينج يرنو إلى الغابة. «تأتي الغزلان نحو الساعة الثالثة والنصف، واحدة تلو الأخرى. تخرج بحذر بالغ من حماية الأشجار. أحيانا يصل عددها إلى خمس إناث. أستمتع بهذه المسرحية كل مرة أكون فيها بالمنزل. ما زلت كثير السفر. هل تعرفين، نحن الأساتذة نزدهر حقا بعد أن نتقاعد، فأخيرا تخلصنا من الواجبات الإدارية الثقيلة، ونستطيع أن نفعل ما يسعدنا.» نظر إليها نظرة تآمرية وقال: «لكن لا تحكي لزوجتي أيا من ذلك، في وقت ما ستفهم وحدها أنني يمكنني أيضا أن أشذب العشب. وعلى كل حال اكتشف أولادي أن الجد جليسة أطفال ممتازة.» فكر قليلا ثم قال: «إذن أنت الآن في ماربورج مدينة الشعراء والمفكرين: هايدجر، باستيرناك، بين، كاشنيتس، وكان بها أيضا بعض العلماء الأذكياء.» رمق فاندا بنظرة مستمتعة وقال: «علي أن أعترف أني لم أذهب إلى هناك قط، وكما سمعت فعملك يضم الآن جانبا طبيا.» رفع حاجبيه وتساءل: «احكي لي: فيم تعملين الآن وكيف يمكن لي أن أفيدك؟» كان الحديث عن أبحاثها مدخلا جيدا، وتدريجيا بدأ خجلها يتلاشى، وسرعان ما قادها الموضوع إلى سبب الزيارة. حكت لفيبيلينج عما اكتشفته حول نانوسنيف. ركزت على الحقائق العلمية. «علاجات ضد التقدم في العمر.» قال وهو يرفع كتفيه فيغوص رأسه بينهما: «وكأن التقدم في العمر مرض.» فكر قليلا ثم قال: «عندي رؤيتي الخاصة للموضوع: السيطرة لا تؤدي إلا إلى تكبير المسألة. نظل ننفخ فيها وكأنها منطاد نملؤه بالهواء الساخن، ثم نستكثره على السماء.» ابتسم لفاندا من وراء نظارته وقال: «ويوما ما سنعاود زراعة الموت لأننا سنفتقده.»
ظلت فاندا صامتة لوهلة إلى أن تحدثت ثانية، فسيأتي الآن الجزء الأصعب فيما تريد قوله. أوضحت له أن شتورم يتجاهل آخر ما وصلت إليه النتائج حول نانوسنيف، ولم يفتها ملاحظة أن فيبيلينج كان كثيرا ما ينظر من النافذة في أثناء حديثهما. توقف عن الابتسام فرأت التجاعيد الغائرة حول فمه. «هل حضرت إلي لتشتكي من رئيسك؟» ازدردت فاندا ريقها، وفكرت: كان علي أن أتوقع هذا. فالمثل يقول: لا غراب يفقأ عين غراب مثله. وأبناء المهنة الواحدة يحمون بعضهم ظهور بعض.
قالت بحذر: «لا، لا أريد أن أشتكي.» شعرت أنه فهمها خطأ، «أنا فقط لم أعد أثق في حكمي على الأشياء، ما الخطأ وما الصواب. نانوسنيف يحتوي على مخاطر يرفض رئيسي أن يعترف بوجودها. هل علي أن أحجب معلوماتي لأن رؤيته للأمور غير رؤيتي لها؟» «كونك عالمة يجعلك مسئولة مسئولية شخصية.» «وهذا يعني؟» «المجال المتاح لك للحركة يتناسب مع قوة من يحمي ظهر رئيسك.» «وهذا يتعلق بمصلحته من الموضوع.» «حاولي أن تقدمي له الموضوع بطريقة يستطيع أن يتقبلها بها. ليس ثمة جدوى وراء تحديه؛ إلا إذا ...» «ماذا؟» «لو كنت تسعين وراء التنازع على السيطرة، وهذا ما لا أنصح به.»
تصببت فاندا عرقا. كيف كنت أتوقع أمرا آخر؟ لا جدوى. كان علي ألا أحضر إلى هنا.
أكمل بلهجة ودودة قائلا: «هل تعرفين، هناك طرق متنوعة لتوصيل الحقائق، وهذا يسري أيضا على معارفنا العلمية، والأمر مرتبط دائما وأبدا بالهدف الذي تسعين إليه. إن كانت نيتك هي الإضرار برئيسك فهذا ما سيفهمه الآخرون، وستحشدين قوى الآخرين ضدك، وسينفذون ذلك في صمت مذهل، ولن يفيدك ذلك في موضوعك. أما إن كان همك هو توصيل معلومة أن التقنية الجديدة تحوي مخاطر محتملة، وأنك تستطيعين إثبات ذلك بالتجربة المعملية، فستلقين ساعتها آذانا مصغية. أريد أن أقول إن عليك أن توضحي موقفك، ولا بد أن تصب حججك في صالحك، وهذا لا يتأتى إلا حين يقتنع الناس بنواياك. لا أحد يترك القيادة لشخص لا يثق فيه.»
ردت فاندا بحماسة: «ولكن هذه تحديدا هي مشكلتي. إن أعلنت معلوماتي حول نانوسنيف، فسيدعم ذلك الحكومة الأمريكية التي تبحث في الوقت الراهن عن حجج تمنع بها الاستخدام المدني لنانوسنيف لتخفيه عن أعين العامة، وتخبئه في المعامل السرية للجيش.» «من أين لك بهذه الفكرة الغريبة؟»
نظرت فاندا في عينيه بثبات: «الأمر هكذا فعلا، فلدي مصادري.» سأكون أنا الشيطان لو حكيت له الحكاية كلها، وسيظن أني مجنونة. تنهد فيبيلينج. «إذن في وسعنا أن نستبعد محاولات الانتقام، نحن هنا لسنا أمام عرض من أعراض «الغضب المقدس»، فأنت لا تريدين الثأر لقضية تظنينها عادلة، أليس كذلك؟» كان يرمق فاندا من فوق حافة فنجان الشاي بانتباه. هزت رأسها نافية بحسم. «ربما كان الأمر كذلك في البداية، لكن في هذه الأثناء بدأ الموضوع يحوي ما هو أكثر.»
واصل كلامه قائلا: «كان شعب الآزتك يعبد ربة الخيلاء. كانوا يطلقون عليها الربة التي تتحكم في الضباب، آياوتيوتيل، سيدة الضباب والدخان. هل تعتقدين حقا أن وظيفتك تخولك السلطة أن تخفي ما تخفين وتعلني ما تعلنين؟ أنت تبالغين في تقدير أهميتك. ليس من حقك التحكم في مثل هذه التطورات.» «لكني أشعر فعلا بالمسئولية .» «نعم بالطبع، فلتبقي إذن على البساط! إن كل محاولة للإمساك بزمام هذا العالم المعقد محتومة بالفشل. حين تحاولين ترويض الحصان من الخلف لا تتعجبين إن ظل يتمرد.» «أخشى أني لا أفقه شيئا في الخيول.» «عليك أولا أن تتحدثي إليه بلطف، وعليك أن تبقي على هذه النبرة الهادئة، سيرتد أثر ذلك إليك، كل شيء آخر سيأتي لاحقا. لا توجد وصفة سحرية.» «سيؤدي ذلك إلى نبذي، وسيكلفني ذلك وظيفتي و...» عضت شفتيها؛ إذ لم تكن تريد أن تحكي له عن جونتر هيلبيرج، لن يكون ذلك مناسبا في هذا السياق.
بدا أنه لا يزال في انتظار أن تكمل حديثها. «وصوتي في المجتمع العلمي ...» «عندك حق. الموضوع يتعلق بكيانك.» «وبمصداقيتي.»
صاح منتصرا: «وهنا بيت القصيد. الأمر يخصك أنت شخصيا، وماذا عن مسألة الخداع العلمي؟» «علي أن أتأكد من ذلك أولا، وإلا فلن أستطيع مواصلة العمل.» «لكن هذا ما أعنيه أيضا، لا يمكن الفصل بين المسألتين. حين تصلين إلى شيء فعليك أن تجدي الطريق لإيصاله إلى الناس، وهذا يتعلق أيضا بمدى قابلية مستمعيك لاستقبال ما تقولينه من معلومات. فالمجتمع العلمي أقل انفتاحا من عوام الناس فيما يخص وجهات النظر الجديدة. قد يبدو ذلك عبثا، لكن الوضع كذلك حقيقة؛ لأنه في مجالاتنا علاوة على كل حسنات ومساوئ الطبيعة البشرية، هنالك تنوع من الأفكار والرؤى والنظريات والعضويات المعدلة وراثيا ما يستوجب الحماية. حتى داروين رغم عناده كان مناسبا.» توقف فيبيلينج لبعض الوقت، ثم أكمل قائلا: «كان يستخدم في تخطيطات رسوماته لشرح نظرية النشوء والارتقاء استعارة الشعب المرجانية. بهذه الصورة تخطى الفكرة التقليدية التي سادت في العصر الوسيط عن هرمية التطور التي كان يعبر عنها باستخدام استعارة شجرة الحياة، علاوة على ذلك كان يستخدم استعارة الشعب المرجانية لقدرة الفروع الحية على الازدهار فوق الميتة، كما أن هذه البنية تسمح بملاحظة الأنواع الحية والأخرى المنقرضة بنظرة واحدة كل على حدة. كان داروين غارقا في هذه التجربة الذهنية، حين وصله مقال من الباحث الشاب والاس الذي استطاع أن يصور نظرية التطور بشكل مقنع جدا على مثال شجرة البلوط السامقة.» ارتشف فيبيلينج بعض الشاي، ثم أعاد الفنجان ببطء وواصل الكلام: «وبدافع من قلقه على ريادة أبحاثه في نظريات الارتقاء، اضطر داروين لقطع أفكاره التي من شأنها تشكيل المستقبل. كان عليه أن ينشر نتائج أبحاثه قبل منافسه، بالتالي لجأ لاستخدام الاستعارة المألوفة لشجرة الحياة، رغم أنه فكريا كان قد تخطى هذه المرحلة بخطوات. على أية حال، كانت رسوماته تشبه الشجيرات المتفرعة مثل الشعاب المرجانية، وكلما جمع حججا تدعم نموذج الشجرة الذي لم يكن داخليا مقتنعا به، ازداد تورطه في تناقضه الذاتي الداخلي. كان حذرا في صياغة أفكاره؛ ولهذا ظل الانقسام الذي ما زلنا نشعر به اليوم في كتاباته بين الصورة واللغة.»
غمغمت فاندا: «أنا لا أفهم شيئا.» «أنت في أزمة يعرفها جيدا كل الباحثين في العالم. تشعرين أنك مضطرة لتوصيل معلومات، لكنها لا تزال منقوصة بسبب ضغط الوقت.»
زفرت فاندا «تلك هي الحال.» «لكن هذا النقل الوراثي بين حاملات النانو والفيروس موجود فعلا؟» «بالتأكيد.» «لماذا لا تبنين عليه؟» «وبرأيك هل هذا كاف؟» «إن كان الوضع كما تقولين، فلا يستبعد التفكير في هذه المادة في التطبيقات العلاجية. هذا ما يمكن قراءته من النتائج التي توصلت لها. بالمناسبة لم يكن داروين هو الوحيد في عصره غير الراضي عن استعارة الشجرة، لم يكن متأكدا من أفكاره، لكنه في الوقت نفسه كان يريد أن يضمن لنفسه أكاليل الغار. كان هذا دافعه هو. أما أنت فوضعك مختلف.» أشار من النافذة. خرجت غزالتان إلى المنطقة الخالية من الأشجار، كانتا تنقلان خطواتهما بحذر وكأنهما تتبعان وصية خفية بألا تطأ أقدامهما شيئا. وفي صمت جلس كل من فاندا وفيبيلينج متجاورين ينظران من النافذة. في وقت ما دخلت زوجته إلى الغرفة كي تدعو فاندا لتناول العشاء. «للأسف، أنا مدعوة سلفا.» اضطرت فاندا للكذب؛ فلم تكن تبحث لدى هذين الشخصين الودودين عن علاقات شخصية، وفي قربهما كانت تشعر أنها خرقاء ومتصلبة. «أعلميني بما يحدث إن وجدت فرصة.» قال فيبيلينج وهي تشكره مودعة . لقد حصلت على ما كانت تحتاج إليه، وأيضا على فكرة عن الكيفية التي تواصل بها العمل. وعندما خرجت، كان الظلام قد خيم بالخارج.
وبعد ساعة كانت قد وصلت إلى ماربورج فمرت على المعهد، قامت بتحميل بيانات كثيرة وأخذت كومة من المقالات العلمية المنسوخة تحت ذراعها. كان المذياع يصدح من إحدى الغرف. ألقت فاندا نظرة من النافذة المستديرة في الباب. كانت أولريكه - باحثة الدكتوراه التي تشرف عليها أستريد - جالسة على منضدة التعقيم تعمل مستخدمة الممصات. كانت مستغرقة في عملها لدرجة أنها لم تلاحظ وجود فاندا، وحينما كانت تمشي متوجهة إلى الجراج رأت الزميل المتخصص في علوم الفيروسات. كان يغذ الخطى تجاه محطة الحافلات. تعرف على فاندا وأراد أن يواصل السير لكنها سبقته. «السيد كانتيرات؟» جفل وظل واقفا وقالت هي: «ليس ثمة حافلات الآن. تعال معي، سأوصلك معي إلى المدينة.» ابتعد كانتيرات عدة خطوات عنها ثم استدار، تطاير معطفه المفتوح مع تيار الهواء وهو يتحرك مقتربا من فاندا ببطء، وما إن أصبح واقفا أمامها مباشرة حتى لاحظت علامات الندم على وجهه، وكان يحمل حافظة أوراقه أمام صدره مثل الدرع الواقية.
قال متلعثما: «أنا آسف.»
ردت بود: «تعال، تفضل أولا بالصعود إلى السيارة.» سارعت فاندا إلى السيارة وفتحت القفل المركزي عن بعد فأصدر صوتا. احتاج كانتيرات بعض الوقت إلى أن استقر بملفاته داخل حزام الأمان. اختارت فاندا الطريق القريب الهابط إلى وادي اللان.
بدأ بالقول: «في الحقيقة علي ألا أخبرك هذا.» ثم تحول ناحيتها «لقد سحبت المسألة مني، وأرغمت على الصمت.» نظرت فاندا إليه متسائلة. «موضوع يخص الرئيس.» «لكنك تعرف النتيجة؟» «كلا، نتيجة التحليل سحبها رئيسي مباشرة، لم أر سوى أن السيد شتورم دخل إلى مكتبه بعد ذلك بوقت وجيز.» «أما زلت تذكر متى حدث ذلك؟» «قبل عيد الميلاد بيوم أو يومين. علي أن أراجع التاريخ الدقيق.» رغم البرد التمعت حبات عرق على جبينه، وهو يقول: «يؤسفني حقا أني كذبت عليك.» أومأت فاندا برأسها. «موضوع يخص الرئيس، أتفهم ذلك.» «كان يمكن أن تحصلي على النتائج يوم عيد الميلاد كما وعدتك. عليك أن تصدقيني في هذا.» اشتهر عن كانتيرات الدقة والثقة، ولهذا كانت قد طلبت أن يجري هو شخصيا التحاليل. «نعم، بالتأكيد أنا أصدقك.» تعجبت أنها ظلت على هدوئها التام. كان هذا إذن هو سبب الصمت؛ شتورم يعرف النتيجة، لكنه سيحتاج الأكواد الرقمية حتى يتمكن من تفسير البيانات، ربما لم يكن يريد بتاتا أن يعرف النتيجة. وعلى كل حال، فإنه يعرف الآن الجين الذي انتقل من حاملات النانو إلى الفيروس، ومن الفيروس للفئران. وفجأة تسارعت دقات قلبها، لقد كانت نتيجة عينة النسيج المأخوذة من مخ جونتر هيلبيرج بين النتائج.
فسمعت نفسها تقول: «الأمر لا يستحق هذه الدراما. العينات لا يعنيني منها سوى واحدة.» نظر إليها متفاجئا، فأضافت موضحة وهي تمعن النظر في الطريق العريض المنبسط أمامها: «لأنها تخصني أنا شخصيا.» رجاها أن تتوقف عند محطة فيليبسهاوز، وساعدته فاندا على الخروج من حزام الأمان.
وقال قبل أن يغادر السيارة: «ابعثي لي برقم هذه العينة. سأرى ما يمكنني فعله.»
الفصل الخامس والأربعون
حيلة معبأة
ارتفعت درجات الحرارة ثانية في الأسابيع التالية فوق الصفر. دفعت الرياح الغربية السحب المحملة بالأمطار أمامها، وأيضا تساقطت الأمطار في الأسبوع التالي عدة مرات في اليوم. وفاض نهر اللان على الضفاف وأغرق ممشى الدراجات والجراجات، وعلى الرصيف الضيق تشابكت المظلات، فخرج المواطنون عن طبيعتهم السلمية ليتناحروا بعضهم مع بعض، بينما تجمعت المياه على حواف الشوارع في برك كبيرة نوعا ما. صارت فاندا تخشى الأرصفة.
