الكتاب الأول: تاريخ دولة بني العباس
1 - كلمة في منشأ هذه الدولة وأحوالها وأنظمتها
2 - الدعوة العباسية
3 - خلافة أبي العباس السفاح العباسي
الكتاب الثاني: الخلفاء العباسيون
1 - أبو العباس السفاح
2 - أبو جعفر المنصور
3 - المهدي بن المنصور
4 - الهادي بن المهدي
5 - الرشيد بن المهدي
6 - الأمين بن الرشيد
7 - المأمون بن الرشيد
8 - المعتصم بن الرشيد
الكتاب الأول: تاريخ دولة بني العباس
1 - كلمة في منشأ هذه الدولة وأحوالها وأنظمتها
2 - الدعوة العباسية
3 - خلافة أبي العباس السفاح العباسي
الكتاب الثاني: الخلفاء العباسيون
1 - أبو العباس السفاح
2 - أبو جعفر المنصور
3 - المهدي بن المنصور
4 - الهادي بن المهدي
5 - الرشيد بن المهدي
6 - الأمين بن الرشيد
7 - المأمون بن الرشيد
8 - المعتصم بن الرشيد
عصر الازدهار
عصر الازدهار
تاريخ الأمة العربية (الجزء الخامس)
تأليف
محمد أسعد طلس
الكتاب الأول
تاريخ دولة بني العباس
الفصل الأول
كلمة في منشأ هذه الدولة
وأحوالها وأنظمتها
يقول بعض المؤرخين المحدثين: إن دولة بني أمية هي الدولة العربية الخالصة، أما دولة بني العباس فدولة عربية شكلا أعجمية حقيقة، ولو أتيح للعنصر العربي في العصر العباسي بما أتيح له في العصر الأموي لأتى بالعجب العجاب، ولكن الطغيان الأعجمي الذي طغى على العنصر العربي قد بدل الوضع وأفسد القضية العربية ... يقول الجاحظ في «البيان والتبيين»: «إن دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان أموية عربية ...» ويقول المسعودي في «مروج الذهب» في معرض حديثه عن قيام الدولة العباسية وزوال الدولة الأموية: «سقطت قيادات العرب وزالت رياستها ...»
وهذه الأقوال السابقة تدل على أنه بانتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس ضعف شأن العرب وخضدت شوكتهم، وهو قول صحيح بعض الشيء، فقد كان السلطان العربي في العصر الأموي سلطانا قويا بارز القسمات في كل شيء؛ فالولاية للعربي، والقضاء للعربي، والأرض للعربي، والناس كلهم من أسود وأصفر وأسود دونه، بل خول له، وسواد العراق هو بستان لقريش، تنال ثماره وتستغل عقاره؛ هذا قول صحيح، ولكنه - في رأينا - قول مبالغ فيه؛ فقد كان العربي كل شيء في العصر الأموي، ولكنه ظل في العصر العباسي ذا نفوذ وسلطان، وإن كان لا يضاهي نفوذه وسلطانه في العصر الأموي، فما استطاع العنصر الأعجمي في الدولة العباسية الجديدة أن يقضي على النفوذ العربي تماما، وإن استطاع أن يهون من أمره بعض التهوين. يقول الدكتور عبد العزيز الدوري في معرض حديثه عن نشأة الدولة العباسية بعد عرضه للنظرية السابقة: «ولعل هذه الأقوال صحيحة في أساسها، لكنها متطرفة على ما أرى، فمن المبالغة أن نقول بأن سلطان العرب ينتهي بسقوط الأمويين، فالخلفاء العباسيون كانوا عربا هاشميين (من جهة الأب على الأقل)، وكانوا يعتزون بنسبهم ويعتبرونه أكبر مناقبهم، ومع أنهم قربوا الفرس إلا أنهم سيطروا عليهم فنكلوا بهم حين شعروا بتعاظم نفوسهم، كما فعل أبو العباس بالخلال، والمنصور بأبي مسلم، والرشيد بالبرامكة، والمأمون بالفضل بن سهل، وقد أعطيت بعض المناصب الهامة كالوزارة إلى الفرس، ولكن عددا كبيرا من الولاة والقواد كانوا عربا في العصر العباسي الأول، فإن كثيرا من أصحاب المناصب في الدولة الجديدة كانوا عربا.» وإن ما يذكره الدوري صحيح، إلا أن أصحاب تلك النظرية قالوا: إن السلطان العربي قد اضمحل، وإن الدولة قد اصطبغت بصبغة أعجمية بعد أن كانت عربية خالصة، وقد اختص آل العباس الأعاجم بصورة عامة، والخراسانيين بصورة خاصة، ولا غرو فإنهم كانوا عماد دولتهم وموئل حركتهم، أما العرب فقد فقدوا كثيرا من امتيازاتهم التي كانت لهم في العصر الأموي، سواء أكان ذلك في الوظائف الكبرى، أو في الإقطاعات التي يأخذونها، أو في النفوذ بصورة عامة.
يقول المسعودي في المروج: «إن المنصور هو أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثلت الخلفاء ذلك من بعده.» وقد كان من نتائج هذا التقلص لنفوذ العرب وبروز السلطان الأعجمي أن دخلت النظم الأعجمية من فارسية وغير فارسية في الدولة الجديدة، ومن أبرز هذه النظم تلك النزعة الكسروية الساسانية الاستبدادية، وما إليها من المراسيم والتقاليد التي كانت قد بدأت في الظهور أيام بني أمية، فإذا هي في ظل الدولة الجديدة تترعرع بقوة وعزة، وقد بعدت الشقة بين الدولة وبين القبيلة والبادية العربية بعدا شاسعا، أما في العصر الأموي فعلى الرغم من محاولة خلفائه اقتباس النظم والتقاليد الأعجمية، فإن صلة الخلفاء والأمراء بالقبيلة العربية وتقاليدها وآدابها الموروثة كانت ذات أثر ملموس واضح.
ومما يلاحظ أيضا في هذه الدولة الجديدة أنها ألبست دعوتها لباسا دينيا، فادعى أصحاب الدعوة الأولين أنهم إنما قاموا بدعوتهم اتباعا لكتاب الله، وإحقاقا لحق آل بيت رسول الله، وتحكيما لسنة رسول الله التي اضطهدت في العصر الأموي، وإرجاعا لنظم الخلافة كما أرادها الرسول الكريم بدل الملك العضوض الذي أحدثه أملاك أمية، يقول ابن الطقطقي في «الفخري»: «إن هذه الدولة ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤهم يطيعونها تدينا، والباقون رهبة أو رغبة.» والحق أن العباسيين إنما سلكوا هذه السبيل لأنهم استعانوا بأبناء عمومتهم العلويين أصحاب الحق الأقرب في الخلافة، واعتمدوا عليهم في تكوين دعوتهم إلى أن تم لهم الأمر، فتنكروا لهم وفتكوا بهم. ومما يلاحظ في هذه الدولة الجديدة أيضا أن نظام الخلافة وولاية العهد ووراثة الحكم أصبحت أمورا وراثية تقليدية، وقد كان الأمر في العصر الأموي قريبا من ذلك، إلا أنه كان يكون للشورى والسن والعرف القبلي بعض الرعاية أو بمقدار أكثر مما صار إليه في أيام بني العباس؛ فقد أصبح نظام ووراثة العهد ميراثيا بكل معنى الكلمة، فلا الشورى لها موضع، ولا العرف والتقاليد العربية في اختيار ولي عهد الخليفة لها رعاية، فكم ولي الخلافة طفل! وكم أسندت أمور المسلمين إلى حدث لم يؤت من شرائط الخلافة ما يؤهله للقيام بأعبائها! وما كان هذا الأمر ليستساغ في العصر الأموي؛ لأن الروح العربية كانت ما تزال قوية، والتقاليد ورعاية السن والمقام كان لها أثرها في اختيار الخليفة وولي العهد. ويجب أن لا يغرب عن البال أن الأمويين كانوا على الرغم من نزعتهم الاستبدادية لا يستطيعون تخطي التقاليد العربية، فقد حافظوا على حرمة القبيلة ومكانة رئيسها، وراعوا فكرة احترام الأنساب حق الرعاية، كما راعوا حرمة المكانة الاجتماعية، أما خلفاء بني العباس فقد أخذت التقاليد والمراسيم الفارسية والأعجمية تحتل مكانتها عندهم، وفي هذا دليل على ما ذهبنا إليه من مشايعة أصحاب الرأي القائل بأن هذه الدولة الجديدة دولة ذات طابع فارسي واضح؛ فقد اعتمد الخلفاء على الفرس والموالي وقربوهم منهم، واستطاع هؤلاء الموالي - متسترين وراء الفكرة القائلة بأن الدين الإسلامي قد ساوى بين معتنقيه كافة، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى - أن ينفذوا إلى قلوب الخلفاء، وأن يسيطروا على مرافق الدولة ومؤسساتها.
وقد اهتم خلف بني العباس منذ فجر تأسيس سلطانهم بترتيب الدولة وتأسيسها وتنظيماتها ترتيبا جديدا يعتمد على الإصلاح والقوة، ويكاد يكون النظام الإداري للدولة الجديدة هو النظام الإداري السابق الذي وجد في أخريات أيام بني أمية، إلا ما أحدثه العهد الجديد من نظم وتراتيب استقاها من التراتيب الإدارية الأعجمية، أو الأنظمة الدولية الكسروية، ومن أبرز تلك التراتيب الأمور الآتية: (1)
أنهم عززوا وظيفة «الكاتب» أو «الوزير» وثبتوا مركزه ولقبه، وخولوه سلطانا واسعا، وجعلوه المشرف الأعلى على دواوين الدولة كافة والتي تعددت، وهذا لم يكن معروفا في العصر الأموي، فإن الكاتب أو الوزير وقتئذ ما كان إلا مدونا لما يمليه الخليفة عليه، ويبعث به إلى الأقاليم، وينفذ أوامره ويتقيد بإرشاداته.
أما نظام الوزارة في العهد الجديد فنظام ذو سلطان واسع وإشراف تام على مرافق الدولة ومؤسساتها كافة. (2)
أنهم أصلحوا شئون الدواوين، وأمروا بترتيب سجلاتها ترتيبا يحفظ أوراقها من التلف والضياع؛ حتى يمكن الرجوع إليه، كما أنهم حددوا وظائف كل من: أصحاب دواوين «الخراج» و«الخاتم» و«النفقات» و«الصدقات» و«البريد» و«الجند» و«الإقطاع» و«المصادرة» و«الشكاوى» و«الضرائب»، بعد أن كانت مختلفة في العهد الأموي. (3)
أنهم أشركوا غير العرب في الجيش بعد أن كان أمره محصورا بالعرب أيام بني أمية.
وقد بالغ العباسيون في الاعتماد على غير العرب، وبخاصة الخراسانيون، حتى غدا العربي في الجيش غريبا أو كالغريب، وخصوصا بعد عصر المتوكل على الله ومن بعده من الخلفاء، وقد اهتم الخلفاء العباسيون بالجيش وترتيبه وتنظيمه ترتيبا كسرويا، كما جعلوا فيه فرقا من الجند المرتزقة وسموا لهم الرواتب الكبيرة اعتمادا عليهم وثقة بهم. (4)
أنهم رتبوا الأمور المالية ترتيبا جديدا يلائم الحركة الجديدة والدولة الناشئة، فبعد أن كان النظام المالي في العصر الأموي نظاما أقرب إلى البساطة يعتمد في جميع موارده على الزكاة والصدقات والجزية والخراج والفيء، وهذه أمور جاء بها الشرع وعمل بها الخلفاء الراشدون، فلما جاء الأمويون استحدثوا بعض الضرائب والمكوس غير الشرعية، كهدايا النيروز والمهرجان، وأموال المصادرة، وجزية الموالي بعد إسلامهم، وجزية من أعفاهم الإسلام، إلى غير ذلك مما لم يقره الشرع.
فلما تولى بنو العباس واعتنوا بنظام ري الأراضي وفرض الضرائب عليها وعلى التجارة عن الموالي، وساووا بينهم وبين العرب، زادوا الخراج وأخذوا الجزية من بعض من منع الإسلام أخذها منهم كالرهبان ومن لم يبلغوا سن الحلم، كما أنهم أحدثوا ضرائب جديدة غير شريعة؛ كضرائب أخماس المعادن، وضرائب الركاز، وضرائب المصائد والسفائن وما يخرجه البحر، والضرائب التي تفرض على التجار وبعض السوقة وأهل الحوانيت، وضرائب المواريث والتركات، وضرائب المراعي والقوافل، وأكثر هذه الموارد قد استحدثه الأمراء العباسيون تمشيا مع تحضير الدولة، وسدا لأبواب النفقات التي اقتضتها الدولة الجديدة. (5)
أنهم اهتموا اهتماما عظيما بالناحية الثقافية والفنية تمشيا مع تقدم الأمة في مضمار الحضارة وتطلبا للمعرفة والإدراك، وقد لعب أبناء الدول المفتوحة من روم وسريان وأقباط وفرس وأنباط دورا خطيرا في إيجاد ثقافة إسلامية رفيعة، أنتجت أطيب الثمار في العصر العباسي الأول، ثم العصر العباسي الثاني، وليس هنا مجال تفصيل هذا البحث. (6)
أنهم من الناحية الاجتماعية خلقوا بيئة رفيعة غنية في أفكارها وحياتها وتقاليدها وآدابها وأخلاقها، فبعد أن كانت البيئة في العصر الأموي عربية أقرب إلى البداوة والسذاجة، أصبحت في هذا العهد بيئة معقدة مطعمة بخلاصة الحضارات القديمة العريقة من فارسية ورومية ومصرية وهندية، وقد اضمحلت الروح القبلية التي كانت في العصر الأموي وحلت محلها روح جديدة، هي روح التعصب القومي أو البلدي، بعد أن كان العرب في العصر الأموي منقسمين إلى قيس ويمن، أو قحطانية وعدنانية، أصبحنا نجدهم في هذا العصر صفا واحدا يحارب فكرة خطرة جاء بها الموالي لهدم كيانهم، ألا وهي فكرة الشعوبية، كما أصبحنا نرى كثيرا من الفكر الاجتماعية الغريبة عن البيئة العربية واضحة المعالم تمد برءوسها وترفع عقيرتها؛ مثل: فكرة الزندقة، والإلحاد، والمانوية، والمزدكية، والخرمية. (7)
أنهم لما رفعوا من شأن الأعاجم والموالي غير العرب كان منطقيا أن يتطاول هؤلاء الأعاجم والموالي على العرب، تنفيسا للكرب الذي قاسوه أيام بني أمية، وقد نتج من ذلك معارك وفتن سيفية وقلمية ظهر أثرها في كل شيء حتى في التأليف والتدريس والقضاء والشعر والأدب بصورة عامة، استطاع الموالي بما أوتوه من سلطان وملكات أن يطمسوا كثيرا من معالم الفضل العربي ونتائج القرائح العربية، أو يشوهوا مباهجها الرائعة. (8)
أنهم اتخذوا المشرق، وبخاصة العراق كانت مركزا لحركتهم، وفي هذين الإقليمين مراكز ذات ثقافات قديمة، ولها أفكار خاصة ذات طابع معروف، ففي العراق والكوفة - التي كانت مقر الدعوة العباسية - اجتمع كثير من الثقافات القديمة والديانات العريقة، وكان من جراء هذا كله أن نبغت جماعات ذوو آراء وأفكار غريبة عن النفس العربية؛ كفكرة التناسخ، وفكرة الحلول، وفكرة الحق الإلهي، وغير ذلك من الأفكار الغريبة عن العقلية العربية. وفي المشرق، وخراسان بالخاصة، كانت مجتمعات لشتى الثقافات والأفكار والديانات والآراء، وكان فيها كثير ممن أسلم رغبة في منفعة أو رهبة من بطش وقلبه مملوء كرها للعرب والإسلام، فاضطر أن يسلم ونفسه مشبعة بديانته القديمة والفلسفات العتيقة التي توارثها واعتنقها، فما كان من السهل أن يتخلى عنها للدين الجديد الذي جاء العرب به. (9)
أنهم باعتمادهم على الموالي قووا النزعات القومية، فأخذ العرب مع ما هم عليه من حزازات قديمة يتحزبون على الأعاجم، ويرجعون إلى عنعناتهم الجاهلية التي حاربها الإسلام وكاد أن يقضي عليها، وأخذ الفرس والموالي على العموم يتكتلون ضد العرب، وأخذت بوادر النزعات القومية والإقليمية والبلدية تبرز في الأقاليم المفتوحة، وبخاصة في مقاطعات خراسان والخزر وبلاد المشرق، وأخذ الطامحون من أبناء فارس والديلم والأتراك يفكرون في الانسلاخ عن جسم الدولة العربية والعمل على استقلالهم الذاتي، ويجهرون بذلك ، وهذا أمر لم يكونوا يجرءون على تنفيذه في العصر الأموي، أما الآن فالقادة منهم، والوزراء منهم، وأصحاب الدواوين والدولة منهم، فما عليهم إلا أن يرسموا الخطط ويهيئوا البرامج للعمل في المستقبل القريب ضد الدولة العربية، وهكذا كان. (10)
كان من جراء نقل العاصمة من الشام إلى العراق أن انتقل النشاط الفكري والسياسي للإمبراطورية العربية إلى المشرق، فسادت الثقافات المشرقية بين الفارسية والسريانية والنبطية والهندية والرومية في الدولة الجديدة، كما ضعف نفوذ الدولة المركزية في الولايات الغربية كشمال إفريقية ومصر وجنوب الجزيرة العربية، وانقطعت الصلة بالمرة بينها وبين الأندلس الذي استقل تماما بتأسيس الدولة الأموية فيه كما بيناه في آخر عصر الاتساق. (11)
كان من جراء نقل العاصمة أيضا، ولأسباب أخرى، أن بعض الممالك الإسلامية في شمال إفريقية وعمان والأندلس لم يتابع الخلافة الجديدة لبعده عنها، أما مصر فكان اعترافها اعترافا شكليا كما سنفصله فيما بعد.
الفصل الثاني
الدعوة العباسية
اجتمعت عوامل عديدة على وضع نهاية للدولة الأموية، وأول هذه العوامل أن الموالي والفرس كانوا قد ضاقوا ذرعا بحكم الدولة العربية، فتآمروا على الإجهاز عليها، وكانوا في آخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني للهجرة قد استعادوا بعض قوتهم، وتجمعت لديهم الأسباب التي تمكنهم من الانقضاض على أعدائهم والفتك بخصومهم الذين أذلوهم وأفقدوهم مجدهم وطوحوا باستقلال بلادهم، وقد تعاون هؤلاء الموالي والأعاجم مع نفر من العرب الذين كرهوا حكم بني أمية، فعملوا على التخلص منهم، ومن أبرز هذا النفر بنو هاشم من بني علي وبني العباس.
وهناك عوامل عديدة أخرى عملت في القضاء على العهد الأموي، بالإضافة إلى الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي منيت به الدولة في آخر عهدها، ويمكننا إجمال تلك العوامل فيما يلي: (1)
الانقسامات القبلية العديدة التي قسمت الأمة وفرقتها إلى شيع وأحزاب من يمانية وقيسية وعدنانية وقحطانية، وقد تطور هذا الانقسام القبلي إلى انقسام حزبي عنيف نتج عنه تفسخ البيئة العربية تفسخا قذرا، فاتسعت شقة الخلاف بين السكان اتساعا عمل على تهديم أركان الدولة الأموية. (2)
تهاون بعض الخلفاء والأمراء الأمويين في النواحي الدينية والخلقية؛ وانغماسهم في بحور اللهو وأسباب الفسق والاستهانة بآل بيت الرسول
صلى الله عليه وسلم
وفتكهم بهم وتشريدهم.
وقد استطاع العباسيون ودعاتهم الأذكياء أن يستغلوا كل هذا الحنق في سبيل الوصول إلى هدفهم السياسي، واستطاعوا بدهائهم أن يخدعوا العلويين بأن دعوتهم إنما تهدف إلى إحقاق الحق وتسليم الأمر للرضا من «آل بيت محمد»، وكلمة «الرضا» كلمة غامضة ليست محددة، فاستطاع العباسيون ودعاتهم أن يخدعوا بها العلويين وشيعهم، ويسيروهم في دعوتهم إلى أن تم لهم الأمر، فتنكروا لهم وأعادوا سيرة الأمويين معهم، وأصل هذه الدعوة يرجع إلى عهد الفتنة الكبرى التي وقعت بين يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير، فإنه لما مات يزيد وعظم أمر ابن الزبير في الحجاز ومصر والعراق وبايعه أشراف الناس ووجوههم، امتنع زعيما الهاشميين وهما محمد بن الحنفية وعبد الله بن العباس من مبايعته، فاضطهدهما وسجنهما، وعادت الفتنة من جديد، وكان ظهر آنئذ في الكوفة - التي كانت مقر الحركة العلوية - رجل ذو مطامع سياسية واسعة، هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الملقب بكيسان، وأخذ يدعو لآل علي، فالتف حوله رؤساء الشيعة، واستطاع أن ينقذ محمد بن الحنفية من سجنه، ثم جمع جموعه لقتال ابن الزبير، فما كان من ابن الزبير إلا أن وجه إليه أخاه مصعبا، فاستطاع أن يفتك بالمختار ويقضي على دسائسه، ولكنه لم يستطع أن يقضي على حركته، فبقي بعض جذورها التي استطاعت أن تظهر فيما بعد بشكل آخر، أما ابن الحنفية فإنه تراجع منخذلا، ثم اضطر بعد أن قضى عبد الملك بن مروان على الحركة الزبيرية أن يبايعه، ولما مات ابن الحنفية اضطربت أفكار شيعته، فمنهم من قال بغيبته موقتا ورجعته، ومنهم من تبع ابنه أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية متهجمين على بني أمية مبينين ظلمهم وفتكهم بآل النبي
صلى الله عليه وسلم
وإفسادهم أمر المسلمين وما إلى ذلك مما تقتضيه أساليب الدعوة، وكان في خراسان اثنا عشر نقيبا يعملون على هدم بني أمية وإقامة سلطان هاشمي، وكانوا على اتصال بالمركز في الكوفة، أما أبو هاشم عبد الله بن محمد فإنه اضطر أن يلجأ إلى بني عمه من آل العباس الذين كانوا يقيمون في «الحميمة» من أرض فلسطين جنوبي البحر الميت، وكان أكبر رجال آل العباس وقتئذ هو محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فأقام أبو هاشم فيهم، ويقال إنه قد تخلى لهم عن حقه في الخلافة لما أحس بدنو أجله على الشكل الذي سنفصله بعد.
قال ابن الطقطقي صاحب كتاب «الفخري»: «وكان أبو هاشم من رجال أهل البيت، فاتفق أنه قصد دمشق وافدا على هشام بن عبد الملك فأكرمه هشام ووصله، ثم رأى من فصاحته ورياسته وعلمه ما حسده عليه وخاف منه، فبعث إليه وقد رجع إلى المدينة من سمه في لبن، فلما علم بذلك عدل إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان نازلا بالحميمة من أرض الشام، فأعلمه أنه ميت وأوصى إليه، وكان في صحبته جماعة من الشيعة، فسلمهم إليه وأوصاه بهم، ثم مات فتهوس محمد بن علي بالخلافة، منذ يومئذ وشرع في بث الدعاة سرا، وما زال الأمر على ذلك حتى مات ...» وموت محمد بن علي هذا كان في سنة 114ه، وقيل: بل في سنة 117ه، والدعاة الذين يشير إليهم ابن الطقطقي هم اثنا عشر داعيا أو نقيبا اختارهم محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لينظموا دعوته سرا، وهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين الخزاعي مولاهم، وعيسى بن أعين الخزاعي مولاهم، وقحطبة بن شبيب الطائي، ولاهز بن قريظ التميمي، وموسى بن كعب التميمي، والقاسم بن مشاجع التميمي، وخالد بن إبراهيم الشيباني، والشبل بن طهمان الحنفي مولاهم، وعمران بن إسماعيل المعيطي مولى أبي معيط. وقد جعل محمد بن علي للدعوة مركزين؛ «أحدهما» في الكوفة، وكانت صلته بالحميمة يتولى أمره ميسرة مولى علي بن عبد الله بن العباس، و«الثاني» في خراسان، وكان مرجعه الكوفة، ويتولى أمره الدعاة الاثنا عشر الذين سلفت أسماؤهم، وكان رئيسهم وصاحب الرأي فيهم سليمان بن كثير الخزاعي.
اختار محمد بن علي بن عبد الله سبعين رجلا ليكونوا مؤتمرين بأمر النقباء الاثني عشر، يعملون في الخفاء على نشر الدعوة العباسية، ويهدمون الدولة الأموية، ويحرصون على تنفيذ ما يقرره النقباء بعد التشاور والتعاون فيما بينهم، وظل هؤلاء يعملون جميعا سرا من أول القرن الثاني إلى سنة 127ه، كانوا يجوبون البلاد متظاهرين بالاتجار أو طلب العلم أو التطبيب أو السياحة، وهم ينشرون دعوتهم متهجمين على بني أمية، مبينين ظلمهم وفتكهم بآل النبي
صلى الله عليه وسلم
وإفسادهم أمر المسلمين، وما إلى ذلك مما تقتضيه أساليب الدعوة، وكان نقباء خراسان الاثنا عشر على اتصال بمركز الكوفة، والكوفة على اتصال بميسرة يخبرونه بكل شيء، وهو يخبر بدوره الحميمة. ومما تجدر الإشارة إليه أنه في سنة 105ه انضم إلى الدعوة رجل ذو خطر كبير هو بكير بن ماهان، وكان من وجوه الخراسانيين ودهاتهم، اتصل بمحمد بن علي فأحبه وآزره في دعوته، وقد لعب بكير دورا كبيرا في نشر الدعوة، وتزويدها بالمال وحسن تنظيماتها، ولما مات محمد بن علي سنة 114ه، وتولى الأمر من بعده ابنه إبراهيم بن محمد، فسار سيرة أبيه في تنظيم الدعوة، واستمر بكير في نشاطه إلى أن مات، فأقام إبراهيم بن محمد مكانه أبا سلمة حفص بن سليمان الخلال، وهو صهر بكير بن ماهان، وحدث آنئذ أن اتصل بإبراهيم شاب من موالي بكير، وكان من ذوي المقدرة والدهاء والسياسة، اسمه عبد الرحمن أبو مسلم الخراساني، وقد تفرس إبراهيم فيه الحزم والقوة فقربه منه واعتمد عليه، ثم وجهه إلى خراسان وأمره أن يعلن الدعوة بعد أن كانت سرية، وأن يشرع بالعمل فورا، وكتب إلى النقباء والشيعة العباسية والعلوية أنه قد أمره عليهم وأعطاه رسالة، وهذا بعض ما جاء فيها: «... يا عبد الرحمن، إنك رجل من أهل البيت، فاحفظ وصيتي وانظر هذا الحي من اليمن، فأكرمهم وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يتمم هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاهتم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مضر فإنهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة، ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت أن لا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ (يعني سليمان بن كثير) ولا تعصه، وإن أشكل عليك أمر فاكتف به مني ...» وهكذا سار أبو مسلم في دعوته وهو مزود بهذه الوصية التي لا أرى مجالا للشك في صحة نسبتها إلى إبراهيم، كما يذهب إليه بعض مؤرخي العصر؛ لما فيها من طعن صريح في العرب؛ لأن إبراهيم كان يريد الوصول إلى هدفه بأي ثمن، والسياسة عادة لا تعرف مذهبا ولا تتعصب إلا لهدفها.
سار أبو مسلم إلى خراسان في سنة 128ه فلبس السواد الذي اتخذه العباسيون لهم شعارا، وأخذ يدعو الناس للدخول في دعوته ويثيرهم على بني أمية، ويحرضهم لنصرة أبناء الرسول
صلى الله عليه وسلم
فالتفوا حوله، وكانت دولة بني أمية آنئذ قد اضطرب أمرها وكثر الهرج فيها، وكان الخليفة الأموي في دمشق مروان بن محمد قد أحس بخطورة الموقف، فكتب إلى أميره على خراسان «نصر بن سيار» أن يقف أمام ذلك الثائر ويحسم الأمر بشدة إلى أن يجيئه المدد.
ثم بعث هو من جاءه في سنة 131ه بإبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولما عرف إبراهيم بطلب مروان إياه أدرك أنه لا بد مقتول، فأوصى بالأمر من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله «السفاح»، وأمر أهل بيته أن يسمعوا له ويطيعوا، وطلب إليه أن يترك الشام ويفر بإخوته وأبنائه وأهله إلى الكوفة حيث شيعتهم، فسار أبو العباس حتى دخلها خفية، ولما بلغ خبر دخولهم إلى أبي سلمة الخلال أنكر ذلك وخاف مغبته، وطلب إليهم أن يسكنوا خارج الكوفة خوفا عليهم من عيون خليفة دمشق مروان، ثم رأى أن يخفيهم بدار الوليد بن سعيد الجمال من شيعة بني هاشم، وكان ذلك في المحرم من سنة 132ه، فظلوا هناك قرابة شهرين وأمرهم مكتوم حتى عن شيعتهم وكبار رجالات الدعوة.
ولما استطاع أبو مسلم أن يستولي على خراسان كلها، واضطر أميرها نصر بن سيار إلى أن يفر نحو العراق، زحفت الجنود المسودة من خراسان إلى العراق وهي تفتك بالجند المرواني، وكان الحسن وحميد ابنا قحطبة على رأس الجيش العباسي الذي دخل مدينة الكوفة فاتحا في يوم 11 محرم سنة 132ه بعد أن هزما أمير الكوفة، ولما تم للمسودة العباسيين أمر الفتح، وأخذ أبو سلمة «حمام أعين» وهو على بعد ثلاثة فراسخ من الكوفة، جعله معسكرا ومقرا لجنده، ثم فرق عماله وقواده على السهل والجبل من الكوفة إلى أقصى المشرق، وصارت الدواوين بحضرته والكتب ترد إليه.
وهكذا تولى أبو سلمة إدارة الدولة الجديدة وأخذ ينظم أمورها، وها هنا لا بد من الإشارة إلى أمر يذكره بعض المؤرخين؛ وهو أن أبا سلمة أراد في ذلك الحين نقل الخلافة من العباسيين إلى العلويين؛ يقول ابن الطقطقي في «الفخري»: «لما سبر أبو سلمة أحوال بني العباس عزم على العدول عنهم إلى بني علي.» ويقول المقدسي في «البدء والتاريخ»: «إن الناس قد بايعوا إبراهيم وقد مات، ولعله يحدث بعده أمر، وأراد أن يصرف الأمر إلى ولد علي.» هذا ما يقوله المؤرخون، ويظهر أن أبا سلمة كان علوي الهوى فأراد انتهاز هذه الفرصة لنقل الخلافة من آل العباس إلى آل علي؛ ولذلك تريث في الأمر كثيرا ولم يرتح لمجيء أبي العباس وآله إلى الكوفة، وطلب إليهم أن يكتموا أمرهم، ثم إنه لما أعلن الأمر لم يسم الخليفة، وإنما كان يقول: «إنما الأمر قد صار للهاشميين.» كما يذكر ذلك الجهشياري في كتاب الوزراء. وقد كتب أبو سلمة فعلا إلى ثلاثة من العلويين يدعوهم إلى قبول الخلافة؛ وهم الإمام جعفر بن محمد الصادق، وعبد الله بن الحسن المحض، وعمر بن زين العابدين الأشرف، وأما الصادق فأحرق الكتاب، وأما الأشرف فرفض، وقبل عبد الله بن الحسن المحض على الرغم من تحذير جعفر الصادق إياه من التورط في هذه الفتنة، ولكن طلب إلى أبي سلمة أن يعهد بالأمر إلى ابنه محمد، فإنه رجل مسن فلم يوافق أبو سلمة، ومهما يكن من أمر فإن مساعي أبي سلمة قد فشلت، فاضطر أن يعلن خلافة أبي العباس بعد مراوغة دامت سبعين يوما.
الفصل الثالث
خلافة أبي العباس السفاح العباسي
تضطرب المصادر في تعيين اليوم الذي سمي فيه أبو العباس خليفة، وأكثر الأقوال شهرة هو أن ذلك كان في ربيع الأول من سنة 132ه/كانون الأول سنة 749م، وكان أول من بايعه أبو سلمة، وثم توالى الناس، ولما تمت مبايعة الناس إياه صعد المنبر وجلس من دونه عمه داود بن علي، فخطب الناس وقال: «الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والقوام به، والذابين عنه والناصرين له، وخصصنا برحم رسول الله وقرابته، وأنبتنا من شجرته، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم فقال سبحانه:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
وقال أيضا:
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا ... بنا هدى الناس بعد ضلالتهم، ونصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا ... فتمم الله ذلك منة ومنحة لمحمد
صلى الله عليه وسلم ، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، أمرهم شورى، فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوا أهلها ... ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها بينهم، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نصرنا ... يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ... أنتم الذين لم يثنكم من ذلك تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمكم علينا ... وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير.»
وكان السفاح إذ ذاك موعوكا فاشتد به المرض فجلس على المنبر، وقام عمه داود بن علي وكان من أفصح بني العباس، فخطب خطبة رائعة قال فيها: «إنا والله ما خرجنا في هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا ولا نبني قصرا، وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كربنا من أموركم، وبهظنا من شئونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا على فرشنا، ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقهم بكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم، لكم ذمة الله وذمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وذمة العباس رحمه الله أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ...
يا أهل الكوفة، إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا من أهل خراسان فأحيا بهم حقنا، وأفلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأداكم الله ما كنتم له تنتظرون ... وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم السلطان وعز الإسلام ... ألا ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد (وأشار بيده إلى أبي العباس)، فاعلموا أن هذا الأمر فينا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلوات الله عليه.»
نرى من هاتين الخطبتين السابقتين الأسس التي اعتمد عليها العباسيون في طلبهم الخلافة، والسياسة التي سيسيرون عليها في دولتهم الآتية، وأنهم قوم ثائرون على الظلم، يطلبون بحق شرعي أعطاهم الله إياه وفرضه لهم على الناس، وأنهم لذلك سيحيون سنة النبي، وسيعملون بالكتاب، ولم ينس أبو العباس أن يعد الناس بزيادة العطاء لاجتذاب قلوبهم، كما لم ينس داود أن يذكر ثقته بدوام هذه الدولة وطول عهدها وبقائها إلى قيام الساعة.
ولما تمت البيعة العامة للخليفة الجديد رأى أن أول ما يجب عليه عمله هو تتميم فتح العراق، فبعث الجيوش لفتح ما بقي من أجزاء العراق، وللاستيلاء على الشام، والقضاء على مروان بن محمد وجيشه ، وكان مروان قد خرج من الشام بجيش لجب حتى أتى الموصل، فبعث إليه أبو العباس بعمه عبد الله بن علي، والتقى الجيشان على نهر الزاب الأعلى (الكبير) في يوم 11 جمادى الآخرة سنة 132ه/25 كانون الثاني 750م، وتم النصر لعبد الله وجنوده، وهرب مروان بمن معه حتى أتى حران، فأقام فيها نيفا وعشرين يوما، حتى إذا دنا منها عبد الله رحل مروان بأهله وولده إلى قنسرين فحمص فدمشق، وعبد الله من ورائه فحاصر دمشق طويلا، ولكن أميرها الوليد بن معاوية اضطر إلى الاستسلام، فدخل عبد الله دمشق وفتك بالأمويين فتكا ذريعا، وهرب مروان بن محمد إلى مصر فلحق به المسودة حتى أدركوه قرب «أبو صير» وقتلوه لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 132ه، وبقتله انتهت دولة بني أمية في الشرق، وتوطدت أركان الدولة العباسية.
ويجب أن نشير ها هنا إلى أن قوة إيمان الخراسانيين ومن معهم من جنود العباسيين بالدعوة، كانت قوة كاسحة استطاعت أن تتغلب على جيش الأمويين اللجب الكثير بعدده، الثري بأمواله، الضعيف بإيمانه.
وكما يجب أن نشير هنا أيضا إلى أن القضاء على الأمويين لم يقض على أنصارهم في الشام؛ فقد قامت ثورات في أجناد حمص وقنسرين والجزيرة وحوران وفلسطين، وكان هؤلاء يتخذون البياض شعارا لهم مقابلة للون السواد الذي اتخذه العباسيون شعارهم ونكاية بهم، وقد استطاع أبو العباس أن يقضي بدهائه وحزمه على كل هذه الثورات التي ثارت في الشام، كما استطاع أخيرا أن يقضي على ثورة يزيد بن عمر بن هبيرة الذي أخذ يثير الناس للمطالبة بدم الخليفة القتيل مروان بن محمد، وحاول أن يستعين باليمانية الذين كانوا أمويي الهوى، ولكنه فشل آخر الأمر ودب الانقسام في صفوف جنده وجماعته، فاضطر إلى طلب الصلح وكتب له الأمان، ولكنه قتل ونقض عهده، وبموت ابن هبيرة وقتل من بقي من الأمويين وأنصارهم صفا الجو للعباسيين واشتد لهم الأمر.
وكأن أبا العباس قد أخذ يحس بالخطر الكامن في أبي سلمة الخلال، الذي كان هو علوي الهوى، ولم ينس أبو العباس محاولة الخلال في نقل الأمر إلى العلويين، فأخذ يفكر في التخلص منه، ولكنه خشي إن قتله أن يثور أبو مسلم الخراساني، فكتب إليه يستبين رأيه ويقول له إن أبا سلمة قد خان العهد وأخذ يفسد في البلاد، فأشار عليه أبو مسلم بقتله، ولكن الخليفة لم يفعل ذلك، بل طلب إلى أبي مسلم أن يبعث بأحد رجاله فيقتله، ويقول ابن قتيبة الدينوري والمسعودي: «إن أبا مسلم قد نفس على أبي سلمة مكانته وسلطانه لدى الخليفة، فحرض على قتله.» وسواء أكان صاحب الفكرة هو الخليفة أو أبا مسلم، فإن أبا سلمة قد أضحى خطرا؛ لأنه استبد بالأمر وتسلم جميع شئون الخليفة، فكان ذلك السبب في قتله.
ولما قتل أبو سلمة صفا الأمر لأبي العباس ونفذت إرادته وحده في أرجاء المملكة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، واستطاع أن يفرض سلطته الفعلية كخليفة قوي يحكم فيسمع قوله، ويدبر فينفذ تدبيره في أرجاء مملكته. لا بأس ها هنا من وقفة لنبين فيها خارطة رقعة تلك المملكة الواسعة، رقعة الدولة الإسلامية في ذلك العصر، مع بيان موجز عن كل إقليم منها وشيء من أحواله، معتمدين في ذلك على ما كتبه الجغرافي الموثوق المعاصر لذلك العهد؛ ألا وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي المعروف بالبشاري (المتوفى سنة 375ه) في كتابه القيم «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، فقد ذكر في كتابه هذا ما خلاصته أن المملكة الإسلامية في ذلك العهد كانت تمتد طولا من أقصى بلاد الشرق عند مدينة كاشغر إلى السوس الأقصى على شاطئ بحر الظلمات، وأنها تمتد عرضا من شواطئ بحر قزوين إلى أواخر بلاد النوبة، ويقول أيضا (ص65) إن طول هذه المملكة ألف وستمائة فرسخ.
وكانت هذه المملكة الواسعة تنقسم إلى أربعة عشر إقليما هي: (أ)
إقليم جزيرة العرب:
وتشتمل على أربع كور جليلة وهي:
الحجاز:
وقصبته «مكة المكرمة»، ومن مدنه: «طيبة»، و«ينبع»، و«الجار» وهو ساحل المدينة، و«جدة» وهي ساحل «مكة»، و«الطائف»، ويتبع الحجاز «وادي القرى».
اليمن:
وهو قسمان ؛ فما كان نحو البحر فهو غور واسمه تهامة، وقصبته «زبيد»، وما كان من ناحية الجبل فهو «نجد» وقصبته «صنعاء»؛ ومن مدنه «مخا» و«كمران» و«عدن»، وتتبعه بلاد الأحقاف، وبها من المدن «حضرموت».
بلاد عمان:
وقصبتها «صحار» على شاطئ بحر الهند، ومن مدنها «نزوة السر» و«ضنك».
بلاد هجر:
وقصبتها مدينة «الأحساء» (البحرين)، ومن مدنها «سابون» (الزرقاء)، ويتبع ديار هجر بلاد «اليمامة» وقصبتها «الحجر».
وأهل هذا القسم لغتهم عربية محضة، تتكلم اللسان العربي إلا «صحار»، فإن نداءهم وكلامهم بالفارسية، وأكثر أهل عدن وجدة فرس، إلا أن اللغة عربية، وأهل عدن يقولون عوض «رجليه»: «رجلينه»، ويجعلون الجيم كافا.
وأصح لغات العرب لغات قبائل هذيل، ثم نجد الحجاز، ثم بقية الحجاز، ثم بقية العرب، إلا سكان «الأحقاف» فإن لسانهم وحش.
أما مذاهبهم فالتشيع في بلاد اليمن، ومذهب الخوارج بعمان وهجر، ومذهب أهل السنة فيما عدا ذلك، والاعتزال في أهل السروات وسواحل الحرمين إلا عمان، ومذهب القرامطة بهجر.
وفي شمال الجزيرة العربية بادية العرب، وهي بادية ذات مياه وغدران وآبار وتلال ورمال وقرى ونخيل، قليلة الجبال كثيرة الكثبان، مخيفة السبل، خفية الطرق، طيبة الهواء، ردية الماء، ليس بها بحيرة ولا نهر إلا «الأزرق»، ولا مدينة بها إلا «تيماء»، وفيها اثنا عشر طريقا توصل إلى مكة (منها تسع طولا يؤدين إلى مكة، وثلاث عرضا يؤدين إلى الشام)، وبها طريق آخر لوادي القرى يؤدي إليها من البصرة، ثم إلى مصر، وهذه الطرق هي: (1) طريق مصر. (2) طريق الرملة. (3) طريق الشراة. (4) طريق تبوك. (5) طريق وبير. (6) طريق بطن السير. (7) طريق الرحبة. (8) طريق هيت. (9) طريق الكوفة. (10) طريق القادسية. (11) طريق واسط. (12) طريق وادي القرى. (13) طريق البصرة.
وتجد تفاصيل هذه الطرق في أحسن التقاسيم للبشاري (ص249)، ووصف جزيرة العرب للحسن بن أحمد الهمداني. (ب)
إقليم العراق:
وهي ست كور وهي:
الكوفة:
وقصبتها «الكوفة»، وهي من أمهات المدن الإسلامية، ومن مدنها «القادسية» و«عين التمر» قرب كربلاء.
البصرة:
وقصبتها «البصرة»، وهي من كبريات المدن الإسلامية أيضا، ومن مدنها «الأبلة» ولعلها آتية من كلمة
Apolon ، و«عبادان».
واسط:
وقصبتها «واسط»، وهي من كبريات المدن الإسلامية أيضا، ومن مدنها «فم الصلح» قرب كوت الإمارة.
المدائن:
وقصبتها «بغداد»، وهي مدينة كسروية، ومن مدنها: «النهروان» «ديالي»، و«الدسكرة»، و«جلولاء»، و«جرجرايا».
حلوان:
وقصبتها «حلوان»، وبها من المدائن: «خانقين»، و«السيروان»، و«بندنيجان».
