الليالي الحالمة والأيام المشرقة المعطرة بأريج الحب منذ هما طفلان في مرح الصبا الغض، ويدها في يده، وهو يذهب بها إلى كتاب القرية ثم إلى مدرستها، وكانت تعطيه يدها في بلاهة الطفولة ونصاعتها، ومع مرور السنين أحست أن يده بدأت تضغط على يدها، ثم تواتر الضغط، وأحست يدها أن جديدا لا تدريه يشب بين يدها ويده. شيئا ثالثا استشعرت له في قلبها وجيبا غريبا على القلب البريء، ثم سمعت من لقاء يدها بيده حديثا حلوا ونغما ذا أغاريد، ومعاني كلها عذب، فهي نشيد وكلها طروب، فهي رقص ودفوف وناي وعود.
وفجأة قال أخوها صميدة: منذ الغد لا مدرسة لك يا صبيحة.
وانعقد لسانها ... أيكون قد سمع همس يده إلى يدها؟! أتكون الأناشيد العذاب قد بلغت أذنيه؟! لم تجادل، فقد خشيت أن تطالعها من أخيها الحقيقة. انطوت على أسى، وصمتت على قلب واله، وأطرقت رأسها في تخاشع، وإن كانت في نفسها ثورة عارمة. وفي الصباح جاء شملول ليصحبها إلى المدرسة وفاجأه أخوها. - كفى ما تعلمت.
وقال شملول وكأنما مسته جمرة: كيف؟! - أنا أخوها. - وأنا ابن عمها. - أنا صاحب الولاية عليها. - لم أقل شيئا، ولكنها ما زالت صغيرة، ماذا تعمل في البيت؟ - كما تعمل بنات القرية، تساعد في عمل البيت. - إنها ما زالت في الرابعة عشرة. - كان يجب أن تبقى في البيت منذ سنتين. - صميدة. - نعم يا شملول. - أنا أخطب إليك أختك. - أجننت، إنك قلت منذ لحظة إنها في الرابعة عشرة. - أتزوجها عندما تبلغ السادسة عشرة. - أسألها.
ورأى صميدة في عينيها السعادة أعلى صوتا من الحديث.
وقال صميدة لشملول: أوافق.
وقال صميدة: نقرأ الفاتحة غدا في جمع من الرجال. •••
وحين بلغت السادسة عشرة انقض عليهم دهشور بسنواته السبعين وأمواله وأفدنته العشرة، وقدرته على رشوة العمدة. وحاول صميدة محاولته تلك ، وبدلا من أن يعود إلى رتيبة يسألها عن شفاعتها بلغته الأنباء عن مرض حميدة، وبينما هو جالس إلى أخته التي أصبحت كعود جف عنه الماء. وهي مطرقة تحاذر أن يرى أخوها ما علا وجهها من قترة وعبوس. دق الباب وقامت صبيحة إليه تمشي، وكأن بالأرض أشواكا أو جمرات، وفتحت الباب، ودخل محمود القط وراءه أخوه الأصغر شملول. ولم يلق أحد منهما السلام، وإنما صاح محمود في همس: صميدة. - أهلا يا محمود ... أهلا يا شملول.
وأكمل محمود: اسمع يا صميدة! ماذا لك في هذا البلد؟ - ألا تعرف؟ - أرضك؟ - حياتي. - أشتريها منك. - ماذا تقول؟ - أشتري أرضك وخذ أختك وأخي واذهبوا إلى مصر، وأرض الله واسعة، ولا الذل الذي نحن فيه.
وبهت صميدة لحظات، وأعمل ما سمعه في ذهنه، وكأنما يريد أن ينال مزيدا من الوقت ليفكر، وجد نفسه يقول في صوت ذاهل: ماذا تقول؟ - إن لك ولأختك أربعة أفدنة وعشرين قيراطا، ولكما هذا البيت، وكلها ثمنها معروف. هذا هو، واجمعوا ملابسكم، وتوكلوا على الله. كان الإشراق يعود إلى وجه صبيحة طوال الفترة التي تسمع فيها هذا الحديث، وكأنه صعود الشمس إلى سمتها في السماء. وأطرق صميدة هنيهات، ثم رفع رأسه إلى محمود. - أتظن العمدة سيسكت عنك؟ - بل لن يسكت، لقد بعت أرضي أنا أيضا بما فيها أرضك، بعتها كلها. - لمن؟ - ألا تدري لمن؟ - لعوض أبو عوف؟ - طبعا، إنه يكره دهشور الملواني ويكره العمدة. - إذن؟ - سافروا أنتم الليلة إلى مصر وهو مشغول بمرض زوجته. - وأنت؟! - سأبقى يومين أو ثلاثة حتى أبيع بيتكم وبيتنا. - والله لا بأس. - وقع هذه العقود ... الأرض باسم عوض أبو عوف، والبيت باسمي حتى أتصرف فيه.
Page inconnue