القسم الأول: البيت الأموي في المشرق
في العهد الأموي الأول
1 - معاوية بن أبي سفيان
2 - يزيد بن معاوية
3 - عهد معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم
4 - عبد الله بن الزبير
5 - في التنظيمات والتراتيب الإدارية
6 - في الحركات القلمية والعقلية
7 - في كبار الرجال في هذا العهد
في العهد الأموي الثاني
1 - عبد الملك بن مروان
2 - الوليد بن عبد الملك
3 - سليمان بن عبد الملك
4 - عمر بن عبد العزيز
5 - يزيد بن عبد الملك
6 - هشام بن عبد الملك
7 - الوليد بن يزيد بن عبد الملك
8 - يزيد بن الوليد
9 - خلافة إبراهيم بن الوليد
10 - مروان بن محمد
11 - أسباب سقوط الدولة
12 - في التنظيمات والتراتيب الإدارية
13 - الحركات العلمية والعقلية
القسم الثاني: البيت الأموي في المغرب والأندلس
توطئة
1 - فتح الأندلس1
2 - الدولة الأموية في الأندلس
3 - الدولة الأموية في الأندلس
4 - فترة الطوائف
5 - الحضارة الأندلسية والحركات العلمية
القسم الأول: البيت الأموي في المشرق
في العهد الأموي الأول
1 - معاوية بن أبي سفيان
2 - يزيد بن معاوية
3 - عهد معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم
4 - عبد الله بن الزبير
5 - في التنظيمات والتراتيب الإدارية
6 - في الحركات القلمية والعقلية
7 - في كبار الرجال في هذا العهد
في العهد الأموي الثاني
1 - عبد الملك بن مروان
2 - الوليد بن عبد الملك
3 - سليمان بن عبد الملك
4 - عمر بن عبد العزيز
5 - يزيد بن عبد الملك
6 - هشام بن عبد الملك
7 - الوليد بن يزيد بن عبد الملك
8 - يزيد بن الوليد
9 - خلافة إبراهيم بن الوليد
10 - مروان بن محمد
11 - أسباب سقوط الدولة
12 - في التنظيمات والتراتيب الإدارية
13 - الحركات العلمية والعقلية
القسم الثاني: البيت الأموي في المغرب والأندلس
توطئة
1 - فتح الأندلس1
2 - الدولة الأموية في الأندلس
3 - الدولة الأموية في الأندلس
4 - فترة الطوائف
5 - الحضارة الأندلسية والحركات العلمية
عصر الاتساق
عصر الاتساق
تاريخ الأمة العربية (الجزء الرابع)
تأليف
محمد أسعد طلس
تاريخ بني أمية
في المشرق من سنة 40ه إلى سنة 132ه
وفي المغرب من سنة 138ه إلى سنة 422ه
مع موجز تاريخ الأندلس إلى حين سقوطها
سنة 897ه.
القسم الأول: البيت الأموي في المشرق
في العهد الأموي الأول
الفصل الأول
معاوية بن أبي سفيان
40-60ه/660-680م (1) مقدمة : نهاية عهد الراشدين وبداية عهد الأمويين
اجتمع ثلاثة من متحمسي الخوارج في سنة 40ه، وهم: عبد الرحمن بن عمرو بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي، فتذاكروا أمر المسلمين، والفتن
1
التي حصلت بينهم، وما صاروا إليه، وتقاسموا على قتل «أئمة الضلالة»:
2
علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص. واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان، وذهب كل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه.
أما ابن ملجم فقدم الكوفة، واتفق مع شبيب بن بجرة الأشجعي على قتل علي في ليلة الجمعة، حين يخرج إلى المسجد لصلاة الغداة (الفجر). فلما كانت ليلة الجمعة وخرج علي لصلاته، وجعل ينادي الناس: الصلاة. فاغتاله ابن ملجم، وهو يقول: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك. فنادى علي: لا يفوتنكم الرجل. وشد الناس عليه فلم يفلت، وأدخل على علي، فقال: النفس النفس، إن أنا مت فاقتلوه، وإن بقيت رأيت فيه رأيي. وبقي علي إلى يوم الأحد، ولما استراح من وجعه، سأله جندب بن عبد الله، فقال: إن فقدناك - ولا نفقدك - فنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. ثم دعا الحسن والحسين، وأوصاهما بتقوى الله وألا يبغيا الدنيا، ولا يبكيا على شيء زوي عنهما، وأن يقولا الحق ويرحما اليتيم، ويغيثا الملهوف، ويصنعا للآخرة، ويكونا للظالم خصما، وللمظلوم ناصرا، ويعملا بما في كتاب الله، ولا يأخذهما في الله لومة لائم.
ولما لقي ربه بايعه الناس، وكان أول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة، قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه، وقتال المخلين. فقال الحسن: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط. ثم خرج إلى المدائن، وبعث قيس بن سعد في اثني عشر ألفا، وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل في مسكن.
3
ولم يلبث الحسن أن يصل إلى المدائن، حتى نادى مناد أن قيس بن سعد قد قتل. فنفر الناس، ونهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا كان تحته، وخرج الحسن حتى لجأ إلى المقصورة البيضاء في المدائن، ثم بعث إلى معاوية يطلب الصلح، فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر، وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب، فأعطياه ما أراد، وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف وأشياء أخرى اشترطها.
4
وكان الحسن كارها لذلك كله، ودخل معاوية الكوفة فبايعه الناس، وكان ذلك لخمس بقين من ربيع الأول سنة 41ه بمحضر الحسنين اللذين غادرا الكوفة إلى المدينة. ولم يلبث الحسن أكثر من شهرين حتى مات.
وأخذ معاوية يرتب أمور العراق، فولى البصرة عبد الله بن عامر، وطلب إليه أن يستمر في حرب سجستان وخراسان، وقفل هو إلى الشام، فغزا بلاد الروم وهزمهم، وقتل جماعة من بطاركتهم.
5
واستقرت له الأمور. (2) خلافة معاوية 40-60ه/660-680م
هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان أمية من سادات قريش وتجارها، كثير المال والجاه، وكان ابن حرب قائد قريش يوم الفجار، وكان أبو سفيان من أشياخ مكة، أسلم في السنة التي فتح فيها الرسول مكة، قائد حروب قريش ضد النبي، وهو صاحب العير التي قدمت من الشام إلى مكة، والتي من أجلها وقعت غزوة بدر الكبرى، وكان التنافس بين هاشم بن عبد مناف، وأخيه عبد شمس بن عبد مناف قديما منذ الجاهلية، ولهذا لا عجب أن استمر هذا التنافس بينهما في الإسلام.
ولد معاوية بمكة قبل الهجرة بخمس عشرة سنة، فنشأ نشأة فتيان قريش، وكان كاتبا مجيدا وفصيحا، جوادا وعاقلا حكيما، وحليما وقورا.
6
قال قبيعة بن جابر الأسدي: صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت رجلا أفقه فقها، ولا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلا أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية، فما رأيت رجلا أحب رفيقا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.
7
أسلم يوم الفتح سنة 8ه هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند، وله من العمر 23 سنة فاتخذه الرسول كاتبا، وقال المدائني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي، وكان معاوية يكتب للنبي فيما بينه وبين العرب.
8
ولما بعث أبو بكر الجيوش الأربعة
9
إلى الشام ولى أحدها يزيد بن أبي سفيان، كان معاوية في ذلك الجيش. وفي عهد عمر أقر يزيد في قيادته. ولما اجتمعت الجيوش الأربعة في اليرموك بقيادة خالد جعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص، وعلى الميسرة يزيد، فظفر المسلمون ثم حاصروا دمشق وفتحوها سنة 13ه، واتجهوا إلى «إيليا» القدس فحاصروها، وقدم عمر ففتحت على يديه في سنة 16ه، وعهد عمر بإمارة دمشق إلى يزيد بن أبي سفيان لما أبلاه في الفتح. ولما صار يزيد إلى دمشق ولى أخاه معاوية غزو قيسارية، ففتحها في شوال سنة 19ه. ولما مات يزيد في ذي الحجة سنة 19ه، وكان مستخلفا أخاه معاوية على دمشق، فأقره عمر على ذلك، وجعل له ألف دينار في الشهر.
10
وكان عمر يحبه ويعجب بإدارته وحكومته. وروى ابن عبد البر أن عمر لما دخل الشام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب. وكان قد تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا منه قال له: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟!
قال: مع ما يبلغك من ذلك.
قال: ولم تفعل هذا؟
قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر لمعاوية: ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الفرس، إن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريب، وإن كان باطلا إنه لخدعة أديب.
قال: فمرني يا أمير المؤمنين.
قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال عمرو: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته.
قال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.
11
ومات عمر ومعاوية أمير على البلقاء، والأردن، وفلسطين، والسواحل، وأنطاكية ومعرة مصرين، وقليقية، ودمشق.
12
ولما مات عمر واستخلف عثمان، أقر معاوية على عمله وولاه الشام كله.
وفي سنة 27 أو 28ه غزا معاوية قبرص، وهو أول غزو للروم
13
ورجع عنها صلحا.
وفي سنة «30ه» أجلى معاوية أبا ذر عن الشام إلى المدينة؛ وسبب ذلك أن أبا ذر انتقد إدارة معاوية، واحتجازه الأموال دون المسلمين، فأخذ يثير الناس عليه، فكتب معاوية إلى عثمان يخبره، فكتب إليه: جهز أبا ذر وابعث معه دليلا، وزوده وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. فبعث بأبي ذر، فلما أتى عثمان قال له: يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذرا؟
فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال «مال الله»، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا، فقال: يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد.
قال: أفتأذن لي بالخروج، فإن المدينة ليست لي بدار، فأذن له فخرج إلى الربذة، فخط بها مسجدا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل، وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيا.
14
وإنما قام أبو ذر بحركته متأثرا بتحريض عبد الله بن سبأ، وهو يهودي يمني أظهر الإسلام، وأخذ يتنقل في الحجاز والعراق ومصر والشام، ويعمل على إفساد أمر الإسلام. وقد استمر أبو ذر في تحريض الناس على عثمان إلى أن وقعت الفتنة التي ذهب عثمان ضحيتها.
15
وفي سنة 31 خرج أهل الشام، وعليهم معاوية، وعلى البحر عبد الله بن سعيد، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية في جمع لم يجتمع مثله قط مذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب، فربط المسلمون سفنهم بعضها إلى بعض، حتى كان يضرب بعضهم بعضا على سفن المسلمين وسفن الروم، وقاتلوهم أشد قتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيف على السفن ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما، ثم انتصر المسلمون وانهزم قسطنطين مدبرا، فما انكشف إلا لما به من القتل والجرح.
وفي سنة 32ه غزا معاوية الروم بحرا، بلغ مضيق القسطنطينية ورجع عنها.
16
ولما قتل عثمان في 18 ذي الحجة سنة 35ه، وبايع الناس عليا امتنع معاوية من مبايعته، فقد كتبت نائلة امرأة عثمان إلى معاوية كتابا، تخبره فيه في أمر عثمان ومقتله، وتعلمه أن أهل مصر أسندوا أمرهم إلى علي وابن أبي بكر وعمار، فأمروهم بقتله، وبعثت بقميصه إليه، فثار أهل الشام وقالوا: والله لنقتلن عليا.
17
ثم إن عليا ولى على الشام سهل بن حنيف، وسار سهل إلى الشام، فلقيته عند تبوك خيل أهل الشام، فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام. قالوا: إن كان بعثك عثمان فأهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع.
قال: أوما سمعتم بالذي كان؟
قالوا: بلى.
فرجع إلى علي فاشلا.
18
وإذا أردنا أن نعقب على مقتل عثمان، فلا بد لنا من استفظاع هذا الحادث؛ لأن قتل خليفة شيخ بهذا الشكل هو حادث إجرامي فظيع، كان على أهل المدينة أن يمنعوا وقوعه، وإن فتورهم في الدفاع عن الخليفة المحصور لفتور مخز يدل على تفسخ. ومهما كانت المسوغات للثورة على عثمان، فإن عقلاء المدينة ورجالاتها كانوا يستطيعون تلافي الأمر، ولكنهم تواكلوا وتخاذلوا؛ فإن الثوار حين قدموا إلى المدينة - وكان أكثرهم من عرب مصر - ورفعوا شكواهم إلى الخليفة لسوء تصرفه وفساد عماله، فوعدهم بأن يزيل أسباب الشكوى، وبينما هم عائدون إلى بلادهم، إذ يرجعون إلى المدينة ومعهم كتاب عثروا عليه، وفيه يطلب الخليفة من عامله على مصر أن يفتك بهم، فأنكر الخليفة ذلك الكتاب، ثم تبين أن الذي كتبه هو مروان بن الحكم كاتب الخليفة. فاشتط الثوار على عثمان في القول، وقالوا له: إن كان كاتبك يكتب باسمك وأنت لا تدري، فأنت لست بخليفة، ولا أهل لها. ثم طالبوه أن يخلع نفسه فأبى، وقال: لا أنزع سربالا سربلنيه الله. وقد أخطأ عثمان في قوله، فقد كان ينبغي عليه أن يتخلى ويترك الأمر للمسلمين، ولكن تقاعس أهل المدينة وتشتت رأيهم جعل الخليفة يقف هذا الموقف. ثم تطور الأمر إلى قتله بيد كنانة بن بشر التجيبي اليمني في 18 ذي الحجة سنة 35. ولا شك كان قتله حادثا فظيعا جعل المسلمين ينقسمون معه وعليه، كما أن أهله وقبيلته من بني أمية ستطالب بدمه، وستعمل على الانتقام من قتلته، ومن أهل المدينة الذين أسلموه.
والحق أن كثيرا من أهل المدينة قد تواكلوا في الدفاع عن عثمان، وفي الدخول في الفتنة بين عثمان والثوار، وخصوصا حين رأوا الثوار الذين قتلوا عثمان - وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ - يلحون في تولية علي قسرا، ولم يكن في المدينة يومئذ من كبار الصحابة كثيرون، فقد ذهبوا في الفتوح إلى الأمصار، وكان أجل الصحابة الموجودين في المدينة طلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وهم مترددون في توليته؛ وحسان بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، والمغيرة بن شعبة وهم ميالون إلى بني أمية؛ ولذلك لم يكن انتخاب علي انتخابا إجماعيا ولكنها بيعة تمت بالغلبة.
ثم كانت معركة الجمل، وخروج علي إلى البصرة لقتال عائشة، وطلحة والزبير، اللذين نقضا بيعتهما وادعيا أنهما بايعاه مكرهين، ولعب كثير من المنافقين والسبئية في إشعال روح الفتنة والفرقة بين الجانبين، فوقع القتال بينهما، وانتهت المعركة بفوز علي، وتسيير عائشة إلى الحجاز، والسيطرة على البصرة، وقد ولاها الإمام عبد الله بن عباس، وضم إليه فتى ناشئا ذا مواهب عظيمة، انضم إليه هو زياد ابن أبيه، وقد انتهز معاوية تلك الفرصة؛ لتثبيت أمره في الشام، والمناداة بنفسه أميرا للمؤمنين.
19
ولما انتهت معركة الجمل بفوز علي لم يبق أمامه سوى معاوية، وبذلك انشطر المسلمون شطرين: (1)
العثمانيون: وعلى رأسهم معاوية وبنو أمية وأنصارهم. (2)
والعلويون: وعلى رأسهم علي وبنو هاشم. وقد صورت السيدة أم الخير بنت الحريش البارفية ما كان بين الشطرين المتناحرين في الخطبة التي ألقتها يوم صفين بقولها: «يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، إن الله قد أوضح الحق وأقام به الدليل ... أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا عن الزحف؟ أورغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا ربي أزمة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى. هلموا - رحمكم الله - إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر، إنها إحن بدرية ، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها معاوية ليدرك بها ثارات بني عبد شمس، والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرع عن نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنشقين، قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرق جمع هوازن، فيا لها وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا وردة وشقاقا.»
ولما انتصر الإمام علي في معركة الجمل بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، ومعه كتاب يعلمه فيه بإجماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وما كان من أمرهما يوم الجمل، فأخذ معاوية الكتاب، وماطل جريرا في الجواب، وكتب إلى عمرو بن العاص كتابا صورته: «أما بعد، فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد قدم علي جرير بن عبد الله في بيعة علي، وحبست نفسي عليك حتى تأتيني، فاقدم على بركة الله.»
20
ولما قدم عمرو أشار على معاوية أن يلزم عليا بدم عثمان، وأن يسلم إليه قتلة عثمان، وأن يحاربه بجند الشام إن أبى.
21
ورجع جرير إلى علي وأخبره خبر معاوية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن معاوية كان بين شقي رحى الروم في الشمال يهددونه، والمصريون في الجنوب قد بايعوا عليا، وقد استطاع معاوية بدهائه أن يخرج من هذا المأزق، فصالح الروم وتعهد لهم بدفع مال يؤديه إليهم لقاء عدم مهاجمتهم، ومصر التي كان عليها شاب غير مجرب اسمه محمد بن أبي حذيفة، استطاع أن يفتك به بمعاونة عمرو بن العاص، وهكذا تمكن معاوية من أن يسير إلى علي وهو مطمئن البال على بلاد الشام.
سار علي من الكوفة إلى صفين في تسعين ألفا لخمس بقين من شوال سنة 36، وسار معاوية من الشام في «85 ألفا» والتقوا عند صفين. قال ابن سعد: «اقتتل الناس بصفين قتالا شديدا ، لم يكن في هذه الأمة مثله قط، حتى كره أهل الشام وأهل العراق القتال، وملوه من طول تباذلهم السيف.»
وتراسل الطرفان فاتفقا على الموادعة إلى آخر المحرم سنة 37. ومن يقرأ ما أورده الطبري، يحكم بأن عدم انتهاء الطرفين إلى نتيجة طيبة راجع إلى فساد الرسل وطيشهم. وفي أول صفر سنة 37 عاد القتال بين الطرفين، وكادت الدائرة تدور على معاوية وجماعته، وقال لعمرو بن العاص: هلم مخبآتك يا ابن العاص فقد هلكنا، واستطاع عمرو بدهائه أن يفرق بين جند علي، فانقسموا على أنفسهم حين قال عمرو لجنوده: أيها الناس من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه، فرفعوا المصاحف، وقال قائلهم: هذا كتاب الله - عز وجل - بيننا وبينكم، فلما رأى أهل العراق المصاحف مرفوعة قالوا: نجيب إلى كتاب الله.
22
وقد أراد عمرو أن يحول دون العراقيين والنصر، فكان له ما أراد، وعبثا حاول علي أن يحول دون ذلك، ثم كان من أمر التحكيم ما كان، واتفق الطرفان على خلع صاحبيهما، وخلع أبو موسى صاحبه عليا، وجعل الأمر شورى بين المسلمين، ولم يفعل ذلك عمرو بن العاص لصاحبه معاوية، بل قال: إنه يقر أبا موسى على قوله، أما هو فلا يخلع صاحبه، فثارت الخوارج، وكان من الخوارج ما كان، إلى أن انتهى الأمر بقتل الإمام علي كما مر وتولية الحسن. (3) عام الجماعة
لما قتل الإمام علي وبايع الناس ابنه الحسن، رأى أنه لا يستطيع الوقوف أمام معاوية؛ لخذل العراقيين إياه وقوة الأمويين، فتنازل عن الخلافة وفقا للشروط الآتية: أن يكون له ما في بيت مال الكوفة، وهو نصف مليون دينار، وأن يكون له خراج دارابجرد.
23
وأن يكون الأمر بعد وفاة معاوية شورى بين المسلمين يولون عليهم من أحبوا. وهكذا صار معاوية صاحب السلطان في الأقاليم الإسلامية كلها. ودخل معاوية الكوفة في جمادى الأولى سنة 41ه، فبايعه الناس بمحضر الحسن والحسين، ثم خرجا إلى المدينة.
24
واتفقت كلمة جمهور المسلمين، فسمي ذلك اليوم عام الجماعة.
25
أما الحسن فإنه لم يلبث طويلا في المدينة حتى مات بعد نحو شهرين من وصوله إليها.
26
ومنذ سنة 42ه استقرت الأمور لمعاوية في كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولم يكن له خصوم سوى العلويين، وكانوا متفرقين في الحجاز والعراق ومصر، وسوى الخوارج الذين كانوا يكرهون الأمويين والعلويين معا. ويرونهم مارقين من الدين.
أما العلويون فقد كانت الكوفة أكبر مراكزهم في العراق، ولكن تنازل الحسن لمعاوية جعلهم يتخاذلون، ولكن السياسة التي سار عليها معاوية في سب علي والتشهير به على المنابر جعلتهم يتحمسون؛ فقد روى الطبري أن معاوية ولى المغيرة بن شعبة على الكوفة، وأمره بلعن علي، فأخذ هذا يلعن عليا كلما قام خطيبا، وبينما هو كان يخطب مرة سب عليا ومدح عثمان، فقام إليه حجر بن عدي وقال له: إن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وإن من تزكون وتطرون أولى بالذم.
27
فقال له المغيرة: «ويحك اتق السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك.» وظل حجر على عدائه حتى مات المغيرة، وولي الكوفة بعده زياد ابن أبيه، فاتبع طريقة من كان قبله، فضاقت الشيعة ذرعا وأخذوا يتشاورون في الأمر، واتفقوا على أن يسبوا معاوية في المجتمعات العامة، إلى أن يكف الأمويون عن سب علي، فلما بلغت هذه الأخبار زيادا، وكان يقيم بالبصرة، فقدم الكوفة واستدعى حجرا فهدده، ثم بعث به وبجماعة آخرين إلى معاوية، فقتل منهم ثمانية، وأخذ زياد ومعاوية يضيقون على الشيعة حتى صار الناس يكتمون تشيعهم، وركدت الحركة العلوية إلى حين.
وأما الخوارج
28
وهم في الأصل جماعة من الشيعة انشقوا عن إخوانهم وشتموهم وضربوهم لما قبلوا بالتحكيم، وقالوا لهم: يا أعداء الله أوهنتم في أمر الله - عز وجل - وحكمتم الناس في دين الله، ولما دخل علي الكوفة لم يدخلوا معه، وذهبوا حتى أتوا حروراء، فنزل منهم فيها اثنا عشر ألفا، وأمروا عليهم للقتال شبث بن ربعي، وللصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري، وقالوا: إن الأمر شورى والبيعة لله - عز وجل - ولا حكم إلا لله، فبعث إليهم الإمام من ينصحهم فلم يقولوا قوله وسفهوا أمراءه، وسار إليهم فلقيهم على النهروان ، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وهرب قسم منهم فتسللوا إلى الكوفة، وقسم تفرق في الأمصار وكان ذلك سنة 38ه، ولما قتل علي وأفلت معاوية منهم عزم على أن يطهر البلاد منهم، وكان زعيمهم في هذا الوقت فروة بن نوفل الأشجعي، وهو ممن اعتزل عليا وأقام في شهرزور، فلما بايع الحسن معاوية قال لأصحابه: سيروا إلى معاوية، فخرجوا إليه، وكان في الكوفة يومئذ لم يبرحها إلى الشام، فقال للكوفيين: لا أمان لكم عندي والله حتى تكفوا بوائقكم وتقاتلوهم، فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج يقاتلونهم، فقال لهم الخوارج: ويحكم، ما تبغون؟ أليس معاوية عدونا وعدوكم؟ دعونا نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. فأبى أهل الكوفة إلا القتال حتى غلبوهم.
29
ثم تجمعوا ثانية بزعامة حيان بن ظبيان السلمي، والمستورد بن علقة التيمي وجرت لهم مع المغيرة بن شعبة معارك، ثم لما عزل المغيرة عن العراق وولى زياد ابن أبيه وأوصاه بالفتك بهم، فأخضعهم وجرت لهم مع زياد وقائع كثيرة سنبينها فيما بعد. (4) الفتوح في عهد معاوية
عني معاوية عناية شديدة بحرب الروم، ورأى أن خير وسيلة لحربهم هي في تجهيز أسطول بحري، فوجه همته إلى بناء عمارة بحرية ضخمة، بلغت فيما يقال 1700 سفينة، استطاع أن يفتتح قبرص ورودس وبعض جزائر بلاد يونان، كما أنه اهتم بالغزو البري لبلاد الروم، فرتب الشواتي والصوائف، وقد بلغه في سنة 41 وأمره لم يترتب بعد، أن الروم في عهد الإمبراطور كونستانس الثاني 642-668 يريدون الزحف على الشام في جموع جمة، فخاف أن يشغلوه عما يحتاج إلى ترتيبه، فوجه إليهم من صالحهم على مائة ألف دينار، وكان بذلك أول من صالح الروم على مال.
30
فلما استقام له الأمر ورتب شئون الدولة، انصرف إليهم ووجه همته إلى غزوهم سنة بعد سنة في الصوائف والشواتي، وطلب صاحب الروم الصلح فلم يجبه، واستطاع أن يفتتح جزائر أرواد وقبرص ورودس وغيرها، وبث فيها المسالح وجعلها مناظر للعرب.
وفي سنة 34 غزاهم غزوة سبى فيها منهم مائة ألف إنسان، وبعث أخاه على البحر فانهزم الروم أمامه. وكانت أعظم الغزوات التي قام بها في سنة 48 حينما جهز جيشا كبيرا برا وبحرا لفتح القسطنطينية، وكان على الجيش سفيان بن عوف، وفيه عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري، وابنه يزيد بن معاوية، ولما وصلوا القسطنطينية حاصروها مدة فلم يتمكنوا من الفتح، وأحرقت النار اليونانية سفن المسلمين، فتراجعوا بعد أن تركوا عددا من الشهداء منهم أبو أيوب، ولم يمت معاوية إلا وهو قد حصن ثغور الشام ومرافئه، وأقام دور الصناعة البحرية في صور وصيدا وعكا والإسكندرية؛ لصنع السفن والعدد الحربية البحرية، وقد حاصرت قوات المسلمين في عهد معاوية القسطنطينية ثلاث مرات، ولكنهم لم يتمكنوا من فتحها.
31
أما في المشرق فقد طلب معاوية إلى أميره على بلاد السند أن يوغل في الفتح، فسار حتى بلغ بلاد «القيقان» فغنم ثم رجع، ولما عاد ثانية إلى ملك الديار قتل، كما طلب إلى المهلب بن أبي صفرة أن يتم فتح بلاد السند، فسار حتى وصل لاهور.
32
وولى سعيد بن عثمان بن عفان خراسان سيده للفتح بسمرقند، ففتح وغزا وأصيبت عينه هناك، وملك كثيرا من بلاد الصغد، ورجع غانما، ثم أعاد الكرة فقتل هناك.
33
وأما في الغرب فإنه أمر في سنة 50 عقبة بن نافع، الذي كان يرابط ببرقة وزويلة بعشرة آلاف جندي من أهل الشام لفتح إفريقيا (تونس)، فتم له فتحها، وأسلم على يديه كثيرون من البربر أدخلهم في جيشه، وحسن بلاؤهم، واستعان بهم في فتح السودان، وكان هؤلاء البربر نواة الجيوش الإسلامية التي تممت فتح شمال إفريقية والأندلس. وقد كان لعقبة بلاء عظيم في فتوح إفريقية ونشر الإسلام بين ربوعها، وهو الذي مصر مدينة القيروان؛ لتكون لهم معسكرا ولأهلهم مقرا.
وفي عهد معاوية ظهر الجراجمة (أو المردة)، كما يسميهم المؤرخون المسلمون، وهم سكان جبال لبنان، الذين تحصنوا في قللهم حينما فتح المسلمون ديار الشام، وتغلبوا على سهولها وسواحلها، ولم يستطيعوا الوصول إلى هؤلاء فتركوهم. قال المطران الدبس في تاريخ سورية: إن الخلفاء الراشدين صرفوا اهتمامهم، عند أخذ سورية وطردهم ملوك الروم منها، إلى فتح مدنها، ولم يكترثوا لسكان جبالها؛ لقلة أهميتها وعدم المنفعة منها، ولتعسر مسالكها، وإن ملوك الروم ما انقطعت مطامعهم في استردادها، وظلوا يوسوسون لسكانها؛ ليلبكوا أمرها، ولا تستقيم حالها؛ ليتيسر لهم العود إليها، كما حاولوا مرات فلم يظفروا؛ فمن ذلك أنهم وسوسوا للموارنة، وكانت مساكنهم في الجبال من جبال الجليل إلى جبال أنطاكية، فلبكوا حكومتهم وتوافرت غزواتهم في السهول، حتى اضطروا بعض الخلفاء أن يعقد صلحا مع ملوك الروم. ثم ينقل عن المؤرخ توافان أن المردة خرجوا من لبنان فضبطوا كل ما كان من الجبل الأسود (جبل الأقرع) إلى المدينة المقدسة، واستحوذوا على قمم لبنان، وانضم إليهم كثير من العبيد والأسرى والوطنيين، حتى أصبح عددهم ألوفا في مدة وجيزة، وسمع معاوية وأصحاب مشورته بذلك فخشوا جدا من عاقبته، وأرسلوا وفدا إلى قسطنطين يطلبون الصلح، ويعدون بوفاء جزية كل سنة، فتقبل الملك وفدهم بالإعزاز، وأوفد معهم إلى سورية البطريق يوحنا المسمى بتسيكود ... وقابله معاوية بالترحاب، وبعد المداولة بشروط الصلح قر رأيهم على كتابة عهدة موثقة باليمين، على أن يدفع العرب كل سنة إلى الرومانيين ثلاثة آلاف ذهب وثمانية آلاف أسير، وخمسين جوادا من الخيل الجياد، بين الرومانيين والعرب على هذه الشروط إلى ثلاثين سنة، ودونت العهدة ووقع على نسختين منها؛ لكل فريق نسخة، وعاد ذاك الرجل الشهير البطريق يوحنا إلى الملك بهدايا نفيسة جدا (ويظهر أن ما يذكره تيوفان هو ما فعله معاوية حين وقعت الفتنة بينه وبين علي، وإنما رضي بذلك لئلا يثير عليه هؤلاء بينما هو منصرف إلى محاربة علي). (5) الأمور الإدارية
أوليات معاوية في الإدارة
كان معاوية من دهاة الرجال ومؤسسي الممالك، بدرت منه بوادر النجابة وهو شاب؛ فقد روى ابن حجر عن المدائني قال: نظر أبو سفيان إلى معاوية وهو غلام فقال: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه. فقالت هند: قومه فقط! ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.
34
وروى ابن عبد البر أن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أسود من معاوية، فقيل له: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فقال: كانوا والله خير أمة، وكان معاوية أسود منهم. وقال ابن عبد البر: هو أول من اتخذ ديوان الخاتم، وأمر بهدايا النيروز والمهرجان، واتخذ المقاصير في الجوامع، وأول من أقام على رأسه حرسا، وأول من قيدت بين يديه الخبائب، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وكان يقول: أنا أول الملوك.
35
وقال السيوطي في الوسائل: إن مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر سنة 44ه، أول من بنى المنائر للأذان بأمر معاوية، ولم تكن من قبل ذلك.
36
وأن أبا سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من شعير، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية، فخطب على منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر الزكاة فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر.
37
وإن الحسن بن قاسم قال: أول من خطب بمكة على منبر معاوية بن أبي سفيان، قدم به من الشام سنة حج في خلافته، منبر صغير على ثلاث درجات، وكانت الخلفاء قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم، قياما في وجه الكعبة وفي الحجر.
38
وروى السيوطي عن ابن أبي شيبة أن معاوية هو أول الملوك، وأول من بايع لولده، وأول من عهد بالخلافة في صحته، وأول من وضع البريد في الإسلام، وأول من اتخذ الخصيان، وأول من اتخذ ديوان الخاتم، وأول من اتخذ صاحب حرس.
39
وروي عن مالك: أن معاوية أول من استقضى.
40
وقال ابن طباطبا: «إن معاوية كان مربي دول، وسائس أمم، وراعي ممالك، ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه إليها أحد، ومما اخترع من أمور الملك ديوان الخاتم، وهذا ديوان يعتبر من أكابر الدواوين، لم تزل السنة جارية به إلى أواسط دولة بني العباس فأسقط، ومعناه أن يكون ديوان، وبه نواب، فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور أحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأثبتت فيه نسخة وخزم بخيط، وختم بشمع، كما يفعل في هذا الزمان بكتب القضاة، وختم بخاتم صاحب ذلك الديوان، وكان معاوية معروف الهمة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كل شيء إذا انتظم أمر الملك.»
41
ولاية العهد
أول من فكر في إسناد ولاية عهد معاوية إلى يزيد هو المغيرة بن شعبة؛ فهو الذي أدخل الفكرة في نفس يزيد، وجعله يطلبها من أبيه، فلما سمع معاوية قول يزيد سأله عمن أوحى إليه بها، فقال: هو المغيرة، فاستدعاه فسأله فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له، فإن حدث لك حادث كان كهفا للناس، وخلفا منك، ولا تسفك دماء، ولا تكون فتنة، قال: ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.
42
فأعاد معاوية المغيرة إلى منصبه في إمارة الكوفة - وكان عزله عنه - وأخذ يعمل لما ذهب إليه، فجاء عشرة من أعيان الكوفة إلى معاوية، وطلبوا إليه أن يعهد ليزيد، فأرسل إلى زياد بالبصرة يسأله، فنصحه أن يتريث؛ لعدم توفر الشرط في يزيد؛ فإن فيه تهاونا وولعا بالصيد، ومنذ ذلك الحين كف يزيد عن كثير مما يولع به، فلما مات زياد أرسل معاوية إلى مروان بن الحكم - وكان أميرا على المدينة - يقول له: إني قد كبرت سني، ورق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم، وأعلمني بالذي يردون عليك.
43
فلما عرض مروان الأمر على الناس في المسجد، هاج الناس واضطربوا، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أتريدون أن تجعلوها هرقلية، كلما مات هرقل قام هرقل؟
44
وكذلك قام الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير واستنكرا العمل.
ثم كتب معاوية إلى عماله أن يمهدوا للأمر، ويبعثوا إليه الوفود بذلك، فلما اجتمعت الوفود أعلن معاوية بيعته، وقام الضحاك بن قيس الفهري فتكلم باسم الوفود، وبين فضل يزيد، ودعا إلى بيعته؛ لعلمه وعقله واجتماع كلمة المسلمين عليه، ويظهر أن الحجاز قد أخذ يضطرب لهذه البيعة، فلم ير معاوية بدا من ذهابه، فلما وصل المدينة
45
استدعى الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر فأبوا أن يجيبوه، فدخل على عائشة وتهددهم، فأوصته بالرفق والتريث، ثم اجتمع بالثلاثة فقال ابن الزبير: نخيرك بين ثلاثة: تصنع كما صنع رسول الله، أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر، فقال معاوية: ليس فيكم مثل أبي بكر وعمر، وأخاف الاختلاف، هل عندك غير هذا؟
وقال الحسين وابن عمر مثل قول ابن الزبير، فقال معاوية: قد أعذر من أنذر، ثم دعا صاحب حرسه فقال: أقم على رأس كل رجل من الثلاثة رجلين، ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة تصديق أو تكذيب فليضرباه، ثم خرج وخرجوا حتى رقي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: «إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله»، فبايع الناس، ورجع معاوية إلى دمشق.
46
ولما مرض مرض موته في سنة 60 أوصى ابنه بقوله: انظر أهل الحجاز، منهم أصلك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق فإن سألوك عزل عامل كل يوم فاعزله، ثم انظر أهل الشام، فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدوك ريب فارمه بهم، ثم اردد أهل الشام إلى بلدهم، ولا يقيموا في غيره فيتأدبوا بغير أدبهم، لست أخاف عليك إلا أربعة: الحسين، وابن الزبير، وابن عمر، وابن أبي بكر، فأما الحسين فأرجو أن يكفيكه الله، فإنه قتل أباه وخذل أخاه، وأما ابن الزبير، فإنه خب ضب فإن ظفرت به فقطعه إربا إربا، وأما ابن عمر، فإنه رجل قد قرقره الورع فخل بينه وبين آخرته يخل بينك وبين دنياك.
47
وأما ابن أبي بكر، فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو.
وقد علق ابن طباطبا على هذه الوصية بقوله: وفي هذه الوصية دليل على ما سبق من وفور رغبته في تدبير الملك، وشدة كلفه بالرياسة.
قال ابن خلدون: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الكلمة، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل، والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول؛ حرصا على الاتفاق، واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور الأكابر لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه؛ فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجل من ذلك، وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور، مباحا كان أو محظورا كما هو معروف عنه، ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف، ثم إنه وقع مثل ذلك بعد معاوية من الخلفاء، الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به، مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثارهم أبناءهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، شأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينيا، فعند كل أحد وازع، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط، وآثروه على غيره، ووكلوا كل من يسمو ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف، واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعا، وصارت الجماعة إلى الفرقة.»
والحق أن معاوية قد عمل ما فيه المصلحة والخير لبيته، ولكنه سلك بالمسلمين في طريق وعرة، فلو أنه تركها للعقلاء - وهم كثر إذ ذاك - لما أوقع الناس في المشاكل التي وقعت، ولجنب المسلمين تلك الويلات التي كان أولاها قتل الإمام الحسين، وثانيها نهب المدينة واستباحتها، وثالثها غزو الكعبة، ولكنه اجتهاد اجتهده، نراه أخطأ فيه، ويرى ابن خلدون أنه أصاب وسلك المحجة. (6) موت معاوية ومناقبه
مات معاوية في رجب سنة 50ه، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأياما، وكان عمره وقتئذ 75 سنة.
48
وله من الأولاد يزيد وعبد الله وعبد الرحمن. قال الطبري: ولما ثقل عليه المرض وحديث الناس أنه الموت قال لأهله: احشوا عيني إثمدا، وأوسعوا رأسي دهنا. ففعلوا، ثم مهد له فجلس وقال: اسندوني. ثم قال: ائذنوا للناس فليسلموا قياما ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما، فيراه مكتحلا مدهنا، فيقول: يقول الناس هو لمآبه وهو أصح الناس. فلما خرجوا من عنده قال:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
49
ولما أغمي عليه وأفاق، قال لأهله: اتقوا الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله. ثم أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، ثم قضى. وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائبا بحوارين، فأقبل وأبوه مدفون، فأتى قبره وصلى عليه ودعا له.
كان معاوية من رجال العرب والإسلام، آتاه الله عقلا واسعا، وحزما نافذا، وإرادة وقوة وذكاء ودهاء وسياسة وكياسة. قال ابن طباطبا: كان معاوية عاقلا في دنياه، لبيبا عالما حليما ملكا قويا، جيد السياسة، حسن التدبير لأمور الدنيا، عاقلا حكيما فصيحا بليغا، يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان عليه أغلب، وكان كريما باذلا للمال محبا للرئاسة مشغوفا بها.
50
وقال المسعودي: كان من أخلاق معاوية أنه كان يؤذن في اليوم والليلة خمس مرات، كان إذا صلى الفجر جلس للقاص حتى يفرغ من قصصه، ثم يدخل فيؤتى بمصحفه، فيقرأ أجزاءه، ثم يدخل إلى منزله، فيأمر وينهى، ثم يصلي أربع ركعات، ثم يخرج إلى مجلسه، فيأذن لخاصة الخاصة فيحدثهم ويحدثونه، ويدخل عليه وزراؤه فيكلمونه فيما يريدون من يومهم إلى العشي، ثم يؤتى بالغداء الأصغر، ثم يتحدث طويلا، ثم يدخل منزله لما أراد، ثم يخرج فيقول: يا غلام أخرج الكرسي، فيخرج إلى المسجد، فيوضع فيسند ظهره إلى المقصورة، ويجلس على الكرسي، ويقوم الأحداث فيتقدم إليه الضعيف والأعرابي والصبي والمرأة، ومن لا أحد له، حتى إذا لم يبق أحد دخل فجلس على السرير، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم، ثم يؤتى بالغداء، ويحضر الكاتب، فيقوم عند رأسه ويقدم الرجل، فيقول له: اجلس على المائدة فيجلس، فيمد يده فيأكل لقمتين أو ثلاثا، والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه أمرا، فيقال: يا عبد الله أعقب، فيقوم ويتقدم آخر حتى يأتي على أصحاب الحوائج، ثم يرفع الغداء ... فيدخل منزله، فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر، فيخرج فيصلي، ثم يدخل فيصلي أربع ركعات، ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة، فإذا كان الوقت وقت شتاء أتاهم بزاد الحاج من الأخبصة اليابسة، والخشكنانج، والأقراص المعجونة باللبن والسكر من دقيق السميد، والكعك المنضد، والفواكه اليابسة، وإن كان وقت صيف أتاهم بالفواكه الرطبة، ثم يدخل إليه وزراؤه فيؤامرونه، ويجلس إلى العصر ثم يخرج فيصلي، ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع، حتى إذا كان آخر أوقات العصر خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم، فيؤتى للنساء فيفرغ منه مقدار ما ينادى بالمغرب، ولا ينادى له بأصحاب الحوائج، ثم يرفع العشاء، وينادى بالمغرب فيخرج ويصليها، ثم يصلي بعدها أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة خمسين آية، يجهر تارة ويخافت أخرى، ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالعشاء الآخرة، فيخرج فيصلي ثم يؤذن للخاصة وخاصة الخاصة، والوزراء والحاشية فيؤامره الوزراء، ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد، فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، قد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا كل يوم.
51
وكان مدبرو الدولة في عهده هم «القاضي»، وكان على قضائه فضالة بن عبيد، ثم عائذ الخولاني، وقد نقلنا عن السيوطي قبلا أنه أول من استقضى في الإسلام. و«صاحب الشرطة»، وكان على شرطته قيس بن حمزة الهمذاني، ثم زميل بن عمرو العذري، و«الكاتب»، وهو سرجون بن منصور الرومي، و«صاحب الحرس»، وهو المختار، رجل من الموالي، و«الحاجب» سعد مولاه، و«صاحب ديوان الخاتم»، وهو عبد الله بن محصن الحميري. ويظهر أن هؤلاء هم الذين سماهم المسعودي وزراء، وهو قصد بالوزارة معناها اللغوي الواسع؛ إذ لم يعرف عن معاوية أنه استوزر أحدا وزارة تفويض أو وزارة تنفيذ.
قال أستاذنا كرد علي: «ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من علم وحلم، يضع أساس الملك، ويسير في رعيته سيرة حسنة حبيبة إليهم، وكان يتأتى الأمور ويداري الناس على منازلهم، ويرفق بهم على طبقاتهم، فأوسع الناس من أخلاقه، فأفاض عليهم من بره وعطائه وشملهم من إحسانه، فاجتذب القلوب واستدعى النفوس حتى آثروه على الأهل والقرابات، وعد مربي دول وسائس أمم وراعي ممالك.»
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
52
ومن خير ما يصور لنا عقل الرجل وحنكته وصية له، أوصى بها بني أمية حين حضرته الوفاة، فقال: «إنه لما قرب مني ما كان بعيدا، وخفت أن يسبق الموت إلي ويسبقكم بي، سبقته إليكم بالموعظة لأبلغ عذرا، وإن لم أرد قدرا، وإن الذي أخلفه لكم من دنياي أمر تشاركون فيه أو تقبلون عليه، وإن الذي أخلف لكم من رأيي مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم حرزه إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي قبول نصيحتي، وإن قريشا شاركتكم في أنسابكم وتفردتم دونها بأفعالكم فقدمكم ما تقدمتم فيه، إذ أخر غيركم ما تأخروا له، ولقد جهر لي فعلمت، وفهم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أولادكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول ذلك اختلافكم بينكم، واتفاق المتخلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد ما أقبل به، فلست أذكر عظيما ينال منكم، ولا حرمة تنتهك لكم؛ إلا وما أكف عن ذكره أعظم منه، فلا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر واحتساب الأجر، فيا لها دولة أنست أهلها الدول في الدنيا، والعقوبة في الآخرة، فيمادكم القوم دولتكم تماد العنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الأمر مداه وجاء الوقت الذي حده رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضعفت الحيلة وعزب الرأي، وصارت الأمور إلى مصائرها، فأوصيكم عندها بتقوى الله - عز وجل - الذي يجعل لكم العاقبة إن كنتم متقين.»
وبعد، فإن معاوية قد أسس ملكا بنى قواعده على النظام والقوة، وشاد جدرانه بحسن الترتيب والتنظيم. وقد استعان معاوية على تأسيس هذا الملك بالشاميين من عرب وروم وغيرهم، وأغدق عليهم وقربهم، فأحبوه وأطاعوه، وقد امتلأت المصادر العربية من تاريخية وأدبية، بأخبار طاعة السوريين لمعاوية وتفانيهم في نصرته.
53
قال الأستاذ فيليب حتي: «ولقد اعتمد معاوية في توطيد عرشه، وتوسيع الفتوح الإسلامية على أهل الشام، وسوادهم الأعظم يومئذ نصارى، واستعان كذلك بالعرب السوريين وأكثرهم يمانيون، ولم يعتمد كثيرا على أهل الحجاز، وتناول الإدارة الحكومية فألغى كثيرا من مظاهرها التقليدية، وأنشأها على الأساس البيزنطي السابق، وأقام جهازا حكوميا منظما، وخلق مجتمعا إسلاميا جديدا.»
54
وخير الصفات التي مكنت معاوية لإشادة هذا الملك، هي كياسته وحلمه، وحنكته ولينه حين اللين محمود، وشدته حيث الشدة مطلوبة، وقد روي عنه أنه قال: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما قطعتها؛ إذا مدوها خليتها وإذا خلوها مددتها.»
55
وانظر إلى كتابه إلى الحسن بعد أن تنازل له يقول: «أما بعد، فأنت أولى بهذا الأمر وأحق به لقرابتك، ولو علمت أنك أضبط له وأحوط على حريم هذه الأمة وأكيد لبايعتك، فسل ما شئت.»
56
فهل ترون دهاء وسياسة بعد هذا؟
ثم إن معاوية استطاع أن ينتقي خير الرجال لمعاونته في إدارة مملكته الواسعة؛ ففي المغرب عمرو بن العاص، وفي المشرق المغيرة بن شعبة في الكوفة، وزياد ابن أبيه في البصرة. وانتقاء الرجال المعاونين في الإدارة من خير ما يثبت أركان الحكم، ويعين على توطيد أركانه، وخصوصا في ابتداء تأسيس الدول.
الفصل الثاني
يزيد بن معاوية
60-64ه/680-684م (1) أوليته
ولد أبو خالد يزيد في سنة 26 للهجرة، وأمه ميسون بنت بجدل بن أنيف الكلبية، وكانت سيدة بدوية، لم تحتمل عيشة المدن والحضارة، فطلبت من معاوية أن يردها إلى البادية فذهبت إليها، وربت ابنها تربية بدوية، وقد نشأ يزيد نشأة فتيان قريش، فصيحا قويا وشاعرا بارعا، قال في الفخري: كان موفر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء والشعر، كان فصيحا كريما، شاعرا مفلقا، قالوا: بدئ الشعر بملك وختم بملك؛ إشارة إلى امرئ القيس وإليه.
1
وكان يزيد ذا مواهب كثيرة من عقل وحنكة وشجاعة ودراية، ولكن الظروف التي أحاطت به قد شوهت سمعته. (2) خلافته
بويع يزيد بالخلافة بعد وفاة أبيه للنصف من رجب سنة 60ه، وقيل لثمان بقين منه، فأول عمل عمله إقراره ولاته عمال أبيه، فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة، والنعمان بن بشير على الكوفة، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، وعمرو بن سعيد بن العاص على مكة، ثم التفت إلى طلب بيعة النفر الذين تخلفوا عن مبايعته، فكتب إلى الوليد بن عتبة كتابا فيه: «أما بعد، فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله، واستخلفه، وخوله، ومكن له، فعاش بقدر ومات بأجل، فرحمه الله؛ فقد عاش محمودا ومات برا تقيا، والسلام.» ثم كتب إليه رسالة أخرى فيها: «أما بعد، فخذ حسينا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة، حتى يبايعوا.» فدعا الوليد مروان بن الحكم وأطلعه على الكتاب، فلما قرأه استرجع وترحم على معاوية، ثم قال: أرى أن تبعث الساعة إليهم فتدعوهم إلى البيعة، والدخول في الطاعة، فإنهم إن علموا بموت معاوية، وثب كل امرئ منهم في جانب، وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه. لا أدري، أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال، ولا يحب أن يولى إلا أن يدفع إلى هذا. أما الحسين وابن الزبير فإنهما يطمعان فيها. ثم بعث إلى الحسين وابن الزبير فاجتمعا وتشاورا في الأمر، فقال الحسين لابن الزبير: يا ابن الزبير قد ظننت أن طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر، فقال ابن الزبير: وأنا ما أظن غيره، فماذا تريد أن تصنع؟ قال الحسين: أجمع قياني الساعة ثم أمشي إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه ثم دخلت. قال ابن الزبير: فإني أخافه عليك، فقال الحسين: لا آتيه أولا وأنا على الامتناع قادر، ثم قام فجمع إليه مواليه وأهل بيته، ثم أتاه، فسلم عليه بالإمرة، ومروان جالس عنده، فقال الحسين: الصلة خير من القطيعة، أصلح الله ذات بينكما. فلم يجيباه في هذا بشيء، ثم أقرآه كتاب يزيد، ودعياه إلى البيعة، فقال الحسين: إنا لله وإنا إليه راجعون، ورحم الله معاوية، وعظم لك الأجر يا وليد. أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تجتزئ بها مني سرا دون أن نظهرها على رءوس الناس علانية. قال: أجل. قال: فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا، فقال له الوليد: حسنا، انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس . وقال مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت عليه أو تضرب عنقه، فوثب الحسين وقال: يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت، ثم خرج فقال مروان للوليد: عصيتني، «والله لا يمكنك من نفسه أبدا»، ودخل الحسين بيته ثم خرج ليلا إلى مكة هاربا.
أما ابن الزبير فإنه قال للرسول: اذهب فسآتيكم. ثم دخل داره، حتى إذا كان الليل خرج فأخذ طريق الفرع، هو وأخوه جعفر، وقصد مكة فدخلها قبل الحسين بيوم، فلما دخلها قال: أنا عائذ بالبيت، ولم يكن يصلي مع الناس ولا يفيض بإفاضتهم، وكذلك فعل الحسين. وأما ابن عمر فإنه قال لهم: إذا بايع الناس بايعت. فتركوه وكانوا لا يتخوفونه.
2 (3) نكبة الحسين
لما اجتمع ابن الزبير والحسين في مكة، وأخذا يثيران الناس على يزيد ضاق يزيد بهما، ولكن مكانتهما وموضعهما كانا يحولان دون الفتك بهما، ويظهر أن ابن الزبير قد رأى في الحسين منافسا قويا، فعزم على السكوت مؤقتا إلى أن يحين وقته.
3
وأخذ الحسين يكاتب شيعته في الكوفة ويكاتبونه؛ ومن ذلك ما كتبوا به إليه يقولون: «أما بعد، فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العتيد، الذي اعتدى على هذه الأمة فانتزعها حقوقها واغتصبها أمورها، وغلبها على فيئها، وتأمر عليها على غير رضى منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، فبعدا له كما بعدت ثمود، إذ ليس علينا إمام، فاقدم علينا لعل الله يجمعنا بك على الهدى، فإن النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا مخرجك أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام.»
4
ومما كتب إليهم قوله: «من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله؛ فلعمري، ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام.» ثم تتابعت رسل الكوفيين إلى الحسين، يدعونه إلى القدوم عليهم، فوجه إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وقال له: اذهب إليهم فانظر ما كتبوا به، فإن كان حقا خرجنا إليهم. فلما أتاهم بايعه منهم اثنا عشر ألفا، وكتب مسلم بذلك إلى الحسين وطلب إليه الحضور، وبلغت هذه الأخبار يزيد، فاستضعف أميره على الكوفة النعمان بن بشير وعزله، وولاها عبيد الله بن زياد بالإضافة إلى البصرة، فقدمها فورا ومسلم بن عقيل فيها، فلما نزل القصر دعا مولى له فأعطاه ثلاثة آلاف، وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع الكوفيون للحسين عنده، فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى به، فذهب المولى ولم يزل يتلطف حتى دل على شيخ من الكوفيين يلي البيعة، اسمه هانئ بن عمر فأخبر خبره، فقال له هانئ: لقد سرني لقاؤك إياي وساءني؛ فأما ما سرني فما هداك الله له، وأما ما ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد. ثم بايعه ورجع إلى عبيد الله وأخبره بالخبر، ثم إن عبيد الله علم أن مسلم بن عقيل هو في بيت هانئ بن عمر، فاستدعاه وسأله عن مسلم فأنكره، فنادى عبد الله مولاه فخرج إليه فصعق هانئ، وعلم مسلم بما جرى، فجمع جمعا من الكوفيين يقرب من أربعة آلاف، وسار بهم للقاء عبيد الله، فأخذوا يتسللون في الطريق حتى إذا بلغوا الإمارة، لم يكن عددهم أكثر من خمسمائة، فلما جاء الظلام وجد مسلم أنه أمسى وحده فالتجأ إلى دار في المدينة، ولما علم عبيد الله بملجئه بعث إليه فقبض عليه، ثم أمر به أن يصعد إلى أعلى قصر الإمارة، فضربت عنقه وألقيت جثته إلى الناس، ثم أمر بهانئ فسحب إلى الكناسة فصلب هناك.
أما الحسين فإنه أخذ يهيئ نفسه للمسير إلى العراق، ولكن جماعة من القرشيين حاولوا أن يثنوا عزمه مثل عمر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي وعبد الله بن عباس، أما ابن الزبير فكان يحرضه على المسير، ليخلو له الجو؛ فقد روى الطبري عن أبي مخنف، قال: إن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس، فقال: يا ابن عم، إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ قال: إني أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله، فقال ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك. أخبرني - رحمك الله - أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد عليك، فقال له الحسين: إني أستخير الله وأنظر ما يكون. قال: فخرج ابن عباس وأتاه ابن الزبير، فحدثه ساعة ثم قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، وعن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم؟! خبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله. فقال ابن الزبير: أما والله لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها. ثم إن ابن عباس أتاه ثانية، فقال له: يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر. إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم، فلينفوا عدوهم ثم اقدم عليهم، فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن، فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وتبعث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك الذي تحب في عافية، فقال الحسين: يا ابن عم، والله أعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير.
قال ابن عباس: فلا تسر بنسائك وصبيتك؛ فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون. ثم قال ابن عباس: والله إنك أقررت عين ابن الزبير، بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها.
5
وبينا كان الحسين يهيئ نفسه للخروج، إذ قدم الفرزدق حاجا فرآه الحسين، وسأله عن العراق وأهله، فقال له: القلوب معك والسيوف مع بني أمية والقضاء بيد الله.
6
ولكن الحسين لم يلتفت إلى ذلك كله، بل سار بأهله وولده ورهط من شيعته لم يتجاوزوا الثمانين رجلا، فلما دنا الكوفة وعلم بمقتل مسلم بن عقيل، وخذلان أهلها له قابله الحر بن يزيد التميمي، وقال له: «ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه.» فداخل الحسين الشك وعزم على الرجوع، ولكن إخوة مسلم بن عقيل أبوا أن يرجعوا وصمموا على الأخذ بثأر أخيهم، فنزل الحسين عند رأيهم وسار حتى لقيته خيل عبيد الله بن زياد، فعدل إلى كربلاء وخيم هناك، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وبعث إليه عبيد الله بن زياد عمر بن سعد بن أبي وقاص، فلما أتاه قال له الحسين: آخذ واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فأنصرف من حيث أتيت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور. فقبل عمر ذلك، وأبى عبيد الله إلا القتال، ونشبت المعركة بين الطرفين في الطف من أرض كربلاء في العاشر من المحرم سنة 61ه، فقتل أصحاب الحسين جميعا، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، ثم هجم عليه المذحج فقتله، وحز رأسه سنان بن أنس النخعي.
