Le soufisme : la révolution spirituelle en Islam
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
كانت هذه حال النفوس الإنسانية في عالم الذر، فلما هبطت إلى هذا العالم نسيت عهدها القديم لما غشيها من حجب، وما استولى عليها من سلطان الشهوات، فشاب توحيدها شوائب ودخلت في حياتها الأرضية معان جديدة مستمدة من صلتها بالأبدان وبالعالم الخارجي بوجه عام كمعنى «الذات» و«السوى» والإرادة الذاتية وما إلى ذلك من معان، وأصبحت توحد الله - إن وحدته - بإقرارها بألوهيته وانفراده بالخلق والتدبير، وهي مع ذلك تنسب إلى نفسها إرادة وفعلا وقدرة وغير ذلك مما يتنافى مع التوحيد المطلق الذي عرفته في سابق عهدها.
ولكي تصل النفوس إلى توحيدها القديم يرى الجنيد - وهذا هو معقد الطرافة في نظريته - أنه لا بد لها من العودة إلى الحال التي كانت عليها في عالم الذر أو إلى القرب من هذه الحال بقدر المستطاع، وهذا ما أشار إليه بقوله: «والعلم في ذلك أنه رجع آخر العبد إلى أوله، أن يكون كما كان إذ كان قبل أن يكون.» أي تعود نفس العبد إلى سيرتها الأولى قبل أن تتعلق بالبدن، وتكون كما كانت - في عالم الذر أو عالم الأرواح - قبل أن تكون أي قبل أن توجد في العالم الدنيوي الذي هو عالم الأبدان.
ولكن العودة التامة مستحيلة ما دامت الصلة بين الروح والبدن قائمة، فليس إلا التحرر من قيود البدن وعلاقاته بقدر ما تسمح به الطاقة البشرية، وهذا لا يكون إلا بالسلوك في الطريق الصوفي الذي هو رياضة للنفس وتصفية وتجرد من الشهوات والإرادات، وطريق للإذعان والتسليم المطلق لله، وهنا يصبح العبد - على حد تعبير الجنيد نفسه - كالشبح الملقى، يتصرف فيه الله كما يريد، وهو مستغرق في بحار التوحيد، فان عن نفسه وعن دعوة الخلق إياه فيما يتعلق بأمور دنياهم، وذلك بسبب ما يشاهده من حقائق وجود الله ووحدانيته في قربه الحقيقي منه، وعند ذلك - كما يقول الجنيد - يذهب حس العبد بنفسه وحركته لقيام الله بما يريده من الأفعال، ويرجع آخر العبد إلى أوله حيث كان ولا حركة ولا سكون.
هذا هو الفناء الصوفي بعينه، وهو أيضا مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري في عبارة أسلفنا ذكرها وهي: «إنه بمقدار ما يعرف العبد عن ربه يكون إنكاره لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات.» فإن العبد إذا انكشف له شمول القدرة والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلت الرسوم والآثار الكونية في شهوده وتوارت إرادته وقدرته وفعله في إرادة الحق وقدرته وفعله، ووصل إلى الفناء الذي هو عين البقاء؛ لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق ويبقى بالله وحده.
هذه أيضا هي الحال التي يسميها الصوفية «وحدة الشهود». يقول التهانوي: «والتوحيد عند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بألا يحضر في شهوده (أي شهود الصوفي) غير الواحد جل جلاله.»
34
ولكن العبد الفاني عن نفسه الباقي بربه، المشاهد له في كل شيء، ذلك الشبح القائم بين يدي الله تجري عليه تصاريف تدبيره، ليس في حالة سلبية محضة كما قد يسبق إلى الأوهام؛ لأن بقاءه بالله يشعره بنوع من «الفاعلية» لا عهد له به؛ إذ يرى نفسه وكأنه منفذ للإرادة الإلهية، مدبر لكل ما يجري في الوجود، محرك للأفلاك، قطب الوجود الذي يدور حوله كل شيء.
وأغلب الظن أن هذه كانت الحال التي استولت على الحسين بن منصور الحلاج فصاح عندما أخذ عن نفسه في لحظة وجد خاطفة بقوله: «أنا الحق» أي أنا الحق الخالق، وأنها أيضا كانت الحال التي استولت على العاشق الإلهي الشاعر عمر بن الفارض الذي قال في تائيته الكبرى:
فبي دارت الأفلاك فأعجب لقطبها ال
محيط بها والقطب مركز نقطة
Page inconnue