توطئة
التصوير الديني في الإسلام
مدرسة بغداد
المدرسة الإيرانية المغولية
عصر تيمور ومدرسة هراة
بهزاد ومدرسته
مدرسة بخارى
المدرسة الصفوية الأولى
المدرسة الصفوية الثانية
التصوير الإسلامي في تركيا
التصوير الإسلامي في الهند
خاتمة
توطئة
التصوير الديني في الإسلام
مدرسة بغداد
المدرسة الإيرانية المغولية
عصر تيمور ومدرسة هراة
بهزاد ومدرسته
مدرسة بخارى
المدرسة الصفوية الأولى
المدرسة الصفوية الثانية
التصوير الإسلامي في تركيا
التصوير الإسلامي في الهند
خاتمة
التصوير وأعلام المصورين في الإسلام
التصوير وأعلام المصورين في الإسلام
تأليف
زكي محمد حسن
توطئة
أتيح لنا أن نكتب في بعض أبحاثنا عن التصوير في الإسلام، فعرضنا لنشأته عند المسلمين في العراق والشام، ولتأثير أتباع المذهب المانوي وأتباع الكنيسة المسيحية الشرقية فيه، وأشرنا إلى النقوش والتزاويق التي عثر عليها في قصير عمرة ببادية الشام، وفي أطلال مدينة سامرا بالعراق. ولم يفتنا الكلام عن حكم التصوير في الشرع الإسلامي، فذكرنا أن القرآن لا يعرض له بشيء، وأن المحدثين ينسبون إلى النبي عليه السلام أحاديث تحرم تجسيم المخلوقات الحية أو تصويرها، ولكن بعض العلماء يشكون في صحة هذه الأحاديث، ويذهبون إلى أن النبي لم يكره التصوير ولم ينه عنه وأن الأحاديث لم تجمع إلا بعد وفاته بزهاء قرنين من الزمان، وأما هذه الأحاديث التي تحرم التصوير لا تمثل إلا الرأي الذي كان سائدا بين رجال الدين في القرن الثالث الهجري، وقد انتهينا من ذلك كله إلى أن التصوير كان مكروها في الإسلام.
وأكبر الظن أنه كان مكروها منذ عصر النبي عليه السلام، وأن الباعث على ذلك رغبة ملحة في حماية المسلمين من الأصنام والتماثيل والصور التي تقودهم إلى نسيان الخالق وإلى عبادة هذه الأشياء. فضلا عن أن رجال الدين كانوا يرون أن في تجسيم المخلوقات الحية أو تصويرها تقليدا للخالق عز وجل، يجب النهي عنه.
ورأينا أن كراهية التصوير كانت عامة بين رجال الدين من سنيين وشيعة، ولكن تعاليمهم في هذا الشأن لم تكن متبعة في كل العصور ولا في كل البلاد. ولاحظنا أن صناعة التصوير ازدهرت في بعض أنحاء العالم الإسلامية، ولا سيما في الأقاليم التي كانت لها تقاليد فنية عظيمة في النحت والتصوير كإيران، وفي البلاد أو الأسرات الحاكمة التي تأثرت بما أنتجته إيران في هذا الصدد كالهند وتركيا والدولة الفاطمية. وقد أشرنا في هذا الصدد إلى ما يذكره بعض العلماء من أن الشعوب الإسلامية التي لم تكن سامية الأصل، كانت أكثر الشعوب الإسلامية مخالفة لتعاليم رجال الدين المسلمين في كراهية التصوير، لأن أكثر العلماء يحسبون أن الشعوب السامية كانت تحس شعورا نفسانيا يبعدها عن التصوير وكانت تنسب إلى الصور والمجسمات أخطارا وشرورا جمة، ولم يكن لها في ميدان النحت والتصوير أساليب فنية ورثتها عن الشعوب القديمة التي كانت تمت إليها بصلة القرابة أو الجوار.
وقد ذكرنا أن كره النحت والتصوير في الإسلام جعل الفنانين ينصرفون إلى ممارسة ضروب أخرى من الزخرفة بعيدة عن تجسيم الطبيعة أو تصويرها. وقد وفقوا في ذلك كل التوفيق. وأحدثوا في ميدان الرسوم والزخارف عناصر نباتية نسبت إليهم، فصارت تعرف في الاصطلاح الفني باسم «أرابسك».
وقصارى القول أن الفن الإسلامي تخلى بخضوعه لتحريم التصوير في ميدانين عظيمين من ميادين العبقرية الفنية التي امتازت بها الفنون الأخرى، ولا سيما فنون الغرب التي ورثت الأساليب الفنية الإغريقية. هذان الميدانان هما النحت وتصوير اللوحات الفنية على النحو الذي نعرفه في الفنون الأوروبية وفنون الشرق الأقصى. فالتصوير الذي ازدهر في إيران وتركيا والهند كان في أكثر الأحيان موقوفا على توضيح الكتب وتزيينها، سواء في ذلك الكتب العلمية أو كتب التاريخ والأدب ودواوين الشعر وكانت له أساليب فنية اصطلاحية تجعله ميدانا في التصوير قائما بذاته.
وفضلا عن ذلك فإن المساجد والأضرحة والعمائر الدينية عموما، وكل ما يتصل بها من أثاث، وكذلك المصاحف، انصرف الفنانون في زخارفها عن رسوم الكائنات الحية فصارت لا صور فيها ولا تماثيل يستعان بها على توضيح تاريخ الدعوة وشرح العقائد الدينية وسيرة أبطال الملة كما كان الحال في مذهب المانوية أو البوذية أو في الدين المسيحي. وإن يكن بعض الباحثين قد عثروا على مصحف فيه بعض الصور
1
فإن مثل هذه الحالة نادرة جدا فضلا عن أن هذا المصحف لا يرجع إلى العصور الوسطى، وإنما هو من القرن التاسع عشر، ويمكن تبريره ببعض التأثير والتسامح الديني الذي نتج من اختلاط الغرب بالشرق ومن البعثات الإيرانية في أوروبا.
التصوير الديني في الإسلام
ولكننا لا نستطيع أن ننفي قطعيا وجود أي تصوير ديني في الإسلام، فإن بعض المصورين الإيرانيين عمد إلى حياة النبي وإلى بعض الحوادث الجسام في تاريخ الإسلام فاتخذ منها موضوعات لصور كانت تشتمل في بعض الأحيان على رسم النبي
صلى الله عليه وسلم . بيد أن هذه الصور نادرة جدا، ولم تحز رضاء رجال الدين في يوم من الأيام، بل إن أكبر الظن أنهم كانوا لا يعلمون عنها شيئا، وإلا لما قدر لها أن تعيش بما فيها من تحد مضاعف، بالتصوير في حد ذاته، وبتصوير النبي نفسه فضلا عن ذلك.
ومهما يكن من شيء فقد تكون أقدم صورة للنبي جاء ذكرها في كتب التاريخ، تلك التي رآها في الصين تاجر عربي اسمه ابن هبار، زار تلك البلاد في القرن التاسع الميلادي فأطلعه ملكها على صور كثيرين من الرسل منهم نوح في السفينة ينجو بمن معه، ثم موسى وعصاه ببني إسرائيل، ثم عيسى وقد ركب حمارا والحواريون معه، ثم محمد
صلى الله عليه وسلم
وقد ركب جملا وأصحابه محدقون به، وفي أرجلهم نعال عدنية من جلود الإبل وفي أوساطهم حبال الليف قد علقوا فيها المساويك. ولسنا نعرف هل كانت هذه الصور من صناعة فنانين صينيين أو مسلمين أو من المسيحيين النساطرة، الذين كانت منهم جالية في الصين منذ القرن السابع الميلادي.
أما أقدم الصور الدينية في المخطوطات الإسلامية فواردة في مخطوط من كتاب جامع التواريخ لرشيد الدين، جزء منه محفوظ في الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، والجزء الآخر في مكتبة جامعة إدنبرة. والمعروف أن الوزير رشيد الدين
1
كان عالما جليلا ومؤرخا كبيرا بذل الجهود الكبيرة في تصنيف كتابه «جامع التواريخ» وجلب إلى تبريز عددا عظيما من المصورين لتوضيح مخطوطات كتابه وتزيينها بصور يبدو فيها تأثير الأساليب الفنية الصينية والمغولية والمسيحية والهندية. وقد صور لنا أحد هؤلاء الفنانين أو بعضهم، بضع صور تمثل حوادث مشهورة في السيرة النبوية، فترى إحداها تمثل صورة ميلاد النبي
صلى الله عليه وسلم
وقد كتب عليها: «ولادت همايون بادشاه كائنات عليه السلام» كما نرى في صورة أخرى الراهب بحيرا أمام النبي يرى فيه أمارات النبوة ويفطن إلى ما سيكون له من عظيم الشأن.
ونشاهد النبي في صورة ثالثة يهم بأن يرفع بيديه الحجر الأسود ليضعه في جدار الكعبة، حين اختلف زعماء قريش أيهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان وحكموا محمدا فطلب ثوبا وضعه فيه بيده وأشار على كبير كل قبيلة أن يأخذ بطرف من أطراف الثوب فحملوه جميعا إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء ثم رفعه النبي ووضعه في مكانه. كما نرى صورة رابعة تمثله عليه الصلاة والسلام جالسا في غار حراء يتلقى الوحي، ونجده في صورة خامسة مع أبي بكر بالغار في طريقهما إلى يثرب.
وثمة مخطوط من كتاب الآثار الباقية للبيروني محفوظ في جامعة أدنبرة وبه صور أخرى للنبي
صلى الله عليه وسلم
ويرجع تاريخ هذا المخطوط إلى سنة 707ه. ومما يستوقف النظر في صورة أن رأس النبي تحيط بها هالة على النحو المعروف في صور المسيح والقديسين. على أن هذه الهالة فقدت معناها في الفنون الإسلامية، فلم تعد تدل على قدسية ما، وإنما استخدمها الفنانون لتعيين أخطر الأشخاص شأنا في الصورة، من سلطان أو أمير أو ذي حيثية أو ما إلى ذلك. وهناك هالة من نور يشع إلى الجوانب، استخدمها الإيرانيون لمحمد وللرسل، واستخدمت عند الشيعة عامة حول رأس الإمام علي أيضا، بينما نرى في الصورة الهندية هالة مستديرة يرسمها الفنانون حول رؤوس الملوك والأمراء وبعض القديسين.
وهناك مخطوط آخر من كتاب روضة الصفا لميرخواند يرجع إلى سنة 1003ه/1595م وفيه صور بعض حوادث السيرة النبوية، ومنها أسطورة شق صدر النبي وهو يقيم في البيداء عند مرضعته حليمة السعدية، وهي الأسطورة التي تستند إلى المعنى الحرفي للآية القرآنية:
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك ، وفي هذا المخطوط صورة أخرى تمثل موت أبي جهل في معركة بدر، وثالثة تمثل تحطيم النبي الأصنام في البيت الحرام بعد فتحه مكة، ورابعة تمثل حادث غدير خم وهو الذي يقول الشيعة أن النبي أوصى فيه بأسرته بعد حجة الوداع وأعلن أن سيدنا عليا سيكون خليفة له.