7
وانطلق به إلى عبيد الله وهو يقول:
أوقر ركابي فضة وذهبا
فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وقد ظهر من الإمام الحسين في ذلك الموقف حزم وجرأة وصبر واحتساب، وورع يدل على إيمان ويقين، جديرين بنجل علي وسبط النبي، صلوات الله عليهم. قال ابن طباطبا: قتل الحسين قتلة شنيعة، ولقد ظهر منه عليه السلام من الصبر والاحتساب والشجاعة والورع والخبرة التامة بآداب الحرب والبلاغة، ومن أهله وأصحابه - رضي الله عنهم - من النصر له، والمواساة بالنفس، وكراهية الحياة بعده، والمقاتلة بين يديه عن بصيرة ما لم يشاهد مثله، ووقع النهب والسبي في عسكره وذراريه عليهم السلام، ثم حمل النساء ورأسه صلوات الله عليه إلى يزيد بن معاوية بدمشق، فرد نساءه إلى المدينة.
8
وكان عمره يوم قتل خمسا وخمسين سنة، وكان ممن قتلوا مع الحسين أخوه العباس، وجعفر بن علي بن أبي طالب، وعثمان بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن علي بن أبي طالب، وعلي الأكبر بن الحسين بن علي، وعبد الله بن الحسين بن علي، وأبو بكر بن الحسن بن علي، والقاسم بن الحسن بن علي، وعون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن جعفر، وجعفر بن عقيل بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن عقيل بن أبي طالب، ومسلم بن عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، واستصغر ابنه علي بن الحسين بن علي، والحسن بن الحسن بن علي، وعمرو بن الحسن بن علي.
9
وكان لمقتل هؤلاء ونكبتهم صدى مؤلم لدى العالم الإسلامي كافة والشيعي خاصة، ولا غرو فإن فداحة النكبة والأسلوب الفظ الذي اتبع في قتل هؤلاء الأبرار الأطهار، كان ذا أثر عميق، وجرحا بالغا لم يندمل. (4) نكبة الحرة
تألم المدنيون جدا مما حل بسبط النبي وريحانته، وأعلنوا سخطهم على يزيد وواليه في المدينة، ثم ازدادت حماستهم، فخلعوه وطردوا عامله عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وطاردوا من كان بها من الأمويين ورجالهم، وحاصروهم في دار مروان بن الحكم، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وكتب مروان بن الحكم كتابا إلى يزيد، بعث به مع عبد الملك بن مروان هذه صورته «أما بعد، فإنا قد حصرنا في دار مروان بن الحكم، ومنعنا العذب ، ورمينا بالحبوب فيا غوثاه! يا غوثاه.» فلما قرأ الكتاب قال:
لقد بدلوا الحكم الذي من سجيتي
فبدلت قومي غلظة بليان
ثم قال: أما يكون بنو أمية ومواليهم ألف رجل؟ فقال عبد الملك: بلى والله وأكثر. قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، أجمع الناس عليهم فلم يكن لهم بجمع الناس طاقة. قال: فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب، وأمره أن يسير إليهم، فاعتذر. قال عبد الملك: فبعثني بالكتاب إلى مسلم بن عقبة المري، وهو شيخ كبير ضعيف مريض، فدفعت إليه الكتاب، فقرأه وسألني عن الخبر فأخبرته، فقال لي مثل مقالة يزيد، ثم جاء حتى أتى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين لا تنصر هؤلاء فإنهم الأذلاء، أما استطاعوا أن يقاتلوا يوما واحدا أو شطره أو ساعة؟! دعهم يا أمير المؤمنين حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم. قال: ويحك، إنه لا خير في العيش بعدهم، فاخرج وسر بالناس. فخرج مناديه فنادى أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار. فانتدب لذلك اثني عشر ألف رجل، وخرج يزيد إلى الخيل يتصفحها وينظر إليها وهو متقلد سيفه، متنكبا قوسا عربية وهو يقول:
أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى
وهبط القوم على وادي القرى
عشرون ألفا بين كهل وفتى
أجمع سكران من القوم ترى
أم جمع يقظان نفى عنه الكرى
يا عجبا من ملحد يا عجبا
مخادع في الدين يقفو بالعرى
ثم قال لمسلم بن عقبة: إن حدث بك حدث فاستخلف حصين بن نمير السكوني، وادع القوم ثلاثا فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فيها من مال أو رقة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوص به خيرا، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، وقد أتاني كتابه. وأقبل مسلم بالجيش حتى إذا بلغ الحرة خارج المدينة وعلم المدنيون بذلك، ازداد تضييقهم على الأمويين ، وقالوا: والله لا نترككم حتى تعطونا موثقا أن لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوا، فأعطوهم الموثق، فأخرجوهم من المدينة حتى أتوا مسلم، وقصوا عليه من أحوال المدينة ما يستعين به على قتال المدنيين. ثم بعث لأهل المدينة يطلب إليهم الخضوع والاستسلام، ويحدد لهم موعدا لثلاثة أيام، فلما انقضت الأيام الثلاثة، وكان ذلك لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 63ه صاح مسلم قائلا: يا أهل المدينة، قد مضت الأيام الثلاثة فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب.
فقال لهم: لا تحاربوا بل ادخلوا في الطاعة، فردوا عليه بشدة، فطلب إلى جماعته أن يحملوا عليهم، فتقاتل الطرفان قتالا شديدا، ودارت رحى القتال على أهل المدينة، فقتل آمرهم عبد الله بن حنظلة الغسيل ثم تفرقوا، وفتحت المدينة فدخلها مسلم، وفتك بأهلها، وأخذ بيعتهم على أنهم خول ليزيد، ومن لم يقبل ضربت عنقه، ثم أباح المدينة ثلاثا كما قال له يزيد، فأسرف هو وجنده في القتل والسلب والنهب، حتى لقب بالمسرف.
10
والحق أن هذه النكبة التي حلت بمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
لم تكن أقل بكثير من النكبة الحسينية، فقد هلك فيها جمهرة كبيرة من سيوف الإسلام وناشري لوائه، وعدد كبير من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار، ولو كان الشيخ مسلم بن عقبة على شيء من الحنكة ورجاحة العقل، لأدرك أن قولة يزيد في إباحة المدينة قولة صدرت عن شاب تحمس لبني قرابته، وللشيوخ من الغلطات والسفاهات ما لا يصدر عن أكثر الشبان حماقة وضلالة، وإلا فأي رجل يبيح المدينة الطيبة التي آوت النبي ونصرته، وأعزت دينه ونصرت جنده في ساعة العسرة، وما أشبه عمل مسلم بن عقبة بعمل ذلك المجرم الصهيوني في دير ياسين، حينما أباح القرية وأهلها للسفاحين السفاكين، ففسقوا بالبنات وبقروا بطون الحوامل، ولم يبقوا في القرية طفلا ولا شيخا ولا مريضا، ولا احترموا مسجدا أو جامعا، ولا بيعة ولا كنيسة، خذلهم الله، وشتت جمعهم، وأذل عزتهم.
ولا بد لنا قبل ختام البحث عن نكبة الحرة من أن نتعرض لآراء بعض المستشرقين المهتمين بالتاريخ الإسلامي، والذين بحثوا هذه القصة.
يصور دوزي في كتابه «تاريخ إسبانيا»، وأكوست مولر في كتابه «الإسلام في المشرق والمغرب» هذه القصة بأنها إنما قامت بسبب ثورة الأفكار الجاهلية على الأفكار الإسلامية، وأن أهل الشام كانوا يريدون أن يثأروا من أهل المدينة الذين قتلوا آباءهم يوم بدر، وغيرها من المواقع التي فتك فيها المسلمون بالمشركين، أو هي ثورة الأرستقراطية الجاهلية المشركة على الديمقراطية الإسلامية المؤمنة! إلخ ما هنالك من أقوال وأحكام يصدرها المستشرقون تبعا لأهوائهم، وقلوبهم المريضة المشبعة بكره الإسلام الممتلئة بالحقد والحسد. على أن المستشرق «فلهوزن» يتجرد لتهديم آراء المستشرقين السابقين، ويخطئ أقوالهما ويقول: إن يزيد وأهل الشام إنما قاموا بحركتهم هذه ذودا عن كيان الحكومة الجديدة، وإن المسألة ليست مسألة أحقاد وإحن جاهلية، وإنما هي مسألة مصالح دولية، وإن القضية تدور حول الحكم، ولا علاقة لها بالتشفي والثأر؛ ولا أدل على ذلك من أن يزيد كان يريد السلم ويسعى إليه، وأن قائده مسلم بن عقبة فعل ما فعل وهو مؤمن أنه قام بعمل يرضي الله ورسوله. والحق أن هذه الفتنة إنما كانت ذيادا عن الحكومة الجديدة، وأن يزيد خاف أن تتطور الأمور وتفسد أركان دولته، فلجأ هذا الملجأ. وموقعة الحرة إنما جرت بين طرفين كل واحد يحاول السيطرة على حكم الدولة الإسلامية. (5) نكبة الكعبة
وهذه ثالثة الأثافي، فإن يزيد طلب إلى قائده مسلم بن عقبة بعد أن فعل الأفاعيل بوقعة الحرة، أن يولي المدينة روح بن زنباع الجذامي، ويتوجه إلى مكة والقضاء على حركة عبد الله بن الزبير الذي ثار فيها، وأعلن خلافته على المسلمين، ودعا إلى خلع يزيد، وقد مات مسلم وهو في طريقه إلى مكة، فتولى الجيش الحصين بن نمير، فسار إلى مكة بعد انتهاء موسم سنة 63 ودخلت سنة 64، وجيش يزيد محدق بمكة بقيادة حصين بن نمير السكوني فاشتبك الجمعان، واستمر القتال من آخر المحرم ومدة صفر، وفي أوائل ربيع الأول ضاق الحصين ذرعا بأهل مكة، فأخذ يقذف البيت العتيق بالمجانيق والشاميون يرتجزون بقولهم:
خطارة مثل الفنيق المزبد
نرمي بها أعواد هذا المسجد
11
وبينما هم كذلك إذ جاء نعي يزيد، فتخاذل الحصين بن نمير، ورفع الحصار عن الكعبة، وأخذ أمر ابن الزبير ينمو، وأبقى الكعبة على احتراقها ليراها الناس فيثوروا على بني أمية.
12 (6) الفتوح في عهد يزيد
في سنة 61 استعمل يزيد سلم بن زياد على خراسان، فسار غازيا، وكان في جيشه نفر من وجوه الناس وأبطال المسلمين مثل عمران بن الفضيل البرجمي، والمهلب بن أبي صفرة، وعبد الله بن حازم السلمي، وطلحة بن عبيد الله الخزاعي وغيرهم، وسار إلى خراسان، وعبر النهر غازيا، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة بما يلي خوارزم، فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضا، ويتشاورون في أمورهم، فكان المسلمون يطالبون أمراءهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سلم غزا فشتا في بعض مغازيه، فألح عليه المهلب وسأله التوجه إلى تلك المدينة، فوجهه في ستة آلاف، وقيل أربعة آلاف فحاصرهم وطلبوا الصلح، فبلغت قيمة ما أخذه منهم خمسون ألف ألف، فحظي بها المهلب عند سلم، وغزا سلم سمرقند، وعبرت معه امرأته أم محمد ابنة عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقيفية، وهي أول امرأة عربية قطعت النهر، فولدت له ابنا سماه صفدي.
وفي تلك السنة ولى يزيد يزيد بن زياد أخا سلم على سجستان، فغزاهم فغلبوه وشتتوا جيشه وأسروا عددا منهم، فأنجدهم سلم بن زياد بجيش عليه طلحة الطلحات بن عبد الله الخزاعي، فاسترد الأسرى، وسار طلحة من كابل إلى سجستان ومات هناك.
وفي سنة 62 أعاد يزيد عقبة بن نافع أميرا على إفريقية، بعد أن كان أبوه قد استدعاه إلى دمشق، فمات معاوية وعقبة بدمشق فأعاده يزيد ، ولما وصلها استمر في فتوحه حتى بلغ طنجة والسوس الأقصى، ورأى البحر المحيط، فقال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في هذه البلاد مجاهدا في سبيلك.
13
واستمر في فتوحه حتى قتل. (7) موت يزيد وصفاته
مات يزيد وهو بحوارين من أعمال حمص لأربع عشرة ليلة، خلت من ربيع الأول سنة 64ه، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وله من الأولاد معاوية، وخالد، وأبو سفيان، وعبد الله، وعبد الله الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة، وحرب، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد.
وكان يزيد عاقلا مدبرا، فيه كثير من صفات أبيه، ولكن ما جرى في زمانه من الحوادث المؤلمة جعل الناس ينظرون إليه نظرة ازدراء وانتقاص، وأكثر المؤرخين يذهبون إلى التهجم عليه، وسلبه المزايا التي كان يتحلى بها. يقول أستاذنا مؤرخ الشام محمد كرد علي: «سار على خطة أبيه في جهاد الروم، وكان جلدا صبورا، ولم تمنعه فتنة ابن الزبير وشيعة العراق عن قتالهم، وأهم الأحداث في زمانه قتل الحسين بن علي - رضي الله عنه - وحمل رأسه الشريف إلى الشام، وإهانة أسرته الطاهرة وقتل بعض رجالها، فارتكب ابن زياد عامل العراق ليزيد من ذلك أمرا، أكبره أهل الإسلام، وزادت بذلك شيعة علي وآله حنقا وشدة، ولم يكن يزيد يريد قتل الحسين عملا بوصية والده، فإن زحر بن قيس لما حمل من العراق إلى الشام أهل بيت حسين، ودخل على يزيد وبشره بذلك دمعت عينه، وقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية (يعني ابن زياد)، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين.
واتفق أهل المدينة سنة 62 على خلع يزيد، فجهز جيشا فقاتل جند الشام أهل المدينة في الحرة، واستباح مسلم المدينة، وكان قتلى الحرة سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من وجوه الموالي، حنقت نفوس الأمة من وقعة الحرة؛ لأن فتنتها التهمت بضع مئات من علية قريش، وكانت غلطة زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين، ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد، فتقولوا عليه وحطوا من كرامته، مع أنه سار كسيرة أبيه في الملك من التوسع في الفتوح، وقتال أعداء المملكة من الروم. أما وقعة الحرة فإن أهل المدينة استطالوا على يزيد وحاسنهم، فخاشنوه وأحرجوه حتى أخرجوه.»
14
ونحن لا نشارك أستاذنا في رأيه؛ فإن يزيد مسئول عن أعمال عماله، فهو الذي وجههم، وهو الذي زودهم بما يجب عليهم عمله، وإذا كان ما جرى في كربلاء قد جرى بدون علمه ولا موافقته، بل إنه استنكره واستبكاه، فإن ما جرى في الحرة والمدينة قد جرى بأمره، وما اختياره «مسلما» لقتال الحجازيين، وهو يعرف عنه الغلظة والقسوة، إلا اختيار متعمد مقصود. وقد كنا نأمل من رجل بلغ من العمر عتيا، بل هو على حافة قبره أن يرعى الله في بيته الحرام، ومقبر نبيه - عليه الصلاة والسلام - ولكنه كان شيخا عاتيا ظالما، أدركته حماقة من حماقات الجاهلية، واستولت عليه نزوة من نزوات الشيطان، ففعل فعلاته، وعين يزيد تراه، وأذنه تسمعه، ويده تدفع به، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعد، فهذه بعض المآخذ على يزيد؛ على أن له محاسن تتجلى في حزمه وعزمه على توطيد أركان الملك الذي شاده أبوه، وحماسته لنصرة الإسلام ونشر رايته في بلاد الروم.
قال الدكتور حتي: «ولقد حاصر جيش الأمويين القسطنطينية ثلاث مرات، ولم يتمكن العرب في غيرها من بلوغ الأسوار الثلاثة حول هذه العاصمة المنيعة، وكان أول حصار بقيادة يزيد سنة «49ه/669م»، وقد قصد معاوية من إرسال يزيد على هذه الحملة أن يجعله سندا لفضالة بن عبيد الأنصاري، الذي توجه برا وكان قد قضى شتاء 668-669م في خلقيدونية ضاحية القسطنطينية الآسيوية، وأن يرد من ناحية ثانية على هؤلاء الذين كانوا يرتابون في كفاءة يزيد لولاية العهد، ولا يرضون عن بيعته. ولقد جاء في الروايات والأساطير العربية أن يزيد أظهر في هذه الحرب من الشجاعة والبأس ما أكسبه لقب فتى العرب. وذكر صاحب الأغاني: أنه في أثناء الحصار نظر يزيد إلى قبتين مبنيتين عليهما ثياب الديباج، فإذا كانت الحملة للمسلمين ارتفع من إحداهما أصوات الدفوف والمزامير، وإذا كانت الحملة للروم ارتفعت أصوات من الأخرى، فسأل يزيد عنهما فقيل له: هذه بنت ملك الروم، وتلك بنت جبلة بن الأيهم، وكل واحدة منهما تظهر السرور بما تفعله عشيرتها، فتحمس يزيد وقال: أما والله لأسرنها، ثم حمل حتى هزم الروم، فأحجرهم في المدينة، وضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده فهشمه حتى انخرق.»
15 (8) كبار رجال الدولة في عهد معاوية ومن بعده (1)
عمرو بن العاص السهمي القرشي (؟-43) ولاه النبي إمرة «ذات السلاسل»، وكان أحد أمراء جيوش فتح الشام أيام عمر، فتح قنسرين وصالح أهل حلب، فاتح مصر، وصاحب معاوية، ولاه مصر وأطلق له خراجها ست سنين، وله آثار وأخبار كثيرة. (2)
عبد الرحمن بن سمرة القرشي (؟-50) فاتح سجستان، وكان من كبار الناس في العقل والحزم والنبل والعزم. (3)
عثمان بن أبي العاص الثقفي (؟-50) الذي ولاه النبي على الطائف، وفتح على يديه فتوحات كثيرة واستقر في البصرة، وكان من فضلاء الزمان. (4)
أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري (؟-50 أو 52)، كان شجاعا صابرا محبا للغزو، شهد بدرا والعقبة وأحدا والخندق، وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يعجب به ويحبه، غزا مع يزيد بن معاوية في بلاد الروم، مرض ومات هناك، فدفنه يزيد تجاه سور القسطنطينية.
16 (5)
عمران بن حصين الخزاعي (؟-52) من فضلاء الصحابة، تولى قضاء البصرة، بعثه عمر إليها ليفقههم في الدين. (6)
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (53)، أسلم بعد أبيه قبل الفتح، وكان شجاعا راميا، ذا فضل وعزم. (7)
زياد ابن أبيه (53) استلحقه معاوية بأبي سفيان، وجمع له إمرة العراقيين، وكان يعد من دهاة الرجال وعقلاء الناس وشجعانهم وفصحائهم. (8)
مسلم بن عقبة المري (63) قائد شجاع داهية، شهد صفين مع معاوية، وولاه يزيد قيادة الجيش لقتال أهل المدينة يوم الحرة، ومات في طريق مكة، وهو ذاهب إليها بعد يوم الحرة في مكان يسمى بالمشلل. (9)
عقبة بن عامر الجهني، أمير من الصحابة (؟-58)، شهد صفين مع معاوية، وولي مصر سنة 44، وعزل عنها سنة 47، وولي غزو البحر، وكان شجاعا فقيها شاعرا قارئا راميا. (10)
مسلمة بن مخلد الخزرجي (62) من كبار الأمراء، ولاه معاوية إمرة مصر والمغرب، سير الغزاة إلى المغرب في البر والبحر، أمره يزيد إلى أن مات. (11)
عتبة بن أبي سفيان (44) أخو معاوية، ولاه على مصر سنة 43، فلم يلبث إلا سنة ومات، كان عاقلا فصيحا مهيبا من فحول الأمويين. (12)
أبو إدريس عائذ الله بن عبيد الله الخولاني (؟-80) تابعي، فقيه دمشق وقاضيها، كان من الزهاد والعباد والفقهاء، ولاه يزيد قضاء دمشق.
الفصل الثالث
عهد معاوية بن يزيد ومروان
بن الحكم
64-65 (1) عهد أبي ليلة معاوية الثاني
هلك يزيد وعبد الله بن الزبير خليفة في الحجاز، وقد بلغ نعي يزيد إلى ابن الزبير، قبل أن يبلغ الحصين بن نمير قائد الجيش الشامي المقاتل لابن الزبير، فنادى ابن الزبير حصينا، وقال: علام تقاتل وقد هلك طاغيتكم؟! فلم يصدقه حتى جاء الخبر، فبعث إلى ابن الزبير يهادنه ويقول: موعد ما بيننا الليلة في الأبطح، فالتقيا وتحادثا، فاستطاع ابن الزبير أن يجتذب حصينا، فقال له: هلم نبايعك، ثم اخرج معنا إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام ورؤساؤهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك وبين أهل الحرم.
فقال: أنا لا أهدر الدماء، والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة منكم.
وأخذ الحصين يكلمه سرا وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل. فقال الحصين: قبح الله من يعدك بعد أديبا أو داهيا؛ وقد كنت أظن أن لك رأيا، وأنا أكلمك سرا وتكلمني جهرا؛ وأدعوك إلى الخلافة، وأنت لا تريد إلا القتل والهلكة؟! ثم فارقه، ورحل هو وأصحابه إلى المدينة. وندم ابن الزبير على ما صنع، فأرسل إليه يقول: أما المسير إلى الشام فلا، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم. فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك لا يتم الأمر، فإن هناك ناسا من بني أمية يطلبون هذا الأمر. وسار الحصين إلى المدينة، ثم خرج معه بنو أمية إلى الشام، ولو خرج معهم ابن الزبير لم يختلف عليه أحد، فوصل أهل الشام دمشق، وقد بويع معاوية بن يزيد، فلم يكن إلا ثلاثة أشهر حتى هلك، وقيل بل ملك أربعين يوما، ومات وعمره إحدى وعشرون سنة وثمانية عشر يوما.
1
وقد اضطربت أقوال المؤرخين في فترة خلافته، كما اضطربت في سبب تخليه عنها، فقال بعضهم: إنه هو الذي تخلى، وذهب آخر إلى أنه كان مريضا مرضا يمنعه من القيام بالأمر، وقيل: إنه كان مكرها على ذلك وأنه قد دس له سم فقتل.
قال ابن الأثير: بويع معاوية فلم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك، وقيل بل ملك أربعين يوما ومات. ولما كان في آخر إمارته أمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت سنته مثل أهل الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات مسموما، وكان معاوية أوصى أن يصلي الضحاك بن قيس بالناس حتى يقوم لهم خليفة، وقيل لمعاوية لو استخلفت، فقال: لا أتزود مرارتها وأترك لبني أمية حلاوتها.
2
وقيل: إن معاوية بن يزيد كان قدريا؛ لأن عمر المقصوص أحد أئمة الكلام من المعتزلة القدرية كان علمه وهذبه فأدخله في مذهبه، ولما صار إلى الخلافة سأل أستاذه في أمرها فقال له: إما أن تعتدل أو تعتزل، ففكر طويلا ثم عزم على أن يخطب الناس، فخطبهم الخطبة السابقة، فوثب بنو أمية على عمر المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلمته! فطمروه ودفنوه حيا.
3 (2) عهد مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس (64-65)
لما اعتزل معاوية انقسم الناس ثلاثة أقسام: قسم مع ابن الزبير، وهم أهل الحجاز وكثير من أهل الشام، وقسم مع بني أمية وهم بعض أهل الشام (كان اليمنية بزعامة كلب مع بني أمية، ولكنهم انقسموا قسمين: قسم منهم مع خالد بن يزيد الأديب العالم ولكنه صغير، وقسم مع مروان بن الحكم، وكان القيسية بزعامة الضحاك بن قيس مع عبد الله بن الزبير)، وقسم مستقلون لا يميلون إلى هؤلاء ولا أولئك.
أما ابن الزبير فقد بايعه أهل الحجاز، وكثير من المصريين، وأكثر الشاميين، وكاد يستتب له الأمر، فاتخذ مكة مركزا له وتسمى بأمير المؤمنين، وكان مروان بن الحكم أكبر الأمويين، ومن أكثرهم دهاء وسياسة وحنكة، فدعا لنفسه وقر رأي أهل الشام على أن تجتمع بالجابية من أرض حوران، وتناظروا في الأمر، فلما اجتمعوا قام روح بن زنباع الجذامي فخطب الناس، وقال: يا أهل الشام هذا مروان بن الحكم، شيخ قريش، والطالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل ويوم صفين، فبايعوا الكبير. فاتفقوا على مبايعة مروان، ثم خالد بن يزيد، ثم عمرو بن سعيد بن العاص من بعدهما، وأرادوا أن يقصدوا دمشق، وكان الضحاك بن قيس قد تغلب عليها، فلما بلغه بمقدم روح بن زنباع ومروان بن الحكم خرج للقائهما في جمع كبير، قيل هو ثلاثون ألفا، وكان مع مروان وروح ثلاثة عشر ألفا، فالتقى جمعاهما عند مرج راهط في محرم سنة 65، وجرت معركة كبيرة بين الجانبين قتل فيها الضحاك بن قيس، وتفرق جمعه، وهرب كثير من رجاله واستقر مروان بدمشق، وهكذا انتصرت قبائل قيس العدنانية على قبائل الضحاك القحطانية.
4
وقد أذكت هذه المعركة نار العصبية الجاهلية بين العدنانية والقحطانية لا في الشام وحسب، بل في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وبخاصة في خراسان، ولقي المسلمون من جراء ذلك عنتا، وقامت بين الجانبين حروب ومعارك استمرت إلى أيامنا هذه.
ولما استقر الأمر لمروان في الشام، سار هو وابنه عبد العزيز إلى مصر؛ لقتال عبد الرحمن بن جحدم، عامل ابن الزبير عليها، حتى بلغ أيلة «قرب العقبة»، فأخذ جحدم يستعد للقائه، وحفر حول الفسطاط خندقا عظيما؛ ليحول دون المدينة، فتم حفره في شهر. وبعث جحدم جيشا كبيرا للقاء مروان وابنه، والتقى الجمعان وفاز المروانيون، وانهزم جحدم ولم ينفعه خندقه، ودخل مروان عين شمس ثم الفسطاط، وبنى الدار البيضاء، وبايعه الناس إلا نفرا لم يخلعوا بيعة ابن الزبير ، فضرب أعناقهم.
5
وكان من بينهم الأكدر بن حمام سيد اللخميين، ونفر كبير من المعافر، فثار اللخميون وكادت أن تقع فتنة كبيرة لولا أن تداركها مروان بحكمته وعقله، ولما تم له الأمر بمصر رجع إلى الشام، وشرع يعد حملتين إحداهما إلى العراق والثانية إلى الحجاز، أما الأولى - وكانت بزعامة عبد الله بن زياد - فإنها سافرت، ولم تكد تقوم بعمل حاسم حتى جاءها الخبر بموت مروان، وأما الثانية - وكانت بزعامة حبيش بن دلجة القيني - فهزمها ابن الزبير، وجاءها خبر مروان فتفرق شملها، كما سترى تفصيل ذلك بعد.
كان مروان بعد أن استقر له الأمر قد خلع خالد بن يزيد من ولاية عهده، وأمر أهل الشام بمبايعة ابنه عبد الملك وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد، وأخذ ينتقص خالدا ويشتمه ويصفه بالحمق، فدخل خالد على أمه، وكانت قد تزوجت مروان بعد وفاة يزيد، فقص عليها ما يراه ويسمعه من مروان، فقالت له: لا يعرفن ذلك منك، واسكت فإني أكفيكه. ولما قام عندها مروان وضعت على وجهه وسادة لم ترفعها حتى قتلته، وعندما علم عبد الملك بذلك أراد قتلها، فأشير عليه بالعدول عن ذلك، كيلا يتحدث الناس أن امرأة قتلت أباه فيلحقه العار من ذلك.
6
وكان هلاك مروان في رمضان سنة 65، وله من العمر ثلاث وستون سنة.
7
ومدة خلافته تسعة أشهر وأيام.
قال المدائني: كان مروان من رجال قريش، من أقرأ الناس للقرآن، وكان يقول: ما أخللت بالقرآن قط، وإني لم آت الفواحش والكبائر قط.
8 (3) الأحوال العامة في عهد معاوية ومروان
جرت خلال العام الذي حكم فيه هذان الخليفتان حوادث جليلة نجملها فيما يلي: (1)
فتنة أهل الرأي؛ وذلك أنه لما بلغهم موت يزيد خلعوا ربقة الطاعة لبني أمية، وكان على رأسهم الفرحان الرازي، فبعث إليهم عامر بن مسعود أمير الكوفة جيشا بقيادة محمد بن عمير بن عطارد التميمي، فتغلب عليه الرازيون، فبعث إليهم عامر عتاب بن ورقاء التميمي، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تفرق المشركون وقتل الفرحان.
9 (2)
فتنة أهل خراسان؛ وذلك أنه لم يكفهم موت يزيد واختلاف العرب بعده، وكان أمير خراسان سلم بن زياد، فخطب الناس وردهم إلى بيعته حتى يستقيم أمر الناس على خليفة فبايعوه، ثم نكثوا عهده بعد شهرين، فخرج من خراسان وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة، فلما وصل نيسابور لقيه عبد الله بن خازم، فقال له: من وليت خراسان؟ فأخبره فقال: أما وجدت من توليه خراسان غير هذا اليمني؟ اكتب لي عهدا على خراسان، فكتب له وأعطاه مائة ألف درهم، ووقعت فتنة كبيرة بين ابن خازم والمهلب، انشطر فيها العرب شطرين: يمانية ونزارية، وانشطر النزارية إلى ربيعية ومضرية، وقد استمرت هذه الفتن طويلا حتى قال أحد المضريين: إن ربيعة لم تزل غضابا على ربها منذ بعث نبيه من مضر.
10 (3)
فتنة أهل الكوفة: وذلك أنهم لما علموا بموت يزيد، وأن البصريين قد بايعوا عبيد الله بن زياد، عزلوا أميرهم عمرو بن حريث، وأمروا عامر بن مسعود بن خلف القرشي.
11
فمكث ثلاثة أشهر حتى خضعت الكوفة لابن الزبير. (4)
فتنة أهل البصرة: وذلك أنهم بايعوا عبيد الله بن زياد، بعد أن علموا بموت يزيد، ولكنهم لم يلبثوا أن خلعوه ووقعت بين الجانبين حوادث انتهت بهرب عبيد الله إلى الشام، وخضوع البصرة لابن الزبير.
12
واستقر المصران (البصرة والكوفة) لعبد الله بن الزبير حين بعث عليهما عبيد الله بن يزيد الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج.
الفصل الرابع
عبد الله بن الزبير
64-73ه (1) أوليته
هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، ولد عام الهجرة، وهو أول مولود في الإسلام، وحنكه النبي
صلى الله عليه وسلم
وتربى تربية إسلامية بحتة فحفظ عن النبي
صلى الله عليه وسلم
جملة من الأحاديث، كما روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة، وهو أحد العبادلة وأحد الشجعان من الصحابة، ونقل ابن حجر في الإصابة عن البيهقي في دلائل النبوة عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أنه أتى النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد الله، اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برز عن رسول الله عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: يا عبد الله، ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس، قال: لعلك شربته، قال: نعم. قال: ولم شربت الدم؟ ويل للناس منك، وويل لك من الناس.
1
وقد شهد عبد الله وقعة اليرموك مع أبيه، وشهد فتح إفريقيا، وكان البشير بالفتح إلى عثمان بن عفان، وشهد يوم الدار، وكان مدافعا عن عثمان، وشهد الجمل مع خالته عائشة وكان على الرجالة، وجرح وأخذ من بين القتلى وفيه بضعة وأربعون جرحا، وأعطت عائشة البشير الذي بشرها بحياته عشرة آلاف. ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية اعتزل. وأول ما نسمع به بعد ذلك في الجيش الذي بعثه معاوية لغزو القسطنطينية سنة 50 مع ابنه يزيد، وكان معاوية يلمح في ابن الزبير مطامحه فيترضاه ويغدق عليه، وقد رأينا أنه امتنع من مبايعة يزيد، وعاذ بالكعبة، وسمى نفسه عائذ فلما كانت وقعة الحرة وفتك أهل الشام بأهل المدينة، ثم اتجهوا إلى مكة قاتلهم ابن الزبير، ولما جاء نعي يزيد وانخذل الشاميون، بايع أهل الحجاز عبد الله بن الزبير بالخلافة، وانضم إليهم أهل مصر، وأكثر أهل الشام والعراق كما رأينا في عهد مروان بن الحكم، فلما مات مروان وخلفه ابنه عبد الملك، جرت بين الاثنين أمور نجملها فيما يأتي: (2) خلافته
كان عبد الله يطمع في الخلافة منذ زمن مبكر، يرجع إلى أيام فتنة عثمان الذي استخلفه على داره، فكان عبد الله يرى في ذلك تقديما له على الآخرين. قال ابن عبد ربه: كان عثمان استخلف عبد الله بن الزبير على الدار يوم الدار، فبذلك ادعى ابن الزبير الخلافة.
2
ثم إن تأمير النبي
صلى الله عليه وسلم
جده أبا بكر للصلاة بالمسلمين قد قوى في نفسه ذلك الأمر. ولقد لعب دورا هاما في الفتنة بين علي ومعاوية، حتى قال علي للزبير: لقد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا (ابن الأثير 3: 202)، ولما وقعت الفتنة بين علي وعائشة، كان لعبد الله النصيب الأوفر فيها، ثم لما وقعت الفتنة بين الحسين ويزيد، شجع الحسين على ترك الحجاز للاستقلال بها كما رأينا، وكانت خالته عائشة الصديقة تحبه وتدعو الناس إليه.
3
ولما مات معاوية وتخلف الحسين وابن الزبير عن مبايعة يزيد، كان الحسين منافسه الأقوى، فلما قذف به إلى العراق حيث قضي عليه، لم يبق له منافس سوى محمد ابن الحنفية، فلما بايع ابن الحنفية يزيد خلا الجو لابن الزبير، فأخذ يدعو لنفسه، ويعمل على تقوية حزبه في الحجاز وخارجه، وتمكن ابن الزبير أن يؤلب الناس على الأمويين مستغلا ما قام به الأمويون من أعمال منافية للإسلام، كتحويلهم الخلافة إلى ملك عضوض، وكمعاملة ولاتهم الناس بالقسوة والعنف، وكقتل الحسين وغزو الحرمين.
4
وهكذا استطاع ابن الزبير بدهائه أن يكسب عطف الرأي العام الإسلامي. ثم إن ما كان يتمتع به من دين وتقوى جعله صاحب القدم المعلى، فأحبه الناس وعطفوا عليه وأيدوه، فاستطاع أن يعكر صفو الأمويين ويقلق دولتهم، وتمكن في سنة 63 أن يثير أهل المدينة على والي يزيد، فطردوه وبايعوا عبد الله، وانضم إليهم أهل مكة، بعد أن رأوا من ظلم الأمويين ما رأوا، ولم يشذ من الحجازيين عن بيعته إلا محمد ابن الحنفية وعبد الله بن عباس، ثم بايعه أهل اليمن والكوفة والبصرة بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64.
أما أهل الشام فقد انقسموا بعد موت معاوية بن يزيد - كما رأينا - إلى قسمين. قال ابن عبد ربه: «فلما مات معاوية بن يزيد بايع أهل الشام كلهم الزبير إلا أهل الأردن، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام.»
5
ثم كان من أمر يوم مرج راهط ما رأيناه.
وأما مصر، فإنها بايعت ابن الزبير، وكذلك كان حال أهل خراسان والمشرق، وهكذا بايع المسلمون في أكثر الأقطار لابن الزبير، وكاد يتم له الأمر، لولا مبايعة الشاميين لمروان، ثم لابنه عبد الملك اللذين استطاعا أن يقفا وقفة جبارة أمام ابن الزبير فانتزعا منه مصر، وهلك مروان وخلف لابنه عبد الملك مشكلتين جسيمتين.
أولاهما: فتنة المختار بن أبي عبيد الثقفي التي سنتحدث عنها بعد، والثانية: فتنة ابن الزبير. كان ابن الزبير قد بعث أخاه مصعبا أميرا على العراق، وفي سنة 70 أقبل عبد الملك إلى العراق فاستعد له مصعب، ولكنه لم يستطع الوقوف أمامه؛ لأن جندا كثيرا من جند ابن الزبير، وعلى رأسهم المهلب بن أبي صفرة كانوا قد تعبوا من محاربة الخوارج، فاستطاع عبد الملك أن يستميلهم إلى جانبه، والتقى الجمعان عند باخمرا، فقتل مصعب بعد أن أبلى بلاء حسنا، ودخل عبد الملك الكوفة فبايعه أهلها سنة 71ه، وتمكن من السيطرة على العراق.
6
ولم يبق في يد عبد الله بن الزبير سوى الحجاز.
فلما توطد أمر العراق لعبد الملك وجه من العراق جيشا كثيفا بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال ابن الزبير، وبعث معه أمانا لابن الزبير إن هو أطاع، فسار في جمادى الأولى سنة 72ه، فنزل بالطائف، فكان يناوش ابن الزبير وهو هناك، ثم كتب إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم، فأذن له، وقدم مكة محرما في ذي الحجة، فحج بالناس إلا أنه لم يطف ولم يسع بين الصفا والمروة؛ لأن ابن الزبير منعه، وحصر ابن الزبير فلم يستطع الحج، ثم نصب المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به، فأصاب الكعبة، واشتد الحصار على أهل مكة حتى غلت الأسعار، فخرج أهل مكة مستأمنين إلى الحجاج، وممن استأمن ابنا عبد الله: حمزة وحبيب، فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر وقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن ليس عنده إلا صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين؛ كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن.
فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني.
قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بعد القتل من السلخ، فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي، والذي خرجت به دائبا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت فيها الحياة، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله، وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه، فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.
فقالت: أرجو أن يكون عزائي فيك جميلا.
7
ثم طفقت تدعو له وتشجعه حتى ذهب فقاتل قتالا عجيبا، وأظهر من الشجاعة والجلد ما أدهش الحجاج وصحبه، ثم تمكن منه العدو فقتله، ثم صلبه، فتناولته أمه فغسلته وطيبته، وصلت عليه وكانت تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. فما إن أتت عليها جمعة حتى ماتت.
8 (3) خاتمته ومناقبه
قتل ابن الزبير في جمادى الآخرة من سنة 73 وهو ابن 72 سنة، وتمكن الحجاج بن يوسف بقتله أن يسيطر على الحجاز وينظمه في سلك البلاد الخاصة لمولاه عبد الملك، وكان موقف عبد الله بن الزبير في وجه الحجاج موقفا يدل على قوة نفس وإيمان عميق بحقه، وقد رأينا ذلك في حواره الأخير مع أمه. والحق أن عبد الله قد أوفى كثيرا من الصفات الجليلة التي تخوله أن يقوم بحركته؛ من التقوى والشدة والدهاء، ولكنه كان ينقصه بعض الصفات الرئيسية للسيادة، كالكرم وتنظيم الدعاية والمسايرة؛ فقد كان قاسيا لا يساير، وكان لا يهتم بخصومه، وكان بخيلا يضن بالمال حتى على أقرب المقربين منه، وفي أشد المواقف حراجة؛ فقد روى ابن الأثير أنه لما اشتد حصار الحجاج على أهل مكة وأصابت الناس المجاعة لم يخرج لهم ما في بيوته، وإنها لمملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا.
9
ولما بعث إليه أخوه مصعب بوجوه أهل العراق أوصاه بالإحسان إليهم وعطائهم، فلم يعطهم شيئا وردهم شر رد، ولم يكن كذلك خصومه من بني أمية؛ فقد كان مروان وعبد الملك مساميح أجوادا أفاضوا على الناس والشعراء خيرات وأموالا، فسبحوا بحمدهم ونشروا دعوتهم.
قال علي بن زيد الجدعاني: كان عبد الله كثير الصلاة، كثير الصيام، شديدا على الناس، كريم الجدات والأمهات والخالات، إلا أنه كانت فيه خلال لا يصلح معها للخلافة؛ لأنه كان بخيلا، ضيق العطاء، سيئ الخلق، حسودا، كثير الخلاف، أخرج محمد ابن الحنفية، ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف.
10
وهكذا قضي على ابن الزبير وحركته، التي كانت تهدف إلى إرجاع عاصمة الإسلام إلى الحجاز، كما كانت على عهد الرسول، وكان هو معتزا بذلك، ساعيا له، ولما طلب إليه أن يترك الحجاز إلى الشام امتنع، ولو أنه ذهب لاستقامت له الأمور، ولكنه لم يقبل فقضى على نفسه، رحمه الله.
الفصل الخامس
في التنظيمات والتراتيب الإدارية
في العهد الأموي الأول (1) مقدمة في التراتيب الإدارية في سورية قبل الإسلام
كانت بلاد الشام ولاية رومانية منذ عهد بومبوس الروماني، الذي افتتحها في القرن الأول ق.م. 64، وجعل عاصمتها أنطاكية، ولما فتحها المسلمون كان السلطان الروماني والإدارة التراتيب والأنظمة الرومانية متغلغلة فيها منذ أكثر من سبعة قرون خلت، وقد عهدوا بتدبير شئونها إلى ولاة رومانيين، كما أنهم أبقوا بعض الأسر الحاكمة القديمة إلى أن نسخوا ولايتهم على التعاقب.
1
وكانت للسوريين قبل الفتح ندوات ومجالس بلدية، تعنى بمهام البلاد الداخلية، وتصلح شئونها، وتهتم بتوسيع نطاق تجارتها، وتجميل أبنيتها في أنطاكية ودمشق وتدمر.
2
وكانت ديار الشام في ذلك أكثر زراعة، فإن كثيرا من البقاع التي وصفت بأنها جنات ومزارع صارت فيما بعد صحارى قاحلة.
3
وكانت الغوطة في منتصف القرن الرابع
4
تسمى لؤلؤة عقد سورية وشامة الدنيا، وكانت صادراتها الزراعية من حبوب وخمور وزيوت وفواكه ذات شهرة واسعة في أرجاء العالم.
5
كما كانت مصنوعاتها من نسيج القطن والحرير والكتان وآنية الزجاج والنحاس مضرب الأمثال، فكانت تنقل إلى كافة أرجاء المعمورة.
6
وكان التجار السوريون يرحلون إلى أقاصي الهند والصين وأوروبا، وكانت لهم مخازن ومراسي في موانئ إيطالية وإسبانيا وبحر الهند.
7
ولا شك في أن لهؤلاء التجار قوانين وتراتيب وأنظمة، سنتها حكومتهم لتنظيم شئونهم الاقتصادية وعلاقاتهم بالدول الأخرى تجدها إما في كتب الفقه والتشريع الروماني، أو على الأحجار واللوحات والآثار التي بقيت من ذلك العهد.
وقد تغلغلت الديانة المسيحية في سورية منذ القرن الأول المسيحي، وخلفت لنا المسيحية آثارا عقلية وعلمية وأدبية رائعة أنتجتها عقول السوريين في ذلك العصر.
8
ولا سيما المشرعين منهم، والقانونيين، والفلاسفة؛ أمثال فرفير الصوري «فورفوريوس» الفيلسوف الأشهر، تلميذ فلوطين (؟-305م) والأسقف أوسابيوس أسقف قيصرية؛ فقد كان من رجال الدين والعلم والفلسفة والتاريخ والقانون والجغرافية (؟-338م).
9
وأوسابيوس أسقف قيصرية؛ فقد كان من أئمة البلاغة والتاريخ والقانون.
10
والقديس يوحنا فم الذهب الأنطاكي الخطيب العالم المشرع الأشهر (؟-407م).
11
وسوزومانس المؤرخ السوري الأشهر، والفقيه المحامي بعد سنة 439.
12
ومنهم إيناي الغزي الفيلسوف المسيحي (؟-521).
13
ومنهم القديس سمعان العمودي الزاهد العالم، صاحب الدير المعروف باسمه إلى الآن في سورية (؟-459).
14
ومنهم المعلم دوروتاوس أحد معلمي مدرسة الشريعة في بيروت، وكان من جملة من استدعاهم الملك جوستنيان لتنقيح الشرائع وتدوين اللغة، فكان هو والمعلم تريبونيان رئيس اللجنة التي شكلها جوستنيان صاحبي الفضل الأكبر في إيجاد مدونة جوستنيان
Institutos .
15
ومنهم المؤرخ الفقيه أفاغربوس الحموي (؟-بعد سنة 594).
16
وغيرهم من الأئمة الأعلام الذين ضربوا بسهم وافر في علم التشريع والقوانين وترتيب الدول وأنظمتها. ولا شك في أن هذا التراث العلمي العريق قد وجد الأرض الطيبة في عهد الراشدين، ثم في عهد الأمويين. وقد استعان معاوية بنفر من أئمة التشريع والفقه الروماني من نصارى أهل الشام، كمنصور الرومي وسرجون الرومي وغيرهما. (2) الخلافة
كانت الخلافة في العهد الراشدي خلافة شورية على الرغم من اللمحات الاستبدادية التي كانت تتجلى على بعض تصرفات أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولكنها في الأكثر كانت ذات أسلوب إسلامي جماعي ديموقراطي، فلما جاء عهد أمية استحالت إلى ملك استبدادي، ولم يمكن الناس أن يثوروا على هذه البدعة؛ لأن الرجل الذي تقلد الأمر كان رجلا مرنا، ذا هيبة، يؤذي ويداري ويجرح ويداوي، ثم إنه سلك بالناس مسلكا حسنا، فوجه العرب إلى الفتح والجهاد في سبيل الله، وأحسن سياسة غير العرب، فلم يرهقهم ولم يقس عليهم، ووحد أركان الدولة الجديدة بمخترعاته في التنظيم والترتيب والسياسة، فأحبه الناس وآزروه ، ثم إنه نقل عاصمة الخلافة من مقرها الأول المتزمت المتشدد إلى مقر جديد يكونه كما يريد، ثم إن القوم الذين أقام بينهم في عاصمته هم قوم مسالمون مطيعون، يحبون المال، ويكرهون الشغب، وقد يسر لهم معاوية ذلك، فالتفوا حوله وآزروه، وأعانوه بعلمهم ومقدرتهم وما ورثوه من تقاليد الدولة المنقرضة وآدابها وتراتيبها الإدارية والدولية، فرتب الخلافة تراتيب جديدة، وأقام على بابه الحجاب والشرطة، واتخذ المقصورة يصلي فيها بعيدا عن الناس، ثم جعل نظام ولاية العهد على الأسلوب الكسروي، فنقلها من الشورى التي كانت عليها أيام الراشدين إلى الميراث، ولا شك في أنه قد تأثر بنظام ولاية العهد البيزنطي الرومي أو الساساني الفارسي. ثم إن معاوية قد رأى أن الأمر في زمانه لم يبق كما كان أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأن الملك غير الخلافة، فالملك يستند على السياسة والخلافة تستند على الدين، ولا مانع عنده من أن يجنح إلى السياسة، ولو كان في ذلك خروج عن بعض تعاليم الدين إذا ما اقتضت مصلحة المسلمين ذلك؛ لأن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وإذا تعارضت الفكرة الدينية بالمصلحة الدنيوية يجب الأخذ بالمصلحة؛ ومن أبرز الأدلة على ذلك استلحاقه زيادا بأبيه أبي سفيان، وعدم اكتراثه بكل ما قيل فيه؛ لأنه رأى أن المصلحة الدنيوية تقضي بذلك؛ ومن ذلك أنه أوجد سرير الملك على نمط العرش البيزنطي والساساني، وهذا أمر يخالف روح الفكرة الديموقراطية التي سار عليها الخلفاء من قبله، ولكنه رأى أن المصلحة تقضي بذلك فعمله. قال صاحب صبح الأعشى في الفصل الخاص برسوم الملك وآلاته، ومنها «سرير الملك»، ويقال له تخت الملك، وهو من الأمور العامة للملوك، وقد تقدم أن أول من اتخذ مرتبة للجلوس عليها في الإسلام معاوية حين «بدن»، ثم تنافس الخلفاء والملوك بعده في الإسلام حتى اتخذوا الأسرة.
17
وقال ابن خلدون: (3) الوزارة
لم يتخذ الرسول، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الأمويون وزيرا بالمعنى الذي نفهم، والذي وجد في العصر العباسي، وإنما كان الخلفاء الراشدون والأمويون يستعينون على حل بعض القضايا بمشاورة كبار أهل الرأي من رجالات الدولة، فكان أبو بكر يشاور عمر وعثمان وعليا، وغيرهم من كبار رجالات الصحابة، وكان عمر وعلي يقضيان بين الناس، ويحلان كثيرا من المشاكل التي اعترضت أبا بكر في عهده، وكان لأبي بكر مجلس يجمع فيه أهل العلم والدين والعقل، ويشاورهم فيما يحل به من قضايا المسلمين، وكذلك كان عمر وعثمان وعلي من بعده. فلما تولى معاوية وسلك بالدولة الإسلامية ذلك المسلك الجديد، لم يستطع أن يبدل كل شيء في الأسلوب القديم، فلم يتخذ نظام الوزارة الفارسي أو البيزنطي، ولم يقيد الخليفة بقيود بعيدة عن روح الإسلام والعقلية العربية، ولكنه أبقى للتقاليد العربية سلطانها، بل يمكننا أن نقول: إن العهد الأموي كان رجوعا إلى التقاليد الجاهلية التي تجعل لشيخ القبيلة السلطان المطلق في تصريف الأمور، وهذا ما جعل الفقهاء ينظرون إلى الخلفاء الأمويين، كأنهم ملوك مستبدون لا خلفاء يمثلون النبي، ويقومون بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية. ولم يتخذ الأمويون وزراء بالمعنى الذي نعرفه في العصر العباسي، وإنما كان لهم كتاب وأناس يستشيرونهم، ولو لم يكونوا من المسلمين؛ كما رأينا في تقريب معاوية لمنصور الرومي وسرجون الرومي، وأسرة سرجون «سرجيوس» أسرة نبيلة ساهمت في تولي الوظائف الإدارية والمالية في العهد البيزنطي، وممن برز اسمهم في هذا العصر من النصارى السوريين حفيد القديس يوحنا الدمشقي، الذي كان أحد ندمان يزيد وأهل مشورته، ومنهم الطبيب ابن أثال الذي كان طبيب معاوية، ثم ولاه جباية خراج حمص.
18
ومنهم الأخطل الشاعر وقصصه مع الأمويين معروفة، وغيرهم من عقلاء نصارى الشام وأهل الذمة. (4) الكتابة والتراتيب الإدارية
اتخذ الرسول كتابا يكتبون له الوحي، وكتابا يكتبون له الأمور الدنيوية، ومن كتاب الرسول
صلى الله عليه وسلم
عمر، وعلي، وعثمان ، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وسعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة.
19
ولما ولي أبو بكر اتخذ عثمان كاتبا له، فنظم له ديوان الدولة، ولما ولي عمر اتخذ ثابتا وعبد الله بن الأرقم
20
كتابا، واتخذ عثمان مروان بن الحكم كاتبا له، واتخذ علي عبد الله بن أبي رافع كاتبا له. ويروي الجهشياري أن عليا أوصاه بقوله: يا عبد الله ألق دواتك، وأطل شباة قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف.
21
ولا شك في أن هؤلاء الكتاب كانوا يكتبون ما يملى عليهم للخليفة، وقد يعطيهم الفكرة فيكتبونها، ثم يقرءونها عليه، فإذا أعجبته وقع عليها. ولما ولي معاوية عدد الكتاب، وجعل لكل مصلحة من مصالح الدولة ديوانا خاصا، وفي عهد معاوية صار الكتاب خمسة أصناف: (1) كاتب الرسائل. (2) كاتب الخراج والمستغلات. (3) كاتب الجند. (4) كاتب الشرطة. (5) كاتب القاضي. وأكبر هؤلاء الكتاب مكانة هو كاتب الرسائل، وكان الخلفاء لا يولون هذا المنصب إلا الأمين المأمون الشريف، وقلما اختاروا له شخصا من غير بني أمية أو أشراف العرب، وقد استمروا على ذلك طول العهد الأموي، وكان صاحب هذا الديوان لا يقل عن الوزير في العصر العباسي، وكان ديوان الخاتم تابعا لصاحب ديوان الرسائل، وهو ديوان أحدثه معاوية، وكانت قبلئذ الرسائل غير مختومة، وكان أحال رجلا على زياد ابن أبيه - عامله على العراق - بمائة ألف درهم، فمضى الرجل وجعل المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه إلى معاوية أنكر هذا العدد، وقال: ما أحلته إلا بمائة ألف، ثم استعاد المائة ألف ووضع ديوان الخاتم، فصارت الرسائل لا تصدر إلا مختومة لا يعلم أحد ما تشتمل عليه، ولا يستطيع أن يغيرها في شيء.
22
أما ختم الرسائل بوضع خاتم في آخرها، فقد كان منذ عهد النبي؛ فقد رووا أنه لما أراد أن يكتب إلى الملوك قيل له: إن الملوك لا يقبلون كتابا إلا إذا كان مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقشه: «محمد رسول الله»، وختم به أبو بكر وعمر وعثمان إلى أن سقط من يد عثمان في بئر أريس، فصنع آخر مثاله (مقدمة ابن خلدون، ص220). ومن إصلاحات معاوية الإدارية أنه ضرب أنواع العملة؛ فسك دنانير عليها صورته وبيده سيف، كما سك دراهم وزن الواحد منها ستة دوانق، وسك عامله على العراق دراهم وزن العشرة منها ستة مثاقيل.
23
ولكن يظهر أن هذه العملة كانت محدودة الكمية؛ فإنها لم تستطع أن تقضي على العملات الأجنبية من دنانير رومية أو دراهم ساسانية. وسنرى أن عبد الملك بن مروان هو الذي خطا في هذا المضمار الخطوة الرئيسية. (5) الحجابة
كان للرسول والخلفاء الراشدين حجاب، ولكنهم ما كانوا يتشددون في الحجاب، ولا يمنعون أحدا من الدخول عليهم إلا في الأوقات التي يخلون فيها بأنفسهم وأهلهم وأولادهم غالبا، وكانوا يسيرون بالناس على الطريقة العربية. فلما انتقل الأمر إلى بني أمية اتخذ معاوية حجابا على بابه يمنعون الناس من الدخول إلا بإذن وسؤال؛ خوفا على نفسه من شر الخوارج والمفسدين والثقلاء، وتلافيا من حصول الفوضى في مجالس الخلافة، على أن معاوية لم يستطع أن يحتجب عن الناس تماما؛ فقد رأينا في كلام المسعودي الذي صور لنا فيه كيف كان معاوية يقضي يومه، أنه كان يخصص بعض ساعات يومه للناس عامة لا يحتجب دون أحد. يقول ابن خلدون: لما انقلبت الخلافة إلى ملك (أي في العهد الأموي)، وجاءت رسوم السلطان وألقابه، كانوا أول شيء بدئ به في الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور، بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم، كما وقع لعمر، وعلي، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم، وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم بذلك وسموه الحاجب.
24
وهذا حق، فإن بني أمية قد نظموا أمور الحجابة؛ فشددوا فيها بعض الأحيان. كان الحجاب في أيام أبي بكر وعمر يتساهلون كل التساهل. ويروى أن يرفأ مولى عمر وحاجبه هو أول من ارتشى في الإسلام؛ فقد ذكر أبو نعيم أن يرفأ ارتشى من المغيرة بن شعبة؛ ليسهل عليه الدخول إلى عمر، ويخبره عن بعض أوضاع عمر.
25
ويظهر أن عثمان قد تشدد في الحجابة بعد حادثة عمر، أما علي فكان لا يمنع أحدا من الدخول عليه، ولما انتهت الدولة الراشدية وجاء معاوية نظم أمر الحجاب على الشكل الذي حدثنا به ابن خلدون. وقد كان لمعاوية حاجب اسمه سعد أبو درة، ذكره ابن عساكر فقال: «كان حاجبا لمعاوية، ثم لعبد الملك بن مروان»، وروي عن أبي المعطل الكلابي قال: أقبل رجل من الصحابة يقال له أبو مريم غازيا زمن معاوية، حتى بلغ الجفر فتذكر حديثا، فرجع إلى دمشق فدخل على معاوية، فرحب به فقال أبو مريم: إني لم أجئك طالب حاجة، ولكن سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من أغلق بابه دون ذوي الفقر والحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء»، فبكى معاوية ثم قال: ردد حديثك. ثم أرسل خلف سعد، وقال له بعد أن حدثه حديث أبي مريم: اللهم إني أخلع هذا من عنقي وأجعله في عنقك، من جاء يستأذن فأذن له.
