Les lois psychologiques du développement des nations
السنن النفسية لتطور الأمم
Genres
وإذا ما اكتسب المبدأ شكلا نهائيا بعد دور طويل من التحسس والتعديل والتشويه والمناقشة والدعاية فدخل روح الجماعات، غدا عقيدة؛ أي إحدى تلك الحقائق المطلقة التي لا تحتمل الجدل، ويكون المبدأ إذ ذاك قسما من تلك المعتقدات العامة التي يقوم عليها كيان الأمم، وما يكتسبه المبدأ من صفة الشمول يوجب تمثيله دورا مهما، ولم تكن أدوار التاريخ الكبرى، كعصر أغسطس وعصر لويس الرابع عشر، إلا تلك الأدوار التي تستقر فيها المبادئ وتهيمن فيها على أفكار الناس بعد خروجها من أدوار التحسس والجدل، وهنالك تتألف من تلك المبادئ مناور ساطعة، فيصطبغ كل شيء تنيره بصبغة متماثلة.
وإذا ما تم النصر للمبدأ الجديد طبع أدق عناصر الحضارة بطابعه، ولا بد للمبدأ الجديد، لكي يعطي جميع نتائجه، من أن ينفذ روح الجماعات، ويهبط المبدأ من الذرى الذهينة التي نبت فيها إلى الطبقة التي تليها فإلى التي ما بعدها، مشوها معدلا بلا انقطاع، إلى أن يكتسب شكلا يلائم الروح الشعبية التي ستنصره، وهنالك يبدو المبدأ متجمعا في كلمات قليلة، وفي كلمة واحدة أحيانا، مثيرا صورا قوية مغرية أو هائلة، ومن ثم مؤثرة على الدوام، ومن تلك الكلمات: الجنة والنار في القرون الوسطى، ذانك المقطعان القصيران المحتويان قدرة سحرية على الإجابة عن كل شيء، وعلى تفسير كل شيء عند ذوي النفوس الساذجة. ومن تلك الكلمات: كلمة الاشتراكية، التي تمثل عند العامل المعاصر إحدى تلك الصيغ الساحرة الجامعة القادرة على قهر النفوس، وكلمة الاشتراكية هذه تثير بحسب الجماعات التي تنفذ فيها صورا متنوعة قوية على ما تنطوي عليه من تذبذب وعدم استقرار.
وتثير كلمة الاشتراكية في الفرنسي النظري صورة جنة يصبح الناس متساوين فيها، فينعمون بسعادة مثالية تحت إشراف الدولة المتصل؛ وتثير كلمة الاشتراكية في العامل الألماني صورة حانة دخنة تقدم فيها الحكومة لكل قادم أهراما عظيمة من الأمعاء المحشوة لحما، ومن الكرنب المخمر، ومما لا يحصيه عد من دنان الجعة مجانا. ومن المعلوم أن حالم الكرنب هذا أو حالم المساواة ذلك لم يشغل ذهنه بمعرفة المقدار الحقيقي للأشياء التي تتقسم ولا بعدد المقتسمين، فمن خواص المبدأ أن يفرض على النفوس بقوة مطلقة لا يؤثر فيها أي اعتراض كان.
وإذا ما تحول المبدأ إلى مشاعر وغدا عقيدة دام فوزه زمنا طويلا، وذهب كل عمل يأتيه العقل في سبيل زعزعته أدراج الرياح. ومما لا مراء فيه أن المبدأ الجديد يعاني أيضا ما عاناه المبدأ الذي حل محله، فيهرم ويميل إلى الزوال، غير أنه لا بد من أن يعاني قبل اندثاره التام أدوارا من المسخ والتحريف في عدة أجيال، ولكبير وقت يظل المبدأ قبل أن يموت بأسره جزءا من المبادئ الموروثة المسنة التي نصفها بالأوهام، ولكن مع الاحترام، وعلى ما لا يعود به المبدأ القديم غير كلمة أو صوت أو سراب تراه حائزا لقدرة سحرية يستمر بها على إخضاعنا لحكمه.
وهكذا يبقى تراث ما نرضاه بتقوى من مبادئ قديمة وآراء وعهود، ولا يقف أمام أي برهان إذا ما أردنا الجدال فيه مدة ثانية. ولكن ما عدد الرجال القادرين على الجدال في آرائهم الخاصة؟ ما أقل تلك الآراء التي تظل قائمة بعد بحث سطحي!
والخير في عدم الإقدام على ذلك البحث المخيف، ومن حسن الحظ أن كنا غير معرضين له، وإذا كانت روح النقد ملكة عالية نادرة إلى الغاية، وكانت روح التقليد ملكة منتشرة جدا يقبل معظم الأدمغة غير مجادل جميع ما يسفر عنه الرأي وما تنقله التربية من المبادئ المقررة.