سامراء:
وقصبتها «سامراء»، وبها من المدائن: «الكرخ»، و«عكبرا»، و«الأنبار» أبو فياض من قرب الفلوجة، و«هيت»، و«تكريت». وهذا الإقليم كان يسمى في القديم إقليم بابل، وهكذا كان اسمه في التقويم الأول في عهد العباسيين، وقد كان زهرة ملك العباسيين وأجمل بلدانهم وأثراها، ورافداه الدجلة والفرات من أحسن أنهار الدنيا، يقول البشاري (ص32): هو أظرف الأقاليم وأخف على القلب وأحد للذهن، وبها تكون النفس أطيب، والخاطر أدق، وهواء هذا الإقليم مختلف، فبغداد وواسط بلد رقيق الهواء سريع الانقلاب، ربما توهج في الصيف وآذى ثم انقلب سريعا، والكوفة بخلافه، ويكون بالبصرة حر عظيم غير أن الشمال ربما هبت فطاب، وحلوان معتدلة، والبطائح نعوذ بالله منها. والغلبة ببغداد للحنابلة والشيعة، وبها مالكية وأشعرية ومعتزلة ونجارية، وبالكوفة الشيعة، وأكثر أهل البصرة قدرية وشيعة ثم حنابلة، وببغداد غالية يفرطون في حب معاوية ومشبهة.
وأمة هذا الإقليم نبطية دخل عليها العرب في بلادها، فزاحموها وصارت كأنها لهم وأصبحت لغة هذا الإقليم عربية، وأصح لغاتهم الكوفية، لقربها من البادية وبعدها عن النبط، وأما سكان البطائح فنبط، والذين نزلوا بهذا القسم من الإقليم من العرب أكثر من الذين منهم بأي قطر آخر ما عدا الشام والجزيرة، وقد كان بهذه الأقاليم ملوك المناذرة بالعراق، وملوك الغساسنة بالشام، إلا أنهم لم يكونوا مستقلين، فلما جاء الإسلام اتسق لهم الملك بالإقليمين، وكان الشام مهد الدولة الأموية، كما كان العراق مهد الدولة العباسية.
ومساحة العراق طولا من السن إلى البحر 125 فرسخا، وعرضه من العذيب إلى عقبة حلوان 80 فرسخا. (ج)
إقليم آقور:
ويسمى إقليم الجزيرة وآثورا وآشور، وهو ما بين دجلة والفرات، وبها ثلاث كور وهي:
ديار ربيعة:
وقصبتها «الموصل»، ومن مدنها «الحديثة» و«تل عفر » و«سنجار» و«نصيبين» و«دارا» و«رأس العين» و«ثمانين»، وبها ناحية «جزيرة ابن عمر».
ديار مضر:
وقصبتها «الرقة»، وبها مدن «باجروان» و«الرافقة» و«سروج» و«حصن مسلمة» و«حران» و«الرها».
ديار بكر:
وقصبتها «آمد»، وبها مدن «ميافارقين» و«حصن كيفا».
وقد نزل العرب هذه الديار قبل الإسلام، وسكنها قبائل من العدنانيين سميت بهم؛ ولذلك يعتبر هذا الإقليم عربيا محضا؛ لأن من كان به من الآشوريين وغيرهم قد درست آثارهم، وينتهي هذا الإقليم إلى حدود الروم وأرمينية، ومناخه مقارب للشام ومشابه للعراق، وبه مواضع حارة وباردة، وبه نخيل وزيتون، ومذاهب أهله سنة، و«عانة» وهي للمعتزلة. (د)
إقليم الشام:
وبه ست كور وهي:
قنسرين:
وقصبتها «حلب»، ومن مدنها: «أنطاكية»، و«بالس»، و«سميساط»، و«منبج»، و«قنسرين»، و«مرعش»، و«إسكندرونة»، و«معرة النعمان»، و«حماة»، و«شيزر».
حمص:
وقصبتها «حمص»، ومن مدنها: «سلمية»، و«تدمر»، و«اللاذقية»، و«أنطرسوس».
دمشق:
وقصبتها «دمشق»، ومن مدنها: «بانياس»، و«صيدا»، و«صور»، و«بيروت»، و«طرابلس»، و«بعلبك».
الأردن:
وقصبتها «طبرية»، ومن مدنها: «قدس»، و«صور»، و«عكا»، و«بيسان»، و«أذرعات».
فلسطين:
وقصبتها «الرملة»، ومن مدنها: «بيت المقدس»، و«عسقلان»، و«يافة»، و«أرسوف»، و«قيسارية»، و«أريحا»، و«عمان».
الشراة:
وقصبتها «صغر» أو «زغر»، ومن مدنها: «مآب»، و«معان»، و«تبوك»، و«أذرع»، و«أيلة».
وهذا الإقليم سكنه العرب قبل الإسلام وملكوا به، ولما جاء الإسلام استقر فيه، ولغة أهله عربية، وحدوده من الشمال بلاد الروم، والمدن التي على حدودها يقال لها «الثغور»، وعندها يكون الجهاد لرد غارات الروم، وأكبر مدن هذا الإقليم «حمص»، وفيه قلعة متعالية ترى من خارج، و«دمشق» هي مصر الشام ودار الملك أيام بني أمية، وثم قصورهم وآثارهم والجامع أحسن شيء للمسلمين اليوم، ولا يعلم لهم مال مجتمع أكثر منه، وهو أحد عجائب الدنيا ، وهو إقليم متوسط الهواء إلا وسطه من الشراة إلى الحولة فإنه بلد الحر، ومذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسنة ، وأهل «طبريا» ونصف «نابلس» و«قدس» و«عمان» شيعة، ولا ماء فيه للمعتزلة وإنما هم في خفية. (ه)
إقليم مصر:
وبه سبع كور وهي:
الجفار:
وقصبتها «الفرمة»، ومن مدنها: «البقارة»، و«الورادة»، و«العريش».
الحوف: (الشرقية) وقصبتها «بلبيس»، ومن مدنها: «مشتول»، و«قاقوس»، و«القلزم».
الريف:
وقصبتها العباسية (العباسة)، ومن مدنها: «منهور»، و«سنهور»، و«شهور»، و«بنها العسل»، و«شطنوف»، و«مليج»، و«المحلة الكبيرة»، و«دقهلية»، و«دميرة».
إسكندرية:
وقصبتها «إسكندرية»، ومن مدنها: «الرشيد»، و«مريوط»، و«البرلس»، و«ذات الحمام».
مقدونية:
وقصبتها «الفسطاط» (وهو المصر)، ومن مدنها: «العزيزية»، و«الجيزة»، و«عين شمس».
الصعيد:
وقصبته «أسوان»، ومن مدنها: «حلوان»، و«قوص»، و«إخميم»، و«البلينا»، و«الفيوم»، و«بوصيم».
الواحات:
وهي عدة واحات في الصحراء المصرية.
وأمة هذا الإقليم في القديم مصرية قبطية، وسكنها كثير من الأمم التي ملكتها كاليونان والرومان وغيرهم، وكان بالحوف قبائل عربية، ولما جاء الإسلام دخلها كثير من العرب، ثم دخلها كثير منهم أيام بني أمية، وأقاموا بالحوف (الشرقية).
وغلب على أهلها اللسان العربي، غير أن لغتهم ركيكة رخوة، وذمتهم يتحدثون بالقبطية، وأهل هذا الإقليم على مذاهب أهل الشام غير أن أكثرهم مالكيون، والفتيا اليوم على المذهب الفاطمي. (و)
إقليم المغرب:
وهو ثماني كور وهي:
برقة:
وقصبتها «برقة»، وبها من المدن: «رمادة»، و«طرابلس»، و«أجدابية»، و«غافق».
إفريقية:
وقصبتها «القيروان»، وبها من المدن: «صفاقس»، و«سوسة»، و«تونس»، و«بونية»، و«بنزرد»، و«جزيرة بني زغناية»، و«منستير»، و«طبرقة»، و«قسنطينة».
تاهرت:
وقصبتها «تاهرت»، وبها من المدن: «مطماطة»، و«وهران»، و«شلف».
سجلماسة:
وقصبتها «سجلماسة»، وبها من المدن: «درعة»، و«أمصلي»، و«تازروت»، و«دار الأمير».
فاس السوس الأدنى:
وقصبتها «فاس»، وبها من المدن: «البصرة»، و«طنجة»، و«وزغة»، و«صنهاجة»، و«هوارة»، و«سلا».
السوس الأقصى:
وقصبتها «طرفانة»، ومن مدنها: «أغنات»، و «ماسة»، و«تندلي».
الأندلس:
وقصبتها «قرطبة»، وكان في العهد الأموي تابعا لبني أمية، أما في العهد العباسي فقد استقل كما هو معروف.
جزيرة صقلية:
وقصبتها «بلرم»، ومن مدنها: «الخالصة»، و«أطرابنش»، و«ماوز»، و«جرجنت»، و«سرقوصة»، والقيروان هو مصر الإقليم وبه مواضع الحر، ومعادن البرد، وكثير اليهود، وأما المسلمون فعلى ثلاثة مذاهب: المالكية والحنفية والفاطمية، وأكثر أهل صقلية حنفيون، ولغتهم عربية إلا أنها منغلقة، ولهم لسان آخر يقارب الرومي، وأهل هذا الإقليم في جهاد دائم. (ز)
إقليم المشرق:
وهو قسمان وهما: (1)
ما وراء النهر، وهو شرقي نهر جيحون، ويسمى هيطل. (2)
غربي نهر جيحون، ويسمى بلاد خراسان.
أما وراء النهر فهو ست كور وهي:
فرغانة:
وقصبتها «أخسيكث»، ومن مدنها: «نصر آباد»، و«أوزكند»، و«مرغينان».
إسبيجاب:
وقصبتها «إسبيجاب»، ومن مدنها: «فاراب» (باراب)، و«ترار»، و«طراز»، و«بلاسكون».
الشاش:
وقصبتها «بنكث»، ومن مدنها: «نكث»، و«بناكث»، و«غناج»، و«إيلاق».
أشروسنة:
وقصبتها «بنجكث»، ومن مدنها: «كردكست»، و«ساباط زمين».
الصغد:
وقصبتها «سمرقند»، ومن مدنها: «ورغسر»، و«مايمرغ»، و«درغم»، و«مزربان»، و«قطوانة».
بخارى:
وقصبتها «بخارى»، ومن مدنها: «بيكند»، و«الطواويس»، و«يخسون»، و«كش»، و«نسف».
وأما بلاد خراسان فهي تسع كور وهي:
بلخ:
وقصبتها «بلخ»، وبها ناحية «طوخارستان»، ومن مدنها: «ولوالج»، و«الطالقان».
غزنين:
قصبتها «غزنين»، وبها مدينة «كابل»، و«كرديس»، و«كاولي».
بست:
وقصبتها «بست»، ومن مدنها: «جهالكان»، و«كش روذان».
سجستان:
وقصبتها «زرنج»، ومن مدنها: «أكوين»، و«الطاق».
هراة:
وقصبتها «هراة»، ومن مدنها: «باذغيس»، و«كروخ»، و«بوشنج».
جوزجان:
وقصبتها «اليهودية»، ومن مدنها: «أبناربروز»، و«فارياب».
مرو شاهجان:
وقصبتها «مرو الشاهجان»، وبها ناحية «مروروز»، و«الطالقان».
نيسابور:
وقصبتها «إيرانشهر»، ومن مدنها: «بيهق»، و«طوس»، و«نسا»، و«أبيورد»، و«أسفراين».
قهستان، قوهستان:
وقصبتها «قاين»، ومن مدنها: «تون»، و«طبس العناب»، و«طبس التمر».
وهذا الإقليم من أعمر الأقاليم الإسلامية وأكثرها خيرات، وأهل خراسان هم الذين قاموا بالدولة العباسية، ومعظمهم من الشيعة.
أما أهل ما وراء النهر فجلهم من التركمان، ولم يكن الإسلام قد شملهم في أول العهد العباسي، دخل العرب هذا الإقليم ولم يتجاوزوا النهر إلا في عهد الدولة الأموية، وكثرت فتوح العرب فيه أيام الحجاج على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، ولم تتغلب اللغة العربية على هذا الإقليم.
وهو إقليم بارد إلا بسجستان وبست وطبس التمر؛ فإنهن على نمط الشام، وأما بلخ فهواها عراقي، وهو أكثر الأقاليم علما وفقها، وبه يهود ونصارى قليلة وأصناف المجوس، وأولاد علي (عليهم السلام) هم على غاية الرفعة فيه، ولا ترى به هاشميا إلا غريبا، ومذاهبهم مستقيمة، إلا أن الخوارج بسجستان ونواحي هراة، والمعتزلة بنيسابور، والقلة في الإقليم للحنفية ثم الشافعية، وللكرامية جلبة بهراة وفرغانة وجوزجان وسمرقند، وألسنتهم مختلفة، وألوانهم مختلفة، وأحسنهم أهل الشاش وفرغانة. (ح)
إقليم الديلم:
وبه خمس كور وهي:
قومس:
وقصبتها «الدامغان»، ومن مدنها: «سمنان»، و«بسطام».
جرجان:
وقصبتها «شهرستان»، ومن مدنها: «أستراباد»، و«آبسكون».
طبرستان:
وقصبتها «آمل»، ومن مدنها: «سالوس»، و«سارية».
الديلمان:
وقصبتها «بروان».
الخزر:
وقصبتها «أتل»، ومن مدنها: «بلغار»، و«سمندر».
وهذا الإقليم لم يغش الإسلام فيه إلا بعهد العباسيين، ومذاهب أهل هذا الإقليم مختلفة؛ فقومس وجرجان وبعض أهل طبرستان حنفيون، والباقون حنابلة وشافعية، والكرامية بجرجان وجبال طبرستان، وللشيعة بجرجان وطبرستان جلبة. (ط)
إقليم الرحاب:
وهو ثلاث كور، وهي:
الران (أران):
وقصبتها «برذعة»، ومن مدنها: «تفليس»، و«شروان»، و«باب الأبواب»، و«ملازكرد».
أرمينية:
وقصبتها «أردبيل»، ومن مدنها: «بدليس»، و«خلاط»، و«خوي»، و«سلماس»، و«وأرمية»، و«مراغة»، و«مرند»، و«قاليقلا».
أذربيجان:
وقصبتها «تبريز»، ومن مدنها: «موقان».
وفي هذا الإقليم كثير من الكرد والأرمن الفرس، ولم يغش الإسلام فيه إلا في العهد العباسي، واللغة العربية قليلة، وهذا الإقليم كثير الثمار، فيه مدن من أنزه البلاد كموقان وخلاط وتبريز التي شاكلت العراق، وهو للإسلام فخر وللغازين دار، وأهله أهل سنة وجماعة، وفصاحة وهيبة، ومذاهب أهله مستقيمة، إلا أن أهل الحديث حنابلة، والغالب بدبيل مذهب أبي حنيفة. (ي)
إقليم الجبال:
وبه ثلاث كور وهي :
الري:
وقصبتها «الري»، وبها مدن: «آوه»، و«ساوه»، و«قزوين»، و«أبهر».
همذان:
وقصبتها «همذان»، ومن مدنها: «قرماسين »، و«نهاوند»، و«الدينور».
أصفهان:
وقصبتها «اليهودية».
وهذا الإقليم غني التربة نزيه، وأهله إما غوال حنابلة يفرطون في حب معاوية، أو نجارية غالية، وفي الري الغلبة أحناف، وأهل همذان أصحاب حديث، وفي الدينور بعض أصحاب سفيان الثوري، والري عصبيات في خلق القرآن، وأهل قم شيعة غالية. (ك)
إقليم خوزستان:
ويعرف قديما بالأهواز، وفيه سبع كور وهي:
السوس:
وهي تتاخم العراق والجبال.
جنديسابور:
وقصبتها «جنديسابور».
تستر:
وقصبتها «تستر».
عسكر مكرم:
وقصبتها «عسكر مكرم»، ومن مدنها: «جوبك»، و«زيدان»، و«سوق الثلاثاء».
الأهواز:
وقصبتها «الأهواز»، ومن مدنها: «تيري»، و«مناذر» الكبرى والصغرى.
الدورق:
وقصبتها «الدورق»، وهي تتاخم العراق، ومن مدنها: «آرزر»، و«أجم».
رامهرمز:
وقصبتها «رامهرمز»، وهي تتاخم فارس.
ولهذا الإقليم لسان خاص يعرف باللسان الخوزي، وهو كثير الخيرات والثمار والسكر والعسل والخير والنفط، وهو شديد الحرارة قذر قبيح المناخ، به نخيل، ومذاهب أهله مختلفة، وأكثر الإقليم معتزلة، والسوس حنابلة، ونصف الأهواز شيعة، وبه حنفية ومالكيون. (ل)
إقليم فارس:
وبه ست كور وهي:
أرجان:
وقصبتها «أرجان».
أردشير خرة:
وقصبتها «سيراف»، وهي ممتدة على البحر.
دارابجرد:
وقصبتها «دارابجرد».
شيراز:
وقصبتها «شيراز»، ومن مدنها: «البيضاء»، و«فسا».
سابور:
وقصبتها «شهرستان»، ومن مدنها: «كازرون»، و«النوبندجان»، و«توز».
إصطخر:
وقصبتها «إصطخر»، وهي أوسع الكور.
وهذا الإقليم ترابه معادن، وجباله مشاجر، كثير الفواكه والحر والأكسية والبسط والستور والكتان والقصب، والعمل فيه على مذهب أصحاب الحديث، وأصحاب أبي حنيفة، وللداودية دروس ومجالس، والشيعة والمعتزلة بسواحله، وبهذا الإقليم عدد كبير من الأكراد وبه سميت البلاد الفارسية. (م)
إقليم كرمان:
وفيه خمس كور وهي:
بردسير:
وقصبتها «بردسير»، ومن مدنها: «ماهان»، و«كوغون»، و«زرند».
نرماسير:
وقصبتها «نرماسير».
سيرجان:
وقصبتها «سيرجان».
بم:
وقصبتها «بم»، وهي تتاخم فارس.
جيرفت:
وقصبتها «جيرفت»، وهي على البحر.
وهذا الإقليم يشاكل إقليم فارس من حيث فواكهه ومنسوجاته، وهواؤه صحيح، والمذاهب الغالبة للشافعي، إلا «جيرفت» فلأهل الحديث، وللخوارج بمدينة «بم» جلبة وجامع. (ن)
إقليم السند:
وفيه خمس كور وهي:
مكران:
وقصبتها «بنجبور»، ومدنها: «مشكة»، و«خواش ».
طوران:
وقصبتها «قصدار» (قزدار)، ومن مدنه: «قندبيل».
السند:
وقصبتها «المنصورة»، ومن مدنها: «ديبل».
ويهند:
وقصبتها «ويهند».
قنوج:
وقصبتها «قنوج»، ويتبعه بلاد «الملتان».
وهذا إقليم الذهب والتجارات والعقاقير والخيرات، والأرزاز والموز والنخيل، وهو شديد الحرارة، به رفض وعدل وإنصاف وسياسات، وأهل ذمته مشركون، وعلماؤه قليلون، وأكثر مسلميه أهل حديث، وفيه بعض الداودية، وأهل الملتان شيعة، وليس فيه مالكية ولا معتزلة ولا حنابلة.
أما بعد؛ فهذه هي أقاليم الإمبراطورية التي ورثها العباسيون من بني أمية، وهي مملكة مترامية الأطراف، كثيرة الخيرات، متعددة الشعوب، متنوعة اللغات والمبادئ والأهداف، وليست إدارة هذا الملك العظيم بالشيء السهل، بل إنها تحتاج إلى عزم وقوة، وقد استطاع الخلفاء العباسيون الأول السيطرة على أجزاء هذه المملكة أحسن سيطرة في العصر العباسي الأول، ثم خلف من بعدهم خلف فسدت الأمور في عهدهم، وتقطعت أوصال البلاد على أيديهم، وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد.
الكتاب الثاني
الخلفاء العباسيون
الفصل الأول
أبو العباس السفاح
ربيع الأول 132ه-ذو الحجة136ه/754م
أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن المدا بن الحارثية.
ولد في الحميمة سنة 104 ونشأ بها، وكان على جانب عظيم من الدهاء والذكاء والفهم والعزم والحلم والحياء وحسن الأخلاق، وقال ابن الطقطقي: «كان كريما حليما عاقلا، كثير الحياء حسن الأخلاق.» وقال ابن دحية: «كان السفاح كريما سخيا بالأموال، حسن الأخلاق، متألفا للرجال، ماضي العزيمة، صعب الشكيمة، ذا سطوة على الأعداء، متواضعا للأولياء والأصحاب، زاد في أعطيات الناس، وكان يأكل معهم الطعام.» وأكثر الذين تحدثوا عنه من المؤرخين وصفوه بحسن الأخلاق والحزم وقوة الشكيمة في القضاء على الثورات التي كان يقوم بها أنصار بني أمية، ولا سيما في الشام والجزيرة، وكانت حياته مليئة بحوادث الشدة والفتك، وخصوصا مع بقايا بني أمية وأحلافهم.
قال أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: «كان أبو العباس السفاح جالسا في مجلسه على سريره، وبنو هاشم دونه على الكراسي، وبنو أمية على الوسائد، وقد ثنيت لهم وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخلفاء منهم على السرير، ويجلس بنو هاشم على الكراسي، فدخل الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب ملتثم يستأذن ولا يخبر باسمه، ويحلف ألا يحسر اللثام عن وجهه حتى يراك، قال: هذا مولاي سديف يدخل، فدخل فلما نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه وأنشأ يقول:
أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس
بالصدور المقدمين قديما
والرءوس القماقم الرواس
يا أمير المطهرين من الذ
م ويا رأس منتهى كل راس
أنت مهدي هاشم وهداها
كم أناس رجوك بعد إيناس
لا تقيلن عبد شمس عثارا
واقطعن كل رقلة وغراس
أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان والإتعاس
خوفهم أظهر التودد منهم
وبهم منكم كحز المواسي
أقصهم أيها الخليفة واحسم
عنك بالسيف شأفة الأرجاس
فتغير لون أبي العباس وأصابه زمع رعدة، فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى رجل منهم، فقال: قتلنا والله العبد، ثم أقبل أبو العباس عليهم وقال: يا بني الفواعل، أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا، وأنتم أحياء تتلذذون! خذوهم، فأخذتهم الخراسانية فأهمدوا إلا ما كان من أمر عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي واستوهبه من السفاح.»
والحق أن السفاح كان يريد أن يؤسس دولته، ولا يكون تأسيس الدول بالتسامح والرأفة، بل بالعنف والقوة، فقد كان هو حازما قويا، وكان يوصي عماله أن يكونوا كذلك، وهكذا كانوا فتاكا أشداء وخصوصا أبا مسلم وعمه عبد الله بن علي؛ فقد فتك هذا بأهل الشام فتكا ذريعا، ونبش قبور بني أمية ودرسها، وعمه سلمان بن علي فإنه قتل من أهل البصرة مقتلة عظيمة، وكذلك فعل عمه داود بن علي بأهل مكة والمدينة.
ونحب هنا أن نناقش هذا اللقب الذي أطلق على أبي العباس، وهو «السفاح» فهل صحيح أنه لقب بذلك لكثرة سفحه الدماء؟ وهل كان هذا اللقب معروفا له في زمنه أو أنه حدث بعد ذلك؟
عرفنا أن أبا العباس قد قال في خطبه الأولى: «أنا السفاح المبير»، ولكنه لم يقل ذلك مريدا به سفح أو سفك الدماء، وإنما أراد وصف نفسه بأنه معطاء جواد، سيفرق الأموال في أهل طاعته، وهذا المعنى يؤيده أصل معنى الكلمة لغويا؛ فقد كان العرب في الجاهلية يصفون الكريم بأنه «سفاح للنوق» متلاف للأموال، ولم يذكر أحد من المؤرخين القدامى الموثوق بهم كالطبري واليعقوبي وابن قتيبة والجهشياري له هذا اللقب، وإنما نجده عند كاتب متأخر هو المسعودي، ثم تناقله المؤرخون فيما بعد عن المسعودي، حينما أخذوا يطلقون الألقاب على الخلفاء العباسيين خليفة خليفة، ولما لم يجدوا لأبي العباس لقبا تلقب به إلا الكلمة التي أوردها في أول خطبة له، يقول ابن دحية (ص42 من كتابه النبراس) في حديثه عن المنصور: «هو أول خليفة لقب نفسه وهو أبو الخلفاء.» فهذا النص يبين لنا أن الخلفاء العباسيين قبل أبي جعفر؛ أي في العصر النبوي والأموي لم يكونوا يتلقبون، وأن أول من صنع ذلك هو أبو جعفر، أما من ينبغي أن يطلق عليه لقب «السفاح» حقيقة فهو عمه عبد الله بن علي؛ لأنه هو الذي فتك وسفك وسفح، حتى إنه وصف بذلك منذ القديم، إذ يقول ابن قتيبة الدينوري في معرض الحديث عنه: «ذكروا أن أبا العباس ولى عمه عبد الله بن علي الذي يقال له سفاح الشام.» ويسميه اليعقوبي حين يعدد أولاد علي بن عبد الله بن العباس «عبد الله الأصغر وهو السفاح».
وفي عهد أبي العباس ابتدئ بتنظيم الدولة الجديدة، فتوطد الأمن في الأقاليم كافة، وأخضعت البلاد للنظام الجديد، وقد عهد أبو العباس بذلك لولاته وأكثرهم من الأسرة العباسية أو من كبار شيعتها، وإليك قائمة بأسماء هؤلاء الولاة وأقاليمهم:
أبو جعفر المنصور:
كان أمير الجزيرة وأرمينية وأذربيجان.
داود بن علي:
كان أميرا على الحجاز واليمامة.
عبد الله بن علي:
كان أميرا على الشام.
سليمان بن علي:
كان أميرا على البصرة وتوابعها والبحرين وعمان.
إسماعيل بن علي:
كان أميرا على الأهواز.
أبو مسلم الخراساني:
كان أميرا على خراسان والمشرق.
أبو العون:
كان أميرا على مصر وشمال إفريقية.
أما وزراؤه: فكان أولهم أبو سلمة الخلال، وهو وإن لم يكن وزيرا بالمعنى المفهوم من الكلمة فإنما كان، كما رأينا، صاحب الدولة والمدير لها والمنفق عليها في ابتداء أمرها؛ لأنه كان من المياسير، ولما تم الأمر لأبي العباس «استوزره» وفوض الأمور إليه، وسلم إليه الدواوين، ولقبه «بوزير آل محمد» كما يقول ابن الطقطقي، وكانت خاتمة أمره على الشكل الذي رأيناه فيما سبق، وقد اختلف المؤرخون فيمن ولي الوزارة بعد أبي سلمة، يقول ابن طباطبا الطقطقي: «اختلفوا فيمن وزر للسفاح بعده (أي بعد أبي سلمة) فقيل: أبو الجهم، وقيل: عبد الرحمن ...» وأما الصولي فقال: «إن السفاح استوزر بعد أبي سلمة خالد بن برمك.»
والحق أن لفظة «الوزارة» لم يكن بعد قد استقر معناها؛ لأنها أمر جديد لم تعرفه النظم الإسلامية في عهد بني أمية ولا في عهد الراشدين، وأول مرة نجد ذكر هذا المنصب بشكل رسمي في العهد العباسي حينما سمى الخراسانيون أبا سلمة «وزير آل محمد»، على أن الكلمة كانت معروفة من قبل، فقد وردت في القرآن الكريم عند قوله تعالى:
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي ، ووردت في بعض الأحاديث النبوية الشريفة تصف أبا بكر الصديق بأنه كان وزير النبي
صلى الله عليه وسلم
كما وردت في بعض الأخبار تصف عمر بأنه كان وزيرا أو كالوزير للصديق، وفي العصر الأموي وجدنا بعض المؤرخين يطلقون لفظ «الوزير» على «الكاتب»، وربما وصفوا عبد الحميد كاتب مروان بن محمد «بالوزارة»، ولكن هذا كله لم يكن يقصد به - في رأينا - المعنى الاصطلاحي الذي عرفت به هذه الكلمة في العصر العباسي، وإنما أريد بها نوع من أمانة السر أو الاستشارة أو الكتابة أو ما شابه ذلك.
ويظهر أن الخراسانيين إنما أخذوا ذلك المنصب من تراتيبهم الإدارية الفارسية الساسانية التي كان فيها مثل هذا المنصب الوزاري، وكان اسم صاحب هذا المنصب عندهم «بزرك فرم داز» أو «بزرج فرمداز»، ومعناه «كبير عمال الدولة»؛ أي رئيس رؤسائها ووزير وزرائها .
1
ويظهر أن أبا سلمة قد أعاد تقاليد الساسانية في منصبه الجديد، وكان إلى جانب ذلك كاتبا بالعربية بليغا وعالما فصيحا، مطلعا على الأخبار والأشعار والآداب الجاهلية والسير والجدل والتفسير، حاضر الحجة ذا يسار ومروءة، فاستطاع بهذه المزايا كلها أن يوطد منصب الوزارة وينظم أمورها كما يذكر ابن طباطبا والجهشياري، ويظهر أن النهاية التي صار إليها أبو سلمة قد جعلت من جاء بعده كخالد بن برمك وأبي الجهم يتحاشون عن التلقب بلقب «الوزارة»، وقال الجهشياري وابن طباطبا: «إن كل من استوزر بعد أبي سلمة كان يتجنب أن يسمى وزيرا نظرا لما جرى لأبي سلمة.»
2
ومن الأمور التي تجب الإشارة إليها في عهد أبي العباس أمر «العاصمة»، فقد اتخذ «الكوفة» أول الأمر مستقرا له، ولكنه لم يكن مطمئنا إلى نوايا أهلها، فأخذ يفتش عن مدينة أخرى يستقر فيها ويجعلها مقره ومسكن أنصاره وأصحابه، فاتخذ «الهاشمية» وهي إلى جوار الكوفة، ثم انتقل منها إلى «الحيرة»، ثم ذهب إلى «الأنبار» في سنة 134ه، ويذكر ابن قتيبة أنه استطاب إقليم الأنبار فابتنى بها مدينة بأعلى المدينة عظيمة لنفسه وجموعه، وقسمها خططا بين أصحابه من أهل الخراسان، وبنى لنفسه في وسطها قصرا عاليا، وأقام بتلك المدينة طول خلافته.
ولما استقرت له الأمور في عاصمته الجديدة وترتبت الأقاليم الإسلامية ونظمت شئون الدولة رأى أن يعهد بالأمر من بعده لأخيه جعفر المنصور، فجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعده يكون عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكتب بذلك عهدا ختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بن موسى، ثم كانت وفاته بالأنبار بعلة الجدري في 13 ذي الحجة سنة 136ه/754م، ودفن بقصره فيها وهو في مطلع العقد الرابع من العمر.
الفصل الثاني
أبو جعفر المنصور
ذو الحجة 136ه-158ه/754-775م
أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه أم ولد اسمها سلامة.
ولد بالحميمة سنة 101ه وحفظ القرآن ووعى الحديث ورواه، وأتقن الكتابة وبرع في الأدب، قال اليعقوبي وابن دحية: «وكان حافظا لكتاب الله العظيم متبعا لآثار رسول الله، فقيها محدثا كاتبا بليغا.»
ولما انتقل أخوه أبو العباس من الحميمة إلى الكوفة كما رأينا كان معه، فشد عضده بالقيام بأعباء الملك وعمل على تدعيمه، وتولى إمرة الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فوطد أركان الدولة فيها على أحسن نظام، ثم بعثه أخوه أميرا على الحج في السنة التي توفي فيها، فمات السفاح سنة 136ه والمنصور في الحجاز، فأخذ له البيعة عيسى بن موسى وكتب إليه يعلمه بوفاة أخيه، يعزيه ويهنئه، فقفل أبو جعفر راجعا، ولما دخل الأنبار بويع البيعة العامة بالخلافة في ذي الحجة من تلك السنة.
تولى المنصور الخلافة ولم تكن دعائمها قد وطدت تماما بعد، وكان عليه أن يسد ثلاث ثغرات: «أولاهن» الثغرة التي انفتحت عليه بمنافسة عمه عبد الله بن علي إياه، فقد كان سيدا جليلا مهابا نبيه الذكر ذا نفوذ قوي في خراسان والشام والجزيرة والموصل، وكان يطمع في الخلافة، و«ثانيهن» ثغرة أبي مسلم الذي أخذ سلطانه يقوى وصولته تشتد، و«ثالثتهن» الثغرة التي يكمن وراءها الطامحون من آل علي (عليهم السلام) الذين لا تزال قلوب الناس معهم، وكان على رأس العلويين محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بذي النفس الزكية.
أما عمه عبد الله بن علي فكان يطمح في الخلافة بعد السفاح، ويروي المسعودي في «مروج الذهب» أن أبا العباس السفاح قد جعل ولاية العهد بعده لمن قتل مروان بن محمد وكان الأمير عبد الله بن علي هو الذي قتله، وكان عبد الله حين مات السفاح أميرا على الشام، فلما بلغته وفاته وإعلان بيعة المنصور أعلن عصيانه وجمع جنده ونادى بنفسه أميرا للمؤمنين، فبايعه القادة على ذلك، وقد راقت هذه الحركة للشاميين الذين ما زال حب بني أمية مشربا في قلوبهم، ويسرهم أن يروا الخلاف يدب بين صفوف العباسيين وينقسموا على أنفسهم فتذهب ريحهم، ولما بلغت أخبار حركة عبد الله مسامع المنصور جند جيشا كبيرا بقيادة أبي مسلم وبعثه إلى الشام، وهو يرجو أحد أمرين: إما أن يقتل عبد الله وهو المطلوب، أو يقتل أبو مسلم فيتخلص المنصور منه؛ لأنه أخذ يضيق ذرعا به وبطموحه، كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد، قال أبو أيوب المورياني وزير المنصور: «نحن لأبي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي إلا أنا نرجو واحدة.»
1
فكأن أبا مسلم قد شعر بالمؤامرة فأراد التخلص من هذه المهمة، ولكن المنصور كان إذا عزم على أمر لم يتركه، فاضطر أبا مسلم على السفر، ودامت الحرب بين عبد الله وأبي مسلم قرابة نصف سنة، وانخذل عبد الله في آخر الآمر، وكانت المعركة الفاصلة في يوم 7 جمادى الآخرة سنة 137ه، وهرب عبد الله والتجأ إلى أخيه سليمان أمير البصرة، فأمنه على نفسه وسعى لدى المنصور ليعفو عنه، فوافق على سجنه وظل مسجونا إلى سنة 147ه ومات في حبسه في تلك السنة.
وأما أبو مسلم فقد تعاظم سلطانه بعد القضاء على فتنة عبد الله، وبينما هو في طريقه إلى خراسان
2
حيث كان أميرا أخذت عيون المنصور تكتب إليه عن تعاظم أبي مسلم وغروره بنفسه، وعزمه على الخلاف والاستهانة بأوامر أمير المؤمنين والسخرية بكتبه، وقد أراد المنصور أن يتحقق ذلك بنفسه، فبعث إليه أحد أخصائه الموثوق بهم ليحصي عليه الغنائم، فغضب أبو مسلم، وقال للرسول: «أؤتمن على الدماء ولا أؤتمن على الأموال؟» وتهجم على الخليفة وأراد أن يقتل الرسول لولا أن بعض أصحابه منعه من ذلك، فلما بلغت هذه الأمور إلى المنصور كتب إليه وهو في الطريق قبل أن يصل إلى خراسان: «إنا قد وليناك الشام ومصر، فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين.» فغضب أبو مسلم وقال: «هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي؟» وظل في طريقه إلى خراسان غير آبه بكتاب الخليفة ولا بأمره، ورأى المنصور أنه لم يبق إلا استعمال الدهاء للإيقاع به فتوجه إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم أن يصير إليه، فكتب إليه أبو مسلم يقول: «إنه لم يبق لأمير المؤمنين، أكرمه الله، عدوا إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء لك بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد؛ حيث تقاربها السلامة، فإن أرضاك ذلك كنا كأحسن عبيدك وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي.» فلما قرأه المنصور استشاط غضبا وكتب إليه: «قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة هؤلاء الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتثار نظار الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟ فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سماع ولا طاعة، وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالته لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أقرب وأوكد من طبه من الباب الذي فتحه عليك.»
وقد أرسل كتابه هذا مع عيسى بن موسى وبعث جرير بن يزيد البجلي، وأمره أن يكلم أبا مسلم بألين كلام وأن يمنيه، فإن أبى فليهدده، فلما وصل عيسى إليه أخذ الرسالة وقرأها واستشار خاصته فنهوه عن السفر إلى المنصور، فقال لجرير: ارجع إلى صاحبك فلن آتيه، فقال له جرير: إن أمير المؤمنين أمرني أن أبلغك أنه يقول لك: لست للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتني إن وكلت أمرك لأحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها وراءك حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك، فلما سمع أبو مسلم هذا الكلام اضطرب، وكان أبو جعفر قد كتب إلى خليفة أبي مسلم على خراسان وهو أبو داود يوليه إياها طول عمره على أن يقطع صلته بأبي مسلم، فكتب أبو داود إلى أبي مسلم يقول: «إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه.»
3
فلما أدرك أبو مسلم أنه مغلوب على أمره قصد المدائن حيث أبو جعفر، ولما علم المنصور بتوجهه بعث إليه وجوه بني هاشم وكبار القادة يتلقونه لئلا يجفل، فلما دخل عليه أبو مسلم وسلم عليه فرد عليه السلام ورحب به وأوصاه بأن يستريح يومه فإنه متعب، فلما كان من الغد أمر عثمان بن نهيك رئيس الشرطة أن يجيء بأربعة من رجاله ويخبئهم وراء السرادق، ثم استدعاه وأخذ يسأله عن أشياء
4
إلى أن يبلغ بهما الحديث إلى سبب قصده خراسان مراغما، فقال أبو مسلم: دع هذا فما أصبحت أخاف أحدا إلا الله، فلما سمع المنصور كلماته هذه صفق عندئذ فخرج الشرطة فقتلوه، ثم إن المنصور أراد أن يسكن جند أبي مسلم، فوزع عليهم الهدايا والأموال والجوائز، فسكنوا إليها وألهتهم الهدايا عن التفكير في مقتل صاحبهم، ووقف أبو جعفر فخطبهم قائلا:
أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تستروا غش الأئمة، فإن من غش إمامه أظهر الله عز وجل سريرته في فلتات لسانه وسقطات لسانه، وأبداها الله لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء حقه بفلجه، إنا لم نبخسكم حقوقكم ولم نبخس الدين حقه عليكم، إنه من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه ما في هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعناه وبايع لنا على أنه من نكث بيعتنا أباح لنا دمه، ثم نكث هو بنا فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه ...
5
وهكذا تخلص أبو جعفر المنصور من الخطر الكامن وراء أبي مسلم فقضى عليه، ولم يبق أمامه سوى العلويين الذين كان يخشاهم ويخاف طموحهم، وخاصة منهم ذا النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وما إن تخلص المنصور من أبي مسلم حتى أخذ يتسقط أخبار محمد بن عبد الله ذي النفس الزكية، ولما حج في سنة 140ه سأل عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عن ابنيه فأنكر أن يكون على علم بأمرهما، فحبسه وصادره، ثم أخذ يجمع أبناء الحسن بن علي، فأخذ منهم ثلاثة عشر رجلا فحبسهم جميعا، وقسا عليهم وساقهم إلى العراق مقيدين بالأغلال وعذبهم حتى مات أكثرهم، فلما بلغت أخبارهم محمد بن عبد الله ذا النفس الزكية ثار في الحجاز وطرد أمير المدينة في رجب سنة 145ه، وكتب إلى أخيه إبراهيم بن محمد أن يثور هو أيضا في اليوم نفسه بالبصرة ليفشل أبو جعفر في جهتين مختلفتين، ولكن إبراهيم لم يتمكن من القيام بحركته حينئذ، فوجه أبو جعفر قوته إلى الحجاز، وكان في ذلك الحين مشغولا ببناء «بغداد»، وكتب كتابا إلى محمد ذي النفس الزكية يقول له فيه: «
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ...
ولك عهد الله وميثاقه وحق نبيه إن تبت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وتابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم وأن أنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وإن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه، فإن شئت أن تتوثق بنفسك فوجه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد والأمان ما أحببت.»
فكتب إليه محمد ذو النفس الزكية كتابا يقول فيه:
أما بعد:
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ... وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني، وقد تعلم أن الحق حقنا، وأنكم إنما طلبتموه بنا ونهضتم فيه بشيعتنا، وخطبتموه بفضلنا ، وأن أبانا عليا (عليه السلام) كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء، وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا ... لم تلدني العجم ولم تعرق في أمهات الأولاد، ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أحببته، إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفى بالعهد منك وأحرى بقبول الأمان، فأما أمانك الذي عرضت علي، فأي أمان هو! أأمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم ...
فكتب إليه أبو جعفر كتابا يقول فيه:
بلغني كلامك فإذا جل فخرك بالنساء لتضل به الجفاء والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل العم أبا وبدأ به على الوالد الأدنى، ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك ... وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة غير أنها لا تجوز الميراث ولا يجوز أن تؤم، فكيف تورث الإمامة من قبلها، وأفضى أمر جدك إلى الحسن فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية وحرقوكم بالنار وصلبوكم على جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم؛ إذ لم تدركوه ورفعنا أقداركم ...
ولما بعث المنصور كتابه هذا خاف أن يثور الخراسانية انتقاما لأبي مسلم الذي لم يمض على قتله إلا قليل، ونصرة لآل علي الذين يحبونهم، أتبع كتابه بجيش لجب على رأسه عيسى بن موسى فوصل المدينة في 12 رمضان سنة 145ه، ودارت المعركة بين الفريقين وظهرت من محمد ذي النفس الزكية ضروب من الشجاعة، ولكنه لم يلبث أن قتل،
6
فثار أخوه إبراهيم بن عبد الله في البصرة، ونصره جمع كثير من الخراسانيين، وكان ذلك في أواخر رمضان سنة 145ه، وكاتبه أهل الكوفة يؤيدونه فقوي أمره وخاف المنصور مغبة حركته، فكتب إلى عيسى بن موسى أن يغادر الحجاز لقتال إبراهيم، وكان إبراهيم قد سيطر على الأهواز وفارس، وفتح واسطا وسار نحو الكوفة، فالتقى به جيش عيسى بن موسى عند «باخمري»، وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة، فهزم إبراهيم وتفرق جنده في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 145ه.