26 (6) الجيش
يظهر أن معاوية قد حور نظام الجيش عما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فقد اقتبس بعض الأنظمة العسكرية البيزنطية، فكانت الفرقة مؤلفة من خمسة أجزاء: القلب، والميمنة، والميسرة، والطليعة، والساق، كما أدخل بعض ألبسة الجند البيزنطي كالسروج المستديرة البسيطة، واتخذ بعض آلات الحرب التي كان الروم يستعملونها كالعرادة والمنجنيق والدبابة.
أما الجيش فبعد أن كان عربيا صرفا في العهد الراشدي، صرنا نجد فيه بعض العناصر غير العربية من روم وفرس وبخاصة في قسم البحرية. وقيل إن الجيش النظامي قد بلغ في عهد معاوية ستين ألف مقاتل، وأن عطاءهم السنوي بلغ نحوا من ستين ألف ألف درهم.
27
وكان المقاتلة البحريون على نمط المقاتلة البحرية عند البيزنطيين، كما كانت السفينة الحربية العربية على نمط السفينة الحربية البيزنطية، وكانت في كل واحدة منها ما لا يقل عن خمسة وعشرين مقعدا للتجديف في كل واحد من ظهري السفينة الأسفلين يجلس على المقعد رجلان عدا المقاتلة، وكان الملاحون مسلحين أيضا.
ترتيب العمارة البحرية: طلب معاوية من عمر أن يأذن له بغزو الروم بحرا فنهاه عن ذلك، فلما تولى عثمان أعاد الطلب، فأذن له على ألا يحمل أحدا من العرب على ركوب البحر، فصار المسلمون يركبون البحر، وبلغ الأسطول الأموي في وقت ما نحوا من ألفي سفينة، وقد اتخذ معاوية في عهدي إمارته وخلافته دورا للصناعة والقيام بتراتيب العمارة البحرية في كل من صيدا وصور والإسكندرية، وجزائر صقلية، وإقريطش ورودس وسردانية والبليار، واتخذ معاوية بموافقة عثمان قرارا بإيجاد إمرة للأسطول العربي، يتولى صاحبها الإشراف على الموانئ والمنائر، ودور الصناعة، وقضايا التجارة البحرية، والحملات الحربية البحرية. (7) العمالة
اتسعت الدولة الإسلامية في عهد بني أمية إلى أقصى حدودها، وكانت منقسمة إلى خمس عمالات كبرى: (1)
الحجاز واليمن وأواسط بلاد العرب، وحاضرتها المدينة. (2)
العراقان، العربي والعجمي، وحاضرتهما الكوفة، ثم البصرة، يتبعه خراسان والمشرق إلى ما وراء النهر، وكانت هذه الأقطار تابعة لعامل العراق أو واليه، وهو يولي عاملا من قبله في مرو والمشرق. (3)
مصر، وحاضرته الفسطاط. (4)
الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وعاصمتها الموصل. (5)
إفريقية الشمالية، وبلاد الأندلس، وجزر صقلية، وسردانية، والبليار، وحاضرتها القيروان، ويولي عامل إفريقية من قبله حكاما على الأندلس والجزر.
وكان لكل عمالة عامل أو آمر ينتخبه الخليفة من خاصة الخاصة وأكثر رجال الدولة كفاءة.
28 (8) التراتيب والتنظيمات الإدارية الأخرى
نظم معاوية الدولة تنظيمات أخرى نذكر منها:
تنظيمات الضرائب والخراج وجباية الأموال والمستغلات
وقد كان الخلفاء من قبله يطبقون ما ورد عن الرسول وما تناقله الأصحاب، وما كانوا يعرفونه من طرق الجباية والإدارة المالية. وقد كان للخليفة عمر يد مشكورة في تنظيم موارد الدولة المالية، فقد اتسعت رقعة الدولة، وفتح المسلمون أقطارا شاسعة تحتاج إلى تنظيم جديد. وقد كان تشريع عمر مستوحى من روح الشرع الإسلامي، تسيطر عليه الرأفة والرحمة، وكان الخراج والجزية والفيء والغنائم والزكاة عماد موارد الدولة، فلما توسع الأمر في عهد معاوية ورأى التنظيمات المالية في الشام ومصر والعراق من رومية وقبطية وفارسية، اقتبس منها ما يلائم روح الإسلام.
وقد زاد معاوية بعض الضرائب عما كانت عليه في عهد الخلفاء الراشدين، وقد كانت أهم موارد الدولة في عهده الجزية والزكاة، وهي ما يدفعه سكان الشعوب المفتوحة، وكانت نفقات كل عمالة - من رواتب ومخصصات للجند ورجال الإدارة والقضاء - تدفع من صندوق بيت مال تلك العمالة، وما يفيض يرسل إلى بيت مال المسلمين، وقد جعل معاوية الزكاة اثنين ونصف بالمائة.
ترتيب شئون البريد
البريد ترتيب قديم يرجع إلى ما قبل الإسلام، وقد استعمله المسلمون في عهد النبي والخلفاء الراشدين، ولكنه كان مماشيا لحالة البداية التي كان عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدون، فلما انتقل معاوية إلى دمشق واطلع على تراتيب البريد في العهد الرومي، فأعجبه وعمل على تطبيقه مثلهم. قال القلقشندي: أول من وضع البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين استقرت له الأمور، ومات أمير المؤمنين علي، وسلم له ابنه الحسن، وخلا من المنازع، يبعثون إليه بأخبار البلاد وأحوالها، فوضع البريد لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأمر بإحضار رجال من دهاقن الفرس وأهل عمال الروم، وعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد.
29
ولا بد لصاحب البريد من عيون في النواحي.
قال أكرم ميتر: وهذا ميراث أخذه العرب من البيزنطيين؛ ففي عهد قسطنطين الأكبر كان لصاحب البريد أعوان يسمون
Veridrii ، وهم نقلة الأخبار الذين يركبون الخيل، وكانوا يمدونه بالأخبار.
30
ويقول أرنولد في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص37: «وكانت الرسل التي تنقل رسائل الحكومة في ذلك الوقت - كما كانت سابقا - تسمى بريد، وهي كلمة مأخوذة من كلمة وريدوس
Veredus
اللاتينية، بينما سماها اليونان أنكروس نقلا عن اللغة الفارسية.» فهو يرى أنها آتية من اللاتينية، كما أن ميتس يذهب إلى أنها بيزنطية، ويرى «حتي» في تاريخ العرب المطول2، ص399، أنها لفظة سامية لا علاقة لها باللفظ
Veredus
وما لها علاقة ب «برون الفارسية»، ومعناها حصان سريع الجري و«برذون» العربية (راجع سفر إستير 8: 10).
ترتيب شئون القضاء
كان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين يوكل إلى كبار أئمة الإسلام ومجتهديه، وقد اختلف المؤرخون في أول من أوجد القضاء وظيفة معينة؛ فقد روى السيوطي عن العسكري في كتاب الأوائل: أن أول قاض في الإسلام هو عمر بن الخطاب، قضى لأبي بكر. ثم يستدرك السيوطي على هذا بقوله: لكن أخرج الطبراني حديثا عن السائب بن يزيد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر لم يتخذا قاضيا، وأن أول من استقضى هو عمر، قال للسائب بن يزيد: رد عني الدرهم والدرهم. وكذلك روى أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر قال: ما اتخذ رسول الله قاضيا ولا أبو بكر ولا عمر حتى كان في آخر زمانه، فقال للسائب بن يزيد: اكفني بعض الأمور؛ يعني صغارها. وكذلك روى ابن سعد في الطبقات عن الزهري أنه قال للسائب: لو روحت عني بعض الأمر. وروي أيضا عن نافع قال: استعمل عمر زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا. وروى سعد أيضا عن أبي هريرة أن مروان بن الحكم لما ولي المدينة في عهد معاوية سنة 42 استقضى عليها عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهذا أول قاض في الإسلام.
وروى ابن عبد البر في التمهيد أنه اختلف في أول من استقضى، فقال العراقيون: عمر، وأنه بعث شريحا إلى الكوفة قاضيا، وبعث كعب بن سوار إلى البصرة. وقال مالك: أول من استقضى معاوية، وأول قاض بالبصرة إياس بن صبيح الحنفي.
أقول: ويظهر من هذه الأقوال أن نظام القضاء بالمعنى المفهوم بدأ في عهد عمر، ثم انتظم في عهد معاوية، أما في عهد الرسول وعهد أبي بكر، فقد أسند القضاء إلى عمر، وظل سنتين لا يأتيه متخاصمان لما عرف به من الشدة، وفي عهد عمر وعثمان كان علي ونفر من كبار الصحابة يتولون قضايا المسلمين، وفي عهد عمر فتحت الأمصار الإسلامية، فعهد بالقضاء في كل مصر إلى بعض الفقهاء من أهل الرأي والاجتهاد. وكثيرا ما جمع الخراج والقضاء لرجل واحد، وربما عهد عمر لعامله أن يولي القضاة إذا كانت ولايته عامة؛ أي إنها ولاية على الخراج والصلاة معا. ومن قضاة عمر أبو الدرداء، ولاه قضاء المدينة، وشريح بن الحارث استقضاه على الكوفة، وأبو موسى الأشعري استقضاه على البصرة، وعثمان بن أبي العاص استقضاه بمصر. ولما ولي عثمان وعلي استمر القضاء وشئونه كما كان في عهد عمر، إلا أن عليا كان كثيرا ما يقضي بنفسه.
فلما ولي معاوية جعل لصاحب القضاء مكانا خاصا يجلس فيه للحكم بين الناس ، وحل خصوماتهم الشرعية والمدنية، وجعل له كاتبا يكتب الوثائق، ويسجل الأحكام في سجل خاص، ويكتب إلى صاحب الشرطة أو المحتسب لتنفيذ حكم الشرع، وهذه أمور استحدثت في عهد معاوية؛ لتوسع رقعة الدولة، وكثرة قضايا الناس وتشابك مصالحهم. وكان القاضي ينظر في المظالم وقضايا الاحتساب، وربما جعل للمظالم قضاة مستقلين عن قضاة الحقوق، كما يجعل للحسبة صاحبا مختصا بها وحدها.
والفرق بين القاضي والمحتسب وصاحب المظالم، أن الأول هو الذي يقضي بين الناس، ويحل المشاكل المتعلقة بأمور الدين، بينما يهتم المحتسب بالفصل فيما يتعلق بالحقوق العامة، وأمر آداب الطريق وحقوق الأسواق وما إليها، وصاحب المظالم هو الذي يفصل فيما يستعصي على القاضي والمحتسب معا.
31
وقد كان غير المسلمين من أهل الذمة يتمتعون باستقلال قضائي كنسي خاص بهم، يتولاه رؤساء أديانهم من نصارى أو يهود أو غيرهم.
الشرطة
من متعلقات القضاء هي السلطة التنفيذية التي تتولى الإشراف على تنفيذ الأحكام القضائية، وفرض العقوبات الزاجرة قبل حدوث الجرائم، وإقامة الحدود الثابتة في محالها، ويحكم صاحبها في القود والقصاص، ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة. وقد كان الخلفاء الراشدون والأمويون يولونها الوجوه والعدول والثقات، ويقال: إن أول من اتخذها عثمان.
32
ثم استمر الخلفاء بعده في اتخاذها. (9) العاصمة والسكان
لم نعثر فيما بين أيدينا من نصوص تاريخية على وصف لما كانت عليه العاصمة الإسلامية في عهد بني أمية، وإنما هنالك نصوص متأخرة كالذي يذكره المقدسي، وابن خرداذبة، وابن عساكر وياقوت، وإليك مجمل ذلك:
دمشق مدينة قديمة جدا، حتى قال بعضهم: إنها أقدم مدينة موجودة على ظهر الأرض، وزعم كعب الأحبار أن أول حائط وضع في الأرض بعض الطوفان حائط دمشق وحران. والأخبار كثيرة متواترة عن قدم المدينة. ومهما يكن من شيء فإن مسجدها الذي شيد بعد الفتح ووسع أيام الوليد، قد أقيم على أطلال كنيسة يوحنا المعمدان التي أقيمت على أطلال معبد للوثنيين
33
هو معبد الشمس، ويقول المطران الدبس: الأظهر أنها من بنايات الأراميين، ولد أرام بن سام، حتى يقال إن تسميتها والبلاد التابعة لها شاما نسبة إلى شام بن نوح. وقال أبو الفداء: سميت شاما؛ لأن قوما من بني كنعان تشاءموا؛ أي تياسروا إليها؛ لأنها عن يسار الكعبة.
34
وقد سكنها العرب قديما. قال الدبس: «إن فصيلة التي ظعنت من اليمن إلى سورية في القرن الثاني للميلاد على ما يظن، وظعن مع بني غسان بنو عاملة بن سبأ مع سبعة أحياء أخرى، وتوطنوا في دمشق ونواحيها.»
35
وقد استمر هؤلاء الغساسنة في الشام إلى حين الفتح الإسلامي؛ ولذلك لم يجد العرب أنفسهم غرباء عن المحيط الشامي بعد الفتح، لصلاتهم التجارية بأهل البلاد قبل الفتح، ولوجود هؤلاء العرب في الشام، ممن سهلوا لهم مهمتهم وأعانوهم على حل كثير من القضايا. ولما فتح المسلمون دمشق في رجب سنة 14ه، وجدوا أن أعظم أبنية المدينة هي كتدرائيتها العظيمة المعروفة بكتدرائية يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام)، فاشترطوا على نصارى المدينة أن يقتطعوا نصف الكتدرائية، ويجعلوه جامعا لهم إلى أن جاء الوليد بن عبد الملك، فأخذ النصف الباقي سنة 86ه وعوضهم عنه
36
على الشكل الذي سنتحدث عنه فيما بعد. أما الكتدرائية كما وجدها المسلمون بعد الفتح فقد كانت رائعة البناء ضخمة الأعمدة. يقول فون كريمر: إنها كانت تقع في منتصف الطريق بين البابين الشرقي والغربي، وإنها كرست باسم يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)، وهي واقعة على مكان هيكل وثني قديم، وقد بنيت حيطانها على أساساته، أما بانيها فهو الإمبراطور الروماني تيودوسيوس سنة 399م، وقد كانت أقواس أبوابها الضخمة المرتكزة على أعمدة كورنتية والواجهات المنقوشة بزخارف رائعة، مأخوذ من أطلال آثار ونقوش ترجع إلى أواخر عصر الإحياء الروماني، وكانت هذه الأعمدة تزين مدخل الكنيسة. وقد بقي لنا من آثار الأعمدة والأبواب التي تذكرنا ببعلبك في فخامتها وأسلوب نقشها وزخرفتها، نماذج ما تزال باقية إلى اليوم في الجانب الغربي من الجامع الحالي عند باب البريد.
37
ويقول مكوليستر: إن داخل الكنيسة كان على غاية من الروعة، وصحنها من عمل البيزنطيين، وهو متوج بقبة كبرى يدعوها العرب قبة النسر، والحيطان مرصعة من الداخل من كلا الجانبين بالفسيفساء الجميلة، التي تماثل كنيسة القديس مارك في البندقية، ومساحة هذا البناء كله من الداخل 431 قدما في 125 قدما، وتمتد على الجهة الجنوبية من على شكل مربع مستطيل مساحته 163 يردا في 108 يردات.
38
وقد كانت هذه الكتدرائية تقع في وسط المدينة، من حولها ساحة عظيمة يخترقها الشارع الأعظم المذكور في العهد القديم، باسم «الشارع المستقيم»، ممتدا من الباب الشرقي إلى الباب الغربي بطول يقرب من ألفي متر، كما يخترقها من الساحة شارع آخر، أقصر من الأول بقليل، يمتد من الباب الشمالي إلى الباب الغربي.
39
عجب المسلمون بجمال المدينة، واتساق أبنيتها، وفخامة آثارها، وتعدد أنهارها، واتفقوا والنصارى على إبقاء كل شيء على ما هو عليه، وفي عهد معاوية بنى قرب الجامع دار الإمارة الخضراء، وقيل بل إنه جدد بناءها. قال ابن عساكر 1: 243: إن معاوية لما بنى الخضراء بدمشق، وهي دار الإمارة، وكان بناؤها بالطوب، فلما فرغ منها قدم عليه رسول لملك الروم فنظر إليها فقال له معاوية: كيف ترى هذا البنيان؟ قال: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفار، فبنى معاوية ضفتها بالحجارة.
وحكي أيضا أن الخضراء التي كانت دار الإمارة هي من بناء الجاهلية.
40
ويظهر أن معاوية الميال إلى المظاهر والتفخيم قد بناها على أطلال مقر قديم، وأنه لما تمم بناءها سأل هذا الرومي عن رأيه فقال ما قال، ثم بدا لمعاوية أن يزيد في رونقها زيادة جعلت الناس يلغطون في كثرة إنفاق الخليفة على قصره من كثرة ما جملها، وتأنق فيها ما شاء له التأنق، وأنفق عليها وعلى فرشها ورياشها إنفاقا جعل أبا ذر الغفاري يثور عليه، ويقول له: يا معاوية إن كانت هذ الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف، فسكت معاوية.
41
وقد توارثها أبناء معاوية، وفي عهد عبد الملك طلب من خالد بن يزيد بن معاوية أن يبيعه إياها، فاشتراها منه بأربعين ألف دينار.
42
وقد ظلت هذه الدار إلى أن هدمها العباسيون.
43
ودمشق موصوفة منذ القديم بكثرة مياهها، وتعدد أنهارها، وروعة بساتينها، وكثرة فاكهتها وزهرها. قال ياقوت: «دمشق هي قصبة الشام وجنة الأرض بلا خلاف؛ لحسن عمارة ونضارة بقعتها، وكثرة فاكهتها، ونزاهة رقعتها، وكثرة مياهها.» وقال أبو بكر الخوارزمي: «من خصائص دمشق التي لم أر في بلد آخر مثلها، كثرة الأنهار بها، وجريان الماء في قنواتها، فقل أن تمر بحائط إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان.» وما يزال هذا الوضع كما كان عليه في السابق.
وقد وصف المدينة الرحالة ابن جبير لما زارها في ربيع الآخر سنة 580: «جنة المشرق ومطلع حسنه المونق، وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقر بناها، وعروس المدن التي اجتليناها، وقد تجلت بأزاهر الرياض، وتجلت في حلل سندسية من البساتين؛ ظل ظليل، وماء سلسبيل. وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر.» ثم أطنب في وصف الجامع وجمال بنائه وفخامة زخرفته، ثم وصف الأمكنة والمشاهد الجليلة المعروفة في المدينة من مشاهد دوارس، ومشافي، وبيمارستانات، وحدائق، وكنائس، وأديرة، ويظهر أن سور المدينة القديم كان ما يزال باقيا إلى ذلك العصر الذي زارها ابن جبير فيه.
44
وهذا السور راجع إلى ما قبل الفتح الإسلامي، ويقول فون كريمر: إن علو هذا السور المحيط بالمدينة كان عشرين قدما وسمكه خمسة عشر، مكون من حجارة ضخمة جدا، تكاد تكون من عمل الجن، وهي حجارة مربعة، وهي مبنية في بعض المواضع على خط يرجع أسلوب بنائه إلى ما قبل العصر اليوناني.
45
ولا تزال أطلال هذا السور وأبواب المدينة الضخمة باقية إلى أيامنا هذه تؤيد ما يقوله فون كريمر.
وعلى الرغم من النكبات التي حلت بالمدينة خلال العصور من غزو الفرس، فإن ما كان يبذله الأباطرة الرومان من إصلاح سورها، وقلاعها، وأبوابها، وخندقها المحيط بالمدينة، وبخاصة في عهد الإمبراطور «ديو كلشيان».
46
فإنها كانت حين الفتح العربي محكمة الأسوار، متينة الأبواب، كما حدثنا المؤرخون العرب الذين صوروا لنا حصارها، كالطبري وابن الأثير والبلاذري.
أما سكان الشام الأصليون فهم: الحثيون، والآراميون، والسريانيون، والفينيقيون، والعرب، والعبرانيون، وقد اجتمعت كل هذه العناصر في العاصمة دمشق، أما العنصر البارز في المدينة على العهد الأموي، فالنصارى من الروم والسريان والعرب، ثم اليهود والفرس والزط، أما النصارى فقد كانوا الكثرة الساحقة حين الفتح الإسلامي؛ فقد روى البلاذري في فتوح البلدان، ص127: «أنه لما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع لهم بالمرج، أخذوا الغوطة وكنائسها عنوة وتحصن أهل المدينة وأغلقوا بابها.» وفي كتاب الصلح الذي أعطاه خالد لأهل المدينة: هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق، إذا دخلها أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم.
47
فهو قد ذكر الكنائس؛ لأن أكثر أهل المدينة كانوا نصارى وهم الحكام، أما غيرهم من يهود ووثنيين وفرس، فإنهم كانوا قلة، ويظهر أن كثيرا من النصارى قد غادروا المدينة بعد الفتح ولحقوا بهرقل وهو في أنطاكية. روى الواقدي أن دمشق لما فتحت لحق بشر كثير من أهلها بهرقل وهو بأنطاكية، فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون.
48
وفي كتاب الفتوح للبلاذري أن أبا عبيدة لما فرغ من أمر دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح، فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وكتب كتابا صورته «هذا أمان لفلان بن فلان، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم».
49
وأما العرب فقد دخلوا ديار الشام منذ زمن بعيد جدا. قال الأستاذ كرد علي: لم تطل حياة عنصر في صحة ببلاد الشام، كما طالت حياة العرب، فإنهم فيها على أصح الأقوال منذ ألفين وخمسين سنة، وأوصله بعضهم إلى نحو أربعة آلاف سنة، وهم الذين اندمج فيهم عامة الشعوب القديمة واستعربت، فلم تعد تعرف عن العربية لسانا ومنزعا، ثم أورد عدة أدلة، ومنها أن الإسكندر لما جاء إلى غزة وحاصرها، كانت حاميتها عربا فقاومته أشد المقاومة، ومنها أن أحد تلامذة المسيح بشر بلغات عديدة، منها اللغة العربية كما ورد في أعمال الرسل، ومنها أن الحارث - حاكم دمشق - كان عربيا لما دخلها بولس الرسول، كما ورد في رسالته إلى أهل مدينة كورنتوس.
50
وأما القبائل العربية التي سكنت الشام فكثيرة، منها الغساسنة الذين تنصروا، ومنهم آل جفنة ملوك دمشق، وحوران، والبلقاء، وحمص، واليرموك، والجولان، وقد استمر ملكهم نحوا من ستة قرون، ومنها التنوخيون، وقد تنصروا أيضا وحكموا بلاد الجزيرة منذ القرن الثالث الميلادي.
51
وأما اليهود فقد كانوا يسكنون في الشام منذ زمن إبراهيم - عليه السلام - حينما جاء من «الرها»، وسكن في «حبرون»، التي عرفت بالخليل، وقد وجدت آثار تاريخية تدل على قدم وجود اليهود في مدن الشام، كدمشق، وحلب، وحوران، وسائر بلاد الفينقيين في الألف الثاني قبل الميلاد.
ويروي الأستاذ كرد علي أن قائدي سيدنا عمر عندما فتحا الشام، انتقيا نفرا غير قليل من اليهود والمسلمين الدمشقيين من أرباب الصناعات والفنون الجميلة، وجيء بهم بعد إلى بلاد بخارى، فتوفروا على البناء المماثل تمام المماثلة للنسق الدمشقي من حيث طراز البناء ورسومه وأشكاله وأدواته، حتى يخيل لمن يزور تلك الأصقاع أنه في سوق أو في دار من أسواق الشام ودورها، ثم أخذ نزول اليهود في دمشق منذ أمد بعيد مشهود ومحسوس، من كنيس قرية جوبر التي تبعد بضع دقائق عن شرقي دمشق، وقد جاء ذكره في التلمود الموضوع أكثر من ألفي سنة، وأن اليهود لم ينقطعوا عن الشام لا سيما عند فتح المسلمين لها، إذ ثبتت أقدامهم فيها وتوفرت لهم أسباب الهناء والرخاء.
52
وأما الفرس: فقد قدموا إلى الديار الشامية منذ القديم. وقد كانت العلاقات بين الفرس والروم علاقات متوترة، فلم تكد الحروب تنقطع بين الجانبين، وكان الفرس إذا احتلوا الديار الشامية، أجلوا من أهلها إلى ديارهم، وأسكنوا بعض جاليتهم في مدن الشام الكبرى كحلب ودمشق، وآخر حملة حملوها على سورية كانت قبل الفتح الإسلامي في سنة 610، وقد فتكوا بالرومانيين وسيطروا على آسية الصغرى وسورية، وخربوا وغنموا.
53
وكانت لهم قبل ذلك حملات ورحلات تجارية إلى بلاد الشام، كما كان لهم علاقات ثقافية، وقد قويت هذه العلاقات التجارية والثقافية بعد الإسلام، وظهر أثرها في كثير من التقاليد والأنظمة التي ظهرت في البلاط الأموي بدمشق، فقد رأينا في كلام المسعودي الذي وصف فيه مجالس معاوية وطريقته في قضاء يومه، أنه كان يخلو بنفسه فيسامر جماعة من أهل الفضل، أو يقرأ في كتاب الأقدمين من فرس وروم؛ ليطلع على أخبارهم ويعرف أحوالهم. وروى محمد كرد علي أن الفرس سكنوا منذ القديم في بعلبك، وأن معاوية نقل قوما من الفرس إلى طرابلس، وجبيل، وصيدا، وصور، وبيروت، كما نقل قوما من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن، وصور، وعكا في سنة 42، ونقل من أساورة البصرة والكوفة.
54
ويظهر أن هؤلاء الفرس كانوا بحارة، فلما أراد معاوية تنظيم الأسطول العربي استعان بهم، فجاء بهم إلى السواحل السورية.
وأما الزط: وهم قوم من الهنود الذين سكنوا العراق منذ زمن بعيد؛ فقد روى البلاذري أن معاوية نقل في سنة 49 أو سنة 50 إلى السواحل قوما من زط البصرة والسبايجة.
55
وأنزل بعضهم أنطاكية، ويظن أنه أراد الاستعانة بهم لتنظيم أمور الثغور.
وبعد، فقد كان لاختلاط هؤلاء الأقوام في الديار الشامية أثره الفعال في تلقيح الثقافات المختلفة، وإيجاد نظم قوية لدولة فتية. والفضل في ذلك كله يرجع إلى معاوية الذي أسس الدولة وشاد قواعدها، وانتقى لها العناصر الصالحة التي تستطيع أن تعينه على قهر خصمه الأول، وهو الروم الذين أخذ يعبئ قواه البرية والبحرية لهم؛ فقد رأينا عنايته بأمور الأسطول واهتمامه ببناء دور الصناعة في عكا وصيدا وصور وغيرها من المرافئ الشامية. ولا شك في أن عمال دور الصناعة وبحارة السفن، كانوا من الروم السوريين والفرس والزط الذين رأينا معاوية يملأ الموانئ السورية بهم.
وقد انقسم الناس في هذه البيئة الإسلامية إلى ثلاث طبقات متمايزة: (1)
طبقة المسلمين من عرب أو غيرهم. وقد كان لهم من الامتيازات ما جعلهم أعلى الطبقات؛ أما العرب فلأنهم رجال الدين الجديد وعماد الخلافة. وقد كان أكثر هؤلاء من أصحاب الإقطاع أو الجند. (2)
طبقة أهل الذمة من نصارى ويهود وصابئة ومجوس، وقد تمتع هؤلاء بحماية الدولة لهم لقاء دفعهم الخراج والجزية، وقد بقي من هؤلاء النصارى جماعة في لبنان لم يخضعوا للإسلام ولا للدولة الجديدة، متحصنين بجبلهم المنيع. وقد كانت لهم جولات ضد المسلمين. وقد كانوا ينتهزون فرص ضعف الدولة، فيقومون بحركاتهم التي تهدف إلى إيذاء المسلمين، وهؤلاء هم المسمون بالجراجمة والمردة. (3)
طبقة العبيد: وقد احتفظ الإسلام بنظام الرقيق الذي كان في الدولة البيزنطية، ولكنه حسن حالته، ودعا إلى الرأفة به وإصلاح حاله، ومنع استرقاق المسلم، ولكنه إذا أسلم بعد استرقاقه لا يعتق، وكان معظم الرقيق في هذا العهد من أسرى الحرب أو الغزو. ومما استحدثه الإسلام من أحكام الرقيق الرفيقة، عدم فصل الطفل عن أمه الرقيقة إلا بعد السابعة، ويستطيع أن يتزوج بأمة مثله، وله تطليقها، وأن يكتسب ويعمل، ويعطي له نصيبا ويبقي لنفسه نصيبا. وإذا تزوج السيد أمته وولدت له صارت أم ولد، ولها أحكام؛ فابنها حر، وهي واجبة التحرير بعد وفاة السيد، وقد فرض الدين تحرير الرقيق في كثير من أحوال التكفير عن الذنوب والخطايا الشرعية. وللسيد أن يعتق رقبة عبده إعتاقا آنيا أو مؤجلا من تدبير ومكاتبة. وقد كانت للمكاتبة أصول عند الرومان والبيزنطيين، إلا أن الشروط التي فرضها الإسلام هي شروط أعدل وأشفق بالعبد. وقد استحفظ الإسلام للعبد المولى صلة بمولاه وسماه حق الولاء، ولها علاقات بالإرث، وكثير من العلاقات الاجتماعية والقانونية من وصاية والتزام.
الفصل السادس
في الحركات القلمية والعقلية
مقدمة
كانت الشام من البلاد ذات الثقافة العريقة منذ عهد حضارة الفينيقيين وحضارة رأس شمرا. أما بعد الاحتلال الروماني فقد عددنا أسماء طائفة من أئمة العلم، والفلسفة، والفقه، والأدب، والتشريع، والمحاماة في مقدمة الباب الخامس. وقد كان لمدارس أنطاكية وقيسارية وبيروت وتدمر ودمشق وحلب في العهد الروماني أثر كبير في إيجاد حركات علمية وعقلية ذات صيت عالمي مشهور.
وقد كانت اللغتان اللاتينية ثم اليونانية هما لغتا العلم والتأليف، وقد حفظت في خزائن أوروبا آثار كثيرة من تراث ذلك العهد، كما حفظت لنا مدارس الروم في أنطاكية وبيروت ودمشق والإسكندرية علوم الروم من فلك، وجغرافية، ورياضيات، وطب، فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم، وأكملوها ونشروها.
1
ولما جاء المسلمون هذه الديار ركدت الحركات الفكرية أول الأمر لسببين:
أولهما:
أن العرب الفاتحين كانوا ينظرون بحذر شديد إلى رجال الدين والتشريع، وهم رجال العلم في الدولة البيزنطية.
ثانيهما:
أن حركة العلم في الدولة العربية كانت بعد في عهد الإنشاء؛ فقد كان العرب أمة أمية، ولم يكن عمل الخلفاء الراشدين في هذا الحقل ذا أثر كبير، وكذلك كان الحال في الفترة الأولى من عهد بني أمية، ولكن على الرغم من ذلك فإن بداية بعض الحركات العلمية قد ظهرت وهذا تبيانها. (1) القرآن
في ولاية يزيد بن أبي سفيان على الشام كتب إلى عمر بن الخطاب يقول: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم. فبعث إليه بمعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وقال لهم: ابدءوا بحمص، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، فذهب عبادة إلى حمص، وأبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. وهذه أول بعثة علمية تركت الحجاز إلى الشام، يرجع الفضل فيها إلى عمر، كما يرجع إليه الفضل في جمع القرآن للمرة الأولى. قال زيد بن ثابت: أرسلت إلى أبي بكر فأتيته فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال لي: إن القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل في القراء في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن، فأرى أن يجمع القرآن بالحال. فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟
فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله له صدري.
فقال له أبو بكر: يا زيد، إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
فتتبع القرآن واجمعه. فكانت الصحف عند أبي بكر حياته ثم عند عمر.
2
ولما كثر المسلمون وانتقلوا في الفتوح في الشام ومصر والعراق وإفريقية وإيران في عهد عثمان، وحدث أن وجدت بعض الحوادث والفتن؛ بسبب بعض الاختلافات في آي القرآن وقراءته، وأخذ بعضهم ينسب إليه ما ليس فيه من أحاديث الرسول، وبلغت هذه الأخبار مسامع الخليفة، فأمر في سنة 30ه زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث المخزومي أن يكتبوا نسخا من القرآن، وقال: إن اختلفتم في حكمة فاكتبوها بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. فلما كتبوها بعث بها إلى الأمصار الإسلامية: مكة والبصرة والكوفة ودمشق، وأبقى نسخة في المدينة ونسخة لنفسه، وصار المصحف العثماني مرجع الناس وعنه انتسخوا نسخهم، وأمر بإتلاف كل ما خالفها، ومنذ ذلك الحين أخذت علوم القرآن وقراءاته والروايات تنشأ في الشام والعراق. (2) الفقه والحديث
نزل الشام بعد الفتح الإسلامي جماعة من كبار الفقهاء، الذين نشئوا في مدرسة الرسول الكريم وسمعوا أقواله وأحاديثه، وتأدبوا بآدابه؛ منهم: أبو الدرداء الذي بعث به عمر لتعليم المسلمين في دمشق، والذي تولى قضاء دمشق في خلافة عثمان ومات سنة 32ه، ومنهم أبو ذر الغفاري الصحابي الزاهد الفقيه الجليل، ومنهم عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الصحابي الذي بعثه عمر إلى الشام لتفقيه الناس، ومنهم فضالة بن عبيد الصحابي الذي ولاه معاوية قضاء دمشق وأمره على غزو الروم بحرا. وقد نبغ من الشاميين جماعة نشئوا على هؤلاء الرجال أمثال: بلال بن أبي الدرداء الذي تولى قضاء دمشق (؟-93)، وشهر بن حوشب الأشعري المحدث (؟-100)، وأبو مسلم الخولاني شيخ دمشق وزاهدها وعالمها، وغيلان بن مروان الدمشقي، الفقيه المتكلم، أحد كبار المعتزلة. (3) الشعر
نبغ في الشام جمهرة من الشعراء الفحول؛ فقد كان الشعر أرقى الشعب العلمية في ذلك العصر. وقد كان للخلفاء الأمويين كمعاوية ويزيد ومروان حب للشعر وتقدير لأهله، بل كان يزيد شاعرا مفلقا يحب الشعر وأهله، ويجزل العطاء على قوله ، وكان فحول الشعر في هذا العصر جرير والفرزدق والأخطل، وهؤلاء الثلاثة وإن كانوا عراقيين إلا أنهم عاشوا في كنف شعراء أمية. والحق أن الشعر ازدهر أي ازدهار في عصر معاوية وأخلافه لأسباب سياسية واجتماعية وأدبية، فصلتها كتب الأدب، وقد انقسم الشعراء في هذه الفترة إلى أحزاب؛ فحزب علي له شعراؤه ومنهم: النعمان بن بشر الأنصاري (؟-65)، ويزيد بن مفرع الحميري (؟-69)، وأبو الأسود الدؤلي (؟-99).
وحزب معاوية له شعراؤه، ومنهم: مسكين بن عامر الدارمي (؟-90)، وأعشى ربيعة عبد الله بن خارجة (؟-85).
وحزب الزبير ومنهم: ابن قيس الرقيات (؟-75).
وحزب الخوارج، ومن شعرائهم: الطرماح بن حكم (؟-100)، وعمران بن حطان (؟-89)، وعبد الله بن الحجاج (؟-95).
وحزب المستقلين اللاهين في الحجاز بعد أن أقصاها معاوية عن السياسة، ومن شعرائها: جميل بن معمر (؟-82)، وعمر بن أبي ربيعة (؟-93)، وعبد الله بن عمر العرجي.
وهناك طائفة أخرى من الشعراء، إلا أن هذا ليس مجال التفصيل في أخبارهم وأحوالهم. (4) الخطابة
ازدهرت الخطابة في هذا العصر؛ فقد كان الخلفاء والأمراء خطباء يعولون على الخطابة في إبلاغ الناس مقاصدهم، والتأثير عليهم في نشر مبادئهم وأغراضهم. قالوا: كان معاوية ويزيد من أخطب الناس، وكذلك كان كثير من الأمراء الأمويين خطباء مصاقع يعجبهم القول المرتجل والحكمة البليغة. (5) الأخبار والتاريخ
كان العرب في جاهليتهم وإسلامهم يحبون رواية الأخبار للمسامرة والاعتبار، وكان معاوية يحب استماع الأخبار القديمة، وقصص الماجنين من عرب الجاهلية والإسلام والأقدمين، كما كان مغرما بمعرفة أنساب العرب وأيامهم ووقائعهم في الجاهلية. وقد أغرم الناس بهذه الأخبار، فاعتنوا بها وجمعوها منذ زمن مبكر، حتى صارت فيما بعد مادة للمؤرخين الإسلاميين الذين دونوا السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والعربي في القرن الثاني. وكان أقدم هؤلاء الرواة الإخباريين عبيد بن شرية الجرهمي، وهو عربي يمني، كان جماعة للأخبار والقصص، استدعاه معاوية إلى دمشق؛ ليسامره ويقص عليه قصص الماجنين من أهل اليمن، وعامة العرب والعجم. ويقال: إن عبيدا هو أول من ألف في كتب التاريخ والأخبار، وأخبار الملوك والأمم الماضية.
3
ومنهم كعب الأحبار وهو يهودي يماني، كان واسع الاطلاع على علوم الأولين وأخبار الإسرائيليين، قربه معاوية وكان يستمع إلى أقاصيصه.
4
ويقول المسعودي: إن معاوية كان يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء إلى ثلث الليل، فيقصون عليه أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها في رعيتها وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكائدها، ثم ينام ويأتيه غلمان مرتبون، وعندهم كتب قد وكلوا بحفظها وقراءتها، يقرءون عليه ما في تلك الكتب من سير الملوك وأخبار الحروب ومكائدها وأنواع السياسات.
5
ويعلق جرجي زيدان على هذا الكلام بقوله: والغالب في اعتقادنا أن تلك الكتب في اليونانية أو اللاتينية، وفيها أخبار أبطال اليونان والرومان، كالإسكندر ويوليوس قيصر وهنيبال، وأن الغلمان كانوا يفسرونها له بالعربية.
6
وممن ألف في هذا العصر أبو مخنف أحد أصحاب الإمام علي؛ فقد روى ابن النديم أن له بعض الكتب في أخبار الأمم وتراجم الرجال
7
ومنهم دغفل بن حنظلة السدوسي النساب البكري.
8 (6) علوم الأقدمين
عرف العرب في الجاهلية وصدر الإسلام بعض المعلومات الساذجة من علوم الأقدمين اليونان والفرس من طب وصيدلة، ولما جاء الإسلام لم يكن في الوقت متسع للانصراف إلى هذه العلوم ودراستها دراسة صحيحة، ولما اتسع الوقت للعلوم القديمة أن تظهر في كنف البلاط الأموي، وجدنا بعض الأطباء والفلاسفة الروم يقربهم الخليفة ويفيد من علمهم وفضلهم، كابن أثال الطبيب، وسرجون الكاتب، وماسرجويه الطبيب في عهد مروان الحكم.
9
ولكن العلم البيزنطي نفسه كان الوقت في دور الانحلال والتقهقر، ولذلك لم نر أثرا كبيرا لذلك الاتصال؛ فقد وصل العلماء البيزنطيون إلى زمن كان علمهم شرح كتب الأقدمين ووضع الحواشي عليها ليس غير.
ولما قام الأمير الأموي النابه خالد بن يزيد بن معاوية حكيم آل مروان (؟-85)، ينقب عن كتب الحكمة والكيمياء وعلوم الأقدمين، وأمر المترجمين أن يترجموها لهم. لم يكن ذلك العمل ذا أثر كبير؛ إذ لم يعقب ذلك العمل الابتدائي أية حركة أخرى بعده، وإنما هي أخبار تروى عن خالد إذا صحت الرواية.
10
ويقولون: إنه أول من أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مصر، وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل كتب الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي. يقول ابن النديم: الذي عني بإخراج كتب القدماء في الصنعة خالد بن يزيد بن معاوية، وكان خطيبا شاعرا فصيحا حازما ذا رأي، وهو أول من ترجمت له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وكان جوادا، رأيت من كتبه كتاب الجرارات، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير ، كتاب وصية إلى ابنه في الصنعة.
11
ويقول الأستاذ كرد علي: «وكانت الكتب التي ترجمت لأبي هاشم خالد بن يزيد، أول نقل أو تعريب في الإسلام في عاصمة الشام، وخالد بن يزيد هذا زهد في الخلافة وعشق العلم، وإذا أنشأ جده معاوية ملكا في الشام دام ألف شهر، فإنه أنشأ بعلمه مملكة باقية بقاء الدهر، وخالد بن يزيد أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام؛ ففي دمشق إذن أنشئت أول دار كتب في العالم العربي، ودمشق أول عاصمة أنشئت فيها دار ترجمة؛ فأولى أبو هاشم بعمله هذه الأمة، وهذه العاصمة شرفا لا يبلى عليه الأيام ...»
12
إلا أن المستشرق الألماني «يوليوس روسكا» يشك في الأمر، ويقول: ليس لدينا شهادة من عصر خالد تثبت ميله العلمي، وليس فيما نعرفه عن الحياة الرسمية في ذاك العصر، أقل إشارة تدعو إلى الظن بأن ابن خليفة في دمشق عني بالعلم اليوناني، وعبثا يبحث الإنسان عن رجل اهتم بترقية العلم بين المغنين والشعراء والنساء والرجال، فإن المهندسين الذين كانوا يبنون قصور الخلفاء والجوامع هم من الغرباء، وكذلك كان الأطباء والفلكيون من الغرباء، ولكننا لا نستطيع أن نتبين أو ننقض ما ذكر من أن خالدا له ولع بالكيمياء، وما من تأليف علمي نثري أو شعري نسب إليه يمكن أن يعتبر أنه من تآليفه.
13
وكذلك يذهب الأستاذ «حتي» فيشك في الأمر ويقول: وفي عزو هذا العمل إلى خالد - وإن كان لا يوثق به - ما يشير إلى الحقيقة الراهنة، وهي أن العرب استقوا معلوماتهم العلمية من المصادر الإغريقية القديمة.
14
والحق أن ابن النديم هو أقدم مصدر ذكر قصة خالد بن يزيد، ثم تناقلها المؤلفون من بعده، ولم يذكر ابن النديم المصدر الذي نقل عنه، ولا يكفي أن يذكر أنه رأى بعض الكتب منسوبة إليه، فإن التزوير في التأليف كان معروفا من عهد مبكر، وبخاصة في كتب الصنعة وما إليها مما يراد الترويج له. وما ينسب إلى خالد، في رأينا، هو مثل ما نسب إلى جابر بن حيان وجعفر الصادق ممن عرفت عنهم بعض النزعات فألف الكتب باسمهم. (7) تدوين الكتب
رأينا أن أول من دون كتب التاريخ والقصص والأخبار، هو عبيد بن شرية لمعاوية لما استدعاه، وقيل: بل إن التأليف كان قبل ذلك؛ فقد روى الإمام البخاري أن عبد الله بن عمر كان يدون بعض أحاديث النبي حينما كان يسمعها من الرسول
صلى الله عليه وسلم
فهو أول تدوين في الإسلام. وروى صاحب توجيه النظر في علوم الأثر أن زيد بن ثابت دون كتابا في المواريث والفرائض. كما روى الإمام مسلم أن بعض العلماء قد ألف رسالة قضاء علي في زمانه. وذكر ابن النديم في الفهرست أنه رأى في مدنية الحديثة خزانة كتب فيها خطوط الإمامين الحسن والحسين، وأمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي، وبخط غيره من كتاب الوحي، وأن في خزانة المأمون كتابا بخط عبد المطلب بن هاشم في أدم ...
15
ولكن ذلك كله لا يمكن التأكد من معرفة أسلوبه وطريقة تأليفه؛ لأنه قد فقد.
الفصل السابع
في كبار الرجال في هذا العهد
نبغ في عهد معاوية ومن وليه إلى عهد مروان نفر من كبار السياسة والقادة وأهل الرأي، نذكر منهم: (1)
عمرو بن العاص (؟-43) السهمي القريشي فاتح مصر وأحد دهاة العرب، أسلم في هدنة الحديبية، ولاه النبي إمرة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وعمر، ثم استعمله على عمان، ثم في زمان عمر تولى إمرة بعض جيوش الفتح في الشام، ففتح قنسرين، وصالح أهالي حلب ومنبج وأنطاكية، ثم ولاه عمر فلسطين، ثم مصر بعد أن فتحها، ولما كانت الفتنة كان مع معاوية، فأقره على مصر، وأطلق له خراجها ست سنين، ومات بالقاهرة، وله أخبار في كتب الأدب والتاريخ تدل على رجاحة عقله وبعد صيته وقدره، وله في الصحيحين 35 حديثا (انظر الاستيعاب). (2)
المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي أبو عبد الله (؟-50) الداهية الأمير، زار الإسكندرية قبل الإسلام فأعجب به المقوقس، أسلم في السنة الخامسة، وشهد الحديبية واليمامة وفتوح الشام، وذهبت عينه باليرموك، وأبلى في فتوح القادسية ونهاوند وهمدان والمشرق . ولاه عمر البصرة ثم الكوفة، ولما كانت الفتنة اعتزلها، ثم انضم إلى معاوية وحضر الحكمين، ثم ولاه معاوية الكوفة إلى أن مات، وهو أول من وضع البصرة، وله في الصحيحين 36 حديثا (انظر الاستيعاب). (3)
زياد ابن أبيه (؟-53) هو ابن سمية، وأبوه عبيد الثقفي، وقيل أبو سفيان، أسلم في عهد أبي بكر، فاتخذه أبو موسى الأشعري كاتبا في إمرته على البصرة، ثم ولاه على إمرة فارس، ولما قتل علي امتنع على معاوية، فكتب إليه ثم استلحقه بنسبه سنة 44، فولاه العراق فكان عضده القوي، كان من أخطب الناس. قال الأصمعي: هو أول من ضرب الدنانير والدراهم، وأول من اتخذ القسيس والحرس في الإسلام، وأول وال سارت الرجال بين يديه، وأول من عرف العرفاء، ورتب النقباء، وربع الأرباع بالبصرة والكوفة. قال الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد ابن أبيه لكل صغيرة وكبيرة. (4)
عبد الله بن عامر بن كريز الأموي (؟-59) ولد بمكة سنة 4، ولاه عثمان البصرة، فتح سجستان والداور، ودارابجرد، ومرو الروذ، وسرخس، وطخارستان، وبلخ، والفاريات، ونيسابور، وهراة، وآمل، وبست، وكابل، ومات بالبصرة، وكان محبا للعمران رحيما، وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة. (5)
المهلب بن أبي صفرة الأزدي (؟-83) الأمير الفاتك الجواد، ولد في دبا سنة 7، ونشأ بالبصرة، وقدم مع أبيه إلى المدينة أيام عمر، ولاه مصعب البصرة، وندبه لقتال الأزارقة، فحاربهم 19 عاما إلى أن ظفر بهم، ثم ولاه عبد الملك خراسان سنة 79 إلى أن مات سنة 83، وهو أول من اتخذ الركب من الحديد، وكانت قبلا من خشب، الإصابة 3: 53. (6)
الحجاج بن يوسف الثقفي (؟-95)، ولد بالطائف واشتغل بالتعليم فيها، ثم التحق بروح بن زنباع في الشام، فكان في شرطته، ثم ولاه عبد الملك حرب ابن الزبير في الحجاز، ثم ولاه العراق فبقي أميرا نحوا من عشرين سنة. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أحدا أفصح من الحسن البصري والحجاج. وهو أول من ضرب الدراهم والدنانير في العراق، وأول من اتخذ المحامل، واتخذ المناظر بينه وبين قزوين (وكانت ثغرا ) فكان إذا دخن أهل قزوين، دخنت المناظر إن كان نهارا، وإن كان ليلا أشعلوا نيرانا فتجردت الخيل لهم (تهذيب التهذيب 2: 210). (7)
الضحاك بن قيس أبو بحر الأحنف التميمي (؟-67) عظيم، داهية، شجاع، فصيح، حليم، ولد بالبصرة، وفد على عمر فاستبقاه عنده للإفادة من عقله، ثم بعد سنة أذن له فعاد إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يدنيه ويشاوره. شهد فتوح خراسان واعتزل الفتنة يوم الجمل، وشهد صفين مع علي، ثم ولاه معاوية خراسان، وكان صديقا لمصعب، قدم عليه بالكوفة فمات عنده (ابن سعد 1: 66). (8)
نجدة بن عامر الحروري الحنفي (؟-68) ثائر شجاع، هو رأس فرقة من الخوارج الحرورية عرفت بالنجدات، خرج باليمامة فأتى البحرين، وكانت له أخبار ومعارك كثيرة، قتل شابا.
في العهد الأموي الثاني
الفصل الأول
عبد الملك بن مروان
65-86ه/685-705م (1) أوليته
هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ولد سنة 26 في خلافة عثمان.
1
وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنوات، وتلقى العلم عن أشياخ المدينة وفضلاء الصحابة، كأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعثمان، وغيرهم من أكابر أصحاب رسول الله، وكان فقيها عالما أديبا شاعرا
2
عاقلا حازما أديبا. قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان.
وقال الشعبي: ما ذاكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه، ولا شعرا إلا زادني فيه. وقال جعفر بن عقبة الطائي: قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن.
3
وكان عبد الملك على جانب عظيم من الدهاء والسياسة، وهو بحق المؤسس الثاني لدولة بني أمية. (2) خلافته
كان عبد الملك يوم وفاة أبيه سنة 65 بعيدا عن دمشق، فأسرع إليها خوفا من وثوب عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المعروف بالأشدق؛ فقد كان أميرا نبيلا بليغا خطيبا، أعان مروان على استلام الخلافة، فجعل له البيعة من بعده، ولما ولي عبد الملك أراد خلعه من ولاية العهد، فنفر عمرو، ثم خرج عبد الملك إلى الرحبة لقتال زفر بن الحارث الكلابي، فاستولى عمرو على دمشق، وبايعه أهلها لحبهم إياه، فلما عاد عبد الملك لم يمكنه الأشدق وتحصن بدمشق، فتلطف له عبد الملك ثم قتله سنة 70.
4
وبويع عبد الملك في سنة 65، وله في أرجاء المملكة أعداء كثيرون يتربصون به الدوائر، فلم يكد يتم له الأمر حتى اجتمع نفر من الشيعة العلوية، الذين ثاروا انتقاما لمقتل الحسين، نادمين على ما فرطوا في حقه من عدم نصرته، فأعلنوا توبتهم وسموا بالتوابين، وأمروا عليهم سليمان بن صرد، فبعث إليهم عبد الملك أمير العراق عبيد الله بن زياد، فالتقى بهم في عين الوردة، وجرت بين الطرفين معارك، أبلى التوابون فيها أحسن بلاء، وتشتتوا بعد مقتل رئيسهم.
5
ولم يكد عبد الملك يقضي على حركة التوابين، حتى ثار المختار بن أبي عبيد الثقفي عامل الكوفة من قبل الزبير فطرده، وكان ذا مطامع واسعة، فاستغل حركة التوابين واستتر وراء محمد ابن الحنفية، وزعم أنه أمينه ووزيره، وأنه إنما يثور انتقاما للعلويين وحقوقهم المهضومة، فانضوت الشيعة تحت لوائه من توابين وكيسانية وسبئية. أما التوابون فهم الذين تابوا عن معصيتهم التي اقترفوها بخذل الحسين فسببت قتله، وقد تحالفوا وتعاهدوا على بذل أرواحهم انتقاما له ومقاتلة قاتليه وأتباعهم وتنصيب رجل من آل علي، ومن شعرائهم عبد الله بن الأحمر (انظر مروج الذهب 1: 110) وأعشى همدان.
قصيدة أعشى همدان الشيعي التي كان الشيعة يكتبونها سرا:
ألم خيال منك يا أم غالب
فحييت عنا من حبيب مجانب
وما زالت في شجو وما زالت مقصدا
لهم غير أني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انتقالك في الضحى
إلينا مع البيض الحسان الكواعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا
لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مقبلة غراء رود شبابها
كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله
بدا حاجب منها وضنت بحاجب
فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى
فأحبب بها من خلة لم تصاقب
ولا يبعد الله الشباب وذكره
وحب تصافي المعصرات السواكب
ويزداد ما أحببته من عتابنا
لعابا وسقيا للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكر
رذية مخبات كريم المناسب
توسل بالتقوى إلى الله صادقا
وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها
وثاب إلى الله الرفيع المرائب
وما أنا فيما يبكر الناس فقده
ويسعى له الساعون فيها براغب
توجه من دون الثوية ثائرا
إلى ابن زياد في الجموع الكتائب
بقوم هم أهل التقية والنهى
مصاليت أنجاد شراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبة
ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم ما بين ملتمس التقى
وآخر مما جر بالأمس ثائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا
إليهم فحسوهم ببيض قواضب
يمانية تذري الأكف وتارة
بخيل عتاق مقربات سلاهب
فجاءهم جمع من الشام بعده
جموع كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حتى أبيدت سراتهم
فلم ينج منهم ثم غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا
تعاورهم ريح الصبا والخبائب
فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلا
كأن لم يقاتل مرة ويحارب
6
ورأس بني شمخ وفارس قومه
7
شنوءة
8
والتيمي هادي الكتائب
9
وعمرو بن بشر والوليد وخالد
وزيد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيع
إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قوم قد أصيب زعيمهم
وذو حسب في ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه
وطعن بأطراف الأسنة صائب
وأن سعيدا يوم يدمر عامرا
لأشجع من ليث بدرب مواثب
فيا خير جيش بالعراق وأهله
سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدن فرساننا وحماتنا
إذا البيض أبدت عن خذام الكواعب
فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتة
وكل فتى يوما لإحدى الشواعب
وما قتلوا حتى أثاروا عصابة
محلين ثورا كالتيوس الضوارب
وأما الكيسانية فقد اختلف في الشخص الذي ينسبون إليه، فقيل:
10
إنه كيسان مولى علي بن أبي طالب، ولكنه قول غريب؛ لأنه مات في صفين قبل قيامهم بنحو ثلاثين سنة. وقال المسعودي في المروج 2: 79، وابن عبد ربه في العقد 1: 269، والطبري أيضا 2: 671، والنويحي في فرق الشيعة، ص21، إنه كيسان أبو عمرو مولى بجيلة، صاحب شرطة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو الصواب الذي يؤيده ابن سعد (5: 77)، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال، ص296، والبلاذري في أنساب الأشراف (5: 229)، ويذكر ابن سعد: أن كيسان كان ضمن الرجال الذين شهدوا بأن ابن الحنفية سمح للمختار بن أبي عبيد، أن يبث الدعوة باسمه (أي باسم ابن الحنفية)، وإن كان هذا القول غير صحيح تاريخيا؛ فإن ابن الحنفية لم يمالئ المختار، بل بايع يزيد بن معاوية؛ لأنه لم يكن يثق بأهل الكوفة. وأول ما نسمع بذكر المختار الثقفي في الفتنة بين علي ومعاوية، ثم ينحرف إلى الخوارج عندما يقوى أمرهم، فحين صفعوا تركهم والتحق بابن الزبير، ثم تركه وساير محمد ابن الحنفية وادعى أنه من أنصاره، وانحدرا إلى الكوفة يدعو له، ويزعم أن محمد ابن الحنفية (المهدي) قد بعثه إلى الكوفيين لينقذهم، وهذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها بذكر «المهدي».
وأما السبئية: فنسبتهم إلى عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديا فأسلم وتشيع لعلي وآله، وغالى في ذلك غلوا كبيرا، وأخباره كثيرة مشهورة. وقد كان المختار داهية، استطاع أن يجمع كافة فرق الشيعة تحت لوائه، كما تمكن من أن يخدع التوابين، ويجتذب فلولهم التي بقيت بعد معركة عين الوردة «رأس العين» سنة 65ه، وخدع الموالي، ونفخ فيهم روح التمرد على العرب، وهذه هي الفترة الأولى التي ظهرت روح التمرد من الموالي، فتمكن أن يجمع جيشا كبيرا، واستطاع به أن يقضي على عامل الكوفة من قبل ابن الزبير فطرده، ثم أرسل جيشا بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، فالتقى جيشاهما على نهر الخازر فقتل ابن زياد وتفرق جيشه، وبذلك انتقم للحسين من قاتليه، ثم حمل رأسه إلى المختار فبعث به إلى ابن الزبير، وكان لقتل ابن زياد عدو الشيعة وقاتل الحسين، أنهم تعلقوا بالمختار وأيدوه، حتى خاف ابن الزبير على مكانه في العراق، فبعث إليه أخاه مصعبا بجيش كثيف، فقتل المختار وعددا كبيرا من الشيعة، واستولى مصعب على الكوفة سنة 67، جرت هذه الحوادث وعبد الملك يرقب الأمور عن كثب، وقد راقه تقاتل الطرفين لينهك بعضهما الآخر، فلما قتل المختار واستولى مصعب على زمام الأمر، خرج إليه عبد الملك بعد أن هادن إمبراطور البيزنطيين حين أغار على الثغور الإسلامية في سنة 70، وتعهد عبد الملك بدفع الأموال والهدايا، وخمسين ألف دينار كل عام. ولما يكد جيش عبد الملك يخرج من دمشق ويصل إلى أراضي الفرات، حتى بلغه أن عمرو الأشدق قد ثار عليه في دمشق، فرجع إلى الشام، وأخذ يتلطف مع عمرو حتى تمكن منه وقتله بعد أن أمنه، وكان هذا أول عهد غدر به في الإسلام.