وفضلا عن ذلك فإن بعض المؤلفات المتنوعة في قصص الأنبياء كان يشتمل على صور النبي، وقد وصل إلينا مخطوطان منها، وفي كل منهما صورة تمثل أول لقاء بين النبي والسيدة خديجة. وهناك صور في بعض مخطوطات أخرى، وتمثل النبي عليه السلام جالسا بين فريق من الصحابة وأهل البيت.
ومهما يكن من شيء فقد كثرت في إيران منذ القرن السادس عشر الصور التي تمثل النبي وسيدنا عليا والحسن والحسين، وترى في بعضها حول رأس النبي هالة من الأشعة يغلب على الظن أنها منقولة عن الهالة التي كانت ترسم حول رأس بوذا في الفن الهندي.
على أن أكثر الصور التي جاء فيها رسم النبي
صلى الله عليه وسلم
لا تظهر فيها ملامح وجهه بل نرى عليه نقابا يحجبها اللهم إلا في الصور القديمة. بل إن بعض الصور المتأخرة كان يكتفى فيها برسم النبي على شكل مجموعة من الأشعة بدون جسم أو رأس. ففي المكتبة الأهلية بباريس مخطوط من كتاب فارسي منظوم في سيرة النبي والخلفاء الراشدين ومؤرخ من سنة 1078ه/1632م وفيه صورة للنبي من هذا النوع.
وقد رسم المصورون المسلمون في بعض الأحيان صورا لأنبياء آخرين، ولا سيما سيدنا عيسى عليه السلام. ومن المرجح أنهم كانوا في مثل هذه الحالة يتأثرون بصور هؤلاء الأنبياء في المخطوطات المسيحية والمزدكية، لأن هذا التأثير ظاهر في أكثر الصور التي وصلتنا من هذا النوع، بل إننا نكاد نراه في كل الصور التي تتفق مناسباتها في الديانتين المسيحية والإسلامية. وأما إذا كان ما يراه المسلمون في هذا الشأن يخالف ما يراه الدين المسيحي، فإن الفنانين المسلمين يراعون تعاليم دينهم. ومن أمثلة ذلك بيان المحل الذي ولد فيه السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، إذ إن القرآن لم يذكر ولادته في أخور، وإنما جاء في سورة مريم من القرآن الكريم:
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .
وهكذا نرى أن كراهية التصوير في الإسلام لم تمنع من ازدهار التصوير على يد الإيرانيين والهنود والترك بل لم تمنع المصورين من رسم بعض الموضوعات الدينية بغير أن يتخذوا التصوير وسيلة لشرح عقائد الدين الإسلامي وبغير أن يكون للفنانين المسلمين ما كان للفنانين المسيحيين من شعور بأنهم دعامة من دعائم الكنيسة، وبأن منتجاتهم تساعد على بعث روح الصلاح والتقوى في بني دينهم، والمعروف أن بعض النقاد في الفنون الغربية يشكون من هذا الاتصال الوثيق الذي كان بين الفنانين والكنيسة حتى غلب على منتجاتهم الطابع الديني إلى عصر غير بعيد. أما في الإسلام فإن العكس صحيح، إذ كان رجال الفن منبوذين من رجال الدين.
وقد كان لكراهية التصوير في الإسلام صداها في المسيحية في فترة من الزمن إذ لا ريب في أنها كانت الأساس الذي قامت عليه حركة كاسري الصور
iconoclasts
عند المسيحيين في القرن الثامن الميلادي. وقد فطن إلى ذلك رجال الدين الذين عقدوا مجمع نيقية سنة 787 وشجبوا الحركة المذكورة قائلين إن خلع الصور من جدران الكنائس وكسر التماثيل كان مأخوذا عن المسلمين.
مدرسة بغداد
كان للمسلمين إذن تصوير ليس لنا أن نقارنه بالتصوير في الفنون الأخرى لأنه وحيد في بابه. وعلى الرغم من أن الصور الإسلامية كانت كثيرة التشابه فقد نشأت في الإسلام طرز أو مدارس في التصوير، لها مميزاتها، ويمكن أن يفرق ذوو الإلمام بالفنون الإسلامية بين منتجات كل مدرسة من هذه المدارس. فالصور التي تنسب إلى مدرسة العراق أو مدرسة بغداد موجودة في بعض مخطوطات الكتب القديمة العربية أو الفارسية ألفت أو ترجمت في العلوم والطب والحيل الميكانيكية، ككتاب الحيل الجامع بين العلم والعمل للجزري، وكتاب عجائب المخلوقات للقزويني، كما نجدها أيضا في بعض مخطوطات الكتب الأدبية ككليلة ودمنة ومقامات الحريري. وكانت منتجات هذه المدرسة العراقية شرحا للمتن أو إيضاحا له. وكانت نشأتها على يد فنانين من أتباع الكنيسة المسيحية الشرقية أو من المسلمين الذين تأثروا بأساليبهم الفنية أشد التأثير، بعد أن أخذ المسلمون الفنون والصناعات عن أهل الأمم التي فتحوها، وعلى كل حال فإن المدرسة العراقية في التصوير الإسلامي تمتاز بأنها عربية أكثر منها إيرانية، فالأشخاص في منتجاتها تلوح عليهم مسحة سامية ظاهرة، وتغطي وجههم لحى سود فوقها أنوف قنسي، وكثيرا ما نرى في الصور التي توضح حيل أبي زيد السروجي في مقامات الحريري شيئا كثيرا من دقة التعبير والمهارة في تصوير الجموع. وتمتاز منتجات هذه المدرسة بأكاليل النور التي يرسمها الفنانون حول رؤوس الأشخاص، وبالملابس المزركشة والمزينة بالأزهار، وبالطريقة الاصطلاحية البسيطة التي ترسم بها الأشجار، وبالملائكة ذوي الأجنحة المدببة، وأكثر هذه الأساليب الفنية مأخوذ عن الصور التي كان يرقمها أتباع الكنيسة المسيحية الشرقية في الشرق الأدنى.
ولم يصل إلينا من أسماء الفنانين الذين قامت على أكتافهم هذه المدرسة إلا اثنان: هما عبد الله بن الفضل ويحيى بن محمود بن يحيى بن الحسن الواسطي. والواقع أن الفنون الشرقية عامة لم تنم فيها شخصيات الفنانين تمام النمو، ولم يشعر أكثرهم بحقهم الطبيعي في الافتخار بما تصنع أيديهم، وذلك بتسجيل أسمائهم على منتجاتهم، ولذلك فإن لدينا عددا وافرا من التحف الإسلامية المتقنة الصنع الجميلة الزخرف، والتي بذل صانعوها الجهود الوافرة في سبيل إخراجها بغير أن يفطنوا أو يسمح لهم بالتوقيع على هذه الآثار الفنية. ومن ثم فقد كانت دراسة الفنون الإسلامية غير يسيرة لعدم توافر العناصر اللازمة لتقسيم التحف بحسب صناعها وأساليبهم في الصناعة، اللهم إلا في بعض النواحي كالتحف المعدنية المصنوعة في الموصل، أو مثل بعض الخزف المصري من عصري الفاطميين والمماليك، أو في كثير من الصور الإيرانية والهندية منذ القرن السادس عشر.
ومهما يكن من شيء فإن عبد الله بن الفضل كتب وصور سنة 619ه/1222 ميلادية مخطوطا من كتاب خواص العقاقير، فيه نحو ثلاثين صورة تناولتها أيدي التجار فوزعتها بين المتاحف والمجموعات المختلفة، وقد رأينا خمسة منها في معرض الفن الإيراني بلندن سنة 1931، كما أن كثيرا من صور هذا المخطوط مرسوم في المؤلفات المختلفة عن الفنون الإسلامية.
وعلى كل حال فإن أشهرها صورة رجلين كل منهما تحت شجرة وبينهما وعاء يحركه أحدهما بعصا في يده وتمثل هذه الصورة صناع الرصاص. وهناك صورة أخرى في المتحف المتروبوليتان بنيويورك تمثل طبيبا يحضر الدواء للسعال، كما أن في متحف اللوفر بباريس صورة أخرى تمثل طبيبا يحضر دواء. ومهما يكن من شيء فإن التأثير البوزنطي ظاهر في كل هذه الصور التي رقمها عبد الله بن الفضل، فأكبر الظن أنه كان تلميذا لفنان مسيحي في العراق، وليس ببعيد أنه كان مسيحيا اختار الإسلام وتسمى باسم عبد الله كما يفعل أغلب المسيحيين الذين يعتنقون الدين الإسلامي.
أما الفنان الثاني الذي اشتهر في المدرسة العراقية فيحيى بن محمود بن يحيى بن الحسن الواسطي وقد كتب سنة 634ه/1237م مخطوطا من مقامات الحريري محفوظا الآن في المكتبة الأهلية بباريس، وفيه زهاء مئة صورة لتوضيح الحكايات التي يرويها الحارث بن همام عن حيل أبي زيد السروجي ونوادره. ولا ريب في أن هذه القصص والرسوم التي توضحها صور للحياة الاجتماعية في ذلك العصر وسجل يمكن أن تستنبط منه البيانات الكثيرة عن العادات والملابس فيه.
وفي دار الكتب المصرية مخطوط به صور من المدرسة العراقية وهو كتاب البيطرة وفي آخره أنه كتب في بغداد سنة 605ه/1209م ويشتمل هذا المخطوط على تسع وثلاثين صورة منقوشة ومذهبة ويسودها اللون الأخضر والأزرق والوردي، وأهم موضوعات هذه الصور رسوم الخيل وحدها أو مع سواسها. وعلى كل حال هي صور ابتدائية ليس فيها من قواعد الفن وأصوله شيء كثير. ولكن خطر شأن هذا المخطوط يرجع إلى أنه من أقدم المخطوطات الإسلامية المصورة.
المدرسة الإيرانية المغولية
ثم ازدهرت في التصوير الإسلامي الإيراني مدرسة أخرى في القرنين الثالث عشر والرابع عشر حين كانت أخطر مراكز صناعة التصوير تبريز وبغداد وسلطانية. أما تبريز في إقليم أذربيجان فقد كانت عاصمة الأمراء المغول في الصيف، بينما كانت بغداد مقرهم في الشتاء بعد أن فتحوها سنة 1258، وكانت سلطانية إحدى مدن العراق العجمي التي أعجب بها كثيرون من أمراء المغول. وكانت هناك مراكز أخرى كسمرقند وبخارى، ولكن صيت هاتين المدينتين إنما ذاع في العصر التالي - عصر تيمور وخلفائه - على الخصوص.
