يصمت كدواني، ولكن قليلا ما يصمت، فالعمدة لا يترك للسكون فترة أن يخيم عليهما، فهو يقول في صوته الجبار: ألست أنا الذي يمنع محصولك أن يحرق أو يسرق، وبيتك أن يهدم أو يحرق أيضا؟
ويطرق كدواني، ويقول في مخادعة وفي غير اقتناع: وهل يستطيع أحد أن ينكر يا حضرة العمدة؟
ويعود العمدة إلى مواصلة جبروته:
ألا أحتاج إلى رجال لأحميك، وأحمي أهل القرية معك، وهؤلاء الرجال ألا يحتاجون أن يعيشوا وقد تركوا أعمالهم، وتفرغوا للمحافظة على أرواحكم وأموالكم. من أين أنفق عليهم؟ ومن أين ينفقون هم على عيالهم إذا كان كل واحد منكم سيربح ما طاب له الربح، ولا يدفع لنا ما نحافظ به على رأس ماله وأرباحه؟ بل إننا أيضا نحافظ على حياتك وحياة كل الذين يقومون بأعمال تعود عليهم بالربح، فلولا الرهبة التي يحسها المجرمون حولنا لقتلوكم، واستولوا على ما تحملون من أموال.
ولا يتكلم بلسانه كدواني ... ولكن ... يا بن الكلب إن أحدا لا يسرقني إلا أنت، وأحدا لن يقتلني إلا أنت، وأحدا لن يحرق زرعي أو بيتي أو بهائمي إلا أنت. إذا أنت حميتني من نفسك، فأنا في غير حاجة إلى حماية، فليس هناك مجرم إلا أنت، ولا عاتية ظالم إلا أنت.
وحرك كدواني لسانه في فمه: أمرك يا حضرة العمدة!
وفي حسم قاطع يقول زين: خمسة آلاف جنيه. - أهذا معقول يا حضرة العمدة؟
هذا هو المعقول الوحيد. - أنا لا أستطيع أن أدفع أكثر من ألفين.
وفي صوت آمر يقول زين: خمسة. - إذن فاصبر علي. - حتى متى؟ - حتى أبيع البهائم التي عندي. - ولماذا لا تبيعها الآن؟ - أخسر في بيعها كل ما ربحته، ولا أستطيع أن أدفع حتى الألفين. - متى تستطيع الدفع؟ - بعد ستة أشهر. - ماذا؟ - خمسة أشهر. - اسمع، أنا سأمهلك هذه الأشهر الخمسة، ولكنك إذا تأخرت يوما واحدا تكون الجاني على نفسك. •••
وتأخر كدواني، وتحدد الموعد . وخرج رجال العمدة، وقصدوا إلى بيت كدواني والقمر ينير لهم الطريق، فهم لا يخشون أن يراهم أحد، وكان بيت كدواني متسعا، وقد حرص منذ بدأ يتاجر في البهائم أن يسد باب الحظيرة الخارجي بالطوب، ويجعل البهائم في دخولها وخروجها تمر عبر باحة البيت، ولكن شيئا من هذا لم يقف عائقا دون رجال زين. ما هي إلا دفعة حتى كان باب البيت مفتوحا على مصراعيه، وكان كدواني وزوجته شفيعة وأبناؤهم الثلاثة سعداوي وبغدادي ونبيل جالسين إليهم، وقفوا جميعهم، ورأوا رجال زين ملثمين، ولكنهم عرفوهم جميعا فردا فردا، وكان خطاب وأعوانه يعلمون تمام العلم أن كدواني يعرفهم فما راعهم هذا ولا مر بخاطر أحدهم أن يفكر في هذا الأمر.
Page inconnue