وهكذا ترى للناس في كل جيل وعرق طائفة من الأفكار المتوسطة التي يتشابهون بها تشابها عجيبا بفعل الوراثة والتربية والبيئة والعدوى والرأي، تشابها تعرف به الدور الذي عاشوا فيه بإنتاجهم الفني والفلسفي والأدبي بعد أن تثقل وطأة القرون عليهم. أجل، لا يمكننا أن نقول إن بعضهم كان ينقل من بعض نقلا مطلقا، ولكن الذي كان مشتركا بينهم هو تماثلهم في طرز الإحساس والتفكير تماثلا يؤدي إلى إنتاجات متقاربة إلى الغاية بحكم الضرورة.
ولنا أن نفرح بذلك؛ وذلك لأن روح الأمة تتألف من شبكة التقاليد والمبادئ والمشاعر والمعتقدات وطرز التفكير، وقد أبصرنا أن متانة هذه الروح تكون بنسبة قوة تلك الشبكة، وتلك الشبكة وحدها بالحقيقة، ووحدها فقط، هي التي تمسك الأمم، وتلك الشبكة لا تنفك من غير أن يؤدي ذلك إلى انحلال هذه الأمم في الحال، وتلك الشبكة هي قوة الأمة الحقيقية وهي مولاها الحقيقي، ومما يعرض في بعض الأحيان كون الملوك الآسيويين طغاة أدلاؤهم أهواؤهم، وهذه الأهواء في الشرق هي بالعكس محصورة ضمن حدود ضيقة ضيقا عجيبا؛ ففي الشرق ترى شبكة التقاليد أقوى مما في أي بلد آخر، وفي الشرق تبصر أن المعتقدات الدينية المزعزعة كثيرا عندنا محافظة على سلطانها، وفي الشرق تجد أشد المستبدين جبروتا لا يصدم التقاليد والرأي لما يعرفة فيهما من قوة أشد من قوته.
ويجد الرجل المتمدن العصري الحديث نفسه في دور من أدوار التاريخ النادرة الخطرة التي يخسر فيها سلطانه ما هو أصل حضارته من المبادئ القديمة، وذلك من غير أن تتكون فيه مبادئ جديدة، فيباح الجدل فيه لهذا السبب، ولا بد من رجوع الباحث إلى أدوار الحضارات القديمة، أو الرجوع إلى الوراء قرنين أو ثلاثة قرون ليتبين ماذا كان نير العادة والرأي، وليعرف الثمن الذي كان على المبدع الجريء أن يؤديه إذا ما هاجم هاتين القوتين. وكان الأغارقة، الذين يعدهم بعض الجهلاء المتفيهقين من الأحرار، خاضعين لنير الرأي والعادة خضوعا وثيقا، وكان كل إغريقي محاطا بسور من المعتقدات التي لا تمس أبدا، وكان كل إغريقي لا يفكر في الجدل حول الأفكار المقررة معانيا إياها غير ثائر، ولم يعرف العالم الإغريقي الحرية الدينية ولا حرية الحياة الخاصة، ولا أي نوع من أنواع الحرية، حتى إن القانون الأثني لم يكن ليسمح للمواطن بأن يعيش بعيدا من المجالس، أو بألا يحتفل بأي عيد قومي احتفالا دينيا، وما كانت حرية العالم القديم المزعومة إلا وجها تاما غير شعوري لانقياد المواطن لمبادئ المدينة، وما كان لمجتمع يتمتع أفراده بحرية الفكر والسير أن يدوم يوما واحدا في حال نزاع عامة كالتي كانت تعيش فيها تلك الأمم، وتبصر في كل زمن أن ابتداء عصر انحطاط الآلهة والنظم والعقائد هو اليوم الذي تحتمل الجدال فيه.
وفي الحضارات الحديثة، حيث تجد المبادئ القديمة التي كانت أساسا للعادة والرأي قد تهدمت تقريبا، تبصر سلطانها على النفوس قد أصبح ضعيفا إلى الغاية، وهذه المبادئ انتهت إلى دور من البلى ما تغدو به من الأوهام، وتظل الفوضى سائدة للنفوس ما لم يحل مبدأ جديد محل تلك المبادئ، ولهذه الفوضى وحدها يسمح بالجدل، وما على الكتاب والمفكرين والفلاسفة إلا أن يشكروا للدور الحاضر، وأن يسرعوا إلى الاستفادة منه؛ لأنهم لن يروا عودته ثانية. نعم، إنه دور انحطاط على ما يحتمل، ولكنه من أزمنة التاريخ النادرة التي يكون التعبير عن الأفكار حرا فيها، ولا يدوم هذا الدور طويلا؛ فأحوال الحضارة الحديثة تسوق الأمم الأوربية إلى حال اجتماعية لا تحتمل الجدل ولا الحرية، والحق أن العقائد الجديدة التي يلوح ظهورها لا تستقر إلا بعدم قبولها أي نوع من أنواع الجدل، وببلوغها من عدم التسامح ما بلغته العقائد التي سبقتها.
Page inconnue