كان يناير يقترب من نهايته، ليس إلا، ورغم ذلك كان الهواء مشبعا بالبلل كما في شهر أبريل، وبعد ظهر يوم السبت خرجت من مبنى محطة القطار متوجهة إلى وسط المدينة. كانت لا تزال تذكرة السفر إلى برلين في جيب معطفها. لم تستطع أن تستوعب بعد أن الموضوع قد تطور على هذا النحو، فهي ستركب القطار المسافر غدا لتتمكن بعد الغد من ... شعرت بحرارة تنتشر في جسدها. حافظي على هدوئك، ظلت تذكر نفسها. المحاضرة جاهزة، ولن يستغرق إلقاؤها سوى عشر دقائق. بعدها ينتهي كل شيء. لم تلتفت لترتيبات شتورم وتابعت خطتها ببساطة. طبعا لم يكن يعرف شيئا عن ذلك. لم تفصح بشيء إلا لفريق المحققين. لم يكن من السهل إعادة اكتساب زابينة ويوهانيس إلى صفها ثانية، لكنها لم تستسلم، هل من المعقول أن يذهب كل توتر الأسابيع الفائتة سدى؟ لم يستطع يوهانيس أن يبتلع تعليقاته الساخرة حين اقترحت فاندا أن تعرض مسألة التلوث بالفيروس على أنه مقصود للتجربة، لا على أنه حادث عرضي.
قال ممازحا: «هكذا مثلما يفعل الناس في الحياة الحقيقية.» كانت عيناه تلتمعان بالرغبة في المغامرة، وكانت فاندا تعرف أنها أقنعته، وكانت تحتاج إليه كي يحمي ظهرها.
أما زابينة فلم تتحمس للفكرة بسهولة وتساءلت: «كيف إذن حقنت الحيوانات بالفيروس؟ ما هي المعايير التي قست عليها هذا النموذج؟ هل قمت بتحديد عيار الأجسام المضادة؟ المسألة كلها تزخر بالشكوك. علاوة على ذلك، هل تعرفين قانون الحماية ضد العدوى؟ بموجبه كان عليك استصدار تصريحات خاصة لإجراء هذه التجارب.» كانت زابينة غاضبة، لكنها واصلت خطبتها: «لو أن التجارب لها درجة أمان أعلى من الدرجة اثنين لأمكن أن نشترك معك.» إنها محقة؛ فالقواعد المنظمة للأبحاث المشتملة على مواد معدية تلزم بإجراءات سلامة غير متوفرة في قسمها، وطبعا لم يتقدم أحد بطلب ليقوم بإجراء هذا النوع من التجارب على الحيوانات، وأنى لهم ذلك؟ في نهاية الأمر، هي لم تقم بهذه التجارب قط. يمكن القول إنها كانت مجرد تجارب افتراضية. كانت فاندا تتمنى ألا يقوم أحد بالسؤال حول تلك الجوانب، ناهيك عن أن يمحصها. أما ما يخص الشكوك العلمية فقد اتفقوا في النهاية على الادعاء بأنهم اشتروا حيوانات التجارب وهي مصابة بالعدوى سلفا، الأمر الذي قد يكون حدث بالفعل، رغم أنه لم يكن مقصودا. ستبرر فاندا طريقتها البحثية بأن النموذج فقط هو ما تم تخيله، أما النتيجة فهي التي تطابق الحقيقة تماما، مثلما فعل داروين عندما استخدم نموذج شجرة الحياة لشرح نظرية النشوء والارتقاء رغم أنه لم يكن مقتنعا به. كان من الواضح بالنسبة لها أنها تقارن ثمار التفاح بثمار الكمثرى، وأن شجرة الحياة مجرد استعارة، بينما هي تحاول وضع تصميم علمي لحادث عرضي، لكن الوقت كان يضغطها كما أن حيلتها بدت مبررة إذا ما قورنت بما خطط له شتورم. هل كانت تعلم أصلا ماذا ينوي؟ تستطيع أن تتخيل. كان سيترك المسألة تتوقف عند نجاح التجربة، ففي كل الأحوال قد نجحوا في تمرير جين بمساعدة حاملات النانو عبر الأنف إلى مخ الفئران. هذا وحده كان مذهلا بما فيه الكفاية، لكن فاندا كانت تريد أن تروي بقية الحكاية، والنقطة المحورية في عرضها ترتكز على مستوى أعلى. كانت تريد أن تخبر عن طرق البيانات متناهية الصغر والتي تسمح أيضا لسلاسل الجينات في الكائنات الحية الأخرى بالانتقال عبرها، وكان نانوسنيف نموذجا توضح عليه ما تريد. وهكذا ادعت أن نيتها كانت من البداية هي أن تثبت انتقال الجينات بين جزيئات النانو والفيروسات. كانت فرضية بحثها تدفع بأن هذا يمكن أن ينجح، أما الكذبة فهي الادعاء أن هذه الفرضية أثبتت معمليا، رغم أنها كانت تعتمد على نتائج لم تحدثها سوى الصدفة التي أدت إلى التلوث بالعدوى. لم تكن تستطيع سوى أن تحاول ترويض الفرس من الخلف. لنقل إن للوحش رأسين، ولا ينبغي لأحد أن يلاحظ أن الرأس الخلفي مجرد دمية. من النظرة الأولى لم يكن ما تقوم به غير معتاد، فالعلماء دائما ما يطورون فرضياتهم على خلفية النتائج، وبهذا ستكون الخطوة التالية في تجاربها مبررة، بل سيكون من الضروري أن يتبع ذلك سلسلة من التجارب من أجل اختبار فرضياتها، لكن لا وقت لهذا كله، عند هذه النقطة عليها أن تلجأ للحيلة.
قالت لها زابينة محذرة: «بنية هذه التجارب تقوم على الادعاء والكذب، ولا ينبغي عليك في أي موضع أن تصفيها وصفا دقيقا.» فغضبت فاندا، أنا لست بهذه الحماقة. كانت فقط تحاول أن تتخيل كيف كان للحال أن يكون وهي تعد محاضرتها. كانت تركب تقريرها حول هذه البنية الفكرية، إلى أن بدأت هي تقتنع أن كل شيء كان بالفعل مقصودا منذ البداية، أما واجب تأنيب الضمير فتركت صديقتها تتولاه.
في هذه الأثناء كانت فاندا قد عبرت القناة الصغيرة، لم يتبق سوى عدة أمتار قليلة وتكون في بيتها. وجدت أسفل صندوق البريد ما يشبه بساطا لزجا من النشرات الإعلانية، على ثغرة في الأسفلت تمتلئ بالمياه ذات اللون البني الرمادي كلما تساقطت الأمطار، وحين وصلت للطابق العلوي لم تنظر ناحية باب جارها؛ لأنها لم تشأ أن تفسد مزاجها بمنظر زجاجات الخمر جوار الباب. الغريب أنه منذ أن ركبت الكالون الجديد صارت الشقة لأول مرة لها وحدها، على الأقل كان ذلك هو إحساسها. لم تكن تشتم أية روائح غريبة، كما أن مخزونها من البيض لم يشهد نقصا لا يمكن تفسيره، وحتى تكون أمينة فهي لم تفقد ولو بيضة واحدة منذ بدأت في عده وترقيمه.
قررت أن تحزم حقيبتها ثم تراجع المحاضرة مرة أخرى. سحبت كرسيا ووضعته أمام الدولاب، ثم أنزلت الحقيبة الكبيرة التي تبعتها سحابة من الغبار اضطرت فاندا للعطس؛ فمنذ وصولها منذ ما يقرب من التسعة أشهر لم تمسها، وبسرعة بدأت تمسح الحقيبة براحة يدها، ثم وضعتها على السرير وفتحتها، وجدت بداخلها كومة غير محددة الشكل تحوي حقيبة البحر وحقيبة الرحلات صغيرة الحجم التي كانت تريد أن تأخذها معها إلى برلين. انتبهت لوجود بروز في الجيب وتساءلت ما تراه يكون؟ ظلت تتحسسه بفضول إلى أن فتحت الحقيبة الداخلية ووجدت صندوقا خشبيا. كان هنا إذن طوال الوقت! لا بد أنها أغفلت إخراجه بعد عودتها من أمريكا ونسيت أمره تماما، بسعادة تحسست الخشب المنقوش ذا الورنيش قوي اللمعان. كان الغطاء محفورا بأشكال مثلثات وسداسيات صغيرة الحجم تتكرر في تناظر يشبه من بعيد رقعة شطرنج في منتصفها وردة، أما حوافه فزينها شريط من الأحجار الكريمة. فتحت فاندا الغطاء بحذر فوجدت سنتين من أسنانها اللبنية، وثلاث كريات زجاجية، وميدالية مفاتيح، هي أول ما كان لها من ميداليات وكانت مصنوعة من المطاط، وأيضا وجدت زرا عليه هلب، هو كل ما تبقى من سترتها المفضلة بموديل البحارة بعد أن تبرعت بها أمها ببساطة. لقد صغرت عليها السترة بسرعة. وقتها لم تكن تريد أن تكبر. وهذه أيضا هنا! زجاجة التجربة لعينة طلاء الأظافر. أحمر فاقع وجاف! جاء هذا في مرحلة لاحقة حين صارت تفكر بشكل مختلف، ثم وقع بصرها على الجزء الداخلي المتقزح من قوقعة بحر. لم تعد تذكر من أين حصلت عليها. أمسكت فاندا بهيكلها الحلزوني، إنها لحيوان رخوي يسمى أذن البحر، لها شكل الأذن البشرية ومثقوبة مثل كائن أسطوري، وحين يكبر الحيوان تنزلق مؤخرته عدة مليمترات إلى موضع جديد؛ ولهذا تنشأ الثقوب على القشرة في صف منتظم، إنها ليست سوى فتحة شرج عنيدة، وكلما نما الحلزون كبرت الفتحات. تراءى لفاندا أن هذا ترتيب مثالي للأوغاد. تتذكر أنها أطلقت على الفتحة الأولى اسم هولتمان مدرس الرياضيات الذي لم يكن يفقه شيئا سوى معادلاته الرياضية. هذه الفتحة التي في المنتصف ستطلق عليها الآن اسم شتورم. بالتأكيد لن يكون الوغد الأخير الذي ستقابله. مسدت سبابتها الصدف اللامع. أراجونيت، هكذا يطلق المختصون عليه، وهو نوع خاص من الجير المتبلور. ارتفاع الصفائح الجيرية يطابق تقريبا الأطوال الموجية للضوء المرئي، فتتراكب في طبقات يعلو بعضها بعضا منتجة نماذج متداخلة. وهكذا فإن الألوان البراقة التي تمس إحساسنا بالجمال ما هي إلا ظاهرة فيزيائية ناتجة عن الضوء المنعكس من طبقات عديدة من الجير. واصلت التنقيب ووجدت مفتاحا صغيرا لحقيبة، ومجموعة من الأختام، وعدة مفاتيح قديمة، يا لها من هواية! لقد كانت تهوى جمع الأشياء، فردة قرط، قطة سوداء تتوثب للقفز، لم تعد تذكر ما الذي دعاها للاحتفاظ بها. أعادت كل كنوزها إلى الصندوق ثانية، ووضعته على مكتب والدها. كان منظره يناسب الخشب المائل للحمرة.
اتجهت فاندا إلى مكتبها وفتحت الكمبيوتر المحمول. نقلت العرض التقديمي «باوربوينت» من حامل البيانات إلى القرص الصلب، بينما هزت رياح زجاج النافذة هزا خفيفا. تساقطت قطرات مطر على الزجاج. ارتجفت فاندا وفكرت: الإصابة بالبرد هو آخر ما أحتاجه الآن. لا يزال لديها يوم الأحد لتتدرب فيه على محاضرتها، لماذا إذن لا تجلس في حوض الاستحمام الآن؟
بعد الحمام لفت نفسها في بطانية وجلست أمام شاشتها المسطحة الفاخرة. تحدث أحيانا روابط غريبة بين الأشياء. لم تكن تحب أن تحكي لأحد عنها بسبب وقعها الغريب على المستمع، مثل أن الوصلة ما بين جهاز الكمبيوتر والشاشة صارت تعمل بكفاءة منذ تركيب الكالون الجديد، وبهذا تستطيع أخيرا أن تشاهد الأفلام التي أعارها أندرياس إياها. قررت أن تشاهد فيلم فينشينزو ناتالي بعنوان «المكعب». أسرتها الإثارة بالفيلم كما جذبتها كواليسه السيريالية إلى عالم المابين الذي حاول الفيلم أن يجعله محسوسا. صرف ذلك ذهنها لبعض الوقت، وبعد أن انتهى الفيلم شعرت بالخواء، فعاد إليها القلق. ماذا سأفعل لو وصل شتورم في الموعد المحدد للمحاضرة؟ لم تعد خطة لهذه الحالة، ستضطر أن تعتمد كلية على يوهانيس. أوت إلى فراشها مبكرا.
وقرب منتصف الليل رن جرس الهاتف، ففزعت فاندا من نومها ونهضت واقفة. سرعان ما كانت يقظة تماما.
فسمعت زابينة تصيح بصوت مثقل: «لقد ماتت جوسي. حدث ذلك الآن حين أصدرت حشرجة رخيمة لمرة أخيرة، ثم توقفت ببساطة عن التنفس.» كانت الفأرة مضطربة كثيرا في الفترة الأخيرة، منذ عدة أيام لا تأكل شيئا وتنام طول الوقت. قالت زابينة متشكية: «لم أستطع أن أسلم بذلك. لقد كانت تعتريها رعدة غريبة، كنت أشعر بها بوضوح حين كنت أضعها على يدي.» «يؤسفني هذا.» قالتها فاندا وهي تحملق في يدها اليسرى التي كانت ترتعش ارتعاشة خفيفة.
قالت زابينة باكية: «قولي لي من فضلك، ماذا علي أن أفعل الآن؟»
ترددت فاندا لوهلة ثم قالت: «بينة، قد تبدو المسألة قاسية بلا أية رحمة، لكن الضرورة تحتم تبريد جثة جوسي.»
قالت زابينة وهي تتلعثم: «أعرف. ماذا ترين؟ نضعها في الثلاجة أم في المجمد؟» «الثلاجة تفي بالغرض. اطلبي يوهانيس على الهاتف حتى يأتيك غدا في الصباح الباكر ليقوم بالتشريح.» «الغد هو يوم الأحد. ألا يمكن أن ينتظر الأمر حتى يوم الاثنين؟»
ردت فاندا: «سيكون عند شتورم صباح الاثنين.»
الفصل السادس والأربعون
فرملة الطوارئ
جلست فاندا ظهيرة يوم الاثنين في كافيتيريا مركز المؤتمرات ببرلين، وهي تضغط هاتفها المحمول على أذنها، بينما دست إصبعها في أذنها الأخرى حتى تتمكن من سماع يوهانيس على نحو أفضل.
سمعته يقول: «يبدو أن أحدهم حذره.» «لكن من؟» لاحظت على الفور أنها تتحدث بصوت عال جدا على خلفية من أصوات طقطقة الصحون وصلصلة الكئوس. بصعوبة حاولت - لكن بلا جدوى - أن تتغلب على مستوى الضجيج في محيطها. كانت أعصابها ملتهبة، علاوة على ذلك فهي لم تنل قسطا كافيا من النوم.
واصل يوهانيس حديثه: «رغم ذلك، فإن المسألة تبدو مبشرة.» كان يتحدث بهدوء مدهش رغم انكشاف أمرهم. لقد تنصتت بيترا على ميشائيل فالاخ وعلمت بمواعيد رحلة شتورم. كانوا يعلمون أن ميشائيل سيوصل شتورم صباحا إلى المحطة. أين وقع الخطأ إذن؟
أخذ يوهانيس يكمل كلامه: «وقفت أمام منزله تمام السادسة صباحا. من الممكن أيضا أن يكون قد غير خططه قبل بدء تنفيذها بمدة قصيرة. لم أكن أريد أن أغامر بفقد أثره على أية حال. وكما المتوقع ذهب بسيارة أجرة إلى المعهد في السابعة إلا الثلث. وفي السابعة وخمس دقائق أحضرت بيترا مفاتيحه. ادعت أنها نسيت مفتاحها الإلكتروني بالمنزل، وأن مدير المعهد أدخلها لكنها لن تتمكن الآن من دخول وحدة الإشعاع. تعلمين كم هي بارعة في الكذب، ولا مانع من أن تكون قد تدللت في مشيتها أمامه قليلا. ضحك الثور العجوز مليا واقتنع بكلامها. غادرت مكتب شتورم بسلسلة مفاتيحه وأوصدت باب السكرتارية من الخارج. الساعة التالية ما هي إلا عينة لما يمكن أن نعانيه من تدمير لأعصابنا، وكنا نأمل ألا يخطر بباله أن يغادر السكرتارية قبل الموعد. تسللت عدة مرات أمام الباب وأنصتت. لا طرق ولا دق. في كل الأحوال تبطين جدران الغرفة لا يسمح بسماع ما هو أدنى من ذلك. في تمام السابعة وتسع وخمسين دقيقة دخلت السيدة بونتي الطرقة الموصلة للقسم. على مدخل السكرتارية ورقة ملصقة مكتوب عليها أن الرئيس لن يحضر إلى القسم اليوم مرة أخرى، وعليه لم تندهش أن وجدت الباب مغلقا. فدخلت وخلعت المعطف ووضعت الحقيبة وفعلت كل ما تفعل عادة حين لا يكون الرئيس موجودا. ودخنت سيجارة ونظرت إلى رصة طلبات استعارة الكتب التي حرصت - تزيدا في الاحتياط - على تكديسها أكثر، واتصلت بصديقتها هاتفيا في المكتبة، وكما هو متوقع، خرجت وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح. تقريبا في الوقت نفسه دق الهاتف في منزل ميشائيل فالاخ.»
