Histoire de la nation copte
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
Genres
ولعل في مقالنا هذا نوع من الإدغام والإبهام فيجب علينا أن نميط عنه اللثام حتى يعلم الكل حقيقة الحال، ويقف على كنه هذه المسألة الخاص والعام.
نقول إنه في سنة 1590 قبطية - أي في عهد تولية الخديوي الأسبق إسماعيل باشا - ابتداء تاريخ هذه النهضة الإصلاحية، التي طالما تشوقت إليها الخواطر، وتشوفت إلى رؤياها النواظر. وبيان ذلك أن الجم الغفير والسواد الأعظم من أبناء هذه الأمة لما رأوا ما كانت عليه طائفتهم من التقدم والارتقاء، وما آلت إليه حالتها من الهبوط والسقوط؛ شق عليهم هذا الأمر، فدفعتهم عوامل النخوة الملية، واستفزتهم أريحية المحبة الجنسية للقيام بإصلاح طائفتهم، ولو كلفهم ذلك فوق ما لا يطيقون ولا يستطيعون. سيما وأنه قبل هذا العهد بزمن ليس ببعيد كان قد تولى رئاسة هذه الطائفة غبطة الأب الموقر الحميد الأثر والخالد الذكر «أنبا كيرلس الأكبر» العاشر بعد المائة، الذي لم شعث هذه الطائفة وأنشأ مدارسها وأصلح كنائسها، وحسن حالتها كما هو مبين ومدون بتاريخ حياته الشريف، ولكن أبى الله إلا أن يحرم الطائفة منه ويضن عليها به، فقبضه في شرخ شبابه وعنفوان صباه قبل أن يتمكن من إتمام إصلاحاته وتنظيماته التي آلى على نفسه وأخذ على عهدته إنجازها واحدة فواحدة، طبقا لظروف الأحوال ودواعي الاحتياج؛ شأن من كان حكيما غيورا على مصلحة طائفته وخير أبناء أمته، فبعد انتقاله من دار العناء والشقاء إلى ديار البقاء والهناء، لم تلبث الطائفة أن عادت إلى حالتها الأصلية حالة التأخر والتقهقر؛ إذ ارتبكت أعمالها وتوقفت حركة أشغالها، وتبددت أوقافها، وخربت مدارسها، وزال بهاء كنائسها، وعادت تندب سوء حظها، وتبكي فقد راعيها الصالح ورئيسها الغيور، فما طرقت عبارات رثائها وبكائها آذان ساداتنا المصلحين حتى شمروا عن ساعد الجد، وقالوا بقلب مفعم من الغيرة الجنسية وموعب من الشهامة الملية: «هنا هنا ميدان الجهاد والطراد، وهنا هنا تظهر همم الرجال وشتان بين قوال وفعال.»
هذه كانت حالة طائفتنا القبطية حينئذ، وتلك كانت حاسيات ساداتنا المصلحين التي كانت تتوقد بين ضلوعهم، وتخامر قلوبهم الطاهرة، وتخالج أفئدتهم السليمة، ولا غرو في ذلك ولا عجب؛ فإن الرعية لا بد وأن تكون على دين راعيها، وقد علمت وقتئذ ما جبل عليه البطريرك المحكي عنه رحمه الله من كمالات الصفات وصفات الكمالات التي أخذوها عنه، واقتبسوها منه منذ نعومة أظفارهم ونضارة شبابهم.
هذا، ولما كان تاريخ هذه النهضة المتعلق بتاريخ هؤلاء المصلحين الكرام متقطعا بالنسبة لمجريات مدته، ونظرا لوقوعه في أوقات متفاوتة وأزمنة متباينة، تختلف باختلاف وجود هؤلاء المصلحين في مدد متقطعة، فقد استصوبنا أن نقسمه إلى ثلاث أقسام سميناها لزيادة الإيضاح: الثلاث نهضات.
