Histoire de William le Conquérant
تاريخ وليم الظافر
Genres
سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
وبعد أن قضى روبرت مدة ليست بطويلة في باريس دخل قصر ملكه هنري يستأذنه بالانصراف، وودع ابنه وليم وخرج في رجاله للذهاب إلى أورشليم، وقد لاقى في سفرته هذه صعوبات شديدة، ومخاطر عديدة لا محل للإتيان على ذكرها هنا من حيث خروجها عن موضوع هذا التاريخ الذي هو الابن وليس الأب، ومهما يكن من سفره بصفة زائر وحاج فقد كان بغاية البهرجة والإجلال، وبعدما عاج برومية لقضاء بعض أغراض تتعلق بسفره خلع عنه ثياب السفر، ولبس حلته الدوكية وجاء القسطنطينية، وهناك بالغ في إظهار غناه وعظمته، فإنه حينما دنا من المدينة امتطى بغلا مرخما (أي مزينا بأفخر زينة) وله النعال من ذهب عوضا عن الحديد، وكانت تلك النعال غير محكمة الالتصاق بالحوافر، بقصد أنها تهتز في سير البغل فتسقط على الأرض فيلتقطها جمهور المتفرجين، وغاية ما هنالك أن يندهش الأهلون وتحار أفكارهم بوفرة غنى الراكب، وعظمة ثروته، ثم غادر الأستانة واتجه نحو الأرض المقدسة، ولم يخل له الجو في تلك السفرة من تقلبات الزمان وصروف الحدثان، فإنه أصيب فيها بمرض خبيث تركه يعاني الألم الشديد ردحا من الزمان إلى أن تعافى قليلا، بحيث أرجعت له بعض القوة وأصبح قادرا على أن يستأنف المسير محمولا في سرير؛ لأنه لم يستطع الركوب ولا المشي - ولم تكن بعد اخترعت المركبات - فرتبوا ستة عشر عبدا يتبادلون حمله أربعة أربعة.
وفي ذات يوم التقى روبرت وقومه برجل نورماندي راجع إلى بلاده من زيارة الأرض المقدسة، هذا سأل روبرت إذا كان يريد أن يرسل معه شيئا إلى نورماندي، فأجابه: «لا شيء سوى أن تقول للأهل هناك أنك صادفتني على طريقي إلى أورشليم محمولا بأربعة عشر عبدا».
ثم جاء روبرت أورشليم وقضى فروض الزيارة، وخرج منها قاصدا بلاده، على أنه ما عتم بعيد ذلك أن شاع في باريس خبر موته على الطريق، وظهر في بادئ الأمر أن ذلك مشكوك في صحته أو مكذوب فيه، وظل الناس بين مكذبين ومصدقين إلى أن تحقق الخبر، وظهر صدقه بين الجميع وانتشر، وإذ ذاك طفق إخوة روبرت وأبناء عمه وغيرهم من ذوي قرباه يتهيئون لاغتصاب الإمارة، كل يطلبها لنفسه وينازع فيها الآخرين كأنهم نسوا ما أقسموا به لروبرت من العمل على طاعة وليم بأمانة وإخلاص، وأخذ كل منهم يجهد نفسه في تحصيل إكليل الخلافة له، وكان وليم في أثناء ذلك في باريس وهو ابن إحدى عشرة سنة فقط، حيث كانت تصرف العناية التامة في تهذيبه وتثقيفه، وقد وكلت المناظرة في تعليمه العلوم الحربية إلى معلم ماهر يدعى ثيرولد، فسر هذا المعلم سرورا عظيما بنجاح تلميذه وتقدمه، ولا سيما في تمرينات ركوب الخيل المختلفة الأساليب، المتنوعة الأضرب - حسب اصطلاحات تلك الأيام - وقد هذبه في استعمال الأسلحة المختلفة كالقسي والنبال والحراب وسمر الرماح وبيض الصفاح إلى غير ذلك من أدوات الجلاد والكفاح، ومرنه في لبس عدد الحرب الفولاذية التي كانوا يلبسونها في تلك الأيام اتقاء مضارب العدو من مثل الخوذة أو الطاسة والدرقة والدرع وغيرها.
فبين وليم يأخذ عن أستاذه في باريس هذه الفنون الحربية تأهبا للاستواء على عرش الإمارة، إذ قام في نورماندي عدد عديد من المنافسين والمناظرين، وتهيأ كل منهم للسبق في ميدان المنازعة، وكان أشدهم جهادا وأبذلهم جهدا في ذلك أمير أرك - وكان اسمه وليم أيضا، ولكن لكي يتميز عن الدوك وليم الشاب ندعوه أرك - وإذ إنه كان أخا روبرت ادعى بأن حق الخلافة إنما هو له من وجه أن أخاه لم يخلف ولدا شرعيا، وعليه حشد كل قواته وجمع كل رجاله وتأهب لفتح البلاد والتسلط عليها.