ولا يجب أن ننسى حين ندرس أية ظاهرة من الظواهر الفنية في عصر المغول أن العلاقة كانت وثيقة في عصرهم بين إيران وبين الشرق الأقصى، إذ إن الأسرتين اللتين كانتا تحكمان في الصين وفي إيران طوال القرنين الثالث عشر والرابع عشر أسرتان مغوليتان تجمعهما روابط الجنس والقرابة. وفضلا عن ذلك فإن المغول عندما استوطنوا إيران استصحبوا معهم عمالا وصناعا وتراجمة من الصينيين. ولذا فإننا نشاهد أن أساليب الشرق الأقصى واضحة في الفنون الإيرانية منذ عصر المغول، ونرى على الخصوص أن الإيرانيين حين عرفوا منتجات الصين في الرسم والتصوير استطاعوا الانصراف عن أساليب المدرسة العراقية وساروا في طريق خاص تطور تطورا طبيعيا حتى وصل إلى القمة في عصر الدولة العباسية.
وهكذا نرى أن المدرسة المغولية هي أولى المدارس الإيرانية الصحيحة في التصوير الإسلامي. ولكن عصر المغول كان قصير الأمد وكان مملوءا بالحروب، ولذا فإن منتجات المصورين فيه لم تكن كثيرة، أو لم يصل إلينا منها على الأقل إلا شيء يسير. ولم تتميز هذه الآثار الفنية بالرقة والأناقة التي نراها في منتجات العصر التيموري أو العصر الصفوي، وإنما كان أكثرها مناظر قتال توضيحا للكتب في التاريخ أو في القصص الحربي، أو مناظر تمثل أمراء المغول بين أفراد أسراتهم وحاشيتهم.
ومهما يكن من شيء فإن عصر المغول لم يكن أول عهد الإيرانيين بأساليب التصوير عند الصينيين، فقد كان المسلمون عامة يعجبون بمهارة الصينيين والروم في التصوير ويذكرون أن المصور الرومي أو الصيني يستطيع أن يفرق في صوره بين مراحل العمر المختلفة وبين الحالات النفسية المتنوعة، فيمكنه أن يميز ضحكة الشامت من ضحكة المسرور وما إلى ذلك. ويروى أن رودكي أول شعراء الفرس كتب ترجمة شعرية باللغة الفارسية لكتاب كليلة ودمنة قدمها للملك نصر بن أحمد الساماني (في القرن العاشر الميلادي) واستدعى نصر بعض المصورين الصينيين لتزيين مخطوطاتهم بالصور التوضيحية. ولكن هذا الحادث لم يكن له صداه ولم تقم في إيران - على ما نعلم - مدرسة إيرانية في التصوير حتى عصر المغول.
ونلاحظ أن المغول كانت لهم شهرة سيئة في تخريب المدن وسفك الدماء، ومع ذلك فقد كانوا يبقون على الفنانين ويستخدمونهم، فلا غرو أن كان عصرهم عصر ازدهار نسبي في الفنون ولا سيما في التصوير وصناعة الخزف. ولعل لذلك أوثق الصلات بثقافتهم الصينية، لأن اتصال العالم الإسلامي بالشرق الأقصى زاد في عصرهم زيادة كبيرة، وإن كان صحيحا أن هذا الاتصال يرجع إلى فجر الإسلام. وقد كتب أحد المؤلفين الصينيين في القرن الثامن الميلادي أن كثيرا من الصناع المسلمين في الكوفة كانوا يتعلمون من الصينيين النقش والتصوير والنسج وصناعات التحف الذهبية والفضية.
وعلى كل حال فإن أثر الفن الصيني في صور المدرسة المغولية الإيرانية يتجلى في سحنة الأشخاص، وفي صدق تمثيل الطبيعة، ورسم النبات بدقة تبعد عن الاصطلاحات الوضعية التي عرفناها في المدرسة العراقية، كما يتجلى كذلك في مراعاة النسب ودقة رسم الأعضاء في صور الحيوان. وفضلا عن ذلك فقد استعار الفنانون الإيرانيون من فنون الشرق الأقصى بعض الموضوعات الزخرفية، ولا سيما رسوم السحب (تشي) ورسوم بعض الحيوانات الخرافية التي امتاز الفن الصيني بها.
ومما نلاحظه في صور هذه المدرسة تنوع في غطاء الرأس، فللمحاربين أكثر من خوذة، وللنساء قلنسوات مختلفة بعضها يزينه ريش طويل، وللرجال ضروب شتى من القلنسوات والعمائم. وأكثر صور هذه المدرسة موجود في مخطوطات الشاهنامة وكتاب جامع التواريخ للوزير رشيد الدين المتوفي في بداية القرن الرابع عشر والذي تروي المصادر التاريخية أنه أسس ضاحية لمدينة تبريز سماها باسمه واستخدم فيها خطاطين وفنانين لنسيج مؤلفاته وتوضيحها بالصور.
عصر تيمور ومدرسة هراة
ازدهرت المدرسة التيمورية ومدرسة هراة في نهاية القرن الرابع عشر وفي القرن الخامس عشر، وكان أهم مركز لفن التصوير في عصر تيمور مدينة سمرقند التي اتخذها هذا العاهل مقرا لحكمه منذ سنة 1370 وجمع فيها أشهر الفنانين وأصحاب الصناعات الدقيقة، ولكن تبريز وبغداد ظلتا أيضا من مراكز هذا الفن.
وأما في عهد ابنه شاه رخ فقد أصبحت هراة محط رجال الفنانين وميدان عملهم. وقد كان تيمور محبا للفن والأدب، على الرغم من شذوذه وفظاظته، بينما كان ابنه شاه رخ من أشد ملوك الفرس عطفا على الفن والفنانين فلا غرو أن كان الفن في عصر تيمور وخلفائه اجتاز مراحل الاقتباس والاختيار من الفنون الأجنبية والتأثر بها، ووصل إلى عنفوان شبابه، وأصبح ما نقله عن غيره من الفنون جزءا لا يتجزأ منه.
وطبيعي أن عصر تيمور نفسه شهد مرحلة الانتقال من المدرسة الإيرانية المغولية إلى مدرسة هراة كما يظهر من مخطوطين محفوظين في المتحف البريطاني. وأخطرهما شأنا نسخة من قصائد خواجو كرماني في الحديث عن غرام الأمير الإيراني هماي بهمايون ابنة عاهل الصين. وقد كتبت هذه النسخة بقلم الخطاط الإيراني المشهور مير علي التبريزي في بغداد سنة 799ه/1396م. وقد جاء في إحدى صور هذا المخطوط إمضاء المصور الإيراني جنيد السلطاني الذي كان في خدمة السلطان أحمد من السلاطين الجلائيريين ببغداد. وقد كان الجلائيريون أسرة مغولية سادت العراق في القرن الرابع عشر واشتغل أحد أمرائها - وهو السلطان أويس - بالتصوير وكان له فيه شأن يذكر.
ومهما يكن من شيء فإن الصور التي ترجع إلى نهاية القرن الرابع عشر تظهر فيها أهم الزخارف والأساليب الفنية التي صارت في القرن التالي من أخص مميزات التصوير الإيراني في مدرسة هراة.
وأهم هذه الأساليب الفنية مناظر الزهور والحدائق، وآثار فصل الربيع، ثم الألوان الساطعة التي لا يكسر من حدتها تدرج ما، ثم الأشجار الطبيعية ذات الجبال والتلال المرسومة على شكل الأسفنج . وفضلا عن ذلك فإن الفنانين استطاعوا الوصول إلى نسب معقولة بين الأشخاص المرسومين في الصورة وبين ما يحيط بهم من عمائر ومناظر.
ومن مقتنيات دار الكتب مخطوط نفيس من كتاب الشاهنامة للفردوسي (رقم 73 تاريخ فارسي) كتبه لطف الله بن يحيى بن محمد في شيراز سنة 796ه/1393م، وفيه صحيفة مزخرفة وسبع وستون صورة تختلف في قيمتها الفنية، فبعضها لم يكمل بعد، والبعض الآخر أعيد بالألوان على أجزاء منه في عصر متأخر، أو نقش كله من جديد.
وعلى كل حال فإن العصر الذهبي للتصوير الإيراني إنما يبدأ في عهد خلفاء تيمور ابنه شاه رخ وحفدته بيسنقر وإبراهيم سلطان وإسكندر بن عمر شيخ، إذ أصبحت للصور الإيرانية في عصرهم ذاتية قوية تمثل روح الفن الإيراني، بعد أن هضم كل ما استعاره من أساليب الفنون في الشرق الأقصى.
ومما ساعد على كثرة الإنتاج وإتقان الصور في عصر خلفاء تيمور أن الدولة كانت مقسمة إلى أقاليم مختلفة يحكمها أمراء لهم نصيب وافر من الاستقلال ولهم حاشية وبلاط كما للعاهل الأكبر الذي كان يشرف على إدارة القطر كله، ولذا فقد نشأت مراكز فنية عديدة كانت تتنافس في سبيل النهضة بالفنون ولا سيما التصوير.
وقد أسس شاه رخ مكتبة في مدينة هراة التي أصبحت في عصره أخطر مراكز التصوير شأنا. ثم جاء ابنه بيسنقر فأنشأ مكتبة أخرى ومجمعا للفنون استقدم إليه أعلام الخطاطين والمذهبين والمصورين والمجلدين فانتقلت صناعات التصوير والتذهيب من تبريز وسمرقند وشيراز إلى هراة.
ومن المصادفات التاريخية التي ساعدت على نمو الروابط بين الصين وإيران أن سقوط أسرة المغول في إيران سنة 1336م تبعه بعد فترة قصيرة سقوط أسرة يوان المغولية في الصين وقيام أسرة منج التي حكمت من سنة 1368 إلى 1644 فكان طبيعيا أن ينشأ الود المتبادل بين الأسرتين الجديدتين بعد نجاحهما في تقويض نفوذ المغول. وتبودلت البعثات بين الصين وإيران في عصر شاه رخ وبيسنقر. ومن الذين أوفدوا في إحدى هذه البعثات بيسنقر مصور اسمه غياث الدين، كلفه عاهل إيران أن يصف كل ما يراه في طريقه وقد وصلنا هذا الوصف في كتاب اسمه مطلع السعدين، كتبه بالفارسية كمال الدين عبد الرازق ونقله إلى الفرنسية المستشرق كترمير. وأكبر الظن أن هذه البعثات كانت تعود من الصين بكثير من المنتجات الفنية في تلك البلاد، كما كانت تحمل إليها بدائع التحف المصنوعة في إيران.
والواقع أن الآثار الفنية من مدرسة هراة تشهد بتأثير قوي للفنون الصينية ولا سيما في جلود الكتب التي كانت الحيوانات الخرافية الصينية من أهم عناصر الزخرفة فيها.