وبموت محمد وإبراهيم تخلص المنصور من خصمين قويين، وابتهج بهذا الخلاص ابتهاجا عظيما، فقد خطب خطبة في تلك المناسبة أمام الشيعة الخراسانية جاء فيها: «يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولم بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم، والذي لا إله إلا هو، والخلافة لم تعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام علي وتلطخ وحكم عليه الحكمان فافترقت عنه الأمة واختلفت عليه الكلمة، ثم قام من بعده الحسن، فوالله ما كان فيها برجل، ثم عرضت عليه الأموال فقبلها، ثم قام من بعده الحسين فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، ثم قام من بعده ثم وثب علينا بنو أمية فأماتوا شرفنا ... فصرنا تارة بالطائف وتارة بالشام ومرة بالشراة حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم، أهل خراسان، ودفع بحقكم أهل الباطل وأظهر حقنا، فلما استقرت الأمور فينا وثبوا علينا ظلما وحسدا منهم لنا، وبغيا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا من خلافته وميراث نبيه؛ جهلا علينا وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن.» ثم ما لبثت الأمور أن استقرت للمنصور فانصرف إلى ترتيب شئون دولته وتوطيد أركان إمبراطوريته إلى أن وافاه أجله وهو في طريق الحج في 6 ذي الحجة سنة 158ه. (1) الإدارة في عهده
يعتبر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، فهو أبو الأملاك العباسيين جميعا، وهو الذي قضى على الفتن الكبرى التي هددت قواعد المملكة، وأبعد عنها إجماع الطامعين، ثم انصرف إلى إدارة شئونها فأحسن القيام بالأمر، وكان من أجل أعماله التي قام بها في ذلك تأسيس عاصمة جديدة للدولة، وتنظيم دواوينها وإداراتها، وتنظيم جيشها وعلاقاتها السياسية الخارجية، وتنظيمها المالي، وإليك تفصيل ذلك في النقاط الآتية: (1-1) بناء العاصمة الجديدة
رأينا أن «السفاح» قد تنقل بين ثلاث عواصم، فلما جاء المنصور عزم على أن يبني لنفسه عاصمة جديدة تكون مقر ملكه ومسكن أنصاره ومعسكرا لجيشه، فاختار موقع «بغداد» لوقوعها على دجلة، ولتوسطها إقليم العراق، ولسيطرتها على الطريق التجارية الهامة الموصلة بين الشرق والغرب، ويروي بعض المؤرخين أن المنصور قال لما اختار هذا الموقع: «هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بينها وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك.»
ويذكر المقدسي (في أحسن التقاسيم، ص119) أن أهل بغداد - وكان ثمة قرية قديمة تعرف بهذا الاسم ترجع إلى العهد البابلي - قالوا للمنصور: «تنزل في بغداد؛ فإنك تصير بين أربعة طساسيج؛ طسوجان في الجانب الغربي، وطسوجان في الجانب الشرقي، فاللذان في الغربي «قطربل» و«بادوربا»، واللذان في الشرقي «نهر بوط» و«كلواذي»، فأنت تكون بين نخيل وقرب الماء، فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان الآخر عامرا، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة، وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها حتى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم، آمد والجزيرة والموصل في دجلة، وأنت بين أنهارك لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا أقطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البحر والبر والجبل ...»
7
فأعجبه ذلك ثم أمر بتخطيط المدينة، وأمر أن تكون مدورة الشكل، وجعل لها سورين أحدهما داخل وهو سور المدينة، وسمكه في السماء 35 ذراعا، وعليه أبرجة سمك، كل برج منها فوق السور خمسة أذرع، وعلى السور شرف، وعرض السور من أسفله نحو عشرين ذراعا، ويليه من الخارج فصيل بين السورين وعرضه ستون ذراعا، ثم السور الأول وهو سور الفصيل ودونه الخندق، للمدينة أربعة أبواب متساوية البعد تؤدي إلى طرق أربعة، فتبدأ من مركز الدائرة، وتسير إلى أطراف الإمبراطورية الأربعة فباب سماه «باب الكوفة»، وباب سماه «باب البصرة» وباب سماه «باب خراسان» ورابع سماه «باب الشام»، وفي قلب المدينة يقوم قصر الخليفة، وإلى جانبه المسجد الجامع.
وكان الشروع في بناء المدينة الجديدة التي أطلق عليها اسم «دار السلام»، في سنة 145ه وضع الخليفة بيده أول لبنة وقال: «بسم الله، والحمد لله، الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا.» قال ابن الطقطقي: «وبلغ الخراج عليها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثين ألف درهم.»
8
ودام البناء نحو خمس سنوات، واشتغل فيها نحو مائة ألف عامل، وقد استحضر لها المنصور المهندسين والبنائين والمزخرفين من الشام والموصل والروم والجبل والكوفة وواسط والبصرة، واختار أربعة من أهل الفضل والدين والعقل والهندسة للإشراف على العمل، منهم: أبو حنيفة الإمام الأعظم، ويظهر أن المنصور قد تأثر في تخطيط مدينته بالطريقة الفارسية في تحصين المدن، وفصل أصناف السكان والابتعاد عنهم، وتصعيب الوصول إلى الحاكم، وفي سنة 150ه ابتنى المنصور مدينة الرصافة لابنه المهدي، وعمل لها سوارا وخندقا وبستانا وأجرى الماء إليها.
وأخذت دار السلام تنمو وتتسع ويعظم شأنها حتى ورثت مجد المدائن وبابل ونينوى وأور والحيرة، وسمت سموا لم تبلغه مدينة من عواصم الشرق القديم، ولما تم بناؤها حشر فيها المنصور العلماء والحكماء والفضلاء من كل فن، فقصدها الناس من كل بلد، قال الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»: «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلاقها؛ وتميز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها وروابيها وشوارعها ومحالها وأسواقها وسككها وأزقتها ومساجدها وحماماتها وطرقها وخاناتها، وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها ...»
والحق أن بغداد بلغت شأنا عظيما في فترة قصيرة، وبخاصة في عهدي الرشيد والمأمون، ولم يعرف عن مدينة في الشرق القديم بلغت ما بلغته بغداد سوى القسطنطينية. (1-2) تنظيم الدواوين والإدارات العامة
أول ما يحس به المرء من التنظيم في عهد المنصور أن السلطان أصبح ذا تقاليد جديدة لم تكن معروفة من قبل؛ فقد كان باب الخليفة قبلئذ في المدينة ودمشق مفتوحا لكل قاصد، ليس على بابه إلا حاجب يستأذن لكل من أراد الدخول، أما قصر الخليفة في «دار السلام» فقد صار ذا تقاليد وآداب، ولم يعد الوصول إلى الخليفة بالشيء السهل، وأصبحت رؤية الخليفة أمرا عسيرا، وأصبح الوزير يدير شئون الناس ويتصل بهم، ثم يرفع إلى الخليفة نتائج أعماله، وكان من وراء الوزير أربعة نفر؛ هم القاضي وصاحب الشرطة وصاحب الخراج وصاحب البريد، ويروي الطبري قولة لأبي جعفر يظهر فيها رغبته في العثور على أربعة يثق بهم ويعتمد عليهم في تدبير أمور الدولة، قال: «ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم ... هم أركان الملك، فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، وصاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، وصاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها غني، والرابع صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة.»
9
ويظهر من هذا القول أن الخليفة وإن كان قد حجب نفسه عن الناس إلا أنه ظل يراقب وزيره ومدبري أمور دولته، بل ربما كان يغالي في مراقبته حتى لا يجعل للوزير سلطانا عليه أو استبدادا بالناس، قال ابن الطقطقي في معرض حديثه عن وزراء المنصور: «لم تكن الوزارة في أيامه طائلة؛ لاستبداده واستغنائه برأيه وكفايته، مع أنه كان يشاور في الأمور دائما، وإنما كانت هيبته تصغر لها هيبة الوزراء، وكانوا لا يزالون على وجل منه وخوف، فلا يظهر لهم أبهة ولا رونق.»
10
وأول من تولى له من الوزراء هو أبو أيوب سليمان بن مخلد المورياني الأهوازي، وكان المنصور قد اشتراه صغيرا فثقفه وهذبه ودربه، فلما تولى السفاح أعجب بثقافته وذكائه فاختص به ، ثم أخذ أمره ينمو لما كان يتمتع به من ذكاء ودهاء وخبرة، حتى إذا تولى المنصور الخلافة قلده وزارته، ولكنه لما رآه قد أثري ثراء فاحشا وأخذ يسيء السيرة غضب عليه وصادر أمواله ثم قتله في سنة 153ه، ثم ولى الربيع بن يونس أمور وزارته وكان عاقلا نبيلا منفذا للأمور مهيبا فصيحا خبيرا بالحساب وإدارة الأعمال،
11
فظل في وزارته إلى أن هلك المنصور.
ومن الوظائف الكبرى التي تلي الوزارة: (أ)
الحجابة:
وقد كان «الحاجب» موظفا كبيرا يتولى أمر الدخول على الخليفة، فلا يمثل بين يديه أحد إلا عن طريقه وبواسطته، والحجابة وظيفة قديمة معروفة منذ العهد النبوي الشريف، فقد كان للنبي وخلفائه الراشدين حجاب، ولكن لم يصبح لهذه الوظيفة تقاليد إلا في العهد الأموي، فإن معاوية قد اهتم بأمر الحجابة، وجعل لها تقاليد وآدابا، ثم توارث ذلك من خلفه، فزادوا في تلك التقاليد ونظموها، فقد روي أن عبد الملك بن مروان قال لصاحب حجابه: قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة: «المؤذن للصلاة، وصاحب البريد، وصاحب الطعام.» (ب)
الكتابة:
وكان «الكاتب» هو الذي يتولى أمور الكتابة عن الخلفاء إلى الملوك والأمراء وغيرهم، وقد عرفت هذه الوظيفة منذ عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء الراشدون فاستكتبوا، وربما تولى الخليفة نفسه أمر كتابة رسائله، ولكن لما اتسعت رقعة الملك في عهد بني أمية وبني العباس أصبح الكتاب هم الذين يتولون ذلك، وأصبحت لهم تقاليد وآداب فصلت أخبارها في كتب تاريخ الآداب. (ج)
الشرطة:
وكان يتولى أمرها قائد كبير يختاره الخليفة للمحافظة على الأمن وحفظ المدينة من الشطار وأهل الفساد، والضرب على يد كل من تسول له نفسه القيام بجناية أو العبث والفساد بالبلاد، وقد كانت هذه الوظيفة معروفة منذ العهد النبوي كما بينا ذلك مفصلا في موضعه. (د)
القضاء:
وقد كان «القاضي» ينظر في قضايا الناس ومشاكلهم الدينية والدنيوية فيقضي فيها بما أنزل الله، وكان يختار لهذا المنصب رجل موثوق أمين، فقد كان أبو بكر وعمر وعلي (رضي الله عنهم ) يقضون في عهد الرسول، وكان بنو أمية يختارون للقضاء أفاضل الصحابة أو التابعين، ومن مشهوري قضاة المنصور الفقيه الإمام محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (148ه)، وكان من طبقة أبي حنيفة الإمام الأعظم، وقد كان المنصور أراد أن يولي أبا حنيفة القضاء فاعتذر إليه عن ذلك.
وقد اهتم المنصور أيضا بعماله في الأقاليم، فاختار لها أفضل رجاله فهما ونبلا، وأكثرهم ثقة وعدلا، وكان أكثرهم من أهل بيته، فإسماعيل بن علي ولاه فارس، وسليمان بن علي ولاه البصرة، وعيسى بن موسى ولاه الكوفة، وصالح بن علي ولاه قنسرين والعواصم، والعباس بن محمد ولاه الجزيرة، وجعفر بن سليمان ولاه المدينة، ومن عماله يزيد بن حاتم المهلبي أمير إفريقية، ومعن بن زائدة أمير اليمن، وخازم بن خزيمة أمير أرمينية، وهؤلاء كلهم من أكابر الرجال وفضلائهم، وكان الخليفة يطلب من عماله أن يبعثوا إليه بتقارير مفصلة عن أحوالهم وعن شئون بلادهم، وكان أصحاب البريد في كل إقليم هم الذين يبعثون إليه بأخبار هؤلاء العمال وكبار الموظفين الآخرين، كما يكتبون إليه عن أسعار المواد الغذائية وأحوال بيت المال وشئون التجارة والاقتصاد، وقد كان في كل إقليم أيضا موظفون آخرون من الكتاب ورجال الشرطة والنواب والقضاة، وعلى النمط الذي كان في العاصمة لدى الخليفة. (1-3) تنظيم الجيش وقياداته
اهتم المنصور بالجيش وتنظيمه وتقويته اهتماما كبيرا؛ لأنه هو الذي يحمي حدود الدولة ويحفظ كيانها، وقد كان الجيش في الدولة العباسية منقسما إلى فريقين:
الفريق الأول:
هو جيش الخراسانيين ومن إليهم من الأعاجم.
والفريق الثاني:
هو جيش العرب، وقد كان الخليفة يوازن بين الفريقين لئلا تقوى شوكة أحدهما فيعيث في البلاد فسادا، وكان كلما أحس من قائد تعاظما سلط عليه من يذله، ومن مشهوري قادته هؤلاء أبو مسلم الخراساني، ومعن بن زائدة الشيباني، وعمرو بن العلاء، والمسيب بن زهير الضبي، والحسن بن قحطبة الطائي، ويزيد بن حاتم، وكان الخليفة يعرض جيوشه بين الحين والحين ليتبين أوضاع جنده ويصلح ما قد يكون فسد من أحوالهم، ويوجه إليهم نصائحه وإرشاداته ويسألهم عن شئونهم، وقد روى المؤرخون أنه في سنة 158ه عرض الجيش عرضا فخما، تحدث عنه الطبري وأطنب في وصفه إطنابا يدلنا على عناية المنصور بالجيش وقادته وتنظيمه وتقويته. (1-4) علاقات الدولة الخارجية
كانت الإمبراطورية العربية متاخمة للبيزنطيين، وكان النزاع قائما بين الجانبين منذ أيام بني أمية، وقد ورث العباسيون هذه العداوة كما ورثوا تقليدا أمويا هو إرسال الجيوش كل صيف وشتاء لغزو بلاد الروم، وكانت هذه الجيوش تسمى «الصوائف» و«الشواتي»، وكانت بلاد آسيا الصغرى هي مجال تلك الحروب، ولم تنقطع الحروب بين الجانبين منذ عهد معاوية حتى هذا العهد الأموي إلا في فترات قليلة، وقد جددت في عهد المنصور هذه التقاليد بقوة؛ لأنه عزم بعد أن وطد أمره على التوسع، وخصوصا حين غزت جيوش الروم في سنة 138ه «ملطية» وكانت من الثغور الإسلامية، فعملت فيها تخريبا وفي أهلها تقتيلا، فبعث المنصور عمه صالح بن علي وأخاه العباس بن محمد بن علي للانتقام للعرب والمسلمين، فدارت المعارك سجالا بين الجانبين.
ثم تعددت الحروب بين الروم والمسلمين في عهد المنصور كله إلى أن توفي، ولكنها لم تكن من حيث الاستعداد والقوة كما كانت أيام بني أمية؛ لأن نقل مقر الدولة من دمشق إلى بغداد وبعد العاصمة عن البحر الأبيض جعل العباسيين يكتفون بإرسال هذه «الصوائف» و«الشواتي» التقليدية إرسالا تقليديا، واطمأن البيزنطيون إلى أن الدولة الإسلامية الجديدة لم تعد تهدف إلى فتح القسطنطينية كما كان الأمويون، كانت للبيزنطيين حملات شديدة على الثغور الإسلامية كسميساط وسيس والمصيصة، ولكن المنصور كان لهم بالمرصاد، وقد بنى على الفرات مدينة الرافقة سنة 155ه على طراز مدينة بغداد، ورتب لها الجند من الخراسانيين والعرب؛ لتكون مركز تموين الجيوش الإسلامية في غزواتها،
12
وكما اهتم المنصور بتحصين الحدود البيزنطية اهتم كذلك بتحصين حدوده في الشمال والمشرق وإفريقية، وبعث الجيوش إلى شمال إفريقية بقيادة يزيد بن حاتم ففتح القيروان في سنة 155ه، وأغزى العلاء بن مغيث اليحصبي الباجي على أن يثور على عبد الرحمن في الأندلس فثار في سنة 146ه، ولكن عبد الرحمن فتك به فلم يصل المنصور إلى طلبه. (1-5) التنظيم المالي
اشتهر المنصور بأنه مالي ومقتصد، وأنه كان يحاسب على الدانق حتى سمي أبا الدوانيق، وقد قام بإصلاح الخراج؛ فقد كان النظام المتبع في العراق منذ عهد عمر بن الخطاب أن يأخذ الخراج نقدا وعلى مقدار الأرض سواء أزرعت أم لم تزرع، وقد رأى المنصور تبدل الأحوال والظروف فوضع نظام المقاسمة مما تنبت الأرض بأن يأخذ جزءا من نتاجها ويترك الباقي لصاحبها.
وقد كان المنصور يتشدد في جمع الضرائب في أوقاتها وفي أخذها نقودا جيادا صحاحا، كما كان يتشدد العمال وأصحاب الخراج في مطالبتهم الأهلين بما تحت أيديهم من موارد الدولة والفتك بمن تبلغه عنه خيانة أو اختلاس، وقد خلف المنصور في بيت المال بعد وفاته ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وهو مبلغ جسيم جعل المهدي من بعد أبيه ينفق عن سعة في تنظيم شئون الدولة العربية. (1-6) توجيه الدولة للقضاء على روح التمرد والزندقة
كان ظهور دولة العباسيين باعثا قويا على انتعاش القومية الفارسية وما يتبعها من إحياء المجوسية والآمال القومية الأخرى، وقد أمل الفرس كثيرا في أن يقلبوا الدولة العربية إلى فارسية، ولكن أملهم خاب ولم تتحقق تلك الأمنية التي أرادوها بمثل تلك العجلة، وكان من جراء هذه الخيبة أن نشأت في إيران أيام هذه الدولة فرق تتستر بالدين والمبادئ الاجتماعية، وما هي في الحقيقة إلا فرق تريد هدم الإسلام والقضاء على كيان العرب، وقد تعددت هذه الفرق وتنوعت مبادئها وأساليبها، ولكنها كلها كانت ذات هدف واحد وهو دك صرح الإسلام وإعادة المجوسية وتقليص مجد العرب، وقد أمل الفرس أن يجدوا في آل علي وآل العباس ذريعة إلى هذا الهدف، ولكنهم فشلوا كما سنرى.
ويظهر أن أول حركة قامت تهدف إلى هذا الغرض هي حركة «بهافريد» وهو متنبئ فارسي قام في عهد أبي العباس بثورة عقلية عنيفة في نيسابور، زعم أنه جاء ليتمم رسالة «زرادشت»، فاستجاب له خلق كثير، وبخاصة الذين هم من أصل مجوسي، وقد أدخل تعديلات على الزرادشتية منها ترك تحريم الخمور وأكل الميتة ونكاح الأمهات والبنات والأخوات وبنات الأخ، ومنها فرض سبع صلوات في اليوم إحداهن لتوحيد الله، مع أن الزرادشتية دين ثنوي، ولم يكن يهدف «بهافريد» دينيا فحسب، بل مزج ذلك بحركة إصلاح اجتماعية، كدعوته إلى تحديد المهور، وإيجابه ألا تتجاوز «400» درهم، ودعوته إلى طرح كثير من العادات القبيحة كالسكر والإفراط في الملذات وما إلى ذلك، وقد تحمس لدعوته المجوس أول الأمر، ولكنهم لما وجدوه قد بدل في طقوس الزرادشتية كثيرا اعتبروه مخالفا، فاجتمع موابذتهم وهرابذتهم،
13
وتداولوا أمرهم بينهم فقرروا مقاومة حركته، حتى ذهب فريق منهم إلى أبي مسلم الخراساني فقالوا له: إن «بهافريد» قد أفسد دين الإسلام ودين المجوس، فبعث من حمله إليه فقتله وقتل كبار رجال دعوته وعددا كبيرا من أنصاره، وضعف شأن البهافريين بعده، ويذكر ابن النديم أن البهافريدية كانت موجودة إلى أيامه في القرن الرابع.
14
ومن تلك الحركات الهدامة «حركة الخرمية»، وهي طائفة أرجعت مبادئ دينها إلى مذهب مزدك الإباحي، واسمها مأخوذ من قولهم «خرم دينان»؛ أي الدين الفرح، مزجوا بعض تعاليم الإسلام بالمزدكية من تناسخ واشتراكية في المال والنساء وحلول، فخرج من ذلك مزيج غريب، ومن فروع هذه الفرقة «الخداشية» والزرامية.
15
ومنها «الحركة الراوندية» وهي حركة ظهرت في راوند بالقرب من أصبهان في عهد المنصور، وقد اتخذت مبدأ تقديس الملوك ورفعهم إلى رتبة الآلهة مبدأ أساسيا، وقالت: إن أبا جعفر المنصور هو إلهنا، وإن الألوهية انتقلت إليه وحلت فيه، وإن روح الله كانت في عيسى (عليه السلام) ما تزال تنقل منذ أن حلت في علي، حتى حلت بإبراهيم بن محمد ووصلت إلى المنصور، فلما بلغ المنصور ذلك القول عنهم ضيق عليهم ثم قتلهم.
16
ومنها «حركة المقنع الخراساني» وهي حركة تشبه الراوندية، سميت بذلك نسبة إلى صاحبها المقنع، واسمه هاشم بن حكيم؛ لأنه اتخذ لوجهه قناعا من ذهب أو من حرير أخضر وادعى الألوهية، وأسقط الصوم والصلاة والزكاة والحج عن أتباعه وأباح لهم أموال الآخرين ونكاح نسائهم، ودعا إلى تعاليم «مزدك» الإباحية، وقد فشا أمره أيام المهدي فشدد على جماعته وأبادها.
17
وهناك حركة سنباد المجوسي، وحركة أستاذ سير، وحركة يوسف البرم، وإسحاق الترك وغيرها من الحركات الغريبة كما سنبينه بعد.
ويجب أن نعلم أن لدعاية أبي مسلم للعباسيين ضلعا كبيرا في خلق هذه الحركات العقائدية، فظهرت متسترة قبل قتل أبي مسلم، ولكنها سفرت بعد مقتله؛ فالخرمية الذين عرفنا من أمرهم بعض الشيء اتخذوا أبا مسلم بعد قتله زعيما لحركتهم وإماما (كما يقول الفهرست لابن النديم، ص483)، ويقول المستشرق براون: «إن الثورات التي كانت في إيران، والتي قادها مدعو النبوة من عهد سنباد المجوسي سنة 754م وأستاذ سير سنة 766م ويوسف البرم والمقنع سنة 777م، وعلي مزدك سنة 833م وبابك الخرمي سنة 816م، كانت على الأغلب مرتبطة بذكرى أبي مسلم.»
18
ويقول المسعودي: «إنه لما نمى مقتل أبي مسلم إلى خراسان وغيرها من الجبال اضطربت الخرمية، وهي الطائفة التي تدعى بالمسلمية، وهم القائلون بأبي مسلم وإمامته.»
19
أما «سنباد» الذي أشار إليه المستشرق «براون» فهو متنبئ قام بعد قتل أبي مسلم معلنا عن نهاية الملك العربي، وأنه سيهدم الكعبة، وقد عظم أمره حتى استولى على الري بعد مقتل أبي مسلم، وقبض على ما كان فيها من خزائن أبي مسلم، ولولا حزم الخليفة أبي جعفر في القضاء على حركته التي كانت تقوى بسرعة عجيبة للقيت الدولة الفتية منه بلاء خطيرا، وليست حركة «إسحاق الترك» دون حركة «سنباد»، وإسحاق هو أحد أعوان أبي مسلم، بعثه إلى بلاد الترك أميرا، فلما قتل أبو مسلم ثار هناك، وزعم أن أبا مسلم لم يقتل، وأنه سيخرج في وقت سماه، ويظهر أن إسحاق قد جمع حوله كل «المبيضين» وهم الذين ثاروا على الدولة لقتلها أبا مسلم، وقام بحركته التي ما لبثت أن عمت بلاد ما وراء النهر وإيران، ولولا أن أبا داود والي خراسان استطاع أن يقبض عليه ويقتله لكان للحركة آثار خطيرة، ولما قتل اختفى المبيضة، ويقول ابن النديم: «إن المبيضة ظلوا حتى القرن الثالث، وكان بعضهم يعيش في بعض قرى بلخ.»
20
وصفوة القول أن حركة التمرد ضد الإسلام قد قويت جدا في عهد المنصور، فعمل على القضاء عليها وإنقاذ البيئة الإسلامية من فتنها، وسنرى بعد أن الخليفة المهدي هو الذي قام قومته في سبيل ذلك وقضى على الزنادقة القضاء المبرم. (1-7) توجيه العلاقات الخارجية السياسية
لم يكتف المنصور بتنظيم أحواله الداخلية، بل اتجه إلى الخارج فدرس أحواله دراسة متفحص، ووجد كما رأينا في النقطة الرابعة أن خصومه الأقوياء هم البيزنطيون، فوجه همته إلى تحصين حدوده من جهتهم، وأعاد بناء مدن «مرعش» و«المصيصة» وحصن قلاعهما، ثم اتجه نحو ثغور الجزيرة والدروب فقواها، ويذكر البلاذري أن في سنة 139ه أمر المنصور بجمع الصناع من كل بلد للاشتغال بتحصين أعظم ثغور الدولة، وهو مدينة «ملطية»، فتم له ذلك في نصف سنة، وأنه بنى للجند الذين سكنوها بيوتا وقلاعا، كما «بنى للجند ... لكل عرافة - وهي مكونة من عشرة جنود إلى خمسة عشر وعليها عريف - بيتين سفليين وعليتين فوقهما وإسطبل ... وأسكن «ملطية» أربعة آلاف مقاتل من أهل الجزيرة؛ لأنها من ثغورهم، ووضع فيها شحنتها من السلاح وأقطع الجند المزارع.»
21
ومما فعله المنصور أيضا من أعمال تحصين حدوده نحو البيزنطيين بناؤه «مدينة الرافقة» على الفرات سنة 155ه كما أشرنا إلى ذلك، وقد جعلها على نمط «مدينة بغداد» ورتب فيها الأجناد الخراسانيين وقوى حصونها، وأكثر فيها من السلاح والذخيرة والميرة؛ لتكون مقر حركاته في حروبه مع الروم، ثم اتجه إلى حدوده المتاخمة لبلاد الخزر
22
فقواها وبنى فيها القلاع، وجدد بناء مدينة «كمخ» و«المحمدية» و«باب واق»، وأنزل فيها المقاتلة وأقطعهم الأراضي وكثر أموالها وذخيرتها.
23
ولما رأى أن شمال إفريقية بقعة تعج فيها الثورات والحركات على يد الخوارج والبرابر، بعث بيزيد بن حاتم المهلبي سنة 154ه في جيش كبير قوامه 50 ألف مقاتل فمهد البلاد ودخل القيروان، وحاول استعادة ملك الأندلس ولكنه لم يفلح، ويقال إنه راسل ملك الفرنج الميروفنجيين في سنة 765م الملك ببن القصير وبعث إليه وفدا، فأجابه هذا بإرسال وفد مثله، وعملا على توطيد العلاقات بينهما، ولكن معلوماتنا قليلة عن مدى نجاح هذه الرحلة وما أنتجته.
24 (1-8) الاستعانة بالعلماء والفقهاء على تقوية كيان الدولة الجديدة
استعان المنصور بالعلماء والفقهاء على تقوية أركان دولته، وقد كانوا أيام بني أمية بعيدين عن دواوين الدولة إلا قليلا، منصرفين إلى بحوثهم ودراساتهم، فلما جاء بنو العباس قربوهم وأفادوا منهم، ومن هؤلاء الإمام الأعظم أبو حنيفة والإمام مالك والإمام ابن أبي ليلى وغيرهم مما سنفصله فيما بعد. (2) خاتمة عهده
كان المنصور كما رأينا ملكا قديرا وحازما في الإدارة والسياسة وتنظيم شئون المال، بعيدا عن الإسراف موصوفا بالتقتير، ولكنه كان يجود حيث الجود محمود، قال المسعودي: «وكان يعطي الجزيل والخطير ما كان عطاؤه حزما، ويمنع الحقير اليسير ما كان عطاؤه تضييعا.»
25
وقد رأينا أنه لما مات وأحصوا ما في بيت المال وجدوا فيه ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وكان يقول: «من قل ماله قل رجاله، ومن قل رجاله قوي عليه عدوه، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه، ومن اتضع ملكه استبيح حماه.»
26
وكان لا يسرف في عطاء الشعراء، كما كان يراقب تصرفات أولاده المالية، وحركات عماله الإدارية.
والحق أن المنصور كان أعظم خلفاء العباسيين إدارة وحكمة وعقلا وبأسا ويقظة، وكان يهتم بمراقبة العمال بنفسه، والتنقيب عن أحوال الناس ودخائل أمورهم، ويعنى بالأمن وبمحافظة السبل ومنع الفاسد، قالوا: إنه إذا كان استيقظ في اليوم ابتدأه بالصلاة وقراءة القرآن، ثم يخرج إلى الإيوان فيطلع على رسائل الأقاليم وأحوالها إلى وقت الظهر، فإذا صلى الظهر دخل قصره واستراح قليلا، ثم رجع إلى مطالعة رسائل عماله والمكاتبة إليهم بما يجب عليهم عمله إلى وقت العصر، فإذا صلى صلاته جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامره، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد إليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، ثم شاور سماره فيما أراد من ذلك، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ وضوءه ووقف في محرابه يصلي حتى مطلع الفجر، ثم يخرج للناس ... وهكذا دواليك.
وكما كان المنصور كان رجال بلاطه من أهل الدين والحزم والخلق والجد.
وفي سنة 158 أراد أن يحج ويزور قبر النبي الكريم لكنه توجع في الطريق قرب الكوفة، فلما صار إلى بئر ميمون اشتد عليه الوجع فبقي هناك وأدركته المنية في فجر ليلة السبت سادس ذي الحجة ، ولم يحضره عند وفاته إلا حاجبه ووزيره الربيع، فأوصاه بما أراد، وكتم الربيع ذلك حتى الصبح فاستدعى من معه من أهل البيت وأخذ بيعتهم للمهدي، ثم لعيسى بن موسى من بعده، ثم دعا بالقادة فبايعوه، واتفق رأي أهل البيت على أن يتوجه العباس بن محمد بن علي ومحمد بن سليمان بن علي إلى مكة لمبايعة المهدي وأخذ بيعة أهل الحجاز، وهكذا كان، ودفن المنصور في ثنية المعلاة، وكان له من الولد ثمانية من الذكور وبنت، وأكبرهم محمد المهدي.
الفصل الثالث
المهدي بن المنصور
ذو الحجة سنة 158ه-22 محرم 168ه/ تشرين الأول 775-4 آب 785 (1) هو محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وأمه أروى بنت منصور الحميرية
ولد سنة 126 في الحميمة فتثقف وتعلم كما كان يتثقف ويتعلم شبان قريش، وبرز نبوغه وفضله منذ طفولته، وكانت سنه لما استخلف أبوه عشر سنوات، ولما بلغ سن الرشد ورأى أبوه فيه الفضل والحزم والقوة أراد أن يوليه العهد من بعده، ولكن عقبة وقفت في سبيله، وهي أن عيسى بن موسى ولي العهد لم يقبل أن يتنازل له، فرأى المنصور أول الأمر أن يفاوضه ليتخلى للمهدي ابنه، فأبى عيسى وقال: ليس إلى خلع نفسي سبيل، فتغير عليه المنصور وباعده بعض المباعدة، وصار يأذن لابنه قبله ويجلسه فوقه، وقيل: إنه سقاه يوما شرابا فخاف عيسى على نفسه التلف فخلع نفسه، وهناك روايات أخرى ذكرها الطبري وابن الأثير وابن طباطبا، ومهما يكن من شيء فإن عيسى أحس بالخطر فاضطر على أن يخلع نفسه، وأخذ أبو جعفر يعمل على إظهار أمر المهدي.
وفي سنة 141ه ولى المنصور ابنه المهدي قيادة جيش بعثه إلى خراسان للقضاء على بعض الفتن، فلما وفق في القضاء على الفتنة أمره أبوه بغزو «طبرستان» فغزاها ونجح، ولما عاد بعد ثلاث سنوات استقبله أبوه من «قرمايسين»، ولما وصلا بغداد زوجه ريطة بنت عمه السفاح، وكان زواجا حافلا.
وفي سنة 147ه بعثه إلى الري ليتمرن على الحكم هناك ويتمرس بالأمور، وفي سنة 151ه بنى أبوه له ولجنوده مدينة الرصافة وولاه إمرة الحج، وفي سنة 155ه أمره أن يشرف بنفسه على بناء مدينة الرافقة بالقرب من الحدود الرومية للإشراف بنفسه على حفظ الثغور، وهكذا ظل أبوه يوليه مهام الأمور حتى أدركته المنية؛ فاستخلف في ذي الحجة سنة 158ه، ورأى منذ أول عهده أن يغير سياسة العنف التي كان يسلكها أبوه؛ لأن أركان الدولة كانت قد توطدت والثوار من خراسانيين وغيرهم قد خضدت شوكتهم، فلم تبق ثمة حاجة إلى الفتك والعنف، فأطلق عددا كبيرا ممن كانوا في سجن أبيه من كبار الثوار والقادة أمثال يعقوب بن داود الذي سنسمع بعض أخباره.
ثم التفت إلى من كان أبوه قد صادر أموالهم فأرجعها إليهم، ويذكر صاحب تاريخ الفخري أن المهدي فعل ذلك بوصية من أبيه حين يقول: «يا بني إني قد أفردت كل شيء أخذته من الناس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه، فإذا وليت أنت فأعده على أربابه ليدعو لك الناس ويحبوك ...» وهكذا فعل المهدي فأحبوه، وكان كريما معطاء بعث إلى الحجاز بجرايات الحبوب والطعام التي منعها أبوه منذ ثورة محمد ذي النفس الزكية،
1
ومنح الحجازيين أموالا كثيرة حينما حج، وزار الشام وأحسن إلى أهله ليطمئنهم ويجعلهم ينسون عهد الأمويين، ثم التفت إلى أهل بيته وكبار رجال دولته وأصحاب الدعوة ففرق فيهم الأموال ووزع عليهم الأقطاع، وأكثر من إحسانه إليهم وإلى العامة، وهكذا استطاع أن يكتسب قلوب رعيته وخاصته ويفرض عليهم حبه والإعجاب به، وزاده سموا عندهم أنه كان يجلس بنفسه في مجلس القضاء فيقضي بين الناس ويرد المظالم، وقد رووا عنه أنه اتخذ بيتا كانت تطرح فيه الشكاوى والقصص ويطلع عليها ويعمل بما يراه حقا وعدلا، هذا نمط من الإصلاح الذي اجتذب به قلوب الناس، وهناك أنماط أخرى نذكر منها أنه أمر ببناء القصور والمنازل والحياض في طريق الحج إلى مكة، كما أمر بتنظيم البريد بين المدينة ومكة واليمن، وهو أول من فعل ذلك، وأمر بتوسيع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وأمر بالإنفاق على المجذومين والمرضى والشيوخ، وأمر بإصلاح أحوال المسجونين وحسن الإنفاق عليهم، وغير ذلك من أنماط الإصلاح والعدالة الاجتماعية التي جعلته خليفة محبوبا مخلدا. (2) الإدارة في عهده
كان المهدي إداريا منظما كما رأينا أثر ذلك في أعماله الاجتماعية السابقة، هناك المظاهر الأخرى التي تدل على حسن إدارته منها: (1)
أنه نظم أمور الحرس الملكي فاصطفى لنفسه خمسماية رجل من أبناء وجوه العرب، أجرى عليه الأرزاق الجليلة، وجعلهم بمثابة حرسه الخاص، ولعله قصد بذلك أن يسترضي وجوه العرب الذين أخذوا ينفرون من الدولة العباسية؛ لأنها أقصتهم بعض الإقصاء، وقربت الأعاجم، والمهدي العربي الأم والأب بعمله هذا جذب قلوب العرب إليه بانتخاب هذا العدد من أبناء وجوه القادة العرب والاعتماد عليهم في هذه المحطة. (2)
ومن تلك المظاهر التنظيمية عنايته بأمور الدولة المالية فقد رأينا أنه منع المصادرات، ورد من كان صادرهم أبوه وعني بتنظيم أحوال الخراج والجبايات، ولا غرو فإنه كان ينتقي وزراءه كما سنرى من الماليين الثقات الأمناء العدول، كأبي عبد الله بن يسار الذي يقول عنه الجهشياري: «كان يضبط أمور المهدي ويشير عليه بالاقتصاد وحفظ الأموال.» ولكنه لما استوزر بعده يعقوب بن داود اختل التوازن المالي بعض الشيء؛ لأن يعقوب كان كريما مسرفا متلافا، مما جعل الخليفة يتخلى عنه لتفريطه في أموال الدولة، ولم يكن المهدي يقسو على رعيته في جمع الأموال ولا في استصفاء الضرائب، يقول صاحب تاريخ الفخري: «كان مقدما في صناعته، فاخترع أمورا؛ منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة، وكان السلطان يأخذ عن الغلات خراجا مقررا ولا يقاسم.»
2
وهذا القول، على الرغم من أنه يثبت شهرة المهدي بالعدل وعدم القسوة على الرعية في جمع الضرائب، هو قول خاطئ، فقد رأينا أن الذي سن المقاسمة ورتب أمور الخراج هو أبوه المنصور، وإنما سار هو في ذلك على سنن أبيه، ولعل صاحب تاريخ الفخري يريد أن يقول إن المهدي هو الذي عمم نظام المقاسمة في أرض المملكة الإسلامية بعد أن كان هذا النظام محصورا أيام أبيه في السواد فقط، وإنه كان رحيما في توزيعه.
ويقول الجهشياري: «إن المهدي كتب برفع العذاب عن أهل الخراج .»
3
وهذا يدلنا على رأفته وعلى عدم إقراره للطرق العنيفة التي كانت متبعة في جمع الخراج قبله.
4
ومن تلك المظاهر أن الدواوين قد اتسعت أيامه في عددها وتنظيمها وأعمالها، فإنه أمر بترتيبها أحسن ترتيب، وفي عهده أحدثت دواوين الأزمة لأول مرة، وهي دواوين صغيرة يشرف أصحابها على كافة دواوين الدولة ورقابة تنظيمها، يقول الطبري: «أول من عمل ديوان الزمام هو عمر بن بزيع في خلافة المهدي، وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة وولى كل ديوان رجلا، وكان ذلك سنة 162ه.»
5
وهذه الدواوين فيما أرى هي أشبه «بالمكتب الخاص» في الوزارات هذه الأيام، وهي مكاتب تسجل فيها رسائل كل ديوان وأرقامها وخلاصتها، كما تسجل الأجوبة الخاصة بكل معاملة منها تنظيما للرقابة والضبط، وهذا النوع من الترتيب البالغ المنظم.
ومن تلك المظاهر التنظيمية الجديدة ما ذكروه من أنه لأول مرة جعل يوم الخميس يوم عطلة للموظفين وكتاب الدواوين؛ ليستريحوا فيه من أعمالهم ويقضوا شئونهم الخصوصية، وقد استمر هذا الأمر إلى عصر المعتصم.
6 (3) الوزارة والوزراء في عهده
كما عني المهدي بأمور الدولة الإدارية، عني بالوزارة؛ لأنها الرأس المشرف على الإدارة العامة، وفي عهده صار للوزارة شأن عظيم لم يكن لها من قبل في عهد عمه أو أبيه؛ لأنهما كانا يعتمدان على نفسيهما في كل شيء، أما هو فقد عهد إلى وزيره بتدبير الأمور كلها، ولعل السبب في ذلك هو أنه كان يثق بأبي عبيد الله معاوية بن يسار تمام الثقة فسلمه كافة أموره.
وكان أبو عبيد الله من كبار الرجال وأكثرهم عقلا وعلما وإخلاصا، فقام بالأمر خير قيام، قال عنه صاحب التاريخ الفخري: «هو من موالي الأشعريين، كان كاتب المهدي ونائبه قبل الخلافة ... وكان المنصور قد عزم على أن يستوزره، لكنه آثر به ابنه المهدي، فكان غالبا على أمور المهدي لا يعصي له قولا، وكان المنصور لا يزال يوصيه فيه ويأمره بامتثال ما يشير به، فلما مات المنصور وجلس المهدي على سرير الخلافة فوض إليه تدبير المملكة وسلم إليه الدواوين، وكان مقدما في صناعته ...»
7
وظل أبو عبيد الله مستوليا على مكانته حتى سعى الساعون فأوقعوا بينه وبين الخليفة، فقد رأوا أن الخليفة شديد الإنكار على الزنادقة مستقصيا لهم متتبعا لأخبارهم، لا يرحمهم ولا يغفر لهم، وقد رأى الربيع الحاجب الذي كان يطمح في مركز أبي عبيد الله أن خير وسيلة يستطيع أن يفسد الجو بها بين الخليفة وأبي عبيد الله هي في أن يلقي في أذن الخليفة أن ابنا لأبي عبيد الله هو زنديق مارق، وأنه يحمي الزنادقة، فصادفت كلمة الربيع هوى من نفس الخليفة، فأمر أن يمسك بابن أبي عبيد الله ويحضر إلى مجلسه، فلما حضر سأله الخليفة عن شيء من القرآن فلم يعرف، فقال لأبيه: ألم تخبرني أن ابنك يحفظ القرآن؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني مذ مدة فنسيه، فقال له: قم فتقرب إلى الله بدمه، فقام أبو عبيد الله فعثر ووقع وارتعد، ثم أمر الخليفة غيره بضرب عنق الغلام، وساءت الحالة بين الخليفة ووزيره منذ ذلك الحين، حتى عزله وولى موضعه أبا عبد الله يعقوب بن داود بمشاورة الربيع الحاجب، وكان عاملا فاضلا إلا أنه كان لا يتحرج من اللهو، وكان يعقوب علوي الهوى زيديا فسعى خصومه بذلك بينه وبين الخليفة، وأغروا بشار بن برد عليه فهجاه بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناي والعود
فنكبه المهدي وحبسه في «المطبق»، فلم يزل فيه طول عهدي المهدي والهادي، حتى أخرجه الرشيد، ولما عزله المهدي ولى الوزارة الفيض بن أبي صالح النيسابوري، وكان سخيا كريما مفضالا استطاع بكرمه أن يستمر في وزارته إلى انقضاء عهد المهدي.
ويجب أن نلاحظ أن السعايات والدسائس قد كثرت في عهد المهدي؛ لأنه كان سماعا لها، فهو الذي عزل ابن أبي يسار بسعاية الربيع الحاجب، وهو الذي نكب يعقوب لوشاية خصومه عليه، وهو الذي قتل بشارا الشاعر بسعاية خصومه عليه.
وبعد؛ فإن الوزارة في عهد المهدي قد توطدت نظمها بمن تولاها من الأكفاء في العلم والإدارة والمال. (4) الأحوال الاجتماعية في عصره
استقرت أوضاع الناس اجتماعيا في عهد المهدي؛ لرخاء العيش وحسن الإدارة وانصراف الناس إلى أعمالهم المعاشية وقلة الفتن والحروب، وكان من جراء ذلك كله أن تحسنت الأحوال العامة وفشا الثراء بين الناس، وعمت الطمأنينة والخيرات وانتشر اللهو والمرح، وقد استتبع هذا كله بروز طبقة من الإباحيين والزنادقة أخذوا يعلنون أفكارا غريبة عن روح الإسلام، مستغلين الترف والإباحية وسيلة لنشر أفكارهم، وكان المهدي مسلما متعصبا فثارت ثائرته، وأخذ يضيق على هؤلاء الزنادقة والملاحدة الخناق ويلاحقهم ويفتك بمن يعثر عليه منهم، يقول الطبري: «إن الخليفة جد في سنة 168ه في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، كما أنه سمى عمر الكلواذي صاحب الزنادقة وعريفهم.» وكان أكثر هؤلاء المانوية والإباحيين والملاحدة والديصانية والمرقونية؛ ومن أشهرهم ابن أبي العوجاء، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس، وصالح بن عبد القدوس، وغيرهم ممن انتصب لهم الخليفة وفتك بهم وعمل على هدم نحلهم بما طلب من العلماء الإسلاميين أن يؤلفوه من الكتب والرسائل لمهاجمة عقيدتهم، وقد حفلت المكتبة العربية بعدد من الرسائل والكتب والآثار في الرد على هؤلاء الملاحدة والزنادقة وإخوانهم الشعوبيين، وقامت ثورات وفتن فكرية. (5) الحركات العقلية
كان المهدي يحب العلم ويكرم أهله ويقربهم، قال المؤرخ دحية: «كان أكرم أهل زمانه ... أحيا المعالم وقمع المظالم ونصر المظلوم وأكرم أهل العلم والدين وحلم عنهم، وأخباره مع سفيان الثوري مشهورة.»