وأخبرته زابينة: «بابا لن يعاود الحضور إلى المنزل، ستقوم ماما بتوصيله إلى المحطة»، تعلمين كيف يبدو صوتها طفوليا، لقد ظن ميشائيل فعلا أنها ابنة شتورم. في كل الأحوال، فإنه لم يغادر شقته قبل الثامنة والنصف. زابينة رأت ذلك لأنها كانت واقفة أمام منزله، لا بد أن ما حدث وقع في ذلك الوقت. لقد دق هاتفي فانصرف انتباهي لوقت قليل. «هلا دخلت في الموضوع أخيرا؟» صارت معدة فاندا تقرقر من نفاد الصبر. «سمعت خطوات السيدة بونتي على أرضية الطرقة الساعة التاسعة إلا الربع. كانت صلصلة سلسلة مفاتيحها تنذر بشر. لاحقا قالت إن الرئيس وصل إليها في المكتبة. كانت تقريبا خارج المبنى. لا بد أن أحدهم اتصل به، وأن هذا الشخص كان يعرف تماما أين هي، لو لم يحدث ذلك لظل حبيسا يتلظى نصف ساعة أخرى على الأقل، ولم يكن ليسمعه أحد عبر الأبواب العازلة للصوت. لا يحضر الناس للمناقشات يوم الاثنين قبل العاشرة، أما وردية الصباح فكانت في استراحة الإفطار في الكافيتيريا بالأسفل حيث لا يوجد هاتف.»
قالت فاندا: «ربما اتصل بمدير المبنى؟» كانت ترفض أن تقبل حكاية يوهانيس بوجود واش لا يعرفون من هو. رفعت سيدة على الطاولة المجاورة لها رأسها ونظرت إليها باندهاش. استدارت فاندا وأعطتها ظهرها.
قالت فاندا هامسة: «لم تكن هذه الخطة سوى مزحة.» «كان السيد فايدنرايش مشغولا بإعادة الثلاجة القديمة إلى معملك. تذكرين ذاك الشيء الضخم الذي قمت بإزاحته مؤخرا إلى المعمل؟ كان غاضبا، لكن لم يطرأ ببالي فكرة أفضل.»
حاولت فاندا أن تتحدث بصوت منخفض وهي تقول: «اللعنة! لماذا إذن لم تتصل بي مبكرا؟ لقد سلمت محاضرتي قبل خمس دقائق، وهي الآن على جهاز الكمبيوتر بالقاعة، لا يمكن أن أستعيدها الآن.» «ما زالت للحكاية بقية، كان عليك أن تري كيف اندفع الرئيس مصهدا من المكتب، وكاد أن يقفز في وجه بونتي بعد أن فتحت الباب وهو يصيح ما الذي انتابها لتغلق الباب من الخارج؟ وهي السبب في كل ذلك لأنها لا تريد أن تبدل المفاتيح. كادت تبكي، فأنت تعرفين عدم ثقتها في نظام الغلق الجديد. آنذاك استسلم الرئيس لرغبتها حين أصرت أن توصد أسوار مملكتها بقفل أمان كلاسيكي، وهذا لحسن حظنا. أما المفاتيح الإلكترونية فثمة طريقة تفك بها ليخرج المحبوس من الداخل، وتحت ظرف كهذا لم تكن خطتنا لتنجح. في هذه الأثناء كان قطار شتورم إلى فرانكفورت قد غادر فعلا إلا أن سيارة الأجرة كانت تنتظره في الجراج بالأسفل. كان لا يزال لديه الفرصة الكاملة أن يلحق بطائرته إلى برلين.» «وهل فعل أم لم يفعل؟» «على الأرجح أنه وصل إلى المطار في وقت مناسب، لكن لم يسمح له بالصعود إلى الطائرة.» توقف يوهانيس قليلا، لقد كانت الخطة برمتها من بنات أفكاره، لذلك كان يستمتع أن يقتلها مللا بالتفاصيل لمرة جديدة.
فصاحت فيه: «توقف عن ذلك وأخبرني أخيرا ما الذي يحدث.» «إنذار بوجود قنبلة. فرملة الطوارئ. حقيبة لا يعرفون من صاحبها وجدت في مكان ما بصالة تخليص الإجراءات. توقفت كل الرحلات، وأغلق المطار لعدة ساعات.»
تنفست فاندا الصعداء. «لن يحضر إذن؟» فرملة الطوارئ؟ ماذا كان يقصد يوهانيس بذلك؟ «لنقل إنه بالتأكيد لن يصل في الموعد المحدد. لقد حلقت طيارته الآن. ولو أسرع الخطى فعلا قد يصل عند مختتم محاضرتك.»
الفصل السابع والأربعون
محللون وقارئة الفنجان
كانت القهوة قد بردت في فنجانه في هذه الأثناء، لكنه لم يتمكن من رفع عينيه عن شاشة الكمبيوتر الخاص به. بعد المكالمة دخل على الإنترنت، كان عليه أن يجد طريقة لصرف انتباهه. كان اليوم هو عطلته، وكان في وسعه أخيرا أن يزور المنتدى الذي أنشأه لنفسه ولزبائنه حاليا ومستقبلا، فهناك دائما أسئلة يتعين الإجابة عليها. مرت ثلاث ساعات سريعا، حتى الثانية عشرة ظل بمنامته على مكتبه ينقر على الكمبيوتر. «كيف تعمل مناهج التنبؤ؟ وعلام تستند تحليلاتك لسوق الأسهم؟» سؤال من شخص يدعى جان. واتته الإجابة بسهولة. «مناهج التنبؤ تبنى على حقائق سارية في هذه اللحظة. لقد تمكن مانديلبورد في الستينيات من اكتشاف نماذج عشرية في أسواق المال، وبمساعدة نظريته العشرية استطاع التنبؤ بتطور أسعار القطن في الولايات المتحدة. المناهج العشرية، الشبكات العصبية، اللوغاريتمات الجينية ... ثمة عدة طرق يمكن المزج فيما بينها للوصول إلى نبوءة مثالية. أنا أستعمل القليل من كل طريقة. الشبكات العصبية على سبيل المثال ما هي إلا أنظمة بديهية، وهي تتعرف على النماذج بطريقة مشابهة للمخ البشري. تستطيع على نحو مبسط غاية التبسيط أن تتخيل اللوغاريتمات الجينية أو التطورية على صورة ميزان. الموارد المتنافسة تحاول أن تتوازن بعضها في مقابل بعض، والهدف هو الوصول إلى النتيجة المثلى.» كان يجتهد ليجعل إجاباته مقتضبة؛ لأن معظم زبائنه كانوا من الهواة وصغار المستثمرين، ولم يكن ثمة جدوى من الإثقال عليهم بحديث نظري.
سأل مشترك آخر: «هل نحتاج لذلك الكمبيوتر حقا؟ نظرية النسبية قائمة على التجارب العقلية، لقد جعلت التنبؤ ممكنا في المسائل التي لا تزال الفيزياء التجريبية قاصرة عنها. أتساءل كيف يمكن لبشر باستخدام رءوسهم فقط أن يقيموا نظريات معمقة لها قدرة على التنبؤ؟ هل هذا مجرد تطوير عفوي للوعي، أم ربما هي موهبة ربانية؟»
لقد وضع لنفسه برنامجا بعد أن رتب زوار المنتدى الخاص به. مثل هذا الزائر كان يصنفه تحت فئة الفلاسفة الفقراء، الذين يخفون عوزهم وراء عباءة الأسئلة الرنانة. لم يكن يتوقع من أمثالهم شيئا سوى بعض التسلية، وكان دائما ما يتعجب لأن هذا الحجاب الصوفي كان لا يزال يغبش النظرة إلى المستقبل. فبالنسبة له لم يكن وجود إله سوى حدث إحصائي ذي احتمالية مشروطة، شيء يمكن أن يكون أو لا يكون، حسب المنطلق الذي يبدأ منه الإنسان، أما إسهامه المحتمل في الحدث فيتعلق بالفشل الواضح للتوقعات. من الخطأ إنكار وجوده تماما، وأيضا من الخطأ بالقدر نفسه الإصرار على وجوده. القدرة الإلهية تكمن فيما لا يمكن التنبؤ بوقوعه. وكان ذلك يتحداه من أجل أن يصل بمناهجه إلى الشكل الأمثل. لقد كان ذلك هو جزءا من عمله الذي يحاول التغلب عليه، رغم أنه يعلم أنه لا يمكن أن ينجح في ذلك إلا بصورة تقريبية، لكنه في كل الأحوال لن يطرح هذه الأفكار الشخصية على المنتدى، حتى لو كان حريصا على أن يقدم إجابة على أي سؤال يثار.
فكتب ردا على السؤال السابق: «لقد طور بعض الناس القدرة على شرح الظواهر المعقدة بصورة موجزة. أينشتاين كان عبقريا. ولو كان مستثمرا في عصرنا الحالي للجأ إلى الحصول على التنبوءات الرقمية من أجل شركته الاستثمارية، تماما كما تفعل البنوك وشركات الاستثمار، وهذا لسبب بسيط هو أن أسواق المال بالغة التعقيد.» أومأ برأسه كما لو كان في حاجة إلى أن يدعم نفسه، وطبيعي ألا تعمل هذه الطرق بكفاءة إلا حين تكون الفرضيات مقاربة للواقع، فهي تجمع بين علم هائل، وملاحظات وخبرات، وتصيغ منها الفرضيات، مثلما يجمع العلماء البيانات من أجل إيجاد نظرية تمكن من التنبؤ بالنتيجة بقدر عال من الدقة. أليست الفرضية العلمية في ذاتها نبوءة؟ ودائما ما يكون الحكم الفصل في ذلك هو الواقع.
خاصة تقنيات طب النانو، لا تنتج سوى كثير من الزوابع وقليل مما يفيد حقيقة. على العلماء أن يحسنوا أداء واجباتهم أولا. كان يعرف عما يتحدث، ففي نهاية الأمر، إنه شخص من الداخل. إن عامل عدم الأمان الأول في هذا العمل هو الإنسان دائما وأبدا، ونانوسنيف هو أفضل دليل على صحة نظريته. إن النظرة الموضوعية تقول بأن نانوسنيف يعد معلما مهما على طريق التطور في استخدامات النانو العلاجية، والحصول على براءة اختراعه سيجعل شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة تساوي ذهبا بين عشية وضحاها. لقد استثمر فيها أكثر من مليون دولار من أموال زبائنه. لم يخاطر بأموال بهذا القدر الطائل من قبل. وبعد أن تمكن شتورم من توقع الاندماج المزمع مع شركة لينكس فارما، قام هو أيضا وزبائنه بالشراء فيها، ولأول مرة ينغمس في مسألة ما انغماسا كليا، فلم يعد ثمة مجال للتراجع. ومن الناحية العملية، لم يكن من الممكن أن يرفض أسهما بهذا الحجم في هذا الوقت القصير؛ لأنه إن ساءت الأمور يستطيع ببساطة أن يختفي من المشهد، لكنه لن يترك «استثمار القرن» كي تفسده عليه عالمة جرفتها الحماسة. لم يكن يعرف أن برنامج الكمبيوتر التفاعلي الذي شغلته على جهازها يستطيع أن يربط نفسه ذاتيا بالبيانات الجديدة. لقد كان البرنامج أفضل مما توقع، وهكذا وجدت هي كل المواد المتعلقة بمن عمل عليه من قبلها وبموضوعاتهم مثل التولد الذاتي اللابنيوي والشيخوخة. كان مندهشا من السرعة التي وجدت بها مفاتيح العمل، ولهذا عمل على أن يجعل شتورم يبعدها عن المشروع، وبحماقته ظن أنها ستتكتم الأمر، فترك جهاز الكمبيوتر الخاص بها بالمعهد بلا فحص خلال عطلة نهاية الأسبوع، ولهذا لم يكتشف خطتها السرية إلا صباح ذلك اليوم. نظر في الساعة. لا بد أن شتورم هبط في مطار برلين الآن. وقع بصره على الصور المعلقة على الحائط قبالته، والتي كانت لا تزال تثير إعجابه. كان وقتها يجري التجارب مستخدما الأشكال الهندسية. أطلق عليها ضوءا وظلا. كانت الحدود واضحة بدقة. نجح في أن ينظر من منظور الأشياء ويسلبها الرؤية، وهذا تحديدا ما سيسلبه منها هي الآن. لن تفلت منه هذه المرة. •••
كانت رئيسة المؤتمر واحدة من الشخصيات السياسية اللامعة، قدرت فاندا أنها في بداية الخمسين من عمرها. لم تكن ضخمة البنية بل أقرب إلى القوام اللطيف، كانت ترتدي بدلة ذات لون رمادي داكن، وعقدا من اللؤلؤ الصناعي. أما فمها المطلي بأحمر شفاه، فكان يدل على المثالية واتباع نظام حديدي صارم. كانت خطبتها الافتتاحية تمور بعلامات التعجب وعلامات الاستفهام التي ينبغي أن تثار في مؤتمر مثل هذا، وأشارت إلى ضرورة أن نضع أصابعنا في الجراح المفتوحة، ورجاء نريد نقدا بناء، علامات تعجب. هذا تماما المجال الذي تريد فاندا أن تبذل جهودها فيه.
ورغم إعلان اسم ماكس شتورم كمتحدث، حياها رئيس الجلسة التي ستلقي فيها محاضرتها، وكأنه يتوقع مجيئها. تلفتت فاندا حولها؛ فبالنسبة لها كان هذا المشهد جديدا تماما. كان المجتمعون من المتخصصين في مجال استخدام الجينات الوراثية في العلاجات الجسدية. تأملت بعناية بطاقات الاسم المشبوكة على سترات المشاركين. كانت قد قرأت لبعض تلك الأسماء كتابات متفرقة في مكان ما، لكنها لم تكن تعرف أيهم بصفة شخصية. جلست في أحد الصفوف الأمامية، لكن في أثناء الجلسة لم تتمكن من التركيز في الأشياء التي يلقيها المتحدثون قبلها. كانت تتوتر كلما تخيلت أن شتورم ممكن أن يصل في اللحظة الأخيرة. من الذي أخبره؟ من عساه أن يعرف خطتهم بخلاف زابينة وبيترا ويوهانيس؟ طرأ على ذهنها رودي على نحو عفوي، وهزت رأسها من هذه الفكرة العبثية. لقد ذهبت مرة أخرى إلى المعهد صباح السبت لتسأله عن رأيه في محاضراتها، لم يجد أي مغالطات منطقية في خطتها، ورغم ذلك كانت تشعر بالتوتر. «لا يمكن أن نستغني عن مواصلة البحث في مجال ناقلات الفيروسات، إن كنا نريد أن نواكب السباق العالمي للحصول على براءات الاختراع فيما يختص باستخدام الجينات في العلاجات الجسدية.» تمكنت هذه العبارة بكل الإصرار الذي نطقها به المتحدث قبلها أن تنتزع فاندا من أفكارها «يوميا تنتقل فيروسات جديدة للإنسان. يحدث هذا في أسواق الحيوان بآسيا، أو أثناء الصيد المحرم في أفريقيا، أو عند تناول اللحم النيئ. هذه هي مكامن الخطر الحقيقية، لا المعامل.» بهذا البيان اختتم المتحدث عرضه، كان المستشار العلمي للحكومة الاتحادية. كان التصفيق الذي ناله محدودا لكن النقاش كان ساخنا. استشهد أحدهم بفيروس ماربورج، لكنه رده إلى قرد الجينون من أوغندا. وكان يبدو عليه الإعجاب بذاته. أشار رئيس الجلسة إلى انتهاء الوقت المخصص للنقاش، وأن موعد المحاضرة التالية قد حان. كانت ركبتا فاندا تصطكان، ويداها متجمدتين كلوحي ثلج حين صعدت في تمام الثالثة إلا الربع إلى منصة المتحدثين. «عليك أن تفكري في أكلتك المفضلة وأنت تنظرين نحو الجمهور.» تذكرت النصيحة التي همست بها زابينة لها وهي في طريقها إلى هنا. لقد أصبحت خبيرة في هذه المسائل بعد أن حضرت تدريبا لمدة أسبوعين من تلك التدريبات الممولة أهليا من أجل رفع كفاءة الموظفين.
تجولت فاندا بناظريها في القاعة، ثم تنفست الصعداء. فلم يكن شتورم موجودا في أي مكان. «السيد المبجل رئيس الجلسة، سيداتي وسادتي، يسعدني أن أقدم لكم اليوم نتائج آخر ما وصلت إليه أبحاثنا.» لماذا علي الآن تحديدا أن أفكر في بيوريه الكاكي بعجينة المارزيبان؟ كانت هذه هي آخر فكرة تصرف ذهنها قبل أن تبدأ في الضرب بمجدافيها خفيفا استعدادا للخوض في نهر محاضرتها، وفجأة عادت تتنفس بهدوء مثلما عادت ضربات قلبها للانتظام، واندهشت حين سمعت صوتها يخرج منها هادئا واثقا بصورة جعلتها تشد عمودها الفقري.
واصلت حديثها قائلة: «إن الأمراض العصبية المزمنة، الناجمة غالبا عن التقدم في العمر تتطلب طرق علاج جديدة كالعلاجات الجينية على سبيل المثال، وأصعب عقبة تواجهنا في الوقت الحالي هي أنظمة النقل التي لم يتم اختبارها حتى الآن بصورة كاملة، التي يطلق عليها الناقلات الجينية. سأقدم لكم نانوسنيف، الذي هو إجراء فيزيائي يسمح لنا بتوصيل سلاسل جينية مفردة إلى المخ عبر المسارات الشمية، وبالتعاون مع شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة قمنا باختبار هذه الطريقة، ولأننا استخدمنا جزيئات النانو ولم نستخدم الفيروسات لتقوم بدور الناقلات، فيمكن القول بأن النتيجة التي اختتم بها المتحدث قبلي محاضرته غير صائبة بالمرة.» توقفت فاندا قليلا، ونظرت لتجد وجوها منتبهة، لم تسمع من القاعة لا همسا ولا نحنحة، لقد كان الجميع ينصت إليها. «بل خطأ كبير، وسأعود لذلك في الجزء الثاني من محاضرتي.» كانت تحتاج إلى ما لا يقل عن عشر دقائق لتستعرض بيانات زابينة، وهي مدة طويلة جدا، رغم أنها تهيئ لها الإعلان عن نجاح عملية النقل، أما موت الفئران فكان الدرة التي تريد أن تبرزها في الجزء الثاني من المحاضرة. وفكرت: سأضطر إلى تجاوز الوقت المسموح لي بالكلام، ثم نظرت بسرعة نحو رئيس الجلسة، لو أنه قاطعني الآن لضاع كل المجهود سدى. لقد كان جالسا هناك فاغرا فاه مستمعا إليها بانتباه، شأنه شأن كل الحاضرين ... لقد وصلت الآن لفقرة السير على السلك، وها هي تحمل عصا الاتزان بين يديها. كانت هي المتحدثة الأخيرة في هذه الجلسة، إنها فرصتها، لقد أفسح رئيس الجلسة لها المجال لتواصل.