ومما لا يذهب من بال القراء أن روبرت قبيل سفره إلى أورشليم عهد الوكالة في الإمارة ليد ألان، وفوضه الحكم باسمه إلى حين رجوعه، وإن لم يرجع فباسم ابنه وليم؛ حتى يشب ويبلغ سن الرشاد وتوجد فيه الأهلية ليحكم على كل هاتيك البلاد، فلما بلغ ألان ما صارت إليه البلاد بشيوع خبر موت روبرت من الاضطرابات والقلاقل، وأن أرك عازم على اغتصاب الإمارة عنوة إن لم تسلم إليه باللين؛ أمر حالا بتشكيل لجنة من كبار الحكومة الذين بمساعدتهم كان يدبر شئون الوكالة، ولما تنظمت تلك الجلسة تحت رئاسته همى سيل البحث من سماء الأفكار وابلا مدرارا، وأجمع الجميع برأي واحد على قبول الدوك وليم خليفة بعد أبيه روبرت، وأخذوا من تلك الساعة يقضون باسمه، ولما أخطروا بقدوم الأمير أرك متأهبا لمصادمتهم واغتصابهم قضيب الملك؛ بادروا في الحال لملاقاته على طريق التأهب والاستعداد، وهكذا هبت نيران الحرب تتقد من تحت رماد السلام بما كان يهب عليها من رياح البغض والخصام.
وقبلما اشتعلت بين الفريقين نار الحرب ودارت رحى الطعن والضرب، جاء نورماندي الأمراء الذين كانوا مع روبرت، وكانوا على جانب عظيم من رفعة الشأن وعلو الكلمة وشدة النفوذ، حتى إن كلا الفريقين المتهيئين للقتال تمنى لو أنهم يكونون من حزبه؛ لأنهم فضلا عن اقتدارهم على المساعدة المادية لهم استطاعة عظيمة على الإسعاف الأدبي أيضا؛ لأن سياحتهم هذه الطويلة المحفوفة بالمخاطر والأتعاب أكسبتهم اعتبارا ووقارا في عيون الشعب الذي كان ينظر إليهم بعين الاحترام وفوق ذلك؛ لأنهم انتخبوا من كل أطراف الإمارة لمرافقة روبرت في تلك الزيارة، وقضوا تلك السفرة الطويلة تحت تجشم الأخطار والمشقات، وظلوا يقومون في خدمة أميرهم والسهر عليه إلى أن أدركته المنية، وكل ذلك مما كان يحدو الشعب على عدهم أخلص أصدقاء روبرت، وأصدقهم حبا له؛ فلأجل هذا ولأسباب أخر أضربنا عن ذكرها كان الشعب يتوقع النصر والفوز للفريق الذي يسعده الحظ بانضمام أولئك الأمراء إليه.
أما هم فحالما بلغوا نورماندي اتحدوا مع الفريق النازع لمبايعة وليم رغما عن اجتهاد الفريق الآخر في استمالتهم إليه، فأدخلهم ألان في ديوانه، وعلى الفور عقدوا مجلسا للبحث في شأن إحضار وليم من فرنسا وعدمه، فذهب البعض منهم إلى إبقائه في فرنسا من وجه أنه لا يزال صغيرا، وليس في وسعه أن يأتيهم بأدنى مساعدة في ساحة الوغى سوى أنه يكون معرضا أكثر منهم للأسر أو للقتل، وعليه ارتأوا أن يظل في الوقت الحاضر في باريس تحت حماية الملك هنري.
أما البعض الآخر فذهب بالعكس وصرح بوجوب الإتيان به، واحتج بأن وجوده في نورماندي وإن كان صبيا في سن المراهقة يؤثر في قلوب أتباعه نشاطا وانتعاشا، ويحدث في جميع جهات الإمارة ميلا إليه شديدا، وانتباها نحوه جديدا؛ حتى يرى أهل القلوب اللينة من نعومة أظفاره وعجزه عن القيام بطلب حقه محاميا يحتج عنه أيما احتجاج، ويجد ألوف من الشعب من ريعان حداثته، وجمال صورته، ووضاء طلعته حاديا يسوقهم إلى طاعته، وسحرا يجذبهم إلى محبته، مع أنهم كانوا ينسونه ولربما ينفرون عنه إذا بقي في باريس، وفوق كل ذلك من يقدر أن يضمن سلامته عند الملك هنري، ولربما هذا الملك ذاته يطلب حق الاستيلاء على عرش الإمارة النورماندية، فيولي عليها أحد المقربين إليه، ويحجر على وليم في أحد قلاعه، ويتركه هناك أسيرا غير مهان من حيث المعاملة، ولكن يقطع الرجاء من إطلاقه ونجاته، أو أنه يدس له سما مميتا يذهب بحياته.
فصدق الأكثرون على هذا الرأي واستصوبوه، وعليه أنفذ ألان علما للملك هنري به يطلب إرسال وليم إلى نورماندي، فأبى إرساله متصعبا متمنعا، فاضطرب الحزب الوليمي وأشفق من تحقق الظن في طلبه حق الاستيلاء والسيادة، فاستأنف طلب وليم بمزيد اللجاجة والإلحاح، وبعد مداولات ومخابرات عديدة ومعاهدات متنوعة بين ذلك الحزب والملك هنري أجاب هذا طلبهم، وسمح لوليم بالرجوع لبلاده وهو إذ ذاك في سن الثانية أو الثالثة عشرة.
Page inconnue