8
ولكنه في الوقت نفسه كان يكره الحركات الفكرية العربية التي تتظاهر بحرية الرأي وتعمل في الخفاء على هدم القومية العربية وضعضعة أركان الإسلام، ويتجلى لنا ذلك في محاربته الزنادقة والملحدين والثنوية وغيرهم ممن ينكرون الخالق تعالى، أو ينفون نبوة الأنبياء، ويتسترون وراء الشهادتين زاعمين أن في ذلك الكفاية، فقد كرههم المهدي بعد أن قرأ بعض كتبهم واطلع على أفكارهم وسمع بأخبارهم ومحاوراتهم، فعقد النية على هدم حركتهم وتشتيت شملهم، سواء من كان منهم عربا انخدعوا بهذه الدعوة الباطلة، أو فرسا وموالي اتخذوا الإسلام ستارا لنشر مبادئهم الباطلة وإحياء عقائدهم القديمة، كالمندائية والمانوية والمزدكية والمجوسية والمسيحية واليهودية.
قال بروكلمان: «إن الثورات المذهبية التي سبق أن أشرنا إلى ظهورها في الولايات الفارسية قد حملت الخليفة على أن يراقب بشدة بالغة حياة رعاياه العقلية في قلب الإمبراطورية أيضا، والواقع أن المانوية لا الزرادشتية الخالصة كانت لا تزال تفرض سلطانها الكبير على أولئك الذين دخلوا حديثا في الإسلام، ثم لم يرتاحوا كليا لشعائره الصارمة، بل لقد كادت تكون (أي المانوية) دين الطبقات المثقفة، ولقد سبق للمنصور نفسه أن أمر بعبد الله بن المقفع الكاتب أن يقتل، وكان عبد الله هذا - واسمه الفارسي روزبة - ابن رجل يجمع الخراج للحجاج بن يوسف ... أثار شبهات السلطان وشكوكه من طريق مشاركته في نشاط الفرس السياسي والديني، هذا النشاط الذي أثقل كما رأينا كاهل المنصور وأنقض ظهره، وفي عهد المهدي لقي نفس المصير صالح بن عبد القدوس الشاعر الذي دعا في أحاديثه الدينية بالبصرة دعوة صريحة إلى ثنوية الفرس، ولقد حاول أن يتفادى عاقبة النقمة التي أثارتها هذه الدعوة عليه في الأوساط الفقهية بالفرار إلى دمشق، ولكن رجال المهدي تعقبوه ورجعوا به إلى عاصمة الخلافة ليصلب (167ه/783م) بتهمة الزندقة بعد أن أصبح لفظ «زنديق» علما شائعا على من ينسب إلى البدعة في ذلك العصر، والحق أن هذه الكلمة كانت على عهد الساسانيين صفة ينبز بها كل من يجرؤ على تفسير «الأبستاق»
9
تفسيرا جديدا غير رشيد (زند)، وكانت تطلق على أتباع ماني ومزدك خاصة، وفي السنة نفسها قتل بشار بن برد الشاعر الضرير الذي لم يتورع عن أن يصرح في شعره بتعبده للنار كأسلافه، ومهما يكن من أمر فحوالي ذلك الوقت بالذات عهد المهدي في ملاحقة الزنادقة إلى عامل خاص يدعى «العريف» ويقال إن هذا العامل ظل ينشط أول الأمر طوال سنوات ثلاث، حتى إذا قضى المهدي وجاء من بعده خلفاؤه وجهت همة «ديوان التفتيش» هذا نحو محاربة الآراء المذهبية أيضا ضمن إطار الإسلام الفكري نفسه، وهي آراء كانت تزعج الحكومة لسبب ما، وإن لم تكن تنطوي فيما عدا ذلك على أيما أذى وضرر.»
10
والحق أن الزنادقة إنما ظهروا في العصر الأموي وكثروا في أواخره، وخصوصا حين تظاهر بالإسلام بعض أرباب النحل القديمة من ديصانية ومرقونية ومزدكية ومجوسية وغيرهم، وأخذوا يعملون على هدم الإسلام وإحياء عقائدهم وطقوسهم القديمة وبخاصة ما يتعلق بكتاب «الأبستاق» الذي جاء به زرادشت وبتفسيره تفسيرا مخالفا لقواعد الدين، هذا ما يقوله براون في كتابه «تاريخ الأدب الفارسي» (1: 159)، وينقل براون أيضا عن بيفان تخريجا آخر لكلمة «زنديق» يفضله الدكتور عبد العزيز الدوري، وأنا أيضا أميل إليه، وخلاصة ذلك التخريج هو أن أبرار المانوية وزهادهم الذين كانوا يفرضون على أنفسهم إيثار المسكنة وقمع الحرص والشهوة، ورفض الدنيا والزهد فيها ومواصلة الصوم والتصدق بما أمكن، وتحريم اقتناء شيء ما دون قوت يوم واحد ولباس سنة واحدة، وإدامة التطواف في الدنيا للدعوة والإرشاد، وكانوا يدعون بالعربية «الصديقين» واحدهم «صديق»، ولعل الأصل الآرامي لهذه الكلمة هو «الزديق» فصارت بالفارسية «زنديك»، ثم عربت على «زنديق»، وهكذا أطلقت كلمة «زنديق» على المانوي أول الأمر، ثم صارت تستعمل في كل خارج عن حدود الإسلام، ثم أطلقت على كل ملحد فيما بعد. (6) العلاقات السياسية الخارجية
نوعان من العلاقات الخارجية التي يجدر بنا أن نلاحظها في زمن المهدي؛ «أولهما» علاقته بالأموية في الأندلس، «وثانيهما» علاقته بالدولة الرومية.
أما علاقته بالأندلس فلم تكن طيبة، وقد كان هو من جانبه يسعى للقضاء على منافسه في الأندلس وهو عبد الرحمن الداخل، ولكن بعد الشقة بينهما كان يحول دون الوصول إلى ذلك، وكان عبد الرحمن مشغولا بترتيب شئون دولته الجديدة غير آبه بخلفاء بغداد؛ إلا أنه كان يحسب لهم حسابا فلم يجرؤ «على تسمية نفسه خليفة للمسلمين، مع أن نفسه كانت طموحة إلى ذلك»، وأما علاقة المهدي بالدولة الرومية فكانت جد سيئة، وكان يعمل دوما على التوغل في بلاد البيزنطيين، فيرسل حملات «الصوائف» و«الشواتي» كل عام للجهاد والغزو، وقد بعث بابنه هارون في سنة 163ه فغزا بلاد الروم، ثم عاد في الصائفة سنة 165ه فتوغل في بلاد الروم حتى بلغ تخوم القسطنطينية في البسفور، واضطرت الإمبراطورة إيرين
Iren
أم الملك الطفل والوصية عليه أن تصالح هارون على مبالغ كبيرة من المال تؤديها إليه كل سنة في نيسان وحزيران، وكتبت كتاب الهدنة لمدة ثلاث سنوات، وقد وردت الإشارة إلى هذه الغزوات في قصيدة لمروان بن أبي حفصة يمدح هارون بها:
أطفت بقسطنطينية الروم مسندا
إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
وما رمتها حتى أتتك ملوكها
بجزيتها والحرب تغلي قدورها
ولما نقض الروم الهدنة لقيهم سنة 168ه يزيد بن بدر بجيش كثيف فشتت شملهم وردهم على أعقابهم.
ومما تجدر الإشارة إليه أثناء حديثنا عن علاقات المهدي الخارجية أنه في سنة 159ه حاول فتح الهند، فبعث عبد الملك بن شهاب المسمعي بجيش من البصرة في البحر، قوامه نحو عشرة آلاف رجل، فقدموا مدينة «باربد» على الساحل الهندي فحاصروها ونصبوا عليها مجانيقهم حتى فتحوها عنوة، ولكنهم لم يتمكنوا من الإيغال في الفتح. (7) خاتمة عهده
هذه صورة خاطفة لحياة المهدي وبعض أعماله الجليلة التي تدل على ما له من مكانة في تاريخ الدولة العباسية، وقد رأينا أن عهده كان عهد رخاء ورفاء وتقدم - غالبا - ولكنه لم يكن ذا خطر كبير كعهد أبيه أو عهد عمه، ولكنه على كل حال عهد من عهود القوة؛ لأنه لم يهمل خطة الاستمرار في تكوين الدولة وفي غزو الروم، ثم إنه لم يكن يسرف في لهوه، ولا كان يجور في حكمه، وإنما كان مسلما متعصبا لدينه ولسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
يتجلى في ذلك في أشياء: «منها» حملته على الملاحدة والزنادقة، و«منها» تتبعه لسنن رسول الله ومخالفته لكل ما سن الخلفاء قبله من البدع، فمن ذلك أنه أمر بنزع المقاصير من مساجد الجماعات، وأمر بتغيير منابرها إلى هيئة منبر الرسول الذي كان عليه، وإرجاع درجاته إلى المقدار الذي كانت في عهد الرسول، وكتب بذلك إلى الأقاليم، و«منها» أنه كان يعاقب كل من يوقع في الشيخين الخليفتين أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما).
في سنة 169ه أراد المهدي الخروج بجيش كبير إلى جرجان لقتال الثوار والمفسدين هناك، فلما وصل إلى «ماسبذان» أحس بالمرض يشتد عليه، فبقي هناك إلى أن مات ليلة الخميس لثمان من محرم، فصلى عليه ابنه هارون؛ لأنه كان في صحبته وأخذت البيعة للهادي.
الفصل الرابع
الهادي بن المهدي
22 محرم 169ه-ربيع الأول 170ه/ 4 آب سنة 875م-13 أيلول سنة 786م
هو أبو محمد موسى الهادي بن محمد المهدي.
وأمه هي أم ولد واسمها الخيزران، كانت ملكا للمهدي وأعتقها في سنة 159ه ثم تزوجها بعد أن ولدت له ابنيه الهادي والرشيد، ولد الهادي سنة 144ه، وولاه أبوه العهد في سنة 160ه وله ست عشرة سنة بعد أن نزع ولاية عهده من عيسى بن موسى بن علي وجعلها فيه، ثم في أخيه هارون «الرشيد».
وقد عني أبوه كثير العناية به منذ فجر شبابه، فدربه على القيادات العسكرية والرياسات المدنية، وبعثه مرات لقتال الخارجين والمخالفين في أطراف جرجان وبلاد المشرق.
وكان الهادي فتى طويلا جسيما أبيض الشعر أفوه، بشفته العليا بياض، كما كان متيقظا غيورا كريما شهما أيدا شديد البطش جريء القلب مجتمع الحس، ذا إقدام وعزم وحزم، وكان محبا للأدب والشعر والثقافة الواسعة، يحب العلم والفن وأهلهما ويكثر عطاءهم، كما يكره الزنادقة والملاحدة والفساق، مثل أبيه.
وصفوة القول أنه كان مثال الفتى العربي المتزن النبيل الشجاع الكامل المؤمن، ولو طال عهده في خلافته لأفادت الأمة منه كثيرا، ولكنه لم يبق في الخلافة إلا قريبا من سنة.
رأينا أن المهدي قد مات وهو في طريقه إلى بلاد جرجان لقمع ثورات المخالفين، وكان معه ابنه هارون، فأخذ البيعة لأخيه الهادي، وأرسل إليه بخاتم الخلافة وبالقضيب النبوي والبردة النبوية الطاهرة، ورسالة ضمنها التعزية والتهنئة.
ولما تولى الهادي الخلافة كان عمره خمسا وعشرين سنة، وهي كما ترى سن مائعة، فظل كما كان قبلا يلهو، ولكنه لم يكن في ذلك يخرج عن طور المعقول والدين، فلم تؤثر عنه شائنة ولا وصم شائبة إلى أن مات، ثم حين أراد الإقلاع عن ذلك أدركته منيته فمات في فجر عمره. (1) الأحوال العامة في عهده
لم يطل عهد الهادي كما رأيت، ولذلك لا نجد في سيرته ما يسترعي الانتباه سوى أمرين: «أولهما» خروج العلوي صاحب «فخ» عليه، و«ثانيهما» تضييقه على الزنادقة، وخلاصة قصة خروج صاحب «فخ» أن أمير المدينة في سنة 169ه عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أخذ الحسن بن محمد ذي النفس الزكية وجماعة من أصحابه كانوا على نبيذ لهم، فأمر بضربهم حد السكران، وجعل في أعناقهم الحبال وطيف بهم في المدينة، فذهب إليه الحسين بن علي بن الحسن «المثلث» فكلمه في العفو عنهم، وقال له: ليس لك أن تضربهم؛ لأن فقهاء العراق لا يرون بالنبيذ بأسا، فقبل الأمير أن يطلقهم على أن يعرضوا كل يوم؛ أي يحضرون كل يوم إلى الشرطة للمراقبة، فهرب منهم الحسن بن محمد، وكان الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفيليه، فاستدعاهما الأمير عمر وسألهما عن مكانه، فأنكرا معرفتهما بمكانه، فأغلظ لهما وحلف يحيى بن عبد الله ألا ينام تلك الليلة حتى يأتي باب عمر، أو يضرب عليه باب داره حتى يعلم أنه جاء به، فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله ما دعاك إلى هذا! فقال يحيى: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف، فقال الحسين: تفسد بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الاتفاق على الخروج بمكة أيام الموسم، فقال : لا بد من الخروج الليلة، ثم ذهب إلى أصحابه فخرجوا، فلما طلع النهار ذهب الحسن فجلس على المنبر وجعل الناس يأتونه ويبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله للمرتضى من آل محمد.
ثم انتهبت جماعته بيت المال وأعلنوا ثورتهم وتوجه الحسين وجماعته إلى مكة وأعلنت الثورة في الحجاز كله على بني العباس.
فلما بلغت أخبار هذه الفتنة مسامع الهادي ولى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس قيادة جيش كثيف بعث به لمحاربة الحسين، فتلاقى الجيشان عند «فخ» قرب مكة ، وانتهت المعركة بمقتل الحسين وعدد كبير من العلويين، وأفلت من الموت اثنان كان لهما شأن كبير في التاريخ الإسلامي؛ «أولهما» إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، أخو محمد ذي النفس الزكية، ومؤسس دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، و«الثاني» أخوه يحيى بن عبد الله الذي ذهب إلى بلاد الديلم وكانت له أحوال وأخبار، وسنأتي عليها حين كلامنا عن أيام الرشيد.
وأما خلاصة أخباره مع الزنادقة فهي أن أباه كان أوصاه بتتبعهم والقضاء عليهم، ولذلك سار سيرة أبيه في الفتك بهم وتحريق كتبهم، وبخاصة المانوية منهم، وقد قتل جماعة من المانوية؛ منهم يرذان بن بازان الكاتب الأديب الذي رووا عنه أنه بينما كان في الحج ورأى الناس يهرولون فقال: ما أشبههم إلا ببقرة تدوس في البيدر، فقال فيه العلاء بن الحداد الأعجمي أبياتا وجهها إلى الهادي وفيها قوله:
أيا أمين الله في خلقه
ووارث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر
يشبه الكعبة بالبيدر
ويجعل الناس إذا ما سعوا
حمرا تدوس البر بالدوسر
فلما سمعها المهدي وتأكد من قوله أمر بقتله.
ويروي الطبري في تاريخه أن المهدي قال يوما لابنه الهادي، وقد قدم إليه زنديق فاستتابه فأبى، فأمر بصلبه وقال لابنه: يا بني إذا صار هذا الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة، فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء، وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين؛ «أحدهما» النور و«الثاني» الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، تنقذهم من ضلالة الظلم إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب وجرد فيها السيف وتقرب بأمرهم إلى الله لا شريك له، فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل «الاثنين»، وقد نفذ الهادي وصية أبيه، ففتك بعدد كبير من الزنادقة والملاحدة، وأمر عماله في الأقاليم بتتبعهم وتحريق كتبهم والقضاء على حركتهم. (2) الأحوال الإدارية في عهده
كان الهادي فتى جريئا يحب أن لا يقطع صلته بشعبه، ويحرص على أن يظهر لهم في كل مناسبة ويطلع على أحوالهم ويدبر أمورهم بنفسه، وكان يعتقد أن بعد الخليفة عن مسرح الإدارة مخل بالدولة.
فقد رووا أنه قال للفضل بن ربيع الذي ولاه حجابته بعد أبيه: «لا تحجب عني الناس، فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تلق إلي أمرا إذا كشفته أصبته باطلا، فإن ذلك يوقع بالملك ويضر بالرعية.»
وقال مرة لصالح بن علي: ائذن للناس بالجفلى لا النقرى،
1
فكانت الأبواب تفتح في عهده فيدخل الناس كلهم على بكرة أبيهم، فلا يزال ينظر في المظالم حتى يدركه الليل، وكما كان الهادي يحب أن لا يقطع صلته بالناس كذلك كان يكره من الناس أن يتداخلوا في أمور دولته وإدارة أحوالها، سواء أكان ذلك المتداخل أخاه أو وزيره أو حاجبه أو أمه.
والمؤرخون يذكرون أن أمه الخيزران كانت في عهد أبيه قد تسلطت على شئون الدولة، تعمل ما تريد، وكان المهدي يسكت عنها لحبه إياها واحترامه لها وتطلبه رضاها، فلما ولي الهادي واستمرت على سيرتها لم يعجبه ذلك، فقد روى الطبري وابن الطقطقي وابن الأثير: أن الخيزران كانت متسلطة في دولة المهدي، تأمر وتنهى وتشفع وتبرم وتنقض، والمواكب تروح وتغدو إلى بابها، فلما ولي الهادي - وكان شديد الغيرة - كره ذلك وقال لها يوما: يا أماه، ما هذه المواكب التي يبلغني أنها تغدو وتروح إلى بابك، أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ والله، وإلا أنا نفي من قرابة رسول الله، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله.
ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: أيما خير أنا وأمي، أم أنتم وأمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه؟ فيقال فعلت فلانة كذا، وصنعت أم فلان كذا؟ قالوا: لا نحب ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها، فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها، وسنرى بعد أن هذه القصة كانت أحد الأسباب التي قضت عليه وقصرت عهده. (3) الوزارة والوزراء في عهده
لما بويع الهادي استوزر الربيع بن يونس بن محمد بن كيسان المكنى بأبي فروة، كان وزيرا للمنصور، عاقلا حازما فصيحا حاسبا مدبرا، وقد رأينا ذلك فيما مر علينا من أخباره في عهد المنصور، فلما استخلف الهادي استوزره لسنه وعقله وعلمه، فأحسن تصريف الأمور، ولكنه غضب عليه آخرة عهده وقتله، وسبب قتله فيما زعموا أنه كان أهدى جارية حسناء إلى المهدي، فوهبها المهدي إلى ابنه الهادي، فغلب حبها عليه وأولدها أولاده، فلما تولى الهادي عظمت مكانة مولاها الربيع عنده، فضاق بذلك أعداء الربيع وأخذوا يتقولون عليه الأقاويل، ويذيعون في الناس أن الخليفة طوع بنان الربيع وجاريته، وبلغت هذه الأخبار الهادي فعزم على التخلص منه فسقاه عسلا مسموما في سنة 170ه فهلك، ولما مات استوزر الهادي إبراهيم بن ذكوان الحراني، وكان إبراهيم قد اتصل بالهادي وهو حدث؛ إذ كان يدخل عليه مع مؤدبه، وكان إبراهيم خفيف الروح ذكيا لطيفا فأحبه الهادي وألفه وصار لا يصبر على البعد عنه، وبلغت أخبارهما المهدي فخاف على ابنه الفساد والضلال، فنهاه عن صحبته فلم ينته، فطلب المهدي من الهادي أن يبعث به إليه فلم يقبل، فقال له: ابعث به إلي وإلا خلعتك من خلافة عهدي، فأرسله إليه مع بعض خاصيته معززا مبجلا، فوصل إلى المهدي وهو يريد الخروج إلى قتال الثوار في جرجان، فلما رآه قال له: أنت إبراهيم، فقال: بلى، قال: والله لأقتلك، ثم أمر جنوده قائلا لهم أن يحفظوه حتى يعود، ولكنه لم يعد من سفرته، فلما مات المهدي واستخلف الهادي ومات الربيع استوزره، ولما استوزره عظمت مكانته عنده وتحكم في الدولة كما يريد، ولكن عهده لم يطل؛ إذ فوجئ بموت مولاه وعاكسه الدهر فيما يتمناه. (4) ولاية العهد
رأينا أن المهدي عهد بالخلافة إلى ابنه هارون بعد ابنه الهادي، وأن هارون قد أخذ البيعة لأخيه بعد وفاة أبيهما وبعث إليه بالبردة والقضيب؛ لأنه كان مع أبيه حتى أدركته الوفاة، ويظهر أن الطمع والأنانية قد جعلا الهادي يفكر في خلع أخيه هارون وجعلها في ولده، ولعله قد استظهر بقصة موسى بن عيسى من قبل، يقول المؤرخون: إن الهادي فكر في خلع أخيه هارون ووضع العهد في ابنه جعفر، وقد وافقه على ذلك بعض القواد والرؤساء، فأخذوا ينشرون بين الناس أقاصيص وأخبارا كاذبة تحط من قدر هارون، حتى إنهم وقفوا يوما في المسجد الجامع يعلنون أنهم لا يقبلون بهارون، ولا يرضون بولايته عليهم، وأمر الهادي أن لا يسار بحريته أمام هارون كما هي العادة مع أولياء العهد.
وأخذ الهادي وأصحابه يمنعون الناس من الاختلاط بهارون ومن زيارته والتسليم عليه وقربه، ولم يكن لهارون في تلك المحنة صديق مخلص سوى يحيى بن خالد البرمكي، فكان لا يفارقه ويسليه ويشجعه على الصمود ويقوي عزمه، فقد أيس هارون وكاد أن يقبل بخلع نفسه، ولما بلغت أخبار يحيى بن خالد إلى الهادي استدعاه وقال له: ما هذا الذي يبلغني عنك، فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة هارون ثم بايعت لجعفر ابنك من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال له الهادي: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير، ولكنه على الرغم من النصح والاقتناع برأي يحيى لم يقلع عن فكرته؛ لأن صحابته وقواده ظلوا يحرضونه على خلع هارون حتى جد في ذلك، واشتد غضبه على هارون لما أبى أن يخلع نفسه، فأراد إكراهه على الخلع، فقال يحيى البرمكي لهارون: استأذن في الخروج إلى الصيد، فاستأذن فأذن له بذلك، ولما طالت غيبة هارون كتب إليه الهادي يستعجله، وهارون يعتذر بشتى المعاذير، فأعلن الهادي سخطه عليه وأخذ يبسط لسانه فيه ودعا صحابته إلى شتمه وقذفه، ثم حدث أن مرض الهادي مرضا سريعا لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام حتى مات، فانحلت الأزمة ورجع هارون ليتولى الخلافة، وقد اتهم الناس الخيزران أم الهادي بأنها سمته بسم بطيء لما رأينا من قسوته عليها ومنعه إياها من التدخل في شئون الدولة، ولأنها كانت تحب هارون، فلما رأت اشتداد غضب الهادي عليه وعزمه على خلعه فعلت فعلتها وسممته، وكان موت الهادي في مدينة «عيسى آباد». (5) خاتمته
رأينا أن الهادي كان قد طلب إلى أمه أن لا تتدخل في شئون الدولة، ولكنها لم تأبه به وظلت على سيرتها الأولى فضاق بذلك ذرعا وأسمعها ما آلمها، فعزمت على التخلص منه منذ ذلك الحين، وكان منها ما رأينا في قصة سمه ومرضه، ويروي بعض المؤرخين أنها لما رأت الهادي قد جد في أمر خلع هارون من ولاية العهد أمرت بعض جواريها أن يخنقه وهو نائم ففعلن ذلك وقتلنه في دار حريمه في «عيسى آباد» قرب الموصل، وكان ذلك في يوم 14 ربيع الأول سنة 170ه/15 أيلول سنة 786م.
وهناك رواية ثالثة ذكرها الطبري، وخلاصتها أنه مات معتلا من قرحة في جوفه، ولكنه يظهر لي أن هذه الرواية قد لفقت بعد موته لئلا ينسب قتل الخليفة إلى أمه؛ لشناعة هذا العمل وقبح صدوره من أم، وبخاصة الخيزران التي كان الرشيد يظهرها بمظاهر الإجلال، ومهما يكن من شيء فإن الخليفة لم يعش طويلا بعد غضبة أمه عليه، وبعد محاولته خلع أخيه، ولم يدم حكمه إلا سنة وشهرا وبعض أيام.
ويذكر المؤرخون أن الخيزران بعثت أثناء مرض الهادي إلى يحيى البرمكي تعلمه أن الهادي سيموت فليستعد للأمر، فأعد يحيى عدته وهيأ الكتب للعمال من قبل هارون بوفاة الهادي وهو بعد حي، وأنه قد ولاهم على ما كانوا يلونه على عهد أخيه، وما إن مات الهادي حتى أنفذت تلك الكتب على البر سريعا، وهكذا انقضت حياة الهادي على يد أمه أو بعض المتآمرين، وأخذت الدولة العباسية منذ ذلك اليوم تسلك مسلكا جديدا في سبيل من المؤامرات والدسائس، فبرزت سلطة النساء والجواري، وسنرى النتائج القبيحة لهذا الأمر فيما بعد، ولا بد لنا من أن نختم القول عن الهادي ببيان بعض مزاياه التي أشرنا إلى شيء منها أول حديثنا عنه، فالمؤرخون يجمعون على أنه كان فتى نبيلا سريا يقظا غيورا عالما واسع الثقافة، محبا للأدب والعلم والفن، ويروون أنه أعطى العالم الأديب ابن دأب ثلاثة آلاف دينار؛ لأنه أنشده أبياتا أعجبته، كما أنه أعطى سلما الخاسر الفيلسوف المترجم الشاعر ثلاثمائة ألف درهم لقصيدته التي يقول فيها:
لولا هداكم وفضل أولكم
لم تدر ما أصل دينها العرب
أما بعد؛ فقد كان الهادي فتى من فتيان قريش آتاه الله عقلا ونبلا وبسطة في العلم والمال، فأخذ يسلك بالخلافة مسلك الفخامة والجلال والعظمة، وينثر الذهب والفضة ليعلي من قدر الخلافة، وقد كان لأهل العلم والفن نصيب كبير في ماله وجاهه، قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: «كان إسحاق الموصلي وأبوه إبراهيم المغنيان الأديبان الأشهران يعيشان في كنف الهادي وينعمان بخيرات وفيرة من فضله، فقد كان يحب الغناء والطرب ويحسن الاستماع.» وفي الأغاني كثير من أخباره مع المغنين الأدباء والشعراء وأهل الفن تدلنا على تقديره للفن وأهله، قال إسحاق الموصلي: والله لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب.
الفصل الخامس
الرشيد بن المهدي
14 ربيع الأول 170ه-13 جمادى الآخرة 193ه/ 14 أيلول 786م-24 مارس 808م
عصر الرشيد وابنه هو العصر الذهبي للدولة العباسية، ودرة عصر الازدهار العربي، كما أن اسم الرشيد قد أحيط بهالة مشرقة من التفخيم والتقديس والمبالغة سببها «كتاب ألف ليلة وليلة» الذي نسج حول اسم هذا الخليفة هالة غريبة الألوان زاهية، كثيرة المبالغة في جده وهزله وحربه وسلمه وظلمه وعدله، ولا شك في أن لبعض نجوم الأدب والعلم والفن الذين نبغوا في عصره وكانت لهم صلة به آثار واضحة في نسج تلك الهالة كالإمام مالك بن أنس وسفيان بن عيينة والقاضي أبي يوسف وأبي نواس وأبي العتاهية والبرامكة وغيرهم من الأعلام الذين نبغوا في دولته، فلا بد لنا إذن من أن نقف قليلا متعمقين لاستخلاص الحقائق وتنزيه سيرة هذا الرجل من الأباطيل. (1) أوليته
ولد أبو جعفر هارون بن محمد المهدي الذي لقب بالرشيد بالله، في الري من بلاد إيران سنة 145ه لما كان أبوه أميرا عليها، وأمه وأم أخيه الهادي هي الخيزران كما ذكرنا، وقد شب الرشيد كما يشب فتيان قريش رجولة وعزما وفضلا وتطلعا إلى معالي الأمور، فتفرس فيه أبوه الخير والفلاح منذ نعومة أظفاره، وعهد بتدريسه وتأديبه إلى جماعة من كبار علماء عصره.
ولما قوي عوده أخذ يدربه على القيادة والسيادة، فجعله في سنة 163ه أمير الصائفة، وعمره إذ ذاك لم يتجاوز الثامنة عشرة، فبرزت مواهبه الحربية في تلك الغزاة، ولما عاد منها منصورا فرح به أبوه فرحا عظيما وأحسن استقباله، ثم أعاد الكرة فأرسله في سنة 165ه على الصائفة ففاز وغنم، وكان فوزه في هذه المرة فوزا باهرا دل على علو كعبه في الحرب وحسن إدارته وحزم قيادته، وهكذا توالت قياداته للحملات الصائفة والشاتية في بلاد الروم طول عهد أبيه، ثم إنه رأى أن يدربه على الرياسة والإدارة فسماه أميرا على المغرب كله من الأنبار إلى أطراف إفريقية، ولما لمع نجمه في قياداته وإداراته رأى أبوه أن ينقل ولاية العهد من أخيه الهادي إليه، ولكن موت المهدي حال دون تنفيذ تلك الفكرة.
بويع الرشيد بعد موت أخيه الهادي في 14 ربيع الأول سنة 170ه وعمره خمس وعشرون سنة، وكان طبيعيا جدا أن يعهد بأمور الدولة إلى صديقه القديم الشيخ العاقل الداهية الذي لعب دورا خطيرا في إيصاله إلى الحكم، ألا وهو يحيى بن خالد بن برمك، فاستوزره وكان قبل ذلك كاتبه وصاحب سره، فقام يحيى بمواهبه الواسعة ودهائه وذكائه بالأمر خير قيام.
يقول ابن طباطبا في «التاريخ الفخري» (ص173): «لما جلس الرشيد على سرير المملكة استوزر يحيى بن خالد، وكان كاتبه ووزيره قبل الخلافة، فنهض بأعباء الدولة أتم النهوض، وسد الثغور وتدارك الخلل، جبى الأموال وعمر الأرض وأظهر رونق الخلافة وتصدى لمهمات المملكة، وكان كاتبا بليغا أديبا لبيبا سديدا صائب الآراء.» واستمر يحيى في توجيه الدولة وتسيير دفتها منفردا بذلك أو كالمنفرد؛ لأن الرشيد كان يحترمه ويجله ويثق به ويعرف فضله عليه، حتى إنه كان لا يناديه إلا بيا أبي؛ لأن زوجة يحيى وأم ابنه الفضل كانت أرضعت هارون بلبن ابنها الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان ابنها هارون، لهذا وثق الرشيد بيحيى فقلده وزارته وزارة تفويض، ثم ضم إليه وزارة الخاتم بعد وفاة الفضل بن سليمان الطوسي، فاجتمعت له الوزارتان، وأعانه في العمل أبناؤه الأربعة: الفضل وجعفر ومحمد وموسى، وكانوا كلهم فضلاء عقلا فأحسنوا تصريف الأمور إلى أن نكبوا تلك النكبة التي سنتحدث عنها فيما بعد. (2) الأحوال الداخلية في عصره
كان عهد الرشيد من خير العهود، وصلت الخلافة العباسية فيه إلى درجات من الفخامة والجلال والقوة والمال والعلم لم تصل إليها دولة إسلامية أخرى، ولولا بعض الفتن والمشاكل السياسية التي مرت بعهده لكان عصرا أمثل، ويظهر أن الرشيد كان أول أمره متسامحا في إدارة شئون دولته متساهلا مع عماله واثقا بهم مطمئنا إليهم، وكان إذا وثق بشخص ولاه واطمأن إليه ولم يستمع فيه ما يقول القائلون كائنا من كانوا، وسنرى أنه حين أراد تولية علي بن عيسى أمور خراسان خالفه وزيره يحيى بن خالد في ذلك لما يعرفه من شدة الرجل وقسوته، ولكن الرشيد لم يسمع قوله على الرغم من وثوقه بسداد رأيه، ولما بلغه عن قسوة علي بن عيسى ما بلغه من زيادة الضرائب وإرهاق الناس بدفع الخراج مضاعفا لم يغير رأيه فيه، واستمر على تأييده لما يعرف عنه من الإخلاص، وقد أنتجت هذه السياسة الهارونية الصلبة بعض الفتن التي شوهت عهد الرشيد الزاهر، وإليك بيانها: (2-1) ثورات العلويين والفتك بهم
كثرت ثورات العلويين في عهد العباسيين؛ لأنهم كانوا يأملون وخصوصا في عهد الرشيد أن ينالوا ما حرموا منه قبلا، فقد لقوا عنتا كثيرا منذ عهد السفاح إلى عصر الرشيد، ويظهر أن الرشيد قد أراد في أول عهده تدارك ما فات، وإصلاح أخطاء آبائه، فرفع الحجر عن جماعة من العلويين كانوا محجوزين ببغداد، وسيرهم إلى المدينة مكرمين إلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن عبد الله، فإنه استبقاه، وأحسن إليهم وأغدق عليهم، ولكنهم ما لبثوا أن وصلوا إلى المدينة حتى عاودتهم فكرة الثورة، وأول من خرج عليه منهم هو يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وكان ممن نجوا في وقعة «فخ» ففر إلى بلاد الديلم وأخذ يدعو لنفسه فكثرت أتباعه، وفي سنة 179ه ثار ونادى بنفسه أميرا على تلك البلاد، فغضب الرشيد منه ووجه إليه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي لقتاله في خمسين ألفا، ولما قرب من مقر يحيى كاتبه واستماله ورغبه في الاستسلام، وأعلمه أن الرشيد لا يريد به سوءا، فرد عليه يحيى أنه يقبل المصالحة على أن يكتب إليه الرشيد بنفسه أمانا يكون بخطه، ويشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم، فلبى الرشيد طلبه، وكتب إليه العهد الذي أراد وبعث به إليه فأتاه وأحسن لقاءه.
1
وممن ثار عليه منهم: إدريس بن عبد الله بن الحسن، وكان ممن نجوا أيضا من وقعة «فخ» وهو أخو يحيى السابق، وذهب إلى مصر ثم إلى شمال إفريقية، ودخل المغرب الأقصى، ودعا لنفسه فالتف الناس حوله وبايعوه في سنة 172ه، وكان ذلك مبدأ ظهور دولة الأدارسة هناك، وقد أراد الرشيد الفتك به، ولكنه علم بقوته فلجأ إلى الحيلة ودس إليه سليمان بن جرير فسمه في سنة 177ه، ومنهم موسى بن جعفر الكاظم، فقد روى الطبري وابن الأثير أنه وشي به إليه أنه يريد الثورة، وأن الناس يحملون إليه خمس أموالهم، فخاف الرشيد من موسى الكاظم وعزم على أن يحج في ذلك العام ويحتال على الكاظم، فلما وصل المدينة استدعاه إليه وكلمه، رأى منه رجلا داهية عاقلا فخاف منه، ثم حمله معه في قبة إلى بغداد فحبسه في دار السندي بن شاهك، ثم قتل أو سم، وأظهر للملأ أنه مات حتف أنفه، وشهدت عدول بذلك وطويت صفحته ودفن في مرقده المعروف اليوم بالكاظمية في بغداد. (2-2) فتنة علي بن عيسى بن ماهان
ولى الرشيد علي بن عيسى على خراسان، على الرغم من معارضة يحيى بن خالد في ذلك؛ لما يعرفه من سوء أمر علي وفساد إدارته، ولما استقر علي في إمارته ضاق الناس بظلمه وأخذوا يشتكون إلى الخليفة، ولكن الأموال والألطاف التي كان يبعث بها إلى الخليفة كانت تجعله يغض النظر، ثم ضج الخراسانيون من عسف علي وكتبوا إلى الرشيد، فعزم على لقائه وسار إلى إيران سنة 189ه، فلقيه علي بالري فبرأ نفسه من كل ما اتهم به، ولما رجع الرشيد إلى العراق أخذ علي يفتك بالخراسانيين ويضيق عليهم، ثم جرت حوادث تأكد بها الرشيد من فساد طوية الرجل وسوء إرادته، فبعث إليه هرثمة بن أعين وأوصاه أن يتلطف في أمر القبض عليه، ولما وصل هرثمة مرو أحسن علي بن عيسى استقباله وأنزله في قصره، ولم يظهر له هرثمة شيئا أول الأمر، ثم أطلعه على كتاب من الرشيد بعزله وتوليته مكانه، فأسقط في يده وأراد الهرب، فأمسك به هرثمة وقيده هو وأولاده، وخطب في الناس وأخبرهم بعزل علي وتوليته هو أمرهم، وأن أمير المؤمنين بعث به لينصفهم، فارتفعت أصواتهم بالتهليل والشكر، وما استقر هرثمة في مرو حتى بلغت أسماعه أنباء ثورة كبيرة قامت في خراسان بقيادة رافع بن الليث بن نصر بن سيار، فخرج إليه هرثمة بنفسه في سنة 193ه، ولكن منيته أدركته بطوس فلم يستطع إتمام ما خرج من أجله، وأما علي بن عيسى وأولاده فإن هرثمة كان استصفى أموالهم وبعثهم في الأغلال إلى الرشيد، ففتك بهم شر فتكة. (2-3) فتنة رافع بن الليث بن نصر بن سيار
اختلفت أقوال المؤرخين في سبب ثورة رافع على الرغم مما عرف من أن آل رافع هم من موالي العباسيين وأنصارهم المخلصين؛ فالطبري يذكر أن السبب هو شخصي بحت ، وهو أن رافعا اتهم بالزنا فأقيم عليه الحد وثار، ويقول ابن قتيبة: إن علي بن عيسى لما ولي خراسان أساء السيرة وتحامل على من كان بها من العرب فخرج عليه رافع.
2
ومهما يكن السبب، فإن رافعا استطاع أن يجمع جموعا كبيرة من الخراسانيين والعرب ويستولي على سمرقند وبلخ وأشروسنة، ولا شك في أن ظلم علي بن عيسى قد لعب دورا كبيرا في نجاح حركة رافع، ويذكر ابن واضح اليعقوبي أن أهل فرغانة والصغانيان وأشروسنة وبخارى وخوارزم كلهم التفوا حول رافع كرها للعباسيين وتخلصا من ظلم علي بن عيسى، وقد اجتمعت لرافع أسباب أخرى غير هذه قوت مركزه؛ منها أن حكام بلاد الشاش وبلاد الترك قد رأوا في ثورة رافع على العباسيين إنقاذا لهم من خطر الغزو العباسي، فأيدوه في حركته الانفصالية التي أخذت تقوى حتى صار سلطان رافع يعظم، ومات الرشيد والفتنة ما تزال قوية، وفي عهد المأمون استسلم رافع ورجعت البلاد التي كانت تحت سطوته إلى حوزة الدولة العباسية. (2-4) فتنة الخوارج
كان الخوارج ساكنين مسالمين بعد الضربات القوية التي تلقوها أيام مروان بن محمد في آخر الدولة الأموية، وأيام أبي مسلم في صدر الدولة العباسية، ولكن يظهر بعد أن رأوا آثار ضعف في الدولة الجديدة أنهم استجمعوا قواهم خلال الفترة التي أعقبت زمن المهدي، ورأوا تساهل الرشيد في أول عهده وتسامحه فعزموا على تجديد نشاطهم، وفي سنة 178ه خرج الوليد بن طريف أحد الخوارج الشراة في نصيبين من أرض الجزيرة، ففتك بعاملها وهزم الجيش العباسي، وأخذ سلطان طريف يتسع حتى بلغ أرمينية وأذربيجان، وأخذ يهدد العراق نفسه، فبعث الرشيد إليه جيشا بقيادة يزيد بن مزيد الشيباني للقضاء على حركته، فالتقى جمعاهما وقتل يزيد وليدا سنة 179ه، فتولت ليلى بنت طريف أخته مكان أخيها وكانت عاقلة قوية، فاستطاع يزيد أن يتغلب عليها وتمكن من أن يقضي على هذه الفتنة. (2-5) فتن الشام
كانت بلاد الشام في زمن قديم مسرحا لفتن داخلية تشب نارها بين الحين والحين في عهد أمية بسبب الانقسامات القبلية بين العدنانية والقحطانية، ويظهر أن روح هذه الحركة أخذت تمد رأسها من جديد في العهد العباسي، وقد شجع العباسيون هذه الروح للتخلص من خصوم أقوياء كان هواهم مع بني أمية، ولكنهم أخذوا يحسون بعد أن عظم الخطر أن الأمر أجل من أن يسكت عنه؛ لأن الدماء أخذت تسيل بين الجانبين بكثرة، حتى بات أمن البلاد مهددا، وأصبحت الطرق التجارية والمواصلات الاقتصادية مضطربة، فأخذت الدولة تفكر في سبيل وضع حد لهذه الفوضى والفتنة، ومن تلك الفتن فتنة سنة 176ه حين قام اليمانية ضد النزارية، واشتبكوا اشتباكا قلقل راحة البلاد، وكان عامل الشام موسى بن عيسى فلم يستطع إخماد الفتنة وكتب إلى الخليفة ، فأرسل الرشيد إليه موسى بن يحيى بن خالد البرمكي على رأس جيش ليعيد الأمن إلى نصابه ويهدئ الثورة، وكان موسى حازما عاقلا فاستطاع أن يعيد الهدوء ويصلح بين الطرفين النزارية والقحطانية، وقد فصل الطبري في حوادث سنة 176ه مواقع هذه الفتنة وأخبارها، ولم تمض فترة حتى نشبت الثورة من جديد بين الجانبين، فقضت عليها الدولة أيضا، ثم تكررت ثالثة ورابعة إلى أن كانت سنة 180ه ففيها وقعت حوادث جسام بين الجانبين، واضطر الرشيد إلى أن يبعث جعفر بن خالد البرمكي ليقضي على الثورة، كان جعفر بارعا وموفقا بالقضاء على تلك الثورة وإخماد نيران الحوادث الدامية فيها وإعادة الطمأنينة إلى البلاد، والحق أن روح العصبية القبيلة البدوية المقيتة التي كانت تسيطر على الجانبين كانت سبب معارك ومذابح لم تزل باقية حتى أيامنا هذه، ولا بأس من إيراد مقطوعة قالها منصور النمري يصف فيها الثورة التي وقعت بين الجانبين في سنة 180ه، ويذكر جهود جعفر البرمكي في القضاء عليها:
لقد أوقدت بالشام نيران فتنة
فهذا أوان الشام تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمك
عليها خبت شبانها وشرارها
رماها أمير المؤمنين بجعفر
وفيه تلاقى صدعها وانجبارها ... لقد نشأت بالشام منك غمامة
يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشام يا ويل أهلها
أتاها حياها أو أتاها بوارها
فإن سالموا كانت غمامة نائل
وغيث وإلا فالدماء قطارها (2-6) فتنة اليمن
قامت في اليمن فتنة قوية ضد الدولة العباسية في سنة 179ه، فقد كان الوالي حماد البربري شديد الجور عسوفا، ضاق الناس به فثاروا عليه ودامت المعارك بينهم وبين حماد تسع سنوات، استطاع حماد في نهايتها أن يقبض على الهيثم بن عبد المجيد الهمذاني زعيم الثورة، ولكن الحالة لم تهدأ إلا بعزل حماد والسير بالسكان سيرة صالحة.