ومن المخطوطات التي تحتوي على صور مشهورة تنتمي إلى هذه المدرسة مخطوط من كتاب فارسي عن قصة المعراج اسمه «معراجنامه» كتب لشاه رخ في مدينة هراة سنة 840ه/1346م، ومحفوظ الآن في المكتبة الأهلية بباريس. وتمتاز صور هذا المخطوط بأن جلها مربع الشكل ومستقل عن المتن ولكن فيها تكرارا إذ إن أكثرها يمثل النبي عليه الصلاة والسلام راكبا البراق تحف به الملائكة ويتقدمه سيدنا جبريل ويسير الركب في السموات ويقابل الأنبياء والرسل، والملاحظ في رسوم النبي وأصحابه أن السحنة وتقاطيع الوجوه تدل على أصل عربي، بينما يظهر التأثير الصيني في رسوم الملائكة بوجوههم المستديرة وعيونهم الصغيرة المنحرفة، كما يظهر أيضا في رسوم السحب الصينية التي تغطي أرضية الصور.
وفي دار الكتب المصرية مخطوطان من طراز هذه المدرسة أولهما من كتاب جمشيد وخورشيد (رقم 156 أدب فارسي) وقد فرغ من كتابته عماد خباز سنة 841ه/1438م وفي أول المخطوط صحيفتان مذهبتان غاية في الجمال والإبداع، ولكن الصورة الوحيدة فيه غير متقنة الصنعة ويظهر أنه قد أعيد نقشها بالألوان في عصر متأخر. أما المخطوط الثاني فنسخة من كتاب الشهنامة للفردوسي (رقم 59 تاريخ فارسي)، كتبها محمد السمرقندي سنة 844ه/1440م وفيها خمس وستون ومئة صورة، ولكن أكثرها أعيد نقشه في عصر متأخر فقلت قيمته الفنية. والواقع أن دار الكتب المصرية ليست غنية بالمخطوطات المصورة بالرسوم الإيرانية أو الهندسية وما فيها ليس من نوع طيب، اللهم مخطوط واحد فيه صور لبهزاد ويعلو مستواه كثيرا عن سائر المخطوطات المصورة فيها ، والتي تبلغ زهاء الخمسين، ولكن دار الكتب بمصر يحق لها أن تفخر بمجموعتها الفنية بالمصاحف الكبيرة المذهبة.
ويجدر بنا أن نلاحظ أن الصور الإيرانية في القرن الخامس عشر تنسب عادة إلى هراة لأن هذه المدينة كانت أهم ميدان لفن التصوير في ذلك العصر. ومع ذلك فقد كان كثيرون من أعلام المصورين ينتقلون في الدولة الإيرانية من بلد إلى بلد، وكانت المراكز الفنية المختلفة تتبادل المصورين المشهورين. ومن ثم فإننا لا نكاد نجد فرقا بين الصور التي كانت تصنع في هراة والصور التي كانت تصنع في المدن الإيرانية الأخرى كشيراز، اللهم إلا في ما كان من ريشة غير الممتازين من رجال الفن، لأن مثل هؤلاء مثل الصانع الريفي الذي تظل آثاره الفنية - إن صح تسميتها بهذا الاسم في أغلب الحالات - متأخرة عن آثار زملائه في المدن ممن يتطورون ويسيرون بخطى أوسع في سبيل التقدم ومسايرة العصر.
وهكذا نرى أن التصوير الإيراني في عصر تيمور وخلفائه خطا الخطوة الأخيرة في سبيل الكمال الذي بلغه على يد بهزاد وتلاميذه من الذين حملوا لواء هذا الفن في صدر الدولة الصفوية.
وذلك على الرغم من أن العاهلية التيمورية دب فيها الانحلال بعد وفاة شاه رخ وبدء النزاع بين خلفائه، حتى استولت قبائل التركمان على غربي إيران وقامت دولة الأوزبك في بلاد ما وراء النهر، بل واستطاعت أن تقضي على نفوذ خلفاء تيمور في شرقي إيران. ولكن هراة ظلت عاصمة التيموريين الذين تقلص نفوذهم بغير أن يؤثر ذلك في ازدهار صناعة التصوير، فكان حكم السلطان حسين بيقرا (1468-1506) من العصور الذهبية لتلك المدينة في الأدب والفن، وكان هو ووزيره مير علي شير من أكبر رعاة التصوير في التاريخ الإيراني حتى ظهر في خدمتهم بهزاد صاحب الآثار الفنية البديعة في التصوير الإسلامي.
بهزاد ومدرسته
ولد بهزاد في مدينة هراة في بداية النصف الثاني من القرن الخامس عشر وتقول بعض المصادر التاريخية إنه تلقى النقش والتصوير عن فنان اسمه بير سيد أحمد التبريزي، كما تذهب مصادر أخرى إلى أن أستاذه هو المصور ميرك نقاش من هراة، وعلى كل حال فالكل مجمعون على أن بهزاد نشأ نشأة فنية طيبة ونعم برعاية السلطان حسين بيقرا ووزيره مير علي شير.
ولم يبرح بهزاد مدينة هراة حتى وقعت في يد الشاه إسماعيل الصفوي سنة 1510، فانتقل معه - إن طائعا أو مكرها - إلى تبريز حيث زاد نجمه بزوغا ونال من الشرف والفخار في خدمة الشاه إسماعيل، ثم ابنه طهماسب، ما لم ينله آخر في التاريخ الإسلامي، وقد روت بعض الكتب أن الشاه إسماعيل حين نشبت الحرب بينه وبين الترك سنة 1514 أبدى جزعه من أن يقع بهزاد والخطاط المشهور شاه محمد نيشابوري في يد أعدائه، فأخفاهما في قبو، ولما انتهت المعركة وعاد الشاه إسماعيل كان أول همه أن يطمئن على حياة هذين الفنانين العظيمين.
وقد حفظ لنا المؤرخ الإيراني خواندمير براءة لبهزاد، عينه بها الشاه إسماعيل سنة 1522 مديرا لمكتبته الملكية ورئيسا لكافة أمناء المكتبة وما فيها من خطاطين ومصورين ومذهبين، على أن الواقع أن المعلومات التي وصلتنا عن حياة الفنانين نادرة جدا، حتى إنه ليصعب علينا في أكثر الحالات - إن لم يكن في كلها - أن ندرس البيئة التي نشأوا فيها، والعوامل التي وجهتهم وتأثروا بها. ولكن شيئا لا يكاد يختلف فيه اثنان من مؤرخي الفنون الإسلامية هو أن بهزاد ذاع صيته في إيران، وفي غيرها من البلاد التي كانت لها بالإيرانيين صلات فنية، وأن شهرته غطت على شهرة من سبقه من المصورين ومن عاصره أو خلفه منهم، فكتب عنه خواند مير الثناء الجم وقارنه بماني الذي يضرب به المثل عند الإيرانيين في إتقان التصوير، وقال إن مهارته محت ذكرى سائر المصورين، وأن شعره من فرشاته قد أكسبت الجماد حياة ... إلخ، كما أعجب به الملوك والأمراء فتسابقوا إلى جمع آثاره الفنية وكتب عنه بابر القيصر الهندي المغولي أنه أعظم المصورين قاطبة. ومهما يكن من شيء فإن شهرة بهزاد كانت من الاتساع بحيث جعلت من الصعب أن نعرف على وجه التحقيق كل منتجاته، لأن المصورين أقبلوا على تقليده ، بل كانوا يكتبون اسمهم على الصور التي يرسمونها إعلاء لشأنها، كما أن التجار وبعض الهواة كانوا ينسبون إليه صورا ليست من عمله ويقلدون إمضاءه رغبة في الكسب، كما يفعل الذين يقلدون التحف الفنية الأثرية في العصر الحاضر. وهكذا نرى أن كثيرا من الصور التي تنسب إلى هذا المصور النابه يشك مؤرخو الفنون الإسلامية في صحة نسبتها إليه على أن بعض هذه الصور تقليد صادق لمنتجات بهزاد يصعب كشفه على غير ذوي الخبرة. بينما هناك صور عليها إمضاء بهزاد ولا يشك أي ناقد له إلمام بسيط بتاريخ التصوير الإسلامي في أن هذا الإمضاء غير صحيح وأن هذه الصورة بعيدة عن بهزاد وأسلوبه الفني بعد الأرض عن السماء. ومثال ذلك مرقعة (ألبوم) محفوظة بدار الكتب المصرية (رقم 261) وفيها صور هندية من القرن الثامن عشر وصناعتها غير متقنة وعلى كثير من هذه الصور إمضاء بهزاد أو ماني. ولكن ألوان هذه الصور وتقاطيع الوجه والسحنة الهندية في الأشخاص المرسومين، وملابس هؤلاء الأشخاص، كل ذلك لا يترك أدنى مجال للشك في أنها هندية. وقد أشار الأستاذ الدكتور توماس أرنولد
Dr. Sir Thomas Arnold
إلى ذلك في صحيفة 51 من كتابه بالإنجليزية «التصوير في الإسلام»
Islam
كما ذكره الدكتور تشوكين
Dr. Ivan Stchoukine
في صحيفة 156 من مقال له بالفرنسية عن المخطوطات المصورة في دار الكتب المصرية نشره في مجلة الفنون الجميلة الفرنسية
Gazette des Beaux-Arts.
وقد حدث أن نشرت إحدى المجلات المصرية بعض هذه الصور في عدد أصدرته عن مصر وإيران ونسبتها إلى بهزاد وماني فلما نبهناها إلى هذا الخطأ اتهمتنا - على لسان محررها - بالجهل ...! كأن جهل هذا المحرر أي لغة أجنبية وادعاءه أنه درس الفنون الإسلامية عشر سنوات، في إدارة إحدى الصحف! ملزم لنا بالرد عليه!
ومهما يكن من شيء فإن بهزاد كان من أوائل المصورين المسلمين الذين عنوا بوضع إمضاءاتهم على آثارهم الفنية. وهو الذي استطاع أن ينتصر على الخطاطين انتصارا مبينا، فقد كانت منزلتهم أعلى من منزلة المصورين، وكان أولئك يحددون الفراغ الذي يتركونه في صفحات المخطوطات ليرسم فيه المصورون، فيتحكمون بذلك في حجم الصور وفي انتقاء الموضوعات التي يرسمها الفنانون، ولكن بهزاد قضى على ذلك، واختار ما كان يلوح له من الموضوعات، ورسمها بالحجم الذي كان يريده في صحيفة أو في صحيفتين متجاورتين.
ومما امتاز به بهزاد براعته العظيمة في مزج الألوان وتفهم أسرارها، وفي التعبير في صوره عن الحالات النفسية المختلفة، وفي رسم العمائر والمناظر الطبيعية. وإنك لتحس أمام آثاره الفنية أن بين يديك صورا أرستقراطية بهدوئها وحسن الذوق وإبداع التركيب فيها ودقة الزخرفة وانسجامها، مما يشهد بأن بهزاد كان المصور الكامل الذي انتهى على يديه تطور التصوير الإيراني في عهد المدرستين الإيرانية المغولية ثم التيمورية وبلغ التقدم منتهاه.