11
ولما استقر لعبد الملك أمر دمشق رجع إلى العراق، فحاصر زفر بن الحارث زعيم القيسية في قرقيسياء قرب رحبة مالك بن طوق على نهر الخابور، والذي كان يدعو لابن الزبير، ورأى أن الحزم في مصالحته فصالحه، وبذلك انضوت القيسية تحت لواء عبد الملك، وبانضوائها سيطر عبد الملك على جناحي النسر العربي (قيس واليمن) ثم سار عبد الملك للقاء مصعب، فانخذل جيش مصعب أمام عبد الملك، ثم إنه أخذ يدعوهم ويمنيهم، فتخلى كثير منهم عن ابن مصعب وانضموا إليه. وكتب عبد الملك إلى قواد مصعب وأعيان الكوفة حتى أفسدهم عليه إبراهيم بن الأشتر، فإنه أعطى الكتاب الذي بعث به إليه عبد الملك إلى مصعب، فوجده يمنيه بولاية العراق، ثم إن إبراهيم بن الأشتر أخبر مصعبا بخبر سائر القواد، وأنهم أخفوا كتب عبد الملك عن مصعب، وطلب منه أن يقتلهم لئلا يفسدوا في الجيش فلم يفعل، فطلب منه أن يحبسهم إلى أن يتبين الأمر فأبى ذلك عليه أيضا.
12
وكان مصعب مخطئا في سياسته هذه، فقد تفرق عنه قواده لما نشب القتال بين الطرفين، وقتل مصعب بعد أن أظهر من ضروب البطولة والجرأة ما يدهش له المرء، ودخل عبد الملك الكوفة سنة 71، ثم سيطر على البصرة، وصفا له العراق ولم يبق أمامه إلا الحجاز الذي سيطر عليه ابن الزبير. وما أن استقرت له أمور العراقيين حتى بعث جيشا كبيرا بقيادة الحجاج لقتال ابن الزبير في الحجاز، فذهب إليه وقتله على الشكل الذي رأينا في الفصل الخاص بابن الزبير.
ولما قتل ابن الزبير وصفا أمر الحجاز لعبد الملك، ولى عليه الحجاج بن يوسف من 73-75ه حين ولاه على العراق، فسار إليه في جيش لجب من أهل الشام، ولما بلغ القادسية أمر الجيش بالاستراحة، واستمر هو في الكوفة فدخلها، وألقى في مسجدها خطبته المشهورة التي أولها:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
وفي سنة 74 ولى عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد خراسان، فاستعمل أمية ابنه عبد الله ووجهه للقتال في سجستان، فغزا رتبيل فصالحه رتبيل، وبذل له ألف ألف فلم يقبل، وقال: إن ملأ لي هذا الرواق ذهبا وإلا فلا صلح لي، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، ثم هجم عليه رتبيل فكاد أن يأخذه، وصالحه عبد الله، وبلغت هذه الأخبار عبد الملك فعزله وأباه، وضمها إلى العراق، فاستعمل الحجاج المهلب بن أبي صفرة على خراسان. وفي سنة 79 قطع المهلب نهر بلخ ونزل على كش، وكان معه أبو الأدهم الزماني البطل الجبار، فغنم المسلمون مغانم كثيرة، ووصلوا إلى بخارى، وفي تلك السنة سنة 79 استأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود إلى رتبيل، فأذن له، فجعل على البصرة عشرين ألف مقاتل، ومثلهم على الكوفة، وأعطى المقاتلين أعطياتهم، وأنفق عليهم ألفي ألف غير الأعطيات، وأنجدهم بالخيل القوية والسلاح الكامل، وكان في المقاتلين عدد من أبطال المسلمين، كأبي الأدهم الزماني ، وأبي محجن الثقفي، وكان هذا الجيش يسمى جيش الطواويس لجماله، ولما تم للحجاج تنظيم أمورهم، سيرهم بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدم سجستان وسار معه أهل سجستان، فلما بلغت أخباره رتبيل استجار وطلب الصلح فلم يقبل، فدخل عبد الرحمن بلاده وفتك بجنده، ثم كتب إلى الحجاج يهنيه، فحمد له جهده وأمره على تلك الديار، وأمره بالاستمرار في الغزو فاعتذر، فكتب إليه الحجاج يعنفه فغضب، ورجع إلى العراق خالعا الحجاج وعبد الملك، وجرت بين الجانبين معركة في دير الجماجم سنة 82 وسنة 83، ثم تراجع عبد الرحمن إلى سجستان، وفي هذه السنة سنة 79 بعث عبد الملك ابنه عبد الله بجيش كثيف إلى أرمينيا ففتح قالقيلا، وغنم مغانم كثيرة.
13
وفي سنة 74 ولى حسان بن النعمان الغساني على إفريقية، فسار إليها في جيش عظيم لم يدخل إفريقية جيش مثله، ولما وصل القيروان رتب أمورها، ومنها سار إلى قرطاجنة، فاجتمع عليه ملوك إفريقية من الروم والبربر، فقتل منهم عددا لا يحصى، ثم سأل عمن بقي من ملوك إفريقية، فدلوه على امرأة تعرف بالكاهنة، تملك البربر بجبل أوراس فسار إليها، ولكنها تغلبت عليه وشتتت شمل جنده، ثم بعث إليه عبد الملك مددا كبيرا، فتمكن من قتل الكاهنة، ومنذ ذلك الحين فشا الإسلام في البربر، وفي هذه الأثناء جاء النعي بموت عبد الملك، وكان ذلك في منتصف شوال سنة 86. (3) الحوادث الكبرى في عهده
فتنة الخوارج
ذكرنا في الباب الخاص بمعاوية بن أبي سفيان شيئا من أمر الخوارج في عهده؛ فقد كانوا يكرهونه أشد الكراهية، فعهد معاوية إلى المغيرة بن شعبة - وكان داهية قويا - ففتك بهم، وقبض على جماعة منهم: حيان بن ظبيان، ومعاذ بن جوين الطائي وغيرهما، وأخطرهم إلى الجلاء عن الكوفة، فجمعوا إخوانهم، فبعث إليهم المغيرة جيشا بقيادة معقل بن قيس الرياحي، والتقى الجمعان بالمذار بالقرب من البصرة فقتلوا عن آخرهم.
وفي سنة 45 ولى معاوية البصرة زياد ابن أبيه، فقدمها في ربيع الأول منها، فخطب في أهلها خطبته المشهورة بالبتراء التي جمع فيها ضروب التهديد بالسياسة والحزم، وكان من جراء ذلك أن توطدت أركان دولة معاوية في العراق. ولما مات والي الكوفة المغيرة بن شعبة في سنة 51 أضاف معاوية الكوفة إلى زياد، فذهب إليها وخطب في أهلها خطبة قطعت ظهورهم، ثم أتبع القول بالسيف ففتك بهم، ووجه أكثر همه إلى الخوارج، فلم يرتفع لهم صوت إلى أن مات زياد ابن أبيه، فلما وليها ابنه عبيد الله بن زياد تحركوا من جديد ففتك بهم مثل أبيه، وكان ممن قتلهم صبرا جماعة منهم: عروة بن أدية التميمي سنة 58، وهو أول من قال: لا حكم إلا لله، وسيفه أول ما سل من سيوف أباة التحكيم، وقد حضر النهروان ونجا منها، ولما زاد عبيد الله بن زياد في فتكه بالخوارج اجتمعوا وتذاكروا في أمرهم، فقال لهم نافع بن الأزرق الحنفي: «إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم الجهاد، واحتج عليكم، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف، فاخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة - ابن الزبير - فإن كان على رأينا جاهدنا معه، وإن يكن على غير رأينا وافقناه عن البيت.» ثم سار بهم إلى مكة، فأظهر لهم ابن الزبير أنه يرى رأيهم فقاتلوا معه إلى أن مات يزيد بن معاوية، ووضعت الحرب بين ابن الزبير وجند يزيد أوزارها، وقوي أمر ابن الزبير. ظهر للخوارج أن ابن الزبير لا يعتقد اعتقادهم، وأنه يطلب الأمر لنفسه، وأنه إنما قام بالأمر انتقاما لعثمان الذي يكرهونه، تركوا الحجاز ونزلوا البصرة وأخذوا ينشرون فكرتهم، فكثرت جموعهم، واستطاعوا أن يكسروا باب السجن ويخرجوا من فيه من إخوانهم، وما زال أمر الأزارقة الخوارج من أزارقة وصفرية ونجدات يعظم حتى امتد نفوذهم إلى البحرين والأهواز، فاضطر مسلم بن عبيس بن كريز أمير البصرة أن يقاتلهم، فخرج الخوارج إلى دولاب من أرض الأهواز، فلحق بهم أمير البصرة وفتك بهم، وقتل نافع في سنة 65 كما قتل دغفل بن حنظلة النسابة وغيره من وجوه الخوارج، فجمعوا جموعهم وقتلوا مسلم بن عبيس، وشتتوا جنده، وساروا نحو البصرة، فلما قربوا من البصرة خاف أهلها منهم، فأتوا الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار عليهم بالمهلب بن أبي صفرة؛ لشجاعته وعقله وخبرته، فقبل المهلب ذلك على أن تكون له ولاية ما غلب عليه، وأن ينتخب من وجوه الناس وفرسانهم من أحب، وأن يعطى من بيت المال ما يتقوى به، فأجابوه إلى ذلك، فخرج للقاء الخوارج فهربوا منه حتى كرمان وأصفهان فلحق بهم وفرقهم، وظل يتعقبهم إلى أن ولى عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا على العراق. ولما حضر مصعب ولى المهلب بلاد الجزيرة، وولى عمر بن عبيد الله بن معمر حرب الخوارج فحاربهم حتى أجلاهم عن أصفهان، ولكن عمر بن عبيد الله لم يكن في مثل بطش المهلب، فاستطاع الخوارج أن يجمعوا فلولهم ويسيروا إلى العراق، فطلب العراقيون إلى مصعب أن يعيد المهلب إلى قتالهم فرجع المهلب لمحاربتهم، وكان على رأس الخوارج آمر شجاع قوي، هو قطري بن الفجاءة، فاقتتل الفريقان قتالا دام قرابة سنة، تضعضع فيه أمر الخوارج بعد أن ظهرت فيهم ضروب الشجاعة والفروسية من جهة، والفتك بالأطفال والشيوخ والنساء من جهة أخرى.
14
ولما قتل مصعب بن الزبير وسيطر عبد الملك على العراق، خرج الخوارج من جديد وقوي أمرهم، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ولى خالد بن عبد الله بن أسيد بلاد العراق، فصرف هذا المهلب عن قتالهم، وولى أمرهم أخاه عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد، فبعث إليه عبد الملك يعنفه في كتاب قال فيه: «قبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، المقاسي للحرب، ابنها وابن أبنائها. أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمدك بجيش، فسر معهم ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضر المهلب والسلام.»
15
وكتب عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان ذلك سنة 72، فدارت معارك عديدة بين الجانبين أظهر كل منهما ضروبا من الشجاعة والفتوة ، صارت مضرب الأمثال، وكاد الخوارج أن يتغلبوا، فبعث عبد الملك بالحجاج أميرا على العراق، فأخذ يسير الأمور بسياسته الشديدة، فطردهم من العراق إلى فارس، ثم تبعهم إلى جيرفت ففتك بهم وشردهم، ثم إن الشقاق دب صفوفهم فتفرقوا شيعا؛ شيعة تزعمها قطري بن الفجاءة ورحل بها إلى طبرستان، وشيعة تزعمها عبد ربه الكبير. ولما وصل قطري وصحبه إلى طبرستان أخذوا يفتكون بمناوئيهم، فاضطر الحجاج أن يبعث إليهم بجيش فتك بقطري، وأضعف شوكة الأزارقة من ذلك الحين.
16
وبموت قطري سقط أمر الخوارج سقوطا مريعا لما كان يتمتع به قطري من شجاعة وحزم ونبل وفضل.
17
وممن فتك بهم الحجاج من الخوارج طائفة منهم تسمى الصفرية المقيمة في الموصل وبلاد الجزيرة، وكان على رأسها رجل صالح عابد اسمه صالح بن مسرح التميمي، وشبيب بن يزيد الشيباني، خرجوا في الجزيرة ففتكوا بجيش محمد بن مروان عامل الجزيرة، فاستنجد بالحجاج فأنجده بجيش لقي الخوارج منه بلاء عظيما، ولكنه لم يستطع أن يفرق جموعهم على قلتهم بالنسبة إلى عدد خصومهم. وقد اضطر الحجاج أن يسأل عبد الملك مده بجيش من أهل الشام للفتك بالصفرية، فبعث إليه عبد الملك ستة آلاف، حمل عليهم شبيب بن يزيد أكثر من ثلاثين حملة، فصمدوا إلى أن هلك شبيب غرقا، فحمل أهل الشام عليهم وأفنوهم، وبموت شبيب طويت صفحة رائعة من صفحات الفروسية التي تحلى بها هؤلاء الخوارج، وبالقضاء على الصفرية والأزارقة وغيرهم من الخوارج صفا الجو في العراق لعبد الملك.
فتنة لبنان
لما وقعت الفتنة بين عبد الملك وعمرو بن سعيد الأشدق خرج الجراجمة، ويسمون بالمردة أيضا - أما الجراجمة فنسبة إلى مدينة جرجومة، كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن الزاج، بين بياس - بياس اليمام - و«لوقة» قرب أنطاكية، وأما المردة فجمع مارد، وإنما سموا بذلك لتمردهم على السلطان وعصيان أمره - من جبل لبنان بزعامة يوحنا في اثني عشر ألفا، فأتوا البقاع ونزلوا قب إلياس، وغزو جبل لبنان الشرقي، وشنوا الغارات على الحجاج، وقطعوا السابلة، وأفسدوا في الأرض، فاضطر عبد الملك إلى تجديد الهدنة التي كان عقدها مع إمبراطور الروم على أن يدفع كل جمعة ألف دينار.
18
ويقول ابن عساكر: إن طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين من منعة مدائن الساحل، كاتب أنباط جبل لبنان واللكام، فخرج الجراجمة وعسكروا بالجبل، ووجه ملك الروم، فلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر، فسار بهم حتى رسا بهم بوجه الحجر - فوق البترون - وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ أنطاكية وغيرها من الجبل الأسود، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يخرج في ناحية من رجال ولا غيرها إلا بالسلاح، فغلبت الجراجمة على الجبال كلها من لبنان، وسنير، وجبل الثلج، وجبال الجولان، حتى بعث إليهم عبد الملك بالأموال؛ ليكفوا حتى يفرغ إليهم، وكان مشغولا بقتال أهل العراق ومصعب وغيره، ثم كتب عبد الملك إلى سحيم بن المهاجر أمير طرابلس، يأمره بالخروج إليهم
19
حتى استطاع أن يفتك بهم.
ويقول ابن الأثير في حوادث سنة 69: إن سحيم بن المهاجر تلطف حتى وصل إلى يوحنا متنكرا فأظهر له ممالأته، وذم عبد الملك وشتمه ووعده أن يدله على عوراته، وما هو خير له من الصلح، فوثق إليه، ثم إن سحيما عطف عليه وعلى أصحابه، وهم غازون غافلون بجيش من موالي عبد الملك وبني أمية، وخندق ثقات جنده وشجعانهم كان أعدهم بمكان خفي قريب. وفي سنة 70ه اجتمع الروم واستجاشوا على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي له كل جمعة ألف دينار.
20
وظل عبد الملك يداريهم ويدفع له الأموال إلى أن صفا له الأمر، فالتفت إليهم وفتك بهم.
الفتن بين قيس وكلب
كانت القبائل القيسية زبيرية الهوى، وكانت القبائل الكلبية مروانية الهوى، وجرت بين الطرفين معارك وفتن كثيرة، اشتهرت في التاريخ والأدب بما جرى فيها من حوادث وما قيل فيها من شعر وأمثال، وهذا موجز أخبار تلك الوقائع أو الأيام كما هي مشهورة: (1)
يوم مرج راهط: وقد تقدمت بعض أخباره، وهو لمروان بن الحكم على الضحاك بن قيس الفهري. (2)
يوم بنات قين: لما تولى عبد الملك ووقعت الفتنة بين القبائل القيسية واليمانية، خرج زفر بن الحارث الكلابي بعد أن انقضى يوم مرج راهط إلى قرقيسياء، فتحصن بها وجعل يغير على بلاد كلب، وكانت كلب تفعل ذلك بقيس، وكان عمير بن الحباب السلمي يغير مع زفر ببني تغلب، فغزا زفر تدمر وعليها عامر بن الأسود الكلبي، وجرت بين الطرفين معركة عند بنات قين، وهو ماء، وقد فازت فيه قيس على اليمانية.
21 (3)
يوم ماكسين: بين قيس وتغلب، وعلى رأس قيس عمر بن الحباب، وعلى رأس تغلب شعيث بن مليل، وماكسين من قرى الخابور، بينها وبين رأس العين يوم أو يومان، فقتل من تغلب خمسمائة، منهم شعيث، وإلى هذا اليوم يشير جرير بقوله:
تركوا شعيث بني مليل مسندا
والآسيين وأقعصوا شعرورا (4)
يوم الثرثار الأول: هو نهر ينزع من هرماس نصيبين شرقي سنجار ويفرغ في دجلة، استنجدت فيه بنو تغلب ببني النمر بن قاسط، وقال لهم شيخها مالك بن مسمع: ما أحسبكم إلا من نبيط تكريت، ولو كنتم من بني تغلب حقا لدافعتم عن أنفسكم وحرمكم. فقالوا له: إنا حي فينا ما قد علمت من النصرانية، ومضر مضر، وأي السلطانين غلب فهو مع قيس. فقال مالك: اذهبوا فإن أمدهم السلطان بفارس فلكم فارسان، وإن السلطان اليوم لفي شغل عنكم وعنهم. فذهبت بنو تغلب وأمرت عليها زياد بن هوبر التغلبي، والتقى الجمعان، فقتلت بنو تغلب مقتلة كبيرة من قيس حتى قال الأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا
ومارسرجيس وسما ناقعا
والخيل لا تحمل إلا دارعا
والبيض في أيماننا قواطعا
خلوا لنا الثرثار والمزارعا
وحنطة طيسا وكرما يانعا
فأجابه جرير:
ستعلم ما يغني الصليب إذا عدت
كتائب قيس كالمهنأة الجرب (5)
يوم الثرثار الثاني: تجمعت قيس واستمدت، وعليها عمير بن الحباب، ومعهم زفر بن الحارث، وعبد الملك مشغول عنهم، فهاجموا بني تغلب وقتلوها قتلا عظيما.
22 (6)
يوم الفدين: أغار فيه عمير بن الحباب على الفدين، وهي لتغلب على الخابور ففتك بهم .
23 (7)
يوم السكر، أو سكر العباس: لقي فيه عمير بن الحباب على السكر - وهي قرية لتغلب على الخابور - بني تغلب وفتك بهم. (8)
يوم المعارك: وهو موضع بين الحضر والعقيق من أرض الموصل، اجتمعت فيه بنو تغلب بعد يوم السكر، فالتقوا بقيس فهزمت تغلب. (9)
يوم لبى: وهو دير فوق تكريت من أرض الموصل، تناصفوا فيه، فتغلب تقول: هو لنا، وقيس تقول كذلك. (10)
يوم بلد: تناصفوا فيه، فتغلب تقول: هو لنا، وقيس تقول كذلك. (11)
يوم الشرعبية: وهي ببلاد تغلب، كان لتغلب على قيس، وفيه يقول الأخطل:
ولقد بكى الجحاف لما أوقعت
بالشرعبية إذ رأى الأهوالا (12)
يوم البليخ: وهو نهر بين الرقتين، التقوا وعلى قيس عمير، وعلى تغلب ابن هوبر، فهزمت تغلب وبقرت بطون نسائها كيوم الثرثار (الأنساب 5: 322). (13)
يوم الحشان: وهو تل قريب من الشرعبية، جمعت فيه تغلب حاضرتها وباديتها وصارت إلى الحشان، ولقيهم عمير بن الحباب وزفر بن الحارث، والهذيل ابنه، فاقتتلوا قتالا طويلا حتى قتل عمير، وبعثت بنو تغلب برأس عمير إلى عبد الملك، وهو بالغوطة مع وفد، فأعطى الوفد وكساهم، فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث بعد ذلك واجتمع الناس عليه. قال الأخطل قصيدته التي يعاتب فيها عبد الملك، وفيها يقول:
بني أمية قد ناضلت دونكم
أبناء قوم هم آووا وهم نصروا (14)
يوم الكحيل: من أرض الموصل في عبر دجلة الغربي؛ وذلك أن تغلب لما قتلت عميرا جاء تميم بن الحباب إلى زفر واستنصره للانتقام لأخيه، فامتنع ثم قتل، وأغار على تغلب عند الكحيل فقتل وأسر وبقر بطون النساء.
24 (15)
يوم البشر أو الرحوب: وهو جبل في عبر الفرات الغربي؛ وسببه أن الأخطل قدم على عبد الملك وعبده الجحاف بن حكيم السلمي، فقال له: أتعرف هذا يا أخطل؟ فقال: نعم، الذي أقول فيه:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر
بقتلى أصيبت من سليم وعامر
وأتى على القصيدة، فتغالظا في الكلام، ثم خرج الجحاف حتى أتى الرحوب عند جبل البشر، وهو ماء لبني جشم بن بكر، قوم الأخطل، ففتك بهم، فأخذ الأخطل وعليه عباءة وسخة، فظن آخذه أنه عبد، وسئل، فقال: أنا عبد، فأطلقه، وقتل أبوه يومئذ، ثم إن الجحاف استخفى خوفا من عبد الملك، فدخل بلاد الروم، فأقام بطرابندة، ثم استأمن عبد الملك فأمنه، ثم قدم العراق وقصد الحجاج فأكرمه ثم حج وتاب.
25 (4) الفتوح
فتح المسلمون في عهد عبد الملك فتوحا في المشرق وأخرى في المغرب، فأما فتوح المشرق: ففي سنة 74 ولى عبد الملك بلاد خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما أتاها ولى ابنه عبد الله بن أمية على سجستان، فلما قدمها غزا رتبيل، الذي ملك بعد رتبيل الأول المقتول، وكان هيابا للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل إليه يطلب الصلح وألف ألف وهدايا ورقيقا، فأبى عبد الله وكان غرا، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، ثم طوق عليه فأخذه، فطلب عبد الله أن يخلي عنه وعن المسلمين، ولا يأخذ شيئا، فأبى رتبيل وقال: نأخذ ثلاثمائة ألف درهم، ويكتب لنا كتابا ولا يغزو بلادنا، ولا تحرق ولا تخرب، فقبل عبد الله، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله، وولاها الحجاج إضافة إلى العراق، فبعث الحجاج المهلب بن أبي صفرة، وعبيد الله بن أبي بكرة، فسار عبيد الله وغزا بلاد رتبيل، وأمره الحجاج ألا يرجع حتى يستبيح بلاده، ويهدم قلاعه، ويقيد رجاله، فأصاب من الغنائم ما شاء الله وهدم الحصون، وكذلك سار المهلب إلى ما وراء النهر وفتح حصونها، وأقام حتى بلغ «كش» وأقام فيها.
وفي سنة 80 استأذن الحجاج عبد الملك في تسيير جند عظيم إلى بلاد رتبيل، فأذن له فجهز أربعين ألفا من أهل البصرة والكوفة، وأعطى الناس أعطياتهم، وأنفق عليهم ألفي ألف - كما قلنا - وزودهم بالخيل والسلاح والعدد والذخيرة، وبعث فيهم الأبطال والفتيان، وأمر عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وسمي هذا الجيش جيش الطواويس؛ لقوته وكماله، فبلغ بلاد رتبيل وفتك بهم، وغالى في اللحاق بهم، وكتب بذلك إلى الحجاج فهنأه وأمره باستمرار الغزو، فكان من أمره ما كان من خلع الحجاج وحصول معركتي دير الجماجم ومسكن بين جند الحجاج وجند عبد الرحمن، وهروب عبد الرحمن ثانية إلى بلاد رتبيل.
أما المهلب بن أبي صفرة فإنه بلغ بلاد «كش»، ثم أدركته منيته وهو قافل بمرو، فاستخلف ابنه يزيد، وأوصاه أن يستمر في فتوحه، فسار يزيد في فتوحه حتى بلغ قلعة نيزك بباذغيس، فحاصرها وملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها.
26
وفي سنة 85 عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها أخا المفضل، ففتح باذغيس وأصاب مغنما كثيرا، ثم غزا «أخرون» و«شومان» فغنم وفتح.
وأما فتوح الغرب: قال ابن الأثير 4: 43: لما ولي عبد الملك بن مروان ذكر عنده من بالقيروان من المسلمين، وأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إلى إفريقية لاستنقاذهم، فكتب إلى زهير بن قيس البلوي بولاية إفريقية، وجهز له جيشا كثيرا، فسار سنة 69 إلى إفريقية فبلغ خبره إلى كسيلة بن كرم البربري - الذي أسلم ثم خرج على المسلمين - فاحتفل وجمع وحشد البربر والروم، وأحضر أشراف أصحابه، فالتقى العسكران واشتد القتال حتى آيس الناس من الحياة، فلم يزالوا كذلك أكثر النهار، ثم نصر الله المسلمين وانهزم كسيلة، ثم قتل هو وجماعة من أصحابه بمحش، وتبع المسلمون البربر والروم فقتلوا من أدركوا منهم فأكثروا، وفي هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، وعاد زهير إلى القيروان، ثم إن زهيرا رأى بإفريقية ملكا عظيما فأبى أن يقيم، وقال إنما قدمت للجهاد، فأخاف أن أميل إلى الدنيا، واستمر في غزوه إلى أن مات، فولاها عبد الملك، حسان بن الضحاك، فقدمها وتمم فتوح زهير حتى سيطر على إفريقية الشمالية كلها، ولم يترك موضعا من بلادهم إلا وطئه.
27
ثم جرت له وقائع مع الكاهنة التي سبق أن تحدثنا عنها فيما سلف. (5) الأعمال الكبرى في عهده (1)
ضرب الدراهم والدنانير: قال ابن الأثير في سنة 76: وفي هذه السنة ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك، وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم
قل هو الله أحد ، وذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم إنكم قد أحدثتم كذا وكذا، فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا ما تكرهون، فعظم ذلك عليه، فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية، فاستشاره فقال: حرم دنانيرهم واضرب للناس السكة فيها ذكر الله تعالى، فضرب الدنانير والدراهم. ثم إن الحجاج ضرب الدراهم، ونقش فيها
قل هو الله أحد ، فكره الناس ذلك لمكان القرآن.
28
ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي فأخذه ليقتله، فقال له: عيار دراهمي أجود، فلم تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس صنج الأوزان ليتركه، فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنما يزنون بعضها ببعض، فلما وضع سمير الصنج كف بعضهم عن بعض. وأول من شدد في أمر الوزن، وخالص الفضة، أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك. وكانت دراهم الأعاجم مختلفة كبارا وصغارا. ونقل البلاذري عن الحسن بن صالح قال: «كانت الدراهم من ضرب الأعاجم مختلفة كبارا وصغارا، فكانوا يضربونها مثقالا (وهو وزن عشرين قيراطا)، ويضربون منها وزن اثني عشر قيراطا، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. فلما جاء الإسلام واحتيج في أداء الزكاة إلى الأمر الواسط، فأخذوا عشرين قيراطا واثني عشر قيراطا وعشرة قراريط، فوحدوا ذلك 42 قيراطا، فضربوا على وزن الثلث من ذلك، وهو 14 قيراطا، فوزن الدرهم قيراطا وزن سبعة مثاقيل.»
29
وروي عن أبي الزناد: أن عبد الملك أول من ضرب الذهب عام الجماعة، ويقال إن مصعبا ضرب الدراهم في العراق قبل عبد الملك، وكذلك ضرب الدنانير.
30
وقد اتخذ عبد الملك في دمشق، والحجاج في العراق دار ضرب، جمعا فيها الطباعين لطبع التبر والفضة والزيوف.
31
وقال السيوطي: أول من ضرب الدنانير والدراهم في الإسلام عبد الملك، ونقش اسمه عليها سنة 75، أخرجه ابن سعد، وهو أول من عمل الموازين. ونقل عن ابن سعد قال: فلما كانت مثاقيل التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطا، الأصبة بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة. ونقل عن مرآة الزمان أنه نقش عليها في وجه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وفي الآخر أرخ وقت ضربها، وقيل: جعل في وجه
قل هو الله أحد ، وفي الآخر «محمد رسول الله»، وزاد الحجاج: أرسله بالهدى ودين الحق.
32
قلت ويظهر أن هناك محاولات فردية كانت لمصعب بن الزبير، فقد رووا أنه ضرب دراهم ودنانير كما كان في العراق ، كما رووا أن زياد ابن أبيه هو أول من فعل ذلك. (2)
تمصير واسط: في سنة 83 بنى الحجاج مدينة واسط؛ وسبب ذلك أن بعض جنوده الشاميين سكر، وتعدى على بعض البيوت في الكوفة، فقتله صاحب البيت، وأهدر الحجاج دمه لما علم من زوجة صاحب البيت أنه أراد بها سوءا، ثم أمر مناديه ينادي: ألا ينزلن أحد على أحد، وأخرج الجند الشاميين، فبعث لهم روادا يرتادون فاختاروا موضع واسط، فاختط الحجاج مدينة هناك. (6) خاتمته ومناقبه
في منتصف شوال سنة 86 مات عبد الملك وله ستون سنة، وقيل ثمان وخمسون، وكانت خلافته من لدن قتل الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا أسبوعا، ولما اشتد مرضه قال الطبيب: إنه شرب الماء فاشتد عطشه، وطلب الماء فمات لما شربه. وقد أوصى بنيه قبل موته بقوله: «أوصيكم بتقوى الله، فإنها أزين حلية وأحصن كهف. ليعطف الكبير على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم الذي عنه ترمون، وكونوا بني أم بررة، لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أحرارا فإن القتال لا يقرب منية، وكونوا للمعروف منارا، فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا المعروف عند ذوي الإحسان فإنهم أصون له، وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا، ثم التفت إلى الوليد فقال له: لا ألفينك إذا مت تعصر عينيك وتحن حنين الأمة، ولكن شمر واتزر والبس جلد نمر، ودلني في حفرتي وخلني وشأني، وعلك وشأنك، ثم ادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه كذا (أي لا) فقل بالسيف (أي اضرب عنقه).
ولما مات دفن خارج باب الجابية، وصلى عليه الوليد، وله من الأولاد: الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر، وعائشة، وأمهم ولادة بنت العباس العبسية، ويزيد، ومروان، ومعاوية، وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهشام وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد واسمها عائشة، وأبو بكر بكار وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة، والحكم وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان، وفاطمة وأمها أم المغيرة بنت خالد بن العاص، وعبد الملك ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد.
33
وكان عبد الملك من عقلاء الناس وأدبائهم وساستهم ودهاتهم، هو الذي وطد ملك بني أمية بعد معاوية، بعلمه وحسن إدارته وكياسته وحزمه. قال العتبي: كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم. وله أوليات كثيرة في تنظيم شئون الدولة؛ فهو أول من ضرب الدراهم والدنانير. وروى الثعالبي في لطائف المعارف إنه أول من تلقب من الخلفاء، لقب نفسه بالموفق بالله.
34
وهو أول من نقل الدواوين من الرومية إلى العربية، أمر بذلك كاتبه سلمان بن سعد الخشني، وهو أول مسلم وليها.
35
وهو أول من طلب إلى أبي الأسود - وقيل إلى الحسن البصري - أن ينقط القرآن.
36
وهو أول من جمع الأموال من الخلفاء وغالى في كنزها. ولما مات كانت خزائنه عامرة بالأموال حتى استطاع الوليد بعده أن يبني القصور والمساجد الضخمة.
الفصل الثاني
الوليد بن عبد الملك
86-96ه/705-715م (1) أوليته
هو الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جرير بن الحارث بن زهير الربعية، ولد في سنة 50ه وقيل في سنة 49، فعني به أبوه فهذبه ومرسه بالحكم والحرب، وكان خطيبا أديبا، ولكنه وصف باللحن، روي في الفخري أن أباه قال له: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم، فدخل الوليد بيتا وأخذ معه جماعة من علماء النحو، وأقام مدة يشتغل فيه.
1
ولكنهم يتوركون عليه فيقولون: إنه خرج من ذلك البيت أجهل مما كان يوم دخوله. (2) خلافته
صلى الوليد على أبيه ودفنه، ثم أتى المسجد وصعد المنبر ، واجتمع إلى الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله. وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار أبي إلى منازل الأبرار، ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه لله من الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامته ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه، من حج هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن هذه الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزا ولا مفرطا. أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها لناس، من أبدى لنا ذات نفسه جزينا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. أيها لناس، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة. قوموا فبايعوا.
2
فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي، ثم قال:
الله أعطاك التي لا فوقها
وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها
إليك حتى قلدوك طوقها
ثم تتابع الناس على البيعة. وكان الوليد موفقا في اختيار رجاله، وهو إن فقد الحجاج فقد عوضه عنه بعدد من القواد الفاتحين المدبرين، نذكر منهم: قتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد بن القاسم بن محمد الثقفي، وموسى بن نصير، وعبد الرحمن الغافقي، الذين فتحت في عهدهم الهند والصين والأندلس وجنوبي فرنسة، وتوسع الملك الإسلامي إلى أقصى حدوده، كما سنرى. وفي عهده تمت عدة من المشاريع الاجتماعية والعمرانية والإدارية الخالدة التي سنتحدث عنها بعد. (3) الفتوح في عهده
فتوح المشرق
في سنة «86» بعث الحجاج بن يوسف من قبله قتيبة بن مسلم الباهلي أميرا على خراسان، فأتاها ورتب أمورها، ثم سار حتى قطع نهر بلخ بجيش كثيف. وتلقف أخباره ملوك ما وراء النهر فخافوا، وتلقاه ملك الصغانيان بالهدايا وهو يحمل مفاتيح بلاده من ذهب، فدخلها، ثم سار إلى «أخرون» و«شومان» في طخارستان، فصالحه صاحبها، ثم انصرف إلى مرو، وبعث أخاه صالح بن مسلم ومعه نصر بن سيار لفتح كاشاه وأورشت في فرغانة، وأخسكيث مدينة فرغانة، وقد أبلى نصر بلاء عظيما في تلك الفتوح خلد اسمه.
وفي سنة 87 كتب قتيبة إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من الأسرى، فأطلقهم وكتب إلى قتيبة يسترضيه ويخضع له، فلما أمن قتيبة جانب نيزك سار نحو بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر، فاستنصر صاحبها بالصغد وتجمعوا عليه ، فانقطعت أخباره عن الحجاج مدة شهرين، فقلق وأخذت الناس تدعو لهم في المساجد، وجد قتيبة في غزوه، فهزم عدوه وفتح بيكند، وقتل من كان بها من المقاتلة، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وأسرى لا يحصون، وكان فيهم رجل أعور، فقال لقتيبة: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف، فاستشار قتيبة الناس فقالوا: وما عسى أن يبلغ كيد هذا؟ فقال قتيبة: لا والله. فأمر به فقتل، ثم رجع مسلم إلى مرو.
وفي سنة 88 غزا نومشكت فصالحه أهلها، ثم اجتمع عليه الصغد والترك والفرغانيون في مائتي ألف فشتت شملهم وغنم.
وفي سنة 89 غزا بخارى، ولم يتمكن من القضاء على ملكها فرجع، وجاء كتاب من الحجاج يقول له فيه: صورها وابعث إلي بصورتها وما يحيط بها من الجبال والسهول، فبعث بذلك إليه فأجابه بقوله: تب إلى الله جل ثناؤه مما كان منك، وأتها من مكان كذا وكذا. فعمل قتيبة بما أشار عليه الحجاج فاستطاع فتحها في سنة 90، وفتك بصاحبها وبمن جاء لنصرته من الصغد والترك، وقد أبلى الأزد وتميم في ذلك اليوم أحسن بلاء، وخرج خاقان وابنه، وكتب قتيبة إلى الحجاج يبشره بالنصر.
وفي تلك السنة اضطر ملك الصغد إلى مصالحته.
وفي تلك السنة تمكن قتيبة من فتح الطالقان.
وفي سنة 91 غزا شومان وكش ونسف، ففتحها وغنم عدة مغانم.
وفي سنة 93 غزا ملك خوارزم فصالحه، ثم توجه إلى سمرقند ففتحها، وصالحه صاحبها غورك على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال كل عام، وأن يعطيه بتلك السنة ثلاثين ألف فارس، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فبنى فيها قتيبة مسجدا ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج، فدخلها ولم يخرج، وأتى بالأصنام وكانت كالقصر العظيم، وأخذ ما عليها وأمر بها لتحرق، فجاءه غورك فقال له: لا تحرقها، فإن فيها أصناما إن أحرقتها أتلفتك. فقال: أنا أحرقها بنفسي. ثم كبروا حرقها فاحترقت، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وأصاب بالصغد جارية من بنات الملوك، بعث بها إلى الوليد، فولدت له ابنه يزيد ، ثم رجع قتيبة إلى مرو.
وفي سنة 94 غزا قتيبة الشاس وفرغانة، ففتح خجندة وكاشان عاصمة فرغانة ففتحها، ولما رجع جاءه نعي الحجاج، فغمه ذلك، ثم جاء كتاب أمير المؤمنين الوليد وفيه: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك في جهاد أعداء المسلمين. وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فأتم مغازيك وانتظر ثوابك من ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلائك والثغر الذي أنت فيه.
3
فرد على أمير المؤمنين بكتاب شكر فيه نعمة الله عليه، وبلاءه في قتال الكافرين، واستمداده العون من الله.
وفي سنة 96 غزا بلاد الصين ووصل كاشغر، وجمع مع المقاتلة عيالهم ليضعهم بسمرقند، فلما وصل أرض الصين كتب إليه صاحبها: أن ابعث إلي رجلا يخبرني عنكم وعن دينكم، فبعث إليه بعشرة لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فلما أتوه سألهم عن حالهم وعن الإسلام، فأحسنوا إجابته وأخبروه أن قتيبة قد حلف ألا يعود حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطوا الجزية، فقال لهم: فإنا نخرجه عن يمينه، فنبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض غلماننا فيختمهم، ونبعث إليه بالجزية، فقبل قتيبة. وقد بلغه خبر موت الوليد فرجع بعد أن نشر لواء الإسلام في المشرق، وأباح للناس قراءة القرآن بالفارسية والتركية.
فتوح بلاد الروم
في سنة 87 بعث الوليد أخاه مسلمة لغزو الروم، فوصل سوسنة من ناحية المصيصة، وفتح حصونا وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقيل إن الذي غزا هو هشام بن عبد الملك، وأنه فتح حصن لولق، وحصن الأحزم، وحصن بولس، وحصن قمقم.
وفي سنة 88 غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، ففتح حصن طوانة وشنى بها.
4
وفي سنة 89 غزا مسلمة وابن أخيه العباس أيضا بلاد الروم، ففتح مسلمة حصن عمورية وهرقلة وقونية، وفتح العباس «أذرولية» و«البدندون»، ثم رجع مسلمة وسار إلى بلاد الترك من ناحية أذربيجان ففتح حصونا ومدنا.
5
وفي سنة 90 غزا مسلمة بلاد الروم ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا العباس بن الوليد بن عبد الملك حتى بلغ أرض الروم.
6
وفي سنة 92 غزا مسلمة بلاد الروم، ففتح حصونا وجلا أهل سوسنة عنها إلى الروم.
وفي سنة 93 غزا مسلمة ففتح ثلاثة حصون، وفي تلك السنة غزا العباس بن الوليد الروم، ففتح سبسطية والمرزبانيين وطرسوس، وفتح المصيصة وحصن الحديد، وغزالة من ناحية مليطة.
وفي سنة 94 غزا الروم العباس، ففتح أنطاكية، وغزاها عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وغزاها الوليد بن هشام المعيطي فبلغ برج الحمام.
7
وفي سنة 95 كان الغازي ببلاد الروم العباس بن الوليد، ففتح حصون طولس والمرزبانيين وهرقلة.
فتوح المغرب
عني الوليد بفتح بلاد المغرب، فولى موسى بن نصير على إفريقية سنة 89، وبعث معه جيشا كثيفا وزوده بالسلاح والأموال، فلما دخل القيروان بلغه أن بعض البربر قد خلعوا الطاعة، فبعث إليهم ابنه عبد الملك فأخضعهم، وبلغ الأسرى نحو ستين ألفا، ولم يسمع بسبي أعظم منه، ثم وطدت له إفريقية وسار إلى طنجة، وبلغ السوس الأدنى كاسبا من البربر، وفتح طنجة، ووضع عليها مولاه طارق بن زياد، فأخذ طارق يعنى بالبربر فعلمهم القرآن، وجعل منهم جيشا قويا، فاستمر طارق يقوي نفسه ويعزز هؤلاء البربر حتى سار باثني عشر ألف منهم في سنة 92 فدخل الأندلس، وكانت خاضعة للقوط
Visingoth
منذ أوائل القرن الخامس للميلاد، وكانت دولتهم قوية في أول أمرها. ثم ما لبثت أن فسدت وسيطر عليها الأشراف رجال الدين والقادة، فاقتطعوا البلاد وساموا الناس خسفا، وعذبوا اليهود، وأكثروا من الرقيق.
وكان أهل الأندلس يسمعون بأحوال العرب في شمال إفريقية وبعدلهم فيتمنون إنقاذهم، وقد حاول المسلمون منذ النصف الثاني من القرن السابع فتح الأندلس، ولكنهم فشلوا في عهد الإمبراطورين فامبا
Vamba ، وخلفه
Erving . ولما سيطر موسى بن نصير على الأندلس وتمكن طارق من تدريب جيش بربري قوي، فكر في غزو الأندلس. ولما سيطر موسى بن نصير على بلاد المغرب غزا «سبتة»، التي كانت تحت سيطرة الكونت جوليان حاكمها من قبل القوط، ففتحها واتخذها منذ ذلك الحين مركزا لتهيئة الجيش المعد لغزو الأندلس.
في سنة 89 (709) عزل الإسبان إمبراطورهم غيطشة
Witica
وولوا آخيل
Achil ، ثم في سنة 90 (710) عزلوه وولوا رودريق
Rodric
مكانه، فانقسمت البلاد إلى حزبين: أحدهما مع آخيل، والثاني مع رودريق، وتحالف جوليان مع حزب آخيل للقضاء على رودريق، كما كتب إلى موسى بن نصير يستعين به، فرحب موسى بهذه الفكرة، واستشار عبد الملك فتردد أولا ثم أذن له في الغزو، وحذره من غدر جوليان، فأرسل موسى سنة 91 جيشا فيه خمسمائة مقاتل بقيادة طريف بن مالك، فدخل طريف بعض الثغور الجنوبية الأندلسية، وعاد وهو منصور. تشجع الأمير على إتمام الغزو، فجيش جيشا مكونا من سبعة آلاف، أكثره من البربر، لفتح الأندلس بقيادة مولاه طارق، فعبر طارق البحر في سفن جوليان، ونزل بإقليم البحيرة جنوبي إسبانيا، وكان رودريق مشغولا بحرب آخيل، فلما علم رودريق بمقدمه جمع جموعه، وكانت تقرب من مائة ألف مقاتل، ولقي طارقا، فتخوف من كثرة جيش الكفر، فاستنجد بموسى، فأمده بخمسة آلاف جدد، والتقى الجمعان على ضفاف وادي بكمة سنة 91 (9 تموز سنة 711)، وكتب الله النصر لجنده. ومما ساعده على ذلك انضمام ابني غيطشة إلى العرب، ثم أخذ طارق يفتح المدن، فاستولى على إشبيلية وقرطبة وطليطلة، التي لم يبق فيها إلا رجال الدين اليهود، ولما علم موسى بالفتح طمع في أن يكون له نصيب في هذا الفتح المبين، فكتب إلى طارق أن يتوقف ليحضر إليه، فلم يستمع طارق لقوله؛ لأن في ذلك ضعضعة للموقف.
وفي سنة 93 (سنة 762م) قدم موسى ففتح ماردة، ثم التقى بطارق فعاتبه وأنبه في سجنه، وعلم الخليفة بأمر طارق، فكتب إلى موسى بإطلاقه، فأطلقه وسارا لإتمام الفتح، فغنما إقليم «أرغونة» وقشتالة، وكتالونة، وسرقسطة، وبرشلونة، حتى بلغا جبال البرانس في عهد قصير، وتم لهم فتح الأندلس كلها، ولجأ أشراف الأندلس إلى الجبال الشمالية الغربية، ولم تقف أطماع القائدين عند هذا، وعزما على مواصلة الفتوح والوصول إلى القسطنطينية عن طريق البر، وجعل البحر الأبيض المتوسط بحرا عربيا، ولما بلغ ذلك الوليد طلب إليهما الكف عن ذلك لما فيه من المغامرة، ثم إن الوليد طلب إلى القائدين أن يجيئاه، فرحل موسى إلى دمشق بعد أن ولى ابنه عبد العزيز على الأندلس، وبينما هو في الطريق بعث إليه سليمان أخو الوليد أن يتأخر في الطريق فإن الوليد مريض، وذلك طمعا في استئثاره بالغنائم والتحف، فلم يلتفت موسى لقوله، واستمر في طريقه حتى دخل دمشق، فحنق عليه سليمان وعزله حين تولى الأمر، وما إن دخل حتى مات الخليفة. (4) أعمال جليلة في عهده
توسيع مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان الوليد مغرما بالعمران وإشادة المساجد والأماكن العامة؛ ففي سنة 88 بعث الوليد إلى عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز، يأمره بإدخال حجر أزواج الرسول في المسجد، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتين، ويقول له: أن قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وأنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوموا ملكه قيمة عدل، واهدم عليهم، وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة حسنة. فأحضرهم عمر، وأقرأهم الكتاب فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه.
وبعث ملك الروم إلى الوليد من الفسيفساء أربعين حملا وعمالا وذهبا، فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز. روى الطبري عن محمد بن عمر، عن موسى بن يعقوب، عن عمه قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس: القاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر يرونه أعلاما في المسجد ويقدرونه، فأسسوا أساسه، وأول ما هدموا بيوت أزواج النبي في صفر سنة 88 حتى قدم الفعلة الذين بعث بهم الوليد، وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، وبعث إليه بمائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين حملا، وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت، فبعث بها إلى الوليد، وأرسلها إلى المدينة.
8
في سنة 91 قدم الوليد إلى الحجاز فحج بالناس، ثم قصد مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم
فأخرج الناس منه، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلمت على أمير المؤمنين؟ قال: والله لا أقوم إليه.
قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالخليفة في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيدا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين، ومن حاله ومن حاله، ولو علم بمكانك لقام إليك، وهو ضعيف البصر.
قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه، فدار في المسجد حتى أتى القبر، ثم أتى سعيدا فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد، ولا قام. فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟
قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. ثم إنه قسم بالمدينة رقيقا كثيرا عجما بين الناس، وآنية من ذهب وفضة وأموالا، وطاف بالناس على قبر رسول الله، وقد صف له الجند صفين من المنبر إلى جدار مؤخر المسجد، وقدم بطيب مسجد النبي ومجمرة وبكسوة الكعبة، فنشرت وعلقت على حبال في المسجد من ديباج حسن لم ير مثيله.
9
بناء مسجد دمشق
تولى الوليد وجامع دمشق الأعظم مجاور للكتدرائية العظمى، فعزم الوليد على توسيع الجامع، فطلب من النصارى إعطاءه نصف الكنيسة الذي بأيديهم على أن يبني لهم كنيسة حيث شاءوا، فأبوا ذلك ثم رضوا فهدمها، وبدأ الهدم بنفسه في سنة 86، وشرع في البناء سنة 87، وأقام فيما بنى سبع سنين، فمات الوليد ولم يتم فأتمه سليمان.
10
قال ابن عساكر: لما أراد الوليد بناء مسجد دمشق احتاج إلى صناع كثيرين، فكتب إلى الطاغية أن وجه إلي بمائة صانع من صناع الروم، فإني أريد أن أبني مسجدا لم يبن من مضى قبلي، ولا يكون بعدي، مثله، فإن أنت لم تفعل غزوتك بالجيوش، وخربت الكنائس التي في بلدي، وكنيسة بيت المقدس، وكنيسة الرها وسائر آثار الروم، فكتب إليه: والله لئن كان أبوك فهمها فأغفل عنها فإنها لوصمة عليك، ولئن كنت فهمتها وغابت عن أبيك فإنها لوصمة عليك، وأنا موجه لك بما سألت. فأراد أن يعمل له جوابا، فجلس له عقلاء الرجال في حظيرة الرجال يفكرون، فدخل عليهم الفرزدق فقال: ما بال الناس؟ فقيل له: السبب كيت وكيت. فقال: أنا أجيبه من كتاب الله؛ قال الله تعالى:
ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ، فسري عنهم. وفي ذلك قال الفرزدق:
فرقت بين النصارى في كنائسهم
والعابدين من الأسمار والعتم
وهم جميعا إذا صلوا وأوجههم
شتى، إذا سجدوا لله والصنم
وكيف يجتمع الناقوس يضربه
أهل الصليب له القراء لم تنم
فهمك الله تحويلا لبيعتهم
عن مسجد فيه يتلى أطيب الكلم
فهمت تحويلها عنهم كما فهما
إذ يحكمان له في الحرث والغنم
وداود والملك المهدي إذ جزءا
ولادها واجتزاز الصوف بالجلم
والله ما من أب في الناس نعلمه
خير بنين ولا خير من الحكم
11
وقال أبو قصي: أنفق على المسجد أربعمائة صندوق، في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار
12
حتى قال الناس لما أخذ في تزويقه وبنائه وعظم مؤنته: أينفق أموالنا ويتلف ما في بيوت أموالنا في نقش الخشب وتزويق الحيطان! فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: بلغني مقالكم، وليس الأمر على ما ظننتم، ألا وإني أمرت بإحصاء ما في بيوتكم من المال، فأصبت فيه عطاءكم ست عشرة سنة مقبلة من يومي هذا. ثم نزل.
13
وقد تأنق في البناء تأنقا غالى فيه، فجعل أرض الجامع مفروشة بالفصوص المزمكة بالذهب المسماة بالفسيفساء، وإن الرخام كان في جدرانه سبع وزرات، ومن فوقه صفات البلاد والقرى، وما فيها من العجائب مصورة بالفسيفساء، والكعبة المشرفة وضع صورتها فوق المحراب، ثم فرق صور البلاد يمينا وشمالا، وجعل سلاسل المصابيح من نحاس محلى بالذهب، وجعل في محراب الصحابة درة لا تقوم، كانت إذا أطفئت المصابيح يقوم نورها مكانها، وبنى مغارة العروس والمقاصير الضخمة المحملات، وفرشه بأغلى الفرش، وزينه أحسن تزيين حتى صار من أعاجيب الدنيا.
أعمال عمرانية أخرى
كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم، بنى المساجد: مسجد دمشق ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، ووضع المنابر، وأعطى الناس وأعطى المجذومين وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادما وكل ضرير قائدا.
14
قال الأستاذ كرد علي: وكانت أيامه من أبرك أيام بني أمية، عمر الجوامع، وكتب إلى جميع البلاد بهدم المساجد والزيادة فيها، وتسهيل الطرق، وبث في الأمة روح العمران، فكان الناس إذا التقوا في زمانه يسأل بعضهم بعضا عن الأبنية والعمارات في كل مكان، وكان أول من عمل أعمالا جسيمة ابتدعها في الصدقات والقربات. هذا مع أن الخراج انكسر في أيامه، فلم يحمل كثير شيء من العراق وغيره، فاضطر إلى إحصاء أهل الديوان، وألقى منهم بشرا كثيرا بلغت عدتهم عشرين ألفا، والحق أنه كان شديد الاهتمام بالعمران والقيام بمصالح الأمة، وتفقد أحوال العجزة والمساكين. وهو أول من شاد البيمارستان في الإسلام وبنى دور المرضى للمجذومين، وأجرى الأرزاق على العميان والمرضى، والقراء والفقهاء وقوام المساجد، وأقام طعمة رمضان، وغير ذلك من أعمال الخير والبر.
15 (5) خاتمته ومناقبه
مات الوليد في دير مران للنصف الثاني من جمادى الثانية سنة 96، وله من العمر 42 سنة ونصف، وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، ودفن خارج الباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان الوليد من محاسن الخلفاء كما رأينا؛ لما سهل الله على يديه من الفتح، ولما تم على يديه من العمران وضروب الإصلاح. (6) كبار الرجال في عهده
لمع اسم نفر من كبار رجال الإسلام في عصره نذكر منهم : (1)
سعيد بن جبير الأسدي الكوفي (45-95) حبشي الأصل، تابعي جليل عالم، بل هو أعلم التابعين، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر، وكان مع علمه ودينه بارعا بالشطرنج، ولما خرج عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك والحجاج، انضم إليه سعيد لتألمه من سيرة الحجاج وبطشه، فلما قتل عبد الرحمن ذهب إلى مكة، فقبض عليه أميرها خالد القسري، وبعثه إلى الحجاج فقتله. قال أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدا، وما أحد على وجه الأرض إلا وهو مفتقر إلى علمه.
16 (2)
سعيد بن المسيب (13-94) المخزومي القرشي، سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الزهد والورع والدين والعلم والفقه والحرمة والنبل، وكان يعيش من التجارة، لا يأخذ عطاء على علمه، وكان أحفظ الناس لأقضية عمر حتى سمي راوية عمر.
17 (3)
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة (53-102) أمير قائد شجاع جواد، تولى خراسان سنة 83 بعد أبيه، فمكث إلى سنة 89، ثم عزله عبد الملك خوفا منه، ثم حبسه الحجاج فهرب إلى الشام، فبقي في عهد الوليد بدمشق إلى أن مات الخليفة، ثم في عهد سليمان ولاه خراسان، وافتتح جرجان وطبرستان، ولما ولي عمر بن عبد العزيز عزله فحبسه بحلب، ولما مات عمر وثب غلمان يزيد فاستنقذوه، وسار إلى البصرة فغلب عليها، ونشب بينه وبين مسلمة بن عبد الملك حروب انتهت بقتله. (4)
خالد بن عبد الله بن يزيد القسري (؟-126) أمير العراقين، الخطيب الجواد، ولي مكة سنة 89 للوليد، ولي العراق لهشام إلى سنة 120، وكان يرمى بالزندقة، قتل بالحيرة.
18 (5)
موسى بن نصير اللخمي (؟-97) كان أبوه من أهل الحجاز، واتخذه معاوية قائد جيشه، ونشأ موسى في خدمة بني أمية، بعثه الوليد واليا على إفريقية سنة 88، واستطاع أن ينشر الإسلام في إفريقية، وفي زمنه تم للمسلمين فتح الأندلس. (6)
طارق بن زياد (102) بربري أسلم على يد موسى بن نصير، اتخذه موسى أميرا على طنجة سنة 89، وعلى يديه تم فتح الأندلس. استدعاه الوليد إلى الشام فقصدها مع موسى سنة 96، وخاتمة حياته مجهولة.
