أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
10
ما لبثت صبيحة أن أنجبت لشملول ابنهما الأول فالثاني، وما لبث شملول أن أصبح صاحب متجر خاص به، فهو ذو ثراء عريض. ولم يمض كثير وقت حتى أصبح صميدة ومحمود من المقاولين الواسعي الثراء، وأصبحت الحياة بالنسبة للمهاجرين جميعا واضحة المعالم، بينة السمات.
ودخل ماهر ومختار ولدا شملول إلى المدرسة، وانتظما في السلك الدراسي، وسار خطواتهما الدراسية في توفيق. •••
وازداد سعار العمدة زين الرفاعي، وفشا رجاله في المنطقة جميعها يفرضون ما يشاء زين من أوامر. وكان زين ذكيا فهو يجزل العطاء لمعاونيه، ويعاملهم في كرم باذخ وإسماح .. لماذا هذا المال؟ .. لمن؟ .. لولدي سامي ومأمون .. ماذا؟ .. ماذا .. ما قلت؟ .. سامي؟! أتختلق الكذبة وتصدقها؟ وهل سامي ابنك؟ هكذا أثبته في شهادة الميلاد .. أتساوي إذن بينه وبين ابن دمك؟ .. وماذا بيدي أن أصنع؟ وكيف أفرق بينهما في المعاملة؟ .. لا أحد يعلم أن سامي ليس ابني إلا عزيزة، وقد حافظت على السر لم تخنه .. وهي تعلم سطوتي وجبروتي، ولن تفكر يوما أن تخون سري .. إذن كيف أستطيع أن أفرق في المعاملة بين سامي ومأمون؟ .. لا سبيل أمامي .. ومن أين كنت أعلم أنني سأرزق بطفل من رتيبة؟ وهل كنت أتصور حين جاءت رتيبة إلى بيتي لترضع سامي أنها ستصبح زوجتي وأم ابني الحقيقي؟ عجيب أمر رتيبة .. إنها تعامل سامي كما لو كان ابنها شأنه شأن مأمون، بل إنها أحيانا تفضل سامي في المعاملة بمقولة أنه الأكبر. إن شأن سامي هذا عجيب هو أيضا، أي سر فيه يجعلني وأنا لست أباه أشعر كأنني حقا أبوه، حتى إنني كثيرا ما أنسى أنني اصطنعته اصطناعا واستجلبته من حيث لا أدري محاولا أن أرضي غريزة الأمومة في زوجتي. وقد تلقفته طفلا في يومه الأول، ثم أنا بين يديه أحس رهبة، وتروعني من حوله هيبة لا تطالعني من أحد. وأنا رجل لم أعرف الخوف من أحد. لقيت من لقيت من كبار رجال المديرية، بل والدولة، فما استطاع أحد منهم أن يلقي في نفسي لمحة من رهبة. وأنا في منطقتي جميعا أنا الرهبة والخوف، يرتجف أشجع رجالها هلعا إذا سمع اسمي، فأي شيء في هذا الفتى الذي شهدته رضيعا وطفلا وصبيا يجعلني أخشى أن أواجهه؟ وأحاذر كل الحذر أن يعلم عني ما أشيعه من الهول والذعر في أنحاء الربوع التي تجاور بلدتي؟! وما له وهو أمامي وهو واثق كل الثقة أنني أبوه، وليس له من أب غيري. ما له لا يتولاه هو الرهب، ويتولاني أنا؟ وما له لا يخشاني، بينما أحس أنا أنني أخشاه؟ أيكون هذا لنقائه وعلمه وصدقه وثباته وإيمانه العميق بالله، ووثوقه بنفسه ثقة لا تتاح إلا لمن عرف الطريق وسار عليه؟!
كم من صادقين لقيتهم، ولكنهم لم ينالوا ما يناله سامي في نفسي من إجلال، بل إن مأمون أيضا ينال مني هذا الإجلال وهو ابن دمي، ولكنه لصيق بأخيه لا يكاد يفارقه، فهو يتشبه به في كل شيء، حتى في إشاراته ولفتاته، وحتى لقد اكتسى وجهه بهذا الوقار الذي يكسو وجه أخيه. وهو يقدس كل ما يفعله أخوه، فكأن الفارق بينهما عشر سنوات، وليس سنتين. ما شأن هذين الأخوين، وما لي أحس من كليهما رهبة تجعلهما غريبين عني؟! وأحدهما جزء مني والآخر ربيبي الذي لا يعرف لنفسه أبا غيري.
أيكون ما أصنعه من مال لأجلهما؟ .. لا .. ما أظن .. ربما خادعت نفسي، وقلت إنني أكون لولدي ثروة، ولكني أعلم في البعيد في نفسي أنني أصنع ما أصنع عن رغبة عاتية في السلطان والجبروت. والمال أساس خطير من أسس الجبروت، ونتيجة محتمة للسلطان إذا جاء من البطش والطغيان. وقد استطعت بقوتي أن أقتل في نفسي كل شفقة إلا على أهل بيتي. وما دمت قد تخلصت من ضعف الشفقة، فأنا قادر أن أصنع ما أريد لا يردني شيء.
إن رغبة السلطان الجارفة التي تموج بين أضالعي هي التي ترسلني كالإعصار في أرجاء الحياة، وليس ولدي.
أيقاوم الإنسان قدره؟ .. أيحارب الإنسان سجيته؟ .. هكذا أنا، وهكذا أحب أن أكون.
11
Page inconnue