وقد لاحظ بعض مؤرخي التصوير الإسلامي أن أكثر الصور التي رسمها بهزاد كان بين الأشخاص المرسومين فيها رجل ذو سحنة بربرية، ربما كان الفنان يقصد برسمه تأكيد الفرق بين تلك السحنة الزنجية وبين سحنة الأشخاص الآخرين من الجنس الأبيض. كما لوحظ أيضا أن بهزاد لم يأت في آثاره الفنية بصور كثير من النساء، فقد كان يتجنب ذلك لغير ما سبب نستطيع الجزم بصحته.
وقد رسم بهزاد في هراة صورتين للسلطان حسين بيقرا ولمحمد خان شيباني، وهما - فيما نعلم - أول ما نعرفه في الإسلام من الصور الحقيقية الشخصية التي ترسم فيها سحنة إنسان بتقاطيع وجهه وصفاته الجسمية.
وقد عاش بهزاد طويلا، وتنسب إليه صور عديدة من القرن الخامس عشر والسادس عشر وكثير من هذه الصور تمثل دراويش من العراق وإيران. ويذكرنا هذا بما كتبه أحد المؤلفين الهنود من أن بهزاد لم يحرز هذه الشهرة الواسعة والصيت الذائع لأنه سار بأساليب التصوير الإيراني إلى الكمال الطبيعي الذي كان مقدرا له أن يصل إليه في تطوره فحسب، بل لأنه صار به أبعد من ذلك فأدخل فيه عنصرا من الحب الإلهي لتأثره بمذهب الصوفية التي بلغ أوج عظمته في إيران، قبيل أن يولد بهزاد، وحين كان صبيا.
ومهما يكن من شيء فإننا بمصر لا عذر لنا في أن نجهل أثرا موجودا بيننا من الآثار الفنية البديعة التي تركها هذا المصور، فإن في دار الكتب المصرية مخطوطا من كتاب «بستان» للشاعر الإيراني سعدي وفيه ست صور من عمل بهزاد وعلى أربع منها إمضاؤه: «عمل العبد بهزاد». ويطمئن مؤرخو الفن الإسلامي كل الاطمئنان إلى صحة نسبة هذه الصورة إليه. وقد عرض هذا المخطوط في معرض الفن الإيراني بلندن سنة 1931 فكان موضع إعجاب الزائرين وكتبت عنه المقالات الطوال في الصحف وفي المؤلفات المطولة عن الفن الإيراني. وقد كتب هذا المخطوط سنة 893ه/1488م للسلطان حسين بيقرا الذي تراه مرسوما مع بعض أتباعه وندمائه في صورتين (أو صورة في صحيفتين) في فاتحة المخطوط. وتمثل إحدى الصور في هذا المخطوط الملك دارا مع راعي الخيل، وقد أتقن بهزاد في هذه الصورة رسم الطبيعة الريفية ورسم الخيل. وثمة صور أخرى فيها رسم بعض علماء الدين يتجادلون في مسجد وقد دخل عليهم رجل من العامة، ويتجلى في هذه الصورة إبداع بهزاد في تصاوير العمائر، ومزج الألوان المؤتلفة، والتعبير عن الحالات النفسية المختلفة، وتوفيقه في تمييز وجوه الأشخاص بعضها عن بعض. وتبدو هذه المزايا في صورة أخرى من نفس المخطوط تمثل مناظر في مسجد شخص يتوضأ، وفقهاء يتحدثون، وفقيه يحدث سيدة ... إلخ. أما الصورة الأخيرة فتمثل سيدنا يوسف يفر من زليخا امرأة العزيز حين اتخذت لنفسها قصرا، يصل المرء إلى داخله بعد اجتياز سبع طبقات من الأبواب وزينت زليخا القاعة الداخلية بصور تمثلها بين ذراعي سيدنا يوسف ظانة أن يوسف حين يرى هذه الصورة لا بد واقع في شراك صاحبتها الحسناء، ولكن يوسف الصديق لما دخل فطن إلى حيلة زليخا وصلى لربه ففتحت الأبواب ونجا من شر زليخا.
وعلى كل حال فقد كان لبهزاد تأثير كبير في الأساليب الفنية في عصره، فقلده كثيرون وتعلم عليه مصورون نهضوا بالصناعة في ذلك العصر، حتى إننا نستطيع أن نقول، في ثقة واطمئنان، أنه كان زعيم مدرسة عظيمة في فنه.
وقد كشفت الدراسات الحديثة في تاريخ التصوير عن اسم مصور كبير عاش أيضا في هراة في القرن الخامس عشر، وكان مؤرخو الفن الإسلامي يخلطون بين آثاره الفنية وآثار زميله بهزاد. هذا المصور هو قاسم علي الذي نجد إمضاءه في صور بمخطوط من القصائد الخمسة لنظامي محفوظ في المتحف البريطاني ومؤرخ من سنة 899ه/1493م، وتمثل إحدى هذه الصور مدرسة في الهواء الطلق، بينما تمثل صورة أخرى عددا من النساء في بركة حمام وتطربهن عازفة على العود. وله صورة ثالثة تمثل جماعة من الصوفية في حديقة.
مدرسة بخارى
وثمة مدرسة أخرى في التصوير الإسلامي يمكن أن نلحقها بالمدرسة التيمورية، ونستطيع أن نرى في آثارها الفنية ما كان لبهزاد وتلاميذه من تأثير على رجالها. تلك هي المدرسة التي ازدهرت بأقاليم بخارى في خلال القرن السادس عشر. والواقع أن الأحداث السياسية التي وقعت بخراسان وبلاد ما وراء النهر في بداية القرن السادس عشر هي التي أدت إلى قيام هذه المدرسة، فإن مدينة هراة سقطت في يد شيباني خان زعيم الأوزبك سنة 1507، ولكن الشاه إسماعيل الصفوي انتزعها من يدهم بعد ثلاث سنوات، وتقلص حكم الشيبانيين إلى بلاد ما وراء النهر، وصاروا يحكمون من سمرقند وبخارى، وهاجر إلى هاتين المدينتين كثير من المصورين في هراة، ولا سيما لأن قيام الدولة الصفوية في هذا الإقليم كان معناه فرض المذهب الشيعي عليهم بعد أن كان سني المذهب في عصر تيمور وخلفائه، وفي عصر الشيبانيين. ثم استولى الأوزبك مرة ثانية على هراة ونهبوها سنة 1535 فهاجر منها إلى بخارى جمهرة الباقين فيها من رجال فن. وقامت على أكتاف هؤلاء الفنانين في مهجرهم هذه المدرسة التي تنسب إلى بخارى والتي كان أشهر رجالها المصور محمود مذهب. وقد ظلت هذه المدرسة مجهولة بعض الشيء، حتى ظهر من آثارها الفنية في معرض الفن الإيراني بلندن سنة 1931 ما لفت الأنظار إليها.
ومن أبدع منتجات هذه المدرسة صورة في مخطوط من منظومة الشاعر نظامي المسماة «مخزن الأسرار». وهذا المخطوط محفوظ الآن في المكتبة الأهلية بباريس وقد كتب في بخارى سنة 944ه/1537م بقلم الخطاط المعروف مير علي وفيه صورة من عمل محمود مذهب. وهي مؤرخة من 954ه/1546م وتوضح أسطورة في عدل السلطان سنجر السلجوقي فتمثله ومعه حاشيته وقد استوقفتهم عجوز تطلب إلى السلطان النظر في مظلمة لها. وقد صور بعض المصورين الإيرانيين هذه الأسطورة تصويرا غاية في الدقة والإتقان.
ومما نلاحظه في الصور المنسوبة إلى مدرسة بخارى أن غطاء الرأس مكون من قلنسوة مرتفعة ومضلعة وتحيط العمامة بجزئها الأسفل.
ومما يؤكد تأثر مدرسة بخارى بهزاد وتلاميذه مخطوط من كتاب «بستان» لسعدي كتب في بخارى سنة 964ه/1555م ومحفوظ في المكتبة الأهلية بباريس ومحلى بصور كثيرة الشبه بالصور التي رسمها بهزاد في المخطوط المحفوظ بدار الكتب المصرية.
وثمة مصور اسمه شيخ زاده محمود كان تلميذا لبهزاد ولميرك (أحد المصورين في المدرسة الصفوية التي سيأتي الكلام عنها) ثم التحق بخدمة الشيبانيين في بلاد ما وراء النهر. ومن آثاره الفنية صورة في مخطوط تاريخه سنة 942ه/1535م وفيه صورتان عليهما إمضاء بهزاد، وقد كان هذا المخطوط في مكتبة عبد الغازي عبد العزيز بهادر خان سلطان الأوزبك في بخارى الذي قيل عنه إنه كان أكبر جامعي الكتب الفنية الثمينة في الشرق قاطبة. ويروى أيضا أن الإمبراطور الهندي المغولي جهانجير اشترى هذا المخطوط الأخير ودفع فيه نحو عشرة آلاف جنيه وكتب على الصفحة الأولى منه إنه سيبقيه دائما أمام عينيه. ومهما يكن من شيء فإن الصورة التي رسمها شيخ زادة في هذا المخطوط تمثل منظرا ريفيا قوامه فارسان وراعيان وبضعة خيول، وهو يشبه تماما صورة الملك دارا وراعي الخيل من عمل بهزاد في مخطوط «بستان» بدار الكتب المصرية.
المدرسة الصفوية الأولى
قامت هذه المدرسة على أكتاف بهزاد وتلاميذه وأعوانه الذين هاجروا من هراة لما استولى عليها الشاه إسماعيل. وأما الذي رعاها بعنايته، حتى أينعت وكان إنتاجها طيبا فهو الشاه طهماسب الذي ظل يحكم إيران من سنة 1524 إلى سنة 1576 بعد أن قضى أبوه الشاه إسماعيل حكمه في حروب وطد بها دعائم الحكم للأسرة الصفوية ولم تترك له الفراغ الكافي لتعهد دار الكتب الملكية التي أنشأها كمجمع للفنون الجميلة وعقد إدارتها لبهزاد.