3 (2-7) فتنة إفريقية
في سنة 178ه وثب في إفريقية عبدويه الأنباري فشق عصا الطاعة وأعلن عصيانه على الرشيد، وأخرج من كان بها من أهل المهلب بن أبي صفرة ودعا إليه شيوخ النواحي فقدموا إليه وخضعوا له، فكثرت جماعته حتى اضطر الرشيد أن يبعث إليه بقطن بن موسى ومنصور بن زياد، كما بعث يحيى بن خالد وزير الرشيد كتابا إلى عبدويه يرغبه في الخضوع والانصياع لأمر الخليفة، ويطمعه في عفوه عنه إذا ما عاد إلى الطاعة، فعاد هذا إلى الطاعة ثم قدم بغداد فوفى له يحيى بما ضمن له عند الرشيد ووصله.
4
وصفوة القول أن الفتن كانت تعم مملكة الرشيد في سني ملكه الأولى، وما ذلك، فيما نرى، إلا لتساهله في إدارة الأمر وترك شئون الدولة للعمال يتصرفون بها كما يريدون، وقد ظل ذلك إلى أن عزم الرشيد على أن يتولى إدارة ملكه بنفسه، فقضى على آل برمك وعلى أعوانهم بزمام الحكم فصفا له الجو، وانتظمت شئون المملكة. (3) الأحوال الخارجية في عصره (3-1) المسلمون والروم
اهتم الرشيد اهتماما كبيرا بالثغور الإسلامية المتاخمة لبلاد البيزنطيين؛ لعنايته بنشر النفوذ الإسلامي من جهة، ولتقوية حدوده من جهة أخرى، ولذلك لم تكد تخلو سنة من سنوات حكمه الثلاث والعشرين من غزو صائف أو شات يشنه على الروم البيزنطيين.
ويظهر على الرغم من عناية الرشيد بهذه الصوائف والشواتي، لم تكن له خطة مرسومة لفتح بلاد الروم والاستيلاء على أوروبا؛ لكثرة المشاكل الداخلية، ففي سنة 170ه، وهي السنة الأولى من حكمه أمر بفصل الثغور الشامية عن الجزيرة وسماها «العواصم» وجعلها منطقة عسكرية مستقلة قاعدتها «منبج» بعد أن كانت تابعة للجزيرة.
قال الطبري: «وفيها؛ أي سنة 170ه، عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزا واحدا، وسميت «العواصم»، وفيها عمرت «طرطوس» على يد أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس، ولا شك في أن غرض الرشيد من بناء هذه المدينة وفي إيجاد منطقة العواصم هو إيجاد منطقة عسكرية خاصة تهتم بالحدود وتمون الصوائف والشواتي السنوية، وتكون على اتصال دائم بالحدود ومعرفة ما يبيته الروم للمسلمين.»
وقد كانت الصوائف سنوية فلا يكاد يقدم الصيف حتى تكون الصائفة في طريقها إلى الغزو والفتح، ولم يكتف الرشيد بالغزو البري، بل أعد أسطولا بحريا لذلك، واتخذت سواحل الشام ومصر وقبرص مراكز لهذه العمارة البحرية، وإليك أخبارا مجملة عن أهم الصوائف والغزوات البحرية التي قام بها الجيش الإسلامي لغزو بلاد الروم في عهد الرشيد:
في سنة 174ه/سنة 790م سار الأسطول الإسلامي من مصر إلى قبرص، ومنها إلى السواحل البيزنطية في آسيا الصغرى، حيث قابلهم الأسطول البيزنطي، وكانت الغلبة للمسلمين، فأسروا أمير البحر البيزنطي.
وفي سنة 181ه/797م في الشاتية غزا الروم عبد الملك بن صالح العباسي حتى بلغ أنقرة وافتتح «مطمورة» ومشيها أيضا في الصائفة، وفي تلك السنة غزا الرشيد بنفسه أرض الروم فافتتح عنوة «حصن الصفصافة»، فتوجه للقائه قسطنطين السادس ابن الإمبراطورة إيرين غسطة التي يسميها العرب «ريني»، وفي تلك السنة أيضا حصل أول فداء للأسرى بين الروم والمسلمين، يقول ابن الأثير: «وفيها (أي في سنة 181ه) كان الفداء بين الروم والمسلمين، وهو أول فداء كان أيام بني العباس وكان القاسم بن الرشيد هو المتولي له، وكان الفداء بالأمس على جانب البحر بينه وبين طرطوس 12 فرسخا، وكان عدد الأسرى 3700 وقيل أكثر.»
5
وفي سنة 183ه قبل الرشيد أن يعقد صلحا بينه وبين الإمبراطورة ريني على أن تدفع الجزية، واستمر ذلك إلى سنة 187ه حين تولى الإمبراطور نقفور عرش الروم، فنقض عهد الصلح وبعث الرشيد ابنه القاسم فحاصر حصن قرة
Cerum ، وحاصرت إحدى فرقه حصن سنان حتى جهد، فبعث إليه الروم أنهم يبذلون له «320» أسيرا لقاء فكه الحصار ورحيله عنهم، فأجابه إلى ذلك، ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، ولما رجع القاسم كان نقفور قد رتب أموره الداخلية فعزم على أن يقف موقفا جديدا من المسلمين، وكتب كتابا إلى الرشيد حفظ لنا الطبري نصه وفيه يقول: «من نقفور ملك الروم إلى هارون الرشيد ملك العرب، أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثالها إليها، ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك»
6 (الطبري).
فلما قرأه الرشيد استفزه الغضب ودعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.» ثم سار بنفسه لقتاله حتى أناخ بأبواب هرقلة، ففتح وغنم وحرق وضرب، فطلب نقفور الصلح والموادعة على خراج يؤديه سنويا وجعل مقدار الجزية دينارا واحدا على كل حالم من الروم، وأن لا يبني نقفور الحصون المهدومة، فقبل الرشيد، ولما وصل إلى الرقة بلغه أن نقفور نقض العهد، وكان البرد شديدا فلم يثنه ذلك عن الرجوع والإيقاع بجند نقفور، وفي ذلك يقول أبو العتاهية:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا
وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا
لك اسمان شقا من رشاد ومن هدى
فأنت الذي تدعى رشيدا ومهديا
بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا
فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا
تحلبت الدنيا لهارون بالرضا
فأصبح نقفور لهارون ذميا
وفي سنة 189ه كان الفداء بين المسلمين والروم، ويقول الطبري: «فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي فيما ذكر.»
7
وقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها
محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها
وقالوا سجون المشركين قبورها
وفي تلك السنة نقض نقفور العهد مستغلا اشتغال الخليفة بحوادث الفتن في خراسان، فأعاد بناء حصون «أنقرة» و«الصفصاف» و«كنيسة السوداء» و«دبسة»، وفتح «طرطوس» و«عين زربة»، ولكن حامية «المصيصة» استطاعت أن تسترجع الأسلاب والأسرى، وفي سنة 190ه عزم الرشيد على تأديب نقفور لنقضه العهد، فتوجه إليه بجيش يذكر الطبري أنه كان من 135 ألف مرتزق سوى الأتباع والمطوعة ومن لا ديوان له، ففتح «هرقلة» وسبى أهلها بعد حصار شهر، ثم اتجه نحو «الطوانة» فعسكر بها وافتتح قواده حصون «دبسة» و«الصفصاف» و«ملقوبية» و«حصن الصقالبة» و«صملة» و«حصن ذي الكلاع»، وولى حميد بن معيوف سواحل البحر إلى حدود مصر، ووقع في يد المسلمين عدد كبير من الأسرى والرقيق، واضطر نقفور أن يعرض الصلح ويدفع الجزية عن رأسه، وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار، على أن لا يخرب الرشيد حصن «ذي الكلاع» ولا «صملة» ولا حصن «سنان»، واشترط الرشيد أن لا تعمر هرقلة، وأن يدفع نقفور 300 ألف دينار للمسلمين.
8
وفي السنة 191ه ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين ومعه ثلاثون ألف من الخراسانيين وتوجه الرشيد بنفسه لوداع الحملة في درب الحدث، ثم قفل راجعا إلى الرقة، وأمرهم بهدم الكنائس بالثغور، ولم تكن حملة المسلمين هذه السنة حملة ناجحة.
وفي سنة 193ه وقع فداء بين المسلمين والروم بالبدندون
، وذلك قبل وفاة الرشيد رحمه الله. (3-2) المسلمون والفرنجة
تنفرد كتب التاريخ اللاتينية
9
بذكر إيفاد بعثة من الملك شارلمان إلى الرشيد، ولا نعرف السر في إهمال المصادر العربية لهذا الحادث مع أنه ممكن الوقوع وجد معقول، فإن تتويج شارلمان في روما وتأسيس الإمبراطورية الرومانية المقدسة في سنة 800م كان يقضي أن يتصل الإمبراطور المقدس في المغرب بزميله في المشرق، ويتعرف إلى أحواله ويري العالم المسيحي أنه ذو صلة بالمشرق وأميره، ولكن المصادر الشرقية من إسلامية وغير إسلامية لا تذكر شيئا عن هذه الوفادة، ولعل الزمن يكشف لنا بعض الأخبار عنها، أما خلاصة ما ورد في المصادر الفرنجية اللاتينية فهي أن شارلمان أرسل وفدين إلى الرشيد؛ أحدهما كان سنة 797م، والثاني في سنة 802م، وأن الرشيد قابله بإرسال وفدين: أولهما في سنة 801م والثاني سنة 807م.
وأما وفد شارلمان الأول فكان مكونا من ثلاثة أشخاص؛ اثنان من أعيان المسيحيين هما «لانت فريد» و«سجموند»، ومعهما مترجم يهودي اسمه إسحاق، وأن الوفد قد قضى في ديار الإسلام ثلاث سنوات، مات خلالهما الرسولان ورجع المترجم وحده في سنة 802م، وفي سنة 801م ذهب الوفد الإسلامي إلى بلاط شارلمان، وكان مكونا من شخصين أحدهما فارسي والثاني مغربي ممثل عن الأمير إبراهيم بن الأغلب، وفي سنة 802م أرسل شارلمان وفده الثاني، وكان يحمل معه هبات لكنيسة القيامة في القدس، وأنهم بعدما زاروا الكنيسة قصدوا الرشيد، وعندما عرضوا على الخليفة مطالب شارلمان لباها جميعا، وكانت تنحصر في طلب الإشراف على الأماكن المقدسة المسيحية في ديار الإسلام وحماية النصارى فيها، ويرى البروفسور هالفن أن أقوال أينهارد المؤرخ اللاتيني غير معقولة؛ لأنه كثير المبالغة في تفخيم اسم إمبراطوره، وقد رجع هذا الوفد في سنة 806م، ثم في سنة 807م ووصل بلاط الإمبراطور شارلمان رسول عن الرشيد اسمه عبد الله، ومعه راهبان عن بطريق بيت المقدس توما، وكان مع رسول الخليفة هدايا نفيسة، وهو صوان ملونة فاخرة وأقمشة حريرية زاهرة وعطور وطيوب، وساعة مائية، وأوان نحاسية مطعمة.
هذه هي خلاصة ما ورد في المصادر الإفرنجية عن تلك الوفادات، ويرى المؤرخون الأوروبيون أن شارلمان قصد من ورائها تأييد خليفة بغداد المعنوي في استرداد الأندلس، ورغبة شارلمان في تأييده بطارقة المشرق في أنطاكية والإسكندرية والقدس؛ ليقفوا معه ضد بطريق القسطنطينية الذي كان يعضد البيزنطيون خصوم شارلمان ومنافسيه على ميراث تاج الإمبراطورية الرومانية.
أما الرشيد فإنه قصد بوفاداته تقوية مركزه ضد أعدائه الأمويين في الأندلس، وبسط نفوذه عليهم، ومعاونته في القضاء على خصومه البيزنطيين، والقضاء على نفوذهم المعنوي عند نصارى الشام والجزيرة بتقوية صلاتهم بالعرب.
هذا ما ورد في المصادر الإفرنجية القديمة، وما تناقلته عنها المصادر الإفرنجية الحديثة، أما المصادر العربية القديمة فتهمل هذه القصة إهمالا كليا، أما المصادر الحديثة فتشير بعضها إليها وقد ذكرها جماعة من المحدثين العرب، ومنهم الأستاذ جميل مدور فقد ذكر في كتابه اللطيف «حضارة الإسلام في دار السلام» خلاصة الحديث الذي دار بين الرشيد ورسوله إلى شارلمان لقوله: «إنا أتانا من ملك الفرنجة رسول يقرئنا منه السلام، ويلتمس جميل رعاياتنا بمن يحج إلى بيت المقدس من ملته، فرأينا أن نوجهك إليه بلطائف تروم إليه أن يتقبلها في سبيل المودة لغاية ترغب فيها إليه من التعصب على بني أمية الذين يمزقون الأندلس بما هو واقع بينهم من الحروب، فإذا وافقنا على ما نروم من الاستيلاء على ديارهم فهو المقصود من إيفادك إليه في هذه الرسالة، وتقدم إليه بالوعد الجميل بأننا نوفيه حقه في يوم الفتح، ونصرف له نفقة الحرب من بيت مالنا، ونجري الأرزاق الواسعة على جنده ونقاسمه ما تحوي خزائن الظالمين من المال والجوهر، واستصحب معك هذا اليهودي الذي جاء به رسوله ... وكان في لطائف الخليفة الأنبرذور فيل عظيم أبيض كان عند المهدي، وأقمشة فاخرة من الوشي المنسوج بالذهب، وبسط ديباج من طبرستان، وأعطار من اليمن والحجاز، ومسك وصندل وأعواد من الهند، وسرداق عظيم مجلل بأنواع الحرير، وكلاليبه من الذهب الملبس بالوشي، ومزولة كبيرة تدل على الأوقات في ليل ونهار، وهي من عمل صناع بغداد، وشطرنج بديع الحسن قد اتخذت أدواته من العاج.»
10
وممن ذكرها أيضا من المحدثين الدكتور فيليب حتي ورفقاؤه، فقد ذكروا في «تاريخ العرب المطول» أن: «القرن التاسع طلع فإذا زعامة السياسة العالمية يتقاسمها اثنان؛ شارلمان في المغرب وهارون الرشيد في المشرق، وليس من شك في أن الرشيد كان أقوى الاثنين وأرفعهما ثقافة، أما العلاقة الودية بينهما فنتاج المصلحة المتبادلة، فقد ابتغى شارلمان من مصادقة الرشيد الاستعانة به على عدوته بيزنطة؛ كما كان الرشيد يبتغي من مصادقة شارلمان الاستعانة به على أعدائه أمويي الأندلس» ... وروى كتاب الغرب أن هذه المودة بين الاثنين أدت إلى تبادل السفراء والهدايا مرارا، ومصدر هذه الرواية كتاب في «أخبار الملوك » تعرض أيضا لهدايا أخرى من بغداد بينها ساعة دقيقة الصنع، أما خبر الأرغن ذي الأنابيب الذي يروى أن الرشيد أرسله إلى شارلمان فهو غير صحيح ... كذلك قل في حكاية إهداء مفاتيح قبر المسيح إلى شارلمان فإنها مما نفاه البحث العالمي.
والغريب في أمر هذه الهدايا والسفارات أنه يرد لها ذكر في المصادر العربية، فهناك إشارات إلى مراسلات ومجاملات دبلوماسية، أما هذه التي نحن بصددها فلم ترد ... وقد أورد العقد (يعني كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي) كلاما عن عدة مراسلات بين خلفاء بني أمية وأباطرة بيزنطة، وذكر وفدا من لدن ملك الهند جاء يحمل الهدايا الفاخرة إلى الرشيد، ووصف الاستقبال الفخم الذي لقيه ذلك الوفد،
11
وممن ذكرها الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه عن «العصر العباسي الأول»، فإنه بعد أن أورد النصوص التي وردت فيها هذه الأخبار علق عليها بما خلاصته: «يكتنف المصادر اللاتينية غموض واضطراب، فالمصدر الأول وهو «الأخبار الملكية» مقتضب لا يساعد على تعيين الصلات، بينما قصد «أينهارد» تفخيم سيده ورفع اسمه، وفي الكتاب أخطاء كثيرة ولا يعتمد عليه، أما الراهب سانت كال
St. Gall : فهو من كتاب الأساطير، وقد اعتبر الأستاذ «بارتولد» هذه النقطة مع سكوت المصادر العربية حجة كافية لنفي وجود الصلات، ثم يظهر لي أن الباحثين فهموا ظروف شارلمان، ولم يفهموا وضع الرشيد، وهل كان يستوجب فتح صلات من هذا القبيل؟ فقد كان الرشيد هو المنتصر على البيزنطيين قبل فتح العلاقات ... كما أنه لا دليل على أن مسيحيي الشام كانوا خطرا يذكر على سلامة الدولة في عهده، ثم هل كان الرشيد يعرف قوة شارلمان؟ وهل يمكن أن يضع ثقته بذلك الغريب لاسترجاع الأندلس؟ وهل يجوز لخليفة المسلمين أن يتفق مع مسيحي لضرب مسلمي الأندلس؟ وهل من المعقول أن يفكر الرشيد في وقت اضطر فيه إلى أن يتخلى فيه عن سلطته الحقيقية مع إفريقية «تونس» والمغرب؟ ...»
12
ثم يختم الدكتور الدوري مناقشته لهذه القصة ولنتائجها باحتمال وجود نوع من الصلات، ولكنها صلات تجارية لا سياسية، وأن المسئول عنها هم التجار اليهود العالميون الذين كانوا صلة وصل بين الغرب والشرق ... وبخاصة أن من أساليب التجار آنئذ أن يدعوا بأنهم سفراء لتسهيل مصالحهم التجارية.
ونحن نرى ما يراه الدوري، ولكننا نضيف إليه شيئا واحدا وهو أن إهمال المؤرخين القدماء لهذه القصة ربما كان لعدم اكتراثهم بالمسائل التجارية، وبخاصة إذا كانت هذه التجارات مع دول لا شأن كبير لها في نظرهم. (3-3) المسلمون والهند والصين
كانت الصلة التجارية والفكرية موجودة بين المسلمين والشرق الأقصى منذ عهد الدولة العباسية، فقد افتتحت «بلاد الهند» سنة 93 للهجرة في خلافة الوليد، وأخذت الصلات تقوى بينها وبين العالم الإسلامي شيئا فشيئا، كما كان التجار المسلمون يزورون «بلاد الصين»، وقد حفظ إلينا بعض كتاب العرب شيئا عن تلك الصلات، فقال ابن عبد ربه في العقد (1: 260): «بعث ملك الهند إلى هارون الرشيد بسيوف قلعية وكلاب سيورية وثياب من ثياب الهند، فلما أتته الرسل بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين، ولبسوا الحديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق، وأذن للرسل فدخلوا عليه فقال لهم: ما جئتم به؟ فقالوا: هذه أشرف كسوة بلدنا، فلم يعجبه من الهدية إلا الكلاب السيورية التي فتكت بالأسد، وقد أمر الرشيد لهؤلاء الرسل بهدايا وتحف كثيرة وأحسن جائزتهم.» وتذكر التواريخ الصينية القديمة أن سفارات عديدة جرت بين البلاط العباسي والبلاط الصيني في القرنين السابع والثامن للميلاد كما يقول المسعودي، ويظهر أن تلك الصلات لم تكن أكثر من صلات تجارية وثقافية تعمد إلى نقل بعض الكتب العلمية أو التجارات الاقتصادية، ويذكر المسعودي (8: 290، المروج طبع أوروبا)، وصاعد الأندلسي (في طبقات الأمم، ص49) أن في حوالي سنة 154ه قدم عالم هندي إلى بغداد ومعه رسالة في الفلك اسمها «السند هند، سد ذانتا»، وأن هذه الرسالة قد ترجمت إلى العربية بأمر المنصور على يد محمد بن إبراهيم الفزاري، كما أن ذلك الرحالة العالم الهندي قد أتحف العالم الإسلامي برسالة في علوم الرياضيات انتشرت بواسطتها «الأعداد» التي يسميها الأوروبيون الأرقام العربية، ويسميها العرب الأرقام الهندية، وفي القرن التاسع للميلاد أيضا أتحف الهنود العالم العربي بنظام الكسور العشرية.
13 (4) البرامكة وقصتهم
ينتسب البرامكة إلى «برمك»، وهو لقب سادن معبد بوذي في «نوبهار» إحدى الصوامع البوذية ببلخ، وكان هذا عالما أديبا متبحرا بعلوم الفرس وثقافات الأمم، اتصل بعبد الملك بن مروان فحسن موقعه عنده واستبقاه بقربه يفيد من خبرته وثقافاته إلى أن مات،
14
وقد كان لبرمك هذا غلام نابغة لمع اسمه في صدر الدولة العباسية اسمه خالد، فقد اتصل بمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ثم اتصل بإبراهيم الإمام، وقد روى مؤرخو الدعوة العباسية الأولون أنه كان من رجال الدعوة الأول، وأنه كان يتولى تقسيم الغنائم في عسكر قحطبة، وإليه عهد بتنظيم الخراج في خراسان، كما يذكر الجهشياري ذلك في «ص87».
ولما بويع أبو العباس بالخلافة عهد إليه بديوان الخراج وديوان الجند بعدما قتل أبو سلمة، ثم ولاه أبو العباس وزارته وإن لم يطلق عليه اسم وزير، ثم لما تولى الخلافة المنصور صار خالد ركنا من أركان دولته، وعهد إليه بديوان الخراج كما ولاه عدة ولايات كفارس وطبرستان والري ودنباوند لتنظيم أمورها وترتيب مواردها.
ولما مات المنصور وولي المهدي ظلت مكانة خالد رفيعة في الدولة، وعهد إليه الخليفة الجديد بإمارة فارس، ولكن ما عتم أن غضب عليه الخليفة فشفعت له الخيزران، وأعيد إلى منصبه، وأخذت صلته بالعباسيين تقوى منذ ذلك؛ فقد كانت الخيزران ترعاه طول عمره إلى أن مات في سنة 165ه/781م.
هذه لمحات سريعة عن حياة خالد بن برمك، وقد كان خالد كما يذكر الفخري من رجال الدولة العباسية، فاضلا جليلا حازما كريما يقظا، وكان له غلام أحسن تربيته وإعداده لممارسة شئون الدولة واسمه يحيى، فنشأ مهذبا فاضلا كاتبا بليغا لبيبا أديبا سديدا جوادا، وقد عهد إليه المهدي بالكتابة لابنه الرشيد في إمارته، ولما أراد الهادي خلع الرشيد من ولاية العهد لعب يحيى دورا هاما في تثبيت الرشيد في ولاية العهد - كما أسلفنا - فحفظها له، ولما بويع الرشيد بالخلافة ولاه وزارته وعهد إليه بخاتمه، وأعانه في أعماله أولاده الأربعة وفي طليعتهم «الفضل» و«جعفر»، وكان الفضل أخا الرشيد رضاعا، وكان جعفر أقرب من قلب الرشيد؛ لسهولة أخلاقه وشدة أخلاق الفضل.
وللبرامكة فضل كبير في تثبيت دعائم الدولة العباسية سياسيا واقتصاديا وتعاونيا، وإلى الفضل يرجع الفضل في احتفار كثير من أنهار العراق، وبناء كثير من دوره ومؤسساته العامة، أما جعفر فكان عالما كاتبا أديبا، وإليه يرجع الفضل في تقريب أهل العلم والأدب من الدواوين.
وقد حكم البرامكة الإمبراطورية الإسلامية منذ سنة 170ه/سنة 786م حكما مطلقا يتصرفون فيها بما يشاءون، والرشيد مطلق لهم العنان، وخصوصا قبل وفاة الخيزران سنة 173ه، حتى إذا ضاق بهم فعل فعلته وفتك بهم.
ويختلف المؤرخون في سبب الفتكة حتى قال الطبري (10: 79): أما سبب غضبه عليه؛ أي على «جعفر» الذي قتله عنده فإنه مختلف فيه؛ فمنهم يزعم أن الرشيد ضاق بتصرفاتهم ذرعا، وأنه كان يرى استبدادهم بالأمر دونه فتثور نفسه غيظا، وكلما كان يريد إقصاءهم تحول أمه الخيزران دون ذلك، وقد تجلى هذا في أن الرشيد أخذ الخاتم يوم وفاتها من يحيى وسلمه إلى عدوه الفضل بن الربيع وقال له: «وحق المهدي إني لأهم من الليل بالشيء من التولية وغيرها فتمنعني أمي فأطيع أمرها.»
15
ومنهم من قال: إن السبب هو قصة العباسة أخت الرشيد التي تجرأ جعفر البرمكي وطلب يدها، وقد راجت هذه بين العامة حتى ألفت فيها الروايات، كما فعل الإتليدي صاحب «أعلام الناس» وجرجي زيدان صاحب «العباسة أخت الرشيد» وأنطون رباط صاحب «الرشيد والبرامكة» وعزيز أباظة في «مسرحيته»، ولا نريد الإطالة فيها بعد أن نفاها مؤرخ ثقة كالجهشياري حين قال في معرض كلامه عن نكبة البرامكة: «إن عبيد الله بن يحيى بن خاقان سأل مسرورا الكبير خادم الرشيد في خلافة المتوكل عن سبب إيقاع الرشيد بالبرامك، فأجاب مسرور: كأنك تريد ما تقوله العامة فيما كان من أمر المرأة، لا والله ما لشيء من هذا أصل.» وقد نقض الفكرة من أساسها المؤرخ ابن خلدون.
ومنهم من يقول: إن سبب ذلك هو أن الرشيد كلف جعفرا بقتل علوي فتحرج جعفر وأطلقه من سجنه، فلما علم الرشيد سأله فقال: نعم أطلقته؛ لأنه لا ذنب له، فأسرها له حتى فتك به وبآله.
ومنهم من يقول: إن الفضل بن الربيع هو الذي ما يزال يسعى بهم عند الرشيد حتى كرههم.
ومن المؤرخين المحدثين من يزعم أن السبب في ذلك هو نزعتهم الاعتزالية.
ومنهم من يرى أن السبب هو اكتشاف مبادئهم الكسروية، وسعيهم إلى إعادة المجد الفارسي والميل إلى الشعوبية وتأييد دعاتها.
هذا عرض موجز لآراء من تعرضوا لحديث النكبة، وقبل أن نبين رأينا فيها نحب أن نشير إلى أن الرشيد ما فعل فعلته ارتجالا كما يقول البعض مثل «خدابخش» و«المدور»، ولكنه كان ينوي ذلك منذ زمن قديم، يقول ابن عبد ربه في العقد نقلا عن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس: إن الرشيد أخبره بشكه في تصرفات البرامكة وشاوره في أمرهم، ثم كان قتله إياهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم (العقد، 3: 263)، والذي نراه أن الرشيد إنما فتك بهم لاستبدادهم بشئون الدولة دونه في الإدارة والسياسة أولا، ثم لسيطرتهم على مواردها ثانيا، ويقول ابن خلدون (المقدمة، ص5): «إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان «الرشيد» يطلب المال فلا يصل إليه.» وإذا عرفنا أن الأموال التي صودرت منهم بعد النكبة بلغت من النقد نحوا من ثلاثين ألف ألف (مليون) وستمائة وستين ألف درهم، هذا عدا غلات ضياعهم ودورهم ورياشهم التي بلغت حد الخرافة في أثمانها وإتقانها، تبين لنا مبلغ ما احتجنوه من الأموال، ولم تكن الأموال هي السبب الرئيسي في ذلك، بل ما كان يصحبها من استبدادهم، فقد روى الطبري في تاريخه (10: 80): «إن ثمامة بن أشرس قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إن استكفيت يحيى أمور عبادك، أتراك تحتج بحجة يرضى بها؟»
وكان محمد بن الليث هذا من عقلاء القوم ومخلصيهم، وقد تأثر الرشيد جدا بهذه الرسالة، ولكن يحيى استطاع أن يكيد له ويسجنه في سجن «المطبق» إلى ما بعد النكبة، ولما أخرجه الرشيد من سجنه وقال له بعد حديث طويل: «أتحبني؟ قال: لا والله؛ وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت سوى قول حاسد يكيد للإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله.» فأنت ترى من هذا سبب حملته على البرامكة هو كيدهم للإسلام وتقريبهم لملاحدة الفرس، وفي هذا القول بعض الحق، فإن البرامكة كانوا فرسا متعصبين لفارسيتهم، وقد ظهر هذا التعصب في مواطن عديدة، فمن ذلك أن يحيى بن خالد وطد أقدام «بني سهل» في الدولة، وكان هؤلاء مجوسا متعصبين ضد العرب، ولما أراد الرشيد تقريب بعض العرب ووضعهم في المناصب الكبيرة حاول يحيى وأولاده تغيير رأيه، كمحاولة يحيى عدم تولية يزيد بن مزيد الشيباني قيادة الجيش الذي بعثه الخليفة لقتال الوليد بن طريف الشاري، ويجب أن لا ننسى أيضا أن الحسد قد لعب دورا كبيرا في تبغيض الرشيد بالبرامكة، وكان بطل هذا التبغيض شخصين؛ «أولهما» السيدة زبيدة زوجة الرشيد التي كانت تكرههم لحدهم من تصرفاتها، ولقيام جعفر بأمور المأمون ونعيه لدى الرشيد بتوليته بعد ابنه الأمين، و«الثاني» هو الفضل بن الربيع حاجب الرشيد الذي قال عنه ابن خلكان (الوفيات، 1: 412): «وسعى الفضل بهم، وتمكن بالمجالسة مع الرشيد فأوغر قلبه عليهم، ومالأه بها على ذلك كاتبهم إسماعيل بن صبيح، وكان الفضل يراقب حركاتهم، فلما أطلق جعفر يحيى بن عبد الله العلوي أخبر الرشيد بذلك، فغضب غضبا شديدا وأسرها له منذ ذلك الحين، ولما اجتمعت هذه الأسباب عزم الرشيد على تنفيذ الخطة التي رسمها للفتك بهم، فخرج إلى الحج واصطحبهم معه، وهو ينوي لهم الكيد، وكان ذلك سنة 187ه، فلما وصل الأنبار أمر بقتل جعفر، وكان عمره 37 سنة، ثم أمر بالإحاطة بيحيى وولديه الفضل ومحمد ومصادرة أموالهم، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد بقبض أموالهم ووكلائهم ورقيقهم، ثم أمر بسجنهم، وقد عوملوا في سجنهم أول الأمر بشيء من الاحترام، ولكنهم لما اتهموا بالمؤامرة وهم في السجن مع عبد الملك بن صالح بن علي ضد الرشيد ضيق عليهم وظل يحيى في سجنه حتى مات سنة 190ه، وكذلك الفضل إلى أن مات سنة 193ه، ولما أفضت الخلافة إلى الأمين أطلق محمدا وموسى ابني يحيى، ووصل جماعة من البرامكة من الرجال والنساء ببعض المال وأكرمهم، وكذلك كان حالهم أيام المأمون» (الطبري، 10: 109؛ والجهشياري، ص297).
وهكذا انتهت دولة البرامكة، وقد انقسم المؤرخون في سردها قسمين: مناصر ومعاد، وكل يبالغ في أقواله حتى تعقدت أخبارها وأصبح استخراج الحقائق منها أمرا عسيرا، ومهما يكن من شيء فإن للبرامكة آثارا لا تنكر في تنظيم الدولة العباسية وإحياء الثقافة ونشر العلم وبث الجود، كما أن لهم مساوئ؛ منها: إحياء الروح العنصرية الفارسية، وتقوية فكرة الاستبداد، والعمل على تجزئة الدولة وتقوية عناصر التحزب والانقسامات فيها، ويزعم بعض المؤرخين «أن الفتك بهم كان أول ركيزة انهدمت من ركائز الدولة»، وهذا قول مبالغ فيه؛ فإن الرشيد كان في أوج قوته والدولة عزيزة به، ولكن الشيء الذي يمكن أن نقوله ها هنا هو أن العناصر الفارسية أخذت تكيد للدولة منذ ذلك الحين وتعمل على هدمها، وقد تجلى ذلك في الفتنة بين الأمين والمأمون كما سنرى بعد. (5) الأحوال الإدارية في عصره (5-1) الوزارة، الإدارة، الخراج
رأينا أن الرشيد كان أول ما استخلف قد عهد بوزارته وإدارة دولته إلى يحيى بن خالد البرمكي الذي كان كاتبه ونائبه قبل الخلافة، وكان يحيى هذا عالما كاتبا عاملا حازما جوادا، نهض بأعباء الدولة أتم النهوض، وسد الثغور، وتدارك الخلل، وجبى الأموال، وعمر الأرض، وأظهر رونق الخلافة، وتصدى لمهمات المملكة، وكان أولاده الفضل وموسى وجعفر ومحمد وأولادهم يعاونونه في أعمال الوزارة والإدارة، سواء أكان ذلك في المركز أو في الأقاليم.
أما «الفضل» فكان أكبرهم ورأسهم، وقد ولد سنة 148ه، وهو أخو الرشيد رضاعا، وكان ينوب عن أبيه في الوزارة، ولما ولد الأمين جعله الرشيد تحت رعايته، وولاه بلاد الري وجوزجان وطبرستان وخراسان، وكان نزيها محمود السيرة رءوفا بالناس، وكانوا يسمونه «الوزير الصغير» وأباه «الوزير الكبير».
وأما «جعفر» فكان حسن الخلق جم العلم عالي الهمة قريبا من قلب الرشيد، ولاه مصر ثم خراسان، وبعثه إلى الشام مرات لتهدئة الثورات فيها فأحسن تصريف الأمور.
وأما «موسى» فكان أشجعهم، وكان معروفا بنبله وفروسيته، ولاه الرشيد الشام فأحسن الإدارة فيها، ونشر في الناس العدل والفضل، وإن لم يكن له شهرة أخويه.
وأما «محمد» فكان أصغرهم ولم يكن من الشهرة ما لإخوته، ولكن كان إليه أمر الاتصال بالناس وتبيين فضل البرامكة وتثبيت مكانتهم لدى العامة.
ولما نكب الرشيد البرامكة عهد بوزارته إلى أبي العباس الفضل بن الربيع الذي كان حاجبا للمنصور ثم المهدي والهادي والرشيد، وكان عارفا بشئون الدولة حسن التدبير والإدارة وحب العلم، وفي عهده ازدهرت الحركة العلمية والأدبية لما كان يميل إليه من حب الأدب والعلم، وقد استمر في وزارته إلى أن مات الرشيد.
ويظهر أن الرشيد لم يكن في أول الأمر متشددا في محاسبة عماله أو في إدارتهم، ولا أدل على ذلك من قصة علي بن عيسى بن ماهان الذي عاث في البلاد فسادا، ولكنه كان يبقيه في عمله لرضاه عنه، وكذلك كان «يحيى» و«الفضل» و«جعفر» و«موسى» يتصرفون في الأعمال تصرفا مطلقا؛ يمنحون الأموال والبلاد طعمة سائغة إلى من يريدون دون رقيب أو حسيب، فقد ذكر الطبري في حوادث 178ه أن الفضل لما شخص إلى خراسان أميرا عليها منح ولاية سجستان وخراجها لإبراهيم بن جبريل استرضاء له، ولم يكتف بذلك، بل زاده أموالا وهدايا جليلة، وهناك شواهد أخرى كثيرة تؤيد ما ذهبنا إليه، ولكن على الرغم من هذا فإن الرشيد اهتم بأشياء أخرى لها علاقة بالإدارة نذكر منها:
عنايته بالقضاء وأهله
فقد استحدث منصب «قاضي القضاة»، وأقام قضاة في كل أرجاء الإمبراطورية الإسلامية العظمى للقضاء بين الناس وكتابة العقود (مقدمة ابن خلدون، ص225) ونظام القضاة، وإن كان قديما يرجع إلى عهد الخلفاء الراشدين، إلا أن الرشيد هو أول من نظم شئونهم وأوجد منصب قاضي القضاة، وعهد به إلى الإمام أبي يوسف صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وأعتقد أن منصب قاضي القضاة هذا هو بمثابة «وزير العدل» في أيامنا، فقد كان يقيم إلى جانب الخليفة يفتيه في مسائل الدولة الدينية والدنيوية، ويتولى أمر تسمية القضاة في الأمصار التابعة للإمبراطورية وينوبون فيها عنه، وفي هذا الوقت اتسعت سلطة القضاة، فبعد أن كانوا ينظرون في الخصومات والقضايا المدنية والجنائية صاروا يفصلون في قضايا الأوقاف والوصاية والمظالم والحسبة، والإشراف على «بيت المال» وأموال الأيتام (راجع كتاب «النظم الإسلامية» للدكتور حسن إبراهيم، ص336؛ وكتاب «ديمومبين»، ص203).
عنايته بالأمن في العاصمة والأقاليم
فقد اهتم الرشيد اهتماما كبيرا بحفظ الأمن وطمأنينة الناس في العاصمة والأقاليم، فكان يوصي أصحاب الأخبار بأن ينقلوا إليه بسرعة وأمانة كل ما يتعلق بشئون الأمة وأخبار الناس وأحوالهم؛ ليكون على اطلاع بما يجري في أرجاء مملكته، وكان المشرف المباشر على هذه الناحية من الإدارة هو «صاحب الشرطة»، وقد اختار الرشيد بنفسه لهذا المنصب رجلا عرف بالنزاهة والنبل وهو «عبد الله بن مالك»، فقد كان من دهاة الرجال وعقلائهم وأصحاب العلم والفضل، قال صاحب «حضارة الإسلام في دار السلام، ص134» متحدثا عن الرشيد: «نظر في صلاح الوزراء ودس فيها العيون بإمرة عبد الله بن مالك (صاحب الشرطة)؛ لملافاة الخلل الذي يطرأ عليها من وفود الأغراب واختلاطهم، وأقام العسس بالليل لمحافظة الدروب إلى أن وقع الأمن في أحيائها وخيم السلام على أرباضها.» ويقول ابن خلدون في المقدمة (ص218)، في معرض حديثه عن وظيفة صاحب الشرطة: «وكان أصل وضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدائها أولا، ثم الحدود بعد استيفائها، فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها، وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك، فكان الذي يقوم بهذا الاستبداء وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي، ويسمى صاحب الشرطة.»
عنايته بتنظيم عمران العاصمة
وصلت العاصمة الإسلامية الكبرى في عهده إلى درجة رفيعة من حيث العمران والفخامة وكثرة الدور الجليلة والقصور الفخمة والمرافق العامة، قال الشيخ الخضري في محاضراته عن العصر العباسي: «وصلت بغداد في عصر الرشيد إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها، أما من حيث العمران فقد فاقت كل حاضرة عرفت لعهدها، وبنيت فيها القصور الفخمة التي أنفق على بنائها مئات الألوف من الدنانير، وتأنق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أمكنتها وتشييد بنائها.» وقال الخطيب البغدادي (في تاريخ بغداد، 1: ص119): «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها، وكثرة دورها ومنازعها ودروبها وشعوبها ومحالها وأسواقها وسككها وأزقتها ومساجدها وحماماتها وطرزها وخاناتها، وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها.» وقد أجاد صاحب «حضارة الإسلام في دار السلام» في وصف المدينة في صفحة 27 وما بعدها فليرجع إليه.
عنايته بتنظيم موارد الدولة المالية
ازدهرت الإدارة المالية في عهد الرشيد ازدهارا رائعا، سواء أكان ذلك في طرق الجباية، أو في تفنين قوانين الخراج والضرائب أو في تنظيم المصارف، ويذكر الجهشياري في كتاب «الوزراء والكتاب» (ص288) أن موارد الدولة كانت في عهد الرشيد قد بلغت 530312000 درهما، ولا ريب في أن الرشيد قد اعتنى بالخراج وغيره من موارد بيت المال عناية خاصة، فاختار لتنظيم هذه الناحية جماعة من الأمناء والفضلاء الذين أوتوا نصيبا وافرا من الخبرة والعلم في تنظيم الأمور المالية، وقد جعل على رأس هؤلاء جميعا فقيها جليلا قادرا، هو قاضي القضاة الإمام أبو يوسف تلميذ الإمام الأعظم، وطلب إليه أن يرتب أمر بيت المال من خراج وضرائب وغيرهما كما يراه، ويكتب بذلك كتابا يكون قانونيا موثوقا ومرجعا أمينا في ذلك؛ حتى لا يقع غبن على الناس أو بيت المال، فألف كتابه المشهور بكتاب «الخراج»، هذا ما يزال - من حسن الحظ - بين أيدينا، وهو مصدر أمين لدراسة الشئون المالية والحسابية في ذلك العصر، وأحب أن يقف القارئ الكريم معي وقفة نعرض فيها لمباحث هذا الكتاب الجليل، فنطلع على أسلوب النظام المالي للدولة الإسلامية في عهد الرشيد والعهود التي تلته؛ لأن الكتاب أضحى مرجع الفقهاء والحكام خلال عصور التاريخ الإسلامي كلها.
اشتمل كتاب الخراج على مباحث رئيسية وهي: (1)
موارد الدولة على اختلاف أنواعها كما أقرها الشرع الحنيف، مع بيان مصارف تلك الموارد. (2)
الطرق الحكيمة العادلة في الجباية وجمع الأموال من المكلفين ودافعي الضرائب والمكوس. (3)
الواجبات التي على صاحب بيت المال القيام بها مما أهمله بعض الولاة والعمال السابقين، ولا نستطيع ها هنا أن نورد كل ما سرده الإمام أبو يوسف في المباحث الثلاثة، ونكتفي بإيجاز بعض ما ذكر عن القسم الأول من موارد الدولة، وأما القسمان الآخران فليرجع إليهما من يريد التوسع.
قال: إن موارد الدولة الشرعية تنحصر في ثلاثة أقسام وهي: (أ) الغنائم. (ب) الخراج. (ج) الصدقات. (أ) خمس الغنائم
وهي كل ما أصابه المسلمون من المشركين في الحرب من متاع وسلاح وكراع
16
ونقد، ويقسم الإمام هذه الغنائم إلى خمسة أقسام يستبقي خمسا لبيت المال ويوزع أربعة الأخماس الباقية على المشاركين في تلك الحملة الحربية للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان له وسهم لفرسه، وللراجل سهم، ويحتفظ بالخمس الخامس لما أراده الله تعالى بقوله في سورة الأنفال:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله . (ب) الخراج
ويدخل فيه ما وظف على الأرض الخراجية وجزية أهل الذمة وموارد العشور.
أما الخراج فهو المال الموظف على الأراضي الخراجية، وقد قرره أبو يوسف في هذا أن سواد العراق وبلاد الجزيرة والشام لما فتحت في عهد عمر ترك الأرضين لأصحابها على أن يدفعوا الخراج عنها لبيت مال المسلمين، بعد أن مسحها فبلغت 36 مليون جريب، فوظف على كل جريب مقادير معينة من الدراهم والأطعمة، تختلف بحسب الأرض وغراسها، من درهمين إلى عشرة لكل جريب، وقد بلغت جباية خراج السواد قبيل وفاة عمر بعام مبلغ مائة ألف ألف درهم (مائة مليون درهم)، ولم ير أبو يوسف ما قرره عمر في تحديد الخراج أمرا لازما، بل أفتى أنه يجوز للخليفة إذا رأى مصلحة الناس في المقاسمة أن يجيزها، وقد بحث أبو يوسف في هذه الناحية بحوثا مطولة يحسن الرجوع إليها لمن يريد التوسع في هذا الأمر.
