ونظرت الأم نظرات عميقة في عيني ابنها، وكأنما تبينت ما فيهما، فقد كانت تنتظر أن يطلب إلى أبيه أن ينقص المبلغ إلى الربع أو النصف. ودهشت من هذا الشكر المستسلم الذي أبداه، حتى إذا أنعمت النظر في عيني ولدها حل الرعب مكان الدهشة، وتعالت أنفاسها، ولم تقل شيئا.
وخرج الأبوان ليسافرا، وخرج معهما فواز ليعود بحقيبة مأمون وحقيبته، وما أن خلت الغرفة بمأمون وسامي، حتى وجد كلا الأخوين نفسه مندفعا إلى أحضان أخيه، وراح كل منهما يضم الآخر، وكأنما يريد كل منهما أن يصبح جزءا من كيان الآخر. وانهمرت دموع فرح وشوق وحنين.
وحين جلسا قال مأمون: سامي، إنك تضمر شيئا؟ - نعم. - قله. - بل انتظر. - أتخفي عني؟ - لو أخفيت عن نفسي ما أخفيت عنك. - إذن؟ - هي فكرة بدت لم تتضح معالمها، لن أطلعك عليها إلا حين تصبح صالحة أن أفكر فيها. - وأنا قبلت.
14
قال الدكتور لسامي: سامي، ماذا أنت صانع في وقتك؟ - تقصد أوقات الفراغ؟ - هذا ما أقصد ... وأنت منذ الآن في فراغ، حتى تفتح الجامعة، ثم أنت بعد أن تفتح الجامعة لن تحتاج إلى وقتك كله للمذاكرة. - أعلم ذلك! - إذن؟ - قل لي أنت يا دكتور ما الذي جعلك تسألني هذا السؤال؟ - ربما كان لي في ذلك مأرب. - إنه أمر عجيب. - ومن أين العجب؟ - إنني كنت قادما إليك من أجل هذا. - كنت قادما من أجل ماذا؟ - لأبحث عن عمل لي وعمل لأخي. - ولكن كيف؟ - كيف ماذا؟ - ألا يرسل أبوكما لكما ... - إنه في الحقيقة يعطي كلا منا مبلغا كبيرا أكثر مما نحتاج إليه، ولكنني لا أريد أن أمس هذه الأموال. - تريد أن تعتمد على نفسك؟ - نعم. - وماذا أنت صانع بهذه الأموال؟ هل ستردها إلى أبيك؟ - بصورة أو بأخرى. - ونعم الأبناء أنتما! - رعاك الله! - إذن فاسمع، أنا أريدك أن تعمل معي، وتقرأ لي، فأنت لا شك قد لاحظت ضعف بصري. - ما أعظم هذه الوظيفة. - أما أخوك مأمون، فسأجعل رشيدة تعلمه الكتابة على الآلة الكاتبة، ويعمل معها في المكتب الذي تعمل به. - أعجز عن شكرك. •••
مر عام وانتصف العام الآخر، ولم يذهب سامي ولا مأمون إلى البلدة، بحجة أنهما في القاهرة يعملان، ولكن الواقع أنهما كانا لا يريدان أن يذهبا إلى القرية قبل أن يتما تعليمهما، وكان الأب كثيرا ما يزورهما في القاهرة، وكثيرا أيضا ما كانت أمهما تأتي معه.
نما حب ناعم نضير طهور بين سامي ورشيدة، لم يجرؤ أن يظهر إلا في نظرة عين تطفر، فلا يستطيع أن يكبح جماحها، أو في ابتسامة معها تلاقيها ابتسامة منه لا تطيق أن تحجبها، ويعجز عن إجابتها، وحزم أمره بعد روية وتدبر: دكتور، لي كلمة! - قلها. - أعلم أنني طالب ما أزال. - قل ما تريد ولا تطل، فأنا لم أتعود منك أن تقول كلمة إلا في موضعها. - إنني أحب رشيدة كل الحب. - وهي؟ - ما كنت لأسألها. - باركك الله! - إذا قبلت ... أكون ... - وإذا لم تقبل. - سأترك البيت، فأنا أدخل بيتك كثيرا ... - لا تكمل. ••• - ما رأيك يا رشيدة؟ - ما رأيك أنت؟ - لا أستطيع أن أقول إلا إذا عرفت مكانه منك. - أبي ... إني أحبه، وإني أقدره. •••
وجاء الأبوان، وتزوج سامي من رشيدة، وأصبح سامي يقيم مع عروسه في شقة أبيها، وترك الحجرة لمأمون. وانقضت سنوات الدراسة، ونال سامي ورشيدة ليسانس الآداب، وبقيت سنتان دراسيتان أمام مأمون ليتخرج في كلية الحقوق.
وكان على سامي أن يؤدي الخدمة العسكرية، فذهب إلى المكان العسكري الذي حدد له، وتمت الإجراءات، وبدأ سامي يبيت في المعسكر، حتى يتم توزيع القادمين على مختلف الأسلحة.
وكان الوقت صيفا، وكان سامي وزملاء له كثيرون يتحلقون حلقات في ضوء القمر . وكان سامي يستمع، بينما كل منهم يروي ما تعن له روايته، فمن حكايات ضاحكة إلى مآسي إلى قصص أخرى لا تضحك، ولا تبكي، وإنما تروى لينقطع بها الوقت، وتهون ملالته. وفي لحظة صمت الجميع كأنما لم يجد أحد منهم شيئا يقول، كان السكوت لحظة أو أقل، وإذا بواحد منهم يقول: أليس بينكم من يحفظ القرآن أو شيئا منه؟ وقال سامي: أنا أحفظه أو أحفظ الكثير منه، والحمد لله!
Page inconnue