بدأت بعرض فرضياتها، وصورت إمكانية نقل الجينات المحمولة صناعيا إلى الفيروسات، لم تتوقف كثيرا «مراعاة للوقت المتاح» عند بنية التجربة، التي هي في الأخير بنية متخيلة، ووصلت بسرعة إلى الظاهرة الغريبة التي لاحظوها، ألا وهي الاضطرابات السلوكية وارتفاع معدل الوفيات في فئران التجارب، ثم أتبعت ذلك ببيانات تحاليل الجزيئات الحيوية من الفحص الأول الذي قام به كانتيرات. لقد قدم ذلك دليلا دامغا على أن الجين الأجنبي أصبح جزءا من الشريط الوراثي للفيروس. أما نتيجة الفحص الثاني والتي من الممكن أن توضح لهم السلسلة الجينية، فقالت إنها محفوظة لدى رئيسها؛ وهي الحقيقة التي شعرت فاندا في تلك اللحظة بالامتنان نحوها، حتى لا تستسلم لغواية إفشاء معلومات سرية. «لأسباب تتعلق بسرية العمل لن أستطيع أن أحدد الجين بدقة أكبر.» بهذه الكلمات توجهت نحو خاتمة محاضرتها التي استغرقت عشرين دقيقة. «إن فيروس الفئران الذي تم تغييره جينيا بواسطة تجربتنا يعتبر في الأحوال العادية غير مؤذ وواسع الانتشار.» وضعت علامة تعجب. «وبالمناسبة، فإنه لم يخضع للشروط التي تسري على الحيوانات في معاملنا.» سمعت تذمرا من الصالة، فقالت: «نحن نطبق مستوى عاليا من الحماية، لكنه ليس خاليا تماما من الجراثيم.» أما الشريحة الأخيرة من عرضها التقديمي فحملت كلمات الشكر وأسماء المشاركين في العمل. «أخ ... بالمناسبة ...» قالتها وكأنها تذكرت بمحض الصدفة «بالطبع نحن نتحدث هنا عن فيروس غير مؤذ بتاتا للإنسان، لكن هذا الأمر قد لا يعني شيئا مطلقا، لأنه كما نعلم جميعا منذ دراسة روث وفريقه، فإنه من الممكن من خلال تغيير في إنزيم واحد أن يتحول فيروس خاص بالفئران إلى فيروس خاص بالطيور فحسب.» خفضت بصرها قليلا وقالت: «شكرا لكم على حسن الاستماع.» نهاية طويلة، لكنها أتت مفعولها.
سادت الجلبة بين المستمعين، وبدءوا في النقاش بعضهم مع بعض، وشعرت فاندا بالتوتر يتلاشى منها. حتى الآن سارت الأمور على ما يرام، لقد كان مهما جدا بالنسبة لها أن تخبر الرأي العام بالعواقب غير المتوقعة لنانوسنيف. الآن أتمت مهمتها، كما أنها احترمت ممارسات المجتمع العلمي، واستطاعت جذب أسماع الحاضرين. رغم ذلك بدا لها كل شيء مبتذلا. كانت في طريقها إلى مكانها، وفجأة بدأ الحضور بالتصفيق، فجفلت. سمعت صوت رئيس الجلسة معلنا عبر الميكروفون أن الضرورة تحتم الاستغناء عن المناقشة؛ إذ إنهم في حاجة إلى القاعة، لكن ربما يمكنهم مواصلة مناقشاتهم في البهو. جمع الناس ملاحظاتهم ونهضوا ببطء، بينما أسرعت فاندا لتسبقهم إلى المخرج، ونجحت في ذلك، لكن بالخارج أمام باب القاعة رأت شتورم، الذي اتجه صوبها مباشرة.
وحين تعرف عليها ترددت خطواته، وكأنه يحتفظ لنفسه بخيار أن يستدير ويعاود أدراجه في اللحظة الأخيرة. رعشة ما رأتها فاندا تعبر عينيه، وعند القوس الذي استدار فيه حولها أدركت فاندا أنه يخشى على نفسه. ماذا قال يوهانيس؟ لا بد أن أحدهم حذره، أمن المعقول أن يكون قد علم بكل ذلك؟ لكن شتورم ليس له أن يعرف كيف سيتلقى المختصون المحاضرة. كانت تريد أن تستمتع بهذه اللحظات حتى الثمالة. لكن الحاضرين، في خروجهم من القاعة، ظلوا يدفعونها تجاه الطريق الذي اتخذه شتورم حتى وقفت أمامه ببضعة أمتار. تحلق الناس حول كل واحد منهما، فكانا بمثابة النواة كل في قلب تفاحته، ومن بعيد علت كلمات المديح والتمنيات الطيبة، لكنها ظلت مجرد عبارات مقتضبة لم تمس فاندا حقيقة. لقد شعرت فاندا وكأنها في غرفة ذات حوائط مبطنة تمتص الضوضاء من حولها وتقلل من قدرتها على الإحساس بالأشياء، لكنها كانت لا تزال تضع شتورم نصب عينيها. لقد استقبل سعادة اللحظة في التو، فضغط بيده اليسرى على قفصه الصدري وأخذ يرسم بأصابعه في الهواء، يردد هراء ويتباهى به. تعجبت فاندا من السرعة التي تحول بها مع تغيير اتجاه الريح، فهذا الذي كان ينتفض مذعورا منذ قليل، أصبح الآن متعاليا متكبرا. لجزء من الثانية، لم تكن ترى فيه إلا كائنا مسطحا، شكلا مصنوعا من ورق الكرتون مثل تلك الأشكال التي يفضلون استخدامها في الدعاية، بلا جسد نوعا ما، فقط سطح. كان من الواضح لفاندا أن شتورم على شفا أن ينسب النتائج لنفسه. لو كانت الظروف مختلفة لاستشاطت غضبا من ذلك. أما الآن فلا تكن له سوى الاحتقار. بالتأكيد. لقد سهلت فاندا المسألة عليه، ورأت الآن كيف ينسل من دائرة معجبيه ليأتي نحوها. كان ممثلا قديرا حين يتعلق الأمر بالأرباح الطائلة، والآن وبلا حياء يتقن ببراعة دور الرئيس المهتم بمرءوسيه. «تعالي.» رفع شتورم ذراعه ووضعها على ظهر فاندا، فتصلبت ثم قادها نحو واحد من قوائم العرض الخاصة بأحد المصنعين. لم يعترض طريقهما أحد حين دخلا ليشغلا إحدى الغرف المقامة خلف حائط جاهز مخصص ليتمكن العملاء من إجراء نقاشاتهم دون إزعاج. «هلا تحضرين لنا فنجانين من قهوة الإسبريسو؟» أومأت السيدة الشابة التي تشرف على المكان وضحكت عيناها السوداوان. شعرت فاندا بنظرات ماكس شتورم تخترقها. «أريدك أن تنشري هذا في أسرع وقت ممكن.»
أجابته فاندا بلا أي انفعال: «هذا لا يصح.» عاد بظهره إلى الوراء ووضع ساقا فوق الأخرى، فشعرت فاندا بالغثيان. «حضرتك تعرف تمام المعرفة كيف نشأت هذه النتائج.» كان صوتها يتهدج بشكل مسموع رغم أنها كانت تكاد تهمس. «هذه التجارب لم تجر قط، حضرتك ...»
قاطعها شتورم قائلا: «لا أكترث بالظروف.»
ردت فاندا متحدية: «علي إذن أن أنشر تجارب لم تجر على الإطلاق؟ حتى التصريح بإجراء التجارب على الحيوانات غير متوفر.»
وضعت السيدة الشابة فنجاني القهوة على المنضدة، فانتظر شتورم حتى مضت في سبيلها. «سوف تستكملين ما بدأته هنا، وكل ما عدا ذلك تتركينه لي رغما عنك.» «الآن فهمت. لقد أخبرت رئيس الجلسة أني أنا التي ستلقي المحاضرة بدلا منك. لقد اعترف لي بذلك.» لم تكن سوى مجرد خدعة، لكن شتورم شحب تماما بمجرد أن سمعها. «وأين المشكلة؟» «لقد كنت ترى كل شيء سلفا. كنت تعرف حتى محتوى عرضي الذي قدمته.» استغلها شتورم، لقد عرف شتورم كيف ينقذ رقبته في اللحظة الأخيرة. «أسأل نفسي فقط كيف؟» ترددت قليلا ثم قالت: «إنك تدخل على بياناتنا كما يحلو لك.» وفي نفس اللحظة التي تلفظت فيها بهذه العبارة واتتها فكرة أن لديه من يقوم بهذه المهمة نيابة عنه، شخص يعرف كل شيء. نهض شتورم وأمسك بحقيبته، بينما مرت نظراته عبرها وكأنها لم تعد موجودة. «فكري في الأمر. أستطيع أن أحميك من ملاحقة شركة بي آي تي القضائية لك، لكن بالنسبة للمجتمع العلمي ... والرأي العام ...» رفع حاجبيه عاليا، ثم استدار ومضى. علي أن أجري مكالمة هاتفية، ظلت هذه الفكرة تلح على رأس فاندا، لكنها كانت كالمشلولة. جاءت السيدة الشابة وأخذت الفنجانين. «يا إلهي!» ندت عن السيدة آهة مفاجئة حين أخذت فنجان فاندا، وقالت: «طائر كبير، ها هو أترين؟» ودون أن تفهم شيئا نظرت فاندا في آثار البن المتبقي في قاع الفنجان، في حين قالت السيدة متذاكية: «عندنا في تركيا نقرأ المستقبل من فنجان القهوة، الطائر يعني أنك ستقومين برحلة قريبا. والطائر الكبير يدل على رحلة بعيدة.» وفيما بين حاجبيها الكثيفين وجدت ثنيات متصلبة، ثم ابتسمت كالحالمة: «سوف تطيرين.»
الفصل الثامن والأربعون
وصية بلاوبارت
قالت زابينة غاضبة: «إنه لا يرد على الهاتف. لكنه في المنزل، لقد أشعل الضوء منذ قليل في الغرفة ذات الواجهة الزجاجية الكبيرة.» «هل قلت شيئا البتة عن الاتصال الهاتفي؟ ليس عليك سوى مراقبته فحسب.» تطلعت فاندا من نافذة القطار السريع، كان الشفق يهبط على طبيعة شتوية كئيبة ولسان حاله يقول العين بالعين. لم يكن شهر يناير قد انقضى بعد، لكنها شعرت أنها نالت كفايتها من هذا الشتاء. لم يذكرها ببرلين هذه المرة سوى ممرات مترو الأنفاق، وغرفة ضيقة في فندق، وصالة محاضرات مكيفة. بخلاف ذلك لم تر شيئا من المدينة. بعد حديثها مع شتورم توجهت إلى المحطة لتعود في أول قطار متجه إلى ماربورج؛ فعليها أن تتحدث معه اليوم، ففي الغد قد يكون الأوان قد فات. استأنف القطار رحلته ما بين هانوفر وجوتنجن. قربت هاتفها المحمول من أذنها وزادت ضغطها عليه.
سألتها صديقتها متوسلة: «متى تصلين؟» «ستستغرق الرحلة ساعتين، على شرط ألا يطلق أحدهم إنذارا بوجود قنبلة، سأضطر لتغيير القطار مرة أخرى. هل وصلت يوهانيس أخبار عن تيد؟» كانت فاندا قد رجته أن يبحث أمر السيارة الثانية التي ذكرها تيد بعد لقائهما. «لا فكرة لدي، لكني أبتهل من أجل ألا تضلي الطريق، لأني أكاد أتجمد من البرد هنا.» رأت فاندا بعين خيالها كيف تقف زابينة في البرد تراقب المنزل. «ألا يستطيع يوهانيس أن يخلصك؟ على الأقل يأتيك بسيارة.» «الآن لا شيء عندي أفضل من أن يأتيني أحدهم بدورة المياه!»
استقلت فاندا سيارة أجرة من محطة ماربورج. كانت الأخبار تنسال من المذياع، اتضح أن الحقيبة المشتبه في احتوائها على قنبلة بمطار فرانكفورت لم تكن سوى دمية. تحدث الساسة عن استفزاز مخادع، بينما تناقلت وسائل الإعلام أنها كانت تجربة تحسبا لوجود حالات حقيقية. أخبرت فاندا سائق سيارة الأجرة أن يتوقف عند روتينبيرج. ثم دفعت له النقود وقطعت المسافة المتبقية سيرا على الأقدام. تعرفت على سيارة يوهانيس من طراز تويوتا واقفة على جانب الطريق قرب المدخل. طرقت على نافذة السائق فانفتح زجاجها بلا صوت. صافحت وجهها رائحة قهوة ساخنة، بينما لوحت زابينة من المقعد المجاور للسائق.
حياها يوهانيس: «في الوقت بالضبط، أما مصاريف تدفئة السيارة فسنحاسبك عليها لاحقا، هل تريدين حقا الذهاب بمفردك؟» «إن لم أعد خلال ساعة، فاصعدوا لتروا ما الأمر، سأعلق شيئا بباب المنزل.»
قال لها يوهانيس متحديا وهو يبتسم: «يمكن لكثير من الأمور أن تحدث في غضون ساعة. هذه الحركة ستكلف كثيرا.» كان الظلام حالكا، فلم تستطع أن ترى التعبير على وجه زابينة. هل قالت شيئا؟ دفعت فاندا حقيبة سفرها خلال نافذة السيارة حتى وقعت على حجر يوهانيس. «هل عرفت شيئا عن تلك السيارة؟» «لقد ألححت عليه كثيرا، لكن تيد هذا يتلفح بالصمت.»
توجهت إلى مدخل البيت، وفي الطريق التقطت حصاة من الأرض، هل من الممكن أن يكون توماس في انتظارها؟ شعور غريب، لكنها كانت متأكدة أنه سيسمح لها بالدخول. كانت سيارته من طراز بي إم دبليو مصفوفة في الجراج بجوار المنزل، وشقته في الطابق الثاني. تحرك ظل وراء نافذة المطبخ، بعدها بمدة وجيزة سمعت صرير الباب وهو يفتح، وفي نفس اللحظة أضيئ نور السلم.
انفتح الباب بمجرد أن دفعته فاندا، فوضعت الحصاة في إطار الباب وصعدت السلالم ببطء. ماذا إن كان مجنونا؟ لكنها هزت رأسها لتطرد عنها هذه الفكرة، لو أن ثمة مجنونا فلن يكون سواي. كانت زابينة تحب أن تشك في أفكارها، لكن فاندا على العكس كانت ترجو من داخلها رجاء حارا أن تكون مخطئة، كانت لا تزال معجبة به.
كان باب شقته مواربا، فدخلت، ومن الغرف سقط ضوء على الردهة الصغيرة.
سحبت الباب مغلقة إياه، تاركة فرجة رفيعة. رأت معطفه الجلد معلقا على المشجب، والتقطت أنفها ذات الرائحة المألوفة. استشعرت توترا اعتراها فأخافها، لا يزال بإمكانها أن تعود أدراجها. وماذا لو كنت مخطئة؟ بحثت في المطبخ ثم في غرفة المعيشة. كان جالسا إلى حاسوبه ويكتب، لم يزعجه دخولها بل ظل يثبت وجهه نحو الشاشة. جلست فاندا على الأريكة الجلدية الزرقاء، لم تنبس ببنت شفة وظلت تنظر إلى ظهره. كان يحك ذقنه من آن لآخر، لم يكن حليقا. وكانت الغرفة معبأة بهواء فاسد. رأت الكاميرا الرقمية على الطاولة أمام الأريكة، ووقع بصرها على الصور ذات الأشكال الهندسية. تذكرت الآن، كانت قد رأتها قبل أن تغادره بقليل في ليلة رأس السنة، وفي هذا المكان توقفا عن الرقص معا. «ما الأمر بالغ الأهمية لدرجة أنك لا تحادثني؟» قالت لتكسر صمتا دام عدة أسابيع. شد توماس ظهره وأخذ شهيقا مسموعا، ثم نظر بلا اكتراث وراء ظهره، ففردت تجاعيد رقبته. «بدلة أنيقة!» أصابتها نبرته بالغصة، ثم تحول ببصره مرة أخرى إلى الشاشة وواصل النقر. «كانت حماقة مني. أنا أيضا لا أعرف لماذا ذهبت معه ليلة رأس السنة.» «ماذا تريدين؟» غاصت رقبته بين كتفيه وهو ينظر إلى السقف. «أن أكون مخطئة.» «ولماذا تريدين أن تكوني مخطئة؟» كانت ضحكته باردة. «هذا ما أريد.» قالتها ثم حدقت في يديها، ومرة واحدة هب واقفا. كان ذيل بنطاله الجينز منسلا تنساب خيوطه على قدميه العاريتين، بينما أطل جزء من جسده الأبيض المغطى بشعيرات داكنة من الخرقة التي تعتلي فخذه، بدا قميصه معجونا من كثرة ثنياته، علاوة على أن أزراره كانت مفتوحة، فبدت شعيراته الصغيرة الملتفة المنتشرة على صدره العريض التي تمتد لأسفل، فوق الاستدارة اللطيفة لبطنه لتختفي في البنطال أسفل السرة بقليل. خرج إلى الطرقة، وبعدها بقليل سمعت صوت الباب وهو ينغلق، وحين عاد كان قد زرر القميص. «هل تنوين أن يصطحبك أصدقاؤك ثانية؟» هذه المرة كانت ضحكته قذرة. «لم تكن فكرتي.» «هل كان أخوك الصغير يتابعك كالمجنون؟» أخي الصغير؟ من أين له بهذه الفكرة؟ لا تذكر أنها حدثته عن أندرياس قط. «اسمع يا توماس، أستطيع أن أتخيل أنك غاضب؛ لذلك ...» توقفت عن الحديث لأنه قفز فجأة من مكانه وخرج راكضا من الغرفة. سمعته يطقطق الصحون في المطبخ. انطلق رنين هاتفها المحمول، إنها رسالة نصية من يوهانيس، نصها:
رد من ت. كانت السيارة بي إم دابليو داكنة، سنصعد الآن. ي.