والذي يجب ملاحظته عن الحياة الفنية في عصر الدولة الصفوية عامة هو أن مكانة الفنانين الاجتماعية ولا سيما المصورين ارتفعت فسار من بينهم أصدقاء السلطان وندمائه، بل كان الشاه طهماسب نفسه مصورا تعلم الفن من المصور المشهور سلطان محمد، وكان كذلك صديقا لبهزاد وتلميذه أغا ميرك. ولا غرابة في أن يرتفع شأن رجال الفن في حكم الدولة الصفوية فإنها أول دولة إيرانية وطنية منذ العصر الساساني، فطبيعي أنها فكرت في أن تعيد إلى إيران مجدها الفني القديم وبدأت برجال الفن، فكان نصيبهم وافرا من تشجيعها وإكرامها. ومن ثم فإن مخطوطات العصر الصفوي فيها عدد كبير محلى بالصور التي يمثل أكثرها أبهة هذا العصر، وحياة البلاط والأمراء فيه، وما يتبع ذلك من حدائق غناء وعمائر ضخمة جميلة، وملابس فاخرة ومجالس طرب وشراب، كل ذلك في رسم دقيق وألوان زاهية في هدوء ومتنوعة في انسجام، يتوج ذلك مهارة في تأليف الصورة وتوزيع الأشخاص فيها، ومراعاة النسب بين أجزائها المختلفة.
وتمتاز الصور في المدرسة الصفوية الأولى بلباس الرأس المكون من عمامة ترتفع باستدارة وتبرز أعلاها صورة صغيرة حمراء. ولكن هذه الميزة ليست عامة لأن وجود تلك العمامة في صورة من الصور يدل على أنها ترجع إلى عصر الأسرة الصفوية الأولى أي قبل وفاة الشاه طهماسب، بينما وجود غيرها أو عدم وجودها لا يفيد قطعيا أن الصورة لا يمكن نسبتها إلى هذا العصر. ويلوح لنا أن هذه العمامة كانت أول الأمر شعار أفراد الأسرة الصفوية وأتباعهم، وكان المصورون يرسمون العصا الصغيرة فيها باللون الأحمر، ثم قل خطر هذه العمامة وبدأ القوم يغيرون لون العصا، ثم أصبح وجودها نادرا في الصور الصفوية التي صنعت بعد وفاة الشاه طهماسب سنة 1576م.
وقد كان لقيام الدولة الصفوية أثر كبير في توحيد الأساليب الفنية بعد أن حققت هذه الدولة الوحدة السياسية في البلاد الإيرانية. فلا غرو أن أصبحت منتجات مصوري البلاط في تبريز وقزوين أنموذجيا ينسج على منواله النابهون من المصورين في سائر العاهلية الصفوية.
ومن أعلام المصورين في هذه المدرسة أغا ميرك وسلطان محمد ومظفر علي ومحمدي وسيد مير نقاش وشاه محمد ودوست محمد وشاه قولي التبريزي.
أما أغا ميرك فقد كان تلميذا لبهزاد، ولعله أكبر الفنانين بعده في تاريخ التصوير الإسلامي، وقد نشأ في أصفهان ونبغ منذ حداثته في التصوير وفي الحفر على العاج، ولكنه لم يستطع أن يتحرر تماما من أساليب المدرسة التيمورية. وإبداع ما يعرف من آثار أغا ميرك خمس صور في مخطوط من المنظومات الخمسة للشاعر نظامي. ولعل هذا المخطوط أجمل ما ينسب إلى المدرسة الصفوية الأولى. وقد كتب للشاه طهماسب بقلم الخطاط المشهور شاه محمود النيسابوري بين سنتي 946-950ه/1534-1539م وفيه أربع عشرة صورة كبيرة بريشة أعلام المدرسة الصفوية ميرك وسيد علي وسلطان محمد وميرزا علي ومظفر علي. ومما تمتاز به صفحات هذا المخطوط هامشها المذهبة والمزينة بنقوش نباتية ورسوم حيوانات طبيعية وخرافية.
والصور التي تنسب إلى أغا ميرك في مخطوط المتحف البريطاني تعتبر كلها خير أمثلة للتصوير في ذلك العصر، سواء أفي الموضوعات أم في الأساليب الفنية، فثلاث منها تمثل مناظر استقبال وحفلات في البلاط تتجلى فيها العظمة الشرقية وأبهة الملك الإيراني، بينما تمثل إحدى الصورتين الباقيتين مجنون ليلى في الصحراء تحيط به حيوانات دقيقة الرسم متقنة النسب. وتوضح الصورة الأخيرة أسطورة كسرى أنوشيروان يصغي لبومتان تتحدثان فوق أنقاض قصر قديم وتتنادران ذاكرتين عواقب الظلم.
أما الذي حمل لواء التصوير في بلاط الشاه طهماسب بعد بهزاد وميرك فهو سلطان محمد، ويتجلى في صوره إتقان عجيب لمزج الألوان، ومهارة كبيرة في رسم الجموع، وتوزيعها في الصورة، وفي رسم الحيوان ولا سيما الخيل، وولوع بمناظر الطرب والسرور والغبطة والأبهة.
ومن أبدع آثاره الفنية صورتان في مخطوط المتحف البريطاني سالف الذكر توضح إحداهما منظرا في قصة «خسرو وشيرين» المشهورة في الأدب الفارسي، فنرى خسرو يفاجئ شيرين تستحم. أما الصورة الثانية فتمثل بهرام جور يصيد الأسد. والواقع أن هذا المخطوط آية فنية. وقد كتب أحد المؤرخين الإيرانيين أن عين الزمان لم تقع على مثل صوره قط.
على أن سلطان محمد لم يكتف بتصوير المخطوطات، بل كان رئيسا لمجمع الفنون الجميلة في تبريز وأشرف على عمل الرسوم للقاشاني وللسجاجيد. والمعروف أن تأثير المصورين من المدرسة الصفوية الأولى كان عاما في ميادين الفن الإيراني، كما بينا ذلك في مقالنا عن الفن الإيراني (عدد يوليو سنة 1938 من المقتطف).
ولقد لقن سلطان محمد ابنه فن التصوير، فأصبح «محمدي» مصورا ماهرا بل وتفوق على أبيه في رسم المناظر الطبيعية، كما يظهر من رسم له محفوظ بمتحف اللوفر ومؤرخ من سنة 986ه/1578 ويمثل فلاحا يحرث الأرض، وآخر يجلس تحت شجرة، وثالثا يقطع خشبا من شجرة، ورجلا يملأ جرة وبجواره خيمتان فيها نساء يغزلن وينسجن، وفي الجانب الأيسر من الصورة راع يحرس قطيعا من الغنم ويعزف على مزمار في يده.
ومن الذين نبغوا في بلاط الشاه طهماسب المصور مظفر علي وقد ساهم في تزيين مخطوط المتحف البريطاني، فرسم صورة توضح قصة بهرام جور وحبيبته التي طلبت إليه أن يدل على براعته في الرماية، وذلك بأن يضرب حمار الوحش سهما واحدا فيثبت حافره بأذنه. فضرب بهرام جور حمار الوحش في أذنه بقطعة من طين، فرفع الحمار حافره ليحك أذنه، وانتهز بهرام جور الفرصة فأطلق عليه سهما ثبت حافره في أذنه.
ورسم مير سيد علي التبريزي صورة في المخطوط سالف الذكر تمثل عجوزا تقود المجنون إلى ربع ليلى.
وقد كان من حظ هذا المصور وزميل له اسمه عبد الصمد أن لقيا في مدينة تبريز همايون العاهل الهندي المغولي، حين لجأ إليها وأضافه الشاه طهماسب، فاتصلا به وتلقى هو وابنه أكبر دروسا في التصوير عنهما، وقامت على أكتافهما مدرسة هندية إيرانية في بلاد الهند ونبغ من تلامذتهما دازونت وبازوان.
وفي دار الكتب المصرية مخطوط فارسي من كتاب يوسف وزليخا للشاعر جامي (رقم 45 أدب فارسي) ويشتمل على سبع صور من عصر الشاه طهماسب: إحداهما تمثل المعراج، والثانية تمثل زليخا جالسة مع زوجها في جوسق، والثالثة تمثل مركب فرعون مصر ونراه فيها راكبا حصانا وحوله فريق من حاشيته على الخيل ومعه نساء وعازفات على الآلات الموسيقية، وتذكر هذه الصورة بطراز سلطان محمد. أما الصورة الخامسة فنرى فيها سيدنا يوسف ومعه زليخا في قصر صغير. وتوضح الصورة السادسة حادث البرتقال الذي تذكر القصة الفارسية أن زليخا قدمته للنساء اللاتي دعتهن، فلما دخل يوسف ذهلن بجماله فقطعن أصابعهن بدلا من البرتقال. وفي ذلك جاء القرآن الكريم:
وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم . أما الصورة الأخيرة فتمثل سيدنا يوسف على عرش وإلى جانبه رجل هرم. ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن المؤلفين الفرس اتخذوا حكاية يوسف وزليخا موضوعا لقصة أدبية لا تتفق نهايتها مع نهاية القصة في القرآن الكريم.
وقصارى القول أن عصر الشاه طهماسب كان غنيا في الإنتاج الفني، ولكننا نشاهد في الجزء الأخير منه تقليدا للسلف وجمودا ينذران بالاضمحلال الذي سار إليه الفن في العصر الصفوي الثاني. وقصارى القول أن زيادة الإنتاج بدأ يصحبها انحطاط في نوع المنتجات.
المدرسة الصفوية الثانية
عصر الشاه عباس وخلفائه
ظل الشاه عباس الأكبر يحكم إيران زهاء اثنين وأربعين عاما (1587-1629) وكان إداريا حازما، وقائدا منصورا، وحاكما مثقفا، كثير المطامع، فبقي اسمه في التاريخ الإيراني رمزا للمجد والعظمة، ولكن الحقيقة أن لعصره شهرة في الفنون لا يستحقها كلها، فقد كان عصر تأخر بطيء، سقط بفن التصوير إلى الهاوية، ولكن الأوروبيين كانوا أعرف بمنتجات هذا العصر، فظلت فترة من الزمن تحجب ما كان من مجد لبهزاد وللمدرسة الصفوية الأولى وعلى كل حال فإن الآثار الفنية في عصر الشاه عباس تتميز بتنوعها، إذ كان انتقال العاصمة إلى أصفهان وقربها من المحيط، عاملين في نمو علاقات إيران مع الهند والبلاد الغربية، فوفدت البعثات والسفارات، وأقبل السائحون والتجار إلى إيران، وعني الفنانون بالنقش على الجدران نفسها، وبرسم الصور المستقلة الكبيرة لتزيين الجدران بها، كما شاع رسم الصور من غير ألوان. والظاهر أن البلاط والأمراء انصرفوا عن المخطوطات المصورة بعض الانصراف فلم يجد المصورون من يعوضهم عن العمل فيها، ولذا فقد ندرت المخطوطات المصورة الثمينة في هذه المدرسة بينما زادت المنتجات التجارية التي لم يكن إخراجها يتكلف نفقة باهظة.
والظاهر أن الشاه عباس كان شديدا على الفنانين راغبا في اتخاذهم آلة للإعلان عن عظمته وأبهة عصره فحسب، وذلك بتشييد العمائر وتزيين جدرانها بالصور الكبيرة من الطراز الإيراني أو بصور أوروبية مما كان يحمله منها إلى إيران التجار والمبشرون. أما في تصوير المخطوطات فقد جمد المصورون ووقفوا عند تقليد الصور التي في المخطوطات القديمة.