الفصل الثالث
سليمان بن عبد الملك
96-99ه/715-717م (1) أوليته
هو أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس أم أخيه الوليد، وكان فصيحا بليغا خطيبا معجبا بنفسه شرها، يأكل كل يوم مائة رطل، ولما حج في سنة 97 وتوجه إلى الطائف أكل من رمانها 170 رمانة وسلتين من الزبيب وجماجم وكلى كثيرة. (2) خلافته
بويع في اليوم الذي مات فيه أخوه وهو بالرملة، أتته البيعة هناك، فجاء القدس فدخلت عليه الوفود والأجناد والقواد والوجهاء فبايعوه ، ولم ير وفادة أحسن منها، جلس في قبة في صحن المسجد العمري، وقد بسطت له البسط والنمارق عليها والكراسي، فجلس وأذن للناس في الجلوس على الكراسي والموائد، وإلى جانبه الأموال والكسى وأواني الذهب والفضة والدواوين، فيدخل وفد الجند، ويتقدم صاحبهم، ويتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده، فيقول: إن حال جندنا كذا، ومن حاجتهم كذا، ومما يصلحهم كذا، فيأمر سليمان بذلك كله، ثم يقبل على حاجته، فإن سأله زيادة في عطائه وبلاغا في شرف أمر الكتاب، فما يطلب أحد شيئا إلا نوله مرامه.
1
ثم دخل دمشق في موكب حافل، فأول عمل عمله أنه أبعد أعوان الحجاج من السلطة؛ عملا بنصيحة عمر بن عبد العزيز. (3) الحوادث الهامة في عهده
أول عمل قام به سليمان أنه أقصى جماعة الحجاج، فعزل عثمان بن حيان عن المدينة وولاها أبا بكر بن محمد بن حزم، ثم عزل يزيد بن أبي مسلم عن العراق وولاه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره بقتل بني عقيل وتعذيبهم، وهم أهل الحجاج بن يوسف، وأراد أن يعزل قتيبة بن مسلم؛ لأنه من جماعة الحجاج، ولأنه كان قد وافق الوليد على عزل سليمان من ولاية العهد، فأحس قتيبة بذلك، وبعث إليه كتابا يهدده بالثورة فأقلع، ولكن قتيبة لم يأمن أن يغدر به فخلعه، ودعا الجند إلى ذلك فأبوا أن يجيبوه، ووقعت فتن كثيرة بين جنده، انتهت بقتله وقتل أهله وإخوانه، فلما رأى بعض الخراسانيين ذلك قال للعرب: يا معشر العرب قتلتم قتيبة، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت، فكنا نستقي به ونستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد بخراسان ما صنع قتيبة.
2
وقد كان قتل قتيبة مصيبة كبيرة سببتها العصبية الجاهلية القبلية. وما إن بلغت أخبار قتل قتيبة مسامع سليمان حتى جاءه سنة 97 خبر مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير أمير الأندلس، وقيل إنه هو الذي أمر بقتله لما غضب على أبيه موسى بن نصير، فلما قتل وجيء برأسه ووضع بين يدي أبيه تجلد وقال: قتلتموه، وكان والله صواما قواما.
ثم إن سليمان ولى الأندلس الحارث بن عبد الرحمن الثقفي، كما عزل عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية، وولاها محمد بن يزيد القرشي.
وفي سنة 98 ولى يزيد بن المهلب بلاد المشرق، فذهب وفتح بلاد جرجان وطبرستان. وفي تلك السنة نفذ سليمان مشروع أخيه الوليد بغزو القسطنطينية لكنه فوجئ بالموت، فلما تولى أخوه عزم أن ينفذ ذلك المشروع فأنفذ حملة كبيرة، وكان على الروم الإمبراطور أناستاسياس الثاني، وعلى المسلمين مسلمة بن عبد الملك، فلما التقى الجمعان دافع الروم عن بلادهم دفاعا قويا، وحدث أن انضم إلى المسلمين أحد قادة الروم واسمه «إليون» فأخذ المسلمون يتغلبون حتى بلغوا أسوار القسطنطينية، وجاءهم الأسطول الإسلامي من دار، كادت الدائرة تدور على الروم، فقالوا لإليون: إن جرفت هؤلاء ملكناك علينا، فاحتال على مسلمة حتى جعله يتلف، ثم انضم إليون إلى الروم، واستمر مسلمة في حصاره وهو في ضيق، فبلغت الأخبار سليمان فأتى مرج دابق بالقرب من حلب يستطلع الأخبار، وأدركته منيته هناك فبلغت هذه الأخبار جيش المسلمين فاضطر إلى التراجع. (4) خاتمته ومناقبه
لم يطل عهد سليمان في الخلافة أكثر من سنتين، ولما مرض واشتد عليه المرض أراد أن يعهد لبعض بنيه وهو طفل، فقال له رجاء بن حيوة: إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح، فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر، فمكث يوما أو اثنين، ثم قال: إنه عهد إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب عهده لعمر، ثم من بعده ليزيد بن عبد الملك، وأخذ لهما البيعة من بني مروان والوجوه والقواد، ومات وكان ذلك بمرج دابق سنة 99 للهجرة.
3
وكان سليمان نبيلا فصيحا، محا كثيرا من المظالم، وأخرج كثيرا من المظلومين المسجونين بأمر الحجاج وصحابته، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم. ولو لم يكن له إلا استخلاف عمر بن عبد العزيز لكفاه فخرا. ولكنه كان نهما محبا للنساء، وهو أول من أفسد البلاط الأموي بمن أدخل فيه من الخصيان والحشم. (5) كبار الرجال في دولته (1)
يزيد بن أبي مسلم دينار الثقفي أبو العلاء (102)، من موالي ثقيف، واستكتبه الحجاج، ولما احتضر جعله خلفه على العراق فأقره الوليد سنة 95، ولما مات استخلف سليمان فعزله واستدعاه فكلمه، وأعجبه عقله فاستبقاه عنده لعقله وحكمته، وبعثه في سنة 101 وولاه إمارة إفريقية، فأتمر به أهلها فقتلوه (ابن خلكان). (2)
صالح بن عبد الرحمن التميمي بالولاء أبو الوليد الكاتب (؟-90) من عقلاء الرجال وأفاضلهم، وهو أول من حول كتابة دواوين الخراج من الفارسية إلى العربية، اتصل بالحجاج لما ولي العراق، فاستكتبه ثم قلده أمر الديوان، فنقله من الفارسية إلى العربية سنة 78ه، ووضع اصطلاحات للكتاب والحساب، فساروا عليها من بعده، حتى صار جميع كتاب العصر عيالا عليه. قال عبد الحميد الكاتب: لله در صالح، ما أعظم منته على الكتاب (الوزراء والكتاب، للجهشياري). (3)
الطرماح بن الحكم الطائي (؟-80) شاعر فحل، نشأ بالشام، وانتقل إلى الكوفة، واعتنق مذهب الشراة الأزارقة، واتصل بخالد بن عبد الله القسري، فكان يكرمه ويستحسن قوله، وكان هجاء، جرت له حوادث مع أكثر عصره، كان صديقا حميما للكميت، لا يتفارقان. قال الجاحظ: كان قحطانيا عصبيا.
4 (4)
رؤبة بن العجاج التميمي (؟-145) راجز فصيح، لمع نجمه في أيام سليمان، أقام بالبصرة، وأخذ عنه أعيان اللغويين والشعراء، ومات في البادية. قال فيه الخليل بن أحمد: دفنا يوم موته اللغة والشعر والفصاحة. (5)
قرة بن شريك العبسي (؟-96) أمير نبيل، قربه سليمان بن عبد الملك، وولاه الوليد إمرة مصر، وكان جبارا صلبا، تعاقد نحو مائة من الشراة على قتله، فعلم بهم فقتلهم جميعا بالإسكندرية، وهو باني جامع مصر، وقد أتقنه وزخرفه. (6)
بشر بن صفوان الكلبي، من شجعان العرب وذوي الرأي والحزم، كان من رجال بني أمية، قربه سليمان، ولاه يزيد بن عبد الملك مصر في سنة 101، ثم أضاف إليه إفريقية سنة 102ه، فأقام في القيروان، وله أعمال عمرانية كثيرة، غزا صقلية وغيرها، ومات سنة 109ه.
الفصل الرابع
عمر بن عبد العزيز
99-101ه/717-720م (1) أوليته
هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان من فتيان أبي أمية عقلا ونبلا، تلقى العلم عن شيوخ المدينة: أنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ويوسف بن عبد الله بن سلام، وسعيد بن المسيب وغيرهم، وبعثه أبوه إلى مصر ليتأدب بها، فكان يختلف إلى عبد الله بن عبيد الله يسمع منه، ولما مات أبوه طلبه عمه عبد الملك إلى دمشق، وزوجه ابنته فاطمة، وكان قبل خلافته يبالغ في التنعم، ويفرط في الاختيال في المشية.
1
فلما استخلف زهد وترك كل ذلك، قال أنس بن مالك: ما صليت خلف إمام أشبه برسول الله من هذا الفتى؛ عمر بن عبد العزيز. (2) خلافته
رأينا أنه لما مرض سليمان بن عبد الملك، قال له رجاء بن حيوة - شيخ أهل الشام في عصره - أن استخلف عمر بن عبد العزيز، فكتب سليمان عهده لعمر، ودعا أهل بيته وقال لهم: بايعت لمن عهدت إليه في هذا الكتاب - ولم يسمه لهم - فبايعوا، ولما مات سليمان جمع رجاء رجال بني أمية، وهو يكتم موت الخليفة، وطلب إليهم أن يجددوا البيعة فجددوها، ثم أعلم بموت سليمان وبخلافة عمر، فقبلوا كلهم إلا سعيد وهشام ابنا عبد الملك، فإنهما أعلنا سخطهما، وأخذا يكيدان لعمر.
ولي عمر الخلافة في صفر سنة 99، فسار بالناس سيرة الخلفاء الراشدين عدلا وإنصافا ورأفة، حتى اعتبر المسلمون والنصارى عهده عهدا ممتازا، وكان باكورة أعماله أن ألغى سب الإمام علي بن أبي طالب من على المنابر أيام الجمع، وكان ذلك سنة سيئة ابتدعها معاوية؛ ليقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لا حظ لهم في هذا الأمر، وأن سيدهم الذي به يصولون وبفخره يفخرون، هذا حاله وهذا مقداره، فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد، وعن الوصول إليه أشحط وأنزع.
2
على أن الطالبيين من جانبهم كانوا يقنتون عقب كل صلاة، ويلعنون أيضا بني أمية.
3
وأول عمل سياسي قام به عمر استدعاؤه الجيش من بلاد الروم، فقد بلغه ما أصابهم هناك، وأمر مسلمة بن عبد الملك أن يعود بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا وطعاما، وحث الناس على معونتهم، ثم إنه عزل يزيد بن المهلب عن العراق، وولى البصرة عدي بن أرطاة الفزاري، والكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وولى الجراح بن عبد الله الحكمي على خراسان، وقام بإصلاحات كثيرة كانت لخير الإسلام، وإن كانت قد أضرت بيت مال المسلمين، فقد رفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، وخفف الضرائب عن المسلمين، وبخاصة عن الفرس الذين كانت بنو أمية ترهقهم، وكان يقول لعماله: إن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
هاديا ولم يبعثه جابيا.
4 (3) الفتن والحوادث الكبرى في عهده
فتنة الخوارج
كان من نتائج سياسة اللين التي اتبعها أن ثارت بعض العناصر التي كانت قابعة أيام بني أمية كالخوارج والعباسيين؛ ففي سنة 100 خرج شوذب الخارجي - واسمه بسطام اليشكري - في جوخى، فكتب إلى عامله على الكوفة ألا يصيبهم بأذى إلا إذا سفكوا دما، أو أفسدوا في الأرض، وكتب إلى بسطام يقول له: بلغني أنك خرجت غضبا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك. فبعث إليه بسطام رجلين، فقدما على عمر بخناجره، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج؟ فقال أحدهما: ما نقمنا سيرتك؛ إنك لتتحرى العدل والإحسان، فأخبرنا عن هذا الأمر، أعن رضى من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها، وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف، فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم. ثم طال الجدل بينه وبينهما، وقد حفظ لنا ابن الأثير محضر تلك الجلسة التي انتهت بأن اقتنع أحد الرجلين، وبقي عند عمر، ولم يقبل الثاني فذهب، وأخذ بسطام وجماعته يفسدون في الأرض، فبعث إليهم عمر بن عبد العزيز، مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام، فأظهره الله عليهم.
5
ولكن عمر لم يلبث أن مات، فتمكن الخوارج من أن يقووا أنفسهم، فسيطروا في مدة وجيزة على قسم كبير من بلاد العراق والجزيرة، وقوي أمرهم في شمال إفريقية.
6
فتنة يزيد بن المهلب
رأينا أن عمر بن عبد العزيز عزل يزيد بن المهلب عن ولاية العراق لما كان يبلغه عنه من عسف وظلم، وولى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن العدوي، وولى البصرة عدي بن كعب، فثار يزيد وأتى واسطا، وجمع جموعه للاستيلاء على البصرة، ولكن عدي استطاع أن يقبض عليه، ويبعثه إلى عمر في دمشق، فلما دخل عليه سأله عن الأموال التي أخذها من بيت المال فأنكرها، ثم حبسه بحلب إلى أن مات عمر، فوثب على ابن يزيد فأخرجوه من سجنه، وسار إلى البصرة، وغلب عليها إلى أن قتله مسلمة بن عبد الملك (؟-102).
7
قوة الدعوة العباسية
استغل العباسيون والعلويون ميل عمر إلى السلم والأخذ بالرأفة؛ ففي سنة 100 بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس دعاته إلى الآفاق، وسبب ذلك أن سليمان بن عبد الملك كان استزار أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، فجاءه إلى دمشق، فرأى سليمان من علمه وعقله وفصاحته ما حسده عليه وخافه على نفسه، فبعث إليه من سمه في لبن، ولما أحس أبو هاشم بذلك قصد الحميمة وفيها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فأعلمه بحاله، وأعلمه أن الشيعة في خراسان والعراق قد بايعوا أبا هاشم، وأنه يعهد إليه بالأمر، فهوس محمد بن علي بالأمر، وبعث غلامه ميسرة إلى العراق، ومحمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج المعروف بأبي محمد الصادق وحيان العطار إلى خراسان، وأمرهم بالدعاء له وأهل بيته، ثم إن أبا محمد الصادق اختار اثني عشر من رجال الدعوة وسماهم نقباء وهم: سليمان بن كثير الخزاعي، والقاسم بن مجاشع التميمي، وعمران بن إسماعيل المعيطي مولاهم، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين الخزاعي مولاهم، وشبل بن طهمان الحنفي مولاهم، وعيسى بن أيمن الخزاعي مولاهم، كما اختار سبعين رجلا غيرهم، وكتب إليهم محمد بن علي كتاب الدعوة ؛ ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها.
8 (4) كبار رجال الدولة في عهده (1)
القاضي إياس بن معاوية المزني (122)، كان أحد أعاجيب الدنيا فطنة وذكاء. قال الجاحظ: إياس من مفاخر مضر، ومن مقدمي القضاة، كان صادق الحس، نقابا عجيب الفراسة، ملهما وجيها عند الخلفاء، ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء البصرة ومات بواسط. (2)
رجاء بن حيوة الكندي (؟-112)، شيخ أهل الشام في علمه وورعه وعقله، كان واعظا فصيحا ملازما لعمر بن عبد العزيز في عهدي الإمارة والخلافة. (3)
الحسن بن يسار البصري (؟-110) إمام أهل البصرة، وحبر الأمة الإسلامية وفقيهها، ولد بالمدينة وشب في كنف علي، واستكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، ثم سكن البصرة، فعظمت مكانته لدى أهلها. قال الغزالي: «كان الحسن أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء، وأقربهم هديا من الصحابة.» وكان غاية في الفصاحة، وله مع الحجاج مواقف تدل على عقله وصلابته، ولما ولي عمر كتب إليه: إني قد ابتليت بهذا الأمر، فانظر إلي أعوانا يعينونني عليه، فأجابه الحسن: «أما أبناء الدنيا فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك، فاستعن بالله.» (4)
طلحة بن عبد الملك بن مروان (؟-120)، أمير قائد أموي، له فتوحات مشهورة في نواح كثيرة، وخاصة في الروم، ولاه أخواه، الوليد وسليمان، وعمر قتال الروم، وفي عهد أخيه يزيد ولي إمارة العراقين، وأرمينية، مات بدمشق. (5)
عدي بن أرطاة الفزاري (؟-102) أمير دمشقي عاقل شجاع، ولاه عمر بن عبد العزيز إمارة البصرة سنة 99، فظل فيها إلى أن قتله معاوية بن يزيد بن المهلب. (6)
عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد (؟-115) وال من أهل المدينة كان عالما ثقة في الحديث، ولاه عمر على الكوفة فحسن إدارته. (7)
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي (؟-131) من كبار المحدثين الفقهاء. قال الليث بن رافع: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب ثقة وعلم وشعر وصرف. وكان سفيان بن عيينة يسميه أمير المؤمنين في الحديث، وكان عمر يقربه، ويأخذ بآرائه، ويسترشد بنصائحه. (8)
الجراح بن عبد الله الحكمي (؟-112) أمير خراسان الشجاع الشريف، ولاه إياها عمر، ثم عزله لشدته، ثم ولاه يزيد بن عبد الملك أرمينية وأذربيجان، وغزا الخزر، واستشهد غازيا بأردبيل، ورثاه كثير من الشعراء. (9)
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي القرشي (؟-94)، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان من سادات التابعين، ويلقب براهب قريش، وكان عمر يسمع له ويعمل بما يشير عليه به. (5) خاتمته ومناقبه
مرض عمر عشرين يوما في رجب سنة 101، وقيل إن بعض بني أمية سموه لما شدد عليهم، وانتزع كثيرا مما في أيديهم.
9
ولما اشتد عليه المرض قيل له: لو تداويت؟ فقال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي. وكان موته بدير سمعان وقيل بخناصرة، ودفن بدير سمعان، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأشهرا، وقيل: بل كان عمره أربعين وأشهرا.
10
وقد رثاه جمهرة كبيرة من الشعراء الفحول.
كان عمر من أعدل الخلفاء، وكانت سيرته مضرب المثل في الإنصاف والرحمة، أحبه العرب والعجم والروم، وقدروا مواهبه ومزاياه الجليلة. روى ابن الأثير أنه كتب إلى سليمان بن أبي السري، آمره على المشرق، أن اعمل خانات، فمن مر بك من المسلمين فأقروه يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، ومن كانت بهم علة، فأقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعا به فأبلغوه بلده، فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند: إن قتيبة ظلمنا وغدر بنا، فأخذ بلادنا، وقد أظهر العدل والإنصاف، فأذن لنا فليقدم وفد على أمير المؤمنين فأذن لهم، فوجهوا وفدا إلى عمر، فكتب لهم إلى سليمان أن أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم، حتى أخرجهم من ديارهم، فإذا أتاك كتابي، فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم، فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة. فأجلس لهم القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم.
11
وكتب إلى عبد الحميد أميره على الكوفة: إن أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكون شيء أهم إليك من نفسك، فلا تحملها قليلا من الإثم، ولا تحمل خرابا على عامر، وخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين ولا هدية النوروز، ولا ثمن الصحف ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم. فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية أن يحج فعجل له مائة ليحج بها، والسلام.
12
قال الطبري: ألحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا، أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم، فأعطى الزمنى خمسين خمسين.
13
وقالت زوجته فاطمة: دخلت عليه وهو في مصلاه، ودموعه تجري على لحيته، فقلت: أحدث شيء؟
فقال: إني تفقدت أمر أمة محمد، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والغازي، والمظلوم، المقهور، والغريب الأمير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد
صلى الله عليه وسلم
فخشيت ألا تثبت حجتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت.
14
وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لامرأته - وهي أخت مسلمة: اغسلوا قميصه. فقالت: نفعل.
ثم دخلت ثانية، فوجدت القميص وسخا، فقلت لها، فقالت: والله ما له غيره.
15
وكانت نفقته كل يوم درهمين.
16
هذه بعض مناقب عمر في الإصلاح والإدارة، وله مناقب أخرى في العناية بالعلم وأهله، فقد نقل السيوطي عن ابن حجر: أن أول ما دون الحديث النبوي في عهد عمر بن عبد العزيز، وأن الذي بدأ بذلك شهاب الزهري مسلم بن مسلم بن عبيد الله الإمام المحدث (؟-124)، وقال مالك في الموطأ: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أميره على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم الأنصاري القاضي الأمير، العالم في الحجاز: أن انظر ما كان من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسنته، أو حديث عمر، أو نحو هذا اكتبه لي، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
17
وبذلك يكون عمر أول من أمر بالتدوين في الإسلام، رحمه الله ورحم الشريف الرضي حين يقول فيه:
يابن عبد العزيز لو بكت العي
ن فتى من أمية لبكيتك
غير أني أقول إنك قد طب
ت وإن لم يطب ولم يزك بيتك
أنت نزهتنا عن السب والقذ
ف فلو أمكن الجزاء جزيتك
ولو انني رأيت قبرك لاستحييت
من أن أرى وما حييتك
دير سمعان لا أغبك غاد
خير ميت من آل مروان ميتك
الفصل الخامس
يزيد بن عبد الملك
101-105ه/720-724م (1) أوليته
هو أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. قال ابن الأثير (5: 25): ولما احتضر عمر، قيل له اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة. قال: لماذا أوصيه، إنه من بني عبد الملك. ثم كتب إليه: أما بعد، فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام.
وكان يزيد فتى شاعرا مرحا، يحب اللهو والمرح، اختلت في أيامه أمور الدولة، وابتدأت أحوالها بالفساد. (2) خلافته
تولى يزيد الخلافة بعد أخيه سليمان بن عبد الملك، فكان أول عمل قام به أن نزع عن المدينة أميرها العالم أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، ولم يلبث أن فوجئ بثورة الخوارج عليه، وعلى رأسهم شوذب الذي ذكرنا قصته مع عمر بن عبد العزيز، فإنه قال: إن الرجل الصالح قد مات. ودعا جماعته للقتال، فقتلوا مقتلة كبيرة من أهل الكوفة وفتكوا بأهلها حتى خافوهم، واستجار بمسلمة بن عبد الملك، فبعث إليهم عشرة آلاف وعلى رأسهم سعيد بن عمرو الحرشي، وكان فارسا، فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة، فكسروا غماد السيوف، وحملوا فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خاف الفضيحة، فقال لأصحابه: يا أهل الشام، يوما كأيامكم، فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا، وقتلوا شوذب.
1
وما إن هدأت حركة الخوارج حتى ثار يزيد بن المهلب بن أبي صفرة - الذي كان قد هرب من سجن حلب أيام عمر - فدخل البصرة وجمع جموعا كثيرة، فجرت له معارك مع عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعدي بن أرطاة أميري العراق من قبل يزيد، وتمكن من أسر عدي بن أرطاة، ثم إن يزيد بعث أخاه مسلمة بن عبد الملك في سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة، فجرت بين الجانبين معارك مخيفة، انتهت بمقتل آل المهلب، وأسر عدد من أهل بيته وتفرق جمعه، وسيطر مسلمة بن عبد الملك على العراق، وأضاف إليه يزيد خراسان. وفي أواخر عهد يزيد سنة 105 ثار عقفان الحروري ومعه ثمانون رجلا، وأراد يزيد أن يبعث إليهم بجند، فقيل له إن قتل اتخذ أصحابه هذه المنطقة دار هجرة لهم، والرأي أن نبعث إلى كل رجل من أصحابه من يكلمه ويرده عنه، فبعث إليهم من كفاه أمرهم.
2
وبتلك السنة خرج مسعود بن أبي يزيد العبدي زعيم خوارج اليمامة، فلقيه صاحبها سفيان بن عمرو العقيلي، وجرت بين الطرفين معارك.
وفي تلك السنة ثار مصعب بن محمد الوالبي الخارجي بالخورنق وقوي أمره، حتى بلغ الموصل، ومات يزيد وهم أقوياء، إلى أن فتك بهم خالد القسري في عهد هشام. (3) الغزو في عهده
في سنة 102 سار سعد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص المعروف بسعيد خذينة - صهر مسلمة بن عبد الملك، وأميره على خراسان - إلى غزو الترك، فغزاهم عند سمرقند، وكادوا يفتكون به وبجنده، فاستطاع أن يخلص، فجمع جموعه وسار حتى بلغ «بلخ» وغزا الصغد؛ لأنهم أعانوا الترك، وكانت الحرب سجالا بين الجانبين، ولم يصنع المسلمون عملا يذكر؛ لأن سعيدا كان رجلا مضعفا.
3
وفي تلك السنة غزا عمر بن هبيرة بلاد الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة، فأسر منهم كثيرا، كما غزاهم عباس بن الوليد بن عبد الملك فافتتح دلسة.
وفي سنة 103 عزل مسلمة بن عبد الملك عن خراسان والعراق وتولاهما عمر بن هبيرة، فلما سمع بذلك خافوه لما سمعوا عنه، فجمعوا إليه خراج بلادهم وأعلنوا طاعتهم.
4
وفي سنة 104 عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان، وولاها سعيد بن عمرو الحرشي، وكان فتاكا، فقطع النهر وغزا الصغد وأسر من أمرائهم عددا وغنم مغانم كثيرة
5
أصاب الواحد منها ثلاثمائة دينار، وكان عددهم بضعة وثلاثين ألفا، وتسامع ملوك الأطراف بذلك، فقدموا إليه خاضعين مصالحين، وكان هذا أعظم الفتوح التي جرت في عهد يزيد. (4) موته وبعض سيرته
كان يزيد فتى شديد العاطفة، أغرم غراما شديدا بجارية رائعة الحسن هي حبابة التي ملأ اسمها وحبها وأخبارها كتب الأدب والأغاني، وحدث أن ماتت، فجن جنونه، ووجد عليها وجدا كثيرا، وخرج في تشييعها، فلم يقو على المشي ورجع، فلزم بيته أسبوعا أو أسبوعين، هلك بعدها من السل، ولم يأذن لأحد أن يدخل عليه خلال هذه المدة. وليزيد شعر كثير فيها، وفي صاحبتها سلامة القس.
مات يزيد لخمس ليال بقين من شعبان بالبلقاء من أرض دمشق، وله ثمان وثلاثون سنة، وقيل أربعون، بعد خلافة كانت أربع سنين وأشهرا.
6
وصلى عليه الوليد ابنه وهو ابن خمس عشرة.
وكان يزيد - كما قلنا - فتى ماجنا، يحب اللهو ويحيا حياة الشعر والمجان، وقد كان الفرق شاسعا بين عهده وعهد سلفه؛ فإنه عزل عمال عمر الصالحين، وأرجع سب الإمام علي على المنابر، ولم يكن بالخليفة الذي تحمد سيرته في دولة الحكم، وإن كانت أخباره وأشعاره وقصصه محمودة في دولة الأدب.
وفي أيامه انقسم بنو أمية، وازداد النفور بينهم؛ فقد كان أخوه هشام يكرهه لسوء سيرته، وينتقصه ويتمنى موته، فكان إذا بلغ يزيد ذلك اشمأز، حتى إنه كتب إليه يوما: «أما بعد، فقد بلغني استثقالك حياتي، واستبطاؤك موتي، ولعمري إنك لواهي الجناح، أجذم الكف، وما استوجبت منك ما بلغني عنك.»
فأجابه هشام: «أما بعد، فإن أمير المؤمنين متى فرغ سمعه لقول أهل الشنآن وأعداء النعم، يوشك أن يقدح في فساد دار البين، وتقطع الأرحام، وأمير المؤمنين بفضله وما جعله الله أهلا له، أولى أن يتعهد ذنوب أهل الذنوب، فأما أنا فمعاذ الله أن أستثقل حياتك، وأستبطئ وفاتك.»
فكتب إليه يزيد: «مغتفرون ما كان منك، ومكذبون ما بلغنا عنك، واحفظ وصية عبد الملك أبينا وقوله لنا في ترك التباغي والتخاذل، وما أمر به من إصلاح ذات البين، واجتماع الأهواء؛ فهو خير لك وأملك بك، وإني لأكتب إليك، وأعلم أنك كما قال الأول:
سنقطع في الدنيا كما قد قطعتني
يمينك، فانظر أي كف تبدل؟
فإن لم تكن تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل»
7 (5) المشهورون في عهده (1)
عبد الملك بن المهلب بن أبي صفرة (؟-102) من شجعان العرب وأشرافهم، خرج على بني مروان مع أخيه يزيد، وشهد الوقائع كلها في العراق والمشرق، ولما قتل أخوه وتفرقت جموعهم، قاد الحملات، ثم قتل مع أخيه المفضل على أبواب قندابيل بالسند. (2)
عثمان بن حيان بن معبد المري (؟-105) وال غاز، استعمله الوليد على المدينة سنة 93، وكان عنيفا، فعزله سليمان سنة 96، وولاه يزيد في سنة 103 غزو الصائفة. وفي سنة 104 غزا الروم أيضا وفتح قيصرة.
8 (3)
سعيد بن عمرو الحرشي (؟-110) من بني حريش بن كعب بن ربيعة، كان من الأبطال الأتقياء، قتل شوذب الخارجي، وفتك بمن معه سنة 101، وولاه عمر بن هبيرة خراسان، ثم بلغ ابن هبيرة أنه يكاتب الخليفة، ولا يعترف بإمارته فعزله، وكان عاقلا نبيها، وصفه ابن هبيرة بأنه فارس قيس. (4)
محمد بن مروان بن الحكم الأموي (؟-101) أمير شجاع بطل، تولى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، واشتهر بقوة البأس، حتى إن أخاه الخليفة عبد الملك كان يحسده على ذلك. (5)
إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي (؟-132) أحد العشرة التابعين، كان فقيها ورعا فاضلا، استعمله عمر بن عبد العزيز على أهل إفريقية سنة 99، فهداهم للإسلام، ولمعت شهرته، وكان من النبلاء الفقهاء الأجواد. (6)
الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث المري الدمشقي (؟-116) أمير خراسان، الجواد الممدوح، ولاه يزيد وهشام إلى أن مات في خراسان. (7)
سورة بن الحر التميمي (؟-112) أمير سمرقند، وأحد شيوخ تميم، انتدبه الجنيد لنجدته وهو يقاتل الترك فيما وراء النهر، فجاءه باثني عشر ألفا حتى كشفهم، وكانوا قد أوقدوا نارا خلفهم، فلما أغار سورة وأصحابه سقطوا في اللهب، فقتل مع أكثرهم. (8)
أشرس بن عبد الله السلمي (؟-113) أمير فاضل شجاع، كان يلقب بالكامل، كان من رجال دولة يزيد وهشام، تولى خراسان إلى سنة «؟»، غزا سمرقند. (9)
كثير بن عبد الرحمن الأسود الخزاعي (؟-105) الشاعر المتيم بعزة، وفد على عبد الملك فازدرى منظره إلى أن عرف فصاحته وقدره، لمع اسمه في دمشق، وكان يزيد يحبه، ويعجب بأخباره وأدبه وشعره. (10)
ثابت قطنة بن كعب بن جابر العتكي (؟-110) قائد جواد وشاعر مجيد، وشجاع نبيل، شهد وقائع خراسان سنة 102، وأصيبت عينه، فجعل عليها قطنة عرف بها، ولما غزا أشرس بن عبد الله بلاد سمرقند وما وراء النهر، كان ثابت معه ووجهه بخيل إلى آمل، فقاتلهم إلى أن قتل. (11)
حبابة المغنية، جارية يزيد بن عبد الملك، من مولدات المدينة، كانت حلوة ظريفة، حسنة الغناء طيبة الصوت، ضاربة العود، كانت لآل لاحق المكيين، أخذت عن ابن سريج وابن محرز ومعبد وجميلة وعزة الميلاء. روى الأصفهاني في الأغاني 13: 148 أن يزيد قال: ما تقر عيني مما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهل الزهري، وحبابة جارية لاحق المكية. فأرسل فاشتريتا له. وأخبارها كثيرة في الأغاني 13: 148-151. (12)
سلامة المغنية: نشأت بالمدينة، وأخذت عن معبد وابن عائشة وجميلة، وسميت بالقس، وهو لقب عبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي من قراء مكة وعبادهم، شغف بها فعرفت به. اشتراها يزيد في خلافته، وقيل في خلافة سليمان أخيه، وكانت أحسن غناء من حبابة، وحبابة أحسن وجها، وكانت سلامة تقول الشعر، وحبابة تتعاطاه فلا تحسنه، وكانت سلامة من أحسن النساء غناء، وأروعهن شكلا، ولها أخبار كثيرة في الأغاني 8: 5-13.
الفصل السادس
هشام بن عبد الملك
105-125ه/724-743م (1) أوليته
هو أبو الوليد هشام بن عبد الملك بن مروان، وأمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، ولد سنة 72ه، فرباه أبوه أحسن تربية، فنشأ رجلا عاقلا حليما عفيفا مدبرا سائسا، حتى شبه بمعاوية وعبد الملك، وذكر المسعودي أن المنصور العباسي كان يقتدي به في أكثر أموره وفي سياساته وتدبيره للدولة، وفي إصلاحاته وتعميره للأرض والدولة واصطناع الرجال. (2) خلافته
استخلف هشام لأربع ليال بقين من شعبان سنة 105، وله من العمر أربع وثلاثين سنة ونصف، أتته الخلافة وهو في دويرة له في الرصافة، فأتى دمشق، وفرح الناس باستخلافه؛ لما عرف عنه من عقل وحكمة.
وأول أعماله عزله عمر بن هبيرة عن العراق، واستعماله خالد بن عبد الله القسري؛ لما كان يبلغه عن عمر بن هبيرة من قسوة وشدة على الناس، وقد جرت في عهد هشام حوادث كثيرة أهمها ما يلي:
في سنة 105 غزا الجراح الحكمي بلاد اللان، حتى جاوز مدائن وحصونا وراء بلنجر، ففتح وأصاب غنائم كثيرة، كما غزا مسلم بن سعيد الكلابي أمير خراسان بلاد الترك، فلم يفتح شيئا ورجع.
وفي سنة 106 قطع مسلم بن سعيد النهر، ولحق به جماعات كثيرة من العرب، فوصل بلاد فرغانة، فدخلها وأوغل فيها إلى أن صالحه أهلها.
وفي سنة 107 غزا عنبسة بن شحيم الكلبي عامل الأندلس فرنسة في جمع كثير، ونازل مدينة قرقسونة فصالحه أهلها على نصف أعمالهم، وعلى جميع ما في المدينة من أسرى المسلمين وأسلابهم، وأن يعطوا الجزية، ويلتزموا بأحكام الذمة من محاربة من حاربه المسلمون، ومسالمة من سالمه، فعاد عنهم، وتوفي في شعبان من تلك السنة.
وفي سنة 108 قطع أسد بن عبد الله القسري أمير خراسان النهر، وأتاه خاقان الترك، وغزا بلاد الختل والغور، وغنم، وفيها غزا مسلمة بلاد الروم، ففتح قيسارية، وهي من أمهات مدنهم وأكثرها تحصينا، كما غزا إبراهيم بن هشام الروم ففتح عدة حصون لهم هناك.
وفي سنة 109 غزا عبد الله بن عقبة الفهري بلاد الروم في البحر، ومعاوية بن هشام بالبر ففتح حصن طيبة.
وفي سنة 110 أرسل أشرس بن عبد الله السلمي إلى أهل سمرقند والصغد وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فقبلوا ودخلوا في الإسلام، فقل الهزاج، فكتب أشرس إلى عامله عليهم: إنهم إنما أسلموا تعوذا من الجزية، وإن في الخراج قوة للمسلمين، فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. فثار أهل البلاد وقالوا: أسلمنا وبنينا المساجد! وجرت بسبب ذلك فتن.
وفي سنة 111 عزل أشرس بن عبد الله عن خراسان وتولاها الجنيد بن عبد الرحمن المري، فسار إلى ما وراء النهر، وقاتل الترك فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم إنهم كروا عليه فكادوا أن يقتلوه، ثم أظهره الله عليهم قرب «رزمان» من بلاد سمرقند، وأسر ابن أخي خاقانهم، وبعث به إلى هشام.
وفي سنة 112 هاجم الجراح بن عبد الله الحكمي بلاد الخزر فاجتمعوا عليه هم والترك من ناحية بلاد اللان، وتغلب الترك، واستشهد الجراح ومن معه بمرج أردبيل، فطمع الخزر ببلاد المسلمين، فدخلوها حتى قاربوا الموصل، وعظم الخطب على المسلمين، ابن الأثير «5: 58»، وكان الجراح خيرا فاضلا من عمال عمر بن عبد العزيز، ورثاه كثير من الشعراء، وقيل كان قتله ببلنجر، ولما بلغ هشاما خبره، دعا سعيدا الحرشي فقال له: بلغني أن الجراح انحاز عن المشركين.
فقال: كلا يا أمير المؤمنين! الجراح أعرف بالله من أن ينهزم، ولكنه قتل.
قال: فما رأيك؟
قال: تبعثني على أربعين دابة من دواب البريد، ثم تبعث إلي كل يوم أربعين رجلا ، ثم اكتب إلى أمراء الأجناد يوافونني.
فقبل ذلك هشام، وسار الحرشي، فكان لا يمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها، فيجيبه من يريد الجهاد، إلى أن وصل إلى «أرزن»، فلقيه جماعة من أصحاب الجراح، وبكوا وبكى لبكائهم وفرق فيهم نفقة، وردهم معه، ووصل إلى «خلاط» ففتحها، ثم سار وفتح الحصون إلى أن وصل «برزعة»، وكان ابن خاقان يومئذ بأذربيجان يغير وينهب، فهاجمه وفتك به وبمجموعه، واستنقذ من بيده من أسرى المسلمين والمسلمات، وأخذ أولاد الجراح فأكرمهم، ثم إن الترك جمعوا قواهم، وهاجموا المسلمين فقتل منهم جماعة منهم سورة بن الحر، وحليس بن غلب الشيباني، وغيرهما في وقعة الشعب، وفي تلك الوقعة يقول نصر بن سيار:
1
إني نشأت وحسادي ذوو عدد
يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا
أرمي العداة بأفراس مكلمة
حتى اتخذت على حسادهن يدا
من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا
لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا
هلا شهدتم دفاعي عن جنودكم
وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا
وفي سنة 113 غزا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، أمير الأندلس فرنسة، وأوغل في أرضهم وغنم، وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصصة بالدر والياقوت والزمرد، فكسرها وقسمها في المقاتلين.
وفي سنة 114 غزا عبد الرحمن الغافقي بلاد فرنسة، فقتل هناك شهيدا مبرورا، وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى ببلاد الروم، وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى فبلغ قيسارية.
وفي سنة 115 غزا معاوية بن هشام بلاد الروم، وغزا عبد الملك بن قطن - عامل الأندلس - أرض البشكنس، وعاد سالما ناجيا بنفسه.
وفي سنة 117 استعمل هشام عبيد الله بن الحجاب على إفريقية والأندلس، وأمره أن يسير إليها لفوره، ولما وصلها استعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج، واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل، وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان، فظهر عليهم، وأصاب من السبي والغنائم أمرا عظيما، فملئ أهل المغرب منه رعبا ورجع سالما، فسير جيشا في البحر إلى جزيرة سردينية ففتح منها وغنم، ثم بعث بعثا إلى صقلية في سنة 122، فغنم وصالحه أهلها على الجزية.
وفي سنة 119 غزا أسد بن عبد الله الختل، فافتتح قلعة زغرزك، وسار إلى خداش، وملأ يديه من السبي والشاء، وكان الجيش الختلي قد هرب إلى الصين، وفيها لقي أسد خاقان - صاحب الترك - فقتله وقتل بشرا كثيرا، وغنم أسد غنائم كثيرة وسبى.
2 (3) العلويون في عصره
كان هشام غليظا شديدا، عامل آل علي معاملة قاسية فثاروا عليه؛ ففي سنة 121 خرج زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يحدث نفسه بالخلافة، ويرى أنه أحق بها من الأمويين، وكان يقيم في الكوفة، تفقه على واصل بن عطاء رأس المعتزلة، واقتبس منه الاعتزال، وكان قوي الإيمان بنفسه، شديد الحماسة على المبطلين المخالفين لعقيدته، داعيا إلى الكتاب والسنة وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت وإعطائهم حقوقهم في الخلافة وغيرها.
وقد ذكر المسعودي أن زيدا دخل على هشام؛ فلم يحفل به، فجلس حيث انتهى به المجلس فقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله، فانتهره هشام وقال له: أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة وأنت ابن أمة!
3
واتهمه هشام بوديعه لخالد بن عبد الله القسري أمير الكوفة من قبل، فبعث به إلى يوسف بن عمر أمير الكوفة في ذلك الوقت، فاستحلفه، فحلف أنه ليس عنده مال لخالد، فخلى سبيله.
4
فخرج زيد وتوجه إلى المدينة، فتبعه أهل الكوفة وقالوا: أين تذهب يرحمك الله ومعك مائة ألف سيف، نضرب بها دونك، وليس عندنا من بني أمية إلا نفر قليل؟
فقال: إني أخاف غدركم، فأنتم فعلتم بجدي الحسين ما فعلتم. فلم يزالوا يحلفون له حتى ردوه، فلما رجع إلى الكوفة، وأقبل أهلها يبايعونه حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألفا من أهل الكوفة، سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان والجزيرة، وأقاموا بالكوفة شهورا، ولما تمت له البيعة وخفقت على رأسه الألوية خطب جماعته فقال: «الحمد لله الذي أكمل ديني، والله إني كنت أستحي من رسول الله أن أرد عليه الحوض غدا، ولم آمر في أمته بمعروف، ولم أنه عن منكر.»
5
وجمع جموعه فبعث هشام إلى أميره يوسف بن عمر الثقفي أن يقاتله، فعبى كل منهما أصحابه، والتقى الفريقان، وجرى قتال شديد، فتفوق أصحاب زيد، وخذلوه، فأبلى هو وشرذمة قليلة، وأصابه سهم في جبينه فقتله، فحفر له أصحابه ساقية ودفنوه فيها، وأجروا الماء على قبره خوفا أن يمثلوا به ، ثم إن يوسف عرف قبره فنبشه وأخرجه فصلبه، وبعث برأسه إلى دمشق فصلب، وبقي جسمه مدة ثم أحرقه وذراه. وفي أيامه انبث دعاة بني علي وبني العباس وتحركت الشيعة.
6
وكان زيدا إماما فاضلا عاقلا. وقد عثر المجمع العلمي في ميلانو منذ مدة على كتاب زيد في الفقه فطبعه، وهو أقدم كتاب في الفقه عثر عليه، وإلى الإمام زيد هذا تنتسب الفرقة الزيدية من فرق الشيعة.
7
وفيه يقول السيد الحميري:
بت ليلا مسهدا
ساهر العين مقصدا
لعن الله حوشبا
وخراشا ومزيدا
ويزيدا فإنه
كان أعتى وأعتدا
إنهم حاربوا الإل
ه وآذوا محمدا (4) العباسيون في عصره
في زمن هشام اشتد العباسيون في دعوتهم بخراسان، وكان زعيم الحركة بكير بن ماهان؛ ففي سنة 118، وجه بكير عمار بن يسار إلى خراسان واليا على شيعة بني العباس، فنزل مرو وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بن علي، فدخل الناس في الدعوة، وأخذت الشيعة العباسية تقوى في الخفاء في خراسان، إلى أن جاء أبو مسلم الخراساني عبد الرحمن بن مسلم فاتصل بإبراهيم الإمام، فأرسله إلى خراسان رئيسا للشيعة العباسية، كما كتب إبراهيم إلى سلمة الخلال داعيته في الكوفة يعلمه أنه أرسل أبا مسلم، وكان وصول أبي مسلم إلى خراسان سنة 124 بكثير، وأخذ من ذلك الحين يعمل في الخفاء إلى أن أعلن الدعوة سنة 132.
8 (5) أصحاب المقالات في عصره (1)
قوي أمر أهل المقالات، فظهر منهم المغيرة بن سعيد بظاهر الكوفة في إمارة خالد بن عبد الله القسري، وكان يقول: «لو أنني أردت أن أحيي عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا لأحييتهم.» وكان مجسما يقول: «إن الله على صورة رجل على رأسه تاج، وأعضاء على عدد حروف الهجاء.»
ويزعم أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأعظم فطار، فوقع على تاجه، ثم كتب بأصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات، فلما رأى المعاصي ارفض عرقا، فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما ملح مظلم، والآخر عذب منير، ثم ينظر إلى البحر فرأى ظله، فذهب ليأخذه فطار ، فأدركه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه، فخلق من عينيه الشمس وسماء أخرى، وخلق من البحر الملح الكفار، ومن البحر العذب المؤمنين. وكان يقول بإلهية علي وتكفير أبي بكر وعمر وسائر الصحابة إلا من ثبت مع علي.
وكان يقول: إن الأنبياء لم يختلفوا في شيء من الشرائع، وكان يقول بتحريم ماء الفرات وكل نهر وعين أو بئر وقعت فيه نجاسة. وقد ظفر به خالد القسري فأحرقه وأصحابه.
9 (2)
في تلك السنة ظهر بهلول بن بشر الشيباني، الملقب بكثارة، وكان معه أربعون شخصا، اتفقوا على قتل خالد القسري؛ لأنه يهدم المساجد ويبني الكنائس، ويولي المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات. وخرج إليه خالد وجماعته من جند أهل الشاميين، ففتك بهلول وجماعته بالشاميين، ثم إن خالدا بعث إليهم بجيش كثيف، فحاصرهم في دير قرب الموصل، وأظهر الخوارج من البطولة ضروبا رائعة إلى أن قتل بهلول، فظل أصحابه يقاتلون حتى قتلوا عن آخرهم إلا واحدا أخذوه إلى خالد، فلما دخل عليه أخذ يعظه ويتلو عليه آي القرآن، فأعجب خالد به، وأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان يبعث إليه في الليالي، فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشاما الخليفة، فعاتبه وأمره بإحراقه. (3)
المرجئة: كانت الفرق الإسلامية في العهد الأموي ثلاثة طوائف: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، أما الشيعة فقد كانوا «ملكيين»، يعتقدون أن الخلافة في علي وآله لا غير، وأن من أخذها غيرهم فهو مغتصب. وأما الخوارج «فجمهوريون»، يعتقدون أن الخلافة للمسلمين، يضعونها حيث يشاءون، وحيث يرون مصلحة الإسلام وأهله. وأما المرجئة فطائفة قالت: نحن نرجئ أمر عصاة المسلمين إلى يوم البعث ولا نكفر أحدا نطق بالشهادتين مهما أذنب، وقد أخذوا اسمهم من قوله تعالى:
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم .
10
وقد غالى بعض المرجئة في نظريته فقال: إن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأصنام، أو لزم اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية
11
في دار الإسلام أو عبد الصليب، ومن مات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان.
وقد قوي أمر هؤلاء في العصر الأموي، لا لأن الأمويين كانوا يشجعون هذه الحركة كما يذهب إليه المستشرقون مثل جولد تسيهر
12
وبراون.
13
وإنما لأن الأمويين كانوا لا يريدون التضييق على الناس في عقائدهم، ولا يرون أن تحرم الدولة من مزايا رعاياها من غير المسلمين من نصارى أو يهود أو مجوس في الشئون الإدارية، أو المالية، أو الأدبية، أو الطبية. (6) مشاهير الرجال في دولته (1)
عنبسة بن سحيم الكلبي (؟-107) من الغزاة الفاتحين الشجعان، ولاه هشام بن عبد الملك سنة 103، وأوغل في غزو فرنسة، فافتتح قرقسونة
Carcassonne
صلحا بعد أن حاصرها مدة، ودامت ولايته إلى أن توفي. (2)
عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر الغافقي (؟-114) القائد البطل الشجاع، ولاه موسى بن نصير قيادة الأندلس الشرقية، ثم ولاه هشام سنة 112 إمارة الأندلس، فزار أقاليمها كلها، وتأهب لفتح بلاد الغال (الأرض الكبيرة) أو فرنسة، فاستولى على بوردو، ودحر جيوش شارل مارتل، ولكن شارل تمكن من رده وقتله. (3)
عبد الملك بن قطن الفهري (؟-123) أمير فاتح شجاع، تولى الأندلس سنة 114 بعد مقتل الغافقي، وأقام يغزو كل عام، فافتتح «جليقية»، ثم عزله ابن الحجاب أمير إفريقية سنة 117، وولى عقبة بن الحجاج، فلم يخرج الفهري منها، وبقي إلى أن توفي عقبة سنة 123، فنادى به أهل الأندلس أميرا عليها، فأحسن الإدارة، وجاءه بلج بن بشر ضيفا فأكرمه، وخاف بقاءه، فدعاه إلى الخروج بعد مدة، فثار عليه بلج فقتله، واستولى على الإمارة بعده. (4)
الحارث بن سريج التميمي (؟-128) ثائر نبيل متدين من وجوه بني تميم، سكن خراسان، وثار على بني أمية في عهد هشام، ودعا إلى الكتاب والسنة والبيعة للرضي، وصار إلى الفارياب ومنها إلى بلخ فقاتله أميرها، فهزمه الحارث ودخلها، ثم استولى على الجوزجان والطالقان ومرو الروذ، وعظم أمره حتى بلغ جيشه الستين ألفا، ثم كاتبه نصر بن سيار، وبعث إليه أمان الخليفة، فعاد إلى مرو سنة 127، ولكنه لم يتحمل رؤية الظلم والظالمين، فخرج ثائرا ثانية فقتله نصر بن سيار. (5)
أسد بن عبد الله القسري (؟-120) أمير جواد شجاع، ولد بدمشق، ولاه أخوه خالد بن عبد الله على خراسان سنة 108، وفي أيامه جاشت الترك بخراسان، حتى أتوا مرو الروذ، فسار إليهم أسد، فكانت له معهم وقائع انتهت بفشلهم. (6)
نصر بن سيار الكناني (؟-131) أمير شجاع داهية، كان شيخ مصر بخراسان، تولى بلخ ثم خراسان سنة 120 بعد وفاة أسد القسري في عهد هشام، غزا ما وراء النهر، ففتح عدة حصون وأقام بمرو، وقويت الدعوة العباسية في زمنه، فكتب إلى هشام يحذره فلم يأبه لقوله، حتى تغلب أبو مسلم فسير إليه قحطب بن شبيب، فانتقل نصر إلى قوس ومات سنة 131. (7)
عقبة بن الحجاج السلولي (؟-123) أمير من أشراف بني سلول، بعثه هشام بن عبد الملك إلى المغرب سنة 116، وبقي فيها إلى أن مات. (7) موته ومناقبه
مات هشام لست ليال خلون من ربيع الآخر سنة 125 بداء الذبحة، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأياما، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره.
وكان هشام من رجال بني أمية، حليما عفيفا مدبرا، ولولا بخله وجبنه لكان من رجال الطبقة الأولى فيهم، وكان يحب عمارة القصور، وإصلاح الأرض، واصطناع الرجال، وتحصين الثغور، وإقامة الأقنية، وإشادة الجسور. قال الفخري: كان غزير العقل، حليما عفيفا، واجتمع له من الأموال ما لم يجتمع في خزانة أحد من ملوك بني أمية في الشام، وبنى «رصافة هشام» على بعد أربعة فراسخ من الرقة غربا.
الفصل السابع
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
125-126ه/743-744م (1) أوليته
هو الوليد الناقص بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي، وهي بنت أخي الحجاج بن يوسف، كان من فتيان بني أمية ظرفا ولهوا ولعبا ومجونا وشعرا وجودا وشدة، ولكنه أسرف في ذلك حتى كرهه الناس. ويقال: إن سبب انهماكه في اللهو هو مؤدبه عبد الصمد بن عبد الأعلى الشيباني، أخو عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني؛ فقد كان مرحا يحب اللهو والفسق، فنشأ الوليد مثله. وكان عمه هشام يتألم من سيرته فينصحه ولا يرعوي، وأراد أن يقطعه عن عشراء السوء فولاه الحج سنة 119، فحمل معه كلابا في صناديق، وخمرا، وظهر منه استخفاف للدين. وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله ما أدري، أعلى الإسلام أنت؟! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر. (2) خلافته
عقد له أبوه وله إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنه الخامسة عشرة، فندم على استخلافه أخاه هشاما بعده، وكان إذا نظر إلى ولده الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما بني وبنيك، فتوفي يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد وهو ابن خمس عشرة، وولي هشام وهو للوليد مكرم معظم مقرب، فلم يزل كذلك حتى ظهر من الوليد ما ظهر من الفسق والمجون، ولم ينفع نصح عمه، عزم على خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، وأراده على أن يخلعها عنه، ويبايع لمسلمة فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك، فأبى، فتنكر له هشام وأضر به، وعمل سرا في البيعة لابنه فأجابه قوم، وكان ممن أجابه خالاه محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي، وبنو القعقاع بن خليد العبسي، وغيرهم من خاصته، ولكنه لم يفلح، فبقي الوليد ولي العهد، ولما مات هشام استخلف الوليد، فاستمر في لهوه ومجونه وانتهاكه حرمات الله، فاتفقوا مع أعيان رعيته، وأخذوا يهاجمونه، ويفسدون سمعته بين الناس، ففسدت البلاد، واضطربت أحوالها في عهده؛ لأنه كان مهملا قليل العناية بأطراف البلاد. قال صاحب الفخري: فلما أفضت إليه لم يزدد إلا انهماكا في اللذات واستهتارا بالمعاصي، وضم إلى ذلك ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله، والإساءة إليهم وتنفيرهم، فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيته، وهجموا عليه وقتلوه، وكان المتولي لذلك يزيد بن الوليد بن عبد الملك في سنة 126.
1
وقد انقسم الناس في عهده قسمين: قسم معه وهم المضرية، وقسم عليه وهم أهله واليمانية، وكان على رأسهم يزيد بن الوليد، وأثخنت اليمانية القتل في المضرية فانهزمت مضر، واحتلوا دمشق، وطردوا رجال الوليد، وتحصن هو بقصره، فبايع الناس يزيد طوعا أو كرها وخلعوه، فلبث في قصره مخلوعا أياما، ثم دخلوا عليه وقتلوه.
2 (3) أعماله
لم يقم الوليد في عهده الذي جاوز السنة قليلا بعمل ذي بال، سوى إيجاده الفتنة بين يمن وقيس كما رأينا، كما أوقع الفتن بين يوسف بن عمر، ونصر بن سيار؛ وسبب ذلك أنه ولى نصر بن سيار خراسان كلها، ثم وفد عليه يوسف، فاشترى منه نصرا وعماله، فرد إليه الوليد خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم عليه، فلم يمض إليه نصر، ووقعت الفتنة بين الاثنين، ولم يهدئها إلا وصول الخبر بقتل الوليد. (4) موته ومناقبه
في جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منها سنة 126، قتل الوليد بعد أن لبث في قصره محصورا أياما، وكانت مدة خلافته سنة وشهرين وأياما، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة.
نقم الناس عليه لمجونه وفسقه، فحاصروه في قصره، فقال لهم: ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم زمناكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.
فقال لهم: لقد أكثرتم وأغدقتم، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرتم، ورجع إلى الدار، وأخذ مصحفا يقرأ فيه، وقال يوم كيوم عثمان. وصعدوا على الحائط وقتلوه، واحتزوا رأسه وسيروه إلى يزيد، فطيف به في دمشق، ثم نصب على رمح، ثم دفعه إلى أخيه سليمان.
وكان الوليد شاعرا مجيدا في الخمر والعتاب، سطا الشعراء على معانيه في هذه الأبواب، كأبي نواس ومسلم بن الوليد وغيرهما من فحول هذه الصناعة.
وكانت له جولات في الغزل تدل على سمو خياله ورقة عاطفته، ويظهر أن الناس قد تزيدوا كثيرا من أخباره، ونسبوا إليه كثيرا مما لم يقله أو لم يفعله. قال شبيب بن شيبة: كنا جلوسا عند المهدي، فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقا.
فقام أبو علاثة الفقيه الجليل، وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقا. لقد أخبرني من كان يشهد في ملاعبه وشربه عنه بمروءات في طهارته وصلاته، وكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليها المطايب المصبغة، ثم يتوضأ ويحسن الوضوء، ويؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه. فهذا فعال من لا يؤمن بالله؟
فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة.
3
الفصل الثامن
يزيد بن الوليد
126ه/744م (1) أوليته
هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد، كان فتى أسمر طويلا صغير الرأس، متنسكا يميل إلى مذهب القدرية المعتزلة.
