وكانت الوزارة تعنى بامتحاننا عناية تامة فتمتحننا تحريريا وشفويا، ويقوم بذلك الامتحان أكبر رجال الوزارة مقاما وسنا.
وكان من مفتشي وزارة المعارف المستر بويد كاربنتر، فجاء ليمتحننا في اللغة الإنجليزية شفويا، وكنت قد سمعت باسمه فأخذ يناقشني في أفكار المصريين، فقال إنهم يهتمون بالتعليم، ويهملون الصناعة، وأردت أن أنتصر لبلدي فقلت: إنهم على حق يا سيدي، فإنه لا صناعة بلا تعليم، والعلم هو الذي يرقى بالصناعات، أما صناعة الجهلاء فلا قيمة لها. قال: ولكن المصريين يحتقرون الصناعة وأربابها. قلت: إنهم على حق ما دام أرباب الصناعة الآن جهلاء، ألست ترى يا سيدي أنه من العار أن تكون الفتاة ابنة نجار مثلا؟ قلت ذلك، وضغطت على كلمة نجار، ومعناها بالإنجليزية كاربنتر، وهو اسم المفتش، ضغطت على الكلمة في شيء من الدعابة، وفهم المفتش أني أريد التلميح باسمه فضحك، وقال: أشكرك، ثم أعطاني الدرجة النهائية.
وكان الشيخ شريف، وهو من أكبر مفتشي اللغة العربية في ذلك الوقت يمتحننا في اللغة العربية شفويا، وكان رجلا شديدا في امتحانه، لا يكف عن الأسئلة إلا إذا عجزت الطالبة عن الإجابة، ولما كان أول اسمي نونا فقد كان يوضع في آخر كشف الامتحانات، وأخذ الأستاذ يناقش زميلاتي الواحدة بعد الأخرى، ولا ينتهي من امتحان إحداهن إلا عجزت، وأجابته بجملة «لا أعرف»، وجاء دوري فأخذ يناقشني وأجيبه، ويظهر أنه ضايقه هذا، وأراد أن يحملني على الاعتراف بعدم المعرفة، وكان في يده صحيفة المؤيد لصاحبها السيد علي يوسف باشا، وبها أربعة أبيات للمرحوم إسماعيل باشا صبري، ولم أكن قرأت تلك الصحيفة، وكانت الأبيات حديثة لم تدون في كتب الأدب، ومع هذا فقد قرأها لي الأستاذ، ثم سألني عن قائلها، وكانت أسئلته ببطء وبنغمة مخصوصة، فقال ما نصه: «أنت. تعرفي. مين. اللي. قال. هذه الأبيات؟» وعرفت غرضه، فتحاملت عليه وأجبته بنفس نغمته وترتيبه، فقلت: «أنا. مش. ضروري. أعرف مين. اللي. قال. هذه الأبيات.»
وما كاد الأستاذ يسمع هذا التهكم حتى رفع رأسه، وشعر بخطئه في السؤال فنظر إلي وقال: متشكر، ثم وضع لي الدرجة النهائية.
المرحومة السيدة فاطمة عمر شقيقة عبد العزيز باشا فهمي.
