هذه أقوال الصوفية في نظرية المعرفة، ظهرت واضحة في الدور الثالث من أدوار التصوف الإسلامي ما بين سنة 200ه وسنة 300ه حين أصبح الزهد فيه لا غاية، بل وسيلة للوصول إلى المعرفة والإشراق، وإذا أردنا أن نذكر تلخيصا صغيرا لهذه النظرية لا نرى في الواقع أحسن من رأي الأستاذ نشلسن حين قال: لقد ميز الصوفية بين ثلاثة أشياء؛ أي بين القلب والروح والسر؛ فالقلب يستطيع أن يتعرف كل الأشياء وماهياتها، وإذا أضيء بالإيمان والمعرفة استطاع أن يعكس على صفحته كل ما يحويه العقل الإلهي، ويتنازع القلب قوتان: إحداهما المعرفة التي تفيض من الله على العبد، والأخرى هي أوهام الحس، والمرء لا يعرف الله بالحس؛ لأنه لا مادي، ولا بالعقل والمنطق؛ لأنهما لا يخرجان عن دائرة المتناهي، بل بالفيض والوحي والإلهام، فالقلب يضم بين جوانحه العالم كله، والله وحده هو الذي ينير القلوب، ويزيل ما يغشيها من شوائب الحس؛ وذلك بتآزر العبد مع الرب في ذلك، أعني بالمجاهدات والرياضات، والأفعال التي لا تصدر عن الله أفعال باطلة، وكل ما يعمله الصوفي لا يبتغي وراءه أجرا، بل إن مطلبه الوحيد هو رضاء الله عنه، ومعرفة الصوفي معرفة مباشرة؛ لأنها تستند على الوحي، أو على الرؤية المباشرة، فهي ليست نتيجة لأية عملية عقلية، وإنما تعتمد كلية على إرادة الله ومحبته وفيضه على من اصطفى من عباده، ومع اتفاق المسلم العادي والصوفي في أن الله واحد؛ فإن الأول يعني بذلك أنه واحد في ماهيته وصفاته، أما الثاني فيرى أن الله هو الواحد الحقيقي الذي لا يوجد غيره في الكون، فهو يتضمن كل الظواهر الأخرى، ولما كان الصوفي لا يعرف الله وكل أسرار الوجود إلا إذا وحدها في نفسه، فهو بذلك يعد عالما صغيرا، فمعرفة الصوفي إذن هي اتحاد.
الطرق الباطنية
الكشف الباطني يشغل جانبا ضخما من رسالة الغزالي؛ إذ هو في طليعة الفكر الإسلامي، بل العالمي الذين آمنوا بإلهامات الروح، بل جعلوا من تلك الإلهامات وسائل وغايات للإرشاد والهداية.
وقد اختلف المفكرون قديما وحديثا في طريق المعرفة، وهل تتأتى عن طريق الحواس الخمس وحسب؟ أم لها سبل وطرق باطنية إلهامية أخرى؟
فالماديون لا يرون للمعرفة بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بالعالم الخارجي، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تهبط منه المعرفة، غير الخيال والتصور، وهم شديدو التهكم برجال الكشف الباطني ومن سلك مسلكهم من أرباب القلوب أو الرياضة العقلية، ذلك سبيل أصحاب المذاهب المادية من الفلاسفة.
أما الصوفية والروحانيون على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم فيقررون أن للعلم وسائل باطنية تصل بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، يلمسها كل من صفت نفسه من أدران المادة وتخلصت من شوائب الحياة، فيحصل من هذا الطريق على أسرار الوجود وخفايا الخلود وحكم تعلو على الحواس الخمس والمعارف التي تدركها هذه الحواس.
والعلم الحديث القائم على الاستقراء والمشاهدة يعترف في صراحة بأن للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس، وأن هناك إلهامات روحية غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التكهن عليها.
فمسألة العقل الباطني والتنويم المغناطيسي الذي عجز الماديون عن إنكاره أو تشكيك النفوس فيه ، ما هو إلا ضرب من ضروب الأرواح السابحة التي يمكن للأرواح البشرية أن تلتقي بها وتتحدث إليها وترشف من نبعها ومعارفها ما شاءت من أسرار وفنون، وقد دل العلم الحديث على أن المنوم تنويما مغناطيسيا بعد أن تتعطل حواسه يتقمص شخصية أرقى من شخصيته وتتلبسه روح عاقلة واسعة الإدراك سامية المعارف، تتحدث عن أدق المسائل وأغمض المسالك، ومن مشاهدات العقل الباطني ما يلمح في كثير ممن نفذ إليهم شعاعه في ناحية خاصة كالحسابين على البديهة؛ وهم طائفة تلقى عليهم أغمض المسائل الرياضية وأدقها التي تحتاج إلى زمن كبير في التفكير والعمل، فيجيبون عنها فورا وهم لا يدرون ولا يعرفون كيف ولا متى حصل هذا؟
وهناك أطفال يوقعون على الموسيقى قطعا وألحانا يعجز عنها أئمة هذا الفن؛ وهم لا يعرفون كيف صنع هذا اللحن أو رتب ذاك النغم! وقد كتب الشاعر «موسيه» عن نفسه فقال: «أنا لا أعمل، ولكني أسمع فأفعل فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني.» وكان «لامارتين» يقول: «لست أنا الذي يفكر، ولكن هي أفكاري التي تفكر لي.» وروى الشاعر «رينيه» أنه قد ينام غالبا وهو يصنع قطعة من الشعر لم تتم فيستيقظ فيجدها تامة في اليوم التالي عندما يفكر فيها. أما سقراط فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه إليه الروح.
بل إن هناك مذاهب فلسفية قديمة قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله، فأفلوطين في مدرسة الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة، أما لبرتش في القرن السابع عشر فيقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضا من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
Page inconnue