Le soufisme : la révolution spirituelle en Islam
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
وعلى هذا النحو تكون المقامات الصوفية أشبه شيء بمنازل طريق السفر الحسي، وتكون الأحوال أشبه شيء بما يعرض للمسافر في سفره من أحداث غير منظورة، ومغامرات غير متوقعة، وهذه الصورة البسيطة للمعراج الصوفي تمثل الفكرة الأساسية في كل معراج روحي إلى الله؛ لأنها تمثل طريقا طويلا شاقا فيه جهاد عنيف للبدن وشهواته، وتخلص تدريجي من العالم المادي وسلطانه ومغرياته، ويقطع ذلك الطريق على مراحل تتخلى فيها النفس عن صفاتها الذميمة وتتحلى بصفات أخرى حميدة، وبذلك تترقى في سلم التطور الروحي درجة درجة حتى تصل إلى ما قدر لها أن تصل إليه من درجات القرب إلى الله، وفي أثناء السير في الطريق تتكشف للسالك أحوال هي من ناحية ثمرات لجهاده، ومن ناحية أخرى مواهب ربانية يهبها الله لمن يشاء، ترد على القلب في صورة بوارق أو لوامح وتلقى فيه إلقاء ولا يدري الصوفي لها تعليلا أو عنها تعبيرا.
وقد اتخذ الصوفية على اختلاف مناحيهم من فكرة أفلاطون في النفس أساسا لوصفهم المعراج الروحي. فالنفس عندهم كائن غريب عن هذا العالم، هبط إليه من العالم العلوي وحل ضيفا على البدن، ولكنه منذ هبوطه إلى هذا العالم يحن أبدا إلى الخلاص من قيوده واللحاق بعالمه الأصلي، ولكن أنى له بالعودة وقد تغلل بأغلال العالم المادي وشغلته شواغله وغشيته غواشيه، فتكدر كيانه الصافي وخبا فيه قبس ذلك النور الإلهي الذي كان يضيء جوانبه. لا بد من الفرار وتحطيم الأغلال وتصفية النفس من كدوراتها حتى تتهيأ للصعود إلى عالمها، ولذا حلا للصوفية أن يشبهوا النفس بالطائر السجين الذي هبط إلى الأرض من عالم السماء، ولكنه لا يفتأ يحن إلى وطنه ويحاول الإفلات من قفصه. إلى هذا المعنى يشير ابن سينا في قصيدته العينية في النفس، ومطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة ناظر
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وكذلك يشير إليه الشاعر الصوفي الفارسي فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير» الذي يصور فيه النفوس بصورة الطير التي تسير في سرب عظيم بزعامة «الهدهد» تريد أن تصل إلى «السيمرغ» وهو ملك الطيور الذي خلقت الطيور كلها من ريشة واحدة من ريشه العجيب، وقد سقطت منه وهو يطير في ظلام الليل في سماء الصين.
تأخذ هذه الطيور أهبتها لسفر طويل شاق بعد أن تتزود بمجموعة من الإرشادات يرشدها بها «الهدهد»، ثم تقتحم في سفرها سبعة أودية يسميها العطار أودية «الطلب» و«العشق» و«المعرفة» و«الاستغناء» و«التوحيد» و«الحيرة» ووادي «الفقر والغناء». يتخلف بعض الطيور أثناء السفر لما يراه من وعورة الطريق وأهواله، ويهلك البعض الآخر دون الوصول إلى غايته، وتسير البقية جادة غير متوانية، يحدوها الأمل ولا يفت في عضدها ما تلقاه من مخاوف، وهكذا يمضون حتى يصلوا إلى الوادي الأخير الذي هو وادي الفقر والغناء، ولكن لا يصل إليه منهم إلا ثلاثون طائرا هم الذين ثابروا وتغلبوا على مصاعب الرحلة وأخطارها، وعندما يمثلون بين يدي «السيمرغ» تكون أشخاصهم قد انمحت وزالت الحجب بينهم وبين ملكهم، وعندما ينظرون إليه يشاهدون فيه «سي مرغ» (ثلاثين طائرا) وبذلك يرون كثرة في وحدة. فإذا ما نظروا إلى أنفسهم - أي إلى سي مرغ (ثلاثين طائرا) - شاهدوا «السيمرغ» وحده. فتأخذهم الحيرة ويسألون فيقال لهم: إن هذه الحضرة مرآة، فمن جاءها لا يرى إلا نفسه، جئتم سي مرغ (ثلاثين طائرا) فرأيتم «السيمرغ».
فالطير في النفوس البشرية، والسيمرغ هو «الحق»، والأودية هي مقامات الطريق الصوفي. لم تقطع الطير أودية حسية ولا طوت أرضا مادية، بل كان سفرها رحلة باطنية صرفة في أودية معنوية: شاهدوا فيها عجائب النفس وأحوالها وما فيها من ظلمة ومن نور، ومن تعلق بأمور هذه الدنيا وحب للجناب الإلهي الأقدس. فإذا وصلت إلى الوادي الأخير، وقد صفت وتطهرت وارتفعت عنها الحجب، إذا بها مرآة صافية ينعكس على صفحتها جمال النور الإلهي، وإذا بها نجد «السيمرغ» - الذي هو طلبتها - في ذاتها، لا في شيء خارج عن ذاتها.
هذا التصوير الشعري الرائع للمعراج الصوفي لا يبعد كثيرا - من حيث الشكل - عن تصوير الصوفية الأوائل للطريق ومقاماته وأحواله، ولكنه يختلف عنه اختلافا جوهريا في الفكرة الاتحادية التي يستند إليها، وإذا نظرنا إلى تفاصيل وصف العطار للأودية التي يقطعها طيره، وجدنا شبها كبيرا بينها وبين مقامات الصوفية وإن اختلفت عنها في عددها وترتيبها وفي الوظيفة الروحية لكل منها؛ فوادي الطلب هو وادي الزهد والعزوف عن الدنيا وما يلزم ذلك من مجاهدة النفس، وهو ما سماه دانتي ومتصوفة القرون الوسطى المسيحية باسم طريق التطهير، ووادي العشق هو الذي تتهالك فيه النفس على اتصالها بمعشوقها الأول بعد أن مسها شعاع من نوره الأزلي، وبه تبتدئ الحياة الصوفية الحقيقية، وفيه أول مراحل الكشف، ووادي المعرفة هو الذي يرتفع فيه الحجاب وتتكشف الأسرار وتعرف كل نفس منزلتها من الحق، ومهما اختلفت النفوس في درجات معرفتها بالله فإنها كلها مجمعة على شيء واحد، وهو أن الله تعالى هو مشهود الكل؛ لأنه في قلب كل عبد مؤمن. يقول الله في حديث قدسي: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.»
Page inconnue