وعلى ذكر هذه الامتحان أقول إننا كنا في الشهادة الابتدائية نحسن التخاطب باللغة الإنجليزية أكثر من طلبة البكالوريا الآن، وأذكر أنه في امتحان الابتدائية كان يمتحنني في اللغة الإنجليزية رجل وسيدة، فقال لي الرجل: ما اسم السيدة التي تخيط ملابسك؟ ولم أتذكر كلمة خياطة في ذلك الوقت، وأردت أن أشغله بإجابة أخرى حتى أتذكر الكلمة، فقلت له: إني أنا التي أخيط ملابسي. قال: وماذا نسميك إذن؟ قلت: وهل تستطيع أن تسميني إلا تلميذة سواء في ذلك أأخطت ملابسي أم لم أخطها؟ قال: افرضي أنك ترسلين ملابسك لسيدة لخياطتها فما اسمها؟ قلت: إن هذا الفرض يحتاج إلى المال الذي ليس معي شيء منه؛ ولهذا لا أستطيع أن أفرضه. واغتاظت السيدة من تلاعبي هذا، وقالت لي بحدة: إنها هي ترسل ملابسها إلى سيدة لخياطتها، فما اسم هذه السيدة؟ وهنا تذكرت الكلمة فضحكت ضحكة الظافر، وقلتها لها، على أن كلام السيدة كان فيه ما ذكرني بالكلمة المطلوبة، وأراد الرجل أن يداعبني، أو يضايقني بعض الشيء فقال: أتحسنين الغناء؟ قلت: كلا. قال: هل تعرفين الرقص؟ قلت: لا. قال: فهل تلعبين على البيانو؟ وساءني أن تكون إجابتي كلها بالنفي، وهي كلمة لا تدل على مقدرة الطالبة في اللغة الإنجليزية فقلت له: لا تسألني هذه الأسئلة، فإني لم أخلق لمثل هذه الحياة. قال: فبماذا تتسلين إذن؟ قلت: أحل بعض المسائل الحسابية. فضحك الرجل، وقال: مخلوق عجيب!
وفي اليوم التالي كان امتحان الحساب، وكان فيه مسألة عقلية صعبة لم تحلها تلميذة واحدة في اللجنة، فجاءني المفتش، وكان مراقبا في الحساب، وطلب مني أن أريه نتيجة تلك المسألة، فلما رآها قال: صدقت فيما قلته أمس من حبك للحساب.
نزق الشباب
كان بقسم المعلمات كما قدمت 14 طالبة، ولم يكن في مصر قاطبة من نال الشهادة الابتدائية إلا هؤلاء الطالبات الأربع عشرة، وكانت الضابطات اللائي يقمن بمباشرة نظام المدرسة لم ينلن شهادات، فكانت الطالبات يتكبرن عليهن؛ لأنهن يعتقدن أنهن أعلم من ضابطاتهن، وأن بأيديهن برهانا قاطعا على صدق هذا الرأي ألا وهو الشهادة الابتدائية التي لم ينلها أحد غيرهن.
وحدث أن عاقبت إحدى الضابطات طالبة من هؤلاء الفطاحل، فقام قسم المعلمات لذلك وقعد وأرغى وأزبد، وشمخ بأنفه واستكبر، وقر رأي الطالبات جميعهن على الاحتجاج على ذلك العمل الذي لا يليق بكرامة فتاة نالت الشهادة الابتدائية، وكانت السيدة آسيا عبد الفتاح، أو صاحبة العصمة حرم محمد بك حمدي مرتضى أولى السنة الثالثة؛ أي أولى قسم المعلمات فكتبت احتجاجا، وطلبت من جميع الطالبات إمضاءه والذهاب معها إلى الناظرة لتقديم ذلك الاحتجاج، وكنت أنا في السنة الأولى من قسم المعلمات، ولكني سخرت من ذلك العمل، ورفضت أن أنضم إليهن في مثل هذا الاحتجاج السخيف، وقلت إنه لا بد للمدرسة من ضابطات يحافظن على النظام، وما دام ليس في مصر من يحمل الابتدائية فلا بد من وجود ضابطات لا يحملنها، ولا بد من وجوب احترامهن ليستطعن القيام بعملهن، وعارضتني الطالبات في آرائي هذه، وقلن إنهن لا يحتجن إلى من يشرف على نظامهن؛ لأنهن حاصلات على الشهادة، ولأن المشرفات جاهلات، وصممت على رأيي، وأخيرا ذهبت الطالبات إلى السيدة ملك حفني، وشكون إليها عصياني، وعدم تضامني معهن في احتجاجهن فطلبت مني أن لا أخالف الإجماع، وأن أنزل على رأي الأكثرية من زميلاتي، فقلت لها: إني أقبل ذلك على شرط أن يتعهد هؤلاء الزميلات بالوقوف في وجه الناظرة إن هي غضبت من ذلك الاحتجاج، وعاقبتنا جميعا. فقبلت هذا الشرط، وتعهدت الطالبات بأنهن يتركن المدرسة إن أوقعت الناظرة بهن عقابا لهذا الاحتجاج.
Page inconnue