1
مقترا نقص أرزاق الجند وبخاصة الحجازيين، فسمي بالناقص؛ لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة. وكان يزيد من عقلاء الخلفاء، له مشاركته في المباحث الكلامية، وقد التف القدرية المعتزلة حوله. وروى الذهبي عن الشافعي أن يزيد حين ولي الخلافة دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه.
2
ويقول المسعودي: إن يزيد كان يذهب إلى قول المعتزلة في الأصول الخمسة.
3
وأنهم عاونوه على الخلافة، وأنهم كانوا يفضلونه على عمر بن عبد العزيز.
4 (2) خلافته
بويع يزيد قبل قتل الوليد، فلما استخلف خطب الناس فقال - بعد أن ذكر سوء سيرة الوليد وفسقه - أيها الناس: إن لكم علي ألا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكثر مالا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغرة وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقلته إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا أغلق بابي دونكم ، ولكم أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم كل شهر، حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني إلى أن أتوب، وإن كنتم تعلمون أن أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه معكم، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
5
ولما قتل الوليد ثارت أهل حمص، وأغلقت أبواب المدينة، وأقامت النوائح عليه، وحلفوا ألا يطيعوا يزيد، وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير، فكتب إليه يزيد فلم يسمعوا، فسير إليهم أخاه مسرورا فشتت شملهم.
وفي تلك السنة ثار أهل فلسطين، وطردوا عامل يزيد، وولوا عليهم محمد بن عبد الملك، فبعث إليه يزيد سليمان بن هشام بن عبد الملك ففتك بهم، وأخذ بيعتهم للخليفة.
6
بعد قتل الوليد استعمل يزيد على العراق منصور بن جمهور، وكان من الغيلانية القدرية.
7
فدخل العراق وأرسل أميرا من قبله على خراسان، فطرده نصر بن سيار ووقعت فتن كثيرة في خراسان بين النزارية واليمانية.
8
ولم تنته هذه الفتن حتى مات يزيد. (3) الحوادث الكبرى في عهده (1)
كانت الفتن بين اليمن وقيس في خراسان وسائر المشرق واليمامة أجل الحوادث أثرا في عهد يزيد؛ فقد اقتتل فيها الفريقان، ولقي الإسلام والعروبة من ذلك شرا مستطيرا، وجرت بين الطرفين أيام تذكرنا بأيامهم في الجاهلية وفي عهد المروانية، ذكرها ابن الأثير مفصلا.
9 (2)
ومن الحوادث الكبرى فتنة مروان بن محمد، فقد ثار في سنة 126 مطالبا بدم الوليد، وسار ومعه عدد كبير من رجاله، ونفر من أهل فلسطين، فبعث إليه يزيد، ثابت بن نعيم، والتقى جمعاهما، فتغلب مروان وأسر ثابتا، وعظم أمره في حران والجزيرة، فكتب إليه يزيد أنه يوليه الجزيرة وأرمينية والموصل وأذربيجان إذا بايعه، فقبل وبقي هناك إلى أن مات يزيد.
10 (3)
ومن الحوادث الكبيرة في عهده اشتداد أمر العباسيين؛ ففي سنة 126 وجه إبراهيم الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصية، فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة، فنعى إليهم محمد بن علي بن عبد الله، ودعاهم إلى ابنه إبراهيم، ودفع إليهم كتابه فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة العباسية، فقدم بها بكير بن ماهان إلى إبراهيم. (4)
وفي تلك السنة أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعد إبراهيم، وذلك حين مرض يزيد في ذي الحجة سنة 126. وكان الذي دفعه إلى ذلك هم القدرية؛ فقد قالوا له: إنه لا يحل لك أن تهمل أمر الأمة، فبايع لأخيك. فقبل. (4) كبار الرجال في عهده (1)
يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم الثقفي (؟-127) أمير من الولاة الكبار من أهل الشام، ولاه هشام بن عبد الملك اليمن ثم العراق سنة 121، وهو الذي قتل خالد بن عبد الله القسري، أقام إلى أيام يزيد بن الوليد، فعزله سنة 126، وقضى عليه وحبسه في دمشق إلى أن قتله يزيد بن خالد القسري انتقاما لأبيه، وكان شديدا يقتفي سيرة الحجاج. (2)
عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي (؟-130) أمير من القادة الشجعان النبلاء، كان من رجال مروان بن محمد في عهدي إمارته وخلافته، سيره مروان من الشام لقتال أبي حمزة وطالب الحق، فالتقى بأبي حمزة في وادي القرى من أعمال المدينة فقتله، ثم قصد اليمن وطالب الحق فيها قد بويع بالخلافة فقاتله وقتله. (3)
المهير بن سلمى بن هلال الدؤلي الحنفي (؟-126) زعيم أهل اليمامة، كان شجاعا حازما، لما بلغه مقتل الوليد بن يزيد في الشام، دخل على أمير اليمامة علي بن المهاجر الكلابي، فقال له: اترك لنا بلادنا، فلم يفعل، فقاتله المهير وطرده وتأمر على اليمامة إلى أن مات. (4)
المثنى بن عمران العائذي (؟-127) شجاع ثائر، كان مع الضحاك بن قيس لما خرج في العراق، وولاه الضحاك على الكوفة، فقصده ابن هبيرة فاقتتلا وقتل المثنى. (5)
يزيد بن الطشرية العادي (؟-127) من شعراء العرب الفحول، حسن الشعر، حلو الحديث، شريف كريم، غزل شجاع، قتل في إحدى الوقائع بفلج في اليمامة. (6)
نوح بن جرير بن الخطفي (؟-140) من شعراء الدولة، وكان شاعرا فحلا، له قصائد ومقطوعات كثيرة في الحوادث التي جرت في العصر بين قيس واليمن. (5) وفاته ومناقبه
مات يزيد بن الوليد في سلخ ذي الحجة، وقيل لعشرين بقين منه سنة 126، وكانت خلافته ستة أشهر، وكان موته بدمشق، وله من العمر ست وأربعون سنة.
11
وكان يزيد من القائلين بالقدر، وقد التف القدرية حوله، وهم الذين شجعوه على تولية أخيه إبراهيم بعده؛ لأنه كان من جماعتهم كما مر، وكان دينا ورعا، أراد أن يعيد إلى الخلافة المروانية أبهتها فلم يفلح، وهو أول من خرج بالسلاح في العيدين؛ ليرفع من قدر الخليفة في ذلك المحفل.
12
ولكن عمره القصير حال دون ذلك.
الفصل التاسع
خلافة إبراهيم بن الوليد
127ه/745م (1) أوليته
هو أبو إسحاق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أم ولد، قيل اسمها نعمة، وقيل خسفة. (2) خلافته
عهد له أخوه يزيد بالأمر بعده، فلما مات يزيد بويع بالخلافة، ولكنه كان ضعيفا، وكانت الأمور قد فسدت، والأسرة الأموية قد انقسمت، فكان الناس لا يهابونه؛ حتى إن بعضهم استمر يلقبه بالإمارة بعد خلافته؛ استهانة به، وقيل إن مبايعته لم تتم. قال الطبري: خلافة أبي إسحاق إبراهيم، لم يتم له أمر، وكان يسلم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمارة، وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة، ولم يطل عهده أكثر من سبعين ليلة، وقيل أربعة أشهر.
1
ثار عليه مروان بن محمد وتولى على الخلافة بعده، وقد كنا رأينا أن مروان ثار في عهد يزيد بن الوليد بالجزيرة، وغلب على أرمينية والموصل، فولاه إياها يزيد، وسكن إلى أن بلغه موت يزيد، فسار بجنوده إلى قنسرين واستولى عليها، ثم قصد حمص - وكان إبراهيم قد بعث إليها جند دمشق - فلما رأوا مروان قادما بجيش كثيف هربوا إلى دمشق، فدخل مروان حمص وبايعه أهلها، ثم ساروا معه إلى دمشق، فبعث إليه إبراهيم جنده بقيادة سليمان بن هشام، وكان عددهم «120 ألفا» فنزلوا عين الجر، وجاء مروان ومعه ثمانون ألفا، فدعاهم مروان إلى الكف عن القتال ، والتخلية عن ابني الوليد بن يزيد وهما الحكم وعثمان المسجونان في سجن دمشق، وضمن عنهما ألا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما، وألا يطلب أحدا ممن ولي قتله، فأبوا عليه وجدوا في قتاله، واستمر القتل بين الفريقين، وكان مروان مجربا مكايدا فأرسل ثلاثة آلاف قطعوا النهر، وجاءوا من خلف الجند الشامي، فلم يشعر هؤلاء إلا بالخيل من ورائهم فانهزموا، ولحقهم أهل حمص، فقتلوا منهم نحو سبعة عشر ألفا، وأسروا مثل ذلك العدد، فأخذ مروان عليهم البيعة لولدي الوليد، وخلى عنهم، ولم يقتل منهم إلا اثنين هما يزيد بن العقار، والوليد بن مصاد الكلبيان، إذ كانا فيمن قتل الوليد.
ودخل الشاميون المنهزمون دمشق، وكان أول ما عملوه أن قتلوا ولدي الوليد خوفا من أن يقدم مروان، ويخرجهما من الحبس، ويقتلان قتلة أبيهما، وانتهب سليمان بن هشام بيت المال هو والجند، وهرب إبراهيم فاختفى، ودخل جند مروان إلى دمشق ومروان من ورائهم.
الفصل العاشر
مروان بن محمد
127-132ه/744-749م (1) أوليته
هو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وأمه لبابة الكردية، ولد بدمشق سنة 73ه، وكان من أحزم بني أمية وأكثرهم تدبيرا، نشأ في دمشق كما ينشأ شباب العرب، فقرأ القرآن وحفظ الشعر، وتأدب بآداب العرب، وكان مؤدبه الجعد بن درهم أحد أئمة الكلام، وأول من قال بنفي القدر، وكان يقول بخلق القرآن ونفي الصفات الأزلية عن الله سبحانه.
1
ولقب مروان بالجعدي نسبة إلى أستاذه ولتحمسه لمذهبه، وكان الناس من أعدائه يذمونه وينادونه: يا جعدي يا معطل.
2
وذكر ابن القيم في الصواعق المرسلة أن كلام الجعد نفق عند الناس؛ لأنه كان معلم مروان وشيخه.
3
كما لقب بالحمار لصبره في الحرب.
4 (2) خلافته
رأينا كيف تم استخلاف مروان في دمشق، فلم يلبث أهل حمص إلا ثلاثة أشهر، حتى ثاروا عليه بزعامة ثابت بن نعيم، فسار إليهم مروان سنة 127، ودخل المدينة ففتك بالثائرين، وهرب ثابت إلى فلسطين، ولم يلبث أن جاءه أن أهل الغوطة ثاروا وحاصروا دمشق بزعامة يزيد بن خالد القسري، فبعث إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر، وعمرو بن الوضاح في عشرة آلاف، ففتكوا بالثوار، وحرقوا المزة من قرى اليمانية.
وفي تلك السنة أيضا ثار أهل فلسطين بزعامة ثابت بن نعيم، الذي هرب من حمص فأتى طبرية، فكتب مروان إلى أبي الورد وابن الكوثر أن يلحقا به، فأدركاه وفتكا به، ورجع مروان إلى دمشق فبايع لولديه عبيد الله وعبد الله، وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك، وجمع بذلك أمر بني أمية، فاستقامت له الشام، ما خلا تدمر، فبعث إليها الأبرش بن الوليد وسليمان بن هشام فقضيا على أهلها ، وبذلك هدأت ديار الشام ففرق فرق الثوار إلى العراق، ولكن ذلك الهدوء لم يلبث طويلا؛ إذ ثار سليمان بن هشام بن عبد الملك بقنسرين، فأتاه مروان فهزمه، ففر سليمان إلى تدمر.
5
أما العراق فقد بعث إليه مروان النضر بن الحرشي، فثار عليه الضحاك بن قبب الشيباني الخارجي، وجرت بين الاثنين معارك كثيرة، انتهت بخضوع الضحاك ثم قتله في سنة 128. ثم إن مروان سير يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق؛ لقتال من فيه من الخوارج، فقاتل المثنى بن عمران العائذي، خليفة الخوارج في العراق، فهزمهم ابن هبيرة، واستولى على العراق والماهين والجبل. غير أن الشيعة العلوية والعباسية والخوارج أخذت تعمل بقوة في الخفاء؛ أما الخوارج فإنهم بعد أن فقدوا الضحاك زعموا عليهم أبا حمزة الخارجي، وكان قويا نشيطا يزور مكة كل سنة، ويحرض المسلمين على حرب الأمويين، فتبعه كثيرون، واشتد أمره، وتبعه جماعات في الحجاز والعراقين، ثم إنه جاء إلى عبد الله بن يحيى العلوي الملقب بطالب الحق في سنة 128، وقال له: اسمع كلاما حسنا، إني أراك تدعو إلى حق، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي. فخرج معه حتى أتيا اليمن وحضرموت، فبايعه أبو حمزة وجماعته بالخلافة، ودعا إلى قتال مروان وبني أمية، ثم خرج في سنة 129 إلى مكة، وكان عليها عبد الواحد بن سليمان بن عبد الله، فهادنهم إلى أن ينتهي موسم الحج، فلما انتهى الموسم، سار عبد الواحد إلى المدينة، وزاد في أعطيات أهلها، ودعاهم إلى قتال أبي حمزة، ولما التقى الجمعان في قديد تشتت المدنيون، وهرب عبد الواحد إلى الشام، ودخل أبو حمزة المدينة في صفر سنة 130 وأحسن السيرة فيها، وقال لأهلها: علينا الآن أن نغزو بني أمية الظالمين في عقر دارهم، فتوجه بهم إلى دمشق، فبعث إليهم مروان أربعة آلاف، عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي، فالتقوا بهم بوادي القرى، فقتل أبو حمزة، وسار عبد الملك حتى أتى المدينة ثم اليمن فقتل طالب الحق.
6
وهكذا قضي على الخوارج.
وأما العلويون فإنهم ثاروا بالكوفة بزعامة مروان بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبايعوه وسار بهم إلى المدائن، ثم استولى على حلوان، ودخل بلاد العجم، واستولى على همدان وأصفهان والري، وظل ينشر نفوذه حتى قتله أبو مسلم الخراساني سنة 128.
وأما الشيعة العباسية فإن أبا مسلم حين قدم خراسان آخر قدمة رأى أن خير وسيلة لتغلبه هي في الإيقاع بين العنصر العربي، فأجج نيران العصبية بين النزارية واليمنية من جديد وجعلهم يقتتلون، ثم سار يسيطر على المشرق الذي لم يبق فيه لأمية نفوذ. ولما سيطر عليه، وقهر نصر بن سيار أمير خراسان، وقضى على حركة مروان بن عبد الله العلوي سار نحو العراق، وأخذ يحتل عواصمه، ولما بلغت هذه الأخبار مسامع مروان بعث من جاءه بإبراهيم الإمام، وكان يقيم بالحميمة من أرض فلسطين، فحبسه في حران ثم قتله، وتمكن العباسيون - السفاح والمنصور وأهلوهم - أن يهربوا بأنفسهم إلى العراق، فأتوا الكوفة. ولما تمكن أبو مسلم من العراق قصد الكوفة، فاستولى عليها سنة 132، ثم بويع أبو العباس السفاح، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى مروان، فلقيه بالزاب وهزمه، فأتى مروان، ثم قصد الشام لعله يجد له عونا، فإذا الناس قد ولوا عنه، وصار مروان لا يمر بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه، فلما اجتاز بقنسرين أومقت تنوخ بساقته، ثم أتى حمص فقال أهلها: مرعوب منهزم، فاتبعوه وقاتلوه، ثم أتى دمشق فوثب عليه الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، فجاء الأردن، فوثب له هاشم بن عمر العنسي والمذحجون اليمانيون، ثم أتى فلسطين فوثب الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع على جنده. قال صاحب الأخبار الطوال: «جعل مروان يستقري مدن الشام، فيستنهضهم فيروغون عنه ويهابون الحرب، فلم يسر معه منهم إلا قليل، ورأى أخيرا أن يذهب إلى مصر، فلحقه المسودة قرب أبو صير، وقتلوه في ذي الحجة سنة 132، وبموته انقرض الملك الأموي في المشرق.» (3) موته ومناقبه
قتل مروان في ذي الحجة سنة 132 بعد حكم دام خمس سنوات، وله من العمر تسع وخمسون سنة، وهو من دهاة بني أمية وعقلائهم وأحزمهم، ولكنه أدرك الدولة وهي منهارة، فلم يستطع أن يعمل شيئا ذا غناء كبير في إحيائها. قال الأستاذ كرد علي: «وكان مروان من أمثل خلفائهم، وكان سديد الرأي ميمون النقيبة حازما، فلما ظهرت المسودة ولقيهم كان ما يدبر أمرا إلا كان فيه خلل.» (4) كبار رجال الدولة في عهده (1)
شيبان بن سلمة الحروري (؟-130) قائد شجاع من الخوارج، كان بمرو، لمع اسمه في أواخر الدولة الأموية، وأراد أبو مسلم أن يدخله في الدعوة العباسية، فقال له: أنا أدعوك إلى بيتي. فاختلفا وسار شيبان إلى سرخس، واجتمع إليه خلق كثير من بني وائل، فسير إليه أبو مسلم جيشا، فالتقى بهم عند سرخس وقتل شيبان. (2)
بشر بن هرموز الضبي (؟-129) أحد الأشراف الشجعان، خرج مع الضحاك بن قيس ضد بني أمية وقاتل معه، ثم اعتزل في خمسة آلاف، وعاد إليه بعد ذلك، فلم يزل معه إلى أن قتلا معا على أبواب مرو. (3)
الضحاك بن قيس الشيباني الحروري (؟-129) كان شجاعا داهية، خرج مع سعيد بن بهدل سنة 126 في مائتين من حرورية الجزيرة، ومات سعيد فخلفه، وبايع له الشراة الخوارج، فقصد الموصل وشهرزور، واجتمعت عليه الصفرية حتى صار في أربعة آلاف، فسار إلى الكوفة واستولى عليها وحاصروا سطا، فصالحه صاحبها، ثم احتل الموصل، وعظم جيشه حتى بلغ مائة ألف، فخرج إليه مروان بن محمد فالتقيا بكفر توثا من أعمال ماردين، فقتل الضحاك. قال الجاحظ: «هو من علماء الخوارج، ملك العراق، وسار في «50 ألفا»، وبايعه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن هشام وصليا خلفه.» (4)
الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن (142) شيخ المضرية في الأندلس وأحد الشجعان الأجواد، ثار على عامل الأندلس أبي الخطار، فقتله واستولى على السلطة، وأقام على الأندلس منذ عهد مروان إلى أن دخل الأندلس عبد الرحمن الداخل، ومات في سجنه، وكان أميا شاعرا. (5)
أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي (130) أمير الأندلس سنة 125، ولاه إياها حنظلة بن سفيان والي إفريقية لهشام بن عبد الملك ، ثم خاصمه الصميل بن حاتم المضري فاستولى عليها منه، فغضبت المضرية، وفارقت قرطبة، ثم استعانت بثوابة بن سلمة الحدائي، وكان يضمر الشر لأبي الخطار، واجتمعوا بشدونة فقصدهم أبو الخطار من قرطبة، وجرت بين الطرفين معارك أسر فيها أبو الخطار وتولى ثوابة مكانه، والسلطة للصميل، ثم هرب أبو الخطار والتف حوله اليمانية، فعلقت الفتنة بينهما وبين المضرية إلى أن قتل أبو الخطار. (6)
عبد الرحمن بن حبيب الفهري (137) قصد إفريقية مع أبيه سنة 122، وأراد فتح الأندلس فلم يفلح، فرجع إلى إفريقية وتمم فتوحها، وغزا صقلية وسردينية. (7)
يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب القرشي الفهري (142) أمير الأندلس وأحد القادة الدهاة العظماء. كان مقيما بألبرة، فلما مات ثوابة بن سلمة بقرطبة اختلفت اليمانية والمضرية فيمن يولونه، ثم اتفقوا عليه فجاءهم سنة 129، واستمر إلى أن دخل عبد الرحمن فقاتله يوسف وانهزم. (8)
كلثوم بن عياض القشيري (124) أمير إفريقية وأحد الشجعان الذين أبلوا بلاء حسنا في شمال إفريقية، قتله البربر. (9)
حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب الفهري (140) أحد الشجعان الذين أبلوا في إفريقية والأندلس مع أبيه وأخويه يوسف وإلياس، امتلك الأندلس ثلاثة أعوام، ثم ثار عليه عبد الحق بن الجعد فقتله. (10)
عبد الله بن معاوية بن عبد الله الكلبي العلوي (129) من شجعان آل أبي طالب وشعرائهم ونبلائهم، ظهر بالكوفة سنة 127 فقاتله أميرها عبد الله بن عمر، وتفرق عنه أصحابه، فخرج إلى المدائن، واجتمع إليه نفر كثير، غلب بهم على حلوان والجبال وهمدان وأصبهان والري وإصطخر، ثم قتله أمير هراة بأمر أبي مسلم الخراساني. (11)
قحطبة بن شبيب الطائي (؟-132) من ذوي الرأي والشأن والقواد الشجعان، لمع اسمه في عهد مروان، فاستدعاه محمد بن علي بن عبد الله فالتحق به، وجعله أحد النقباء الاثني عشر، وقاد جيوش أبي مسلم، وكان مظفرا في معاركه، غرق في الفرات. (12)
عبد الله بن يحيى الحضرمي العلوي (؟-130) الملقب بطالب الحق، إمام إباضي يمني، خلع طاعة مروان وبويع بالخلافة وتبعه أبو حمزة، وعظم أمره إلى أن قتل قرب صنعاء، وحمل رأسه إلى مروان بالشام.
الفصل الحادي عشر
أسباب سقوط الدولة
ملك بنو أمية من سنة 40 إلى سنة 132، وكان ملكهم غرة في تاريخ الإسلام والعرب لما فتحوه من أقاليم، ولما نشروه من تعاليم، ولولا بعض الهنات من بعضهم؛ لكان تاريخهم أنصع صفحة من صفحات تاريخنا القومي.
فهم الذين وطدوا أساس الدولة الإسلامية، وهم الذين شيدوا معالم الحضارة العربية، وهم الذين وضعوا القوانين والأنظمة والتشريعات والتراتيب الإدارية للدولة، وغرسوا دوحة العلم والتدوين، وأوجدوا الحركات الفكرية كما سنرى.
فما هو السر في سقوطهم؟
روى المسعودي عن بعض شيوخ بني أمية عقب زوال ملكهم، لماذا كان زوال ملككم؟ فقال: «إنا شغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا، فظلمنا رعيتنا، فيئسوا من إنصافنا، وجار عمالنا على رعيتنا، فتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا، فآثروا مرافقهم على منافعنا، وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظافروه على حربنا، وطلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا.»
1
ويمكن أن نجمل كلام الأموي هذا في النقاط الأربع الآتية: (1)
ترف بني أمية وانصرافهم عن إدارة الملك وحزمه إلى لهوهم وانشغالهم بلذاتهم. (2)
جور عمال الأمويين على الناس، فإن الحجاج وأعماله، وزيادا وفظائعه، وعبيد الله بن زياد وظلمه، ومسلم بن عقيل المري وفظاعاته، وغيرهم من العمال الأمويين كانوا السبب الأول في نفرة الناس من هؤلاء القوم، وتمني زوال سلطانهم، والاستراحة منهم، ثم قسوة العمال في جبي الخراج وأخذ الجزية، وفرض الضرائب غير المشروعة، مما جعل الناس يدخلون في الإسلام؛ لترفع عنهم الجزية فلا ترفع، ويطلبون إلى الخليفة وعماله أن يخفف من أخذ الضرائب غير الشرعية فلا يسمع لهم قول، وعومل الفلاحون بالقسوة فخربت الديار، وجلا عنها أهلها، وقل الخرج فخرب بيت المال واضطربت أحوال الجند، وعم الفساد وأخذت الدولة تنهار وتنهار. (3)
كان كثير من وزراء الدولة ورجال إدارتها وعمالها وقضاتها ظالمين مستبدين، يرهقون الشعب ويطالبونه بدفع المال والخضوع والطاعة العمياء، أمثال: عبيد الله وأبيه زياد، والحجاج، وعتبة بن أبي سفيان، ويزيد بن الحر العبسي، ومحمد بن القاسم الثقفي وغيرهم كثير. (4)
استتار الأخبار عن الخلفاء؛ فقد كان أعداء الأمويين يعملون في الخفاء منذ أن قتل الحسين، وغلب الفرس والموالي على أمرهم، والخلفاء ساهون لاهون إلا نادرا، والعمال منكبون على جمع المال، وإهمال شئون الإدارة، وفساد البريد، وإضاعة الفرص، وهناك أسباب أخرى يجب أن تضاف إلى هذه النقاط، وهي: (5)
جعل ولاية العهد لأكثر من شخص واحد. ولا شك في أن هذا يدع مجالا كبيرا للتنافس بين الاثنين، ويبذر الشقاق بينهما، ولم يكن هذا الشقاق مقصورا على وليي العهد نفسيهما، بل تعداهما إلى الأسرة الحاكمة والقادة والعمال، وكبار رجال الدولة؛ فإن لكل من الشخصين أنصارا، يعطفون عليه ويريدون إيصاله إلى دست الحكم؛ ليفيدوا هم من وراء ذلك. والحق أن عملية مروان في إسناده ولاية العهد إلى ولديه عبد الملك ثم عبد العزيز قد كانت سنة قبيحة، وكأنه لم ير ما حل بالمسلمين بعد مؤتمر الجابية الذي بويع فيه لأبيه مروان، ثم لخالد بن يزيد، وعمرو بن سعيد، ولكنه خلعهما، عقب ذلك خروج عمرو بن سعيد وإثارته البلاد عليه، إلى أن قضى على ثورته. وقد سار عبد الملك على سنة أبيه مروان، فقد أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز، ويولي ابنه الوليد ثم سليمان، ولكن وفاته حالت دون ذلك، ولما ولي الوليد بن عبد الملك خلع أخاه وجعلها لابنه عبد العزيز، فوقعت الفتنة بين الأخوين، ولما ولي سليمان الخلافة انتقم ممن وافقوا أخاه على خلعه من الأمراء والعمال أمثال: قتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسم، والحجاج بن يوسف، ونتج عن ذلك بلاء كبير، ضعضع أركان الدولة. (6)
انشقاق البيت الأموي على نفسه بعد أن تضعضعت أركان الدولة، وأول من فعل ذلك يزيد بن الوليد على ابن عمه الوليد بن يزيد، وقد تطور هذا الانشقاق إلى عداوة متأصلة، جعلت أفراد البيت الواحد يعملون على تهديمه، ويفتكون بإخوانهم وأبناء عمومتهم، ويمثلون بهم شر تمثيل، ولم يتورعوا عن كل قول أو عمل، فهذا يزيد بن الوليد يتهم ابن عمه بكل عظيمة في الدين والدنيا، ولما تم له الأمر وأراد أن يعيد للخلافة سلطانها ثار عليه مروان بن محمد، وأخذ يحرك الغمر بن يزيد أخا خالد بن يزيد، ويطالبه بالثورة على الخليفة وبدم أخيه، وهو لا يبغي من وراء ذلك إلا الاستيلاء على الأمر وإيقاع الفتنة. انظر إلى كتابه الذي بعث به إلى الغمر يقول له فيه: «أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلدهم، يعزهم ويعز من يعزهم، والحين على من ناوأهم، فابتغى غير سبيلهم، وكان أهل الشام أحسن خلقه فيه طاعة، وأذبه عن حرمه، وأوفاه بعهده، وأشده نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرت نعمة الله عليهم، وقد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كان القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاته من بني أمية، فإن دمه غير ضائع، وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور، فأمر الله لا مرد له، وقد كتبت بحالك فيما أبرموا، وما ترى؛ فإني مطرق إلى أن أرى غرا فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المبتول، وفرائضه المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم، أهل إقدام إلى ما قدمت به عليهم، ولهم نظراء، صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعا ... ولم أشبه محمدا ولا مروان، غير أن رأيت أن أشمر للقدرية إزاري، وأضربهم بسيفي جارحا وطاعنا، يرمي قضاء الله في ذلك حيث أخذ، أو يرمي في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه، وما إصرافي إلا لما أنتظر مما يأتيني منك، فلا تدعن ثارك بأخيك، فإن الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبا ونصيرا.» وقد استطاع مروان أن يثير الناس على الخلافة ويتوصل هو إليها. (7)
فشو روح العصبية القبلية بين القبائل العربية الحاملة لواء الدولة الأموية، وقد ظهرت هذه الروح بعد موت يزيد بن معاوية بشكل واضح، ولكن الحزب الأموي كان قويا ، فلم تستطع هذه العصبية أن تضعضع أركان الدولة، وكان الخلفاء الذين خلفوا يزيد إلى عهد عمر بن عبد العزيز أقوياء أشداء، يستطيعون أن يقفوا أمام كل عاصفة. أما بعد عمر فقد تبدلت الحال وضعفت الدولة، وبرزت روح العصبية جلية بين المضرية واليمانية أو عرب الشمال وعرب الجنوب، ولما كان الخليفة من عرب الشمال كان يتحيز لهم، فتطورت الأمور تطورا قبيحا.
وإن من أبرز الفتن بين الجانبين فتنة يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وقد رأينا أن عمر بن عبد العزيز كان سجنه إطفاء لشعلة الفتنة، ولكنه استطاع أن يفر من سجنه بحلب ويقصد البصرة، وخاف عمر يزيد وكان يكره ابن المهلب؛ لأنه تولى تعذيب آل الحجاج أصهار يزيد؛ إذ كان متزوجا أم الحجاج ابنة محمد بن يوسف الثقفي، فخاف ابن المهلب على نفسه وآله، وأعلنها ثورة كبرى لليمانية على المضرية، وعظم سلطان ابن المهلب وكثر عدد جيشه، وجرت بينه وبين جيش الخليفة معارك قطعت أوصال العرب، وأعادت روح العصبية جذعة، وفتكت بنخبة من زهرات بيوتاتهم العريقة كآل المهلب الذين لهم سابقة في نصر الإسلام ونشر العربية والفتوح، وغيرهم من البيوتات اليمنية التي حقدت على المضريين، وأخذت تعمل على تهديم ملكهم، على الرغم من أن بعض الخلفاء كهشام بن عبد الملك.
2
انضموا إلى اليمانية على المضرية، وكان لتدخل الخلفاء وتحيزهم آثاره السيئة سواء كانوا مع هؤلاء أو مع أولئك، وقد انتقلت عداوات الجانبين معهما إلى الأمصار التي فتحوها كخراسان ومرو وما وراء النهر والأندلس، فلقيت هذه البلاد من الجانبين ويلات وآثاما، كما لقي الأمويون أنفسهم منذ عهد الوليد بن يزيد إلى انقضاء دولتهم كثيرا من المشاكل والفتن، ولعل قول الحارث بن عبد الله الحشرج الجعدي، يصور لنا أحسن تصوير تلك الفتن حين يقول:
أبيت أرعى النجوم مرتفقا
إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة
قد عم أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن
بالشآم كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة
دهماء ملتجة غياطلها
يمضي السفيه الذي يعنف بالج
هل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها
تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في كل مبهمة
عمياء تمنى لها غوائلها
لا ينظر الناس في عواقبها
إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حب
لى طرقت حوالها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته
فيها خطوب حمر زلازلها
3 (8)
كره الموالي للعرب عامة ولبني أمية خاصة؛ لأنهم أقصوهم عن الملك، فانبعثت روح الشعوبية، وحميت الأقلام كما حميت السيوف، فاستعان رجال القلم برجال الحرب، وتطورت الأمور من حال إلى حال حتى عم البلاء واسودت الدنيا. (9)
قيام بعض الأحزاب والحركات من دينية وسياسية، كالخوارج والشيعة العلوية والشيعة العباسية والمعتزلة، وغير ذلك مما سنعرض له بعد.
الفصل الثاني عشر
في التنظيمات والتراتيب الإدارية
في العهد الأموي الثاني
مقدمة
قلنا في مقدمة الباب الخامس من الفصل الأول: إن ديار الشام كانت قبل الفتح الإسلامي ديارا ذات حضارة وتراتيب إدارية، فلما جاء الإسلام جمدت تلك الأوضاع على حالتها الأولى بعد عهد الفتح، فلما أن دخلها معاوية واتخذها عاصمة ملكه، أخذت الأوضاع المدنية القديمة للبلاد تبرز من جديد في هذا العهد الجديد، واستعان معاوية ومروان وأخلافهما بذوي المقدرة والكفايات الجليلة في إدارة البلاد وحكمها وخراجها بالمقدار الذي تسمح لهم به الظروف والأحوال آنئذ، وقد استمر هذا التعاون الحضاري طول العصر الأموي، وبخاصة حين كثر المسلمون من أهل الشام الأصليين، فأخذوا يحتلون مرافق الدولة، وبخاصة حين عرب عبد الملك دواوين الدولة، وسار بها سيرة جديدة، وكان لتسامح الخليفة عمر بن عبد العزيز أثر كبير في تنشيط العناصر غير المسلمة، وتشجيعها على بذل قصاراها في خدمة الدولة، والقيام بمصالحها كما سنرى بعد.
ثم إن التسامح الديني الذي كان يتحلى به الأمويون بصورة عامة، جعل ذوي الكفاءات والمزايا من نصارى الشاميين والحلبيين والحمصيين والحمويين والأنطاكيين يلتقون حول سور الدولة، فيشيدونه ويرفعونه ويزخرفونه. (1) الخلافة
قلنا إن معاوية ثم يزيد قد سلكا بالخلافة مسلكا جديدا، لم تكن عليه في عهد الرسول أو خلفائه الراشدين، فحولاها من طور ابتدائي عربي ساذج قريب من النفسية البدوية، إلى طور ثانوي أعجمي معقد، قريب من الأساليب البيزنطية والفارسية والقبطية. ولقد ازداد هذا التعقيد حين توسعت أرجاء الخلافة الأموية إلى إمبراطورية واسعة تمتد من بلاد الهند وحدود بلاد الصين الواسعة شرقا إلى شواطئ المحيط الأطلسي وشمال إفريقية غربا، وتسيطر على جميع بلاد الإمبراطورية المقدسة، والمقاطعات الشرقية والإمبراطورية الرومانية، ما عدا آسية الصغرى، وقد استمد الخليفة الأموي في هذه الفترة عظمته الدنيوية والحضارة من عظمة هذه الرقعة الجبارة الواسعة، الممتدة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، والمسيطرة على أغنى بقاع الأرض المعروفة، وأكثرها حضارة وعلما وأنظمة وقوانين.
ولما انقضى العهد الأموي الأول، وحل العهد الثاني انتظمت شئون الخلافة من حيث المظاهر والتراتيب، وخصوصا بعد عهد عبد الملك وابنيه الوليد وسليمان. وانقضى العهد الأموي والخلافة مستوفية لكل مظاهر الفخامة والسلطان وما يتبعها من أساليب الحكم.
أما من حيث نظام الخلافة ووراثتها فإن الأمر لم يستقر على شيء؛ فقد وجد في العصر الأموي ثلاثة منازع مختلفة: (1)
المنزع الإسلامي، الذي يقضي بجعل أمر الخلافة شورى بين المسلمين، يختارون لها الأصلح والأكمل. (2)
المنزع القبلي الجاهلي، الذي يجعل الخلافة كمشيخة القبيلة الجاهلية، لا يختار لها إلا الكفء المسن المجرب الكامل. (3)
المنزع الوراثي، الذي تتناقل فيه الخلافة من الأب إلى ابنه.
وقد رأينا أن معاوية الأول قد نزع بها المنزع الثالث، فعهد بها إلى ابنه يزيد، وأجبر الناس على ذلك، أما حفيده معاوية الثاني الذي كان قدريا ميالا إلى الاعتزال ، فنزع إلى المنزع الأول فتركها للمسلمين، وانتقد أباه وجده، وخطب الناس في ذلك يقول: «إن جدي معاوية نازع الأمر من كان به أولى وأحق، ثم تقلده أبي، ولقد كان غير خليق به.»
1
ورفض أن يعهد لأخيه خالد، ولما ألح عليه بنو أمية بها قال لهم: «لا والله، ما سعدت بحلاوتها فكيف أشقى بمرارتها».
2
ثم جاء سليمان بن عبد الملك فنزع إلى المنزع الثاني، وعهد بها إلى شيخ بني أمية وأعقلهم وأفضلهم، وهو عمر بن عبد العزيز، ولم يعهد بها إلى أخيه أو ابنه.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الخلافة قبل أن يأخذها عبد الملك، ويفرض سلطانه بالقوة كانت منقسمة بين المنازع الثلاثة: فابن الزبير يمثل المنزع الإسلامي، ومروان بن الحكم يمثل المنزع القبلي، وخالد بن يزيد يمثل المنزع الوراثي. ومهما يكن من شيء فإن العصر الأموي انتهى، ولم تستقر الخلافة على منزع من المنازع الثلاثة إلى أن جاء بنو العباس، فسلكوا بها المنزع الوراثي الصرف. (2) الوزارة والكتابة
لم يتخذ الأمويون في عهديهم الأول والثاني وزيرا بالشكل الذي رأيناه في العصر العباسي، وإنما كان لهم كتاب وحساب، يتولون الكتابة لهم، وقد أضحت الكتابة في هذا العهد صناعة لها عادات وتقاليد، وبعد أن كان الكاتب في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، يتولى كتابة الرسائل التي تملى عليه، والحسابات وضبط ديوان الدولة ومراسلاتها، صار في هذا العصر يتولى مهام شئون الدولة وينشئ رسائلها، ويشترط فيه أن يكون ذا ثقافة واسعة في العربية وآدابها، مطلعا على سير الأولين، وأخبار الأقدمين وأحوالهم وسياساتهم. وقد كان يسمى الكاتب وزيرا أو صاحب السر، وقد نبغ في هذا العصر جماعة من أمناء السر، نذكر منهم أبا العلاء سالم بن عبد الله، كاتب هشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، وقد رووا أنه نقل بعض رسائل أرسطو إلى الإسكندر من اليونانية إلى العربية، وأن له مجموعة رسائل في مائة ورقة.
3
وهو أستاذ عبد الحميد بن يحيى الكاتب، شيخ البلغاء الكتاب، وكاتب مروان بن محمد. روى ابن عساكر: قال زياد الأعجم: حضرت جنازة هشام، فسمعت عبد الحميد يقول:
وما سالم عما قليل بسالم
وإن كثرت أحراسه ومواكبه
وإن كان ذا باب شديد وحاجب
فعما قليل يهجر الباب حاجبه
ويصبح بعد الحجب للناس مفردا
رهينة بيت لم تستر جوانبه
ومنهم عبد الحميد بن يحيى بن سعد، كاتب مروان، وهو شيخ الصناعة وكاتبها الأول، وقد خلف لنا عهدا كتبه عن لسان الخليفة مروان بن محمد، إلى عبد الله بن مروان حين بعثه لقتال الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي.
4
وهو عهد رائع بأسلوبه وطرق أفكاره. وقد كانت الكتابة في العصر الأموي الأول مقصورة على كتابة رسائل الخليفة أو العامل أو الأمير، أو كتابة الخط الحسن بين يدي هؤلاء، ولما اتسعت رقعة الدولة ازدادت الأعمال، وشغل الخلفاء عن أن يقرءوا الكتابة بأنفسهم، فعهدوا بها إلى كبار كتابهم، حتى أوشكت في آخر دولتهم أن تصبح صناعة عتيدة مميزة القواعد والأصول، متشعبة الفروع؛ بما أدخله عليها الجيل الناشئ في الإسلام من أبناء الموالي، ممن كانوا يعرفون اللغات الرومية أو اليونانية أو الفارسية أو السريانية أو القبطية، وهي لغات ذات حضارة وأنظمة ورسوم وفضائل إدارية متعددة. (3) الحجابة
قلنا في الباب الخامس من الفصل الأول: إن الحجابة وهي وظيفة تشبه في عصرنا «رئاسة تشريفات البلاط»، وقد عظم أمرها في العهد الأول للدولة الأموية، وإن معاوية ويزيد قد تشددا في حجابتهما، وزادا في منع الناس من ملاقاتهما، إلا في الأمور الهامة، على عكس ما كان عليه الأمر في عهد الخلفاء الراشدين، فلما جاء العصر الثاني لهذه الدولة زاد الخلفاء في الاحتجاب، إلا في عهد عمر بن عبد العزيز، فإنه سلك مسلك الراشدين في السماح للناس بالدخول إليه، قال عبد الملك بن مروان لصاحب حجابه: قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة: المؤذن للصلاة فإنه داعي الله، وصاحب البريد فأمر ما جاء به، وصاحب الطعام لئلا يفسد.
5
فنحن نرى من ذلك أن الناس كلهم محجوبون عن الخليفة إلا هؤلاء الثلاثة الذين يجيئون الخليفة لا لغرض خاص أو لمصلحة عامة، وإنما غرضهم متعلق بمصلحة الخليفة نفسه. ويروي صاحب الفخري أن عبد الملك - وهو الذي نظم أمور الدولة الإدارية، وسلك بها مسلكا جديدا - قد أوصى أخاه عبد العزيز بن مروان حين ولاه على مصر بقوله: «ابسط بشرك، وألن كنفك، وآثر الرفق في الأمور، فإنه أبلغ بك، وانظر حاجبك، فليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه؛ لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده.»
6
فهو يوصيه بأن يختار للحجابة رجلا من أشرف الناس، بل من خير رجال أسرة الخليفة، وأن يخبره عن كل شخص يقصده حتى يرى الخليفة فيه رأيه، ولا يتصرف الحاجب من عند نفسه؛ لأن الخليفة أعرف بالناس وأحوالهم، ويقرر ابن خلدون أن الحجاب في الدول يعظم حين تهرم.
7 (4) الجيش
كان الجيش في العصر الأموي جيشا عربيا خالصا إلا البحرية، فإنها كانت تعتمد على جماعات من أبناء الأمم المفتوحة من روم وفرس ونبط وزط - كما رأينا ذلك في الفصل الأول والباب الخامس - ونضيف ها هنا أن الخليفة نفسه هو الذي كان يختار قائد جيشه وبحريته، وأن هذا القائد كان يمثل الخليفة، وينوب عنه في إقامة الصلاة، وتوزيع الغنائم والفيء والصدقات، وأن له حق التصرف فيما عدا حصة بيت المال من المغانم والفيء على الشكل الذي يرتئيه، وإذا ما اجتمع أكثر من قائد في الجيش كان الخليفة يسمي أحدهما لإقامة الصلاة والخطبة في الأجناد، وكان الجيش يتألف من صنفين: الفرسان والرجالة، وكان الأولون يتسلحون بالدروع والسيوف والرماح والخوذ المصنوعة من الصلب والمحلاة بريش النسور، بينما يتسلح الآخرون بالدروع والسيوف والقسي والسهام، وقد لعبت السهام دورا كبيرا في فوز المسلمين بالحروب والفتوح في بلاد الروم والمشرق، وكان الرسول وخلفاؤه الراشدون ومعاوية وأخلافه، يحضون الناس على الفروسية وإتقان فن الرمي، قال عليه الصلاة والسلام: «اركبوا وارموا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا.» وقال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».
8
وقد عني المسلمون في العصر الأموي - وبخاصة في عهدي معاوية وعبد الملك - بالرماية وتدريب الناس على ركوب الخيل، وإقامة الحصون والقلاع، والسفن البحرية المحصنة. وقد كان الرماة في البر والبحر أعظم عناصر الجيش العربي، وكان الرجالة يقفون في صفوف متراصة يتقدمهم حاملو الرماح لصد المهاجمين، ويرتدون أقبية قصيرة إلى ما تحت الركبة وسراويل تساعدهم على المشي، وكانت وسائل النقل هي الخيل والبغال والجمال، كما كان الكثير من الجنود يقطعون المسافات القريبة مشيا، وكانوا إذا خيموا في أرض يقيمون الأكواخ أول الأمر، فإذا استقاموا بنوا العشش، ثم إذا طال بهم الأمر بنوا المعسكرات الدائمة والقلاع، وإذا ما دخلوا بلادا لم يمكن الخليفة أو الأمير من الاختلاط بالأهلين، بل يبنون لهم المدن، ويختطون لها الخطط كالبصرة والكوفة في العراق، والفسطاط في مصر، والقيروان في إفريقية.
والبحرية الأموية تجربة نشأت في أيام عثمان بإشراف معاوية - كما رأينا ذلك قبلا - وقد استمر الخلفاء من بعده، وخاصة عبد الملك والوليد وسليمان في تقويتها.
9
وإعداد العدد اللازمة كل عام؛ لغزو الشاتية والصائفة. وقد تم للعرب في هذه الفترة فتح جزائر البحر الأبيض المتوسط، وغزو أوروبا الجنوبية الغربية، وقد كان لتقدم العرب في البحر وصناعة السفن تأثير كبير في البحرية الغربية، الذي نقلت عنها البحارة العرب المسلمين كثيرا من المصطلحات، وما تزال تحتفظ بها إلى أيامنا هذه.
وكانت أخشاب السفن من «لبخ وسنديان وأرز»، تستورد من أوروبا عن طريق موانئ إيطاليا، أو من جبل لبنان. وكان عند العرب نوعان من السفن: نوع يسير في البحر الأبيض المتوسط، ونوع يسير في المحيط الهندي والبحر الأحمر، وكان النوع الأول أضخم، توضع فيه مسامير الحديد، أما النوع الثاني فكان أصغر، ولا توضع فيه المسامير بل يخاط بحبال الليف والقنبار
10
خوفا من جبال المغناطيس وهي جبال كثيرة علاها الماء.
11
والسفن الضخام تتسع لبضعة آلاف رجل مقاتل مع عددهم وأغذيتهم وشرابهم وحبالهم وسفن النجاة.
ويظهر أن أعظم الموانئ الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط كان مدينة طرسوس المهيمنة على مراكز الدفاع عن داخلية البلاد، ومدخل البلاد الجنوبية الشهيرة بأبواب قليقية وهو ممر طوروس، فجعلها العرب قاعدة حملاتهم الحربية على الروم. ولا تبعد طرسوس أكثر من أربعمائة وخمسين ميلا من البوسفور في خط مستقيم.
12
ويظهر أن قتال العرب في البحر في أيام معاوية كان قتالا عربيا؛ فإنهم لعدم معرفتهم بالبحر وأساليب القتال فيه قد قاتلوا على طريقة قتالهم البري، فقد وصف لنا الطبري أول معركة بحرية كبرى جرت بين المسلمين والغرب، وهي المعروفة بمعركة ذات الصواري؛ أنهم ربطوا السفن العربية إلى السفن البيزنطية، وتواثب الرجال على الرجال يقتتلون بالسيوف والرماح، ويتواجئون بالخناجر، حتى صار ماء البحر ممزوجا بالدم، وأن الدم قد غلب عليه، وأن الأمواج قد طرحت جثث القتلى ركاما.
13
وكان فوز العرب عظيما، ولكن مقتل عثمان وما تلاه من الفتن حال دون فتح القسطنطينية، على الرغم من المحاولات الكثيرة، ويظهر أن النار اليونانية هي التي وقفت أمام المسلمين، ففتكت بسفنهم وحالت دون أمانيهم. وقد نقل الدكتور حتي عن «تيوفانس» وصف تلك النار فقال: ولقد قيل إن المدينة نجت من أيدي العرب بفضل النار اليونانية. وقد كانت من مادة شديدة الالتهاب، بحيث تلتهب على سطح الماء، ويعزى اكتشافها إلى مهاجر دمشقي اسمه «كالينيكوس». وقد أسهبت المراجع في ذكر هذه النار، ووصف ما أنزلته من الضرر بسفن العرب، كذلك أكد أغابيوس المنبجي - الذي أخذ عن تيوفانس - أن الروم قد تعودوا استخدام النار في الحرب، وكانوا أسبق الشعوب إلى استعمالها.
14
ولكن المحاولات العربية لفتح القسطنطينية لم تقف؛ ففي عهد يزيد وعبد الملك وفي عهد سليمان، كانت الحملات تشن في البحر على السفن الرومية. وقد استخدم المسلمون النفط والمدفعية في حروبهم البحرية مع الروم.
15
وقد بلغ عدد الأسطول الإسلامي في عهد سليمان بن عبد الملك الذي بعث أخاه مسلمة لفتح القسطنطينية ألفا وثمانمائة سفينة، بعد أن فشلوا في البر والبحر، وقد كان من أعظم أسباب هذا الفشل طول مدة الغزو، والحيلة التي قام بها البون للفتك بالمسلمين، وقد ذكرها ابن عساكر حيث يحدثنا في ترجمة شرحبيل بن عبيدة بن قيس العقيلي، وكان من الفرسان الذين شهدوا هذه الغزوة للقسطنطينية مع مسلمة، أن البون كتب إلى صاحب برجان يقول له: بلغك نزول العرب بنا وحصارهم إيانا، وليسوا يريدوننا خاصة دون غيرنا من جماعة من يخالف دينهم، وإنما يقاتلون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى، فإذا كنت صانعا «شيئا» - يوم نؤتيهم الجزية علينا عنوة، ثم يفضون إليك وإلى غيرك - فاصنعه يوم يأتيك «كتابي» هذا.
فكتب صاحب برجان إلى مسلمة: «أما بعد، فقد بلغنا نزولك بمدينة الروم، وبيننا وبينهم من العداوة ما قد علمتم، وكل ما وصل إليهم فهو لنا سار، فمهما احتجت إليه من مدد أو عون أو مرفق، فأعلمنا يأتيك منه ما أحببت.»
فكتب إليه مسلمة: «إنه لا حاجة لنا بمدد ولا عدة، ولكننا نحتاج إلى الميرة والسوق، فابعث إليه ما استطعت.»
فكتب إليه صاحب برجان: «إني قد وجهت إليك سوقا عظيما، فيه كل ما أحببت من باعة، يضعفون عن النفوذ إليكم به ممن يمرون به من حصون الروم، فابعث من يجوز به إليك.» فوجه إليهم خيلا عظيمة، وولى عليهم، ونادى في العسكر: ألا من أراد البيع والشراء فليخرج. فخرج عدد عظيم من غير خوف ولا حذر، حتى أفضوا إلى عسكر السوق في مرج واسع، حتى ضاقت بهم الجبال وكتائب برجان في تلك الجبال وغياضه، فلما نزلوا شدت عليهم الكتائب، فقتلوا ما شاءوا وتضعضع جند مسلمة.
16
وهلكت سفنه الثمانمائة وألف، ولم ينج منها إلا خمسة، فاضطر الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يستدعي مسلمة، ويستنفر المسلمين لإرسال العدد والطعام والخيل إلى إخوانهم في بلاد الروم، فرجعوا، وكانت هذه الحملة في البر والبحر آخر الحملات الكبرى، التي قام بها المسلمون نحو بلاد الروم، وأما الحملات التي في العصر الأموي فلم تكن ذات بال.
وصفوة القول: إن الجيش الأموي بنوعيه من بري وبحري قد قوي قوة هائلة، فاستطاع أن يفتح العالم المتمدن القديم من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؛ وما ذلك إلا لتنظيمه وقوته وكثرة عدده. ويلاحظ أن الجيش الأموي كان مرتبا على أحسن التراتيب المعروفة عند الروم والساسانيين. أما تنظيم جنود الجيش فلم يكن صفوفا صفوفا، وإنما كان على شكل كراديس - أي كتل صغيرة - تنجد الواحدة الأخرى، ويقال: إن أول من اقتبس هذا النظام البيزنطي هو خالد بن الوليد وطبقه في معركة اليرموك. (5) العمالة
برز في العهد الثاني من العصر الأموي عمال ذوو كفايات جبارة. ولا غرو؛ فإن اتساع رقعة الإمبراطورية، وعظم مسئولية الخليفة اضطرتاه أن يتنازل عن سلطاته الكبرى إلى عمال يثق بهم، ويتخيرهم من أولي العقل الواسع والإدارة الجيدة والإخلاص للدولة، ولعل أبرز هؤلاء العمال اسما: الحجاج بن يوسف الثقفي، وموسى بن نصير، ومحمد بن القاسم الثقفي، وقتيبة بن مسلم، وغيرهم من عظماء التاريخ الإسلامي. وقد كان العامل ممثلا للخليفة في أمور الدنيا والدين، يقوم بما يقوم به الخليفة في العامة؛ فيخطب الناس ويؤمهم، ويتولى إدارة البلاد وبعث القوات للغزو والفتح، ويولي القيادات والإمارات من يراه كفأ لها من أهل بيته، أو من كبار رجاله حاشيته. (6) التنظيمات الإدارية
نظم عبد الملك بن مروان تراتيب الدولة ترتيبا جعل المؤرخين يعتبرونه المنظم الحقيقي لشئون الدولة من إدارية ومالية وديوانيات وما إلى ذلك:
تنظيمات الضرائب والخراج وما إلى ذلك
ذكرنا في الفقرة الثامنة من الباب الخامس في الفصل الأول شيئا عن التنظيمات والضرائب التي كانت على عهد معاوية والخلفاء من قبله؛ وقد استمرت التنظيمات المالية التي أدخلها معاوية على نظام الجزية والخراج؛ فقد كتب إلى وردان مولى عمرو بن العاص في مصر أن زد على كل امرئ من القبط قيراطا، فكتب إليه وردان كيف أزيد عليهم وفي عهدهم ألا يزاد عليهم؟! فقد كتب لهم عمرو أنهم آمنون على أموالهم ودمائهم ونسائهم وأولادهم، لا يباع منهم أحد، وفرض عليهم خراجا لا يزاد عليهم، وأن يدفع عنهم خوف عدوهم.
17
ويظهر أن الخلفاء بعد معاوية قد زادوا بعض الضرائب والموارد المالية، فلما جاء عمر بن عبد العزيز أمر بإعادة الحال إلى ما كانت عليه أيام الخلفاء الراشدين؛ فألغى الضرائب الجائرة، ومنها هدايا النيروز والمهرجان.
18
فلما جاء عبد الملك استقل الجزية التي كان يدفعها أهل الجزية، فكتب إلى واليه عليها الضحاك بن عبد الرحمن الأشعري أن يزيدها عليهم، فأحصى العامل «الجماجم»، وأحصى ما يكسبه الواحد في سنة، ثم طرح نفقته مع عيالهم وكسوتهم، وطرح أيام الأعياد في السنة فوجد أن الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعهم، وجعلهم كلهم طبقة واحدة؛
19
أي إنه لم يفرق بين الأغنياء والمتوسطين، وكذلك أعيدت (ضرائب هدايا النيروز والمهرجان) التي قدرت في عهد معاوية بمبلغ عشرة ملايين درهم.
20
و«ضريبة أجرة سك العملة» و«ضريبة الصحف» التي تكتب عليها المعاملات الرسمية و«ضريبة النكاح» و«ضريبة أجرة البيوت» و«ضريبة الجزية والخراج» من المسلمين، مع أن الإسلام يمنع ذلك منعا باتا، ولكن الموارد كانت قد قلت، فاضطر الخلفاء وعمالهم إلى أخذ هذه الضرائب منهم من جديد، بعد أن كان عمر بن عبد العزيز قد ألغاها.
تعريب الدواوين
قال البلاذري: «لم يزل ديوان الشام بالرومية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فلما كانت سنة 81 أمر بنقله؛ وذلك أن رجلا من كتاب الروم احتاج أن يكتب شيئا فلم يجد ماء، فبال في الدواة، فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه، وأمر سليمان بن سعد بنقل الديوان، فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة، ففعل ذلك وولاه الأردن، فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله، وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه فعرض ذلك عليه، فغمه وخرج من عنده كئيبا، فلقيه قوم من كتاب الروم فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، قد قطعها الله عنكم.»
21
وكما فعل عبد الملك بديوان الشام فعل الحجاج بديوان فارس؛ فقد روى البلاذري أيضا قال: «لم يزل ديوان خراج السواد وسائر العراق بالفارسية، فلما ولي الحجاج العراق استكتب زادان فروخ بن بيري، وكان معه صالح بن عبيد الرحمن مولى بني تميم يخط بين يديه بالعربية والفارسية»، ووصل زادان فروخ صالحا بالحجاج، فخف على قلبه، فقال له ذات يوم: إنك سببي إلى الأمير، وأراه قد استخفني ولا آمن أن يقدمني عليك وأن تسقط، فقال: لا تظن ذلك، هو أحوج إلي منه إليك؛ لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري، فقال: والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته، قال: فحول منه شطرا حتى أرى، ففعل، ولما قتل زادان فروخ استكتب الحجاج صالحا، فأعلمه الذي كان جرى بينه وبين زادان في نقل الديوان، فعزم الحجاج على أن يجعل الديوان بالعربية، وقلد ذلك صالحا، وكان عبد الحميد بن يحيى، كاتب مروان يقول: لله در صالح، ما أعظم منته على الكتاب.»