وبطرف عينها لمحت شيئا يتحرك على الشاشة، فنهضت فاندا وذهبت نحو المكتب حيث تعرفت على قائمة ذات أرقام على الشاشة. كانت المدخلات مكتوبة بالدولار. وكانت ستقرأ الاسم المكتوب لكنه في تلك اللحظة أمسك بها من رقبتها، وسحبها بعيدا عن المكتب ودفعها، فتعثرت ثم تمالكت نفسها على الأريكة. «السيدة فضولية زيادة عن اللزوم.» «صحيح.» شعرت فاندا بقواها تخور. أسندت نفسها إلى ظهر الأريكة وأخذت تحك رقبتها التي تؤلمها. «إذن ماذا؟» «إنه أنت الذي كنت في المعهد في وقت متأخر منذ مدة وجيزة. كنت تقف ورائي قريبا مني. تمكنت من شم رائحة معطفك الجلدي، مثل الرائحة التي هنا في الطرقة. لماذا فعلت ذلك؟» «لقد قلت فعلا إنك فضولية زيادة عن اللزوم.» كان يقف أمامها فاتحا ساقيه، على مسافة ليست بالقريبة بحيث تمسك به، لكنه كان من القرب بحيث اضطرت للتطلع إليه. «إنك تتاجر في أسهم شركة بي آي تي.» لم تتمكن من السيطرة على نبرة صوتها، فخرج رفيعا، الأمر الذي أغضبها لأنه يفضح خوفها.
قال وهو يتنهد: «كان علي أن أتخلص منها في حينها. كنت بالفعل أنتوي ذلك قبل أن أعرف ما اكتشفته صديقتك الغالية عن نانوسنيف، إلا أن شتورم واصل مسيرته وكأن شيئا لم يكن، طار إلى أمريكا وعاد بالمشروع التالي، أما صديقتك زابينة فتسبب سلوكها المريب في طردها خارج المعهد. ولم يكن تسللي خلف يوهانيس سوى محض مصادفة؛ ففي ذلك المساء كنت أتصفح الشبكة الداخلية للمعهد من البيت. ساعتها وجدت رسائله الإلكترونية لجماعة «والدن»، وحينها بدا لي جليا أن الأوان قد آن لمحو كل بيانات بي آي تي من الكمبيوتر المركزي، ومن بيتي أستطيع فقط أن أقرأ لكن لا يمكن لي أن أتدخل بشكل إيجابي، وللأسف اضطررت للعودة للمعهد، وهناك في الجراج وجدت سيارة يوهانيس من طراز تويوتا مصفوفة. كنت حذرا للغاية، لكن كل شيء بالمعهد بدا هادئا، وتحسبا لأي طارئ أخذت سخان الماء الذي كان على المغسلة ومررت بغرفته، ثم جلست في غرفة الكمبيوتر خلف الباب. لم أضطر لانتظاره كثيرا، لعبت معه لعبة خفيفة. لم يلاحظني قط.» «وماذا لو كان رآك؟» «كان حظي وفيرا، أو لنقل حظه هو، حسبما تنظرين للمسألة. بعدها بقليل حضرت أنت وقمت باللازم نيابة عني، بل قمت بإدارة الرجل كما يفعل المسعفون المختصون وبعدها ...» مط وجهه واستطرد: «يؤسفني، لكن لم يعد يمكنني التصرف بشكل مغاير. لقد كانت كلمة المرور لبيانات زابينة في جيب معطفك، وكان هذا كافيا بالنسبة لي للكشف عن نواياكما. في البداية كنت لا أزال أظن أنكما متواطئان في الأمر.»
نظرت إليه وهي لا تعي ما يقصد. «نعم، بعدها أطلعني رودي على الحكاية.» علت وجهه ضحكة ساخرة. «ماذا؟» ازدردت ريقها الجاف، «أنت تعرف ...؟» آه أخوك الصغير، صحيح، لقد كشف عن نفسه، لقد عرف ذلك من خلال رودي. يا لي من حمقاء!
قال متباهيا بالنصر: «نعم. ليس لك الآن سوى أن تحمري خجلا. رودي منجم للثرثرة، لكنك نسيت أن تركبي لجاما على فمه. حين يعرف شخص ما كيف يدخل على النظام ما أسهل أن يتلاعب به.» «لقد كنت تتنصت عليه طوال الوقت. أنت تعرف ...»
أكمل قائلا: «أعرف كل شيء. لم أدخل إلا متأخرا، وإلا فما كان الطرد الموجه إلى سنايدر قد وصل حتى فرانكفورت.» كانت نظرته تخترق إحساسها بذاتها وتدهس إحساسها المتنامي بالعار، ذلك الإحساس الذي تجاهد لكي تقاومه. «هذا ما تقوله أنت. لكني لا أصدق أي كلمة.» كانت تدافع عن نفسها رغم معرفتها تماما أنه يقول الحقيقة، لقد قام توماس ببرمجة رودي، وبلا أية فكرة أخذت هي بنصائحه في الوقت الذي كان توماس يلعب بها ويحركها مثل دمية ماريونت. «على أية حال، لقد كان الأمر يستحق.» قالها متفاخرا بنفسه. «بدون المعلومات التي أمدك بها بيتر سنايدر، لم أكن لأفكر في الاستثمار في ديون الحكومة الأمريكية.» فكر قليلا ثم أكمل قائلا: «لكن مسألة نيو مكسيكو لا تزال مفتوحة، ربما لن تعرفي قط السبب في موت والد أندرياس. أما ما يخصك ...»
صرخت في وجهه: «توقف. نحن نتحدث الآن عنك أنت، أنت الذي تحدث مع شتورم هاتفيا في الصباح، أنت الوحيد في القسم كله الذي يعرف كيف يدخل إلى بنوك المعلومات. لقد أسأت استخدام سلطتك الإدارية، سأبلغ عنك.» «كنت أظنك أكثر ذكاء من ذلك.» هذه المرة كانت ضحكته وقحة، «السيدة الدكتورة فالس، أنت الآن في عداد الأموات.» لماذا تلح عليها الآن تحديدا صورة القبر ذي الشاهد الذي يحمل اسمها التي جاءتها بالبريد الإلكتروني؟ جالت بخاطرها كلمة «ذخيرة ذاتية التحلل»، في هذه الأثناء صارت تثق أنه يستطيع أن يأتي بأي فعل شنيع.
حاولت فاندا السيطرة على صوتها ليخرج هادئا: «لقد كنت في بيتي ليلة رأس السنة وشاهدت أسطوانة دي في دي»، رفع سبابته اليمنى محذرا.
ثم قال: «لا تتحدثي إلي وكأني أعاني من اضطرابات عقلية.» خرج ركضا من الغرفة، ثم عاد ومعه عدة أزواج من الجوارب في يده. «كان علي أن أقتلك.» قالها موضحا وهو يقفز على ساق، ثم على الأخرى ليرتدي الجوارب، وكأن كل ما يحدث مجرد لعبة بالنسبة له. «لقد قمت بالفعل بدفني وأنا حية.» «آه. ذاك الأمر، كنت أريد أن أرهبك فقط.» «مثل الذخيرة ذاتية التحلل؟» لم يحر جوابا، فقالت: «كيف وصلت لمادة كهذه؟» «أنت تطرحين أسئلة كثيرة.» كان الموقف عبثيا، وشعرت فاندا بضغط عارم يتراكم على صدرها بينما تعلو وجهها ضحكة متوترة. «أنت مجنون.»
مرة أخرى أسرع إلى خارج الغرفة، وحين عاد كان قد لبس حذاء في قدميه وارتدى بلوفر، ثم توجه نحو الكمبيوتر وأغلقه، ثم سقط إلى جوارها على المقعد. «لا، أنا لست مجنونا، أنا فقط لا أحب الخسارة، علاوة على ذلك لا أستطيع تحمل الأمر إذا زاد أحدهم من ضغطه علي.» كانت تنظر إليه وهو يربط الحذاء. «لست أفهم جيدا. عن طريق رودي عرفت كل شيء عني. في الحقيقة كنت أقف في طريقك، لماذا إذن دعوتني في بيتك؟» صمت قليلا وكأنه سيفكر، ثم قال أخيرا: «لقد كانت فكرة عفوية، لقد سحرتني.» «لقد كانت تجربتي الأخيرة مع «م. إ. أ.».» تطلعت إليه فاندا متسائلة، فقال: «هذا اختصار أطلقه على ما أسميه أنا مادة إنسانية أصيلة على الأرجح»، بعدها هز رأسه وهو يستطرد: «المسألة لم تكن لتنجح، ربما الأفضل لو كنا اكتفينا بتبادل المراسلات الإلكترونية.» فجأة رن جرس الباب، فخرج ركضا إلى الردهة. وقفزت فاندا من مكانها وتبعته، وعلى عتبة غرفة المعيشة وجدته فجأة واقفا أمامها. دفعها نحو الغرفة ثانية، فتعثرت وسقطت. وجدت نفسها على الأرض ثانية، وللحظة شعرت وكأنها مخدرة، وسألته: «وماذا تكون أنت؟» سمعت قرعا على الباب في الخارج.
سمعت يوهانيس يقول صائحا: «افتح الباب. افتح وإلا اتصلنا بالشرطة.»
نظر إليها توماس نظرات عدائية وهو يقول: «لقد أفسدت علي عملي. وفي الحقيقة يتعين علي أن أعاقبك على ذلك.» كان وجهه مبرقشا ببقع حمراء، وأنفاسه متلاحقة. «إن أبلغت عني فسأقضي عليك، هذا كلام نهائي، أنا أعرف كل شيء عنك.» ومرة أخرى أشار بسبباته محذرا ثم خرج مرة أخرى إلى الردهة. ماذا يفعل هناك؟ رأت بعين خيالها الخزانة الصغيرة ذات المرآة، وسمعت خشخشة وصوت سوستة تغلق. حين عاد كان يرتدي المعطف الجلدي ويحمل حقيبة سفر صغيرة في يديه، وبعد ذلك سحب باب غرفة المعيشة ليغلقه وأوصده من الداخل. أما المفتاح فتركه معلقا فيه، كانت فاندا لا تزال جالسة على الأرض تسند ظهرها على الأريكة. تجولت ببصرها داخل الحجرة. اللوحات، المكتب، شاشة الكمبيوتر المطفأة، وراءها الأريكة الجلدية الزرقاء. نظرت نحو النافذة. «هل تريد أن تهرب؟» غضبت فاندا من صوتها الذي يشي بالقلق، «وتترك كل هذا هنا؟»
هز رأسه بالإيجاب مبديا بعض الندم. «أخ ... فاندا إن فضولك سيجعلك تلاقين حتفك.» «أخ ... توماس لقد نسيت أمرا.» استدار وفي نفس اللحظة كانت قد صوبت نحوه الكاميرا ملتقطة له صورة. ارتعد حين انعكس ضوء فلاش الكاميرا عليه، أما هي فأمسكت بها عاليا. «هذه ليست من والدك، لقد سرقتها منا.»
هز كتفيه لا مباليا ثم فتح النافذة وقفز. كان لخطواته وقع من يمشي على الحصى، ثم ابتعدت سريعا. طلبت فاندا رقم هاتف يوهانيس بينما كانت واقفة في النافذة تتابع توماس وهو يهرب. من الغرفة سقط ضوء على قطعة من سقف مسطح يبتعد نحو متر أسفل النافذة ويحد جدار المنزل.
قاطعت يوهانيس على الفور على الهاتف: «أنا بخير. بسرعة إلى أسفل، تحرك بسرعة إنه في الطريق إلى سيارته. لقد كنت أراقبه عبر النافذة.» قبل أن تنهض نظرت أولا إلى شاشة عرض الكاميرا. كانت الإضاءة في الصورة زائدة.
لم يلحق زابينة ويوهانيس إلا بمشاهدة الأضواء الخلفية للسيارة طراز بي إم دبليو بعجلاتها التي أصدرت صريرا وهي تتحرك مبتعدة من الحوش، حسبما عرفت فاندا منهما فيما بعد.
واكتشفوا السلم الذي تسلق منه توماس من السطح حتى وصل إلى العشب خلف المنزل. كان قد جهز لهروبه هذا، وفي طريق العودة حكت لهما فاندا ما حدث بإيجاز، فأمطراها بالأسئلة. رجتهما فاندا أن يمنحاها لحظة هدوء، لحظة واحدة فقط، وشعرت كيف أن شعورها الأولي بالارتياح صار يتحول تدريجيا إلى إحباط لا تستطيع له دفعا. أنزلها يوهانيس أمام باب منزلها، وأراد بعدها أن يوصل زابينة إلى بيتها، ثم يذهب لينال هو نفسه قسطا من النوم. لقد كان اليوم طويلا على الجميع. •••
وعلى عتبة غرفة المعيشة وجدت كرتونة بيض عليها ورقة مثبتة داخل الشريط المطاطي الذي يغلف الكرتونة، وكتب على الورقة بخط غير منسق: «شكرا، جارك.» احتوت الكرتونة على خمس بيضات ومفتاح، ألقت فاندا نظرة على باب الشقة المجاورة لها. كان المصباح فوق الباب مضاء، رنت الجرس. سمعت صوت خطوات تقترب، ثم فتح الباب وانزلق وجه رفيع من فرجة الباب، وحين عرفها فتح الباب أوسع. انبعثت من الداخل روائح هواء مكتوم.
سأل بصوت متهدج: «هل حالك أفضل الآن؟» كان يرتدي بدلة ركض بينما توردت وجنتاه. أشارت فاندا إلى كرتونة البيض ونظرت إليه متسائلة. «كان المفتاح لمؤجر الشقة قبلك، إنه لا يدخل الآن في الباب.» كان لسانه ثقيلا بينما ينظر هو إلى الأرض خجلا.
قال متلعثما: «البيض ... لا أستطيع دائما الخروج من منزلي، تعرفين.» لكن فاندا لم ترد أن تعرف المزيد؛ لقد كانت متعبة فقالت: «لنتحدث لاحقا.» ثم دخلت من باب شقتها، وفي الداخل وضعت حقيبة السفر وخلعت الحذاء غير المريح، ثم أخذت تقشر ملابسها عنها طبقة طبقة مثلما يقشر البصل. كانت تترك ملابسها تسقط ببساطة مخلفة إياها ما بين الردهة والثلاجة، ثم الردهة والحمام، وأخيرا في الطريق إلى المكتب. وهناك وضعت هاتفها المحمول. الآن أضحت عارية تماما. وعلى ألواح زجاج النافذة المقسومة وجدت انعكاس صورتها مقسوما اثنين. الجزء العلوي يعكس رأسها حتى بداية نهديها، فمالت برأسها نحو الجانب. كان شحوبها ورقبتها يذكران بصور السيدات النبيلات، أما الجزء السفلي فظهرت عليه حلمتا ثدييها وكأنهما عينان تطلان من وجه آخر، بينما انتهت الصورة أسفل سرة بطنها بقليل. أزعجتها الصورة المقسومة، نظرت إلى نفسها وأزعجها مظهر جسدها. أغمضت عينيها ومسدت رقبتها بأناملها. شعرت بالراحة فواصلت المتعة حتى انطلق رنين الهاتف معلنا وصول رسالة نصية.
كانت فاندا لا تزال مستغرقة في لذتها، واحتاجت بعض الوقت لتستوعب الأمر. كانت الرسالة من الزميل المختص بعلم الفيروسات. لم يجد بالعينة أثرا لجزيئات النانو.
وهذا يعني أن العينات التي أخذوها من دماغ هيلبيرج نظيفة. صحيح أن هذه النتيجة لا تنقد مزاعم سنايدر؛ لأن الجزيئات يمكن أن تكون قد تحللت بعد كل هذا الوقت، لكنها أيضا لا تؤكدها. ربما لم يكن ثمة تلوث في نيو مكسيكو بالأساس.
في البداية شعرت به في أحشائها، ثم تصاعد شعورها بالسرور ليصل إلى صدرها ويعلن عن نفسه في صرخة سعادة مدوية فاجأتها هي نفسها. لقد ظهر لها الموقف برمته الآن من زاوية مغايرة تماما. توجهت فاندا إلى الحمام وتحممت بالماء الساخن طويلا، بعدها انسلت إلى منامتها وذرعت بها الغرفة ذهابا وجيئة لتطفئ الأنوار. رأت الصندوق الصغير الذي يحوي مقتنياتها، وكانت قد وضعته على المكتب ذي الأرفف الخاص بوالدها قبل سفرها إلى برلين. كان هذا منذ يومين فقط، لكن لأن ثمة أحداثا كثيرة وقعت، بدا لها الأمر وكأن أسبوعا بكامله قد انقضى.