وعلى كل حال فإن تصوير الأشخاص طرأ عليه تطور كبير في القرن السابع عشر فقل عدد الأشخاص ولم تعد الصورة تجمع عددا كبيرا منهم بل أصبح المصور يكتفي في رسمه بشخص أو شخصين في وضع متكلف، وقد أهيف، وأنوثة تجعل من الصعب التفريق بين صور الفتيان والفتيات. وينسب هذا الطراز في التصوير إلى زعيم المصورين في هذا العصر وهو رضا عباسي الذي قامت حول اسمه مناظرات ومساجلات بين علماء الآثار وأصبح جلهم يعتقدون بوجود مصورين اثنين، بين اسميهما شبه كبير وهما آقارضا ورضا علي.
أما الأول فأقدم عهدا من الثاني وأقل شهرة منه. ولعله بدأ إنتاجه في بلاط الشاه طهماسب وظل يعمل حتى نهاية القرن السادس عشر فكان بذلك معاصرا للشاه عباس الأكبر.
أما رضا عباسي فإن إمضاءه على كثير من الرسوم المؤرخة تحملنا على الاعتقاد بأن مدة إنتاجه الخصب كانت بين سنتي 1618 و1639.
ومن المصورين الذين ذاع صيتهم في هذه المدرسة الفنية معين المصور، وحيدر نقاش، ومحمد قاسم التبريزي، ومحمد يوسف، ومحمد علي التبريزي. وينسب إلى رضا عباسي وإلى هؤلاء المصورين عدد كبير من الصور، بعضها أقل من المتوسط في الجودة والإتقان، ويمتاز أكثرها بما أشرنا إليه من أنوف طويلة وقدود ممشوقة وأوضاع متكلفة، وكان معين المصور تلميذا لرضا عباسي، وقد رسم صورة أستاذه وهي - فيما نعلم - إحدى ثلاث صور وصلتنا لثلاثة من رجال الفن. أما الصورة الثانية فترجع إلى عصر المدرسة الصفوية الأولى وتمثل الأستاذ بهزاد وهي محفوظة الآن في مكتبة يلدز باستنبول . والثالثة صورة محمدي من عمل المصور محمدي نفسه وهي محفوظة الآن في متحف الفنون الجميلة بمدينة بوستن.
أما الشاه عباس الثاني الذي حكم إيران من سنة 1642 إلى 1666 فقد كان شديد الإعجاب بالغرب وفنونه فأرسل المصور محمد زمان ليدرس التصوير في روما. وقيل إن هذا المصور اعتنق المسيحية، ثم سافر إلى الهند ولم يرجع إلى إيران إلا سنة 1676. ومهما يكن من شيء فقد تأثر هذا الفنان بالأساليب الفنية الأوروبية ولا سيما في الصور الدينية كرسم الأسرة المقدسة والملائكة والقديسين وما إلى ذلك من المناظر الدينية المسيحية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد تأثر المصورين الإيرانيين عامة بأساليب الفنون الغربية، وتخلوا عن كثير من الأساليب الإيرانية في التصوير، فكان هذا فاتحة اضمحلال التصوير الإيراني كما تدل على ذلك الصور الزيتية الكبيرة التي امتاز بها عصر فتح علي شاه (1798-1834) فإن صناعتها أوروبية أكثر منها إيرانية.
التصوير الإسلامي في تركيا
لم يكن لتركيا مدرسة خاصة في التصوير، فإن الترك لم تكن لهم في هذا الميدان أساليب فنية موروثة، إذ إنهم لم يحتفظوا بما كان لأسلافهم في التركستان، وإنما كان جل اعتمادهم على مصورين إيرانيين هاجروا إلى تركيا، وقام على أكتافهم فن التصوير فيها، أو على مصورين أوروبيين استدعاهم سلاطين تركيا إلى بلاطهم في استانبول. والواقع أن سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين سنة 1453 على يد السلطان محمد الفاتح أدى إلى نمو العلاقات الفنية بين تركيا والغرب ولم يلبث الأتراك أن تأثروا تدريجيا بالأساليب الفنية الغربية في فنونهم المختلفة. وقد استدعي المصور الإيطالي المشهور جنتيلي بليني إلى بلاط السلطان في استنابول سنة 1840، وكان للفنانين في استانبول علاقات وثيقة بالفن الإيطالي في أول عصر النهضة. وقد وصلت إلينا صورة أمير تركي منسوبة إلى جنتيلي بليني وهي محفوظة الآن في متحف جاردنر بمدينة بوستن. كما أننا نعرف أيضا أن مصور البلاط العثماني في عصر السلطان سليمان (1520-1566) واسمه حيدر باشا كان ينقل لوحات المصور الفرنسي كلويه
Clouet (مصور الإمبراطور فرنسوي الأول).
بينما كان السلاطين الأتراك في بروسة ثم في استانبول يستقدمون الخطاطين والمصورين الإيرانيين لكتابة المخطوطات الفارسية والتركية وتزيينها كما كانوا يستقدمون أيضا صناع الخزف والقاشاني من إيران لتزيين مساجدهم وأضرحتهم.
وهكذا نرى أن التصوير الإسلامي في تركيا كان مطبوعا بطابع إيراني قوي، حتى إن أهم ما يميز الصور التركية عن الصور الإيرانية إنما هو العمامة التركية الكبيرة التي يلبسها الأشخاص في الصور التركية فضلا عن الملابس التركية التي تميزهم عن الأشخاص في الصور الإيرانية.
ومن المصورين الإيرانيين الذين نزحوا إلى تركيا في القرن السادس عشر شاه قولي وولي جان الذي كان تلميذا لسياوش. وقد كان سياوش هذا من إقليم الكرج وتلقى فن التصوير على آغا ميرك.
وفي دار الكتب المصرية مخطوط من ديوان نجاتي (رقم 18 أدب تركي) كتب فيه تاريخ سنة 812 هجرية. ولكن هذا التاريخ موضوع وغير صحيح، لأن المخطوط لا يمكن أن يكون أقدم من نهاية القرن السادس عشر. ومهما يكن من شيء فإنه يحتوي على ثمان وعشرين صورة متوسطة الصنعة، ولكن ملابس الجند فيها تركية، تدل مع بعض الأساليب الفنية الأخرى، على أن هذه الصور رسمت في تركيا.
وفي دار الكتب المصرية مخطوط آخر من نسخة تركية لكتاب عجائب المخلوقات للقزويني (رقم 124 تاريخ تركي). وقد كتب هذا المخطوط سنة 1096ه/1684م بقلم مصطفى بن فضل الله في جامع والدة سلطان. وفي هذا المخطوط سبع وثلاثون صورة مختلفة الحجم من الطراز العثماني في نهاية القرن السابع عشر، ومن أبدع هذه الصور واحدة تمثل قاربا يصارع الريح، وأخرى طيبة تمثل امرأة حاملا، وهي جالسة وعارية، وساقاها منفرجتان، وبطنها مفتوح لكن يظهر الجنين في رحمها.
ويتجلى التأثير الأوروبي على التصوير التركي في مخطوط تركي من كتاب تاريخ السلاطين العثمانيين إلى عهد السلطان سليمان الثالث (1647-1691) لرشيد أفندي (رقم 242 تاريخ تركي). وهذا المخطوط محفوظ أيضا في دار الكتب المصرية وفيه صور عشرة من سلاطين آل عثمان ترجع إلى نهاية القرن السابع عشر. كما يظهر تأثير الأساليب الأوروبية في مرقعة (ألبوم) من صور سلاطين آل عثمان محفوظة بدار الكتب المصرية أيضا (رقم 137 تاريخ تركي).
التصوير الإسلامي في الهند
تقلص نفوذ المسلمين في غربي الهند حتى احتل بابر أحد حفدة تيمورلنك مدينتي دلهي وأجرا سنة 1526، وأسس عاهلية الهنود المغول التي ظلت تحكم في الهند وجزء من أفغانستان منذ سنة 1526 حتى سنة 1857. ولكن هذه الأسرة التي كان مهدها إقليم التركستان وجدت في الهند أساليب فنية وطنية عريقة في القدم وذات آثار بديعة ولا سيما في النحت والتصوير. ولذا كان موضوع التصوير الهندي واسعا لا يسمح المجال أن نفيه حقه من البحث في هذا المقال - فحسبنا أن نقسم الصور الهندية إلى مدرستين: مدرسة المغول، ومدرسة راجبوت.
أما مدرسة المغول فهي هندية متأثرة كثيرة بأساليب الفنانين الإيرانيين الذين ساهموا في قيامها. وأقدم ما يعرف من آثارها الفنية يرجع إلى عصر الإمبراطور بابر (1526-1530) وعصر الإمبراطور أكبر (1556-1605)، ولكن الصور التي تنسب إلى عصر بابر نادرة جدا ولعل أحسنها صورة معركة بحرية. وكانت هذه الصورة في مرقعة (ألبوم) للإمبراطور جهانجير وهي الآن في مكتبة الدولة ببرلين ويظهر في أسلوبها التأثر ببهزاد وبمدرسة بخارى. ويجدر بنا في هذه المناسبة أن نشير إلى أن عواهل المغول الهنود كان لهم ولوع كبير بحفظ المرقعات المحتوية على بدائع الصور المستقلة من غير أن يصرفهم ذلك عن جمع المخطوطات ذات الصور الفنية.
أما الإمبراطور همايون الذي خلف بابر سنة 1530 فإنه اضطر إلى ترك عرشه سنة 1540 وظل منفيا في إيران إلى سنة 1555، ولكن الشاه طهماسب أكرم وفادته فظل ضيفا عليه طوال هذه المدة، وتعرف فيها إلى كثيرين من أعلام المصورين في البلاط الإيراني. ولا سيما مير سيد علي وخواجه عبد الصمد الشيرازي الذي أصبحا بعد ذلك مصورين في بلاط همايون. وطلب منهما أن يوضحا قصة «أمير حمزة» الفارسية بأربع مئة وألف صورة كبيرة مرسومة على القماش . وقد ظلت بعض هذه الصور محفوظة حتى الآن وموزعة بين المتاحف والمجموعات الأثرية ولكن عددا كبيرا منها محفوظ اليوم في متحف الفنون الصناعية بمدينة فينا. والمعروف أن أكثر هذه الصور قد رسمت في عهد الإمبراطور أكبر الذي خلف همايون على عرش الهند. وقد عمل في رسمها مير سيد علي وعبد الصمد وتلاميذهما من المصورين الهنود.