22
ولا ندري من الذي بدأ بالعمل عبد الملك أو الحجاج؟ ومهما يكن من أمر، فإن التعريب قد تم في عهد عبد الملك. أما ديوان مصر فقد نقل من اليونانية إلى العربية في عهد ابنه الوليد.
23
يقول الدكتور حسن إبراهيم: أما مصر فكانت اللغتان اليونانية والعربية مستعملة في دواوين الحكومة؛ الأولى على أنها اللغة الرسمية التي كانت تدون بها الأعمال في تلك الدواوين، والثانية لأنها لغة الحاكم العربي. وقد لوحظ في بعض الأوراق البردية التي عثر عليها الباحثون كتابات باللغة القبطية في أسفل الصحف أو في ظهرها إلى جانب اللغتين اليونانية والعربية؛ مما يدلنا على أنها كانت في الدرجة الثالثة من الأهمية. وقد ظلت الدواوين تدون باليونانية في مصر إلى أن انتقلت الخلافة إلى الوليد، فسار على سياسة أبيه في تعريب الدواوين فحول ديوان خراجها إلى العربية، وقام بتنفيذ هذه السياسة واليه على مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان (86-90ه).
ويقول السيد أمير علي: «إن النظام الإداري والسياسي للإدارات الإسلامية في عهد الدولة الأموية لم يكن من عمل معاوية، بل إن عبد الملك هو المؤسس الحقيقي لهذا النظام، فهو الذي صبغ الإدارة المالية بالصبغة العربية، وبتحويله الدواوين إلى العربية تقلص نفوذ أهل الذمة والمسيحيين من غير العرب.»
24
ديوان الطومار والطراز
وفي عهد عبد الملك وجد ديوان الطراز والطومار، أما الطراز فهو أن ترسم أسماء الملوك والسلاطين وعلاماتهم على الأثواب والأقمشة الحريرية والديباجة الخاصة بهم.
25
وأما الطومار فهو الأوراق الرسمية التي تكتب عليها الرسائل السلطانية والوثائق الدولية. وقد كانت هذه الطرز والطوامير تصنع بمصر، وقد ظلت كذلك إلى زمن عبد الملك، فلما نقل الدواوين إلى العربية أمر بترجمة ما يكتب عليها، فإذا هو «باسم الآب والابن والروح القدس» فأكبر ذلك، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام، وكتب إلى أخيه عبد العزيز - أمير مصر - بإبطال هذا الطراز، واستبداله بالشهادة، ومعاقبة من يخالف ذلك. وكانت الطرز والطوامير ترسل من مصر إلى بلاد الروم - كما كانت الدنانير تضرب في بلاد الروم، وترسل إلى بلاد الإسلام - فلما وصلت الطوامير والطرز على الشكل الجديد إلى بلاد الروم، استنكر الإمبراطور ذلك، وكتب إلى عبد الملك «أن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يطرز بطرزهم، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطئوا، فاختر إحدى الحالتين.» وبعث إليه الكتاب مع هدية يسترضيه بها، ويدعوه إلى الرجوع عما بدأ به، فرد عليه عبد الملك هديته، وأخبر الرسول أنه لا رد عنده على الرسالة. فكرر الإمبراطور رسائله وعبد الملك لا يجيب. ثم إن الإمبراطور غضب وكتب إليه: «إنكم أحدثتم في قراطيسكم ما نكرهه، فإن تركتموه وإلا أتاكم من الدنانير من ذكر نبيكم ما تكرهونه.» فاستاء عبد الملك واستشار خالد بن يزيد، فقال له: يا أمير المؤمنين حرم دنانيرهم فلا يتعامل بها، واضرب للناس سككا، ولا تعف هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير.
26
فاستمر عبد الملك في عمله، وكان ذلك حافزا له على ضرب العملة العربية.
سك العملة
رأينا في النقطة الرابعة من الباب الخامس للفصل الأول أن عمر بن الخطاب كان أول من ضرب الدراهم على النمط الفارسي، وأنه زاد عليها في بعضها: «الحمد لله»، وفي بعضها: «محمد رسول الله»، وأن معاوية ضرب بعض الدراهم والدنانير، وكذلك فعل بعض عماله في العراق، ولكن هذا كله لم يكن شيئا جوهريا؛ فقد استمرت الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية مسيطرة على النظام النقدي الإسلامي إلى عهد عبد الملك. وقد كانت الدراهم المعروفة في العالم الإسلامي إلى زمن عبد الملك هي: (1)
الدرهم البغلي: ويزن 20 قيراطا = 8 دوانيق =
غرام. (2)
الدرهم الطبري: ويزن 10 قراريط = 4 دوانيق =
غرام. (3)
الدرهم الجوراقي: ويزن 12 قيراط =
دانق = 3,4 غرام. (4)
الدرهم اليمني: ويزن ... = 1 واحد =
غرام. (5)
الدرهم المغربي: ويزن ... = 3 دوانيق = 2,125 غرام.
27
ولم يغير الأمويون قبل عبد الملك في نظام العملة، فلما تولى عبد الملك وبدأ إصلاحاته، رأى ضرورة إيجاد دار لضرب العملة في دمشق بعد إلغائه التعامل بالعملة الأجنبية من دينار رومي ودرهم فارسي.
28
قال البلاذري: كانت الدراهم من ضرب الأعاجم مختلفة، كبارا وصغارا، وكانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس البغلية، فكانوا لا يتبايعون بها إلا على أنها تبر، فأقر ذلك رسول الله، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، ثم ضرب مصعب بن الزبير في أيام عبد الله بن الزبير دراهم قليلة، كسرت بعد. فلما ولي عبد الملك بن مروان وفحص عن أمر الدراهم والدنانير، فكتب إلى الحجاج بن يوسف أن يضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطا من قراريط الدنانير، وضرب هو الدنانير الدمشقية؛ فأول من ضرب الذهب عبد الملك عام الجماعة سنة 74، والحجاج ضرب الدراهم آخر سنة 75ه، ثم أمر بضربها في جميع النواحي سنة 76.
29
ويروي البلاذري أيضا عن عباس بن هشام الكلبي أن الحجاج سأل ما كانت الفرس تعمل به في ضرب الدراهم، فاتخذ دار ضرب، وجمع فيها الطباعين، فكان يضرب المال للسلطان مما يجمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوفه والبهرجة، ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم الأوراق. فلما ولي عمر بن هبيرة العراق ليزيد بن عبد الملك خلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله، وجدد الدراهم فاشتد في العيار. ثم ولي خالد بن عبد الله القسري العراق لهشام بن عبد الملك، فاشتد في النقود أكثر من شدة ابن هبيرة، حتى أحكم أمرها أبلغ من إحكامه، ثم ولي يوسف بن عمر، فأفرط في الشدة على الطباعين وأصحاب العيار، وقطع الأيدي وضرب الأبشار، فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، ولم يكن المنصور يقبل في الخراج من نقود بني أمية غيرها.
30
والحق أن عملية عبد الملك في سك العملة عملية جريئة ومفيدة؛ فقد كان العالم المتمدن القديم يكبر العملة الذهبية البيزنطية، وينظر إليها وكأنها شيء مقدس ذو سلطان لا يقاس به سلطان آخر، أما الفرس فكان لهم أن يسكوا العملة الفضية فقط. نقل البروفسور ميتز عن الرحالة الهندي
Casmas
في منتصف القرن السادس الميلادي خبر مناظرة جرت في مجلس ملك سرنديب بين تاجر رومي وآخر فارسي، أراد كل منهما أن يثبت أن ملك بلاده أقوى، وغلب التاجر الرومي صاحبه آخر الأمر ، وذلك بأن أخرج قطعة ذهبية من العملة البيزنطية التي يتعامل بها في جميع البلاد، على حين أن الفارسي لم يستطع أن يخرج إلا عملة من الفضة. ثم يعلق على هذه الحكاية بقوله: من الصحيح في هذه الحكاية أنه كان بين البيزنطيين وبين الدولة الساسانية معاهدة خاصة بالعملة، تقضي بأن يضرب الساسانيون نقودا من الفضة فقط، ويتخذوا العملة الذهبية عملة لهم؛ ولهذا شاع في بلاد الإسلام التي كانت تحت حكم الرومان من قبل العملة الذهبية، على حين أن بلاد الفرس كانت عملتها الجارية الدراهم الفضية.
31
وهذا يدلنا على المكانة السامية التي كانت للدينار الذهبي الرومي، فإقدام عبد الملك على امتهان ذلك الدينار وسك عملة ذهبية جديدة، هو إقدام لا يجرؤ عليه إلا من كان عنده حزم عبد الملك وسلطان كسلطانه.
ويختلف المؤرخون في السنة التي بدأ عبد الملك فيها بسك العملة بين سنة 74 وسنة 75 وسنة 76.
32
ولكن الباحث الفرنسي
Lavoix
قد توصل بمقارنة المصادر العربية والبيزنطية وفهارس مجموعات النقود إلى أن إصلاح عبد الملك بدأ حوالي سنة 73 و74ه، وأن ضرب النقود على أشكالها القديمة قد استمر بعد ذلك لمدة سنوات أخرى.
33
وقد أبقى عبد الملك وزن الدينار العربي على وزن الدينار الرومي، ولكنه قسم إلى عشرين «قيراطا» بدل الاثنين والعشرين قيراطا إلا حبة، أما الدراهم فقد أبقاها كما كانت؛ أي إن وزن كل عشرة منها يساوي سبعة مثاقيل.
34
ولكي يحذر الناس من غش النقود الجديدة وضع الخليفة «صنجات» لوزن العملة، وهي من الزجاج لوزن الدينار والدرهم، وقد أرسل عبد الملك إلى عامله في العراق الحجاج بن يوسف؛ لضبط النقود الفضة في العراق والمشرق، ومنع استعمال العملات القديمة، وقد سار الخلفاء بعد عبد الملك على سيرته، ولكنهم تشددوا في تخليص العملة من الغش وتنقية الفضة والذهب وزيادة الوزن، وقد رأينا في النص الذي نقلناه عن البلاذري أن عمر بن هبيرة قد خلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله وجدد الدراهم، وأن الدراهم الهبيرية أجود من الدراهم السابقة. ثم جاء خالد بن عبد الله القسري في عهد هشام، فاشتد في تخليصها أكثر من ابن هبيرة، ثم جاء يوسف بن عمر فزاد في الدقة في العيار، وقطع أيدي الناس على الغش فيها.
أما صرف الدنانير بالدراهم فقد كان يختلف صعودا ونزولا حسب الظروف العامة، وطبقا لنظام العرض والطلب؛ ففي عهد الرسول كان الدينار يساوي 12 درهما، وكذلك كان في عهد أبي بكر وعمر.
35
وفي خلافة علي كان يساوي عشرة دراهم.
36
وقد كان للدينار أجزاء كالنصف والربع، كما كان له مضاعفات كالدينار المزدوج. وكذلك كان للدرهم أجزاء كالنصف والربع والدانق، وهو سدس الدرهم، ويساوي قيراطين وثلثا، و«الطسوج» و«الفلس».
37
وكان للدينار أنواع: فهناك الدينار الجيد الصحيح العيار الصافي الذهب، وزنه مثقال كامل، وهو خير الدراهم، وهناك دراهم غير جيدة، قد نقص الناس من وزنها أو غشوا في ذهبها، وكذلك كان للدراهم أنواع: فمنها الدرهم «النصرة» وهو ما كان من فضة جيدة صافية، وهناك دراهم «زيوف» وهي التي تكون فيها المعادن الرخيصة من نحاس وقصدير كثيرة، وهذه الدراهم تستعمل في التجارة، وكانت الحكومة لا تقبله في معاملاتها؛ «دراهم بهرجة أو نيهرجة» وهي التي لم تضرب في دار الضرب، و«دراهم ستوفة» وهي دراهم نحاسية تغطى بقشرة من الفضة.
38
والحق أن إصلاح عبد الملك في قضايا العملات هو إصلاح رئيسي أنقذ ثروة البلاد، ثم إن سياسة الوليد في تتميم أعمال أبيه الإصلاحية قد تممت هذه المشاريع الحيوية.
شئون البريد
قلنا في الباب الخامس من الفصل الأول: إن شئون البريد نظمت في عهد معاوية، ولكنها لم تحكم إلا في عهد عبد الملك؛ فقد أدخل عبد الملك تحسينات جديدة إلى إدارة شئون البريد. ويروي القلقشندي بعد روايته الأولى - أن البريد وضع في عهد معاوية - أن هناك رواية أخرى هي أن أول من وضع البريد هو عبد الملك، حين خلا وجهه من الخوارج عليه كعمرون بن الأشدق وعبد الله بن الزبير. وينقل القلقشندي عن العسكري أن عبد الملك إنما أحكمه. وذكر عنه أنه أمر حاجبه ألا يحجب عنه صاحب البريد، فمتى جاء من ليل أو نهار؛ فربما أفسد على القوم سنة حبسهم البريد ساعة، ويظهر أنهم كانوا يحملون على البريد أشياء أخرى غير الرسائل من كل ما يريدون الحصول عليه بسرعة؛ فقد رووا أن الوليد أمر أن يحمل إليه الفسيفساء - وهي الفصوص المذهبة - إلى دمشق؛ ليصفح بها حيطان المسجد الجامع بدمشق، ومساجد مكة والمدينة والقدس.
39
كما روي عن أبي هلال العسكري في كتاب الأوائل أن أول من حمل إليه الثلج الحجاج بن يوسف بالعراق.
40
وصاحب البريد مركزه في العاصمة، وله نواب وعيون في سائر أجزاء الدولة، يرسلون إليه بالرسائل والأخبار، وهو يتولى عرضها على الخليفة، وله أيضا النظر في أحوال موظفي مصلحة البريد ودوابه وأمكنته وأحواله ورجاله، وربما سموا بأصحاب الخرائط. ولا بد لصاحب البريد أن يكون عارفا بالطرق والمسالك إلى جميع نواحي الدولة، بحيث يجد عنده الخليفة أو الأمير كل المعلومات المطلوبة لإنفاذ الجيوش وإرسال البرد. وتنظيم البريد من أدلة قوة الدولة وسلطانها. فإذا ما ضعف واختلت شئونه دل ذلك على انهيار الدولة، وآذن ذلك بسقوطها؛ فقد ذكر صاحب التعريف فيما نقله صاحب صبح الأعشى أن البريد ظل طوال الدولة الأموية معتنى به، ثم لم يزل البريد قائما والعمل عليه دائما، حتى آن لبناء الدولة المروانية أن ينقض، ولحبلها أن ينتكث، فانقطع ما بين خراسان والعراق؛ لانصراف الوجوه إلى الشيعة القائمة بالدولة العباسية. ودام الأمر على ذلك حتى انقضت أيام مروان آخر خلفاء بني أمية .
41
وقد كان المشرف على البريد موظفا خاصا يسمى «صاحب البريد»، وهو الذي يتولى إرسال البرد إلى الخليفة من الأطراف، وينقل عن الخليفة ما يريد إيراده إلى الأطراف. وكان للبريد ألواح من فضة مجلدة بديوان الإنشاء تحت أمر كاتب السر.
42
وكان للبريد محطات ومراكز وخيول، أما المراكز فهي المواقف التي ترتبط فيها الخيول، وليس لهذه المراكز أبعاد معينة بل تختلف تبعا للمياه، والقرى، والمدن، قربا وبعدا.
43
وقد فصل صاحب صبح الأعشى مراكز البريد في الديار المصرية والشام والحجاز.
شئون القضاء
ذكرنا في الفقرة الثامنة من الباب الخامس في الفصل الأول شيئا عن القضاء في عهد معاوية، ونضيف ها هنا أن القضاة في العصر الأموي كانوا ينتقون من كبار الفقهاء ورجال التشريع من الصحابة أو التابعين. وقد كان هؤلاء القضاة يقضون طبقا لأحكام الكتاب الكريم أو السنة النبوية أو القياس، وهو «رد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها»، حتى يجد القاضي طريقا إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل.
44
يوضح ذلك قول عمر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري لما ولاه قضاء الكوفة: القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ... الفهم الفهم، إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع حق لا تقاد له. ساو بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع قوي في جنبك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على المدعي واليمين على من أنكر. الصلح بين الناس جائز إلا صلح حرم حلالا وأحل حراما. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، فاعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك.
45
ويشترط في القاضي أن يكون عارفا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة واختلاف السلف، فقيه النفس، يعقل وجوه القياس إذا ورد، عالما بتخريج الأخبار إذا اختلفت، وترجيح أقاويل الأئمة إذا اشتبهت، وافر العقل أمينا، متثبتا حليما ذا فطنة وتيقظ، لا يؤتى من غفلة، ولا يخدع بغرة، صحيح حواس السمع والبصر، عارفا بلغات أهل قضائه، جامعا للعفاف، نزها بعيد الطمع، عدلا رشيدا، صدوق اللهجة، ذا رأي ومشورة، إذا حكم فصل، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا هيئة وسكينة ووقار، ولو كان من قريش كان أولى.
46
وقد اشترط فيه شروط، هي: البلوغ والعقل والحرية والذكورة والإسلام والعدالة والسمع والبصر والعلم.
47
ولما تطورت الدولة واتسعت رقعتها تعدد القضاء، فوجد قضاء المظالم والحسبة والشهود.
أما قضاء المظالم، فهو القضاء الذي يتولى صاحبه القضاء من القضايا والمشاكل التي لا يستطيع القاضي حلها، إما لكون أحد المتخاصمين ذا نفوذ أو سلطان، وإما لتعذر حل القضية عند القاضي، ولهذا يشترط في صاحب المظالم أن يكون رجلا جليل القدر، ذا مكانة سامية وقدر رفيع. ولم يجلس للمظالم أحد من الخلفاء الراشدين؛ لأن الناس كانوا في الصدر الأول بين من يقوده التناصف إلى الحق، أو يزجره الوعظ عن الظلم؛ إلا عليا فإنه احتاج إلى النظر فيها؛ على أنه لم يفرد لسماع الظلامات يوما معينا أو ساعة معينة، وإنما كان إذا جاءه متظلم أنصفه، ثم أفرد يوما خاصا معينا للنظر في أحوال المتظلمين وتصفح قصصهم. وأول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان، لكنه كان إذا وقف منها على مشكل احتاج فيه إلى حكم رده إلى قاضيه ابن إدريس الأزدي، وكان ابن إدريس هو المباشر، وعبد الملك الآمر، وهذه دلالة واضحة على حسن تصرف عبد الملك، ومقدار عدالته واحتياطه في أمور المسلمين. وكانت محكمة المظالم غالبا ما تكون برئاسة الخليفة أو نائبه، أو الوالي، ومحلها المسجد الجامع، وكان صاحب المظالم يحاط بخمس جماعات: (1)
الحماة والأعوان، وقد اختيروا بحيث يستطيعون التغلب على من يلجأ إلى القوة والعنف أو الفرار من القضاء. (2)
القضاة والحكام، ومهنتهم الإشارة على صاحب المظالم بأقوم الطرق لرد الحقوق إلى أصحابها وإعلامه بما يجري بين الخصوم لإلمامهم بشتى الأمور. (3)
الفقهاء، وإليهم يرجع قاضي المظالم فيما أشكل عليه من المسائل الشرعية. (4)
الكتاب، ويقومون بتدوين ما يجري بين الخصوم وإثبات ما لهم وما عليهم من الحقوق. (5)
الشهود، ومهمتهم الشهادة على أن ما أصدره القاضي من الأحكام لا ينافي الحق والعدل (الماوردي لأحكام السلطان، 73-89).
وقال ابن خلدون (ص360 مقدمة): «كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم، وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطان ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة من الخصمين، وتزجر المعتدي، وكأنه يمضي ما عجز عنه القضاة أو غيرهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصمين على الصلح واستحلاف الشهود، وذلك أوسع من نظر القاضي، وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس.»
وأما الحسبة فهي نوع من أنواع القضاء. وقد كان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم في عهد الخلفاء الراشدين؛ لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم لما توسعت الدولة صار الخليفة يوليها غيره كالقضاء. قال ابن الأخوة: المحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم ومصالحهم. ومن شرطه أن يكون مسلما حرا بالغا عاقلا عدلا قادرا، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، عارفا بأحكام الشريعة. وقد كانت للمحتسب سلطات واسعة يشرف فيها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراقبة الموازين والمكاييل والأسواق والمعامل والمصانع والحرف والأطعمة والبضائع والأشربة، كما يراقب أحوال أهل الذمة وأهل الجنائز والحاكة والخياطين والدلالين والنخاسين والصرافين والصياغ وأهل الحمامات والأطباء والكحالين والمعلمين والوعاظ والمنجمين وأهل السفن والمراكب، والأمراء والولاة والقضاة والشهود، كما يهتم بأمور الزناة والحانات وشراب الخمر، والمقامرين وغيرهم من أهل الدعارة، ويراقب أحوال الناس في ملابسهم والظهور بمظهر الحشمة في الطرقات العامة، كما يراقب أحوال المباني والطرقات، وكل ما له علاقة بحياة المدينة الاجتماعية. ولهذا المحتسب شبيه في العهد البيزنطي وهو المعروف باسم
Agorannum .
وأما الشهود فهم الذين يشهدون أمام القاضي في النفي أو الإثبات، ولا بد للشاهد من التزكية. وقد كان الشهود في عهد الخلفاء الراشدين يزكون علنا، أما في العصر الأموي فلقد رووا أن غوث بن سليمان الحضرمي قاضي مصر سنة 135 هو أول من سأل الشهود في السر، ولم يكتف بالتزكية العلنية لفساد الأحوال، وكانت القضاة قبله إذا شهد عند أحدهم شاهد، وكان معروفا بالسلامة قبله، وإن كان غير معروف وقف، وإن كان مجهولا سأل عنه جيرانه فما ذكره من خير وشر عمل به فيه.
48
وقد يكون للقاضي أعمال أخرى غير القضاء بين الناس، كالقصص والوعظ وحفظ بيت المال، وحفظ أموال الأيتام والوصايا؛ فقد كان عبد الرحمن بن حجرة قاضي مصر من 65-83ه، يتناول ألف دينار في العام راتبا له؛ مائتان عن القضاء، ومائتان عن القصص، ومائتان عن بيت المال، وعطاؤه مائتان، وجرايته مائتان.
فنرى من هذا أن القاضي كان يتناول راتبا ضخما، يكفيه ويحميه من أن يتورط في الرشوة وإضاعة الحقوق. وقد كان الخلفاء في العصر الأموي يتشددون في مراقبة أحوال القضاء؛ فقد حكى لنا الكندي في كتاب القضاة أن هشام بن عبد الملك لما بلغه في دمشق أن يحيى بن ميمون الحضرمي لم ينصف يتيما في مصر، احتكم إليه بعد بلوغه، عظم الأمر عنده، وكتب إلى عامله على مصر يقول: اصرف يحيى عما يتولاه من القضاء مذموما مدحورا، وتخير لقضاء جندك رجلا عفيفا ورعا تقيا سليما من العيوب، لا تأخذه في الله لومة لائم.
49
الشرطة
ذكرنا في الباب الخامس من الفصل الأول شيئا عن أولية هذه الوظيفة. ونضيف هنا أن صاحب هذه الوظيفة هو المنفذ لأحكام صاحب المظالم والقاضي، وهو قسيم المحتسب؛ لأن كلا منهما له حق تنفيذ العقوبة، إلا أن صاحب الشرطة أقوى سلطانا من صاحب الحسبة، وإليه أمر استتباب الأمن في البلد، وحفظ النظام، والقبض على الجناة والمفسدين، وما إلى ذلك، أما صاحب الحسبة فوظيفته تتعلق برقابة أهل الفسق من الباعة والسوقة، وأمثالهم ممن يسيئون إلى الأعمال فيعاقبهم.
ولصاحب الشرطة أمر العسس في الليل، وكان عمر - رضي الله عنه - يعس بنفسه في الليل. وفي عهد علي انتظمت أمور صاحب الشرطة، وكان يختار من علية القوم وأمنائهم وأشرافهم. ويظهر أنها كانت تابعة للقاضي في أول الأمر، ثم انفصلت عنه في أواخر العصر الأموي، وأصبح صاحبها مستقلا بأموره.
وقد كان صاحب الشرطة مسئولا عن حراسة الخليفة والناس، كما كان له فروع في المدن الأخرى يتصلون به، فيوجههم الوجهات الصحيحة لاستتباب الأمن وحفظ النظام، والقبض على المجرمين والمفسدين، وتنفيذ قرارات القضاة وأصحاب المظالم.
قال ديمومين: ومنذ عهد الأمويين تلاحظ ظهور وظيفة صاحب الشرطة، الذي كان في نفس الوقت منفذ قرارات القاضي، فيما يتصل بالقانون الجنائي القرآني، كما كان حاكما لعدد من الجنح البسيطة غير محدود، كان يعاقب عليها آنيا، وقد راقب المجرمين وطاردهم؛ ليجلبهم إلى حضرة القاضي إن أمكن. وإلى حد كبير كانت الجنح البسيطة نسبيا تدخل ضمن اختصاص صاحب الشرطة، أما الجنح الأخرى وبعض مخالفات قانونية معينة فقد كان ينظر فيها حاكم خاص هو المحتسب.
50 (7) العاصمة والسكان: الأرض الإسلامية
قلنا في الفقرة التاسعة من الفصل الخامس للباب الأول شيئا عن العاصمة الأموية دمشق وتأثير حضارتها البيزنطية القديمة في تكوين الحضارة الأموية؛ ونضيف هنا أن هذه العاصمة كان لها أثر جبار واضح القسمات في إنشاء الحضارة الإسلامية الأموية وتطويرها؛ ففي القرن الذي كانت هي فيه حاضرة العالم الإسلامي، امتدت الفتوح من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، ومنها وجهت الرسائل والإرشادات والتعاليم والأنظمة إلى سائر أجزاء المملكة الإسلامية، وفي القرن الذي حكمت فيه دمشق العالم الإسلامي، وضعت جميع أسس النظم الإسلامية، وبدأت النزعات العقلية. ثم إن مواهب أهل دمشق خاصة، وسورية عامة قد لعبت دورا أساسيا في تكوين الحضارة الإسلامية، التي برعتها أيدي خلفاء عقلاء أذكياء كخلفاء بني أمية، وجهتها سيوف جند فاتحين من عدنان وقحطان استوطنوا الشام، وتوجهوا منه لفتح العالم ونشر الإسلام والعروبة، وعلى الرغم من ثورات الحجاز والعراق وخراسان وإفريقية، وعلى الرغم من فتن الأزارقة والصفرية والكيسانية وغيرهم من الفرق، فإن دمشق ظلت قوية صامدة، تمشي إلى هدفها الذي رسمته بكل حزم واتئاد. وقد كان لأهل دمشق من أصليين وفاتحين أثر فعال في تطوير الحضارة الإسلامية، وتدعيم أركان المدنية العربية، وكان مسجد دمشق وبلاطها مراكز إشعاع فكري وحضاري، وترفي وسياسي وعسكري. فمن هذين المشعلين استضاءت حواضر الأندلس وإفريقية ومصر والعراق وخراسان وبلخ ومرو وسمرقند وكشغر والسند، ومن هذين المركزين الثقافيين تعلمت رجال العالم الإسلامي طرق الحياة وأساليب الإدارة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن دمشق عدت أيام عبد الملك وأولاده وأحفاده كعبة القصاد؛ لما حبتها الدولة من مظاهر الفخامة، ولما أسدت إليها الطبيعة من رونق النضارة، وقد أكثر الخلفاء والأمراء والكبراء فيها من بناء القصور والدور والمعاهد والمساجد والحمامات والخانات والأسواق والمؤسسات العامة. وصفوة القول: إن العصر الأموي هو العصر الذي ازدهرت فيه بلاد الشام ازدهارا عجيبا، وخطت خطوات مدهشة في سبيل الحضارة. يقول البروفسور ديمومين: إن القرن الذي حكم خلاله الأمويون ليثير أشد الاهتمام دون شك، مع أنه أقل فترات التاريخ الإسلامي وضوحا في الأذهان؛ ففي هذا القرن وضعت جميع النظم الإسلامية، وبدأت كافة الاتجاهات الفكرية.
51
أما سكان الشام والأمصار الإسلامية الأخرى، فقد تطورت أحوالهم في هذا العهد تطورا واضحا، فالشام هو مسكن القوم الذين شدوا أزر الدولة في الداخل، وخرجوا بسيوفهم إلى الخارج يهدئون ثورات الثائرين، وينشرون لواء الدولة في الخافقين، ولولا العصبيات القبلية من يمانية ومضرية والفتن التي نشبت عن ذلك في المركز أو النواحي لكان لهؤلاء شأن آخر.
وأما العراق فهو موطن الشيعة العلوية، التي حز في نفوسها انتصار خصوم آل علي وابتزازهم الحق منهم، فكانت نفوسهم تغلي حقدا، وهم دوما إما في ثورة ناطقة أو في ثورة صامتة ضد آل أمية، ولولا الولاة الأشداء كزياد والحجاج وخالد ويوسف بن عمر وغيرهم من رجالات بني أمية لما هدأ العراق ولا استكان لأمية.
وفي العراق نشأت الفرق المناوئة لبني أمية من خوارج وكيسانية وأشاعثة ومرجئة ومعتزلة وغيرهم ممن أقضوا مضجع الدولة وآذوا أهلها. «وأنا موقن» أنه لولا قسوة الحجاج وزياد الممزوجة بالعدل والتعصب للعرب، لما هدأ العراق طوال عهد الأمويين؛ فقد كان هؤلاء - على ظلمهم وجبروتهم - يرفعون من شأن عرب العراق، وكان الحجاج يجل شيوخ عرب العراق، وجعل منهم النواة التي غزت الشرق، وسيطرت عليه، فقد جعل العراق في عهده معقل الجيوش العربية.
وأما الحجاز فقد انقلبت في هذا العهد من العصر الأموي إلى بيئة ساكنة، يرغب أهلها في الهدوء والحياة الوادعة اللاهية؛ لأن طبيعة الحجازيين ناعمة مترفة، وقد أتيح لها أن تبعد عن السياسة، وأغدقت عليها الأموال، فانصرف أهلها إلى المرح واللهو والغناء وبناء القصور، وبخاصة الرجال الذين كان الأمويون يحشدونهم من أبناء أهل السابقة من وجوه المهاجرين والأنصار، فظهرت طبقات ميالة إلى المرح واللهو، كما ظهرت طبقات ميالة إلى إشادة القصور، ووجد أناس ينصرفون إلى العلم والدين، وأناس يميلون إلى الصلاح والتقوى، وما إلى ذلك مما يبعدهم عن السياسة إلى غيرها، ولما جاء عبد الملك وأولاده ساروا على تلك السياسة.
وأما الجهات الإسلامية الأخرى من العالم فهي الجهات المفتوحة، كشمال إفريقية والأندلس والمشرق، فقد رأى أهلها قوة العرب الفاتحين فخنعوا لهم وهم يتحينون الفرص طوال العصر الأموي للتخلص من نير هؤلاء القوم الفاتحين. وكانت هذه البلاد لا تخلو دوما من فتن وثورات، ولكن حزم بني أمية وولاتهم استطاعوا أن يوطدوا أقدامهم في تلك الديار، ويفرضوا الإسلام على أهلها، ولم يكن النتاج الإسلامي في هذه الديار من النواحي الثقافية والحضارية ذا أثر ملموس، إلا في أواخر العصر الأموي أو العصر العباسي.
ومما هو جدير بالذكر أن أهل الذمة من نصارى ويهود ومجوس قد عاشوا تحت لواء بني أمية عيشة هنية رضية؛ لأن الأمويين كانوا بعيدين عن روح التعصب الديني، كما كانوا يحرصون على حماية أهل الذمة لقاء ضريبة الخراج والجزية التي أخذوها على أن يحموهم، ولما كثر دخول أهل الذمة في الإسلام ورأى الخلفاء - كعبد الملك والوليد وسليمان - أن كثرة دخولهم سيحرم بيت المال من موارد جسيمة، استمروا يأخذون تلك الضرائب منهم؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى المصلحة العامة، وإن كان في ذلك مخالفة لظاهر الشرع الإسلامي، ولكن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز منع ذلك كله ولم يقبل بأخذها، وألغى قوانين الاحتيال والمواربة التي اصطنعتها عمال بني أمية لإجبار أهل الذمة الذين دخلوا في الإسلام لاستمرار دفع هؤلاء للخراج والجزية.
ومما هو جدير بالذكر أن سكان الدولة الإسلامية في ذلك كانوا يتأثرون بأحوال الخلفاء؛ ففي عهد عبد الملك انصرف الناس جميعا إلى العناية بأمور الدولة، فإن حركة الإصلاح العامة التي قام بها في الدواوين والمصالح العامة وفي تنظيم شئون الدولة قد جعل الناس في عصره يهتمون بأمثال هذه الأمور. فلما ولي ابنه الوليد وكانت في عهده الفتوح واليسر والرخاء كثر البناء، وتخففت الأعباء عن كاهل المسلمين. وفي عهد سليمان بن عبد الملك دب الترف والبذخ اللذين كانا يسيطران على البلاط إلى سائر الأرجاء. وفي عهد عمر بن عبد العزيز، كان الناس يتدارسون القرآن، ويعملون على إحياء سنن الشريعة، والانصراف إلى الزهد والنسك والتواضع. ولما ولي يزيد والوليد الثاني عم اللهو وانتشرت الخلاعة؛ لأن الناس على دين ملوكهم. وفي عهد هشام كثرت عناية الناس بتعمير الأرض وتقوية الثغور وحفر القنوات؛ لأنه كان مغرما بهذا عاكفا عليه.
الفصل الثالث عشر
الحركات العلمية والعقلية
مقدمة
قلنا في الفصل السادس من الباب الأول: إن الشام كان في العهد الأول من العصر الأموي مجالا خصبا لنشوء حركات علمية وأدبية لأسباب؛ منها أن الشام أرض عريقة في العلم والفن، ومنها أن تأسيس الدولة الجديدة اقتضى إيجاد حركة علمية وأدبية تلائم الحركات السياسية وتماشيها، ولكن طبيعة الإنشاء تقضي أن تكون الباكورة ساذجة؛ فلذلك لم نسمع بأثر كبير لهذه الحركات في تلك الحقبة.
ونضيف ها هنا إلى ذلك أن الاستقرار السياسي الذي أعقب عصر معاوية ومروان قد أنتج نتاجا طيبا في الحقل العقلي والعلمي والأدبي؛ وذلك لميل الخلفاء إلى إظهار أبهة الخلافة. يقول القلقشندي: لم يزل أمر المكاتبات في الدولة الأموية جاريا على سنن السلف إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك، فجود القراطيس وجلل الخطوط، وفخم المكاتبات، وتبعه من بعده الخلفاء على ذلك، إلا عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد، فإنهما جريا في ذلك على طريق السلف، ثم جرى الأمر من بعدهما على ما سنه الوليد إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد - آخر خلفائهم - وكتب له عبد الحميد بن يحيى، وكان من اللسن والبلاغة على ما أشهر ذكره، فأطال الكتب وأطنب فيها، حيث اقتضى الحال تطويلها والإطناب فيها، حتى يقال: إنه كتب كتابا عن الخليفة، وقر جمل، واستمر ذلك فيما بعده.
1
والحق أن ظهور الدولة بمظهر الفخامة في هذا العهد الأموي قد جعلها تهتم بالكتابة والعلم للأسباب الآتية: (1)
اتساع رقعة البلاد اتساعا عظيما، اضطر الخلفاء إلى اتخاذ الكتاب العديدين والتراجمة. (2)
ميل الخلفاء إلى رفع شأن الخلافة والإسلام وتقوية مركزهما في العالم المتمدن. ولا شك في أن العلم والفن هما من أقوى دعائم الحضارة. (3)
اختلاط العرب بالطبقة المثقفة من أبناء الأمم المفتوحة من أهل الشام وفارس ومصر والأندلس. قال عبد الملك بن مروان في وصف الزعيم الشامي الخطيب العالم المشهور روح بن زنباع الجذامي إنه: «شامي الطاعة، عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة.»
2
وصفوة القول هي أن بني أمية في هذه الفترة قد خطوا خطوات مفيدة في ترقية علوم الدين والأدب والفن والعلم - كما يتجلى ذلك فيما يلي: (1) القرآن
عني المسلمون منذ عصر الراشدين بالقرآن الكريم ومدارسته، وكانت مساجد دمشق ومكة والمدينة والبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان، أمكنة لدراسة الكتاب العزيز وتفهم معانيه وقراءاته ورواياته. وقد نبغ في هذه الأمكنة أئمة شرق ذكرهم وغرب في معرفة قراءة القرآن ورواياته، وأجلهم «القراء» السبعة الذين يرجع إليهم المسلمون إلى اليوم في قراءة القرآن وهم: (1)
عبد الله بن كثير (؟-120) المكي، وهو من الأئمة الفقهاء ومتقني القراء، تولى قضاء مكة، فيها نشأ وفيها مات.
3 (2)
عاصم بن أبي النجود (؟-128) هو شيخ قراء الكوفة، أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، وكان من المحدثين الثقات.
4 (3)
عبد الله بن عامر اليحصبي (؟-118) قارئ دمشق وقاضيها في خلافة عبد الملك.
5 (4)
يزيد بن القعقاع (؟-132) شيخ قراء المدينة ومفتيها.
6 (5)
حمزة بن حبيب الزيات التميمي (؟-156) من قراء الكوفة وعالمها وزاهدها. قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر.
7 (6)
أبو عمرو بن العلاء (؟-155) من قراء البصرة وأئمة العربية والأدب فيها. قال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالأدب والعربية والقرآن والشعر. (7)
نافع بن عبد الرحمن (؟-169) من قراء المدينة وفقهائها الأجلاء الزهاد.
قال ابن خلدون في المقدمة، ص517: القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه، المكتوب بين دفتي المصحف، وهو متواتر بين الأئمة، إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على طرق مختلفة، في بعض ألفاظه، وكيفيات الحروف في أدائها، وتنوقل في ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة، تواتر نقلها أيضا بأدائها، واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير، فصارت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة، وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع.
8
وقد كانت علوم القرآن وقراءاته في هذا العصر غير واضحة المعالم ولا بينة التفاريع، إلى أن جاء العصر العباسي، فوضحت معالمها وألفت فيها الكتب الأمهات. (2) الحديث
نبغ في هذه الفترة جمهرة من أئمة علماء الحديث النبوي، الذين أخذوا ينتقلون في أجزاء المملكة الإسلامية، يجمعون أحاديث النبي من الصحابة الذين أدركوه، أو من التابعين الذين سمعوها من آبائهم الصحابة. وقد كان للرحلات في طلب الحديث النبوي أخبار كثيرة في كتب الأدب والتاريخ. ولا شك في أن بعض هؤلاء المحدثين كانوا يدققون في جمع الحديث، ولا يتساهلون في النقل. كما أنه قد وجد بينهم جماعات رووا بعض الأحاديث الموضوعة على لسان الرسول إما جهلا منهم أو عمدا، تأييدا لفكرة أو إشارة إلى حدث، وخصوصا أثناء الفتن أو بين أصحاب الفرق، ولكن علماء الحديث الثقات كانوا بالمرصاد لهؤلاء المغرضين والدساسين والجهلة. وقد كان هؤلاء المحدثون في العصر الراشدي والأموي الأول يروون أحاديثهم رواية، وقد يدونها بعضهم في أوراق وكناشات. أما تصنيف الكتب فيها فيقال: إن أول من فعل ذلك هو محمد بن مسلم بن عبيد الله المعروف بابن شهاب الزهري، التابعي الفقيه الجليل (؟-124).
9
فقد روى ذلك ابن حجر في شرح البخاري، وقال: إنه فعل ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز وبأمره.
10
ويروى أن الذي فعل ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز هو أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، حين كتب إليه عمر بن العزيز أن يجمع له حديث رسول الله وحديث عمر .
11
ومن قدماء مصنفي المحدثين في هذه الفترة، في الحجاز: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، عالم مكة (؟-150).
12
وفي البصرة: الربيع بن صبيح السعدي البصري
13 (؟-160)، وسعيد بن أبي عروبة العدوي البصري (؟-156).
14
وحماد بن سلمة مفتي البصرة (؟-167).
15
وفي الكوفة: سفيان الثوري الملقب بأمير المؤمنين في الحديث (؟-161).
16
وفي دمشق: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي البعلبكي البيروتي، محدث الشام (؟-157).
17
وفي واسط: شعبة بن الحجاج الأزدي (؟-160)، هشيم بن بشير الواسطي (؟-188).
18
وفي اليمن: معمر بن راشد الأزدي (؟-153).
19
وفي الري: جرير بن عبد الحميد الضبي (؟-188).
20
وفي خراسان: عبد الله بن المبارك المروزي (؟-181).
21
وكتب هؤلاء القوم مفقودة ، وقد دخلت محتوياتها في دواوين الحديث وجوامعه التي صنفت في القرن الثاني. (3) التفسير
عني المسلمون منذ الصدر الأول بتفهم الكتاب العزيز، وتفسير آياته الغامضة والمتشابهة، وكان المسلمون في عهد الرسول والخلفاء الراشدين يسألون النبي الكريم وكبار الصحابة عن المشكل عليهم فهمه من آيات الله لمعرفة غريبها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومقصدها. ولما وجدت دولة بني أمية، واحتاج المسلمون إلى القوانين والأنظمة، رجعوا إلى القرآن والحديث النبوي يستقرئونهما ويستنبطون منهما الأحكام والقوانين، فاحتاجوا إلى تفسير غامض آياته ومفرداته. وكان المحدثون والقراء والفقهاء هم أئمة التفسير في هذا العصر، وقد ظلوا يتناقلون ما حفظ من التفاسير رواية، والمشهور أن مجاهد بن جبر مولى السائب بن أبي السائب المكي (؟-102)
22
المقرئ الإمام المفسر، تلميذ ابن عباس وراويته الذي قرأ عليه القرآن ثلاثين مرة، كما قرأ على أبي هريرة وجابر.
23
ويقال: إن ابن عباس (98) هو أول من ألف في تفسير القرآن، وتفسيره موجود ومطبوع، ولكن يفهم من مقدمة هذا التفسير أنه نقل بالرواية عن ابن عباس.
وللشيعة تفسير قديم ينسبونه إلى الإمام محمد الباقر بن علي بن الحسين، أما تفسير مجاهد المذكور فلا وجود له، ولعله هو تفسير ابن عباس لا مجاهد.
24
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن كثيرا من علوم الإسرائيليين والنصارى قد دخلت في التفاسير؛ لأن العرب كانوا قوما أميين بداة، وقد وجدوا في معلومات أهل الكتاب وأخبارهم ما يغذي نهمهم في تفهم سير الأولين من الأنبياء والملوك، الذين يشير إليهم القرآن الكريم، فطلبوا هذه المعلومات ودس اليهود والنصارى كثيرا من الخرافات بين أقوالهم، وقد لعب كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وغيرهم من علماء اليهود وأحبارهم دورا كبيرا في نشر هذه الإسرائيليات في ثنايا كتب التفسير.
25 (4) الفقه
قلنا في الباب السادس من الفصل الأول: إن الشام كان بعد الفتح الإسلامي، كان مقرا لحركة فقهية نشيطة اقتضتها ظروف إيجاد الدولة في دمشق. وقد كان من أئمة هذه الحركة أبو ذر الغفاري، وعبد الرحمن بن غنم وأبو الدرداء وغيرهم من كبار أئمة المسلمين. ونضيف ها هنا أن الفقه هو علم معرفة أحكام أمره تعالى في أفعال المكلفين من حيث الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة، وقد توسعت دراساته في هذا العهد؛ لحاجة الدولة إليه ولكثرة النوازل والقضايا التي تحل بالمسلمين، ومشاكل شخصية ومعاملات دنيوية وأمور تعبدية. وقد كان القرآن والحديث وإجماع المسلمين والقياس المراجع التي رجع إليها الفقهاء والمجتهدون في وضع أسس التشريع وفروعه، ومن كبار الفقهاء الذين أبلوا بلاء حسنا في هذه الدراسات عبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وهم من جلة الصحابة، ثم خلف من بعدهم خلف من الأئمة المجتهدين، الذين لمع اسمهم في المدينة في العصر الذي نؤرخه وهم: سعيد بن المسيب المخزومي القرشي (؟-94) أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر.
26
وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي القرشي (؟-94) كان يلقب براهب قريش لزهده وفضله.
27
وعبيد الله بن عبد الله بن عبيدة الهذلي (؟-98) فقيه شاعر أدب عمر بن عبد العزيز.
28
وعروة بن الزبير (؟-93) كان إماما عابدا مجتهدا.
29
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (؟-107) وكان فقيها ثقة صالحا.
30
سليمان بن يسار مولى ميمونة أم المؤمنين (؟-107)، كان من شيوخ الفقهاء في المدينة، كان سعيد بن المسيب إذا أتاه مستفت بعثه إليه.
31
وهؤلاء هم أئمة المجتهدين، وعنهم انتقل علم الفقه إلى العالم الإسلامي، وربما عدهم بعضهم عشرة، جمعهم بعضهم بقوله:
32
ألا كل من لا يقتدي بأئمة
فقسمته ضيزى عن الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم
سعيد سليمان أبو بكر خارجة (5) علم الكلام
وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والنقلية، والرد على المبتدعين المنحرفين عن مذاهب السلف، وسر هذا العلم هو التوحيد؛ ولذلك يسمى أيضا (علم التوحيد
33
وأصول الدين)، واعتماد الباحثين فيه على كتاب الله وسنة رسوله وعلم المنطق والفلسفة والأصول، وقد افترق المسلمون منذ زمن مبكر إلى فرق ذات عقائد مختلفة، كل يعتمد في عقيدته على بعض الآيات والحجج. وقد كانت الآيات المتشابهة غير الواضحة أبقى سبب لإيجاد الخلاف وتوسيع شقته، كما أن قضية الخلافة قد لعبت دورا كبيرا في توسيع رقعة الخلاف بين المسلمين، وكان للعقائد القديمة من يهودية ونصرانية ومجوسية وزردشتية ومانوية أكثر فعال في زيادة هذه الاختلافات. وقد نجح في العصر الذي يؤرخ كثير من هذه الفرق كالقدرية والمرجئة الكيسانية وغيرهم ممن مر ذكرهم، ولم يعرف أن أحدا ألف في علم الكلام قبل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة المتوفى سنة 181. (6) الشعر
ارتقى الشعر في هذه الفترة من العصر الأموي رقيا مذكورا، والسبب في ذلك عناية خلفاء الدولة وأمرائها؛ لحاجتهم إليه ولشدة تأثيره في الجماهير، فقد جعله الأمويون وسيلة لإذاعة محامدهم، وتأييد سلطانهم، والطعن في زعماء خصومهم، وقد كان للعصبية أثرها الفعال في شيوع الشعر بين القبائل؛ لأن القبيلة كانت تحتاج إلى الشعر للذود عنها، وإذاعة محامدها، والرد على مناوئيها، كما أن الشاعر كان رسول القبيلة إلى الخليفة ينطق باسمها، ويعبر عن معانيها، فإذا حل هذا الشاعر مكانه وفاز برضاه عدت القبيلة ذلك سموا لمكانتها. وقد استتبع عطف بني أمية على من مدحهم من الشعراء أن يتعصب عليهم من لم يفز بنوالهم وعطاياهم أو من كان يحقد عليهم سياسيا كالخوارج والشيعة والزبيرية والمهالبة.
34
فمن شعراء بني أمية: أعشى ربيعة عبد الله بن خارجة (؟-85)، ونابغة بني شيبان عبد الله بن محارق، وكان من شعراء عبد الملك وله معه أخبار كثيرة، وعدي بن الرقاع من شعراء الوليد، وأبو صخر عبد الله بن سليم الهذلي من شعراء عبد الملك.
ومن شعراء المهالبة: زياد الأعجم (؟-100)، وثابت ابن قطنة بن كعب من شعراء يزيد بن المهلب، وحمزة بن بيض (؟-120).
ومن شعراء الشيعة: الكميت بن زيد (؟-126)، وأيمن بن حزيم الأسدي (؟-86).
ومن شعراء الخوارج: الطرماح بن حكم (؟-100)، وعمران بن حطان (؟-89)، وإسماعيل بن يسار (؟-110).
وهناك شعراء لم يدخلوا في معترك السياسة، بل انصرفوا إلى التشبب والغزل، وأكثرهم في الحجاز كابن أبي ربيعة (؟-93)، وعبد الله بن عمر العرجي، وعبد الله بن قيس الرقيات (؟-75)، وكثير عزة (؟-105)، والأحوص (؟-105)، ومجنون ليلى، وقيس بن ذريح، والأقيشر الأسدي، وليلى الأخيلية وصاحبها ثوبة بن الجمير، وأبو العطاء السندي وغيرهم. (7) الخطابة
كانت الخطابة بالغة أوجها في عهد الراشدين والأمويين؛ لحاجة القوم إليها في حث الناس، وتبين سياسة الدولة ومناهجها، فالخلفاء والأمراء كعبد الملك وعمر بن عبد العزيز وابنا عبد الملك والحجاج وزياد وطارق بن زياد، وقد خلف لنا هذا العصر عددا كبيرا جدا من الخطب البليغة في عباراتها الغنية بأفكارها، وقد جمعت في جمهرة خطب العرب للأستاذ زكي صفوت. (8) علوم العربية
ابتدأت علوم العربية من نحو وصرف وأدب في التكون في هذا العصر. وقد كان العرب قبل أن يختلطوا بالأعاجم ينطقون العربية؛ فيخطون وينطقون سليقة خالصة، فلما اختلطوا بالمسلمين من غير العرب بالفتح والتزاوج فسدت لغة ناشئهم، وأخذ اللحن يظهر على أسلات أقلامهم وفلتات لسانهم؛ مما اضطر رجال الحل والعقد إلى التفكير في إيجاد منحى يقيمون به اعوجاج الألسنة، وقد اختلفت آراء المؤرخين في أول من فعل ذلك، والوقت الذي شرع فيه بذلك، فمنهم من يذهب إلى أن الإمام عليا هو الذي أرشد أبا الأسود الدؤلي إلى بعض القضايا النحوية، وقال له: «انح نحو هذا النحو.» ومنه سمي العلم بالنحو، ومنهم من يقول: إن زياد ابن أبيه هو الذي طلب إلى أبي الأسود وضع النحو. ومهما يكن من شيء، فإن الإجماع يكاد يكون على أن أبي الأسود قد وضع نواة هذا العلم، ويقال: إن أبا الأسود قد وضع نواة هذا العلم، ويقال: إن أبا الأسود قد اطلع على لغة السريان وعرف نحوهم، فقاس عليه النحو العربي.
35
وقد كان أبو الأسود في البصرة، فالتف حوله نفر من شبانها يتعلمون منه الأدب والعربية، ونبغ منهم نفر تمموا ما بدأ به، ويقال: إن أبا الأسود وضع أيضا الحركات الثلاث، وإنه أقعد بين يديه كاتبا ذكيا، وأخذ يقرأ عليه القرآن، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقطه نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت فمي فانقطه نقطة بين يدي الحرف ، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف.
36
فصار الناس من بعده يكتبون القرآن ويضعون هذه النقاط على طريقة أبي الأسود، وربما لونوا النقاط بألوان مختلفة؛ لئلا يختلط الأمر، ثم إن الحجاج بن يوسف رأى ما يحدثه عدم إعجام الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وما إلى ذلك، ففزع إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المختلفة علامات تميزها بعضها من بعض، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفرادا وأزواجا، وخالف في أماكنها، فصار الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا، وكان مع استعمال النقط أيضا يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام فكانوا يتبعون النقط بالإعجام.
37
ثم لما اختلط الأمر على الناس في نقط الإعجام ونقط الحركات، وضعوا الإشارات المعروفة وهي الضمة والفتحة والكسرة (- - -).
38
وقد كان عمل أبي الأسود عملا جد مفيد، أنقذ الناس من اللحن والاضطراب، وقد تمم عمله تلاميذه نصر بن عاصم (؟-89) وعبد الرحمن بن هرمز (؟-93)، وعون الأقرن وعنبسة الفيل، ثم عبد الله بن إسحاق الحضرمي.
39
وأول من بحث في علم الصرف معاذ بن مسلم الهراء (؟-187)، ثم كثر علماء العربية، وانقسم علماء العربية إلى بصريين وكوفيين، وكان لكل منهما آراء ومذاهب مفصلة معروفة، وقامت المناظرات بين البلدين، وأهل البصرة أرسخ قدما وأوسع علما وأولى ثقة، أما أهل الكوفة فأكثر رواية واستشهادا. (9) السيرة والتاريخ
اهتم الناس في هذا العصر اهتماما زائدا بمعرفة سيرة النبي وأحوال غزواته وأخبار الفتوح الإسلامية، وأخذوا يتطلعون أخبار ذلك، ويسمعون للقصاص في المساجد ما يروونه من هذه الأخبار، ويقال: إن أول من ألف في ذلك هو عروة بن الزبير الفقيه المعروف (؟-93).
40
ومؤلف أقدم سيرة نبوية، وأبو مخنف الأزدي مؤلف السيرة النبوية، وأخبار الجاهلية، وعوانة بن الحكم الكوفي (؟-174) مؤلف كتاب في التاريخ العام وسيرة معاوية.
41
وقتادة بن دعامة السدوسي (؟-117) عالم أهل البصرة وأديبها ومؤرخها ونسابها. قالوا لم يكن يمر يوم لا تأتيه راحلة من بني أمية تنيخ ببابه للسؤال عن خبر أو نسب أو شعر.
42
وأبان بن عثمان بن عفان (؟-105) جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة كتابه في سيرة الرسول، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (؟-124) صاحب المغازي النبوية، وموسى بن عقبة (؟-141)، وقد عثر على قطعة من كتابه طبعت (1902)، ومحمد بن إسحاق صاحب سفرتي رسول الله (؟-151)، ووهب بن منبه (؟-110)، وفي خزانة برلين قطعة من كتاب له عن المغازي كتب سنة 228ه، وشرحبيل بن سعد (؟-123)، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم (؟-135) وعاصم بن عمر بن قتادة (؟-120)، ومعمر بن راشد اليماني البصري (؟-150) وجد مسنده نسخة في إستانبول كتبت سنة 363. (10) علوم الأقدمين
ويراد بها علوم الحكمة والأخلاق والفلسفة والطب والرياضيات والفلك والمنطق والكيمياء والصيدلية. وقد كان المسلمون في هذا العصر يترجمون علوم اليونان بواسطة الترجمات السريانية، ثم أخذوا يترجمون عن اليونانية بلا واسطة. وللسريان فضل كبير في إحياء العلوم اليونانية، وكان لمدارس السريان التي أسسوها قبل الإسلام في الرها وقنسرين ونصيبين فضل كبير في تخريج العلماء حتى ما بعد الإسلام. كما كان لمدارس الفرس كمدرسة جنديسابور في خوزستان، وكان العرب يقصدونها للتعليم، ومن طلابها الحارث بن كلدة، طبيب العرب الأشهر. ولما قسا الرومان على العلماء والنصارى هاجروا إلى العراق وفارس، فنشروا علوم اليونان، ولما جاء الإسلام أفاد من خبرة هؤلاء بعد أن تعلموا العربية، واعتنقوا الدين، وترجموا كتب الأقدمين، ولكن ترجماتهم الأولى كانت مشوشة، فاضطر العرب أن يعيدوها ثانية في العصر العباسي، وكان الخلط بين أفلاطون وأفلوطين كثيرا.
وقد كنا قلنا في الباب السادس من الفصل الأول: إن خالد بن يزيد عني بعلوم الأوائل والترجمة، وناقشنا أقوال من ينفي هذه القصة وأقوال مثبتيها. ونضيف هنا أن العلماء أخذوا من العصر الأموي، يهتمون بترجمة علوم الأقدمين، وبخاصة علم الطب والصيدلة والتنجيم والفلك، وقد نقل الناس عن الفرس والروم واليونان والهند والسريان، ومن مشاهير من عرف في هذا العصر الذي نؤرخه ماسرجويه البصري، طبيب مروان بن الحكم، وتيادوق الإغريقي طبيب الحجاج، وينسبون إليه ثلاثة أو أربعة كتب، ولكن لم يصل إلينا شيء منها.