وأما جزية أهل الذمة فهي الأموال التي وضعها المسلمون على رءوس سكانها من غير المسلمين في البلاد المغلوبة، مقابل حماية المسلمين لهم والدفاع عنهم في الحروب، أما من يستعان به منهم في الحروب فلا يدفعها، الجزية فيما عدا هؤلاء واجبة على كل كتاب نصراني أو يهودي، ما خلا نصارى بني تغلب وسكان نجران، وأطفال عامة النصارى واليهود ونسائهم وشيوخهم ورهبانهم وعجزتهم، وليس على مواشيهم وأموالهم زكاة، وقد قرر أبو يوسف أن الجزية على ثلاث درجات: (1) درجة الأغنياء ويدفعون 48 درهما صحيحا. (2) المتوسطون ويدفعون 24 درهما صحيحا. (3) العمال ويدفعون 12 درهما صحيحا. أما نصارى تغلب ونجران فتؤخذ منهم زكاة المسلمين مضاعفة.
وأما موارد الخراج من العشور فهي موارد لم يذكرها القرآن ولا عرفت في عهد الرسول، ولكن أحدثها عمر لما كتب إليه أحد عماله وهو أبو موسى الأشعري حينما كان في البصرة: «إن قبلنا تجارا من المسلمين يذهبون إلى أرض العدو فيأخذون منهم العشر على تجاراتهم.» فكتب إليه عمر: «خذ أنت منهم في أرضنا كما يأخذون من تجار المسلمين في أرضهم، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، وخذ من المسلمين درهما من كل أربعين درهما، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم وما زاد فبحسابه.»
وأما مصارف بيت مال الخراج فهي: (1) رواتب القضاة والولاة والعمال. (2) مرتبات العسكر المجاهدين غير المتطوعين. (3) كري الأنهار وحفرها وإصلاح مجاريها. (4) حفر الترع الجديدة. (5) نفقات المسجونين من المسلمين والأسرى من المشركين. (ج) الصدقات
وهي ما يؤخذ من المسلمين زكاة أموالهم من الأنعام والنقود وأموال التجارة وأعشار الأرض غير الخراجية، على ما هو مفصل في كتب الفقه، ومصارف الصدقات هي ثمانية أصناف ذكرتها الآية الكريمة:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله .
هذا هو عرض موجز لموارد الدولة الإسلامية ومصارفها كما أقره الشرع الإسلامي الحنيف، وبينه الإمام أبو يوسف في كتابه في الخراج، ونرى ها هنا أن نزيد على ذلك كلمة موجزة عن نظام مالي له علاقة بنظام الأراضي، وهو نظام القطائع فنقول:
القطيعة أرض يمنحها الإمام لبعض الممتازين بفعالهم من المسلمين، ويذكر الإمام أبو يوسف في «كتاب الخراج» والسرخسي في «كتاب المبسوط» أن عمر بعد أن تم له الفتح العراقي اصطفى من أرض السواد ما كان لكسرى وحاشيته وقواده، وقد بلغ ذلك نحوا من أربعة آلاف ألف (مليون) جريب، كان يقطعها من أراد من رجالات الإسلام، قال أبو يوسف: «وذلك بمنزل المال الذي لم يكن لأحد ولا في يد وارث، والإمام مخير في القطائع أن يجعلها عشرية أو خراجية إن كانت تسقى من أنهار الخراج.» ويرى أبو يوسف أيضا أنه لا يصح أن تبقى في ديار الإسلام أراض لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام، فإن ذلك أعمر للبلاد.
وإذا كانت في البلاد المفتوحة أراض لا أثر فيها لزراعة أو بناء فهي «أرض موات» ومن أحياها فهي له، وللإمام أن يقطع ذلك من أحب، وله أن يؤاجره بما فيه صلاح الأرض، ويقول أبو حنيفة: «إن محيي الأرض لا يملك ما أحيا إلا بإذن الإمام، وإذا كانت من الموات في أرض العشر أدى عنها العشر، وإذا كانت في أرض الخراج دفعه عنها، وإن احتفر لها بئرا كانت أرض عشر، أما إن ساق إليها ماء الخراج فهي خراجية، والأراضي التي تنكشف من الجزر في النهر فهي لمن تلاصق أرضه بشرط ألا تضر بأحد أو بسير السفن، وكذلك ما عولج من البطائح والآجام.» (6) الحياة العقلية والثقافية في عصره
ازدهرت الإمبراطورية الإسلامية عامة والعراق خاصة في عهد الرشيد في نواحي العلم والفن ومجالي الحضارة الأخرى، وصارت بغداد في عهده قبلة الطلاب في العالم، يلجئون إليها لينهلوا من مواردها في العلم والفن والدين والفلسفة والصناعة، يقول الخطيب البغدادي (في تاريخ بغداد، ج1، ص119): «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها.» ويقول جميل المدور عن عهد الرشيد (في حضارة الإسلام، ص143): «وكفى بشرف دولته أنه اجتمع ببابه من الوزراء والأمراء والقواد، والعلماء والفقهاء والأدباء والخطباء والمحدثين، والوزراء والشعراء والندماء والمغنين، ما لم يجتمع على باب خليفة غيره، فإن البرامكة أعوان دولته، وأبا يوسف قاضيه، وهرثمة بن أعين أمير جنده، والعباس بن محمد عم أبيه جليسه، ومروان بن أبي حفصة شاعره والأصمعي محدثه، وأبا نواس نديمة، والفضل بن الربيع حاجبه، وإبراهيم الموصلي وإسحاق ابنه مغنياه، وابن بختيشوع وجبريل وبني ماسويه أطباؤه، والعلماء والأدباء كلهم قيام على بابه لا يفارقونه في حضر ولا سفر، حتى إنه ليطلب شاعر في أطراف الليل فيجده ببابه مع غيره من محدث أو نديم.»
والحق أن العلماء وأهل الدين والحكمة والفن الذين ظهروا في دولة الرشيد هم الأئمة الذين يرجع إليهم الفضل في تدوين كتب العلم والفن التي أضحت مراجع الحضارة العربية الإسلامية، وفي عصره ازدهرت الحركات العقلية والفلسفية، وعظمت عناية الناس بخزائن الكتب واهتمامهم بالعلم وأهله، وترجمت الكتب، وكان بلاطه ألمع بلاط في ذلك الحين، وكانت الشعراء والعلماء والحكماء يفدون إليه من أنحاء المعمورة كافة، فيوليهم عطفه وتشجيعه، وكذلك كان أول من وضع الموسيقى تحت رعايته، فارتقت في ظله حتى أصبحت مهنة شريفة، وفي عهده طفقت المدرسة الحنفية تتطور حتى اكتسبت شكلها النظامي على أيدي علماء المذهب، وعلى رأسهم أبو يوسف القاضي. (7) الحياة الاجتماعية في عصره
بلغت الحياة الاجتماعية في عهد الرشيد درجة رفيعة في البذخ والرفاهية والفخامة واللهو والغنى والرقي بصورة عامة، وكان طبقات الوزراء والقواد وكبار التجار أبرز الطبقات المترفة التي وجدت في ذلك العصر، كما كانت إلى جانبهم طبقات من الكتاب والعلماء والأطباء ومتوسطي التجار تعيش عيشا ناعم البال منعمة الحياة، أما طبقات سواد الشعب من سوقة وعمال وصناع وأجناد وشطار، فطبقات كان يتوفر لها عيش رخيص مقبول، وتتجلى هذه الطبقات واضحة الخطوط لمن دقق «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، وكتاب «ألف ليلة وليلة»، وكتاب «الفهرست» لابن النديم، وكتاب «الموشي» للوشاء النديم، وكتاب «حلبة الكميت» للنواجي، وكان من نتائج امتزاج الشعوب المفتوحة بالشعب العربي وتعدد الزوجات والتسري والرقيق وتجارته وجود طبقة اجتماعية مختلطة العناصر والأفكار والتقاليد، طغت على الطبقة العربية الرفيعة التي كانت في العصر النبوي والعصر الراشدي والعصر الأموي.
أما المرأة، وخصوصا الرقيقة، فقد تعلمت وبلغت قسطا وافرا من النعيم في هذه البيئة، فتعلمت وتثقفت وسيطرت على البيت الإسلامي سيطرة واضحة، فقدتها بعد في عصر الانحطاط العباسي والعصور التي تلته، ومما هو جدير بالملاحظة أن المرأة الحرة لم تكن لها تلك الحرية التي كانت للرقيقة، وذلك بسبب الحجاب الذي فرض عليها منذ العصر الأموي وقصر عملها على تربية أولادها والغزل والحياكة وتعلم القرآن فقط.
أما لباس الناس في هذا العصر فإنه لم يتبدل كثيرا عما كان عليه في العصر الأموي وما قبله؛ سروال وقميص وقفطان، ورداء خارجي من عباءة أو جبة وعمامة أو كوفية على الرأس، والشيء الوحيد الجديد هو أنه قد جعل للعلماء زي خاص رتبه لهم القاضي أبو يوسف، وهو العمامة ومن فوقها الطيلسان.
17
أما النساء فكن يلبسن الشفوف؛ الثياب والصدريات، وقد يلبسن سراويلات خاصة بهن، وكن يضعن على رءوسهن ما يستر شعورهن، وفي العصر العباسي استحدث نوع من أغطية الرأس خاص بهن، قيل: إن أول من اخترعه هي السيدة علية أخت الرشيد، وهو، على ما رووا، قبعة من حرير مزركشة مقببة في أسفلها دائرة يمكن ترصيعها بالجواهر والحلي.
وأما البيوت وأثاثها ورياشها، وخاصة دور الأعيان والوجوه، فقد بلغت حدا عاليا في الترف من سعة في البناء، وفخامة في الجمال والزخرف، واستكمال مظاهر الرفاهية والراحة، ففيها الكراسي الأنيقة والسجاجيد البارعة والدواوين المطرزة والمصابيح المذهبة وأصص الورود والأزهار والرياحين، وأواني الطعام والشراب والطبخ الفضية والزجاجية والعاجية والمطعمة والمكفتة، وكانت منازل الوجوه والأعيان تبرد في الصيف بالثلج بطرق خاصة.
18
وأما دور عامة الناس فقد استوفرت مظاهر الراحة ومحتاجاتها ، بل ربما بلغت حدا من الترف، فقد رووا أنها كانت تحتوي على أواوين وحمامات وزينات بالفسيفساء والزخارف والنقوش والجص المصور وغالي الأخشاب ومدهش الأصباغ، كما تجلى هذا لقارئ «كتاب ألف ليلة وليلة»، وكما اعتنى الناس بدورهم اعتنوا بمجالي اللهو ومظاهر السرور من سفرات ترفيه وصيد وقنص وتربية للحيوانات والطيور الظريفة، وإقامة حفلات لهو ولعب وإحياء مواسم الأعياد والمهرجانات العامة والألعاب الرياضية والسحرية ومسابقات الخيول والرهانات، وقد أورد المسعودي وصف يوم بديع أجرى فيه الرشيد الخيول في الرقة وجلس في صدر الميدان؛ حيث توافت إليه الخيل فإذا خيله في أوائلها فسر بذلك. (8) الحياة الاقتصادية
رأينا فيما أسلفنا رقي الحياة الاجتماعية وتنظيم الموارد المالية تنظيما متقنا، وهذا يدلنا على وضع الحياة الاقتصادية، فالرقي والحضارة لا يكونان إلا حيث تكون الحياة الاقتصادية ذات مستوى عال، سواء في الزراعة أو في التجارة أو الصناعة، وسنقف وقفة قصيرة أمام كل نوع من هذه الأنواع التالية:
أما الزراعة:
فقد رأينا عناية الخليفة بها وطلبه إلى قاضي القضاة الإمام أبي يوسف أن يهتم بدراسة أحوال الأرض ويبين حكم الله فيها، وقد فعل وطبق ذلك القانون، واطمأن إليه الناس وازدهرت الزراعة في ذلك العصر؛ لأن الأرض بقيت في أيدي أصحابها السابقين، وعادت الحياة إلى قسم كبير مما كان هجره أهله في السواد أو الجزيرة، وقد وجهت الحكومة عناية خاصة إلى بقاع ملتقى الرافدين لخصب الأرض هناك وكثرة الماء فشقت الأقنية الجديدة، وأحيت الأقنية والقساطل القديمة، وفي كتاب «المسالك والممالك» لابن حوقل (ص166) تفاصيل دقيقة عن هذا.
أما موارد إقليم العراق الزراعية فهي الحبوب من حنطة وشعير وأرز، والتمر والقطن والسمسم والقنب، وكان الجنوب ينتج بالإضافة إلى جانب ذلك الفواكه والخضار والرياحين، وأما موارد إقليم خراسان فهي لموارد العراق، وهي أراضي بلاد العجم وأكثرها غلالا وخيرات، وأما بلاد المشرق فإن أخصب أرضها بلاد بخارى، وهي جنة ذلك الإقليم على حد تعبير اليعقوبي (كتاب المسالك، ص555)، وفيها يقع وادي العقد أحد جنان الدنيا الأربع، كان القدماء يقولون: «إن الأولى هي شعب بوان الذي ذكره المتنبي، والثانية غوطة دمشق المشهورة، والثالثة بساتين الأبلة وهي الممتدة من البصرة إلى جنوب شرق الأردن.»
وأما بلاد الشام والجزيرة فمواردها الحبوب والقطاني والفواكه والزيتون والورود.
وقد اهتم الناس في هذا العصر بالتأليف في كتب الزراعة والطيوب، منها ما ترجم عن اليونانية والنبطية، ومنها ما هو مرتجل كما هو مفصل في كتاب «الفهرست» لابن النديم (ص317 وما بعدها).
وأما التجارة:
فقد ارتقت رقيا عظيما عما كانت أيام الدولة الإسلامية في العصر الإسلامي والأموي، يقول المستشرق آدم ميتز في كتابه الحضارة العربية في القرن الرابع (ترجمة الأستاذ أبي ريدة، ج2، 311). «يحكى عن عمر أنه ذكر أمامه حديث كان قد نسيه وطلب البينة عليه، فلما جاءه به أبو سعيد الخدري قال عمر: أخفي علي من أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفق في الأسواق، يعني الخروج إلى التجارة، وكان الأمويون لا ينظرون إلى التاجر بعين التقدير، ولم يكن هذا ناشئا عن إشفاقهم مما أشار إليه عمر، بل لأنهم كانوا جيلا من المحاربين الفرسان وأمراء القطائع ، حتى لا نجد للتجار شأنا في تاريخهم، وقد أحدث القرن الثالث في هذا الباب انقلابا كبيرا».
وكلام الأستاذ ميتز هذا حق، فقد ارتقت التجارة في عصر الرشيد وما بعده وأصبحنا نجد للتجار طبقات بارزة متمايزة، وانقسم الناس في هذا العصر إلى طبقات تجارية متمايزة، «أولها» طبقة كبار أهل التجارة والصناعات التجارية الكبيرة، و«ثانيتها» طبقة كبار الباعة وأغنيائهم، و«ثالثتها» طبقة السوقة والكسبة، ومما تجدر الإشارة إليه أن التجارة كانت في العصر الأموي وأوائل العصر العباسي بيد أهل الذمة من يهود ونصارى وأقباط وزرادشتيين، ولكن في هذا العصر والعصور التي تلته أخذ العرب يهتمون - بعد أن كسدت سوق الزراعة بعض الكساد - في رواج التجارة ومواردها الضخمة، فلم يعودوا ينظرون إليها نظرة الاحتقار التي كانوا ينظرونها إليها في العصر الأموي، وذلك بعد أن أخذت بغداد مكانتها في العالم، وأصبحت سوقها مجمع تجارات العالم في الدنيا، وسافر تجارها إلى الشرق والهند، فاتصلوا بأهل تلك البلاد منذ عهد المنصور، وأقدم مصدر عربي يبحث عن علاقات التجار العرب بالصين والهند هو «بيان رحلات التاجر سليمان» الذي نشره البروفسور لانغلي
Langli
بباريس سنة 1811م،
19
وأقدم مصدر عربي يبحث عن تلك العلاقات هو «رحلات ماركوبولو» في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان الحرير أهم أنواع التجارة الصينية إلى بلاد العرب.
وكما امتد نشاط تجار بغداد إلى المشرق امتد كذلك من المغرب منذ عهد قديم، أعني بلاد مصر وشمال إفريقية وأواسطها، والأندلس وأوروبا الغربية، وقد فكر الرشيد في حفر قناة السويس كما يذكر المسعودي (مروج الذهب، 4: 98)، هذا ولم تكن صلات بغداد بأوروبا الشرقية وحوض نهر الفولغا قليلة؛ فقد سافر تجارها إلى هاتيك الأصقاع عن طريق البحر الأسود وبحر قزوين، وكانوا يحملون إليها البخور والسكر والمنسوجات والأواني والأوائل الزجاجية والفولاذية،
20
وكانت ميناء البصرة أعظم ميناء إسلامي في ذلك الحين، وربما بلغ دخل بعض تجارها ما ينيف عن المليون درهم، ويليها في ذلك ميناء مدينة سيراف.
21
وأما الصناعة:
فقد تبعت التجارة والزراعة في تقدمها، وكان لكل إقليم من الأقاليم الإسلامية براعة خاصة في أنواع من الصناعات، فإقليم المشرق برع في حياكة السجاد والنسيج الموشى والعبي والملبوسات القطنية والحريرية والصوفية والديباج، وبلاد العراق وخاصة الكوفة برعت في صنع المنسوجات والمناديل المخططة والأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، كما كانت في العراق معامل الصابون والتطريز والورق والفخار والخزف والزجاج، وبلاد الشام اشتهرت بصناعة الصابون والموائد المزخرفة والقناديل المحلاة بالذهب والمزهريات من معدنية وفخارية وزجاجية، وغير ذلك من الأواني البيتية، وكانت دمشق خاصة بارعة في صناعة السيوف والخناجر والفسيفساء التي ورثتها عن العهد البيزنطي واقتنتها، سواء في صناعات الخشب أو المعادن أو الزجاج أو الحجارة، ومن الصناعات الهامة التي يجدر بنا الوقوف عندها قليلا صناعة الورق، وهي صناعة رائجة، وهي في الأصل صناعة صينية جاءت المسلمين عن طريق سمرقند، التي فتحت سنة 87ه/714م، وفي بغداد أسس أول معمل للورق منذ فجر القرن الثاني، وفي مصر والشام في القرن الثالث، وفي إفريقية في القرن الرابع، ومنها انتقل إلى إسبانيا فأوروبا، ولعل أقدم مخطوطة عربية معروفة اليوم ترجع إلى القرن الثالث وهي: «كتاب غريب الحديث» لابن سلام، المكتوب في ذي القعدة سنة 252 والمحفوظ بمكتبة جامعة ليدن.
ومن الصناعات العربية الرفيعة صناعة الصياغة من ذهبية وفضية وجوهرية، وإن من المعروف أن العرب منذ القديم قد اهتموا بعلم الأحجار الكريمة والبحث عن الجواهر الثمينة من لؤلؤ وياقوت أزرق وأحمر وزمرد وألماس وفيروز وما إلى ذلك، وألفوا في هذا العلم رسائل، وقد كان الأغنياء والأرستقراطيون المسلمون يحرصون منذ القرن الأول على اقتناء الجواهر والمصوغات ونفائس الحجارة، ويقال إن الرشيد اقتنى أجل جوهرة كانت لدى الأكاسرة، وهي من الياقوت الأحمر بحجم كبير ولون صاف، وإنه دفع ثمنها أربعين ألف دينار كما يذكر الطبري (في تاريخه، 3: 603) والمسعودي (في مروج الذهب، 7: 376)، ويقال إن هذا الحجر كان يضيء بالليل مثل المصباح المنير، فإذا وضع في بيت مظلم أشرق ذلك البيت، ويذكر الطبري (في تاريخه، 3: 703) أن يحيى بن خالد البرمكي ساوم بعض تجار بغداد على شراء سقط من الجوهر بسبعة ملايين درهم فأبى أن يبيعه صاحبه إلا بأكثر من ذلك، ولا شك في أن الذي ساعد على رقي هذه الصناعة وتفنن أصحابها بها هو وجود مناجم الحجارة الكريمة في كثير من أرجاء المملكة الإسلامية؛ فالذهب والفضة والزيبق موجود في خراسان وبلاد المشرق، والياقوت واللازورد والألماس فيما وراء النهر، والرصاص في كرمان، واللؤلؤ في البحرين وعمان، والفيروز في نيسابور والعقيق في اليمن، والحديد في لبنان والشام، والرخام والصلصال في تبريز، والكحل في اليمن وأصفهان، والرخام والكبريت والحديد في الشام. (9) خاتمته
كان الرشيد واسطة عقد بني العباس رجولة ومروءة ودينا وعفة وتصدقا، وما كان متزمتا جافا، بل كان يبيح لنفسه أن تلهو لهوا بريئا شريفا، كما كان ذا جهاد في سبيل الله ودمعة سريعة خوفا من الله، ولولا بعض الهنات أخذت عليه من تسييبه الأمر في أول عهده للبرامكة، ومن سوء عملته في قصة ولاية العهد، فقد عهد إلى الأمين مع أن المأمون كان أحزم وأكبر، نزولا عند إرادة زبيدة وبني هاشم، ومن استماعه للوشاة، ومن سماحه للنساء بالمداخلة في شئون الدولة، ومن إقراره لبعض طلبات عماله الظالمة ... أقول: لولا هذه الهنات لكان عصر الرشيد عصر الكمال في تاريخ الدولة الإسلامية؛ فإنه يندر وجود شخص يجمع ما حباه الله به من عقل وعلم وسياسية وتشجيع لأهل الفضل والمروءة، وعناية بشئون الدولة والسهر عليها والحفاظ على مصالحها، وجهاد في سبيلها ورفع شأن الخلافة في نظر العالم، هذه هي صورة هارون الرشيد الحقيقية كما نراها، أما ما يصوره به بعض القصاص والأسطوريين فحديث خرافة سببه «كتاب ألف ليلة وليلة» وبعض أصحاب الروايات والأقاصيص التي كتبت عن عهده بأقلام بعض الأوروبيين أو بعض المشارقة، فلا ينبغي أن نلتفت إلى ذلك بعدما عرفنا حقيقة الرجل؛ فقد كانت حياته وسيرته من أجل سير الرجال وأحفلها بالخير والعمل، منذ أن تولى إمارة المؤمنين إلى أن توفي شابا في معية العمر، ولم يكن له من العمر إلا أربع وأربعون سنة؛ إذ مات في جمادى الأولى سنة 193ه/809م، وقد دامت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين ونصفا، وكان إذ ذاك خارجا من بغداد قاصدا خراسان عندما بلغه خبر ثورة رافع بن الليث، وكان معه ابناه المأمون وصالح، وكان الأمين خليفته في بغداد، فلما وصل إلى طوس اشتدت به علته فمات رحمه الله، وصلى عليه ابنه صالح؛ لأن المأمون كان سبقه إلى مرو، ودفن حيث لفظ أنفاسه بطوس، ولا يزال قبره معروفا هناك إلى جانب مسجد الإمام علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد.
الفصل السادس
الأمين بن الرشيد
193ه-198ه/813م (1) أوليته
هو أبو عبد الله وأبو موسى محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، ولد سنة 171ه وولاه أبوه العهد في سنة 175ه، عني به والداه عناية زائدة فثقفاه وعلماه ومرساه بالحكم والسيادة والقيادة من نعومة أظفاره؛ فشب فصيحا بليغا كريما نبيلا، وكان الكسائي والأحمر إماما عصرهما في العلم والأدب يشرفان على تهذيبه وتعليمه، ويحدثنا الأحمر أن الرشيد أوصاه حين سلمه ابنه الأمين ليؤدبه بقوله: «لا تعلمه ما يفسد دينه، وأحسن أدبه وفهمه؛ فأقرئه القرآن وفقهه في الدين وروه الشعر، وأخبره بأيام الناس وأخبارهم.»
1
وقد فعل ذلك كما يحدثنا المسعودي (في مروج الذهب، 3: 307، 308)، ويقول: إن الرشيد عهد بالأمين إلى الفضل بن يحيى ليدربه على الإدارة والسياسة، وإن الأمين كان في نهاية القوة والشدة والبطش، ويظهر أن أساتذته قد وجهوه توجيها دينيا، فشب وهو يكره الزندقة والإلحاد، فقد روى الطبري (في تاريخه، 10: 220) ما يفيد أن الأمين كان متشددا في أمر الزنادقة والفتك بهم، ويقول ابن القيم: «إن الأمين أقصى الجهمية وتتبعهم بالقتل والحبس.»
2
ومهما يكن من شيء، فإن الأمين نشأ نشأة فاضلة واعتنى به جماعة من أئمة الفقه والعلم والدين والتأديب والسياسة في عصره، وقد يتجلى لنا ذلك فيما حكيناه عمن ترجموه، كما سيتجلى لنا ذلك في سيرته وتصرفه الرشيد في خلافته وإدارته. (2) بيعته
مات الرشيد بعيدا عن عاصمته في طوس، وقد مر بنا تفصيل ذلك، فكتب حمويه مولى الرشيدي وصاحب البريد بطوس إلى صاحب البريد ببغداد يعلمه بوفاة أمير المؤمنين، فدخل هذا على محمد الأمين وعزاه وهناه بالخلافة في قصره بالخلد، وتحول الأمين من قصره إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، ودعا الناس إلى المسجد الجامع في ذلك اليوم وكان يوم جمعة، فحضروا وصلى بهم، فلما قضيت الصلاة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ونعى الرشيد للناس وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الآمال وأمن الأسود والأبيض، فبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم نزل ودخل قصره ووكل عم أبيه الأمير سلمان بن أبي جعفر المنصور بأخذ بيعة العامة فبايعوه، ثم أمر السندي بن شاهك بأخذ مبايعة الأجناد وأمراء الجند ممن هم بمدينة السلام، وأمر لهم برزق أربعة عشر يوما منحة، وبعث إلى أخيه المأمون في خراسان كتابا يقول له فيه: إذا ورد عليك كتاب أخيك، أعاذه الله من فقدك، فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، وخذ البيعة على من قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك، ثم لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين ... واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء جندك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته مغبوطا محمودا ... وأمرهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم في شوال سنة 193ه،
3
وكتب مثل ذلك إلى أخيه القاسم.
أما المأمون فقد بلغه نعي أبيه قرب مرو، يريد سمرقند، فرجع إلى مرو ودخل دار الإمارة، ثم نعى أباه وبايع لأخيه ثم لنفسه، وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرا، وبقي هناك يترقب الأخبار مستقلا بإمارته، وقائما بما يجب عليه للخليفة أخيه خير قيام إلى أن جرت الفتنة بين الأخوين. (3) الفتنة بين الأخوين
في فجر سنة 194ه خلا الفضل بن الربيع بن يونس وزير الرشيد بالأمين وحثه على خلع أخويه المأمون والقاسم من ولاية العهد، وصرفها إلى ابنه موسى وتسميته الناطق بالحق، وكان مما قاله له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك، فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا بعدك واحدا بعد واحد، فأعجبت الأمين هذه الفكرة وكتب إلى عماله في الأمصار بالدعاء لموسى بالآخرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم، ثم رأى أن يبدأ خطته فعزل أخاه القاسم عن إمارته في ديار الجزيرة، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع المأمون علم ما بيته أخوه فقطع البريد عنه وأسقط اسمه من الخطبة، وسمى نفسه «إماما» ولم يتسم بالخلافة، ثم أخذ وزيره الفضل بن سهل يشجعه على إعلان الثورة على أخيه وينشر له الدعوة بين الخراسانيين، فحط عنهم ربع الخراج وطابت نفوسهم بذلك وأخذوا يؤيدونه ويحملون على أخيه، ويقولون ابن اختنا وابن عم رسول الله (كتاب الوزراء للجهشياري، ص278)، وصار المأمون يراوغ أخاه ويداريه؛ فبعث إليه بالهدايا الجليلة ورسائل التعظم يوهمه بوجوب المصالحة وإعادة القاسم إلى إمارته، ولكن الأمين استمر في خطته ورد ما بعثه أخوه إليه من الهدايا، وكتب إليه يطالبه أن يتنازل عن بعض أجزاء مملكته؛ فحذره القاسم بن صبح أحد مستشاريه من ذلك، ثم إن الأمين كتب للمأمون يطلب إليه الحضور إلى بغداد مع وفد سماه؛ فاستشار المأمون وزيره الفضل في السفر فمنعه من ذلك (الطبري، 10: 147).
وبعث الأمين إلى المأمون رسالة جاء فيها: «إن الإمام الرشيد ولاني هذه الأرض على حين كلب من عدوها، ووهي من سدها وضعف من جنودها، ومتى أخللت بها أو زلت عنها لم آمن انتقاض الأمور فيها وغلبة أعدائها عليها بما يصل ضرره إلى أمير المؤمنين ...»
4
ولما تأكد الأمين أن المأمون مصر على بقائه في خراسان، أعاد عليه الكرة وكتب إليه ثانية يطالبه بالتنازل عن بعض كور في خراسان - سماها له - قاصدا بذلك إضعاف المأمون وتهوين أمره، فشاور المأمون رجاله فأشاروا عليه جميعا بإجابة طلب الخليفة إلا الفضل وزيره، ووافقه المأمون على رأيه وكتب إلى الخليفة كتابا يقول فيه: «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي ... وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بما كتب بمسألته إلي، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان» (الطبري، 10: 133).
ولما أرسل رسالته إلى الأمين أخذ يشتد في حراسة الحدود، ثم إن الأمين جدد الكتابة إليه والمطالبة بالتنازل عن بعض أجزاء مملكته، وبعث الرسالة مع وفد أوصاه بالتشنيع على المأمون، فلما قرأ المأمون الرسالة اغتاظ وكتب إلى أخيه يقول: «... فلا تبعثني يا بن أبي على مخالفتك، وأنا مذعن بطاعتك ولا على قطيعتك، وارض بما حكم الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق» (الطبري، 10: 134).
فلما قرأ الأمين هذه الرسالة غضب جدا، وكتب إلى المأمون يقول: «أما بعد؛ فقد بلغني كتابك، محافظا لنعمة الله عليك، فيما يكن لك من ظلها، متعرضا لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع، وإن كان قد تقدم مني متقدم فليس بخارج من مواضع نفعك إذا كان راجعا على العامة من رعيتك ...» (تاريخ الطبري، 10: 134)، ولكن المأمون لم يغير رأيه وبعث إلى أخيه برسالة شديدة اللهجة قال له فيها: «فأولى به أن يدبر الحق في أمره ثم يأخذ به ويعطي في نفسه، وأما ما وعد به من بر طاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارقه الحق في فعله فأبقى للمتبين موضع ثقة بقوله؟» (تاريخ الطبري، 10: 134)، فأجاب الأمين على هذه الرسالة بوفد يفاوض أخاه في الصلح وفي تقديم موسى عليه في ولاية العهد؛ ولكن الوفد رجع خائبا ورد شر رد، وصاح الفضل بن سهل في رئيس الوفد العباس بن موسى بن عيسى: «اسكت فهذا بين أخواله وشيعته.» فلما بلغت هذه الأخبار مسامع الأمين خلع أخاه من ولاية العهد وأعلن أمر عصيانه ووجوب محاربته، وعقد البيعة لابنه موسى، وجعل علي بن عيسى بن ماهان صاحب أمره، ثم جمع وجوه القوم من أهل بيته ومواليه وقواد ورؤساء الأجناد الخراسانية في المقصورة بالشماسية، وكان ذلك أحد أيام الجمع من شعبان سنة 195ه، فصلى الجمعة ثم دخل المقصورة وبقي ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع، فقام فقرأ عليهم كتابا من الأمين يعلمهم فيه ما أحدثه عبد الله (المأمون) من قطعه البريد عن أمير المؤمنين والدعاء لنفسه وتسميه بالإمامة، وأن ذلك ليس من الشروط التي شرطها أبوه الرشيد عليه في العقد، ثم ذكر الفضل أنه لا حق لأحد في الخلافة والإمامة إلا لأمير المؤمنين الأمين فهو يوليها بعده من يشاء، ثم قال: إن الأمير موسى ابن أمير المؤمنين قد أمر لكم معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم، ووزع الأموال بينهم، ولما انتهى الاجتماع أخذ الفضل يهيئ جيشا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون، ولما تم كل شيء سار علي بن عيسى في جمادى الآخرة من سنة 195ه للقاء المأمون فودعه الأمين إلى النهروان، وكان جيشه زهاء أربعين ألف، على رواية الطبري (التاريخ، 10: 139)، ولما وصل الري لقيه الجيش الذي بعث به المأمون للقائه بقيادة طاهر بن الحسين، وكانت الغلبة لطاهر وقتل علي بن عيسى فيمن قتل.
ولما وضع رأس علي بن عيسى بين يدي المأمون حمد الله على ذلك وأثنى عليه، وأمر أن يطاف بالرأس في خراسان، ثم دخل عليه قادته فهنئوه وسلموا عليه بالخلافة.
أما الأمين فإنه لما بلغته أخبار السوء هذه طاش صوابه، وبعث إلى نوفل خادم أخيه المأمون وقيمه في أهله وولده ووكيل أمواله وضياعه في بغداد، فصادر الأموال وقبض على الأهل والضياع، ثم وجه عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي فنزل همذان في عشرين ألفا لمقاتلة طاهر بن الحسين، وزحف إليه طاهر والتقوا عند خراسان وتقاتلوا قتالا شديدا، وكثرت القتلى بين الجانبين حتى كاد طاهر أن يتغلب، فقال عبد الرحمن لأصحابه: «يا معشر الأبناء، أبناء الملوك وألفاف السيوف، إنهم لعجم وليسوا بأصحاب مطاولة ولا خير، فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي.» وجعل يمر على جنوده راية راية، ويقاتل بيديه قتالا شديدا، وكاد الظفر أن يتم له، ولكن بعض أصحاب طاهر استطاع أن يحمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، ثم هجم أصحاب طاهر على الأبناء فاضطروهم إلى الهروب والدخول إلى همذان؛ فحاصرهم طاهر فيها حتى إذا اشتد الحصار عليهم طلب عبد الرحمن الأمان فأمنه طاهر، وهكذا انتهت المعركة.
ولما بلغت أخبار انتصار طاهر هذه إلى خراسان فرح المأمون كثيرا وأنعم على طاهر بلقب «ذي اليمينين»، ثم أخذ طاهر بن الحسين يطرد عمال الأمين من قزوين وسائر الجبال، ثم قتل عبد الرحمن في مدينة أسد آباد حين رآه يتآمر من جديد للفتك بجيشه، ثم سارت جيوش طاهر حتى بلغت حلوان وما إليهما ظافرة موفقة، فلما بلغ خبرها الأمين أراد أن ينقذ الموقف ولكنه فشل؛ لأنه كان مهملا لشئون دولته، قال الطبري في حوادث سنة 196ه: «إن الفضل بن الربيع لما بلغه مقتل عبد الرحمن الأبناوي قال عن الأمين: «ينام نوم الظربان لا يفكر في زوال نعمة ولا يروى في إمضاء رأي ولا مكيدة، وقد ألهاه كأسه وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، وقد شمر عبد الله عن ساقه، وفوق له أصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف.» ثم استرجع.»
أما الأمين فإنه بعث أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لتدارك الموقف ولقتال طاهر، ولكنهما تقهقرا أمام جيش طاهر الظافر، ثم سار طاهر إلى الأهواز فقتل عامل الأمين، وسار نحو واسط فدخلها، وبعث أحمد المهلب أحد قادته نحو الكوفة فدخلها في رجب سنة 196ه، ثم كتب إلى أمير الموصل المطلب بن عبد الله، وأمير البصرة المنصور بن المهدي، أن يبايعا المأمون ويخلعا محمد الأمين فوافقاه على ذلك، ثم بعث داود بن عيسى بن موسى أميرا على الحجاز فدخلها وأعلن بيعة المأمون، وكذلك بعث يزيد بن جرير البجلي أميرا على اليمن فدخلها وأعلن البيعة للمأمون، ثم جموعه للاستيلاء على المدائن فاستولى عليها، ثم توجه للإحاطة ببغداد فعسكر على نهر صرصر، وطالت إقامته عليه حتى ضاق جنده ذرعا بالحصار، وهرب منهم نحو خمسة آلاف انضموا إلى جيش الأمين، ففرح بهم ووعدهم ومناهم، وجيش جيشا قويا للقاء طاهر على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم فيقول لهم: لا يغرنكم كثرتهم، ولا يمنعنكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع العبر واليقين، ثم أمرهم بالتقدم فتقدموا وانهزم أهل بغداد أمامهم، وبلغ الخبر محمد الأمين فأخرج خزائنه وذخائره ووزعها على الناس من أهل بغداد للقتال.
دخلت عيون طاهر بغداد فأفسدوا الجو على الأمين واستمالوا الناس إليهم، ومنوهم الأماني فلم يجد عمل الأمين نفعا، ولا أفادته أمواله التي أنفقها فيهم فائدة، وعمت الفوضى في مدينة بغداد ونقب المسجونون السجون وعاثوا في البلد، وثار معهم الشطار والدعار واختل الأمين، وضيق طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وزهير بن المسيب الخناق على الأمين وجنده وأهل بغداد؛ فتفرق جمعهم واستأمنوا الطاهر فأمنهم، ثم أخذ يحتل أرباض المدينة ربضا ربضا، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة 197ه، ثم حاصر المدينة نفسها ومنع الأقوات والميرة عنها، فغلت الأسعار فيها، واشتد البلاء بالناس وأيقن الأمين بالهلاك، فأخذ يفرق ما بقي عنده من الأموال في الناس ليحموه ويستميتوا معه فأخذوها وخذلوه، وحين نفدت الأموال من خزائنه وطلب الناس الأرزاق لهم فلم يجدوا عنده ما يعطيهم.
قال الطبري (في تاريخه، 10: 19): «ولما رأى الأمين ذلك قال: «وددت أن الله قتل الفريقين وأراح الناس منهم، فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي.» ثم إن طاهرا حمل حملة قوية قاتل فيها بنفسه، فدخل المدينة قسرا، وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ثم قصد المدينة المدورة، مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد، وكان محمد الأمين وأمه زبيدة وولده في مدينة أبي جعفر، فتحصن بها حتى فقد زاده وماءه، فاستشار من بقي معه من رجاله فيما يفعل، فأشار عليه بعضهم أن يطلب الأمان من هرثمة بن أعين، فرضي وكتب إلى هرثمة بذلك، فأجابه هذا إلى طلبه، ولما علم طاهر بذلك أبى إلا أن يكون الاستسلام إليه، فرفض الأمين واتفق هو وقواده على أن يخرج إلى هرثمة، وأن يدفن إلى طاهر الخاتم والقضيب والبردة، ثم علم طاهر أنهم يمكرون به، فاستعد للأمر وكمن حول القصر جنوده، فلما خرج الأمين متخفيا إلى حيث كانت حراقة هرثمة تنتظره في النهر، فركبها ولم تكد تسير به إلا قليلا حتى خرج عليه أصحاب طاهر فرموا الحراقة بالسهام والحجارة حتى غرقوها، وغرق الأمين وهرثمة، وسبح الأمين وتمكن من الهرب والالتجاء إلى دار في بغداد.
ولكن جماعة طاهر من الخراسانيين دخلوا عليه وبيدهم السيوف، فلما رآهم وقف في وجههم وقال: «أنا ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنا ابن هارون أنا أخو المأمون، الله الله في دمي.» فلم يفده ذلك كله، وتقدم إليه واحد منهم واسمه خمارويه غلام قريش الدنداني مولى طاهر، فضربه بالسيف فأصاب مقدم رأسه، ثم هجم الآخرون فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه إلى طاهر، فنصبه على باب الأنبار، ثم رفعه وبعث به إلى المأمون مع البردة والقضيب والخاتم، مع محمد بن الحسن بن مصعب، وكتب إليه كتابا يقول فيه: «أما بعد؛ فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال والملك والسلطان، كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم انتكاث المخلوع ببيعته، وإنقاضه بعهده وارتكاسه في فتنته وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه، وقد كتب إلى أمير المؤمنين في إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها ...» ثم سرد كيف تم له الاستيلاء على المدينة كلها وإرباضها، وكيف أن هرثمة بن أعين أراد استئمان الأمين، ولكن طاهرا لم يوافقه على ذلك خوفا من المكيدة والفشل وفساد الأمر، ففرح المأمون بذلك وشكر له سعيه وجهده.»