رفعت غطاء الصندوق وأخذت ميدالية المفاتيح. حين كانت طفلة، كانت تحب أن تسمع حكاية الأميرة زوجة الدوق بلاوبارت، حكاية جميلة ومرعبة قليلا تدور حول المفاتيح والأبواب المحرمة. كانت فاندا تتمنى دائما ألا تتمكن الشابة الفضولية من فتح الباب، بل الأفضل حتى ألا تجده على الإطلاق؛ وذلك لأن الرعب سيأتي أولا إن استهانت بأوامر بلاوبارت واستعملت المفتاح الذي سيكشف عن الحقيقة المخيفة لزوجها، وفي أزمتها تلك كانت فاندا تجمع كل مفتاح تجده وتخفيه. صحيح أن معظم المفاتيح كانت تؤخذ منها ثانية، ما عدا هذه المفاتيح الخمسة فقد ظلت معها منذ ذلك الحين. أخذت تجربها بالترتيب في فتح الدرج الموصد.
فتح المفتاح الثالث.
فوجدت حزمة من الرسائل التي اصفر لونها، وحين حلت الرباط الرمادي سقطت عدة صور. كانت كلها لذات المرأة، امرأة نحيفة شقراء ترفع شعرها عاليا وترتدي فستانا أنيقا ضيقا. فتاة حسنة الهندام وفق طراز ستينيات القرن الماضي، في العشرينيات من عمرها وواقعة في الغرام كما هو واضح للعيان. كانت الخطابات موجهة لأبيها، بها حياء ظاهر وتفيض بالرقة والمودة. لم تستطع فاندا أن تتذكر أن أباها تحدث قط عن هذه السيدة. مستها سطور الرسائل، لكنها لم تعن بوجودها حقيقة. كانت العلاقة ترجع لوقت لم يكن فيه والداها قد تزوجا بعد، وهي لم تكن قد ولدت. كانت الخطابات موجهة إلى عنوان في مدينة ماينز، حيث عاش والدها فترة. وعلى أرضية الدرج اكتشفت ورقة واحدة موضوعة أسفل حزمة الخطابات، ويعلوها نفس الخط المنمق. فتحتها فاندا ومرت ببصرها على السطور: ... أحترم قرارك حتى لو كان يمزقني من الداخل. تقول إن ذلك بسبب الطفل، وإن هذا لا يغير شيئا من مشاعرك نحوي. كيف بالله عليك ستقدر على تحمل ذلك؟ أنت تخادع نفسك وتخادعني وتخادع الجميع. لا أستطيع أن أعيش هكذا. أرجوك أن تطلق سراحي لأستطيع أن أعيش حرة وسعيدة مرة أخرى ...
كان الخطاب مؤرخا بالسنة التي ولدت هي فيها.
الفصل التاسع والأربعون
بضاعة مهربة
استمر الشتاء قليلا، لكن تقلبات درجات الحرارة ألقت بظل من الشك على وجوده؛ إذ كان موسم البرد يتصرف مثل مريض في فترة النقاهة، تعاوده نوبات النكوص لكنها أضعف في كل مرة من سابقتها. ثم تهالك تدريجيا ومات موتا بطيئا، وقد نسيه الجميع سريعا بمجرد دخول الربيع، وفي نفس الوقت زادت حمى شعب يعشق كرة القدم. عرفت فاندا أخبارها من الجرائد والمجلات التي تقرؤها في غرفة الانتظار بعيادة طبيب الأسرة، كما في ذلك الوقت. لم تكن تهتم بكرة القدم، فأخذت تقلب الصفحات الكثيرة بلا نهاية التي تخبر عن الحدث، ولهذا لم يفرق معها كثيرا أن فريق ساحل العاج لم يعد يتخذ معسكره في ماربورج. كانت أيامها في هذه المدينة معدودة، فالرحلة التي تنبأت لها بها الشابة التركية في برلين صارت على وشك أن تتحول إلى حقيقة؛ فلجنة تحكيم من لجان المؤتمر كافأتها على عرضها المؤثر ودراستها الكاشفة بجائزة بحثية تستطيع بموجبها أن تكمل أبحاثها في الخارج لمدة عام، لكن قبل ذلك أرادت أن تستكمل مشروعا مهما حتى النهاية.
بعد محاضرتها في برلين اتصل شتورم بمدير شركة بي آي تي. كان يجب أن يعرف باول تورمان من شتورم شخصيا أن الجين المستخدم في نانوسنيف تسبب في نشر فيروس بين الفئران. لم يخف شتورم هذه المرة نسبة الوفيات، ولدهشته أبدى تورمان استعداده الكبير للتعاون، بل إنه اقترح أن يتم توثيق هذه الملاحظات من خلال التجارب المعملية. أما السبب في ذلك فقد عرفوه بعد عدة أيام حين جاء إليهم وسيط من أمريكا ليوصل عدة مليجرامات من مادة الاختبار. لقد قامت الحكومة الأمريكية بمصادرة كل كميات مادة «إن بي 2701» كلما اشتبهت في تواجدها بمكان ما بسبب أبحاث الشركات، كما طالبتهم بسحب طلبات الحصول على براءات اختراع؛ إذ تم الادعاء بأنهم تجاوزوا الاتفاقات المبرمة، ومحامو الحكومة أصروا على الدفع بأن مادة «إن بي 2701» هي ملكية خاصة للحكومة، ومن ثم فإن للحكومة الحق في أي تطور ينشأ عن هذه المادة. أما الممثلون القانونيون للشركات فعارضوا هذا التفسير للتعاقدات المبرمة، وما دام لا يوجد حكم قانوني في هذه المسألة فستسود حالة طوارئ غير رسمية، وستطول مدة المفاوضات. •••
كل هذا عرفته فاندا من بيتر سنايدر الذي عاد يكتب إليها من جديد، لكنه لا يزال يكتب من عنوان خفي. وجاء في رسائله كذلك: «ذات صباح وقف عشرة رجال أمام بابنا، لدرجة أني ظننت أن فرقة الإبادة قد حضرت، لكن ما لبث أن ظهر أنهم أقرب لفرقة من العاملين بالنظافة. وقالوا إن عليهم تفتيش المكان. ولو أنهم طلبوا شرب القهوة لوقعت في حرج بالغ؛ إذ لا يوجد في مكتبنا سوى ثلاثة فناجين. فعشرة أشخاص عدد كبير. ظلوا واقفين على أقدامهم في الحجرات الصغيرة.» كانت الإشارات إلى المعمل الكائن في ماربورج قد محيت، وكانت هذه هي الجملة التي سمحت لفاندا أخيرا أن تتنفس الصعداء.
لن يستطيع أحد أن يتوقع كم بقي لفاندا من الوقت، لكن عليها أن تسرع إن أرادت أن تنهي دراستها في الوقت الملائم. كان أكبر عائق هو طلب إجراء تجارب على الحيوانات، وحتى تحصل على موافقة رسمية يدور فيها الطلب داخل الجهاز الحكومي من الممكن أن تنقضي ستة أشهر وهي لا تزال لم تغادر البلاد، لكنها هذه المرة تعقد النية على إنجاز كل شيء بالصورة الصحيحة . لقد أعلنت أن المواد التي يريدون العمل بها مواد معدية ومعدلة وراثيا، وأن كل التجارب ستجرى في قسم علم الفيروسات الذي يطبق شروط السلامة من بند «إس1»، وحتى «إس4». وصارت المسألة الآن في يد رئيس المعهد. لقد اتصل شتورم باللجنة المركزية للسلامة الحيوية في برلين، وهكذا وصلت الموافقة بعد أربعة أسابيع لتستقر على مكتب فاندا. وهكذا، يمكنها أن تبدأ البحث في الأول من شهر مارس. وفي بداية مايو عرفت فعلا أن ملاحظاتها يمكن توكيدها معمليا. تستطيع الآن أن تبدأ في الإعداد لنشر البحث. مهنيا سارت كل الأمور بسلاسة غير مسبوقة، لكنها لا تزال تعاني من تلك الرعشة في يديها، صحيح أنها ليست بنفس القوة التي كانت في الأسابيع الماضية، لكنها لا تزال رعشة خفيفة تسبب لها القلق.
وعبر نافذة غرفة الانتظار بعيادة الطبيب، رأت سماء عصر يوم جمعة خالية من الغيوم، ونحو الساعة الخامسة ستقابل الآخرين في مرج خلف قصر روتينبيرج. لا يزال عليها أن تنتظر دورها بعد هذين المريضين. كان الرجل الأكبر عمرا الجالس أمامها يتمخط ويدق الأرض بعصاه بنفاد صبر. أما المرأة الجالسة إلى جواره فكانت ترفع بصرها عن مجلتها وتحرك رأسها، بدا وكأنها أسيرة حالة دائمة من التبرم، لكنها ابتسمت لفاندا، فردت عليها فاندا بابتسامة رغم أن منظر السيدة كان يسبب لفاندا التوتر. حاولت أن تقرأ، لكن أفكارها لا تلبث أن تعود وتتجول في أحداث الأسابيع الماضية. ثمة أمور كثيرة ظلت معلقة. لقد تجمعت وتشابكت أسئلتها التي بلا إجابة مشكلة شبحا لحوحا يصعب عليها إزاحته جانبا.
وحين تفكر في توماس تتصلب رقبتها كلها حتى منابت شعرها. لا يزال مسيطرا عليها، وقد علمت من السيدة بونتي أنه ترك وظيفته بدون فترة إخطار مسبق ودون إبداء الأسباب، وفي هذه الأثناء تم إخلاء غرفة مكتبه. وذات مرة ذهبت فاندا إلى شقته، لكنها وجدت اسما آخر على لوحة الباب. لقد اختفى توماس ببساطة وبدأ في محو كل أثر مادي لوجوده أثرا بعد الآخر، ولم يترك لها ثغرة من خطأ تنفذ منها فتمكنها من الشعور بغضب أو حزن أو حتى سرور. أما هذا التلاشي الذي لا يخلف أثرا فقد جعلها تشكك في عقلها. وفي تلك اللحظات كانت أيضا الصورة التي التقطتها له قبل أن يولي هاربا تبدو لها وكأنها صورة لشبح. كانت تؤرقها فكرة أنه هو ذاته غير متاح لتمسك به، بينما هو يعرف كل شيء عنها، وبالطبع سيحافظ على مراسلاتها مع رودي حفاظه على أمانة ليضمن سكوتها. كانت مشكلتها أنها لن تستطيع أن ترد عليه بشيء، وكانت مقتنعة أن توماس مسئول عن المداهمات التي حدثت في المعهد وفي شقتها، لكنها لا تستطيع أن تثبت ذلك.
لم يستغرق فحص الدكتور جليزر هذه المرة وقتا طويلا، فالمفترض أن تكون هذه هي الاستشارة الأخيرة بعد سلسلة طويلة من الفحوصات. «لم يجد طبيب الأعصاب ضررا. يقول طبيب الأشعة إن الغدة الدرقية سليمة. طبيب النساء أفاد أن ...» «نسيت أخصائي الأمراض»، حاولت فاندا أن تمازحه. «لم نصل لتلك المرحلة بعد.» قطب جليزر جبينه قليلا بما يشي بقلة حيلته واستطرد: «لكن ارتفاع معدل الكريات البيضاء هو السبب الذي من أجله أردت أن أراك ضروريا مرة أخرى، إذ لم يعد ممكنا إثباته، فكيف تشعرين الآن؟»
ضحكت فاندا وقالت: «فيما عدا أني لم أعد أستطعم الشاي الأخضر، كل شيء على ما يرام.» «أعتقد أن تغيير المكان قد يكون مفيدا لك.» لمعت عينا الطبيب المجلوتان، وبدأ يحكي عن زمانه حين كان لا يزال طبيبا مساعدا في جنوب أفريقيا. أعطاها بعض النصائح الخاصة بالتطعيمات، ثم خطت فاندا خارجة من العيادة إلى ذاك الأصيل الربيعي الذي يبدو أنه لم يعكر صفوه شيء. على الجانب الآخر من الشارع، كان أندرياس يقف منتظرا إياها. كان البلوفر الذي يرتديه ذو اللون البرتقالي يبدو مثل الضوء التحذيري، وحين هرول في الشارع فرملت السيارات. كان وجهه مشرقا مائلا للون البرونزي، فبدت زواياه أكثر بروزا. كان أفضل دليل على أن ثمة حياة خارج المعامل مكيفة الهواء. خطوات قليلة فقط تفصل بين كلية الفلسفة ومروج اللان، حيث يستمتع الطلاب في الأيام المشمسة بشي أجسامهم علاوة على شي اللحم. القراءة والكلام والتفكير مع الأصدقاء والمرح في كل أرجاء المرج، كانت هذه الحياة تشي بسلام مصطنع، وتذكر فاندا بالوقت الذي كانت فيه هي نفسها طالبة. «أنت لا تفعل شيئا سوى التسكع.» أمسكت يده ورفعت كم البلوفر ووضعت ذراعه في الشمس متفحصة وكأنها تبحث عن لسعات الحشرات. تركها أندرياس تفعل ما يحلو لها، وربت بود على كتفها. «هذه هي العدالة. العتمة للأغنياء وللفقراء بقعة صغيرة مشمسة.» ثم أخذ بيد فاندا وسارا معا.
ثم قال: «تعالي، سنذهب سيرا على الأقدام. أعرف طريقا جميلا.»
صعدا على الطريق المائل نحو القصر. وفي وقت ما اتخذا أحد المنحنيات فصارا في الغابة. سقط الضوء من بين الأشجار الشاهقة عبر أوراقها التي لا تزال صغيرة، فبدا وكأنه ينعكس على ورق شفاف ليجعل الظلال على الطرقات تضيء بدرجات اللون الأخضر. لم يلتقيا منذ مدة، ولهذا ظلا يتجاذبان أطراف الحديث حول صغائر وتفاهات، إلى أن تجرأ أندرياس أخيرا على طرح سؤال: «بخلاف ذلك هل كل شيء على ما يرام؟» كان ينظر إليها نصف نظرة من الجانب. «نعم، هذا ما يبدو، لقد ذهبت اليوم إلى الطبيب للمراجعة.» ترددت ثم أكملت: «لقد أمضينا معظم الوقت في الحديث عن جوهانسبرج.» «جوهانسبرج؟» «سأسافر في القريب إلى هناك.» كانت هذه هي المرة الأولى التي تصيغ فيها نيتها بهذا الوضوح، لم تكن حتى قادرة على استيعاب ذلك. نظر إليها أندرياس مندهشا، فأكملت قائلة: «أعرف هناك عالمة، دعتني أن أعمل معها. ماري كامبل، اسمها أيضا موجود على القائمة اللعينة التي ...» صار يومئ بقوة وكأنه لا يريد أن يسمع المزيد. «متى؟» «في نهاية يونيو.» «وكم من الوقت تمكثين؟» «لقد حصلت على جائزة بحثية، ستكفيني لمدة عام، وبعد ذلك سنرى ما يحدث.» نشت فاندا فراشة خضراء صغيرة من على كمها. «لا أستطيع تصديق الأمر بعد، فحصولي على الجائزة جاء مفاجئا مثل حمل السيدة العذراء بالسيد المسيح. والحقيقة أني لا أعرف ما السبب الذي فزت بها من أجله.» «كنت أعرف دائما أنك أفضل عالمة، لكن ماذا سيحدث لترقيتك إلى أستاذ مساعد؟» «لم أعد واثقة أني أريد هذه الترقية، فالأستاذ المساعد يتعين عليه أن يدرس كثيرا، كما أن عليه أن يترقى، وأن يثبت وجوده العلمي في المحافل الدولية التنافسية. هل تعرف أني حقا أحسدك على هذه المروج؟» «الشمس تشرق أيضا في جنوب أفريقيا.» «نعم بالتأكيد، ستكون بالتأكيد فرصة للاستشفاء.» «هل أنت إذن ...؟» نظر إليها أندرياس بقلق. «لا، لا تقلق، ليس ثمة شيء، فقط ماري مختلفة عني تماما، صارت تدعي أنها تستطيع أن تشم الألوان.» «يا للهول!» فلتت من بين شفتي أندرياس. «نعم، إنها تعاني من اضطراب في الشم، أنا خائفة قليلا ...» «هل هذا مرض معد؟»
ضحكت فاندا وهزت رأسها بالنفي، وفجأة تذكرت أخاها. حاولت أن تتحدث معه بشأن الخطابات التي وجدتها في مكتب أبيها، إلا أن روبرت لم يهتم بهذا الحديث، فتوقفت عن ذلك. لم يعد هناك الكثير يربطها بالبقاء هنا. «لا أنوي العودة.» ساهم الحسم الذي نطقت به هذه العبارة في شد عودها.
ظلا يسيران متجاورين صامتين لبعض الوقت. أصغت فاندا، كانت الغابة تصدر أصوات طقطقة، وكأن أعدادا لا نهائية من فقاعات صغيرة تفرقع. رأت فاندا خيالات الفراشات من وراء الأغصان. كانت الأوراق مخرمة وكأنها أصابها وابل من الرصاص، فبدت مثل مصفاة، وفي أماكن كثيرة لم يبق سوى أطر حزينة معلقة. تساءلت: ترى ما المغزى من هذا؟ ربما كانت ماري على حق ونيو مكسيكو غيرتهم جميعا، سواء بشعوذة السحرة أو بجزيئات النانو. بغض النظر عن السبب، فقد صارت تمثل بالنسبة لفاندا بداية تحول مليء بأحداث لا يبدو فهمها سهلا. لقد شفي بانسيروتي من مرضه ومات جونتر هيلبيرج. بدا لها الأمر وكأنها تنظر في مرآة تتسارع عليها الوقائع وكأنها فيلم سينمائي، أحداثه حقيقية لكنها في الوقت نفسه أسرع من قدرة المشاهد على الاستيعاب. مساحة شديدة التشابك حتى لتكاد تنفجر، لكن لا شيء وراءها. فكرت فاندا: ربما ما زلنا في البداية، اضطرت للابتسام فجأة وأكملت خاطرتها: وعالم النانو هو مجرد قشرة.