النهضة الأولى
ابتدأت هذه النهضة الأولى في سنة 1589 قبطية، وبيان ذلك أن الكثير من فضلاء هذه الطائفة ونبهائها ووجهائها، الذين ذاقوا لذة الإصلاح الذي قام به البطريرك الأسبق المنوه عنه، لما رأوا أنه بموت هذا الراعي الصالح قد ماتت كل هذه الإصلاحات والتنظيمات التي سهر على إجرائها ومباشرتها آناء الليل وأطراف النهار؛ لم يألوا جهدا في إعادتها واسترجاعها بعد اندثارها وضياعها، عالمين أن ذلك من أوجب الواجبات المفروضة عليهم وألزم اللزوميات المفتقرة والمضطرة إليها طائفتهم، فالتأموا وأسسوا جمعية خيرية إصلاحية سموها «جمعية الإصلاح» شكلت في مبدأ الأمر من أربعة مؤسسين؛ وهم حضرات الأفاضل الأماثل يعقوب أفندي نخلة، وبرسوم أفندي جريس، وجندي أفندي يوسف، وعزوز أفندي منقريوس، ثم انتظم بعدئذ في سلكها عدد عديد من نبهاء ونزهاء الطائفة، الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة الثمينة بفروغ صبر، ولما اجتمعوا والتأموا بعض دفعات متواليات وصفا لهم الجو حرروا رسالة ضافية الذيل إلى المرحوم الطيب الذكر أنبا مرقس مطران البحيرة ووكيل الإسكندرية؛ مذ كان في مسند توكيل البطريكخانة بمصر، بعد وفاة المرحوم المبرور الذكر أنبا ديمتريوس البطريرك سلف البطريرك الحالي والي النظار المتولين أمر الأوقاف وقتئذ، مؤداها:
حيث إن الغرض من وجود أوقاف للطائفة باسم الفقراء أنه يصرف منها عليهم كما يستدل على ذلك من تسمية اسم كل وقف على حدته، وحيث إن الفقراء المومأ إليهم مهملين ومطروحين في زوايا النسيان ليس لهم من يعولهم أو يفتقدهم، فضلا عن تصرف متولي تلك الأوقاف فيها تصرفا مطلقا، فالجمعية تعلن حضرة المطران الموقر ومتولي الأوقاف وعمد الطائفة أجمع أنها ستجمع أجر بيوت الأوقاف، التي هي تحت يد مشتركيها، وما يتحصل منها في آخر كل شهر يصرف على الفقراء بمعرفتها.
وكانت هذه الرسالة شديدة اللهجة قوية الحجة، تشف من الجهة الواحدة عن خلوص نية أولئك الأعضاء الأفاضل، وتشعر من الجهة الأخرى بالتهديد والترهيب والإنذار والتحذير، فوجفت منها القلوب وارتجفت الفرائص، واتجهت إلى هذه الجمعية أفكار الأمة بأسرها وشخصت إليها أنظارها، وتوسم منها الكل للطائفة نجاحا تاما وإصلاحا عاما.
فأرسل جناب المطران على أثر هذه الرسالة تذاكر دعوة رسمية لسائر عمد ووجهاء الطائفة يدعوهم فيها للحضور بالدار البطريركية لأخذ آرائهم في مسألة ذات بال، فلما انتظم عقد هذه الحفلة الحافلة كلف نيافة المطران المبرور الذكر حضرة الأب الفاضل الأغومانوس فيلثاوس رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى أن يتلو على مسامعهم الكريمة صورة الخطاب الآتي، وهذا نصه:
معلوم لدى محبتكم أنه معتاد من قديم، اجتماع من يتوفق اجتماعهم أحيانا من أبناء الطائفة بدار البطريكخانة للنظر في خصوصيات الملة، والفصل فيها بالاتحاد مع الرئيس الحاضر - أعني البطرك - أو من ينوب عنه، غير أنه لمناسبة مشغولية غالب أشخاص الطائفة في شئون أنفسهم، وعدم انتظام جمعية رسمية مؤلفة من أشخاص معينين بأوقات معلومة، كان سبق إعلان بنوتكم من طرفنا منذ سنة تقريبا بطلب تعيين جمعية رسمية مركبة من اثني عشر شخصا تنظر في أهميات الطائفة، وخصوصيات الأيتام والفقراء وغير ذلك، ولما أنه لحد الآن لم تبدوا لنا ما استقرت عليه أفكاركم، دعا الحال لاجتماعكم بهذا اليوم المبارك؛ لتفيدونا بما ترونه موافقا إجراؤه. والله تعالى يوفق لكم بالخير.
Page inconnue