5 (4) معنى الفتنة وأسبابها ونتائجها
كان لهذه الفتنة التي مزقت وشائج الرحم بين الأخوين عوامل متعددة يمكن إجمالها فيما يلي: (1)
إذا رجعنا إلى نصوص العهد الذي كان قد كتبه الرشيد لأولاده الثلاثة من بعده، نجده عملا غير طبيعي؛ لأن استقلال المأمون بخراسان والولايات الشرقية استقلالا تاما يخوله حق التمتع بخيرات تلك البلاد والسيطرة على أحوالها، يجعله يفكر في الانفصال عن سلطان الخليفة في بغداد، ثم إن حصر سلطان الخليفة في بقعة محددة بجنوب العراق والشام وشبه الجزيرة العربية ومصر - مع ما ينبغي أن يكون للخلافة من سلطان وقوة وعزة - يجعله يطمع في فرض سيطرته على أقاليم أخرى ليست تحت تصرفه؛ لأنه هو «الخليفة الشرعي» صاحب السلطان «الأكمل» على كل أجزاء الدولة الإسلامية، فكيف لا يستطيع أن يسمي قائدا في منطقه أو يحول عاملا من عماله؟ (2)
فشل الفرس في غايتهم التي ساعدوا العباسيين من أجلها لقوة الخلفاء العباسيين الأولين، فانتهزوا هذه الفتنة بين الأخوين وخصوصا المأمون ابن أختهم؛ لأن أمه فارسية، يقول الجهشياري (في كتاب الوزراء والكتاب، ص266): «إن الفضل بن سهل شجع المأمون على الوقوف في وجه أخيه؛ لأنه نازل في أخواله وبيعته في عنقهم، أما الأمين فإن جماعته كانوا من الهاشميين والعرب بصورة عامة مع بعض العناصر الفارسية التي ما كانت تعمل معه إلا لمنافع شخصية.» (3)
أن مطامح الطامعين من الوزراء والمستوزرين كانت قد لعبت دورا خطيرا في إيقاع الفرقة بين الأخوين، كما كان الفضل بن الربيع يشجع الأمين على خلع أخيه أو الفتك به وتقطع أوصال إمارته. (4)
أن الفضل بن الربيع الرجل الخطر الداهية الحذر القوي له يد فعالة ورغبة واضحة في إفساد ملك بني العباس، فهو الذي أوقع بين الرشيد والبرامكة كما رأينا، وهو الذي أوقع بين الأمين والمأمون كما نرى، وهو الذي تخلى عن الأمين حين عاكسه الدهر وأخنى عليه، إلى أن استقر الأمر للمأمون، فظهر من جديد وأراد العود لسيرته الأولى فنافق للمأمون، ولكن المأمون كان أقوى من أن يخدع فأبعده وأهمله واضطره أن يقضي أواخر أيامه بعيدا عن العاصمة حتى مات في طوس سنة 208ه. (5)
أن مطامع الخلفاء في نقل الخلافة إلى أولادهم من بعدهم، كائنا ما كانوا، وعدم إعطائهم الحق لأربابه في ولاية العهد واختيارهم الأفضل والأحزم استئثارا وافتئاتا على الحق، كان سببا لكثير من الفتن التي ضعضعت مركز الدولة وشتتت قواها، ولم نر خليفة له ولد إلا كان يسعى لخلع صاحب الحق من عم أو أخ وابن عم ووضع ولده موضعه غير مراع في ذلك خير الأمة، مع أن الدروس والعبر السابقة كانت كافية لهؤلاء الخلفاء في الاعتبار، ولكنهم ما كانوا يعتبرون. (6)
كان لهذه الفتنة من النتائج المادية والمعنوية شيء كثير، فمن النتائج المادية أنها ضعضعت بيت المال، وأتت على ثروة القصور، وبعثرت نفائسها وشتتت تحفها وأفسدت معالمها، هذا فضلا عن الضرر العام الذي لحق بالعاصمة والأهلين في تجاراتهم ومرافقهم وبيوتهم، أما النتائج المعنوية فهي أنها أحيت من جديد نار العصبية بين الخراسانيين من الفرس بصورة عامة، وبين العرب بصورة خاصة، وعادت الفتنة جذعة فلقي الإسلام والعروبة من مفاسدها ما قلقل أركان الإمبراطورية العربية. (7)
لكل أمر خطر ناحيتان من خير وشر، فالشر في هذا الأمر ما رأينا، والخير هو أن هذه الفتنة أذكت قرائح الشعراء فأنتجوا نتاجا أدبيا رائعا، سواء في تأييد الأمين أو في الحمل عليه وتأييد المأمون، وقد تجلى ذلك في المقطوعات والقصائد الرائعة والآثار الأدبية الجميلة التي حفظها لنا المؤرخون أمثال الطبري واليعقوبي وابن الأثير وابن طباطبا وغيرهم، مما حفظوا لنا في تواريخهم ما يعطينا صورة عن الأدب السياسي والشعبي لذلك العصر، وهو جدير بالبحث والدرس. (5) خاتمته
اختلفت الناس في أمر الأمين اختلافا كبيرا؛ فمنهم من حمل عليه بقسوة واتهم سلوكه وطعن في أخلاقه ومواهبه، قذفه بشتى التهم من فسق وإسراف ولهو، ومنهم - وهم قليل - من دافع عنه وأثنى عليه، وقالوا: إنه، وإن كان يلهو ويسرف، كان حازما مدبرا عاقلا أريبا، ولكن الأعاجم هم الذين أفسدوا عليه أمره، كما شوهوا تاريخه، تقربا لأخيه من جهة، وحطا للجانب العربي من جهة أخرى، وأنا أعجب لمؤرخ مدقق كابن الأثير يقول عن الأمين هذه الكلمة الغريبة: «لم نجد للأمين شيئا في سيرته مما يستحسن ذكره من حلم أو معدلة أو تجربة حتى نذكرها.» فكيف يصدر هذا الحكم القاسي من مؤرخ كابن الأثير وهو العالم بدقائق الأمور الخبير بحقائق التاريخ، ولكن الدعاية المأمونية والأباطيل الشعوبية هي التي استهوته فجعلته يحكم ذلك الحكم الظالم، فالطبري يذكر (في تاريخه، 10: 145): «إن الأمين كان يقضي الليالي الطويلة في النظر بشئون الدولة.» وطاهر بن الحسين خصمه الألد وقاتله يعترف له بالمقدرة والدهاء بعد أن تغلب عليه فيقول: «إنه ليس بالضعيف، ولكنه مخذول» (مروج الذهب للمسعودي، 3: 308)، والطبري يذكر (في التاريخ، 10: 150) أن الأمين حين بعث علي بن عيسى بن ماهان لقتال أخيه أوصاه وصية تدل على عقل وإدارة وحزم، فمما قاله: «امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء، وول الري يحيى بن علي واضمم إليه جندا كثيفا، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وول كل كورة ترجل عنها رجلا من أصحابك، ومن خرج إليك من أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج.»
وبعد؛ فإن الأمين كان ذا مواهب ومزايا، ولكن سوء طالعه وفساد حاشيته وقبح خاتمته قد نقلت محاسنه إلى مساوئ، والناس دوما مع الغالب، وقديما قال الشاعر:
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
الفصل السابع
المأمون بن الرشيد
198-218ه/814-833م (1) أوليته
هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، وأمه أم ولد فارسية اسمها مراجل، ولد سنة 17ه في اليوم الذي ولي فيه أبوه الخلافة، وقد اعتنى به أبوه بعد طفولته، فعهد إلى أبي محمد اليزيدي النحوي القارئ المشهور وإلى الكسائي والأصمعي بتعليمه وتهذيبه، كما عهد إليهم بتهذيب أخيه الأمين، فبرزت مواهبه منذ طفولته وحفظ القرآن الكريم وروى كثيرا من الشعر العربي القديم، وأجاد الاطلاع على علوم العرب وآدابهم وأخبارهم، وبرع في علوم الدين من حديث وفقه وتفسير وكلام، كما درس علوم الحكمة والفلسفة والعقائد القديمة الإسلامية.
وفي سنة 183ه ولاه أبوه العهد بعد أخيه الأمين، وضم إليه جعفر بن يحيى البرمكي ليدربه ويثقفه، ثم ولاه خراسان وهو شاب بعد ليمارس الحكم ويتدرب على السياسة بمقتضى السلطة التي منحها إياها أبوه في كتاب العهد، ولما مات أبوه كان ما يزال في خراسان، فجرت بينه وبين أخيه تلك الحوادث والفتن التي فصلناها في بحثنا عن الأمين. (2) بيعته وما أعقبها من أمور
بويع المأمون البيعة العامة يوم مقتل أخيه في 25 محرم سنة 198ه/5 أيلول سنة 814م وكان ذلك في مرو، وكان المدبر للدولة هو الفضل بن سهل السرخسي الذي استوزره وجعله صاحب دولته ومتولي الرأي عنده، وقد رأى الفضل أن أول عمل يجب عمله بعد أن انتهت الفتنة هو إخراج طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين من العراق خوفا من مطامعهما، فكتب إلى طاهر على لسان الخليفة أن يشخص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث، وأن الخليفة قد ولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وكتب إلى هرثمة يدعوه إلى خراسان وأنه قد عهد إلى الحسن بن سهل أخي الفضل بالعراق، والحق أن أحوال العراق قد اضطربت لغيبة الخليفة عنها أول الأمر، وشاعت شوائع زادت في هذا الاضطراب منها أن الفضل بن سهل قد غلب على أمر المأمون، وأنه قد حجبه في قصره لا يراه أحد، وأنه يبرم الأمور دونه، وأنه سيقضي على كل عنصر عربي، فثار لهذه الشوائع بنو هاشم ووجوه الدولة في العراق، وأخذوا يستخفون بالفضل بن سهل وبأخيه الحسن، وعمت الفوضى والفتن في البلاد حتى جاء المأمون من خراسان إلى بغداد كما سنرى تفصيل ذلك فيما بعد. (3) الأحوال الداخلية
بعد مقتل الأمين والمناداة بالمأمون خليفة فكر الفضل بن سهل في نقل العاصمة إلى المشرق في خراسان، وأخذ يعد لذلك عدته، فاضطرب لهذا الأمر العراقيون عامة والهاشميون خاصة، وخافوا أن يعلن الفضل بن سهل نقل حاضرة الخلافة إلى هناك، فأخذوا يفسدون عليه خططه ويستهينون بأوامره ورسائله التي تردهم من المأمون ووزيره الفضل، فحدثت عدة فتن نذكر منها: (1)
خروج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن العلوي بالكوفة على الخلافة بتشجيع القائد أبي السرايا السري بن منصور الشيباني، فاستولى على الكوفة وطرد عاملها سليمان بن أبي جعفر المنصور، وعظم أمر هذه الفتنة، إلا أن محمدا لم يلبث أن مات فجأة في رجب سنة 199ه فولى أبو السرايا مكانه غلاما من آل البيت العلوي حدثا، هو محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) وعظم أمر العلويين وأبي السرايا، وقضوا على جيش الحسن بن سهل حتى ضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة ونقش عليها قوله تعالى:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، ولما أخذ أمر أبي السرايا يعظم كتب الفضل بن سهل إلى هرثمة بن أعين يدعوه لقيادة جيش يحارب به أبا السرايا، وكان ذلك في شعبان سنة 199ه، فلبى هرثمة الدعوة وتوجه للقاء أبي السرايا وتغلب عليه؛ ففتح الكوفة واضطر أبا السرايا إلى الهرب، فاضمحلت دولته ولجأ إلى إيران، ثم أمسك به وصلب ببغداد، وكان لحركة أبي السرايا أسوأ أثر في الحجاز؛ لأنه كان ولى على مكة الحسين بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي، وكان بها داود بن عيسى أميرا من قبل العباسيين، فطرده وجرد الكعبة من كسوتها العباسية وكساها ثوبين جديدين كتب عليهما: «أمر به الأصغر بن أبي الأصغر أبو السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله الحرام، وأمر أن تطرح عنها كسوة الظلمة من ولد العباس، ليطهر من كسوتهم، وكتب سنة 199»، ثم قسم الكسوة التي كانت عليها بين أصحابه، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ليستعين به في حركته، ولم يسمع بوديعة لبني العباس وأتباعهم عند أحد من أهل مكة إلا أخذها، وكانت له دار سماها «دار العذاب» عذب فيها الناس ممن لم ينضموا تحت لواء حركته، حتى هرب من العراق والحجاز خلق كثير بسببه، وزاد عسفه وعسف جماعته على الناس وظلموهم وصادروا أموالهم حتى إنهم حكوا الذهب الذي كان على أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي كان على شبابيك زمزم وخشب الساج فباعوه بالثمن البخس، وما زال العلوي على تلك الحال حتى بلغه صلب أبي السرايا، فاجتمع هو وبعض أنصاره العلويين وغيرهم وطلبوا إلى محمد بن جعفر الصادق أن ينضم إلى حركتهم على أن يبايعوه بالخلافة، فأجابهم إلى ذلك ولم يكن له من الأمر شيء إلا المظاهر والاسم، وساروا بالناس على أسوأ سيرة حتى تعدوا على الأموال والأعراض، فبعث إليهم هرثمة بن أعين جيشا فتك بهم وهزمهم، وقضى على حركتهم. (2)
خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي باليمن واستيلاؤه عليه وفتكه بالناس فيه، حتى سمي الجزار لكثرة من قتل من الناس في سبيل الاستيلاء على اليمن حوالي سنة 199ه، وفي سنة 200ه قوي أمره وسيطر على اليمن، وانتهز فرصة موسم الحج فبعث بعض ولد عقيل بن أبي طالب على جند كثيف إلى الحجاز يتظاهرون بأداء الفريضة، وكان أمير الحج العباسي يومئذ إسحاق بن الرشيد، فلما وصل العقيلي إلى منطقة بستان بن عامر في الحجاز، ومرت قافلة الكسوة الشريفة وأوائل طيب الكعبة وأموال أهل الحرمين نهبوها، وأخذوا أموال من كان معها من التجار، حتى دخلوا مكة عراة، فبعث إليهم أمير الحج جندا قهرهم وأعاد كسوة الكعبة وطيبها، وتمكن من أن يقضي على هذه الفتنة. (3)
ثورة الجند ببغداد على الحسن بن سهل لقتله هرثمة بن أعين، فقد روى الطبري أن هرثمة بعد أن سكن الفتن في العراق والحجاز قصد أن يتوجه إلى المأمون في خراسان؛ ليبين له أن هذه الفتن كلها إنما قامت بسبب الفضل بن سهل وأخيه الحسن لبعده عن العراق، وقد علم الفضل بغرض هرثمة فاستكتب المأمون كتابا بعثه إليه وهو في الطريق يأمره فيه بالعودة ويوليه إمارة الشام والحجاز، فأبى هرثمة أن يرجع إلا بعد مقابلة الخليفة، ولما دخل على الخليفة لم يحسن استقباله وخرج وهو مغضب، ثم إن الفضل هيأ له من يقتله غيلة فوجئت عنقه وديس بطنه حتى مات، فبلغت أخبار هذه القصة أهل بغداد وثار جنود هرثمة على الحسن بن سهل وأنصاره؛ لأنه هو السبب وأجمع رأيهم ورأي الهاشميين في العاصمة على خلع المأمون وتولية المنصور بن المهدي، ولكنه أبى عليهم قبول ذلك، فطالبوه أن يكون أميرا ببغداد وأن يدعو للمأمون، وحلفوا أنهم لا يرضون بالمجوسي بن المجوسي الحسن بن سهل أميرا عليهم، فقبل وتولى إمارة بغداد، ولكن لم يكن في البلد جيش قوي يصون أمنها ويحميها من أهل الفساد، فكثرت فتن الشطار والدعار، وعم التعدي على النساء والصغار، واضطر أهل البلد إلى أن يختاروا من بينهم شخصا أمينا انتقوه من أوساط الشعب يعهدون إليه بأمر المدينة وحفظها، وانتقوا لذلك رجلا اسمه «خالد الدريوش»، وكان سريا قويا محبوبا فعمل على حفظ المدينة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الشطار، وعاونه في ذلك رجل آخر عرف بالفضل والمروءة وهو سهل بن سلامة الأنصاري، وكثرت أتباع هذين الرجلين اللذين لولاهما لعمت الفوضى بالمدينة ولخربها المفسدون والطامعون، ولما استطاع أهلها أن يحموا أنفسهم من الدعار والمجرمين. (4)
فتنة العراقيين بسبب مبايعة المأمون لعلي بن موسى بن جعفر الصادق، فقد وردت بغداد أخبار تفيد أن المأمون، بتدبير الفضل بن سهل، قد اختار لولاية عهده رجلا من آل علي، وهو الإمام علي بن موسى بن جعفر الصادق (عليه السلام)، وسماه «الرضا من آل محمد»، وأمر جنده بخلع السواد شعار بني العباس ولبس الخضرة التي اختارها شعارا للدولة الجديدة، وكتب بذلك إلى الآفاق، فلما سمع العراقيون بذلك وعلموا أن هذا كله من عمل الفضل بن سهل الفارسي؛ لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين علويا، وطالما قاتلوا في سبيل ذلك، فوقعت فتنة عظيمة في العراق، وأخذت هذه الفتنة تقوى حتى كانت سنة 202ه، فأجمع رأي العراقيين على خلع المأمون وتولية عمه إبراهيم بن المهدي، فقبل إبراهيم بذلك، وخلع المأمون وامتد نفوذ إبراهيم على السواد كله والكوفة، وعسكر بالمدائن، وولى الجانب الشرقي من بغداد للعباس بن الهادي، والجانب الغربي لإسحاق بن الهادي.
ولما أبلغ علي بن موسى الرضا هذه الأخبار إلى المأمون وتأكد من صحتها عزم على الرحيل إلى بغداد للقضاء على تلك الفتنة بنفسه، مستصحبا معه وجوه دولته وقادة جنده، ولما وصل سرخس سمع الناس أن الفضل قد مات وهو في الحمام، وكان ذلك في سنة 202ه، ثم استمر المأمون في طريقه حتى إذا بلغ طوس مات فيها علي بن موسى، ويظهر أن المأمون تخلص منهما؛ لأنه يريد أن يدخل بغداد وهو ناف عنه كل ما يمكن أن يثير عليه غضب البغداديين، ثم سار إلى الري قاصدا العراق، وكان كلما زاد اقترابا من بغداد زاد الخطر على إبراهيم بن المهدي، حتى انفض عنه قواده وكاتبوا الحسن بن سهل ليسلموا إليه بغداد ويخلعوا إبراهيم بن المهدي، فلم ير إبراهيم بدا من الهرب، واختفى ليلة 17 ذي الحجة سنة 203ه، ولما وصل المأمون إلى النهروان تلقاه أهل بيته والقادة وهم بالخضرة، فلبسها الناس ثمانية أيام، ثم كلمه خاصته وأهله أن يعود إلى السواد فرجع لبسه، ومن ذلك الحين ابتدأ ملك المأمون الفعلي، وفي سنة 210 ظفر بإبراهيم بن المهدي فحبسه في سجن المطبق. (5)
فتنة نصر بن شبث العقيلي، فقد كان شبث من أشراف بني عقيل القاطنين شمالي حلب، وشيخ قبائل مصر في الشام كله، وكان يحب الأمين، فلما بلغه مقتله وانخذال العرب في العراق، واستلام القواد والأمراء الأعاجم زمام أمر الدولة ثار في سنة 198ه على الدولة المأمونية، فمنع خراج منطقته أن يرسل إلى بغداد، وتغلب على شمال الشام والجزيرة حتى بلغ سميساط وعبر الفرات، وبلغت أخباره الفضل بن سهل فولى طاهر بن الحسين على الموصل والجزيرة والشام والمغرب، كما أسلفنا، وأمره أن يسير من فوره للقاء شبث، فالتقيا، وكانت المعركة الفاصلة بنواحي يكسوم شمالي حلب، فتغلب شبث واضطر طاهر إلى التراجع للرقة، وعظم أمر شبث فأتاه بعض رجالاته وقال له: لو بايعت لبعض آل علي كان أحزم لأمرك، فقال: لا أبايع لبعض أولاد السوادات فيقول إنه خلقني ورزقني، فقال له: بايع بعض بني أمية، فقال: أولئك قوم أدبر أمرهم، وإنما هو في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب؛ لأنهم يقدمون عليهم العجم.
ولما شخص المأمون إلى بغداد أمر عبد الله بن طاهر بن الحسين أن يجدد عزيمته في قتال نصر، وكتب طاهر إلى ابنه عبد الله ذلك الكتاب الرائع الحاوي للآداب السياسية والرياسية والإدارة والأخلاق، مما يجب على كل امرئ أن يحفظه ويعمل به، وشاع بين الناس حتى كتبوه وحفظوه، وبلغ خبره المأمون فدعاه أن يقرأ عليه، فلما قرأه أعجب به وقال له: ما أبقى أبو الطيب (وهو لقب طاهر) شيئا من أمر الدنيا والدين والتدبير والسياسة وحفظ اللسان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكم، وأوصى وأمر فكتب به إلى جميع العمال (انظر الطبري، 10: 258)، وخرج عبد الله بن طاهر للقاء نصر، واستمر القتال خمس سنوات، تارة كان يكون الغلب لهذا وتارة لذاك، ولما شعر نصر بالانخذال والضعف طلب الأمان فلم يجبه المأمون، حتى وطأ بساطه فرفض أولا ثم اضطر فأمنه، ودخل بغداد في صفر سنة 210ه، وخرب عبد الله بن طاهر مدينة يكسوم مقره، ثم فرض المأمون الإقامة الجبرية على نصر بن شبث في مدينة أبي جعفر المنصور. (6)
فتنة الزط: هم قوم رحل من أخلاط الناس يسمون «النور» أو «زيكان» أو «الكاولية» ... وكان من أمرهم أنهم غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا فيها الفساد أثناء الفتنة بين الأخوين، وفي سنة 205ه قوي أمرهم إلى حد أن الناس باتت تخشاهم لما قاموا به من أعمال مخيفة وغارات مزعجة، ولما استقر أمر المأمون ببغداد بعث إليهم عيسى بن يزيد الجلودي، ففرقهم في البراري والأهوار، ولكنهم لم يلبثوا أن عادوا في سنة 206ه، فتجمعوا يعيثون في البلاد فسادا فبعث إليهم داود بن ماسجور فتفرقوا من جديد، ويظهر أنهم كانوا إذا ضيقت عليهم الجنود يتفرقون في الصحاري والقرى والدساكر فتصعب محاربتهم، وقد ظلوا هكذا يتجمعون ويتفرقون ويعيثون ويفتكون حتى جاء عهد المعتصم، فبعث إليهم من يفتك بهم في سنة 219ه وقتل منهم مقتل عظيمة، فانقطعت أخبارهم مدة ثم عادوا إلى الظهور بعد في أيام المتوكل. (7)
فتنة بابك الخرمي: خرج بابك الخرمي في سنة 201ه/816م في كورة «البند» شمالي إيران في «مازندران» قرب «أذربيجان»، فأعلن الثورة على الإسلام والدعوة إلى دين الفرس وإحياء دين مزدك، وقد فصل ابن النديم في «كتاب الفهرست»، والبغدادي في كتاب الفرق، ما دعا إليه بابك وهذا موجزه: الخرمية أو الخرمدينية (الأولون) ويسمون أيضا المحمرة، وصاحبهم مزدك الذي أباح لمتابعيه تناول اللذات والاعتكاف على الشهوات، والمشاركة بين الناس في الطعام والحرم والمال، وتحريم القتل، وقد حاربهم الملك كسرى أنوشروان لما ظهروا وقتل صاحبهم، والمتأخرون يسمونهم البابكية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أوائل القرن الثالث، وكان يقول إنه إله، وإنه يجدد دين المحمرة، ولكنه يبيح لأتباعه قتل مخالفيهم ومحاربتهم والفتك بهم.
ظهر بابك بحركته والمأمون بعد في «مرو»، والبلاد لم تستقر، فقوي أمره وكثرت أنصاره وضاق الناس بحركته وعيثه، ولما دخل المأمون بغداد بعث يحيى بن معاذ لمحاربة هؤلاء، فلم يفلح في القضاء عليهم فعزز الجيش بجيش ثان على رأسه عيسى بن محمد فلم يفلح، فثلث بجيش على رأسه أحمد بن الجنيد الإسكافي فأسره بابك، فبعث المأمون محمد بن حميد الطوسي فقتله بابك في سنة 214، وأخذ سلطانه يقوى في «أذربيجان» و«همذان» و«أصفهان» و«ماسبذان» حتى مات المأمون وفتنة بابك في أوجها، ولما حضرته الوفاة أوصى أخاه المعتصم بالفتك بالخرمية، ومما قاله له: «والخرمية فأغزهم ذا جزامة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه»، وسنرى بعد التفصيل أمرهم فيما بعد. (4) الأحوال الخارجية
كان المأمون في أول عهده بعيدا عن العاصمة فلم يهتم بشئون الدولة الخارجية وخصوصا بالروم، ولكنه بعد أن عاد إلى بغداد عزم على أن يجدد سياسة ابنه في غزوهم، فتوجه في سنة 205ه لقتالهم واستخلف على العاصمة إسحاق بن إبراهيم بن صعب، فسار إلى الموصل فمنبج فأنطاكية فطرطوس، وهي الثغر الإسلامي القوي، وهناك عبأ قواه وسار إلى بلاد الروم ففتح حصن قرة وأمر بهدمه، ثم اشترى الأسرى المسلمين وأعتقهم، وأعطى كلا منهم دينارا، ثم بعث قواده لفتح حصون «سندس» و«سنان»، ثم قفل راجعا إلى بلاد الشام ومصر، وبينما هو في مصر علم أن تيوفيل بن ميخائيل ملك الروم قد هجم على «طرطوس» و«المصيصة» وأثخن في القتل (انظر تاريخ ابن خلدون، 3: 256) فرجع المأمون إلى بلاد الروم وقاتلهم وأخضع ملكهم وأخضع مدينة هرقلة، وافتتح عددا من الحصون وهدم القلاع والمطامير (تاريخ اليعقوبي، 3: 192؛ وتاريخ الطبري، 10: 281)، وطلب إليه تيوفيل الصلح، وأن يعيد إليه الحصون والقلاع على أن يعطيه مائة ألف دينار والأسرى المسلمين الذين كان عددهم سبعة آلاف، فلم يجبه المأمون على طلبه عازما على استمرار حربه (تاريخ اليعقوبي، 3: 192).
وفي سنة 217ه جدد المأمون غزو بلاد تيوفيل ثالث مرة فحاصر «حصن لؤلؤة» أكثر من ثلاثة أشهر، ثم رحل عنها وخلف عليها قائده عجيفا فاختدعه الروم وأسروه، وكتب تيوفيل إلى المأمون كتابا يقول فيه: «أما بعد؛ فإن اجتماع المختلفين أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما، ولست حريا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسالمة، راغبا في فضيلة المهادنة؛ لنضع أوزار الحرب عنا، ويكون كل واحد لكل واحد وليا وحزبا ، مع إنضال المرافق والفسح في المتاجر وفك المستأسر وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فإني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها، شان عليك خيلها ورجلها.» فأجابه المأمون بكتاب يقول فيه: «بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة، مما استعطفت به من فسح المتاجر واتصال المرافق وفك الأسارى ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من إعمال التؤدة والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وأن لا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في إصلاح ما أوثره في مغبته، لجعلت جوابك خيلا تحمل من أهل البأس والنجدة والبصيرة ينازعونكم عن ثكلكم، ويتقربون إلى الله بدمائكم، غير أني أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك ففي يقين المعاينة لقوتنا ما يغني عن الإبلاغ والقول والإغراق في الصفة.»
1
ثم شرع المأمون في التفكير لفتح بلاد الروم، وفي أول سنة 218ه حصن مدينة «الطونة» وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وأخذ يخزن القوت ويجمع القواد في العواصم والثغور من العراق والشام ومصر وخراسان وبلاد العرب استعدادا لحرب طويلة؛ يقول اليعقوبي: «استعد لحصار عمورية، وقال أوجه إلى العرب فآتي بهم من البوادي، ثم أنزلهم كل مدينة مفتوحة حتى أخرب القسطنطينية»، فلما بلغ إمبراطور الروم ذلك طلب مهادنة بينهما فرفض المأمون، وقصد بلاد الروم ونزل طرسوس يستعد لحملة الحرب الكبرى، ولكن أجله وافاه فجأة رحمه الله. (5) الأحوال الإدارية (5-1) الوزارة
يقسم الفقهاء المسلمون وأصحاب كتب الأحكام السلطانية والإدارة الوزارة إلى قسمين؛ «وزارة تنفيذ» و«وزارة تفويض»، أما «وزارة التنفيذ» هي التي يكون فيها الوزير منفذا لأوامر الخليفة وحسب، فليس له التصرف بشئون الدولة من تلقاء نفسه؛ أي إنه لم يكن إلا وسيطا بين الخليفة والناس، وهكذا كان الوزير في عهد العباسيين الأول إلى عهد الهادي، أما بعد ذلك فقد انقلب الأمر إلى «وزارة تفويض» وهي التي يعهد الخليفة فيها إلى رجل يفوض إليه أمور دولته والتصرف بأموالها دون الرجوع إليه، وقد أورد الماوردي في كتابه القيم «الأحكام السلطانية» بحثا استوفى فيه أحوال الوزارتين، نلخصه فيما يلي:
وزارة التفويض
أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضائها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، فقد قال تعالى حكاية عن موسى:
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري ، فإذا جاء ذلك في النبوة كان في الوزارة أجوز، وقد عدد الماوردي الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يقلدها، ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة
2
إلا النسب وحده؛ لأنه ممضي الآراء منفذ الاجتهاد، فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين، ويحتاج فيها إلى شرط زائد وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمري الحرب والخراج، خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما، فإنه مباشر لهما ومستنيب فيهما، حكي أن المأمون رضي الله عنه كتب في اختبار وزير: «إني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير ذا عفة في أخلاقه واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، إن ائتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة وتضنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء وتواضع العلماء وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه.» وقد جمع بعض الشعراء هذه الشروط فأوجزها، ووصف بعض الوزراء الدولة العباسية فقال:
بديهته وفكرته سواء
إذا اشتبهت على الناس الأمور
وأحزم ما يكون الدهر يوما
إذا أعيا المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع
إذا ضاقت من الهم الأمور
أما «وزارة التنفيذ» فحكمها أضعف وشروطها أقل؛ لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسيط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما حكم، ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم، ويراعى فيه سبعة أوصاف:
أحدها الأمانة ، والثاني صدق اللهجة، والثالث قلة الطمع، والرابع أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء، الخامس أن يكون ذكورا لما يؤديه للخليفة وعنه، السادس الذكاء والفطنة، السابع ألا يكون من أهل الأهواء.
وكانت الوزارة في عهد المأمون الأول، أيام كان في مرو، وزارة تفويض، فقد فوض أمرها إلى الفضل بن سهل الذي كان له الفضل في إيصاله إلى الحكم فأطلق يده في الدولة وسماه ذا الرياستين؛ رياسة الحرب ورياسة التدبير، وكتب المأمون بذلك للفضل توقيعا قال فيه: «أغنيت يا فضل بمعاونتك إياي على طاعة الله وإقامة سلطاني، فرأيت أن أغنيك ... وقد أقطعتك السيب بأرض العراق عطاء لك ولعقبك لما أنت عليه من النزاهة عن أموال رعيتي، ولما قمت به من حق الله وحقي، وقد جعلت لك بعد ذلك مرتبة من يقول في كل شيء فيسمع منه، ولا تتقدمك مرتبة أحد ما لزمت ما أمرتك به من العمل لله ونبيه، والقيام بصلاح دولة أنت ولي بقيامها ...»
3
ويظهر أن الفضل قد استولى على كل شيء في الدولة، حتى على المأمون نفسه، فعزل وولى، وجعل أخاه واليا على العراق مسيطرا على بغداد، وقرب الفرس وأبعد العرب، وتظاهر بمذاهب الأكاسرة وطرائقهم ومظاهرهم، يقول الجهشياري (في كتاب الوزراء والكتاب، ص316): «كان ذو الرياستين يجلس على كرسي مجنح، ويحمل فيه إذا أراد الدخول على المأمون فلا يزال يحمل حتى تقع عليه عين المأمون، فإذا وقعت وضع الكرسي، ونزل عنه فمشى وحمل الكرسي حتى يوضع بين يدي المأمون، ثم يسلم عليه ذو الرياستين، ويعود ويقعد عليه ... وإنما ذهب ذو الرياستين في ذلك مذهب الأكاسرة، فإن وزيرا من وزرائها كان يحمل في مثل ذلك الكرسي ويقعد بين أيديها عليه.»
والحق أن بقاء المأمون في خراسان، وتقليم أظافر العرب في ديارهم وتقويته مخالب الفرس، ما هو إلا تأييد للسياسة الفارسية وإحياء للدولة الكسروية، ولو لم يقتله المأمون في شعبان سنة 202 بطريق الحيلة على الشكل الذي رأينا لظل تحت رهبوته، ولم يستطع حتى بعد قتله أن يقطع صلة له بأسرته، فاستوزر أخاه الحسن لمدة قصيرة، وتزوج ببنته بوران ترضية، ثم قطع آخر صلة له لهذه الأسرة حين عزل الحسن، وولى أحمد بن أبي خالد الأحول، وكان من خيار الوزراء ومدبريهم، جذب قلوب الناس نحو إمامه، وأحسن سياسة الأمور، ولم يكن فيه عيب سوى شراهته في الطعام، فكان الناس يترقبون إليه في المآكل، وقد أخذ عليه ذلك إلى أن مات سنة 211ه، فولى المأمون وزارته ابن يوسف الكاتب، وكان من خيرة الكتاب وأجودهم خطا وأكثرهم فضلا، فأحبه المأمون لفضله ونبله، ولكن بعض بطانته حسدوه فأفسدوا قلب الخليفة عليه فعزله، ثم استوزر القاضي يحيى بن أكثم التميمي، وكان من جلة العلماء والفقهاء والمحدثين، وجمع له قضاء القضاة مع الوزارة، ويظهر أن تولية يحيى بن أكثم أمر الوزارة مع القضاء جعلته يشتهر بالقضاء أكثر من الوزارة، حتى إن ابن طباطبا لم يذكره في كتابه الفخري في عداد وزراء المأمون، وإنما ذكر وزارة يحيى بن ثابت الرازي بعد وزارة أحمد بن يوسف، وكان ثابت بن يحيى الرازي كاتبا حاذقا بالحساب، إلا أنه أهوج محمق سريع الغضب، ولم تطل وزارته، فولاها بعده محمد بن يزداد بن سويد الخراساني، وكان أديبا بارعا حاسبا، فوض إليه المأمون جميع أموره ومات وهو وزيره، ويظهر أن المأمون في آخر أمره أراد أن يستعين بوزير كفء يعتمد عليه، فاختار ابن سويد واطمأن إليه ، حتى إنه فوض إليه وزارته لما كان يتمتع به من حسن الخلق والأمانة والإدارة الحسنة والعلم الوافر والسياسة البارعة. (5-2) الخراج
سار المأمون في الأمور المالية من خراج وجباية وضرائب على سيرة أبيه مستنيرا بكتاب الإمام القاضي أبي يوسف، فازدهرت البلاد اقتصاديا في عهده وانتعش بيت المال لحسن سيرة الخليفة وترتيب أمور الجباية، وقد حفظ لنا ابن خلدون في تاريخه وثيقة قيمة جدا ذكرها في المقدمة نقلا عن كتاب جراب الدولة عدد الأقاليم الإسلامية في عهد المأمون ومقدار جبايتها من الدراهم والدنانير والعروض، ولا بأس من إيراد نص تلك الوثيقة لقيمتها التاريخية النفيسة، ولأنها تعطينا صورة حقيقية عن غنى الدولة ومواردها وموازنتها، قال ابن خلدون: «وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة:
جدول مقدار موارد الدولة العباسية في عصر المأمون بالدراهم والعروض. *
الأقاليم
الجباية من الدراهم
الجباية من العروض
السواد
27800000 درهم
200 حلة نجرانية 240 رطلا من طين الختم
كسكر
11600000 درهم
كور دجلة
20800000 درهم
حلوان
4800000 درهم
الأهواز
25000000 درهم
30000 رطل سكر
فارس
27000000 درهم
30 ألف قارورة ماء ورد، 20 ألف رطل زيت أسود
كرمان
4200000 درهم
5000 ثوب يماني و20 ألف رطل تمر
مكران
400000 درهم
السند وما يليه
11500000 درهم
150 رطل عود هندي
سجستان
4000000 درهم
200 ثوب معين و20 رطل سكر فانيذ 2000 نقرة فضة و4000 برذون
خراسان
28000000 درهم
1000 رأس رقيق و20000 ثوب متاع و30000 رطل إهليلج
جرجان
12000000 درهم
1000 شقة أبريسم
قومس
1000000 درهم
5000 نقرة فضة
طبرستان والرويان ودنباوند
6300000 درهم
600 قطعة قرش طبري و200 كساء 500 ثوب و300 منديل و300 جام
الري
12000000 درهم
20 ألف رطل عسل
همذان
11300000 درهم
1000 رطل رب رمان و12000 رطل عسل
المجموع
207700000 *
انظر مقدمة ابن خلدون، ص210، في فصل عنوانه: «إن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها».
بقية جدول موارد الدولة العباسية في عصر الخليفة المأمون بالدراهم والعروض.
الأقاليم
الجباية من الدراهم
الجباية من العروض
ما بين البصرة والكوفة
10700000 درهم
ماسبذان والدينور
4000000 درهم
شهرزور
6700000 درهم
الموصل وما إليها
24000000 درهم
20 ألف رطل عسل أبيض
أذربيجان
4000000 درهم
الجزيرة وعمل الفرات
34000000 درهم
1000 رأس رقيق و12 ألف زق عسل، 10 بزاة و20 كساء
أرمينية
13000000 درهم
20 قسط محفور و530 رطل رقم، 10 آلاف رطل من المسايح *
10 آلاف رطل سونج و200 بغل و30 مهرا
برقة
1000000 درهم
إفريقية
13000000 درهم
120 بساطا
المجموع
96400000
المجموع العام
304100000 *
المسايح أو السورما: نوع من السمك المجفف.
جدول مقدار موارد الدولة العباسية في عصر الخليفة المأمون بالدنانير والعروض.
الأقاليم
الجباية من الدنانير
الجباية من العروض
قنسرين
400000 دينار
1000 حمل زبيب
دمشق
420000 دينار
الأردن
97000 دينار
فلسطين
310000 دينار
300000 رطل زيت
مصر
2920000 دينار
اليمن
370000 دينار
سوى المتاع [لم يذكر]
الحجاز
300000 دينار
المجموع
4817000
مناقشة الجداول الثلاثة السابقة
هذه الجداول تبين لنا مقدار المال المأخوذ من الأقاليم الإسلامية، كما تبين لنا ثروة كل إقليم من هذه الأقاليم؛ لأن الضرائب كانت تؤخذ بنسبة الثروات، وتبين لنا أنواع البضائع التي كانت متوفرة في كل إقليم من الأقاليم المذكورة، والجداول المذكورة تكشف لنا عن مقدار الثروة الضخمة التي كانت ترد إلى بيت المال، ويظهر في العاصمة الإسلامية الكبرى أن عهد الرشيد أغنى عهد الدولة العباسية، فقد قال جميل المدور (في كتاب حضارة الإسلام في دار السلام، ص178): «إنه لم يسمع عن دخل دولة من الدول الخلفاء أنه تجاوز القدر الذي يحمل إلى بيت المال في زمنه (أي زمن الرشيد) مع أنه كان يسلك مع الرعية مسلك الحاكم العادل ولا يضرب عليهم الخراج إلا على قدر ميسرتهم، وإن كان قد زال عنه القليل، مما كان يحمل إلى بيت المال سابقا من المغرب العربي، فقد استعاض عنه بالقليل مما فرض على بلدان النصرانية التي كان غلب عليها الروم من الأموال التي لا يصح أخذها من المسلمين كالخراج والعشور.»
وكان المأمون ينفق هذه الأموال كلها في مصالح الدولة العامة من جيش وإدارة وعمارة ونشر للعلم والحضارة. (6) الحياة العقلية في عهده
ارتفعت الحياة العقلية بكافة نواحيها في عصر المأمون، فهو العصر الذهبي الرائع للحضارة الإسلامية، وهو عصر الازدهار حقا، وما ذلك إلا أن البذرة التي كان بذرها المنصور وتعهدها المهدي والرشيد قد ازدهرت في عهده وآتت أكلها وثمراتها، ثم إن المأمون نفسه كان عالما يحب العلم ويقرب أهله ويغدق عليهم، كما كان ينقب عن المخطوطات من يونانية وأجنبية بصورة عامة، فيجمعها ويعمل على ترجمتها، ويغدق على المترجمين.
وقد حفظ لنا ابن النديم في «الفهرست» وابن أبي أصيبعة في «تاريخ الحكماء» والقفطي في «طبقات الحكماء» أسماء المترجمين وما كان ينفقه عليهم، وعلى نشر هذه المعربات.
أما العلوم الإسلامية من فقه وأصول وحديث وكلام ولغة وأدب وشعر فقد بلغت أوجها في عهده، ونبغ من رجالاتها أئمة كبار كانوا عمدة التأليف وأئمة التصنيف، وقد خلفوا للمكتبة العربية آلافا من التصانيف المفيدة في كل فرع من فروع العلم.
وكذلك كان الأمر في العلوم اليونانية من طبيعية وفلسفية ورياضية وطبية، وقد حكى ابن النديم (في كتاب الفهرست، ص243): «إن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا بحمرة، واسع الجبهة مقرون الحاجب، جالس على سريره، وكأني بين يديه وقد ملئت منه هيبة، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس، فسررت به، وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال: سل، قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسنه العقل، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسنه الشرع، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم.» وكانت بين المأمون وملوك الروم مراسلات، طلب المأمون فيها منهم إنفاذ ما عندهم من مختار علوم الأولين فأجابوه إلى ذلك، وبعث إليهم المترجمين الأربعة؛ الحجاج بن مطر، ويوحنا بن ماسويه، ويحيى بن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة، فسافروا واختاروا بعض الكتب العلمية وشرعوا في ترجمته ونشره، وفي عهد المأمون وجدت جماعة من العلماء الأغنياء اعتنوا بالعلوم الدخيلة عنايته، فنقلوا كثيرا من الكتب أمثال؛ أحمد ومحمد والحسن أبناء شاكر المنجم، وهم الذين أنفذوا حنين بن إسحاق إلى بلاد الروم لجلب الكتب العلمية الرومية وترجمتها، ووظفوا للمترجم حبيش بن حسن وثابت بن قرة مبالغ من المال للاهتمام بالترجمة، وكانوا ينفقون عليهم في الشهر نحوا من «500» دينار، قال ابن خلكان: «إن المأمون كان مغرما بعلوم الأوائل وتحقيقها.» هو الذي حقق مباحث دورة الكرة الأرضية بعناية بني محمد بن موسى وأخويه أحمد والحسن الأئمة الأعلام في علوم الفلسفة والحكمة والنجوم والموسيقى والهندسة وعلم الحيل «الميكانيكا»، ومن الفلاسفة الكبار الذين كان لهم مكان رفيع لدى المأمون فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي حفيد الأشعث بن قيس.
ويجب أن لا ننسى أن للفلاسفة السوريين في حران وأنطاكية فضلا كبيرا في نقل علوم الأولين إلى العربية، وقد جمع المأمون في دار كتبه الضخمة المسماة «بيت الحكمة» كنوز العلم وآثاره من إسلامية وغير إسلامية، وكانت هذه الخزانة مفتوحة الأبواب أمام العلماء الذين يريدون الدراسة والتحقيق، ولم يكن الخليفة بعيدا عن أمور البحث؛ وكالدراسة والمناقشة فيما تضمنته هذه الكنوز العلمية، وقد استطاع الفلاسفة الدينيون المعروفون بالمعتزلة أن يثيروا شوق الخليفة للاهتمام بالمناقشات الفلسفية التوحيدية؛ فاعتنق نظرياتهم ومذهبهم في القول بخلق القرآن حتى إنه جعله العقيدة الرسمية للدولة، وأمر بامتحان جميع الذين يرفضون القول بها، وقد بالغ في ذلك إلى درجة التعصب، حتى اضطهد جماعة من العلماء الذين أنكروها كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ممن لم يستطيعوا أن يؤمنوا بخلق القرآن.
يقول المؤرخ الهندي السيد أمير علي في كتابه «تاريخ العرب» (ص235): كان عصر المأمون ألمع عصور الحضارة العربية على وجه الإطلاق، فسمي، بحق، العصر الإسلامي الذهبي، ولا مشاحة في أن العشرين سنة التي قضاها في الحكم قد تركت كنوزا زاخرة من الثروة الفكرية، ولم تقتصر هذه النهضة على ناحية معينة من العلوم والآداب، بل شملت نواحي التفكير والثقافات، وكان المأمون لا يؤثر مذهبا أو جنسا خاصا، بل أباح الاستخدام في مناصب الحكومة لجميع المتعلمين على اختلاف أديانهم، كما أنشأ مجلسا استشاريا للدولة يتألف من ممثلي جميع الطوائف، وأصبح هذا الديوان يضم المسلمين واليهود والمسيحيين والصابئين على حد سواء،
4
والحق أنه أحيا دولة العلم والأدب والفكر والترجمة، وكان يعقد المناظرات والمحاورات، وكان بلاطه يعج بأهل العلم والفلاسفة الذين أحيوا الحركات العقلية الزاهرة التي كانت في معاهد أثينا والقسطنطينية، ولولا ما أخذ عليه من شدة تحمسه لمذهب المعتزلة، وحمل الناس على الاعتقاد به لكانت الحركة العقلية التي ازدهرت في عصره حركة لا تشوبها شائبة، ولكن تحمسه لهذا المذهب العقلي الذي استهواه جعله يذهب هذا المنصب الغريب. (7) الحياة الاجتماعية في عصره
استمرت الحياة الاجتماعية التي وصفناها في عصر الرشيد أيام ابنيه الأمين والمأمون، ولا شك في أن الفتنة التي وقعت بين الأخوين قد أفسدت بعض مظاهر الحياة الاجتماعية بعض الإفساد، ولا أدل على ذلك من إيراد بعض المقطوعات الشعرية التي قالها بعض الشعراء المعاصرين للفتنة، ممن حفظ لنا الطبري أشعارهم.
