إن شعورنا الطبيعي يولي ظهره للعالم الأبدي غير المرئي ويضيع في العالم المادي الفاني منبوذا بالعقل لأجل آثار الحواس، فحينما ترتفع عن ذاتنا الاختبارية لا نصل إلى سلبها بل إلى قوتها؛ لأن الذات إلى أن تكون مقيدة بحوادثها الاختبارية لا تشغل عزيمتها كلها، فإن حدود تلك الحوادث المحصورة الضيقة تحول دون ذلك، ومتى علت الذات حدود الوجود الاختباري تقوت الحياة بأسرها فأحرزنا به غناء الذات أو تضخم الشخصية وجذب هذا الغناء أو التضخم إلى نفسه عالم التجارب بأجمعه، لأنه حين تحقق الذات شخصيتها في الأدوار الأولى بمركز معين ناشئ عن الحوادث الزمنية والمكانية لا يصبح عالم التجربة بأسره خاصا بها، لذلك يجب أن يغلب تماسكنا بدائرة ضيقة من التجارب، قبل أن نجمع في أنفسنا عالم التجربة بتمامه الذي مركزه ودائرته لله والإنسان، وحينئذ نصل نحن إلى الحالة التي لا فرق فيها بين الباطن والظاهر، فمذهب «يوج» يصر على أنه يجب أن يكبح المنظر الخارجي الباطل قبل أن تسنح فرصة الحياة والظهور للأمثل الباطني، ويجب أن نكف عن أن نعيش في عالم الظلال عيشة مخدوعة ضائعة قبل أن نقدر على أن ننال الحياة الأبدية.
فلأجل أن ننعم بحريتنا الحقيقية يجب علينا أن نتصور عقلنا ونقرنه بالأصفاد، فإنه هو الذي يربطنا بالأشياء الخارجية فيجعلنا عبيدا لها، ولن نبلغ عيشة مقتنعة مرضية ما دمنا ضحية للأشياء الخارجية والظروف المختلفة، ففي كاتها أو بانيشاد.
2
كما أن ماء المطر النازل على رأس الجبل يسيل إلى جميع نواحيه كذلك الذي يرى الفرق بين الأوصاف يجري وراءها في جميع النواحي، إن الماء الصافي المصب في الماء الصافي يبقى كما هو، هكذا يا جوتم! يكون ذات المفكر الذي عرف نفسه.
3
يشير به إلى أن عقل الإنسان الذي لم يعرف نفسه يتيه هنا وهناك كالماء المصب على قمة الجبل، ولكن متى عرف ذاته بصيانة عقله عن التأثير من محيطه المادي اتحد بعالم الحياة الراقي الذي وراء المظاهر المادية الفانية، فإن العقل إذا ألقي حبله على غاربه تشتت وضاع في أخاديد الرمال من بيداء العالم المادي، فالواجب على الطالب أن يكبله ويسوقه إلى الباطن لينال به كنزا مخفيا فيه.
ينادي المذهب «يوج» بأنه يجب علينا أن نقهر نطقنا ونحوله إلى الإحساس، والإحساس إلى الفكر، والفكر إلى الشعور العام، حينئذ فقط نقدر به على أن ندرك عمق الطمأنينة الموجودة في السرمدي، إننا لا يمكننا أن نبلغ العلو المنشود إلا إذا هدأت المصادر الخمسة للعلم وهي الحواس، وسكن العقل والفهم، والطريق لارتياد ذلك الهدوء والسكون هو تركيز أفكارنا وحواسنا في هدف واحد، ومحو الأهداف الأخرى، وتوجيه النفس بذلك إلى اتجاه جديد حر لا يلين للدواعي المختلفة العارضة لإخضاعها، فإن ما يضيع من قوى الفكر والفهم لدى الإنسان، ويبيد استعداد نفسه، هو توجهه إلى الأهداف الكثيرة وتصادمها المنتج له الفرح والترح بأهداف أخرى في المجتمع البشري.
هكذا يبين لنا مذهب «يوج» طريقا للسيطرة على النفس والحواس والعقل والفهم، وذلك للسلوك نحو الكمال. ودرجات المسلك ومنازله ومخاطره مذكورة مشروحة في كتبهم، لا يسمح لنا المجال بالاسترسال في بيانها هنا، ففلسفة «يوج» هي في الحقيقة سعي الهنود المنظم لبلوغ الكمال بالاستيلاء على العناصر المختلفة في طبع الإنسان سواء أكانت نفسية أم جسدية.
القضاء والقدر
أصدر الفلكي العالمي كميل فلامريون كتاب «أسرار الموت»، وفي هذا الكتاب قال فلامريون: من حوادث الاطلاع على المستقبل أن زوجة الجنرال الروسي جوتسكوف حلمت سنة 1811 كأن والدها - وكان حيا - جاءها ممسكا بيده أخاها الوحيد، وقال لها وسمات الحزن ظاهرة على وجهه: «انتهى عهد هنائك يا بنية، فقد سقط زوجك صريعا في بوودينو.» فانتبهت مذعورة ثم تماسكت وزال خوفها تدريجيا لما رأت زوجها نائما بقربها وهو على خير ما يكون من قوة وعافية مترابطة بأسبابها ونتائجها، فلا تكون نتيجة إلا وقد سبقها سببها، ولإرادتنا نصيب كبير في اختيار هذا السبب، فحريتنا الشخصية غير مفقودة بل تعد عاملا يضاف إلى غيره من العوامل الخفية التي يتألف منها النظام الأعلى لترابط الحوادث والحالات بعضها ببعض.
Page inconnue