ثم مضى بعد ذلك فلم يتعرض للفلاسفة والمتكلمين الذين عني بالرد عليهم في بعض كتبه الأخرى، ولكنه اهتم بالصوفية، إذ إن مذهبهم يرمي إلى الوصول بل الاتصال بالله، وهو أليق المذاهب بالهجرة إليه، واصطلاحاتهم في ذلك تنم عليهم؛ فهم يصفون المتصوف بالسالك والمسافر والسائر، إلى آخر هذه النعوت المميزة لأرباب السلوك وأصحاب الطريق.
هذا، والصوفية أصناف؛ منهم المعتدلون ومنهم المتطرفون. ولهم رموز واصطلاحات لا يفهمها إلا المريدون، ولقد رثى ابن القيم للصوفي الذي يحمله التصوف على ولوج باب الحلول فيقول: سبحاني أو ما في الجبة إلى الله، ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال. والحلاج هو المقصود من هذا القول: ما في الجبة إلا الله.
يطعن ابن القيم التصوف والمتصوفة في الصميم، ويبطل غاياتهم كالقول بالحلول والاتحاد والفناء، ويسفه طريقهم، ويناقش أئمتهم البارزين. أورد رأيهم في الفقر، وهو باب السعادة وبداية الطريق. قال أبو المظفر الفريسي : الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة، وعقب القشيري على هذا القول بأن صاحبه يشير إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيارات والرضا بما يحويه الحق سبحانه. واعترض ابن القيم عليهما فقال: «إنه كلام مستدرك خطأ، فإن حاجات العبد إلى الله بعدد الأنفاس، وأما أن يقال لا حاجة لله إلى الله فشطح قبيح.»
الواقع أن مرد الخلاف بين أهل السنة والصوفية في طريقة التفكير هو أن المتصوفة يحكمون الذوق ويدركون الأشياء بعين القلب لا بنور العقل، أما أهل السنة فيجعلون الشرع قبلتهم ويتبعون الكتاب والسنة وينفذون إلى الحقائق «بالعقل الصريح والفطرة الكاملة»، ولابن تيمية كتاب اسمه: «موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح» رد فيه على مزاعم الطاعنين في أهل السنة. وقال ابن القيم: أما تحكيم الصوفية مجرد الذوق وجعل حكم ذلك الذوق كليا عاما فهذا ونحوه من مثارات الغلط.
ونحن نوافق أهل السنة في هذا الرأي الذي يجمع بين النقل والعقل ويوفق بينهما، ويجعل المعول على العقل في تفسير النصوص والنظر إلى الأمور، والرجوع إلى العقل الصريح هو أول لبنة في بناء مذهب ديكارت من الفلاسفة المحدثين، وهو القائل: «العقل الصريح هو أكثر الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي.»
أما الذوق وهو طريق الصوفية فهو منهج لا يتفق مع طبيعة الحياة، ولا يفسر كل شيء ولا يتفق عليه جميع الناس ولا تقبله جميع العقول.
ولقد حكى أبو حامد الغزالي عن نفسه أنه طاف بجميع المذاهب فلم يجد بغيته أو شفت غلته، فانتهى إلى التصوف الذي عده أفضل المذاهب وأليقها بالاتباع، واستطارت شهرة الغزالي ولقب بحجة الإسلام واتبعه كثير من الناس.
فأما ابن القيم فإنه يعترض على الصوفية بأن ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهده المثل؛ فقد نادوا بالتوكل ورفضوا الأسباب، فأجابهم ابن القيم، فهذا كما أنه ممتنع عقلا وحسا فهو محرم شرعا ودينا، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين ، وإن أريد به رفض الوقوف معها والوثوق بها، فهذا حق، ولكن النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به، وإنما يكون في الإعراض عن المسبب تعالى، فمنع الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح في التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال.
إذا كان الله هو الخالق المبدع، وهو العليم القدير، وهو الفعال لما يريد، فلماذا يعاقب الناس على أفعالهم؟ وإن قلنا: الإنسان حر، فأين إرادة الله؟
هذه هي المشكلة الكبرى: القضاء والقدر، وحرية الإرادة، وكيف يمكن التوفيق بين القضاء والقدر، وبين الأمر والوعد والوعيد؟
Page inconnue