Le soufisme : la révolution spirituelle en Islam
التصوف: الثورة الروحية في الإسلام
Genres
في هذه الآية، وكثير غيرها من الآيات التي أسلفنا ذكرها في مناسبات أخرى، دعوة إلى الزهد في الدنيا، ولكنه زهد روعي فيه جانب الدنيا وجانب الآخرة، وفضل فيه الثاني على الأول، وروعي فيه جانب العبد وجانب الرب، وفضل فيه الثاني على الأول، وفي هذه الآية وأمثالها بذور للثورة على الدنيا - بهذا المعنى الخاص - تلك الثورة التي أعلنها زهاد المسلمين صاخبة شاملة عندما نبتت هذه البذور في تربة جديدة وتوافر لها من العوامل ما ساعدها على النمو.
ولم تكن في العصر الإسلامي الأول حاجة إلى وضع حدود وقواعد للزهد في الدنيا والقصد في لذاتها، كما لم تكن حاجة إلى تمييز طائفة من المسلمين عن غيرهم من أجل انفرادها بالتقوى والورع، ولكن ظهرت هذه الحاجة كما يقول ابن خلدون: «عندما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، فاختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية.»
3
عرف الجيل الأول من المسلمين بالورع والتقوى والزهد في الدنيا، وكانت هذه كلها صفات عامة لهم، وفي هذا يقول أحد الصحابة لصدر التابعين: «أنتم أكثر أعمالا واجتهادا من أصحاب رسول الله، وهم كانوا خيرا منكم. قيل: ولم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا.»
4
يشير بذلك إلى الزهد العام الذي كان أكثر شيوعا بين الصحابة، لا إلى الزهد شبه الرهباني الذي أخذ به الصوفية أنفسهم في القرن الثاني وما بعده.
ولم يكن أثر الإسلام في نشأة الزهد وانتشاره عن طريق تحقير الدنيا وحسب، بل عن طريق الرعب الذي أشاعه في قلوب المؤمنين من نار الآخرة وعذابها وأهوالها؛ ولذلك انصبغ الزهد الإسلامي الأول بصبغة الخوف من الله أكثر من انصباغه بصبغة المحبة لله والقرب منه، وقد تجلى ذلك الرعب في أجلى مظاهره في بعض أفراد الصحابة والتابعين الذين أخذوا أنفسهم بأساليب تعذيب البدن كفارة عما ارتكبوه - أو خيل إليهم أنهم ارتكبوه - من المعاصي والآثام، وهاك مثالا من أروع الأمثلة التي تصور ما كان للخوف من عذاب الآخرة من أثر في نفوس أوائل المسلمين: مر ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري خادم رسول الله يوما بباب رجل من من الأنصار فبصر بامرأة الأنصاري وهي تغتسل، فكرر النظر إليها، ولما أحس بذنبه خرج هائما على وجهه إلى جبال بين مكة والمدينة. فبعث رسول الله عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي في طلبه، فلقيهما راع من رعاة المدينة، فقال له عمر: يا ذفافة هل لك علم بشاب بين هذه الجبال؟ فقال: لعلك تريد الهارب من جهنم، قال عمر: وما علمك بأنه هرب من جهنم؟ قال: لأنه إذا كان نصف الليل خرج علينا من الشعب واضعا يديه على أم رأسه يبكي وينادي: يا ليتك قبضت روحي بين الأرواح وجسدي بين الأجساد ولا تجردني ليوم القضاء.
فلما أتي به إلى رسول الله قال: ما الذي غيبك عني؟ قال: ذنبي، قال: أفلا أعلمك آية تمحو الذنوب والخطايا؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: قل اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: إن ذنبي أعظم من ذلك، قال رسول الله: بل كلام الله أعظم، وأمره بالانصراف إلى منزله، فانصرف ومرض ثلاثة أيام، فأتى سلمان النبي وقال: إن ثعلبة لمائت. فدخل رسول الله عليه فأخذ برأسه فوضعه على حجره، فأزال رأسه عن حجر النبي، فقال له رسول الله: لم أزلت رأسك عن حجري؟ قال: لأنه ملآن من الذنوب، فقال رسول الله: ما تجد؟ قال: أجد مثل دبيب النمل بين جلدي وعظمي، قال: فماذا تشتهي؟ قال: مغفرة ربي. قال فنزل جبريل على النبي فقال: يا أخي إن ربك يقرئك السلام ويقول: «لو لقيني عبدي بقراب الأرض خطيئة للقيته بقرابها مغفرة.» قال فأعلمه رسول الله ذلك فصاح صيحة فمات.
هذا مثال من أمثلة كثيرة تبين كيف كان الخوف من الله وعذاب الآخرة من أكبر العوامل، إن لم يكن أكبر العوامل، التي دفعت أتقياء المسلمين الأوائل إلى هجر الدنيا والانقطاع إلى الله. فقد تمثلت لهم الدنيا دارا حافلة بالذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، وخطرا يهدد كيانهم الديني ويحول بينهم وبين الإعداد للآخرة، ولم يقف الأمر ببعض هؤلاء الأتقياء عند هجرهم الدنيا والزهد فيها، بل أخذوا على أنفسهم مهمة دعوة الآخرين إلى نفس هذا
معاصريهم على الدنيا وأعراضها، واختلال الميزان الاقتصادي والاجتماعي بين طبقات المسلمين ، وما لبثت هذه الدعوة حتى انفجرت في صورة ثورة علنية ضد الدنيا والطبقات المترفة صاحبة الثراء، وقد حمل لواء هذه الثورة صحابي من أقوى الصحابة عارضة وأقدرهم على الدعوة؛ وهو أبو ذر الغفاري.
Page inconnue