عبرا شارع روتينبيرج وراء داميلزبيرج ومرا عبر المقابر الرئيسية.
بدأت تقول بحذر: «يؤسفني الأمر.» «أنك ستذهبين؟»
هزت فاندا رأسها: «لا، بل أننا لن نستطيع أن نكتشف المزيد حول وفاة والدك. على صعيد آخر ...» «ماذا؟» «سعيدة أننا لم نجد شيئا.»
ضغط أندرياس يدها وقال: «أنا أيضا. لم يكن هذا ليعيده إلى الحياة، لكن أنت ... هل أنت بصحة جيدة؟» أومأت برأسها. وصلا إلى الحقول ويداهما متشابكتان. وخيم على أندرياس صمت مهموم.
قالت فاندا في محاولة للتسرية عنه: «تستطيع أن تأتي لزيارتي.» لم تكن في حالة تسمح بمعاناة ألم الوداع.
أجابها: «حاذري مما تقولين!» ثم أكمل: «قد تجدينني بالفعل أمامك فجأة.» وضحكا معا. •••
كانا قد تواعدا على اللقاء على المرج أمام الصاري. لم يكن متاحا رؤية تلك المروج من أسفل لأن طريق المشاة الصاعد إلى هناك كان يختفي متخذا منحنى، وهناك وقفت السيارة من طراز تويوتا على حافة الطريق. إذن وصلت بيترا ويوهانيس بالفعل.
استمتعت فاندا بالأمسية المشمسة. مروا بالمروج والحقول وصعدوا الطريق ببطء، وعلى أحد المرتفعات مشطت ريح باردة العشب ولعبت بألوانه، ليبدو مرة بنفسجي اللون مائلا إلى الباذنجاني، ثم يعود تارة أخرى أخضر اللون. أزهرت ورود الهندباء وارتفعت أولى نواراتها، وفي قلب هذا المكان ركض يوهانيس وبيترا على مفرش مشمع سماوي اللون مثله مثل الطوف. بعدها فتحا زجاجة شمبانيا.
ركضت فاندا نحوهما، وسقطت لاهثة الأنفاس جالسة على المفرش وأخذت الكأس الأولى، كانت الشمبانيا تفور، فسقطت بعض الرغوة على يدها.
استقامت بيترا - التي كانت جالسة إلى جوار يوهانيس - في جلستها ورفعت كأسها عالية. بدت بالعصابة التي عقصتها على جبينها وهي مرتدية قميص يوهانيس الذي أخذ يتطاير مع الريح وكأنها تمثال الحرية في نزهة خلوية، ورغم هذه الجلسة المسترخية بدا جسدها خاليا من أي عيب ولا يمكن المساس بها. لم تكن فاندا واثقة تماما أن بيترا تستوعب الأمور من حولها. كانت سلاستها الطفولية في التعامل مع الآخرين تحصنها من استياء الآخرين وغضبهم. أما الأشياء التي كانت تغضبها فكانت تظهر عليها في وضوح، لكن بطريقة لا يلومها عليها أحد. «في نخبنا!» قالت بيترا محتفية.
قرعوا الأنخاب.
قال أندرياس مستعلما: «أين زابينة؟»
رفعت فاندا حاجبا وقالت: «غاصت في الجنوب. تحت، في أستراليا، إنها تجري أبحاثها الآن في أديليد، وقد اهتموا لأمر فولفجانج حتى لا يشعر بالملل، فهو سيدرس اللغة الألمانية هناك.» لعقت فاندا أصابعها اللزجة وهزت نفسها، قائلة: «طعمها غريب على نحو ما.»
رشف أندرياس من كأسه ثم قال: «بل أجد طعمها جيدا.» وزع يوهانيس قطعا من الخبز الأبيض وشرائح جبن. لم تستطعم فاندا الجبن، لكنها لم تقل شيئا هذه المرة.
جلسوا بعضهم إلى جوار بعض متلاصقين، وأخذوا يتأملون شمس الغروب الدافئة. كانت المدينة أسفل منهم تطل بجناحها الجنوبي، بانوراما يلفها السلام. وعلى أقصى اليسار فوق سلاسل منحدرات اللان ارتفع برج القيصر فيلهلم مثل عمود رفيع بين القباب الطبيعية المكسوة بالأشجار، تلاه جبل داميلزبيرج الذي أخفى أجزاء من مرأى القصر. تطلعت فاندا نحو أندرياس. «هل اتصلت بك الشرطة مرة أخرى؟» «هل كان عليهم أن يفعلوا؟» لكن بدا أن ذهنه شارد في مكان آخر.
قالت فاندا بإلحاح: «رغم كل شيء كانت ثمة آثار.» ثم تبعت نظراته نحو سلسلة الهضاب الغربية.
قال مستغرقا في تأملاته: «هناك في الأسفل على ربوة أوكيرهاوزن يمر شارع تجاري قديم في هيسن يسمى فاينشتراسيه.» «هل كان مخصصا للكروم فحسب؟» سألت بيترا وجلست ملتصقة به. «المقصود هو عربات الكارو القديمة التي كانت تستخدم منذ العصور الوسطى.»
تدخل يوهانيس ليقول: «في هذا الشارع قطن اللصوص، والرجال ذوو اللحى الطويلة الذين تفوح منهم روائح العرق والقذارة.» غمز لفاندا ثم أكمل: «كانوا يقودون عرباتهم بمحاذاة الشارع في الأيام التي تهطل فيها الأمطار بغزارة وتكون فيها الأرض قابلة للتشكل بسهولة، وفي مكان ملائم لا يمكن رؤيته من برج المراقبة يتركون الطريق الصحيح ليرسموا آثار خطاهم نحو كمين.» «مثل العصابات في ميامي.» قالت بيترا التي كورت نفسها على المفرش مثل الحلزون، وكانت نظرتها طفولية ولم ينقصها شيء سوى أن تمص إبهامها. «لا يبقى أمامهم سوى عدة أيام مشمسة في الصيف أو ليال قارسة البرودة في الشتاء، حتى تثبت الآثار المخادعة على الأرض الموحلة لتقود العربات المحملة بالبضائع في سلاسة نحو الأكمنة.» لمعت عينا يوهانيس وهو يحكي، فقال له أندرياس مستمتعا: «عليك أن تتقدم لوظيفة مرشد المدينة.»
بينما رد يوهانيس مدافعا عن نفسه: «يعجبني دور روبين هود أكثر، كذلك تروق لي التاجرة الذكية التي اكتشفت الخدعة في الوقت المناسب.» نظر يوهانيس إلى فاندا الآن بتركيز كبير وقال: «لقد لاحظت أن أمرا ليس على ما يرام، فقادت العربة خارج الممر الخطأ، وظلت تتعثر بقوة على الطريق الوعرة لدرجة أن محاور العربة أصدرت صريرا وعجلاتها أزت بصورة تهدد سلامتها، لكنها نجت.»
قالت بيترا مداعبة: «وعاشت في تبات ونبات ...» فأكمل يوهانيس الجملة: «وطارت إلى أفريقيا حيث الغابات والحيوانات.» ثم قرع نخب فاندا وقال: «في صحة جائزتك، أنت تتصرفين بشكل سليم؛ إذ تبتعدين بغنيمتك لتضعيها في مكان آمن، في حين نحن هنا لا نزال عاكفين على إزاحة آثارنا من الطريق الموحل.» سحبت فاندا رأسها إلى داخل رقبة ردائها.
تلعثمت حرجا وهي تقول: «إنك محق. في الواقع لم يكن يجدر بي أن أقبل الجائزة، فمثلها مثل البضاعة المهربة، في نهاية المطاف، لقد كان الإنجاز نتاج عمل الفريق.»
رد يوهانيس ضاحكا: «لا تقلقي. أنا أهبك إياها. حقا. في النهاية لست أنت سوى مجرد معطف يعلق عليه الوسام.» قضم رغيفه وأكمل وهو يمضغ «... أرجوك لا تغضبي مني، لكن لنكن واقعيين، الجائزة لا يستحقها أحد سوى رئيسنا، هو يعرف تماما من يجدر شكره عليها، ومن سيكون ممتنا له في المناسبة التالية.» مط يوهانيس وجهه إلى ابتسامة عريضة. «لقد قلتها لكم دوما: صديقك يكسب.»
قالت بيترا متحمسة: «لكنه لا يكسب شيئا إن حصلت فاندا على الجائزة.» بينما هزت فاندا رأسها. «أن تمنح أحدا جائزة لهو أرقى طريقة تسرحه بها، إنه لا يريد سوى أن أرحل.»
وضع يوهانيس شريحة جبن في فمه ومال برأسه قائلا: «لست واثقا من هذا تمام الثقة، فبالتأكيد فكر أنك قد تعيدين ضخ قيمة الجائزة في القسم مرة أخرى . صحيح أنه يستحق ألا تفعلي ذلك وتبتعدي بالمال، لكن إن يستقم له الحال فقد يحصل فعلا على جائزة ميتوزيلا الفئران.» «جائزة ماذا؟» سألت بيترا وهي تتجول ببصرها من واحد لآخر.
رد يوهانيس موضحا: «ميتوزيلا يعني جائزة فأر ميتوزاليم، عبارة عن أربعة ملايين ونصف من الدولارات تمنح للعلماء الذين في وسعهم إطالة أعمار فئران التجارب التي تعاني من الشيخوخة، لكن هذه الفئة من الجوائز تتخطى إمكاناتنا الحالية؛ لأن الفئران عاشت بالفعل مدة أطول من مدة تعاقداتنا في المعهد، لكن الذي ينجح في رعاية الفئران المسنة قد ضمن لنفسه حياة باذخة بعد المعاش.» «شتورم؟» هزت فاندا رأسها وقالت: «أنت تنشر الشائعات من جديد.»
لمعت عينا يوهانيس استمتاعا وهو يقول: «سترين، سيظل وراء هذا الموضوع حتى يفلح فيه.» كانت نبرته مقنعة، «شتورم يحتاج هذه الجوائز كل بضع سنوات لتغسل أعماله، إنها تعمل له عمل تأثير اللوتس. بعض الناس يرتدون هذه النوعية من السترات بالفعل، أنتم تعرفونها، تلك التي تحوي فقاعات كثيرة صغيرة الحجم. إن رئيسنا ينتمي إلى هذه الفصيلة، وحين تمطرينه بأموال الجوائز يساهم ذلك في إزالة الأوساخ عنه وكأنها لم تكن.»
ردت فاندا مستاءة: «شكرا على الزهور.» لقد ضربت كلمات يوهانيس وترا حساسا لديها، فمال هذه الجائزة يسمح لها هي أيضا أن تغسل ماضيها. «لا أعنيك أنت يا فاندا، أنا أتحدث عن شتورم، فالأمر عنده وراثي، يمت لجيناته بصلة.» ران صمت لوهلة. «جينات بالمصادفة.» أخذ أندرياس الكلمة وسأل: «هل عرفتم في هذه الأثناء السلسلة الجينية لمادة نانوسنيف؟»
أجابت فاندا في يأس: «ربما سيظل هذا الأمر سرا من أسرار الشركة.» «ربما يعرفها شتورم. في النهاية هو رتب كل شيء مع رئيس قسم علم الفيروسات، وعلى الأرجح أنهما اكتشفا الشفرة، لأنهما من قاما بالتحاليل آنذاك. لكن هذا موضوع لا يمكن الاقتراب منه، ولكي أكون صادقة، فأنا أيضا لم أعد أهتم بمعرفة الشفرة.»
قال يوهانيس بصوت منخفض: «إنها حالة كلاسيكية من الحماية المتبادلة. ما لا نعرفه لا يمكن أن يؤثر فينا.»
اعترض أندرياس قائلا: «ليس الأمر تماما هكذا. نحن على علم بالأثر وفي هذا ما يكفي للتحذير من المسألة.»
ردت فاندا وسألت: «إنها مسألة رخوة بصورة ما. لكن ما الذي قتل الفئران في النهاية؟ هل كان السبب هو الجين منفردا، أم كان ذلك الارتباط بين الجين وناقلات النانو هو الذي هيأ أولا البيئة القاتلة؟ المسائل متشابكة بعضها ببعض بدرجة معقدة لا تسمح بالحكم عليها بسهولة. نحن حتى لا نعرف مما تتكون ناقلات النانو، وما الذي يمكنها من اختراق الكائن الحي متجهة بدقة نحو هدفها.» أخذت تفكر ثم استطردت: «أسرار جزيئات النانو محمولة كلها على سطحها، وهذا هو الفرق بينها وبين عالمنا الكبير. نحن تعودنا أن نفض الأشياء وأن نفككها لكي نتعرف عليها ونفهمها، أما عالم الجزيئات متناهية الصغر فكله سطح وحسب، ليس ثمة ما يسمى بالنظر في بعد أعمق. نحن نتعامل هنا مع ظواهر حدية، تبدو للمرء أنها لا متناهية كلما زادت تشعباتها. لقد فقدت إحساسي بالاتجاه في هذه الأثناء.» «هذه هي اللحظة المناسبة لطرح الأسئلة.» سمعت أندرياس يقول، ثم رأت سيارة الشرطة ترتقي ببطء طريق الحقل. «ماذا يريد هؤلاء؟» سألت بيترا غاضبة وأخفت بسرعة زجاجة الشمبانيا في السلة. كانت سحابة من الغبار تتراقص خلف السيارة التي صارت تقترب منهم بلا تردد، وكان سائقها ينظر إليهم. «اللعنة.» فلتت من بين شفتي يوهانيس فاحمر وجهه.
سألت فاندا مداعبة: «هل تناولت شيئا؟» وعند برج الإرسال توقفت السيارة وخرج منها شرطيان، رجل وامرأة تعقص شعرها الأشقر خلف رأسها، فكرت فاندا في توماس وفي آثار مادة الذخيرة ذاتية التحلل، ربما أمسكوا به وصادروا جهاز الكمبيوتر الخاص به. انكمشت فاندا في بلوفرها.
قال يوهانيس هامسا: «أنتم لا فكرة لديكم، هل هذا واضح؟» «عم تتحدث؟» سألته فاندا بينما كانت نظراتها لا ترتفع عن الشرطيين. لقد دخل كلاهما إلى المرج وصارا يتقدمان نحوهم ببطء خلال العشب الطويل. ظل يوهانيس يتقلب على مؤخرته وقال: «نحن لم ندبر قط مناورة لتعطيل سفر شتورم.» زاد رعبه في كل خطوة اقترب فيها الشرطيان، وفجأة انهالت عليه بيترا. «لا أصدق، هل كانت الحقيبة بالمطار من بنات أفكارك؟»
صاح يوهانيس مزمجرا: «الزمي الصمت.» بينما مر شريط الصور أمام عين فاندا: حقيبة وحيدة في المطار، إنذار بوجود قنبلة، فرملة الطوارئ، هكذا سماها يوهانيس بنفسه. «من كان وراء الموضوع؟» سألت فجأة والشرطيان على بعد خطوات قليلة منهم. «كان تيد لا يزال مدينا لنا.» لم يقل المزيد لأن الشرطيين وقفا إلى جوارهما. كان شعر المرأة أشقر مثل الخبز الأبيض المقرمش بلا جدال، أما بشرتها المشربة بلون الورد، فكانت تضيء ببراءة تدعو للحسد. ظل زميلها وراءها بخطوتين. كان شخصا آخر غير ذلك الذي كان معها تلك المرة عند القصر.
أومأت ليديا فازا تجاه فاندا وأندرياس قائلة: «مساء الخير. لقد تعرفنا من قبل.» كانت تتحدث بحرفية عالية، لم يحر أحد جوابا، فنظرت الشرطية متسائلة من واحد لآخر. «هل تعرفون لماذا نحن هنا؟» أشارت الشرطية نحو مجموعة من الأشجار على حافة أحد الحقول، وأكملت: «لقد اتصل بنا الفلاح يشكو، أنا مضطرة أن أطالبكم بمغادرة المرج.» قفز أندرياس من فوره قائلا: «حالا، اعتبرينا غادرنا فعلا.» وبسرعة جمع الكئوس ووضعها مع الأطعمة في سلة النزهة. كان ثمة راية وردية تكسو صفحة السماء حين تابعت فاندا الشرطيين وهما يغادران ببطء ليستقلا سيارتهما. لقد حان وقت التقاط صورة أخيرة، فالتقطت هاتفها المحمول من جيبها وصوبت عدسته الصغيرة نحو يوهانيس الذي كان رابضا على الأرض على قوائمه الأربع بوجهه الأحمر حمرة السلطعون، ممسكا بطنه من فرط الضحك. كانت بيترا جالسة على ظهره وتقرعه بعنف بقبضتي يديها، بينما وقف أندرياس هنالك ممسكا السلة ناظرا نحو الجنوب. ستبعث بالصورة إلى زابينة. ومن مكان بعيد ترامى صوت محرك الجرار إلى أسماعها، فرفعت فاندا أنفها في مهب ريح الربيع وتشممت.
لكن لا شيء. لم تشم شيئا. لا شيء على الإطلاق.
ثبت المصطلحات
أذن البحر:
أحد أنواع القواقع التي توجد على السواحل الصخرية في المناطق الدافئة والمعتدلة من البحار.