وقد كان الإمبراطور أكبر راعيا كبيرا للفنون ولا سيما التصوير، فكانت جدران قصوره في عاصمته الجديدة «فتح بور سكرى» وفي سائر أنحاء ملكه محلاة بالنقوش والتزاويق من عمل الفنانين الإيرانيين والهنود. وقد أسس هذا الإمبراطور مجمعا للفنون وظف فيها زهاء سبعين مصورا، جلهم من الهنود. وكان هؤلاء المصورون يرسمون الصور لتوضيح المخطوطات الفارسية المختلفة وتزيينها، وذلك بإشراف أساتذة من المصورين الإيرانيين. وكان الإمبراطور يجمع لهم في مكتبته الخاصة أبدع النماذج بريشة أعلام المصورين الإيرانيين لدرسها والاهتداء بها. وكانوا يوفقون في تقليدها إلى أبعد حدود التوفيق حتى لا يستطيع تمييزها عن الأصل إلا ذوو الخبرة في الفنون الإسلامية ممن يستطيعون إدراك الفرق في اللون وفي بعض التفاصيل الدقيقة. وقد كان يحدث أحيانا أن يضع الفنان اسم فنان مشهور على الصورة المنقولة، كما نرى في خمسة صور بمخطوط من كتاب «هفت بيكار» للشاعر نظامي والمخطوط محفوظ في المتحف المتروبوليتان بنيويورك، وعلى الصور الخمس إمضاء بهزاد.
ولكن المصورين الهنود الذين نبغوا في المجمع الفني السالف الذكر بازوان ودارم داس وفروخ بج وناد سنغ ولال.
ومهما يكن من شيء فإن الصور الهندية في ذلك العصر عليها طابع إيراني قوي لم يضعف إلا في نهاية القرن السادس عشر حين ازداد تأثر هذه الصور بالأساليب الفنية الهندية القديمة. ومما يجدر ملاحظته أنه يحدث في هذه الصور الهندية أن يشترك في رسم الصورة أكثر من مصور واحد فيكون عليها إمضاءان أو ثلاثة ويكون فيها قسمان مختلفان.
ومهما يكن من شيء فإن أهم ما ساهم به المصورون الهنود في قيام المدرسة الهندية المغولية إنما هو الدقة في رسم الأشخاص والإتقان في رسم المناظر الطبيعية ومراعاة قوانين المنظور إلى حد كبير ومزج الألوان بطريقة يصعب على مؤرخ الفن وصفها. ولكنها تمثل الهدوء وتعتبر إلى جانب الملابس وسحن الأشخاص وطراز العمارة والمناظر الطبيعية، مما يدل على أن الصورة هندية وليست إيرانية. والواقع أن الخبراء وذوي الإلمام بتاريخ الفنون يستطيعون أن يروا في الصور الهندية نتاج أمة آرية متأثرة بالشرق الأدنى. فالصور الهندية إذن ولا سيما المتقن منها في تصوير الحيوانات والمناظر الطبيعية ليست بعيدة عن الصور الغربية بعد سائر الصور الإسلامية عنها. ولا سيما أن هناك تيارا آخر أثر في المصورين الهنود، إذ عرفوا الصور الأوروبية على يد المبشرين. ويقال إن الإمبراطور أكبر طلب إلى البرتغاليين في جوا أن يبعثوا إلى مملكته ببعض المبشرين ومعهم الكتب المقدسة والدينية التي كان يريد دراستها وتفهم ما فيها. فكان مما أحضره المبشرون كثير من الصور الدينية المسيحية، وقلدها بعض المصورين الهنود.
أما في عصر جهانجير (1605-1627) فقد قل تصوير المخطوطات، وانصرف المصورون إلى إرضاء الإمبراطور وتلبية رغبته في رسم الصور المستقلة ولا سيما ما كان منها خاصا بحوادث حياته، أو ما كان يجمع رسوم الحيوان أو النبات الذي كان يعنى بدراسته، ولا غرو أن ازدهر في بلاط جهانجير المصورون مراد ومنصور ومانوهار، الذين عقدت لهم الزعامة في تصوير أحسن أنواع الطير والحيوان، وكان منصور بارعا في تصوير الزهور ولقد أشار الإمبراطور جهانجير إلى ذلك في مذكراته المشهورة، فكتب «إن الزهور في منطقة كشمير لا تعد ولا تحصى وإن الذي رسمه منها نادر العصر الأستاذ منصور مئة نوع». ولقد اشتد إقبال الناس على الصور الشخصية
في عصر جهانجير، فكان المصورون يرسمون الإمبراطور في مختلف المواقف والمناسبات كما كانوا يرسمون حاشيته من الأمراء والأشراف وكبار الموظفين وكان أقرب صناع هذه الصور الشخصية إلى قلب الإمبراطور المصور الإيراني أبو الحسن الذي منحه لقب «نادر الزمان» وممن نبغوا في هذا الميدان مانوهار ومحمد نادر وبيشندس وبلشند.
وكان رجال المدرسة الهندية المغولية يصورون بعض الموضوعات التي عرفها زملاؤهم الإيرانيون، كما كانوا يرسمون في كثير من الأحيان الناكسين والمتقشفين من الهنود، يستقبلون الأمراء والنبلاء، ويسدون إليهم النصائح الثمينة.
وكان الشاه جهان أقل اهتماما بالتصوير من أسلافه ومع ذلك فقد ظل إنتاج الصور الشخصية عظيما في الهند. ومن أشهر مصوري هذا العصر مير هاشم ومحمد فقير الله خان.
ولما تولى أورنجزيب (1658-1707) انقطعت صلة المصورين بالبلاط، وأصبح النبلاء وكبار الموظفين مصورين يشملونهم برعايتهم، وكان زوال الرعاية الإمبراطورية إيذانا باضمحلال المدرسة الهندية المغولية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
أما المدرسة الأخرى وهي مدرسة راجبوت في الهند فقد كانت تقوم إلى جانب المدرسة المغولية، ولكن أساليبها الفنية كانت مأخوذة عن الأساليب الفنية في نقوش الجدران بالهند القديمة، وكانت فضلا عن ذلك شعبية تختلف في موضوعاتها عن المدرسة المغولية. وبينما كان رجال المدرسة المغولية يرسمون صور الأباطرة، وصور الحوادث المهمة، وصور الحيوانات والطيور، كان الفنانون في مدرسة راجبوت يرسمون الموضوعات المستمدة من القصص الشعبية، والملاحم الهندية، ونوادر الآلهة والقديسين. وأقدم ما يعرف من الآثار الفنية المنسوبة لمدرسة راجبوت يرجع إلى القرن السادس عشر.
وفي دار الكتب المصرية مرقعات من الصور الهندية في إحداها صور من المدرسة الهندية المغولية في القرن الثامن عشر وقد كتب بعض اسم بهزاد أو ماني. ولكن ألوانها وموضوعاتها وملابس الأشخاص المصورين فيها وأسلوبها الفني؛ كل ذلك ينطق بأنها هندية من العصر المتأخر الذي اضمحل فيه التصوير الهندي، بعد أن تخلى عن تعضيده البلاط الإمبراطوري في بداية القرن الثامن عشر.
خاتمة
ولا يسعنا أن نختم هذا الحديث بغير أن نذكر أن المجال لم يتسع هنا للكلام عن كثيرين من المصورين الذين وصلت إلينا بعض آثارهم الفنية أو الذين جاء ذكرهم في بعض كتب الأدب والتاريخ أو في الكتب النادرة التي ألفها بعض المؤلفين الإيرانيين أو الترك للحديث عن الخطاطين والمصورين. وحسبنا أن نشير إلى أن أقدم من وصلتنا أسماؤهم من المصورين يرجعون إلى عصر الدولة الفاطمية في مصر، وهم الكتامي وابن عزيز العراقي وقصير البصري وأحمد بن يوسف ومحمد بن محمد وأبو تمام حيدرا في القرن العاشر. وقد جاء اسمه على رسم فارسي في ورقة محفوظة بمجموعة الأرشيدوق رينر بمتحف فينا. كما نعرف أيضا جمال الأصفهاني الذي كان مصورا في بلاط طغرل الأمير السلجوقي في إيران سنة 1180. أما عبد الله بن الفضل ويحيى بن محمود الواسطي ، فقد مر ذكرهما في حديثنا عن المدرسة العراقية.
واشتهر في العصرين المغولي والتيموري أستاذ جنج وأستاذ جهانجير البخاري وبير سيد أحمد التبريزي وجنيد نقاش السلطاني وبير علي وأمير شاهي وسلطان علي الشستري وإبراهيم التبريزي وغياث الدين.
أما منذ عصر بهزاد فقد زاد عدد المصورين ونمت العناية بهم إلى حد ما، فدونت أسماؤهم ولا سيما من جمع منهم إلى فن التصوير، فني التذهيب والخط الجميل.
شكل 1: فقهاء يتجادلون في مسجد من تصوير بهزاد في مخطوط «بستان سعدي» بدار الكتب المصرية.
شكل 2: جماعة من الصوفية في حديقة للمصور قاسم علي سنة 890ه/1485م.
شكل 3: مجنون ليلى بين الوحوش في الصحراء من تصوير ميرك في القرن السادس عشر.
شكل 4: شابور يقدم صورة خسرو إلى شيرين من تصوير ميرزا علي في القرن السادس عشر.
شكل 5: صورة المعراج من المدرسة الصفوية في القرن السادس عشر.
شكل 6: بهرام جور يصيد الأسد من تصوير سلطان محمد في القرن السادس عشر.
شكل 7: منظر طرب وموسيقى في بلاط كسرى للمصور ميرزا علي في القرن السادس عشر.
شكل 8: خسرو يفجأ شيرين تستحم من تصوير سلطان محمد في القرن السادس عشر الميلادي.
شكل 9: منظر ريفي للمصور محمدي سنة 986ه/1578م.
شكل 10: صورة ضرب بالعصا (فلقة) من عمل محمد قاسم سنة 1605م.
شكل 11: صورتان من عمل المصور رضا عباسي في القرن السابع عشر.
شكل 12: صورتان نقلهما عن صورتين إيطاليتين المصور ابن حاجي محمد زمان في نهاية القرن السابع عشر وتمثل اليمنى هجرة العائلة المقدسة إلى مصر وتمثل اليسرى اليصابات تزور العذراء.
شكل 13: صورة تركية من نهاية القرن السادس عشر تمثل السلطان مراد خان الثالث في غرفة قصره.
شكل 14: صورة هندية من عمل باذوان في القرن السادس عشر وهي في مخطوط من الترجمة الهندية لكتاب جامع التواريخ الذي ألفه الوزير رشيد الدين وتمثل الصورة نساء يندبن حول ميت في تابوت.
شكل 15: صورة هندية من عمل عبد الصمد سنة 1593 وتمثل كسرى في الصيد.
شكل 16: صورة هندية محفوظة في دار الكتب المصرية. وقد نسبت خطأ إلى «ماني» وهي تمثل الإله كريشنا وزوجته راذا تحت شجرة مانجو في فصل ممطر. وترجع إلى القرن السابع عشر أو الثامن عشر.
Page inconnue