قال شاعر من أهل بغداد لما رأى اضطراب الوضع في مدينته وتشاغل محمد الأمين عن النظر في أحوالها، واهتمامه بما لا طائل تحته وبحمله الناس على مبايعة ابنه:
5
أضاع الخلافة غش الوزير
وفسق الإمام وجهل المشير
وما ذاك إلا طريق غرور
وشر المسالك طرق الغرور
ففضل وزير وبكر مشير
يريدان ما فيه حتف الأمير
وأعجب من ذا وذا أننا
نبايع للطفل فينا الصغير
ولكنها فتن كالجبال
ترفع فيها الوضيع الحقير
فصبرا ففي الصبر خير كبير
وإن كان قد ضاق صبر الصبور
وقال بعض أهل بغداد أثناء حصار طاهر بن الحسين للأمين:
6
قل للأمين الله في نفسه
ما شتت الجند سوى الغاليه
وطاهر، نفسي تقي طاهرا
برسله والعدة الكافيه
أضحى زمام الملك في كفه
مقاتلا للفئة الباغيه
يا ناكثا أسلمه نكثه
عيوبه من خبثه فاشيه
قد جاءك الليث بشداته
مستكلبا في أسد ضاريه
فاهرب ولا مهرب من مثله
إلا إلى النار أو الهاويه
وقال شاعر من أهل الجانب الغربي يصف اضطراب مدينة بغداد ويذكر قتل الناس بالمنجنيق والحجارة:
7
لا تقرب المنجنيق والحجرا
فقد رأيت القتيل إذ قبرا
باكر كي لا يفوته خبر
راح قتيلا وخلف الخبرا
يا صاحب المنجنيق ما فعلت
كفاك لم تبقيا ولم تذرا
كان هواه سوى الذي قدرا
هيهات لن يغلب الهوى القدرا
وقال آخر:
يا رماة المنجنيق
كلكم غير شفيق
ما تبالون صديقا
كان أو غير صديق
ويلكم تدرون ما
ترمون مرار الطريق
رب خود ذات دل
وهي كالغصن الوريق
أخرجت من جوف دنيا
ها ومن عيش أنيق
لم تجد من ذاك بدا
أبرزت يوم الحريق
وقال العتري:
8
من ذا أصابك يا بغداد بالعين
ألم تكوني زمانا قرة العين
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينا من الزين
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا
ماذا لقيت بهم من لوعة البين
أستودع الله قوما ما ذكرتهم
إلا تحدر ماء العين من عيني
وقال الحسين الخليع:
9
أتسرع الرحلة إغذاذا
عن جانبي بغداد أم ماذا
ألم تر الفتنة قد ألفت
إلى أولي الفتنة شذاذا
وانتقضت بغداد عمرانها
عن رأي لا ذاك ولا هذا
هدما وحرقا قد أبيد أهلها
عقوبة لاذت بمن لاذا
ما أحسن الحالات إن لم تعد
بغداد في القلة بغداذا
وقال الخزيمي قصيدة رائعة في مائة وخمسة وثلاثين بيتا من عيون الشعر يصف اضطراب الأمر في بغداد وما آلت إليه حالتها الاجتماعية والعمرانية من خراب وفوضى، ذكرها الطبري في تاريخه (10: 176-181)، وإليك بعض أبياتها:
قالوا ولم يلعب الزمان ببغ
داد وتعثر بها عواثرها
إذ هي مثل العروس بادي
ها مهول للفتى وحاضرها
وهل رأيت القرى التي غرس الأم
لاك مخضرة دساكرها
محفوفة بالكروم والنخل والري
حان قد دميت محاجرها
فإنها أصبحت خلايا من الإن
سان قد بليت مفاخرها
قفرا خلاء تعوي الكلاب بها
ينكر منها الرسوم زائرها
وأصبح البؤس ما يفارقها
إلفا لها والسرور هاجرها
فأين رقاصها وزامرها
يجبن حيث انتهت حناجرها
أمست كجوف الحمار خالية
يسعرها بالجحيم ساعرها
يا بؤس بغداد دار مملكة
دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها
لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبا
لحرب التي أصبحت تساورها
رق بها الدين واستخف بذي ال
فضل وعزر النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده
بالرغم واستعبدت مخادرها
والكرخ أسواقها معطلة «يستن» عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها
آساد غيل غلبا تساورها
والخيل تستن في أزقتها
بالترك مسنونة خناجرها
والنفط والنار في طرائقها
وهابيا للدخان عامرها
والنهب تعدو بها الرجال وقد
أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة قد
أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة
لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت
للناس منشورة غدائرها
تسأل أين الطريق والهة
والنار من خلفها تبادرها
يا هل رأيت الثكلى مولولة
في الطرق تسعى والجهد باهرها
في إثر نعش عليه واحدها
في صدره طعنة يساورها
هكذا كان أهل بغداد إبان الفتنة، ولكن ما عتمت أن استعادت حياتها الاجتماعية المرحة في عهد المأمون، فأعيد بناء الدور والأسواق المهدمة، وتوجهت عناية الخليفة إلى إعادة بناء ما تهدم من المؤسسات العامة؛ كالمسجد والكتاتيب والحمامات والجسور والقناطر والخانات والأفران، حتى عاد بناء المدينة إلى مثل ما كان عليه قبلئذ، ورجع الترف عند البغاددة إلى ما كان عليه سابقا تشبها بالخليفة وآل بيته ورجاله في أفراحهم وحفلاتهم ومواسمهم وأعيادهم، ولا بأس من أن نقف وقفة قصيرة أمام حفلة بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان سنة 210، قال الطبري (التاريخ، 10: 273): لما فرغوا من الإفطار وغسلوا أيديهم دعا بشراب فأتي بجمام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن فتباطأ عنه الحسن؛ لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك، ولما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف، وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوما، يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القواد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ النفقة عليه خمسين مليون درهم، وأمر المأمون غسان بن عباد عند منصرفه أن يدفع للحسن عشرة ملايين من مال فارس وأقطعه «فم الصلح»، فجلس ففرقها في قواده وأصحابه وخدمه، وكتب الحسن رقاعا فيها أسماء ضياعه ونثرها على القواد وعلى بني هاشم، فمن وقعت في يده رقعة فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها، ولم يكن وجوه البغاددة أقل إسرافا في أفراحهم ومواسمهم من الحسن، فقد كان مال الأرض ينصب في بغداد، فيوزعه الخليفة على الجند والقادة، وهم بدورهم يوزعونه على الأهلين الذين أثروا وبنوا القصور والدور والبساتين والجنان، واقتنوا المتاع والرياش والفرش والديباج والغلمان، وآلات الزينة والصيد والطعام والشراب والطيب والمراكب والخيول والحلي والملابس وغير ذلك مما حفل فيه كتب: «الأغاني» و«حلبة الكميت» و«أعلام الناس» و«أعجب المخلوقات» و«المستطرف» و«تزيين الأسواق» و«ألف ليلة وليلة». (8) الحياة الاقتصادية في عصره
كتبنا في الفصل الخاص بالرشيد شيئا عن الحياة الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة، ونريد في هذا الفصل أن نبين بعض ما أهملنا بيانه في ذلك الفصل، فإنه مكمل له.
أما الزراعة:
فقد شجع المأمون الناس على العناية بالأرض، وأوصى وزراءه وعماله أن يعنوا بالري ونواظم الماء وكري الأنهار وشق الأقنية، وعدم التشديد على الناس في الجباية، والرفق بأصحاب الأرضين، وكان القاضي أبو يوسف قد اقترح على الرشيد إنقاص مقدار الخراج، وجعله مقاسمة على النصف؛ أي خمسين بالمائة، فقبل الرشيد اقتراحه، وفي سنة 172ه أنقص الرشيد مقدار الخراج بحذف العشر الذي كان يؤخذ بعد النصف كما يذكر الطبري (التاريخ، 10: 51)، واستمرت الجباية على هذا طوال عهد الرشيد والأمين والمأمون إلى سنة 204ه، فإنه جعل مقاسمة أهل السواد بالخمسين بدل النصف،
10
وطلب إلى عامله على خراسان حط ربع الخراج عن مقاطعاتها،
11
ولما بعث عبد الله بن طاهر لتهدئة الفتنة التي وقعت بين النزارية والقحطانية سنة 210ه بالشام أذن له في حط الخراج عن بعض البلاد الشامية، كما يذكر اليعقوبي (التاريخ، 2: 191) ولكنه لا يعين لنا ذلك المبلغ المحطوط، وأغلب ظننا أنه جعله كالسواد؛ أي بأخذ الخمسين لبيت المال وإبقاء ثلاثة الأخماس لأصحاب الأرض، ولما كان المأمون في سنة 214ه بدمشق طلب أن تمسح الأراضي على أيدي مساحين من العراق والأهواز والري، فمسحت ثم فرض عليها الضرائب المستحقة دون إجحاف بالأهلين، وأوصى عماله بحسن السيرة في الجباية، وتخفيف المئونة وكف الأذى عن الناس،
12
هذا؛ ولا بد من الإشارة إلى نص ينقله الأستاذ ميتز عن المؤرخ ديونيسيوس
Dionysius ، وهو أن جباة الخراج في العراق حوالي عام 200ه/815م هم قوم من العراق والبصرة والعاقول، وهم عتاة ليس في قلوبهم رحمة ولا إيمان، شر من الأفاعي يضربون الناس ويحبسونهم ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد حتى يكاد يموت، ولا شك في أن بعض عمال المأمون كانوا يطبقون هذه الأحكام القاسية على المزارعين، ولم يخل زمان من جلادين وظلمة، فقد ذكر المقريزي (الخطط، 2: 99) أن العباس بن موسى بن عيسى والي مصر من قبل المأمون على الخراج والصلات قد تحامل على الرعية وعسفها وتهدد الجميع فثاروا عليه.
وأما التجارة:
فقد بلغت في العراق أيام العصر العباسي الأول أوجها، وبخاصة في عصر المأمون، فقد استتبع الرقي الزراعي رقي تجاري وخصوصا حين أوغلت البلاد في الترف، وقد أدى هذا الإيغال إلى توسع التجارة وقيام مؤسسات مالية وتجارية فردية أو جماعية نجد أثرها في كتب الفقه وكتب الأحكام السلطانية والخراج، وكان طبيعيا أن تنمو دور الصيرفة.
وأما الطرق التجارية المعروفة يومئذ فهي إما برية وإما بحرية، والبحرية لها طريقان مشهوران؛ أولهما: البصرة، فسيراف على خليج البصرة، فموانئ الهند، فسيلان، فخليج، فسومطرة، فكمبوديا، فكانتون التي كان يسميها العرب خانقو، وثانيها: طريق مبدؤه من القلزم وجدة وعدن، ثم يسير إلى ساحل إفريقية الشرقية حتى موازبيق.
13
أما التجارة البرية فطرقها كثيرة وأشهرها الطرق الآتية: (1)
طريق الشرق:
ويبدأ من بغداد إلى حلوان، فإلى همذان وقزوين والري ونيسابور، فمرو وبخارى وسمرقند وخوارزم. (2)
طريق الغرب:
ويبدأ من بغداد إلى الرقة فالشام فمصر فشمالي إفريقية، فالأندلس وبلاد الإفرنج. (3)
طريق الشمال:
من بغداد إلى الموصل فالجزيرة فحلب فبلاد الروم فأوروبا الشرقية. (4)
طريق الجنوب:
من بغداد إلى الكوفة فالحجاز فاليمن وهو طريق الحج، ومما تجدر الإشارة أن النصارى واليهود وأهل الذمة على العموم قد لعبوا دورا كبيرا في تقدم التجارة العربية، وفي تنظيم التجارة العربية وبخاصة إلى إسبانيا والصين وأوروبا الشرقية والغربية.
أما أساليب التبادل التجاري فكانت على أنواع وهي: (1)
التقايض وذلك باستبدال البضائع المجلوبة ببضائع أخرى تصدرها البلاد الإسلامية. (2)
الشراء بالعملات العربية أو العملات الأجنبية. (3)
استعمال السفاتج المالية والصكوك.
وقد شاعت في بلاد الإسلام العملات الذهبية والفضية، على أن بعضها يختلف عن بعض، فبلاد فارس والغرب كانت عملتها الغالبة الدراهم الفضية، وكذلك كان الأمر في العراق، أما الشام ومصر والحجاز واليمن وشمال إفريقية فكان الأكثر استعمال الدنانير الذهبية، ويذكر يحيى بن آدم في «كتاب الخراج» أن العملة في العراق هي الدراهم، وفي الشام الدينار، وفي مصر الدينار أيضا، أما بلاد فارس والمشرق فتستعمل الدراهم لا الدنانير، وقد لاحظنا ذلك في الجداول التي نقلناها عن ابن خلدون.
وكانت معاملات بيت مال الخلافة أكثر ما تكون بالدراهم، والدرهم على الأكثر يساوي «6» دوانق، والدانق «12» قيراطا، والقيراط «24» طسوجا، والطسوج «48» حبة، أما الدينار فيختلف صغيرا وكبيرا وقيمة وجنسا، وقد كان في القرنين الثالث والرابع يساوي نحو «24» درهما.
أما أشهر الناس بالتجارة في ذلك العصر فهم العراقيون والمصريون خاصة ثم اليمنيون، يقول ابن الفقيه الهمذاني في «كتاب البلدان» (ص290): «وقالوا: أبعد الناس نجعة في الكسب بصري أو حميري.»
والمدينة التجارية الوحيدة التي كانت تلي بغداد في التجارة ذلك العصر هي الإسكندرية، قال المستشرق ميتز:
14 «صارت التجارة الإسلامية هي السيدة في بلادها، وكانت سفن المسلمين وقوافلهم تجوب كل البحار والبلاد، وكانت الإسكندرية وبغداد هما اللتان تقرران الأسعار للعالم في ذلك العصر، للبضائع الكمالية على الأقل، وكان التجار اليهود الذين يأتون من مقاطعة بروفانس بفرنسا يسمون عند المسلمين في القرن الثالث باسم مجرد وهو «تجار البحر»، وقد وصفهم المسلمون بأنهم يسافرون بين الشرق والغرب ويحملون من «فرنجة» الخدم والغلمان والجواري والديباج والخبز الفائق والفراء والسمور، فيركبون البحر من «فرنجة» ويخرجون إلى الفرما، ويحملون تجاراتهم على الظهور إلى القلزم، ثم يركبون البحر الشرقي من القلزم إلى جدة والجار، ثم يمضون إلى السند والهند والصين، فيحملون من الصين المسك والعود والكافور والدارصيني وغير ذلك، ويرجعون إلى القلزم ثم يتحولون إلى الفرما، ويركبون البحر الغربي، فربما عدلوا بتجارتهم إلى القسطنطينية فباعوها للروم، وربما صاروا بها إلى بلاد «الفرنجة»، وإن شاءوا حملوا تجاراتهم في البحر الغربي فخرجوا بأنطاكية وساروا برا إلى الفرات فركبوا دجلة إلى الأبلة إلى عمان والهند والصين، وكانوا يتكلمون العربية والإفرنجية والفارسية والرومية، وهم تجار اليهود الذي يقال لهم «الراهدانية» أو «الرذانية»، ومما هو معلوم أن الإسلام حرم الربا كما حرم المضاربة، ولكن اليهود والنصارى قد استطاعوا أن يلعبوا في هذا دورا كبيرا، وكانوا منذ عهد الرشيد يقومون بعمليات الربا الفاحش والمضاربات البالغة، فقد ذكر ياقوت في معجم الأدباء (ج5، 458) أنه كان في عصر المأمون تاجران متواخيان في شراء غلات العراق، فأشرفا على ربح عشرة آلاف ألف درهم، ثم اتضع السعر فخسرا ستة آلاف ألف .»
وأما الصناعة:
فقد ظلت في عصر المأمون كما كانت عليه قبلا، وكانت الأقاليم الإسلامية تنتج الصناعات التي تحدثنا عنها في عصر الرشيد، ونضيف أن العالم الإسلامي اشتهر في هذا الحين ببعض المنسوجات كالشاش الموصلي والخز البصري والسقلاطون البغدادي والعمائم الكوفية؛ وغير ذلك من الثياب المزركشة التي اقتضت وجودها طبقات السكان من نبلاء ووزراء وقادة وجنود ورؤساء وعلماء؛ لأن كل واحد من هؤلاء كان ذا زي خاص، وكان للخليفة دار نسيج خاصة به تسمى «دار الطراز» تصنع فيه المنسوجات الخليفية المنقوشة المطرزة بالأدعية وألقاب الخلافة، ووجدت في العراق صناعات أخرى بارعة كصناعات الخزف المنقوش الجميل، وصناعات الحديد والفولاذ والفضة والذهب والجواهر الكريمة والآلات الفلكية والساعات الدقاقة والمزولات، وصناعات النجارة المنقوشة والمطعمة والمكفتة، وصناعات السفن والحراقات النهرية والبحرية، وصناعات الصابون والزيت والعطور والأدهان والطيوب، وصناعات الخمور والأنبذة والكحول وما إلى ذلك.
ومن الصناعات التي ازدهرت في عصر الرشيد صناعة الوراقة وما يتبعها من النسخ والتجليد والزخرفة، قال ابن خلدون (في المقدمة، ص498): «طما بحر التأليف والتدوين، وكثر ترسل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك، فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد وصنعه، وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت.»
وبعد؛ فإن الصناعة من نسج وحياكة وتعدين ووراقة، وما إلى ذلك من الصناعات التي تقتضيها الحضارة قد بلغت أوجها في القرن الثالث للهجرة، حتى غدت عواصم الإسلام، وبخاصة بغداد والإسكندرية، أهم مركزين عالميين للتجارة والصناعة، وقد ظل ذلك حقبة طويلة من الزمن إلى أن اضمحل الملك العربي. (9) خاتمته
كان المأمون من أفاضل خلفاء العباسيين وعقلائهم ومثقفيهم وحكمائهم، ويقول المسعودي إنه: «كان حسن التدبير لا تخدعه الأماني ولا تجوز عليه الخدائع، ولم يكن يعاب في حكمه بشيء سوى تهاونه بالأمر بعد استخلافه فترة، وتركه السلطة لآل سهل يفعلون ما يريدون، كما يعاب عليه تقريبه الأعاجم وتبعيده العرب.»
15
وقال ابن الأثير: «تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا وقال: يا أمير المؤمنين انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان، فقال له: أكثرت علي، والله ما أنزلت قيسا من ظهور خيلها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد (يعني بسببهم في فتنة ابن شبث)، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا وخرج أحدهما سائسا، اعرف فعل الله بك.»
16
وهو كما نرى جواب غريب، وقول عجيب من أمير المؤمنين العاقل الحكيم، ولكنها السياسة الأعجمية غلبت عليه ما أفسدته وجعلته يقول هذا القول.
ومهما يكن من شيء فإن المأمون على كل حال خليفة عظيم الشأن، ولو فسح له في أجله لكان شأنه أعظم، ولا شك في أنه حين شعر بدنو أجله وهو يعد عدته لفتح القسطنطينية، أن البلاد قادمة على عهد يجب أن يكون الخليفة فيه إنسانا قويا، فلذلك تناسى ابنه وتجاوز عنه إلى أخيه المعتصم، فأوصاه بوصية تدل على عقله وحزمه، وقد حفظ لنا الطبري نصها، ومما جاء فيها قوله:
17 «هذا ما شهد عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره، أشهدهم جميعهم على نفسه أن يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبر لأمر غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، يا أبا إسحاق (هو المعتصم) ادن مني واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية، العوام العوام، وعجل الرحلة عني والقدوم إلى دار ملكك، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت، والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة، ولا تتخذن بعدي وزيرا تلقي إليه شيئا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته، وهؤلاء ولد عمك من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى ...» هذا ثم أسلم روحه وانطفأ نور الشمعة الوهاجة التي ختمت عهد العباسيين المشرق القوي وعصر الازدهار العربي، وخلف من بعده خلفاء أضاع كثير منهم هيبة السلطان، وتركوا البلاد تتخبط، فاستقلت بعض الأقاليم، وتسلط عليها عناصر غريبة من ترك وديالمة أفسدوا ملك العرب والإسلام.
الفصل الثامن
المعتصم بن الرشيد
19 رجب 218-18 ربيع الأول 227ه/833-842م (1) أوليته
هو أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن الرشيد، ولد سنة 179ه، وأمه أم ولد تركية اسمها ماردة، نشأ في كنف أبيه ورعاية أمه، ولم يكن كإخوته ميلا إلى العلم ولا حبا لأهله حتى زعم بعض المؤرخين أنه كان أميا لا يكتب ولا يقرأ،
1
ويقول ابن خلكان: «إنه كان ضعيف الكتابة.» ويجمع المؤرخون على أن الصفة البارزة فيه كانت الجندية والشجاعة والفروسية والقوة ليس غير، وقال صاحب «العيون والحدائق» (ص73): «كان غزير القوة يحمل ألف رطل ويمشي خطوات.»
2
وقال الإربلي: «كان يلوي العمود الحديد حتى يعيده طوقا ويشتد على الدينار بأصبعه فيمحو كتابته.»
3
ومهما تكن هذه الروايات في مبالغتها فإنها تدل على أن الرجل كان مشهورا بقوته وشجاعته، ولا ريب فإن خئولته قوم عرفوا بالشجاعة والعنف والقوة والروح العسكرية، وقد تجلت قوته ومواهبه العسكرية في حروبه أيام خلافة أخيه وفي فتوحه وفي القضاء على الفتن التي وقعت في عهده كما سنرى. (2) بيعته وما أعقبها من أحداث
رأينا أن المأمون عهد إليه بالأمر بعده، ويظهر أن بعض الأجناد والرؤساء وخاصة العرب منهم أرادوا مبايعة ابن أخيه العباس بن المأمون؛ لأنه كان فتى عاقلا ومتعلما ومحبوبا، وبخاصة لدى العرب، فإن هوى المعتصم كان تركيا، ولكن العباس نفسه بايع عمه، وحسم هذا الشغب، وقد بويع المعتصم في اليوم الذي مات فيه أخوه المأمون في 19 رجب 218، وهو ببلاد الروم، ورجع من فوره إلى بغداد تنفيذا لوصية أخيه، وخوفا من الانشقاق والفتنة، بعد أن أمر بهدم ما كان المأمون قد بناه بمدينة طوانة من حصون وقلاع، وحمل ما قدر عليه من السلاح والمتاع والآلات الحربية، وأحرق ما لم يقدر على حمله، وصرف من كان أحضرهم المأمون من العمال والناس إلى بلادهم، ودخل بغداد في رمضان سنة 218ه ومعه العباس بن المأمون، فأخذ يرتب أمور دولته، وولى وزارته إلى كاتبه قبل الوزارة وهو الفضل بن مروان، ولم يكد يستقر ببغداد حتى بلغه خبر الخرمية وثورتهم، فأخذ يعد العدة للقائهم والفتك بهم، وجرت في عهده بثوق وفتن كثيرة كان لها بالمرصاد، كما كان له ببلاد الروم جولات موفقة سنعرض إلى تفصيلها فيما بعد. (3) الأحوال الداخلية
وقعت في عهد المعتصم عدة ثورات وفتن وحركات أقلقت الوضع الداخلي، ولكن حزمه قضى عليها جميعها، وفيما يلي موجز لبعض الفتن: (1)
في سنة 219ه : ثار على المعتصم الإمام محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين الزيدي العلوي، وكان مقيما بالكوفة فخرج منها إلى إقليم الطالقان بخراسان يدعو إلى «الرضى من آل محمد»، واجتمع إليه الناس كثيرا فاهتم به عبد الله بن طاهر، وجرت بين الطرفين حوادث وحروب انهزم فيها محمد بن القاسم، ثم تمكن منه عبد الله بن طاهر فأرسله إلى المعتصم فحبسه بسامرا، ثم تمكن من الهرب ولم يعرف له خبر، وهو الذي تزعم بعض فرق الزيدية أنه حي لم يمت، وأنه سيعود. (2)
ثورة الزط : قوي أمر الزط (وهم قوم من أخلاط الشعوب الآرية والسامية) في سنة 219ه، وأخذوا يعيثون في الأرض الفساد، ويقطعون على السابلة طريقهم بين البصرة وواسط وبغداد، حتى انقطع عن بغداد جميع ما كان يحمل إليها من السفن،
4
وقد انضم إليهم كثير من العبيد الأباق وموالي باهلة، فبعث إليهم المعتصم القائد عجيف بن عتبة فحصرهم بالبطيحة بأن سد أفواه الأنهار التي كانوا يدخلون فيها ويخرجون، ثم حاربهم بشدة فتمكن من قتل نفر منهم قريب من ثلاثمائة شخص، وأسر نحوا من خمسمائة، وضيق الخناق عليهم حتى استأمنوا له على دمائهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، ويذكر الطبري أن عددهم كان نحوا من سبعة وعشرين ألف شخص. (3)
ثورة مازيار القارني : هو ماه يزديار بن قارن آخر الأمراء القارنيين أخرجه شهريار بن شيرويه من طبرستان، فالتجأ إلى المأمون وأسلم على يديه، وتسمى بمحمد، ولكن إسلامه كان إسلاما سطحيا، لم يلبث أن خلعه حينما مات خصمه شهريار في سنة 210ه، فولاه المأمون على طبرستان وما والاها، فذهب وطرد سابور بن شهريار، ثم لحق به فأسره وقتله واستولى على الجبال.
ولما قوي أمر المازيار عزم على إعلان استقلاله، وانتهز فرصة قيام الأفشين بثورته ضد الأمراء الطاهريين، فأيد الأفشين وأعلن عصيانه، ويظهر أن المازيار أعلن القول بتركه للإسلام ورجوعه إلى دينه القديم، وقال المسعودي: «إن المازيار أقر على الأفشين أنه بعثه على الخروج والعصيان لمذهب كانوا اجتمعوا عليه، ودين اتفقوا عليه من مذاهب الثنوية والمجوس.»
5
ويقول البلاذري: «إنه كفر وعذر.»
6
ويقول البغدادي في «الفرق بين الفرق» (ص252): «إن المازيار كان خرميا من المحمرة.» ولما أعلن المازيار ثورته خلع الطاعة واستولى على أملاك العرب ومواليهم، ووزعها على الفلاحين من أهل تلك البلاد، بل إنه غرى الفلاحين على قتل أصحابها من العرب بقوله: «إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم، فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم خذوا ما وهبت لكم من المنازل والحرم.»
7
وهذا يوضح لنا أن ثورة المازيار فارسية خرمية ترمي إلى هدم السلطان العربي والدين الإسلامي، وقد اعتنقها عدد كبير من الإيرانيين وعم بلاؤهم، فعاثوا خلال الديار، واضطر الخليفة إلى أن يبعث إليهم الحسن بن الحسين، حيان بن جبلة، ومحمد بن إبراهيم، بجيوش كبيرة ليعاونوا عبد الله بن طاهر للقضاء عليهم، وهكذا استطاع الجيش العباسي من السيطرة عليه وأسره، فأرسل إلى سامراء وصلب إلى جانب بابك سنة 224. (4)
حركة بابك الخرمي : ذكرنا في بحثنا عن المأمون أن بابك الخرمي ظهر في عهده وأخذ يدعو الناس إلى دين الخرمية، وأن أمره تعاظم جدا فبعث إليه المأمون جماعة من كبار قواده ففتك بهم، ومات المأمون وسلطان بابك ممتد إلى «أذربيجان» و«همذان» و«أصفهان» و«ماسبذان»، وأن المأمون أوصى المعتصم بقوله: «والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك.» وهكذا كان، فبذل المعتصم همته في خضد شوكة بابك؛ لئلا يسيطر على البلاد الفارسية التي تروقها دعوته، فاختار لحرب بابك قائدا كبيرا هو حيدر بن كاوس الأشروسني الملقب بالأفشين، وهو لقب ملوك أشروسنة، وبعثه إليه في سنة 220ه، فنظم الأفشين أمره واستعد للقاء خصمه القوي، ثم خرج فأتى أردبيل وكانت أول وقعة بينهما في «أرشق» أحد حصون الأفشين ففتك بهم، واستطاع هو الإفلات ودخل موقان، واستمرت الحروب بين الاثنين مدة طويلة، وفي سنة 221ه استطاع الأفشين الاستيلاء على «البذ» وهي قلعة بابك، ثم أسر بابك وأخاه وأسرته، وذهب بهم مقرنين في الأصفاد إلى سامراء، وكان دخوله عليها يوما مشهودا، وما لبث أن قتل وصلب، وهكذا قضي على هذا الثائر الطاغية، الذي يروي الطبري أن عدد من قتلهم من المسلمين في عشرين سنة كان 250000 مسلم، وأن عدد الأسيرات المسلمات اللواتي استنقذن من سجنه 7600، ويقول المسعودي:
8 «إن من أدركه الإحصاء ممن قتله بابك في 22 سنة من جيوش المأمون والمعتصم من الأمراء والقواد وغيرهم من سائر طبقات الناس في القول المقلل خمسمائة ألف، وقيل أكثر من ذلك، وإن الإحصاء لا يحيط به كثرة.» وتقدير الطبري أقرب إلى الصواب فيما نظن؛ لأنه كان يطلع على الوثائق الرسمية. (5)
فتنة الأفشين : كان الأفشين من قواد المعتصم الكبار الذين لعبوا دورا على مسرح السياسة في العصر العباسي، ويظهر أن الرجل طمع في الاستقلال بأشروسنة، فقد عرف عبد الله بن طاهر أن الأفشين لما كان يحارب بابك كان لا تأتيه هدية، ولا يجتمع له مال إلا أرسله إلى موطنه سرا، ثم علم المعتصم بأن مراسلات قد كانت بينه وبين المازيار الثائر، واطلع الخليفة على تلك المراسلات فكتمها، وساءت ظنونه في الأفشين، وفي سنة 225ه كتب صاحب البريد في أذربيجان إلى الخليفة أن منكجور بين الأفشين وأمير أذربيجان قد احتجن أموالا عظيمة في محاربة بابك، ولكنه لما سئل عن ذلك لم يعترف، ولما أراد المعتصم وقتئذ على الأفشين فأحس بذلك وأراد الهرب إلى أرمينية عن طريق الموصل فلم يوفق، ثم أراد القيام بمؤامرة لقتل الخليفة فلم يوفق، واكتشفت مؤامرته فقبض عليه وسجن في رابع ذي الحجة سنة 225ه، ثم عقد المعتصم محكمة عليا لمناظرة الأفشين برئاسة الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وعضوية أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وقد حفظ لنا الطبري وصاحب العيون والحدائق محضر هذه الجلسة، وفيما يلي خلاصة ذلك المحضر: عن هارون بن عيسى بن المنصور قال: «شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن عبد الملك، وأتي بالأفشين ولم يكن بعد بالحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه، ولم يترك بالدار أحد من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور وصرف الناس، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك» ... أما المواد التي ناقشه فيها فيمكن إجمالها فيما يلي: (1)
سئل عن جلده مؤذنا وإمام مسجد في أشروسنة، فأجاب: لأنهما حولا بيت أصنام إلى مسجد، وهذا ينافي الاتفاق مع ملوك الصغد بترك الروم على دينهم. (2)
سئل عن كتاب وجد عنده، وهو مزين بالذهب والفضة والجوهر والديباج مع أن فيه كفرا بالله، فأجاب: إنه كتاب ورثه من أبيه، فيه آداب الملوك، فكنت أستمتع بالأدب وأترك ما سوى ذلك ككتاب كليلة ودمنة. (3)
قال الموبذ (وهو رجل الدين عند الفرس، وقد طلب إليه أن يحضر شاهدا لتلك المناظرة): إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحما، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء يضرب وسطها بالسيف ، ثم يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها، وإنه قال يوما: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه حتى أكلت لهم الزيت، وركبت الجمل ولبست النعل، غير أني لهذه الغاية لم تسقط عني شعرة (يعني أنه كبر ولم يختتن)، فلما سمع الأفشين كلامه قال: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، أثقة هو في دينه؟ قالوا : لا، قال: فما معنى قبولكم شهادته؟ ثم التفت إلى الموبذ وقال له: كنت أدخلك إلي وأبثك سري، وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها، فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت علي سرا أسررته إليك. (4)
قال المرزبان بن تركش، (وهو أحد ملوك الصغد، وهو ممن شهد عليه): إن أهل أشروسنة كانوا في رسائلهم يكتبون «إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان»، فقال الأفشين: نعم، وهذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم. (5)
قال له ابن أبي دؤاد: أمطهر أنت؟ فقال: لا، قال فما منعك من ذلك وبه تمام الإسلام؟ قال: لم أكن أعلم هذا!
وما إن أتم قوله واعترف بذنبه حتى سيق إلى السجن الشديد المبني خصيصا له، لداخل الجوسق وكان مرتفعا شبيها بالمنارة، فبقي فيه بدون طعام ولا شراب حتى مات فيه جوعا سنة 226ه، وبذلك انتهت هذه الفتنة، وقضي على رأس حركتها. (4) الأحوال الخارجية
مات المأمون وهو يحارب الروم، فأوصى أخاه المعتصم بإتمام حروبه معهم فور استخلافه، ولكن مرت بالمعتصم فتن داخلية كفتنة مازيار وبابك، ويروى أن بابك كاتب ملك الروم يقول له: إن ملك العرب قد وجه أعظم جيشه إلي ولم يبق على بابه أحد، فاغتنم الفرصة، فلم يلبث ميخائيل بن تيوفيل حتى خرج في جيش عظيم يقال إن عدده مائة ألف، فأتى «زبطرة» وقتل أهلها وسبى النساء وأحرقها، ثم مضى إلى «ملطية» فأغار على أهلها وسبى نساءها، وبلغت هذه الأخبار مسامع المعتصم فسأل: أي بلاد الروم أعظم أو أمنع؟ فقالوا له: «عمورية»، وهي مسقط رأس تيوفيل، فتجهز جهازا لم يتجهزه خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة والجيش والخيول، وجعل على المقدمة أشناس وعلى الميمنة أيتاخ وعلى الميسرة عبد الله بن دينار، وسار هو بنفسه في الطليعة، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة 223ه في جيش ضخم يقال إنه كان نصف مليون جندي، ولما وصل إلى «سروج» أرسل الأفشين أمامه وسار هو إلى «طرسوس »، والتقى جيش الأفشين بجيش ميخائيل، كان النصر أول الأمر لميخائيل ثم انتصر الأفشين وتفرق جيش ميخائيل، أما المعتصم ومعه أشناس فإنهما سارا إلى «أنقرة» فدخلاها دون أية مقاومة، واجتمع الأفشين بعدئذ بالمعتصم فضم جيشه، ثم قسمه إلى ثلاث فرق؛ الفرقة الأولى بالميسرة وعليها أشناس، والفرقة الثانية بالقلب وفيها الخليفة نفسه، والفرقة الثالثة بالميمنة وعليها الأفشين، وكان بين كل قسم فرسخان، فسارت هذه الفرق الثلاث حتى بلغت «عمورية» سنة 223ه وكانت محصنة بقوة، فاشتد القتال بينهم وبين الروم وضربت الأسوار وثلمت، واقتحم المسلمون المدينة وغنموا فيها مغانم كثيرة، ثم عاد المعتصم إلى «طرطوس»، وبينما كان المعتصم في طريق عودته إلى «سامراء» اكتشف مؤامرة دنيئة رتبها بعض القادة لاغتيال الخليفة واستخلاف العباس بن المأمون، فسجن العباس وقتل القادة، ولما دخل المعتصم سامراء كان يوم دخوله عيدا مشهودا، وقد سجل أبو تمام الطائي هذا اليوم بقصيدته الخالدة:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
ويذكر المسعودي أن المعتصم أراد المسير إلى «القسطنطينية» والنزول على خليجها والحيلة في فتحها برا وبحرا، فكاتب ميخائيل ملوك البندقية وإيطاليا والفرنجة يطلب إليهم النجدة،
9
وكان المعتصم قد اطلع على المؤامرة التي أشرنا إليها فقرر مغادرة بلاد الروم إلى سامراء، وهكذا فشلت الفكرة، وظلت القسطنطينية في يد الروم، واستمرت الحرب بينهم وبين المسلمين بعد ذلك على شكل غزوات إلى أن مات المعتصم، ولم يتم له فتح العاصمة الرومية «القسطنطينية». (5) الأحوال الإدارية
الوزارة، الجيش، الخراج
كان المعتصم محدود الثقافة كما رأينا، فكان لا بد له من وزير مدبر يصرف له الأحوال الإدارية، وقد تولى وزارته كاتبه قبل الخلافة الفضل بن مروان البرداني، ولم يكن إلا رجلا عاميا لا علم عنده ولا معرفة، وكان رديء السيرة جهولا بالأمور،
10
ولكنه كان داهية استطاع أن يسيطر على أمور الخليفة، حتى قال الطبري (التاريخ، 10: 312): «وحل من قلبه المحل الذي لم يكن أحد يطمع في ملاحظته فضلا عن منازعته، ولا في الاعتراض في أمره ونهيه وإرادته وحكمه.» ويقول صاحب العيون والحدائق (ص13): «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم صار الفضل هذا صاحب الخلافة والأمر والنهي والدواوين بحكمه.» ويظهر أن الفضل هذا قد أخذ يكنز الأموال ويسيء معاملة الأهلين حتى ضج الناس من سوء تصرفاته وقبح إدارته، فأخذوا يكيدون له عند الخليفة حتى غضب عليه وصادر أمواله وعف عن نفسه،
11
ولما عزله ولى أحمد بن عمار بن شاذي، وكان عاميا طحانا إلا أنه رجل غني كريم، ولكنه لم يلبث إلا قليلا في الوزارة فعزله، وولاها محمد عبد الملك الزيات الأديب العالم الكاتب صاحب الصيت الذائع بالفهم والذكاء والشعر والأدب والرياسة، قال ابن خلكان:
12 «كان من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر، أديبا فاضلا بليغا عالما بالنحو واللغة، فأعاد للوزارة هيبتها، وضبط أمور الدولة ونهض بها نهوضا لم يكن لمن تقدمه من أضرابه، ولكنه كان جبارا متكبرا ظالما غليظ القلب مبغضا إلى الخلق.» والحق أنه آخر وزراء العهد العباسي الأفاضل العلماء على ما فيه من عيوب، فإن الوزارة لم تحظ بعده بذي فضل أو قدر جليل إلا قليلا مثل سليمان بن وهب وزير المهتدي، وأبي الصقر بن بلبل وزير المعتمد.
وأما الجيش:
فقد عظم أمره في هذا العهد؛ لأن المعتصم كان عسكريا، أو لأنه أخذ يستكثر من الموالي الأتراك، وخاصة في مقاطعتي أشروسنة وفرغانة؛ لعدم وثوقه بالخراسانيين الأبناء والعرب الذي أخذ يقصيهم عن الجندية، ولما كثر المغاربة والأتراك في بغداد وتأذى بهم الناس لسوء سيرتهم، قرر أن يبني لهم مدينة خاصة، فبنى لهم مدينة «سامراء»، قال صاحب الفخري (ص210): «إن المعتصم قال لما أراد بناء سامراء: اطلبوا لي موضعا أخرج إليه وأبني فيه مدينة، وأعسكر بها، فإن رابني من عساكر بغداد حادث كنت بنجوة ، وكنت قادرا على أن آتيه في البر وفي الماء، فاختاروا موضع سامراء، وأشخص لها الفعلة والبنائين والحدادين والنجارين وسائر أرباب الصناعات والمهندسين.» ويقول اليعقوبي (في كتاب البلدان، ص31): «أقدم من كل بلد من يعمل عملا من الأعمال، أو يعالج مهمة من العمارة والزرع والنخل وهندسة المياه ووزنه واستنباطه والعلم بمواضعه من الأرض، وحمل من مصر من يعمل القراطيس وغيرها، وحمل من البصرة من يعمل الزجاج والخزف والحصر، وحمل من الكوفة من يعمل الأدهان، ومن سائر البلدان من أهل كل مهنة وصناعة.» والحق أنه اهتم بمدينته فبناها على نمط حسن، وشاد فيها الخطط والقصور وجعل فيها مسجدا جامعا وقصرا ضخما، وأخذت المدينة تتوسع حتى صارت من أعظم الحواجز الإسلامية، وضارعت بغداد لو أتيح لها أن تستمر فترة طويلة عاصمة للدولة، ولكن ما عتم المعتصم أن مات ورجعت العاصمة إلى بغداد، فأخذ نجم سامراء يأفل شيئا فشيئا.
الخراج:
نقصت موارد الدولة في هذا العهد عما كانت عليه في عهد المأمون، وقد حفظ لنا المؤرخ الكاتب قدامة بن جعفر ثبتا ذكره في كتابه عن «الخراج» نورد خلاصته في الجداول الآتية:
جدول مقدار موارد الدولة العباسية في عصر المعتصم بالدراهم.
الأقاليم
الجباية من الدراهم
السواد
114457650 درهما
الأهواز
23000000 درهم
فارس
24000000 درهم
كرمان
6000000 درهم
مكران
1000000 درهم
أجهان
10000000 درهم
سجستان
1000000 درهم
خراسان
37000000 درهم
حلوان
9000000 درهم
الماهين
9800000 درهم
همذان
1700000 درهم
ماسبذان
1200000 درهم
مهرجان قذف
1000000 درهم
الأيغارين
3100000 درهم
قم وقاشان
3000000 درهم
أذربيجان
4000000 درهم
الري ودنباوند
20080000 درهم
قردي وبازيدي
3200000 درهم
ديار ربيعة
9635000 درهم
أرزن وميافارقين
2000000 درهم
طروان
100000 درهم
آمد
2000000 درهم
ديار مضر
600000 درهم
أعمال طريق الفرات
2900000 درهم
وقزوين وزنجان وأبهر
1828000 درهم
قومس
1150000 درهم
جرجان
4000000 درهم
طبرستان
4280700 درهم
تكريت والطيرهان
900000 درهم
شهرزور والصامغان
2750000 درهم
الموصل
6300000 درهم
المجموع
41643700
جدول مقدار موارد الدولة العباسية في عصر المعتصم بالدنانير.
الأقاليم
الجباية من الدنانير
قنسرين والعواصم
360000 دينار
جند حمص
218000 دينار
جند دمشق
110000 دينار
جند الأردن
109000 دينار
جند فلسطين
2950000 دينار
مصر والإسكندرية
2250000 دينار
بلاد الحرمين الشريفين
100000 دينار
اليمن
600000 دينار
اليمامة والبحرين
510000 دينار
عمان
300000 دينار
المجموع
7507000 (6) خاتمته
كان المعتصم أول الخلفاء الذين يبتدئ بهم عصر الضعف في الدولة العباسية؛ فهو في ثقافة محدودة وفي إدارته مستسلم لوزرائه، وفي خراجه عسوف، ولولا شجاعته وحزمه وحروبه التي وقف بها في بلاد الروم لما كان له مزية تذكر، وهو في الحق خليفة عادي لم نر من يثني عليه من المؤرخين والكتاب إلا وزيره أحمد بن أبي دؤاد، فقد وصفه بالعقل وسعة الأخلاق ولين الجانب وجميل العشرة، إلا أن هذه الشهادة مجروحة لصلة الرجل القوية به، وإن مما يذكر عن الرجل إكثاره من الأتراك وإفساده أمر الدولة بهم، ومات المعتصم في ربيع الأول سنة 227ه، ودفن بسامراء رحمه الله.
Page inconnue