قالت باسمة عن ثغر ذهبي: أعمالنا لا تشين إلا المغرورين، طاوعني.
فبصق في موقد كبير ينفث بخور الهند.
وتعلق بصره بالإسكندرية والقطار يرج الأرض مبتعدا. رآها مدينة من الأطياف مغروسة في حلم الخريف تحت مظلة هائلة من السحب، وهواء بارد معبق بمطلع نوفمبر يجوب شوارعها الأنيقة شبه الخالية. وودعها هي وأمه، وذكريات ربع قرن من الزمان بزفرة طويلة ساخنة. وكيف يكون الحال لو أن من تبحث عنه قد خلفته وأنت لا تدري في ركن من الإسكندرية لم يبلغه مسعاك؟ ومن ضمن لك أن يكون حظك في القاهرة خيرا منه في الإسكندرية؟ وكم في البحر من أمواج! وكم في السماء من نجوم! وعجيب أن يكون بعيدا هذا البعد كله من تحمل روحه وجسده بين جنبيك. وما أبعدك عنه إلا شهوة عمياء انتزعتك من أحضانه لتلدك في ماخور. وكان يسألها عن أبيه فتجيبه: «كان موظفا محترما، ورجلا طيبا، ولكنه مات في ريعان الشباب.» وأهله أليس له أهل؟ فتجيبه: «لا أعرف له أهلا.» لذلك ظن طويلا أنه ابن رجل من البلطجية، وأنه ابن زنا. وأنت اليوم وحيد بلا أهل ولا أصدقاء كأنك من جنس غريب. وهاله الزحام في محطة مصر فألح عليه شعوره بالوحدة.
ونازعته نفسه إلى العودة في أول قطار، ولكنه أودع حقيبته الأمانات ، ثم خرج إلى الميدان والشمس تميل ميلة العصر. ودار رأسه مع السيارات والباصات والعابرين. وترامى الميدان في غاية من الاتساع وبلا شخصية، وتقابل فوق أديمه متناقضات من أشعة حامية وهواء لطيف، وشوارع مزدهرة وأخرى خربة. وقضى ساعة وهو يبحث عن فندق رخيص في الميدان وما حوله حتى وجد نفسه في شارع الفسقية ذي البواكي أمام فندق «القاهرة». وقف على الطوار المسقوف المقابل للفندق على كثب من شحاذ مستلق لصق الجدار يتغنى بمديح نبوي. وانعكس عليه من الشارع طابع عمل ودمامة وضجر لكثرة الدكاكين على الصفين، وعربات النقل، وأكوام البضائع، ولكنه أمل أن يجده أرخص فندق في الناحية. وهو مبنى قديم، ترابي الجدران، مكون من أربعة أدوار وعلية فوق السطح، وذو باب مرتفع مقوس الرأس كوجه باك، يفتح على مدخل مستطيل ينتهي إلى السلم، ويتوسطه مكتب جلس إليه رجل إلى جانبه امرأة. الرجل طاعن في السن، أما المرأة ... رباه إنها فتاة في عز الشباب تشد عينيه بقوة ليست بلا سبب؛ إنها توقظ مشاعر نائمة، وتنبه ذكريات مدفونة في الضباب. العطفة المبلطة الصاعدة من الأنفوشي المشبعة بهواء البحر، ورطوبته المالحة، وانفعالات الجنون الملفعة بالظلام. وسرعان ما توثقت علاقات خفية بينه وبين الفندق كأنما جاءه على ميعاد. ووجد نفسه يعبر الطريق نحوه مدفوعا برغبة في الاستطلاع والكشف وإن يكن غير مصدق لظنونه تماما، وصوت الشحاذ يتردد عاليا في نبرة أعجبته:
طه زينة مديحي
صاحب الوجه المليحي
النصارى واليهود
أسلموا على يديه
السمرة الرائقة النقية، والعينان اللوزيتان الدعجاوان، وبريقهما المضيء المفعم بالنبض والاقتحام. أين من هذا القطة المهزولة ذات الثوب الباهت الواحد وأظافرها الجارحة؟ إنها تذكره بها بعنف تاركة له تخيل ما صنع الزمن في عشر سنوات أو يزيد. والاسم القديم ضائع كأبيه، ولكن رائحة البحر تملأ خياشيمه، وها هو يرتجف لتذكر الليل البهيم، ورغم ذلك كله فقد ظل أبعد ما يكون عن اليقين. وبنت العطفة ذكرى عابرة لا قيمة لها، ولكنها تبعث الآن في صورة فريدة ذات سطوة خطيرة الشأن كبعث أبيه من الموت الذي جاء به من البحر إلى هذه المدينة المثيرة. استقبلت الفتاة القادم بنظرة قصيرة، ولكنها متغلغلة، ثم أدارت وجهها نحو استراحة الفندق إلى يمينها. ووقف صابر أمام المكتب والعجوز عاكف على دفتر يطالعه من خلال عدسة مكبرة يمسك مقبضها المعدني الصغير بيد مرتعشة.
ولم ينتبه العجوز إلى القادم؛ لشيخوخة حواسه فيما بدا، فأدام الشاب النظر إلى عارض الوجه الذي شغله، مكتشفا آيات تؤكد ظنونه، وآيات تبددها، ثم تحول الوجه إليه بنظرة ناقدة لانتهازيته، فربتت على ساعد الرجل لتنبهه، وعند ذاك بادره صابر قائلا: مساء الخير يا والدي.
Page inconnue