أنابيب نانوية كربونية:
جزيئات كربون تتخذ شكل أنبوبة طويلة قطرها نانومتر واحد أو أكثر، وفي الأنابيب النانوية متعددة الجدران تتداخل عدة أنابيب بعضها في بعض.
إنتروبيا:
تعني تحولا أو تغييرا، وهي خاصية ثرموديناميكية يمكن من خلالها إدراك الانتقالات الحرارية والعمليات غير العكوسية في العمليات الثرموديناميكية حسابيا، فهي مقياس لتغير واضطراب نظام مغلق (سواء كان صلبا أو سائلا أو غازا) صيغ في القانون الثاني للديناميكا الحرارية منذ بداية القرن التاسع عشر، وطبقا لهذا القانون فإن الحرارة دائما - ما لم يؤثر عليها تأثير من خارج النظام - لا تنتقل إلا من الوسط الساخن إلى الوسط البارد، وتصل بذلك إلى الاتزان.
أندرياس جوردان:
عالم طبيعة ألماني قام بتطوير طريقة لعلاج السرطان باستخدام الحرارة المفرطة الناتجة عن مجال مغناطيسي، حيث تدخل جسيمات النانو لأكسيد الحديد في الخلايا السرطانية، وهناك ترفع درجة حرارة الجسيمات عن طريق مجال مغناطيسي، وبذلك تدمر الأورام.
أنفي فقط:
هذه طريقة تتعرض فيها فقط أنوف حيوانات التجارب لغازات وضبائب وأبخرة، خلافا لطريقة أخرى يتم فيها تعريض الجسم كله.
باحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه:
الأكاديمي الذي يعين في مجال البحث بشكل مؤقت بعد انتهائه من رسالة الدكتوراه.
بروتين فلوري أخضر (جي إف بي):
هو بروتين يوجد في قنديل البحر (إيكووريا فكتوريا)، ويشع بلون أخضر فلوري عند تعرضه لضوء أزرق أو للأشعة فوق البنفسجية. يتم ربط جين البروتين الفلوري الأخضر مع جين أحد البروتينات المراد فحصها، والذي يترجم بعد ذلك من الخلية (انظر أيضا: جين مراسل). وعن طريق إشعاع البروتين الفلوري الأخضر يمكن مراقبة التوزيع المكاني والزماني للبروتين الآخر في الخلايا الحية أو الأنسجة أو الأعضاء بشكل مباشر.
بصيلة شمية:
زائدة تقع على قاعدة الدماغ الأمامية متخذة شكل الكوز، وتتصل عبر الأعصاب الشمية بالظهارة الشمية للغشاء المخاطي الأنفي.
بونوا ماندلبرو:
عالم رياضي فرنسي، ولد في عام 1924، ويعتبر أحد واضعي «نظرية الشواش» (أو الفوضى) نظرا لأعماله التي أنجزها في نظرية الكسيرية (انظر النظرية الكسيرية) عام 1975.
بيلوباليد:
سيسكوتربينات توجد في أوراق شجرة الجنكو، ويستند تصور تأثيرها النافع لجسم الإنسان إلى ملاحظة أظهرت أن مستخلصات أوراق الكنجو يمكنها تقوية ذاكرة الفئران المتقدمة في السن.
تأثير اللوتس:
وصف عالم الأحياء فيلهلم بارتلوت تأثير اللوتس عام 1992 بأنه ضعف قدرة بعض الأسطح على الابتلال، وهذا يعتمد على مبدأ مشابه لما يحدث في زهرة اللوتس.
تايبان:
أحد أجناس الثعابين الأسترالية السامة جدا، والتي قد يصل طولها إلى ثلاثة أمتار.
تحليل بنية البلورات:
طريقة لتعيين ترتيب الذرات في بلورة ما، ويكون في الغالب باستخدام الأشعة السينية التي تحيد عن الشبكة البلورية في اتجاهات معينة، فينتج عن ذلك نموذج الحيود الذي يمكن من خلاله حساب بنية البلورة.
التنظيم الذاتي:
أحد مصطلحات نظرية الأنظمة، وضع في خمسينيات القرن العشرين لوصف الدخول التلقائي لتراكيب جديدة ومستقرة وفعالة، وأيضا دخول بعض السلوكيات في الأنظمة المفتوحة البعيدة عن الاتزان الثرموديناميكي، كتبادل الطاقة أو المواد أو المعلومات مع المحيط الخارجي.
التولد الذاتي اللابنيوي:
طبقا لنظرية التخلق المتوالي، فإن الكائن الحي يعيد تشكيل نفسه أثناء تطوره، حيث لا يكون التشكيل مسبقا في البويضة.
جان باتيست لامارك:
عالم نبات وحيوان فرنسي عاش في الفترة من 1744 إلى 1829، وهو صاحب نظرية التطور التي أيد فيها تصور توارث الصفات المكتسبة في الحياة، وفي كتابه «نظام اللافقاريات، أو جدول تصنيف الكائنات الحية» وضع لامارك تصنيفا للافقاريات يعمل به حتى الآن.
جسيم نانوي:
هو اتحاد ذرات أو جزيئات، قد تكون قليلة العدد، وقد يصل عددها إلى بضعة آلاف، ويتراوح حجم تلك الجسيمات بين 1 و100 نانومتر (حيث 1 نانومتر يعادل 10 −9
أمتار = 0,000000001 متر).
جيرهارد ريشتر:
رسام ألماني ذو شهرة عالمية، ولد في عام 1932، تشتمل أعماله العديدة على اتجاهات أسلوبية متنوعة، منها على سبيل المثال تقنيات الاغتراب في النماذج التصويرية.
جين مراسل:
هو الجين الذي يمثل تعبير جينات أخرى (انظر أيضا: بروتين فلوري أخضر).
حاجز دموي دماغي:
هو حاجز فسيولوجي بين الجهاز العصبي المركزي والدورة الدموية، حيث تقوم موصلات محكمة بين الخلايا الباطنية للأوعية الدموية بمنع مرور بعض المواد خلال السائل خارج الخلوي، ومن ضمن مهامها أيضا أنها تحمي المخ من مسببات الأمراض والذيفانات التي تدور في الدم.
خلو من العوامل الممرضة النوعية (إس بي إف):
مصطلح متداول عالميا لوصف الحالة الصحية لحيوانات التجارب التي تخلو من مسببات أمراض معينة.
خوارزمية:
مجموعة من الخطوات المحددة لحل مشكلة ما، حيث تستطيع الخوارزمية التوليدية أو الوراثية عن طريق الانتقاء والتركيب توليد العديد من الحلول الممكنة بصورة متكررة، ومن ثم التوصل إلى الحل الأمثل بما يناسب المتطلبات المطروحة (انظر أيضا: شبكة عصبونية).
ذبابة النمس:
إحدى فصائل الحشرات المنتمية كغيرها من الزنبوريات والنمليات والنحليات لرتبة غشائيات الأجنحة، وتعد أصغر حشرة بين الحشرات التي تنتمي لهذه الفصيلة، ويبلغ طولها 0,17 مليمتر، وعلى سبيل المقارنة فإن طول البراميسيوم وحيد الخلية يبلغ 0,33 مليمتر.
رهاب المياه المفرط:
حالة عدم القابلية للبلل بدرجة فائقة (انظر: تأثير اللوتس).
روبوتات النانو:
هي أجهزة دقيقة مستقلة، لا تزال افتراضية، ومن المفترض أن تستخدم في مجالات عديدة منها التقنية الطبية وهندسة الكمبيوتر.
ريتشارد فاينمان:
فيزيائي أمريكي ولد عام 1918 وتوفي عام 1988. شارك فاينمان في عمل القنبلة الذرية، وحصل على جائزة نوبل، ونشر له العديد من المقالات الهزلية والكتب، منها «محاضرات فاينمان في الفيزياء» والتي سعى فيها إلى نقل المعارف العلمية المعقدة بصورة مألوفة للمتلقي، وهو أول من استخدم مصطلح
Cargo-cult-science
أو العلم الزائف لوصف العلم الذي لا جدوى منه، وتعتبر خطبته الشهيرة «هناك حيز كبير في القاع» التي ألقاها عام 1959 هي الوثيقة التأسيسية لتقنية النانو.
ريتشارد فريدمان «كينكي»:
موسيقي ريفي، وأديب وسياسي أمريكي، ولد في عام 1944. تظهر بعض ملامح سيرته الذاتيه في روايات «كينكستر» البوليسية وهو الاسم الذي يطلقه على نفسه في كتبه.
ريموند كرزويل:
رجل أعمال ومؤلف كتب أمريكي، ولد في عام 1948، ويعتبر أحد رواد الذكاء الاصطناعي، وهو فرع من فروع تكنولوجيا المعلومات يهتم بأتمتة السلوك الذكي.
رئيس:
الشخص الذي يرأس هيئة أو لجنة أو يدير حدثا علميا.
زهرة اللوتس (نيلومبو نوسيفيرا):
إحدى فصائل النباتات المنتمية لعائلة اللوتس، والتي توجد في آسيا وأستراليا.
سهل التنظيف:
تقنية لصنع أسطح فائقة النعومة باستخدام تقنية «الغطاء» لتقليل تجمع جزيئات الأوساخ والمواد غير المرغوب فيها.
شبق:
يكون في موسم التناسل ، وهو وقت اشتداد النشاط الجنسي عند إناث الثدييات، حيث يحدث التبويض في مرحلة الشبق.
شبكة عصبونية:
الشبكة العصبونية قد تعني شبكة بيولوجية بين المخ والجهاز العصبي، أو نموذجا صناعيا يحاكي الشبكة العصبونية البيولوجية باستخدام الحاسوب للاستفادة من خصائص الشبكة العصبونية في التطبيقات البرمجية.
شجرة الحياة:
نموذج يمكن الاستعانة به في تمثيل العلاقات الارتقائية بين الأنواع المختلفة أو المتقاربة.
الضيائية البيولوجية:
إحدى صور الضيائية الكيميائية المنبعثة من كائن حي، حيث ينتج الضوء من تفاعل كيميائي في عضو أو جزء من أجزاء الجسم أو في الكائنات الحية التكافلية.
طب النانو:
مجال من مجالات الطب يدرس تسخير الجسيمات النانوية في تشخيص وعلاج أمراض معينة.
العلاج الحراري:
يستخدم لعلاج الأورام (انظر: أندرياس جوردان).
علم الوراثة اللاجيني:
علم يختص بدراسة آليات التخلق المتوالي التي لا تنتج عن تغيرات في تسلسل الدي إن إيه، وإنما تلك الآليات الناتجة عن تغير موروث في النظام والتعبير الجيني.
عنقود:
مصطلح شائع الاستخدام لا يمكن تعريفه إلا من خلال السياق الاختصاصي، وهو يعني هنا: مجموعة مواد أكبر من الجزيئات وأصغر من الجسيمات النانوية، ولا تحمل خصائص المواد الصلبة.
الفحص المجهري للشعيرات:
تقنية مجهرية لفحص الأعضاء الحية كالخلايا والأنسجة.
فوليرين:
ثالث متآصلات الكربون بالإضافة إلى الألماس والجرافيت (انظر أيضا: كرات بوكي، أنابيب نانوية كربونية).
قوى فان دير فالس:
قوى جذب ضعيفة نسبيا بين ذرات غير مشحونة أو جزيئات المادة.
كرات بوكي/فوليرين:
جزيئات كربون بيضاوية أو كروية الشكل يبلغ قطرها 0,7 نانومتر (انظر: فوليرين).
ما وراء الإنسانية:
حركة فلسفية تسعى إلى تغيير وتوسيع حدود الإمكانات والظروف الإنسانية باستخدام التقنيات الحديثة، سعيا إلى إمكانية تحسين الوجود الإنساني.
المادة السوداء:
منطقة في منتصف الدماغ تحتوي على تجمع من حوائط النواة (سيتوبلازما نواة الخلية العصبية)، وتظهر داكنة اللون بسبب تركيز الميلانين العالي فيها.
ماكرولون: (بولي كربونات) يتميز بصفات خاصة مثل الخفة والشفافية ومقاومة الكسر وثبات الشكل، ويستخدم في تقنيات التخزين الرقمية، وبناء العقارات، وصناعة السيارات، وفي أوعية حفظ الحيوانات في المعامل، وفي النظارات الرياضية والأقنعة التي تركب على الخوذات.
متلازمة توريت:
هو مرض عصبي نفسي يرجع سببه إلى اضطرابات الاستقلاب بالمخ، وسمي على اسم الطبيب الفرنسي لاتوريت.
مجموعة عمل (إي تي سي):
هي منظمة عالمية مقرها في كندا، تقوم بالتحليل وتوفير المعلومات عن التوجهات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، كما تسعى لحماية التعددية الثقافية والبيئية وحماية حقوق الإنسان.
مجهر ذري:
باستخدام هذا المجهر يمكن حساب الصورة الذرية لسطح موصل للكهرباء من التيار النفقي بين رأس المجس في الميكروسكوب وذرة سطح العينة.
مراجعة النظراء:
طريقة لضمان جودة الأبحاث والمشاريع العلمية بتقييمها من قبل متخصصين في نفس المجال، ويطلق عليهم نظراء.
مصفوفة دي إن إيه دقيقة:
تقنية بحث حيوية جزيئية تسمح بتحليل آلاف من تسلسلات النيوكليوتيدات (الجينات) على التوازي في أقل حيز.
معامل التأثير:
هي وحدة قياس يمكن عن طريقها المقارنة بين المجلات العلمية المحكمة، فتكون المجلة أرفع قدرا كلما زاد معامل التأثير لها، حيث يذكر معامل التأثير متوسط عدد مرات اقتباس إحدى المقالات من مجلة ما، وبهذا يكون المنشور داخل مجلة علمية ذات معامل تأثير كبير انعكاسا للتقدير الأكاديمي وفرص عمل الباحثين.
معمل على شريحة:
شريحة لتحليل كميات صغيرة من السوائل البيولوجية، وتندرج تحت الأنظمة المايكروية الكيميائية.
مناديل كيم الورقية المبللة:
مناديل منظفة خاصة لا تحتوي على وبر، وتصنع من الورق والسيليكون، وتستخدم في تنظيف شرائح الميكروسكوب الزجاجية والماصات المخبرية.
الموصدة أو جهاز التعقيم (أوتوكلاف):
جهاز يستخدم في معامل الأبحاث لتعقيم الأدوات والمستنبتات، حيث يعمل مثلما تعمل حلة الضغط على توليد بخار ماء ساخن تحت ضغط، فيكتسب البخار تأثيرا مطهرا مبيدا للجراثيم.
نادريان سيمان:
كيميائي أمريكي ولد عام 1945، وهو أحد مؤسسي تقنية الدي إن إيه النانوية، حيث صمم بالاستعانة بالأحماض النووية تراكيب مبتكرة يمكن إدخالها في المستقبل في الكثير من المجالات التقنية، من بينها رقائق الكمبيوتر.
النظرية الكسيرية:
جانب من جوانب نظرية الشواش (الفوضى) يهتم بدراسة أبنية هندسية مؤلفة من كسيريات متشابهة ومشابهة للجزء الأم، وهو ما يعرف بخاصية «التشابه الذاتي» التي يعتمد أساسها الرياضي على وجود أشكال هندسية ذات أبعاد تتضمن قيما غير صحيحة، مثل المجموعة التي ابتكرها ماندلبرو (انظر ماندلبرو)، حتى إنه لم تعد سعة أسطح تلك الأجسام - على سبيل المثال - محددة بشكل قاطع كما في الهندسة الكلاسيكية.
نقاط كمومية (كوانتوم):
جسيمات صلبة تبلغ عددا قليلا من النانومترات، وتكون جسيمات حرة أو جزرا مدمجة في أشباه الموصلات، وتسلك سلوك الذرات الاصطناعية.
نيوكليوتيد:
هو الوحدة الأساسية لبناء الأحماض النووية (دي إن إيه وآر إن إيه)، ويتكون من حمض فسفوريك، وسكر، وواحدة من البورين أو قواعد البورين، وأدينين، وسيتوزين، وغوانين، وثيمين، ويوراسيل.
نيوكليوسوم:
هو مركب من الدي إن إيه وبروتينات الهستونات، له أهمية وظيفية في بناء الهيتروكروماتين، وفي التضفير الجيني، وفي التفاف الدي إن إيه المفرط قبل الانقسام الفتيلي (انظر أيضا: هستونات).
هستونات:
بروتينات توجد في نواة الخلية، وهي مهمة - بصفتها أحد مكونات الصبغيات - لالتفاف حمض الدي إن إيه ولتعبير بعض الجينات (انظر أيضا: نيوكليوسوم).
هنري ديفيد ثورو:
أديب وفيلسوف أمريكي، وصف في كتابه «والدن، أو الحياة في الغابات» حياته البسيطه في الطبيعة بالقرب من بركة والدن بوند الواقعة في بلدة كونكورد بولاية ماساتشوستس، حيث عاش مستقلا مدة عامين، بادئا حياة قوامها الزهد والاقتصاد (انظر أيضا: والدن).
الواشي:
تعني المخبر الذي يتتبع الأعمال المخالفة للقانون والتظلمات والمخاطر المختلفة التي تحدث للموظفين في محل عمله.
والدن:
عنوان كتاب لهنري ديفيد ثورو صدر في عام 1854، واستخدمه سكينير عام 1948 في روايته «يوتوبيا» «والدن اثنين»، ثم روبن أرديلا عام 1976 في عنوان كتابه «والدن ثلاثة».
يوهانس فان دير فالس:
فيزيائي هولندي ولد عام 1837 وتوفي عام 1923، وهو الذي اكتشف التفاعل بين الجزيئات الذي أخذ اسم العالم فيما بعد «قوى فان دير فالس».
Page inconnue