43
وفي عهد عمر بن عبد العزيز أمر بنقل تدريس الطب من الإسكندرية إلى أنطاكية وحران.
44
كما أنه كان يعتمد على عبد الملك الكناني الطبيب ويطلب إليه الترجمة. وقد كان الأمويون يقدمون المساعدات للعلماء والمترجمين كعبد الملك والوليد وعمر، وكانوا يدأبون في إقامة حلقات العلم في المساجد والمحلات العامة ويحضرون بها ويناقشون فيها. (11) التدوين
قلنا: إن تدوين الكتب ابتدأ في عصر معاوية، ولم ينظم أمر التدوين إلا في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي حين ابتدأت الترجمات عن اللغات الأجنبية، ويرى المستشرق «نانلينو» أنه ربما كان كتاب أحكام النجوم لمرقس الحكيم هو أول ترجمة دونت بالعربية. وقال آخرون بل هو كتاب أهرن بن المبين في الطب، وجده عمر بن عبد العزيز في بعض خزائن الكتب، فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه، واستخار الله في إخراجه للمسلمين للانتفاع به، فلما تم له ذلك أربعون صباحا أخرجه إلى الناس.
45
ثم تتابعت الترجمات، وكثر التدوين على يد أمثال عبد الملك بن أبجر الكناني الطبيب العالم الذي كان يقيم في الإسكندرية، ويدرس الطب فيها، فأسلم على يدي عمر بن عبد العزيز، ونقله إلى الشام، ومثل عبد الحميد بن يحيى الكاتب الأديب الأشهر (؟-132)، ومثل جبلة بن سالم، كاتب هشام بن عبد الملك الذي نقل له بعض كتب التاريخ القديم ورسائل أرسطوطاليس، ومثل قيس بن قنان بن متى، كاتب عبد الملك بن مروان وابنه هشام. وقد كان أبوه كاتبا لمعاوية ومترجما، ومثل الحصين بن قيس بن قنان، كاتب مروان، ومثل أسامة بن زيد التنوخي، كاتب الوليد بن عبد الملك، وغيرهم من النصارى الشاميين، الذين اضطلعوا بعبء التدوين في هذه الحقبة. (12) مجالي الحضارة
خطت الأمة العربية في هذا العهد خطوات عجيبة في مضمار الحضارة في المعاش والمسكن والسوق والمدنية، وازدهرت القصور والدور والمساجد والأسواق والمزارع لعناية الأمويين بذلك، وتدفق الأموال عليهم، ويمكننا إجمال القول في ذلك بما يلي:
البناء
عني بنو أمية بالعمران، فشادوا المدن والقصور والمساجد في كافة أرجاء إمبراطوريتهم الواسعة؛ ففي فلسطين ابتنى سليمان بن عبد الملك مدينة الرملة على أنقاض مدينة قديمة، واتخذها مقرا، ولا تزال منارة المسجد باقية إلى أيامنا هذه ، تشهد بإتقان البناء وفخامته.
46
وقد ظلت هذه المدينة - مدينة فلسطين - الرئيسية على الرغم من مكانة القدس الدينية.
47
وفي فلسطين بنى الأمويون مسجد قبة الصخرة، وهو من أروع المساجد زخرفة وفخامة في عهد عبد الملك، كما بنى عبد الملك مسجدا ضخما إلى جانب قبة الصخرة، وهو المعروف اليوم بالمسجد الأقصى، وبمسجد عمر حيث أدى عمر الصلاة.
وفي دمشق بنى الوليد مسجد دمشق الأعظم والمستشفيات الكثيرة. وفي الحجاز وسع الوليد مسجد الحرم المكي ومسجد النبي، وجعلهما من أضخم المساجد. وفي حلب بنى سليمان مسجد حلب الأعظم.
التعليم
عني المسلمون في هذا العصر بالتعليم، وكانت المساجد هي المدارس، يؤمونها لتعليم الكتاب الكريم ورواية الشعر والتراث العربي والإسلامي القديم وعلوم الأمم الأخرى. وفي هذا العصر وجدت الكتاتيب الخاصة لتعليم القرآن والقراءة والحساب لأطفال المسلمين والأميين، ويرجع عهد الكتاب إلى زمن عمر بن الخطاب. ويروى أنه جعل في المدينة رجالا يفحصون المارة، فمن وجوده غير متعلم أخذوه إلى الكتاب.
48
وإلى جانب هؤلاء الكتاتيب وجد نظام التأديب، وهو تعليم الطبقة الأرستقراطية في البيوت، كما وجد نظام تعليم البابوية، وعمر بن عبد العزيز هو الذي فكر في ذلك، وأنفذ المعلمين إلى البادية، ومنهم يزيد بن مالك الدمشقي، والحارث الأشعري، أنفذهما إلى البادية لتفقيه أهلها وتعليمهم.
49
وكما أخذت الحاضرة تبعث إلى البادية رجالا يعلمون أهلها القراءة والكتابة والدين، كذلك كانت البادية تنقل أبناء الحاضرة فتصقل مشاعرهم، وتنمي فيهم روح الفتوة والشباب، وتعلمهم أخبار أجدادهم وأشعارهم، كما كان كثير من البدو الفصحاء الرواة يقصدون الحواضر، كالبصرة والكوفة ودمشق والمربد، فيعلمون الناس، ويروون لهم أخبار الجاهلية وأشعارها.
الفنون الجميلة
اضطر الخلفاء لما أرادوا زخرفة المساجد والقصور والمشافي والحمامات إلى ترويج الفنون الجميلة من نحت وزخرفة وتصوير، ولكن لما حرم الإسلام تصوير الأشخاص فقد روى «البخاري 7: 61»: «أن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون.» وجه الأمويون عناية فنانيهم من رجال الفسيفساء والتصوير والنحت إلى إتقان الزخارف والصور الخالية من الصور الإنسانية أو الحيوانية. وإن في الآثار الباقية إلى اليوم في مساجد دمشق والصخرة وقصر الحير وخربة الفجر والمشتى وقصر عمرة، لوحات رائعة للفن الإسلامي، ولكن يظهر أنهم كانوا يشذون في بعض الأحيان، فيصورون بعض الأناس والحيوانات في قصورهم وحماماتهم.
الموسيقى
كان العرب في الجاهلية - وبخاصة أهل اليمن والحجاز - ذوي ملكات موسيقية، فلما جاء الإسلام وحرم اللهو والعبث غير البريء، انصرف الناس إلى تجويد النواحي الغنائية الباقية من قراءة القرآن والحداد والأناشيد البريئة، وكانوا يستعملون المزاهر والمزامير والدفوف. وكان الرسول والخلفاء الراشدون لا يتحرجون من استماع الغناء البريء العفيف لفظه، فلما جاء بنو أمية، وضربت الدولة بسهم وافر في الحضارة، عني بالموسيقى عناية كثيرة، ونبغ في الحجاز واليمن والشام جمهرة من متقني الغناء، وخاصة في الحجاز، حين أريد إقصاؤه عن مناوأة السياسة والحياة العامة. ومن مشاهير المغنين المسلمين طويس، وهو أول من غنى بالمدينة، ويعتبر أبا الغناء العربي (492)، ويظن أنه أول من غنى مصحوبا بآلات موسيقية، وابن سريج مولى سكينة أحد المغنين الأربعة العظام في الإسلام، وهو الذي أدخل العود الفارسي إلى بلاد العرب، وسعيد بن مسحج من مغني مكة، كان أعظم مغني عصره، فكان في الشام وفارس والروم.
50
وقد كان ببلاط دمشق في عهد الوليد الأول ويزيد الثاني والوليد الثاني جماعة من مشاهير المغنين وعلى رأسهم معبد
51
وابن سريج وحنين الحيري وغيرهم من كبار مغني العراق والحجاز.
52
القسم الثاني: البيت الأموي في المغرب
والأندلس
توطئة
رأيت أنه في سنة 20ه افتتح المسلمون مصر، وما إن وطدوا أقدامهم فيها حتى سار قائدهم عمرو بن العاص غربا، ففتح «برقة» وصالح أهلها على الجزية، ثم سار نحو «طرابلس الغرب»، ففر أهلها من وجهه إلى سفنهم في البحر، ولكنه غنم منهم غنائم كبيرة ثم تركها. وفي سنة «27ه/647م» سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي خلف عمرو بن العاص على ولاية مصر إلى إفريقية في جيش يقارب العشرين ألفا، ومعه فرقة بقيادة عقبة بن نافع، فتمكن من حصار طرابلس وقتل صاحبها غريغوريوس «جرجير»، وأسر ابنته في سنة «28ه/648م»، ثم سار نحو سوفيثولا «سبيطلة»، ففتحها وبث جيوشه حتى بلغت «قفصة»، وعقد الصلح من الأهلين على دفع الجزية، ولم ينشئ حكومة عربية، بل فرض على الأهلين الجزية وعاد إلى مصر بعد أن أبقى حامية عسكرية في برقة.
1
وانشغل العرب عن الاستمرار في الفتح بسبب أحداثهم الداخلية، ونشوب الفتن في آخر عهد عثمان وأوائل عهد الإمام علي، إلى أن آلت السلطة إلى معاوية، وأسس دولته الأموية في المشرق، ثم وجه عنايته إلى فتح المغرب وإتمام فتح إفريقية.
في سنة «45ه/665م» سار معاوية بن خديج التجيبي إلى إفريقية، وهزم الجيش الروماني، وكانت معركة حصن الأجم معركة فاصلة، ثم تفرق الجيش العربي في أنحاء المغرب العربي، فسار عبد الله بن الزبير إلى «سوسة» في بلاد تونس، ففتحها وسار عبد الملك بن مروان إلى العواصم ففتحها، وبعد خمس سنوات قام عقبة بن نافع الفهري بالفتح الأعظم في الشمال الإفريقي حتى بلغ المغرب الأقصى، وهزم جيوش الرومان والبربر، ثم أنشأ مدينته الإسلامية العظمى «القيروان»؛ لتكون قاعدة للدولة العربية في الشمال الإفريقي، ولما بلغ المحيط الأطلسي قال كلمته المشهورة يناجي ربه: «اللهم إني أشهدك أن لا مجاز، ولو وجدت مجازا لجزت.»
2
وهكذا توطد الملك العربي، لولا فتنة كبيرة وقعت كادت أن تطيح به؛ حين ثار أحد أمراء البرابرة المسلمين، ويدعى كسيلة بن لمزم، على الدولة الجديدة وفتك بجيش عقبة وقتله في سنة 62ه، وزحف على القيروان ، وأخرج حاكمها زهير بن قيس البهلوي، فتراجع إلى برقة، وبقي طول الفترة القلقة التي سبقت استخلاف عبد الملك بن مروان، فلما تم الأمر لعبد الملك أمد زهيرا بجيش ضخم، وزحف على كسيلة، فهزم جنده وقتله ودخل القيروان، وبعث أمراء جنده يعيدون البلاد إلى الحكم العربي، ويقضون على البربر الثائرين وبقايا الروم، ولكن الروم انتهزوا فرصة زحف الجيش العربي على المغرب، فاستنجدوا بالإمبراطور يوشنيان الثاني قيصر القسطنطينية (685-695م)، فأمدهم بأسطول من جزيرة صقلية، ونزلوا على الساحل الإفريقي عند مدينة قرطاجنة، ثم استولوا على برقة وطرابلس، وأراد زهير أن يوقف زحف الروم فلم يستطع، وقتل في هذه المعركة. ولما بلغت هذه الأخبار مسامع الخليفة عبد الملك في دمشق قلق لها أشد القلق، وكان يومئذ مشغولا بفتنة عبد الله بن الزبير، فلما انتهى منه بعث حسان بن النعمان الغساني سنة «73ه/662م» مع جيش كبير، فدخل قرطاجنة، عاصمة إفريقية التي لم يفتحها المسلمون قبلا، وحاربوا أهلها وأخلافهم من الروم والقوط والبربر، فدكوا حصونها، وشتتوا شمل الروم في الشمال الإفريقي كله.
وظل حسان في الشمال الإفريقي ينظم شئونه ويرتبه، فوسع «القيروان»، وعمر جامعه الأعظم، وبقي في ولايته إلى أن هلك عبد الملك في سنة 86ه واستخلف الوليد بن عبد الملك، فعزله بموسى بن نصير اللخمي في سنة «89ه/708م».
3
وما إن وطئت قدماه أرض الشمال الإفريقي حتى أخذ ينظم أسطولا ضخما يلقى به الروم، الذين أخذوا يحاولون غزو الشمال الإفريقي بحرا بعد أن فشلوا فيه برا، وما إن أتم عمارة أسطوله أخذ يغزو في البحر، فافتتح من جزائر الباليار جزيرتي ميورقة ومنوزقة، ويعرف هذا الفتح بفتح الأشراف لكثرة من اشترك فيه من أشراف العرب، ثم افتتح ثغر سبتة
Ceuta
وعزم من ذلك الحين على افتتاح ما وراء البحر من بلاد الأندلس.
الفصل الأول
فتح الأندلس1
كانت بلاد الأندلس خاضعة للواندل ثم للقوط، وهم قبائل بربرية قوية زحفت على إفريقية من أوروبا الشمالية، وقوضت أركان الإمبراطورية الرومانية، وأسست دولة في شبه جزيرة إيبريا في نهاية القرن الخامس للمسيح، جعلت عاصمتها «طليطلة». ولم تستطع هذه القبائل إقامة ملك قوي لغلبة روح البداوة عليها، وعدم تمكنها من الامتزاج بالسكان الأصليين امتزاجا صحيحا؛ ولذلك انقسم الناس إلى حكام هم القوط، ومحكومين هم سكان البلاد، وكانت الهوة سحيقة بين القسمين، فأولئك هم أصحاب الإقطاعات والأملاك والخيرات، وهؤلاء هم شبه رقيق، ومن بين هؤلاء وأولئك توجد طبقتان؛ أولاهما طبقة رجال الدين المسيحي الذين يتمتعون بسلطان واسع؛ لأن القوط كانوا نصارى متعصبين، وثانيتهما طبقة اليهود الذين كانوا يتمتعون بالذكاء والعلم والمال، ولكنهم كانوا مضطهدين، تحاول الكنيسة تنصيرهم أو نفيهم أو مصادرة أموالهم، وتقع الفتن والحروب بينهم وبينها، ومن أعنف هذه الحروب والفتن ما جرى في سنة 616م.
هكذا كانت بلاد الأندلس حين استولى العرب على الشمال الإفريقي، وكان ملك القوط اسمه «وتيزا»، ويسميه العرب «غيطشة»، ينافسه على الملك الأمير «رودريك» الذي يسميه العرب «الذريق»، فلما كانت سنة 711م هلك «وتيزا»، واستقل «ردريك» بالبلاد، وكان موسى بن نصير يرقب الأمور عن كثب من الجانب الإفريقي، فبعث مولاه طريفا على رأس خمسمائة مقاتل في سنة 710م، فاحتلوا شبه الجزيرة المعروفة اليوم باسم جزيرة «طاريقا»، وهي آخر نقطة جنوبية من القارة الأوروبية. وفي سنة «92ه/711م» بعث مولاه طارق بن زياد الليثي في سبعة آلاف مقاتل، فاحتل سفح الجبل المعروف باسمه اليوم، واشتبك مع جيوش ردريك في تموز من تلك السنة على شاطئ بحيرة «جاندا»، وانتصر طارق، وتقحم المسلمون بلاد الأندلس حتى بلغ العاصمة طليطلة، فافتتحها وبعث أمراء جنده يفتتحون العواصم فسيطروا على غرناطة، وقرطبة، وأستجة، ومالقة، واستطاع في فترة ستة أشهر أن يستولي على نصف شبه الجزيرة، ويقضي على دولة القوط في موقعة شذونة ويديل دولتهم التي دامت ثلاثة قرون، ثم تلقى طارق أوامر من مولاه موسى بوقف الفتح خوفا على المسلمين؛ لأنه كان قد أمره ألا يتجاوز قرطبة، فرأى موسى أن ينجده بنفسه، فسار على رأس عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر يحملهم أسطول عظيم، ولما وصلوا «الجزيرة» استقبلهم الكونت أليان (يوليان) في رمضان سنة 93ه/حزيران 712م، ثم زحف موسى، فاستولى على شذونة و«قرمونة»، وهي من أمنع معاقلهم، و«إشبيلية» وهي من أعظم قواعدهم و«ماردة»، ثم التقى بطارق فأنبه أشد تأنيب على مخالفته أوامره وزج به في السجن.
2
ثم أفرج عنه، ونظم معه خطة فتح سائر شبه الجزيرة، فافتتحا ولاية «أراجون» في الشمال الشرقي، ثم استوليا على «سرقسطة» و«طركونة» و«برشلونة»، وبعد هذا الفتح افترقا، فسار طارق نحو المشرق؛ ليفتح «جيليقية» التي تجمعت فيها فلول القوط، وسار موسى نحو الشمال، فاخترق جبال البرانس، واستولى على «قرقشونة» و«أربونة» و«لوطون».
3
وعزم على أن يخترق أوروبا، فيزحف على مملكة الفرنج «فرنسة»، ثم على مملكة اللنبرد «لومبارديا»، ثم يدخل رومية «روما»، ويقضي على كرسي النصرانية الأعظم، ثم يخترق سهول الطونة «الدانوب»، ثم أراضي الدولة البيزنطية، ويستولي على العاصمة «القسطنطينية»، ثم يخترق آسية الصغرى حتى يصل إلى دمشق.
4
وكانت أخبار فتوحه قد بلغت هذه الممالك، فاضطربت له أشد الاضطراب، وعزمت على الاستسلام، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك في دمشق خاف على جيشه من مغبة هذه المغامرة، فكتب إلى موسى ينهاه عن الإقدام على توغله ويستدعيه إلى دمشق، فتراجع موسى عن عزمه وهو غاضب مكره؛ لعلمه بضعف الغرب عن الوقوف أمامه، ولعل السبب الذي حدا بالخليفة إلى استدعائه هو ما بلغه عن موسى وطارق من الخلاف، وتخوفه من أن تتوسع شقة الخلاف بينهما في تلك المجاهل، فخضع موسى لأمر الخليفة بعد أن نظم إدارة البلاد، وجعل حاضرتها «إشبيلية» لاتصالها بالبحر. وقد كانت حاضرة أيام الرومان، واستخلف عليها ولده الأمير عبد العزيز، كما استخلف على المغرب ولده الثاني الأمير عبد الملك، وولده الثالث عبد الله على إفريقية، ثم سار نحو دمشق في ذي الحجة سنة 95ه/آب 715م، ومعه أبناء ملوك الأندلس وأمراؤها ونفائس تحفها، ولما دخل دمشق كان الخليفة يقاسي مرض الموت، وما لبث أن مات وخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك، فاستدعى موسى وطارق، وسمع من طارق ما فعله موسى بطارق، فغضب عليه وزج به في السجن، وفرض عليه غرامة فادحة لم يستطع إعطاءها فصادر أمواله، ثم اضطره إلى الرجوع إلى الحجاز، فقضى أيامه الأخيرة فقيرا إلى أن مات سنة 97ه.
5
أما طارق فتزعم الروايات أن سليمان أراد أن يبعث به أميرا على الأندلس ولكنه لم يفعل، بل أبقاه إلى جانبه في دمشق لما علم من طموحه، وتسكت الروايات العربية عن خاتمة حياته رحمه الله.
ولما توطدت أقدام المسلمين في الأندلس عمدوا إلى نشر الدين، وإحياء روح العلم، وتنمية الزراعة والتجارة، والإحسان إلى أهل الذمة؛ فازدهرت البلاد أيما ازدهار في فترة قصيرة. قال المؤرخ الإنكليزي لين بول: «أنشأ العرب حكومة قرطبة التي كانت أعجوبة القرون الوسطى، بينما كانت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهل، فلم يكن سوى المسلمين من أقام بها منائر العلم والمدنية، وما كان المسلمون كالبربر من القوط أو الواندل، يتركون وراءهم الخراب أو الموت، بل إن بلاد الأندلس لم تشهد قط أعدل من حكمهم ولا أصلح من حكامهم، ومن العسير أن نتعرف إلى الخبرة الحقيقية الفائقة التي وصل إليها العرب في الأمور الإدارية، فقد خرجوا من الصحراء القاحلة إلى الغزوات المقدسة، ولم يفسح لهم سيل الفتح مجالا للدرس، ولا وقتا لمراس الإدارة في الأمم المفتوحة ...»
6
ويقول المؤرخ الأميركي سكوت: «... إن في أقل من أربعة عشر شهرا استطاع العرب أن يقضوا على مملكة القوط تماما، وفي أربع وعشرين شهرا، وطدوا سلطانهم ما بين البحر الأبيض المتوسط وجبال البرانس، ولا يذكر لنا التاريخ مثلا آخر يشبه هذا المثل الذي اجتمعت فيه السرعة والكمال والرسوخ. وقد كان يظن في البداية أن الفتح العربي إنما هو غزو مؤقت، ولا يتوقع أن يكون احتلالا دائما وتوطيدا لحضارة، ولكن لما استقرت الجماعات المحتلة، وفتحت الثغور للتجارة، وأقيمت المعاهد، أدرك القوط أي خطب نزل بهم، ثم إن عدل الحكام الجدد خفف عليهم من ألم الهزيمة، وكان دفع الجزية يضمن لأقل الناس الحماية الكاملة، كما كان يسمح للنصراني المتعصب أن يستمر في أداء شعائر دينه ، ويسمح للمارق الملحد أن يجاهر بآرائه دون أي خوف. أما أقوال بعض المؤلفين النصارى المتعصبين التي ينسبون فيها التعصب والظلم للعرب فهي مبالغة محضة، أو افتراء صريح ...»
7
وقد قسم العرب بلاد الأندلس على ضوء تقسيمها الروماني والقوطي إلى خمس ولايات، يرأس كلا منها حاكم محلي، يسميه الحاكم العام الذي يسميه حاكم إفريقية الشمالية بموافقة خليفة دمشق، وكانت «الولاية الأولى» تشتمل على إقليم الأندلس الممتد من البحر الأبيض المتوسط ونهر الوادي الكبير حتى وادي آنة، وأشهر مدنه قرطبة وإشبيلية ومالقة وأستجة وجيان.
وكانت «الولاية الثانية» تشتمل على إسبانية الوسطى من البحر إلى حدود البرتغال ونهر دورو، وأشهر مدنها طليطلة على نهر تاجة، وقونقة، وسقوبية، وبلنسية، ودانية، ولقنت، وقرطاجنة، ويورقة، ومرسية، وبسطة.
وكانت «الولاية الثالثة» تشتمل على إقليمي جبليقية ولوزبتانية، وأشهر قواعدها ماردة، ويابرة، وباجة، وإشبونة، وقلمرية، ولك، واسترقة، وشلمنقة.
وكانت «الولاية الرابعة» تشتمل على الأرض الممتدة من نهر دورو إلى جبال البرانس «البرت» على ضفتي نهر إبرة، وأشهر قواعدها سرقسطة، وطرطوشة، وطركونة، وبرشلونة، وأرقلة، وبلد الوليد، ووشقة.
أما «الولاية الخامسة» فتشتمل على المقاطعات الواقعة شمالي جبال البرانس، وأشهر مدنها أربونة، ونيمة، وقرقشونة، ويزيية، وأجدة، ولوديف.
وقد نزلت القبائل العربية في هذه الولايات كل واحدة في البقعة التي أعجبتها، فنزل أهل دمشق بقرطبة، وأهل حمص بإشبيلية، وأهل حلب وقنسرين بحيان، وأهل فلسطين بشذونة والجزيرة ومالقة، وأهل اليمن بطليطلة، وأهل العراق بغرناطة، وأهل مصر بماردة وإشبونة، وأهل الحجاز بالمدن الداخلية، وأهل فارس بشريش.
8
وقد أسلفنا أن موسى بن نصير قد سمى ولده عبد العزيز لحكم الأندلس، وقد أقره الخليفة سليمان بن عبد الملك على هذه التسمية، فكان صالحا في إدارته، إلى أن ثار عليه وزيره حبيب بن أبي عبدة العمري، وقتله وهو في صلاته سنة «97ه/716م»، وبعث برأسه إلى دمشق تقربا من الخليفة الذي نظن أنه هو الذي دبر له هذه المؤامرة، وبعد اغتياله اتفق زعماء القبائل العربية على تولية أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير، وكان عاقلا مصلحا ، نقل العاصمة من إفريقية إلى قرطبة، ولم يلبث طويلا في ولايته حتى أقاله محمد بن يزيد الذي بعث به الخليفة إلى إفريقية بعد أن عزل عبد الله بن موسى بن نصير في سنة 97ه، فأرسل محمد بن يزيد حاكما جديدا على الأندلس هو الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فسار نحو الشمال الذي كان مهددا، ووطد الحكم فيه، وسار حتى بلغ نهر الغارون في فرنسا، وسار بالبلاد أحسن سيرة إلى أن عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز في سنة «100ه/719م» لقسوته، وولاها السمح بن مالك الخولاني، وقرر أن تكون الأندلس ولاية مستقلة عن إفريقية لأهميتها وسعة رقعتها، وأوصى السمح بحسن السيرة والعدل فلم يخلف ظنه، وخمس أراضي الأندلس التي فتحت عنوة؛ أي إنه مسحها، وقرر عليها الخراج بنسبة الخمس كما يقضي بذلك الدين، وبنى كثيرا من القناطر والجسور وأشهرها قنطرة قرطبة على نهر الوادي الكبير، وغزا بلاد الفرنج حتى بلغ طولوشة «طولوز»، فالتقى بجيش الدوق أودو ظاهر طولوشة، ونشبت بينهما معركة هائلة سقط السمح فيها قتيلا سنة «102ه/721م»، فاختار الجند أحدهم وهو عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي للقيادة العامة، فوطد الأمور حتى قدم عنبسة بن سحيم الكلبي، الذي سماه بشر بن صفوان الكلبي أمير إفريقية واليا على الأندلس في سنة «103ه/722م»، فنظم إدارة البلاد وأحسن إدارتها إلى أن مات في سنة «107ه/725م». وتوالى على الأندلس عدة ولاة إلى أن تولاها عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في سنة «113ه/731م»، فأحسن السياسة والإدارة والحكم، وجمع جيشا عظيما سيره إلى فاليسيا (فرنسا) في سنة «114ه/732م»، فاحتل بلاد أراغبون وناقار وآرل، حتى وصل إلى نهر الغارون، ووصل إلى مدينة بردال (بوردو) فاستولى عليها، ثم زحف نحو «ليون» و«بيزانصون» و«صالصن» التي تبعد مائة ميل عن باريس، وسيطر على نصف بلاد غاليسيا (فرنسا) في بضعة أشهر، إلى أن كانت المعركة الحاسمة بين الإسلام والنصرانية بأوروبا سنة «114ه/732م» في السهل الواقع بين مدينتي «تور» و«بواتيه»، ولم يستطع المسلمون الوقوف أمام جحافل أوروبا بقيادة قارله «كارل مارتل»، فسقط عبد الرحمن الغافقي شهيدا في سنة «115ه/733م»، وفقد العرب سيادة العالم القديم، ولم يتح لهم النفاذ إلى قلب أوروبا بعد يوم «بلاط الشهداء»، وهو اليوم الذي قتل فيه الغافقي - رحمه الله - فلما بلغت أخبار ذلك اليوم المشئوم إلى دمشق تأثر الخليفة هشام بن عبد الملك، وعزم على أن يرسل إلى الأندلس خير قواده، ويعمل على توطيد أقدام الإسلام في هاتيك الديار، فأرسل عبد الملك بن قطن الفهري، وكان من خيرة القادة الحازمين؛ فوطد أقدام الدولة، وأخمد ثورات المناطق الشمالية، ثم خلعه عقبة بن الحجاج السلولي في سنة «116ه/734م»، وكان حازما حسن السيرة فقطع دابر الثوار، ونظم أمور الجيش، واسترد كثيرا من الأراضي الخاضعة لكارل مارتل، وأعاد ظل الإسلام عليها طول عهده إلى أن مات في سنة «122ه/739م»، فلما مات اضطربت البلاد، وثار البربر وخاشنوا العرب ، ووقعت فتن بينهم وبين العرب في الأندلس وإفريقية، وعزم الخليفة هشام على القضاء على هذه الفتن مهما كلفه الأمر، وكانت موقعة كبيرة بينهم وبين حنظلة بن صفوان الكلبي، والي إفريقية في سنة «125ه/742م»، ولم تنته هذه الاضطرابات إلا بانتهاء عهد الولاة، وتأسيس الملك الأموي في الأندلس.
الفصل الثاني
الدولة الأموية في الأندلس
فترة الإمارة
في الوقت الذي كان بنو العباس يستولون فيه على الملك من بني أمية في المشرق كان زمام أمر الأندلس منذ سنة 127ه بيد قوية، هي يد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، الذي أراد فرض نفوذه على هذه الديار والقضاء على الخوارج والبربر، ولعله كان يرمي إلى الاستقلال بالأندلس بعد أن رأى الدولة الأموية تنهار، وتحل محلها الدولة العباسية، وبينا كان يعد العدة لذلك؛ إذ فوجئ بمقدم أحد أفراد البيت الأموي يفلت من أيدي العباسيين، ويدخل الأندلس عن طريق إفريقية في «ربيع الآخر سنة 138ه/أيلول سنة 755م»، فرحب به أهل الجنوب والمغرب، وكل من في الأندلس من المضرية واليمنية وأهل الشام، وخاف يوسف بن عبد الرحمن الفهري مغبة الأمر، فجمع جموعه وزحف نحو جيوش عبد الرحمن، فتلاقى الجمعان، وقتل عدد كبير من جنود الفهري، وتم النصر لعبد الرحمن، ودخل قرطبة فبايعه الناس بالإمارة في ذي الحجة سنة 138، وعمل على توطيد الأمور ولم يكن عمره يومئذ يتجاوز السادسة والعشرين؛ فأحسن السياسة والإدارة، وقضى بقية ملكه الذي هو اثنتان وثلاثون سنة في كفاح وجهاد، حتى قضى على الثوار والخوارج من أهل البلاد، وعلى الأعداء والكفار من خارجها، وثبت أركان دولة جديدة لبني أمية.
شجرة الدولة الأموية الأندلسية في فترة الإمارة
وكان أول ما اهتم به بعد أن استقرت له الأمور بعض الاستقرار أنه تتبع فلول خصومه في الداخل فقضى عليهم، وفي طليعتهم يوسف الفهري. وفي سنة «162ه/777م» ائتمر بعض خصومه - وفي طليعتهم صهر يوسف الفهري - على إعلان ثورة عارمة، وتعاقدوا مع شارلمان ملك الفرنجة على أن يزحف هو على الأندلس، وأن يشدوا أزره، فزحف في سنة 778م، وبلغ حدود سرقسطة، ولكن عبد الرحمن اضطره على التراجع، وقتل عدد كبير من قادته، وفيهم القائد رولان الذي دافع دفاعا قويا خلد ذكره في القصائد الأدبية المعروفة بقصائد رولان الفرنسي
Chanson de Roland
التي تعد من أقدم الشعر الكلاسيكي وأعرقه.
وما إن قضى عبد الرحمن على خصومه حتى انصرف إلى تأسيس دولته الجديدة على قواعد صحيحة وقوية، إلى أن مات في «ربيع الآخر سنة 172ه/تشرين الأول سنة 787م»، بعد أن حكم الأندلس ثلاثا وثلاثين سنة، فخلفه ولده هشام، وسار على غرار أبيه في تنظيم شئون الدولة الزاهرة القوية، وكان حازما عاقلا عادلا، قوي الإرادة، متين العقيدة، متحمسا في دينه، أحسن تصريف الأمور إلى أن توفي سنة «180ه/796م»، فخلفه ولده الحكم بعهد أبيه، وكان شديدا طاغية جبارا ميالا إلى اللهو إلا أنه كان مع ذلك يتمتع بكثير من صفات الحكم كالعدالة، والحزم والدهاء، وقد اكتشف في سنة «189ه/805م» مؤامرة واسعة، دبرها رجال الدين لخلعه، فقد ضاقوا بلهوه ذرعا، وفي طليعتهم الأئمة يحيى بن يحيى الليثي، وعيسى بن دينار فقيه الأندلس، وطالوت الإمام المالكي، وقد أعانهم في هذه المؤامرة نفر من الأعيان والوجوه كمالك بن يزيد التجيبي، وموسى بن سالم الخولاني، وعيسى بن عبد البر، وأخيه أبي كعب، ويحيى بن مضر القيسي، وعلى رأسهم بعض بني أمية وهم عمه مسلمة المشهور بكليب، وأمية بن عبد الرحمن، ومحمد بن القاسم المرواني، ولكن الحكم اكتشف مؤامرتهم ففر قسم منهم، وتمكن من قسم ففتك بهم وصلبهم، ولكن العامة غضبت لهذا التصرف الجائر، وثارت في «الربض» بزعامة أحدهم واسمه دبيل، فتمكن الحكم منهم وسحقهم دون ما رحمة، وهدأت الثورة إلى حين ثم ثاروا ثورة عنيفة أذهبت عددا من الضحايا، وهي التي تعرف بثورة الحفرة في «191ه/807م». ثم التفت الحكم إلى تهيئة جيش كبير لغزو الفرنجة في الشمال، فأرسل عليهم عدة حملات كان آخرها حملة سنة «200ه/815م»، فقد سير الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى جيليقية، وكان الجلالقة وأخلافهم من الباسك «البشكنس» يفسدون الحرث والنسل، فتوغل عبد الكريم في ديارهم وهزم جيشهم.
1
وفي أواخر عهد الحكم قامت ثورة داخلية عنيفة في ربض قرطبة، كادت أن تطيح بعرشه لطغيانه وشدته، وكان من ورائها الفقهاء، ونفر من الأعيان وعدد كبير من المولدين، وهم سكان البلاد الأصليين الذين أسلموا، ولكنه تمكن من زعمائهم وصلبهم في سنة «202ه/817م»، وقضى على روح الثورة، واجتث جذورها بكثرة من فتك بهم، فهدأت له الأمور إلى أن أدركه الأجل في سنة «206ه/822م»، فخلفه ابنه عبد الرحمن الثاني وله من العمر 31 سنة، فقام بالأمر أحسن قيام، وبعث عدة حملات عسكرية إلى جيليقية وبسكونية وغاليسيا، وقضى على عدة ثورات داخلية قام بها مناوئوه من المولدين والثوار، وجهز عدة أساطيل لغزو «الباليار»، فأخضع أهله لحكمه وغزا سواحل إيطاليا وفرنسا، وقضى على كثير من الفتن الداخلية وشيد كثيرا من المعاهد والمدارس، وأحيا العلوم والآداب وازدهرت البلاد في عهده إلى أن هلك في سنة «238ه/852م»، وله واحد وستون عاما؛ فخلفه ابنه محمد (238-273ه/852-886م)، فلم يكن في عهده شيء بارز. ثم لما هلك محمد خلفه ولداه المنذر (273-275ه/886-888م)، ثم عبد الله (275-299ه/888-912م)، ولم يكن في عهدهما ما يستحق الذكر، كما أنهما لم يكونا متصفين بشيء من الصفات النادرة، التي كان البيت الأموي يتصف بها من إدارة وحزم وسياسة ودهاء وكياسة، وقد ظهرت في عهدهما بعض الفتن الداخلية الكبيرة، وتآمر عبد الرحمن الثالث على جده الخليفة عبد الله مع الحجام، فسمه بمبضع الفصاد
2
فقتله وتولى الخلافة بعده، وقامت في عهد محمد وعبد الله عدة ثورات داخلية، وانفصلت بعض المقاطعات عن الدولة معلنة استقلالها؛ كمقاطعة ألرية الجبلية وعاصمتها مدينة أرجذونة، حتى عقد صاحبها معاهدة استقلال مع الخليفة محمد لقاء جعل من المال.
واستقلت مقاطعات أرغونة وسرقسطة وتطيلة، وتعهد أصحابها بنو القسي، وهم من القوط المسلمين بدفع مبلغ من المال لقاء استقلالهم، وتعاهدوا مع جيرانهم من الفرنجة في غاليسيا، وانفصلت مقاطعة طليطلة بقيادة أصحابها بني ذي النون البربر، كما انفصلت مقاطعة إشبيلية تحت زعامة بني الحجاج، الذين ينتسبون إلى سارة حفيدة غيطشة آخر ملوك القوط. واستقلت مقاطعتا ماردة وباحة تحت إمرة عبد الرحمن بن مروان الجليقي، كما استقلت قرطبة وما حولها بزعامة الأمير ابن حفصون، وهو أحد نبلاء القوط، الذين تظاهروا بالإسلام، وتغلبوا على قسم كبير من البلاد.
وقد أحس المسلمون في أواخر عهد الأمير عبد الله أن البلاد قد تجزأت، وأنها آخذة في الاضمحلال، وتحتاج إلى أمير كبير ينظم أمورها ويوحدها، فكان عبد الرحمن الثالث هو ذلك الرجل المنشود.
الفصل الثالث
الدولة الأموية في الأندلس
فترة الخلافة
تولى عبد الرحمن الثالث الإمارة في وقت عصيب، وكان عمره 23 سنة، ولكنه كان يتمتع بمزايا جليلة؛ فنشط لاسترجاع الأمصار والمقاطعات المستقلة، ووسع الفتوحات الإسلامية، وأخذ يعد العدة لخصومه في الجنوب من الفاطميين، وفي الشمال من الفرنج، فحمل على أنصار الخلفاء الفاطميين في شمال إفريقية، واستولى على قسم كبير من الأراضي التي ألحقوها بدولتهم، وغزا موانئهم بأسطوله الضخم الذي ضاهى أسطولهم، وبعث بجيوشه نحو الشمال، فغزا بلاد الباسك (البشكنس)، واستولى على كثير من قلاعهم، واستولى على بلاد «تافار».
شجرة الدولة الأموية الأندلسية في فترة الخلافة
ولما تم له ذلك السلطان الواسع رأى أن الخلفاء العباسيين قد اضمحل نفوذهم وكثر منافسوهم، وبخاصة حين قوي الفاطميون ونازعوهم الخلافة، فرأى وهو ابن الخلائف الأمويين أن يعلن خلافته، واتخذ لنفسه لقب «الناصر لدين الله»، وكان ذلك في «ذي الحجة 316ه/كانون الثاني سنة 929م».
وبعد أن أعلن خلافته انصرف إلى توسيع رقعة الدولة ونشر راية الإسلام في كثير من الأراضي التي طوي علمه فيها، أو التي لم ينشر فيها أجيالا، فحارب الملك راميرو الثاني ملك ليون، كما حارب الأميرة طوطة أرملة شانجة الكبير، أميرة بلاد النافار، ولم يستطع التغلب عليهما أول الأمر، ولكنه تمكن بدهائه وحزمه أن يخضعهما.
1
وشرع في بناء كثير من المعاهد والقصور الفخمة التي تليق بالخلافة كقصر الزهراء العظيم، وأصبحت قرطبة في عهده أجمل مدن أوروبا، بل من أجمل مدن العالم، ولا تكاد تضارعها في ذلك مدينة سوى بغداد، ولم تعرف قرطبة عهدا بلغ فيه غناها وثروتها وفخارها وفخامتها مثل عهد عبد الرحمن الناصر، ولا بلغت الدولة الأندلسية في عهد من عهودها الزاهرة ما بلغته في عهده من الفخامة والجاه، والسلطان، والبناء، والرقي، والعلم، والحضارة.
فلما مات خلفه الحكم الثاني (961-976م) وتلقب بالمستنصر بالله، وكان أحسن سيرة وعدلا من الناصر، وفي زمانه حاول الأمير «أرذون» استعادة عرش مملكته ليون فلم يفلح، وانصرف المستنصر إلى الإصلاح والعمران وبعث البعوث، وبناء الدور والقصور، وإشادة الجوامع والجامعات، وفي عهده ازدهرت جامعة قرطبة التي أسسها عبد الرحمن الثالث أيما ازدهار لما كان يتمتع به من حب العلم، ورعاية أهل الفكر، ولم يضارعها في العالم جامعة سوى جامعة المدرسة النظامية في بغداد، وجامعة الجامع الأزهر في القاهرة.
ولما مات خلفه ابنه هشام الثاني (976-1009) وتلقب بالمؤيد، وكان طفلا لم يتجاوز الثانية عشرة، فكانت أمه السيدة صبيح البشكنسية الأصل «الباسكية» هي المصرفة للأمور، وكان مولاها وكاتم سرها محمد بن أبي عامر المعافري هو المتولي لإدارة الدولة، فاستبد بالأمر وبدا له أن يحجز الخليفة ففعل ، وترك قصر الزهراء وابتنى لنفسه قصرا خارج قرطبة سماه «المدينة الزاهرة»، وتقرب من الفقهاء والشعراء والأعيان فأحبوه، ونظم الجيش، وغزا به واتخذ لنفسه لقبا هو «المنصور بدين الله»، وظل على هذا الديدن من السلطان حتى هلك في إحدى غزوات الفرنجة، وهي غزوة مدينة قشتالة (كاستيل) وهي الغزوة السادسة والخمسون من غزواته الموفقة.
2
فلما مات الحاجب المنصور بدين الله في سنة 1002م وكان هو القوة الناظمة لشئون الدولة، والمحرك الحقيقي لجهازها، والدكتاتور المطلق في أمورها وأعمالها الإدارية والثقافية والعمرانية والحربية، وبموته خلت الساحة، وظلت الأندلس طوال قرابة قرن مسرحا للطامعين من العرب والبربر والصقالبة والقوط، على الرغم من أن الحاجب المنصور كان قد سمى ابنه عبد الملك المظفر خلفا له فجعل الحجابة وراثية، ولكن المظفر بن المنصور لم يستطع أن يملأ فراغ أبيه على ما كان عليه من الصفات إلى أن مات في سنة 1008م مسموما، فخلفه على الحجابة أخوه عبد الرحمن بن المنصور، وكان أهوج أخرق، فأعلن أنه صاحب الحق في الخلافة، وثار الناس عليه لذلك، ولم يكن الخليفة قويا ليستطيع أن يضعه عند حده، وكان الحكام الحقيقيون هم الأجناد ومتغلبة الوجوه من أهل قرطبة أو الصقالبة أو البربر أو القوط، إلى أن انتهى الأمر بتنازل هشام عن الخلافة لابن عمه محمد في سنة 1009م فتلقب بالمهدي، فلم يكن أحسن سيرة من ابن عمه؛ فقد كان مهملا سكيرا، فخلع بعد فترة قصيرة، ثم استخلف ابن عمه سليمان، ثم ابن عمه عبد الرحمن الرابع، ثم ابن عمه عبد الرحمن الخامس، فكانوا كلهم ضعافا مغلوبا على أمرهم يستخلفون ويخلعون، وقد عرف ثلاثة منهم بأنهم ولوا الخلافة غير مرة وخلعوا عنها غير مرة، وبويع أحدهم (هشام الثاني) مرتين وخلع مرتين ثم ضاع! أما عبد الرحمن الخامس الملقب بالمستظهر بالله فكان على الرغم من سذاجته خليفة صالحا، وقد استطاع وزيره العالم الفقيه ابن حزم الأندلسي أن يرفع من شأنه بين العامة بعض الشيء، ولكن ما لبث أن ساءت سيرته فيهم، فثاروا عليه فاختبأ منهم وتعقبوه، فهرب من قميم حمام، وأخرج وهو في قميص مسود وعلى شكل مزر، فجيء به إلى محمد الثالث الملقب بالمستكفي وضربت عنقه بين يديه، ولم يكن محمد المستكفي أصلح من أسلافه، فقد كان همه منصرفا إلى الطعام والنساء، ولم تكن نهايته أحسن من نهاية سلفه، فقد ثار الناس عليه وخرج متزييا بزي النساء، وانتهى به المطاف أن سمه بعض حاشيته سنة 1025م، وتغلبوا على البلاد، وضاع شأن الخلافة، إلى أن كانت سنة 1027 فظهر أحد أبناء هذه الأسرة، وهو هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر فاستعاد عرش الأمويين، وتلقب بالخليفة المعتد، ولكنه لم يستطع أن يمتلك زمام الأمور، فضاق أهل قرطبة بالخلافة والخلفاء وخلعوه في سنة 1031م، وهكذا انقضى عهد الخلافة الأموية في الأندلس، وتولى الأمر ملوك الطوائف في المقاطعات.
الفصل الرابع
فترة الطوائف
انقضى عهد الخلافة الأموية في الأندلس، وقامت على أنقاضها طوائف متعددة، تشكل دويلات صغيرة في شبه الجزيرة كلها؛ فقرطبة وما إليها تحت تصرف بني جهور، وإشبيلية ومقاطعاتها تحت سلطان بني عباد، وغرناطة وما حولها تحت إمرة بني زيري من البربر، وغرناطة وجوارها تحت إدارة وزير يهودي يسمى إسماعيل بن نغرالة «صمويل بن نجزيله»، ومالقة والمقاطعات المجاورة لها تحت إدارة بني حمود، ثم انتقلت إلى بني زيري، وطليطلة تحت إدارة بني ذي النون البربر، وسرقسطة وما حولها خاضع لحكم بني هود.
وهكذا تفسخت بلاد الأندلس، تفرق أهلها مذاهب وأحزابا، وكان النفوذ البربري هو الغالب، بينما أخذ ظل السلطان العربي ينزوي. ومما هو جدير بالذكر أن الإسلام إنما استطاع أن يثبت في الأندلس بعض الوقت على الرغم من تناحر أهله، فما ذلك إلا لتناحر خصوم المسلمين من قادة النصرانية وملوكها، وأنهم حين استطاعوا توحيد كلمتهم استطاعوا ضرب الإسلام في الصميم، وقضوا على آخر معاقله في شبه الجزيرة.
وليس في تاريخ هذه الأسر المتغلبة ما يستحق الذكر، كما أنه ليس من بينها أسرة يجدر أن نعنى بها إلا أسرة بني عباد أصحاب إشبيلية.
وبنو عباد قوم من العرب الخلص، ينسبون إلى المناذرة اللخميين، نبغ منهم في إشبيلية قاض ذكي ألمعي داهية وهو القاضي أبو عباد محمد بن عباد، وكان له سلطان واسع في سنة 1023م، فلما مات في سنة 1042 خلفه ابنه عباد، وكان مثل أبيه دهاء وعبقرية، فاستطاع أن يستولي على كثير من الأمراء المتغلبين الذين يجاورونه من المسلمين، واستطاع أن يتجنب ضربات الملك فردلند (فرديناند) صاحب قشتالة وليون، ولقب نفسه بألقاب الخلفاء فتسمى بالمعتضد، وتوسع ملكه وعظم سلطانه حتى توفي سنة 1069م، فخلف لابنه محمد المعتمد دولة ضخمة واسعة الأرجاء تشتمل على جميع القسم الجنوبي الغربي من الأندلس. وفي سنة 1071 استطاع أن يضم إقليم قرطبة إلى ملكه. ولما مات فردلند خلفه ابنه ألفونس السادس، وكان عنيفا شديدا لم يقبل من المعتمد الجزية التي كان يعطيها لأبيه، وأصر على اقتحام بلاد المعتمد، فاستولى على طليطلة، وسار نحو الجنوب حتى بلغ جزيرة طريف، واستنجد المعتمد ببعض الأمراء المسلمين في الأندلس فلم ينجدوه، وتمكن منه ألفونس، وأخذت دول الطوائف تسقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي النصارى إلى أن قضي عليها جميعا، فتراجع الإسلام إلى شمالي إفريقية، وظهرت فيه بعض الدول القوية، وكانت أعظمها دولة المرابطين، وزعيمهم يوسف بن تاشفين البربري، فرأى المعتمد أن يستنجد به، فبعث إليه بكتاب مطول يرجوه فيه أن ينتقم للإسلام من النصرانية، ويعينه على حرب ألفونس.
1
فقدم يوسف بجيش لجب، والتقى الجمعان عند الزلافة
Sacralias
بالقرب من مدينة بطليوس في تشرين الأول سنة 1086م، وفتك يوسف وجنده بألفونس وجنده شر فتك، ولم ينج ألفونس من القتل إلا بأعجوبة، وسر المسلمون بهذا الظفر، ورجع المرابطون إلى شمال إفريقية، ولكنهم لم يلبثوا فيها فترة حتى طمعوا في خيرات الأندلس، واستطابوا أرضها وثمراتها، فزحفوا عليها فاتحين لا منقذين، واحتلوا غرناطة سنة 1090م، ثم احتلوا إشبيلية سنة 1091، ثم استولوا على أكثر مدن الأندلس، ونفوا المعتمد بن عباد إلى شمال إفريقية، واعتقلوه مكبلا بالحديد في سجن أغمات حتى مات سنة 1095م، وبموته استتبت الأمور في الأندلس لابن تاشفين، ولمع نجم دولة المرابطين. (1) المرابطون
كانت قبيلة لمتونة - وهي إحدى قبائل صنهاجة البربرية - ممتدة مضاربها من بلاد السنغال حتى شمالي إفريقية، وقد نبغ فيها بعض الزعماء السياسيين، وأشهرهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، فرأى أن يبني حركته السياسة على حركة دينية، فذهب إلى الحج سنة (1048-1049م)، واتصل في مراكش أثناء عودته بالفقيه عبد الله بن يس الجزولي الصوفي فاستقدمه معه، وأسكنه مع نفر من متصوفي قومه ومجاهديهم في جزيرة بالسنغال، وابتنى لهم رباطا، فأخذ الإمام الجزولي يشرح لهم عقائد الدين، وبين لهم فضائل الجهاد والرباط في سبيل الله، ثم تكاثر هؤلاء المريدون المرابطون، فاستعان بهم يحيى الجدالي على محاربة أمراء الأطراف، وعظم نفوذه ولم يمت في سنة 1056م، حتى ترك لأخيه أبي بكر وابن عمه يوسف بن تاشفين أسس دولة فتية قائمة على أسس متينة من الدين والاستبسال في نصرته؛ وأخذت هذه الدولة تستولي على الأطراف حتى كانت سنة 1062م، فابتنى يوسف بن تاشفين مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولته الجديدة، ثم استولى على فاس في سنة 1070م، وعلى طنجة في سنة 1078م، ثم امتد سلطانه ما بين سنتي 1080-1082م على جميع إفريقية الشمالية من المحيط الأطلسي حتى بلاد الجزائر.
ولما ضعف ملوك الطوائف، واستنجد أعظمهم المعتمد بن عباد صاحب طليطلة بيوسف بن تاشفين لإنقاذه من براثن ملوك النصرانية استجاب يوسف للدعوة شرط أن يمنح الجزيرة الخضراء لتكون مركزا لجنده، ثم زحفت جيوش يوسف، فاحتلت الجزيرة الخضراء، ثم سارت نحو إشبيلية فأقبل عليها المعتمد بن عباد مرحبا خاضعا، وكان الملك ألفونس يحاصر مدينة سرقسطة، فلما علم بمقدم جيوش المرابطين البربر زحف للقائه في جيش لجب، والتقى الجمعان عند الزلاقة، وانهزم ألفونس بعد أن أخلى إقليم بلنسية، وتراجع إلى إقليم مرسية ولورقة، ثم رجع ابن تاشفين إلى إفريقية، حين علم بوفاة ابنه أمير سبتة، فترك الأندلس وقفل راجعا إلى بلاده، ولم تمض فترة حتى اجتمعت جيوش صاحب قشتالة، وروذريق القنبيطور.
2
وهاجمت ديار المسلمين من جديد، فاستنجد أمراؤهم بيوسف بن تاشفين، وزحف في ربيع عام 1090م على الأندلس ثانية، وانضم إليه أمراء مالقة وغرناطة وألمرية وإشبيلية، وسار بهم فحاصر «حصن الليط»، وقضى على حاميته النصرانية، وقوي سلطانه في البلاد، فاجتمع إليه الفقهاء والوجوه، وطلبوا إليه أن يقضي على ملوك الطوائف ويوحد البلاد تحت سلطانه، فأعجبته الفكرة، واستصدر من قاضيي غرناطة ومالقة فتويين تقولان بأن ملوك الطوائف قد ضعفوا عن حكم البلاد، وأهملوا شعائر الدين، وأن الدين يقضي بإقصائهم عن دست الحكم؛ فاستولى ابن تاشفين على الأندلس، وضمه إلى المغرب موجدا أعظم إمبراطورية إسلامية في المغرب، وسار بالبلاد أحسن سيرة إلى أن هلك سنة 1106 فخلفه ابنه علي، وكان متحمسا في دينه، متعصبا تعصبا بعيدا عن المنطق وروح الدين الحقيقية، فسيطرت الجهالة على المسلمين، وعمت الفوضى والتخاذل، وخلف عليا بعد سنة 1143م أمراء ضعاف، وانتهز أمراء النصارى هذا الضعف، فأخذوا يغيرون على البلاد بعد أن انصرف المرابطون في الملذات، وتم للملك ألفونس ملك أرغونة أن يفتح سرقسطة، ثم هاجم غرناطة وفتك بأهلها شر فتكة، وأخذ نجم المرابطين يأفل، وسلطانهم يخمل حتى قضى على آخرهم إسحاق في سنة 1147م. (2) دولة الموحدين
ما إن زالت دولة المرابطين حتى ظهرت دولة الموحدين، وهم جماعة من البربر ينتهون إلى قبيلة معمودة البربرية القوية، وكان مبدأ دعوتهم أن أحد الفقهاء المثقفين الذين تلقوا العلم في المدرسة النظامية ببغداد، واسمه محمد بن تومرت المهدي، رأى الجهالة التي حلت بقومه، وفساد الوضع الاجتماعي والديني، فآلى على نفسه أن يقوم بحركة تهدف إلى إحياء الدين، والقضاء على البدع والضلالات، وتعمل على بث التوحيد، وعاضده في حركته الإصلاحية الدينية زعيم سياسي اسمه عبد المؤمن بن علي من قبيلة زنانة البربرية، فاتفق الرجلان على القيام بهذه الحركة الدينية الدنيوية، وتعهد عبد المؤمن بأن يتولى الحركة الدنيوية، ويقود جماعات الموحدين لنشر دعوتهم، فامتدت الحركة حتى استولت على بلاد مراكش وفاس، وجبال الأطلس إلى أن مات ابن تومرت في سنة 1130م، فقام عبد المؤمن بأعباء الدعوة، وعظم سلطانه. وكانت دولة المرابطين في دور النزاع، فاستولى على أملاكها في شمالي إفريقية ، ثم بعث قائده الأمير براز إلى الأندلس، فقضى على بقايا المرابطين، ووسع رقعة الإمبراطورية الموحدية.
ولما مات مؤسس دولة الموحدين عبد المؤمن في سنة 1163م خلفه ولده أبو يعقوب يوسف (1163-1184م)، ثم حفيده يعقوب المنصور (1184-1199م)، فسارا على غرار عبد المؤمن، وتوسعت رقعة الدولة، فبلغت من المحيط الأطلسي إلى حدود مصر مع سائر بلاد الأندلس.
ولما مات المنصور سنة 1199م خلفه ابنه محمد الناصر (1199-1214م)، وتجمعت ملوك الفرنجة في عهده لقتاله والقضاء على الإمبراطورية الموحدية، فلقيهم بجيش عدده تسعة وخمسون ألف مقاتل، فمزقوا شمله وهرب الناصر إلى مراكش. وتعاقب على الملك بعده تسعة نفر من أسرته، لم يكن في سيرتهم ما يستحق الذكر إلى أن سقطت دولتهم بيد بني مرين البربرية في سنة 1269م.
أما الأندلس بعد انهزام الناصر فقد تقاسمها أمراء الفرنجة وبعض متنفذة المسلمين، ومن أشهرهم بنو نصر أصحاب آخر دولة مسلمة في الأندلس. (3) دولة بني نصر
قام بعد القضاء على دولة الموحدين أمير مسلم عظيم في سنة 1231م، يحاول الوقوف أمام ملوك النصارى، وهو محمد بن يوسف بن أحمد بن نصر المعروف بابن الأحمر، مؤسس دولة بني نصر أو دولة بني الأحمر، وكان محمد رجلا قويا حازما، أعلن إمارته على الأندلس، واستولى على بلاد جيان، ووادي آش، وبسطة، وغرناطة، ولما سقطت غرناطة بيد النصارى في حزيران سنة 1235م، حاول محمد أن يستردها فلم يفلح، واضطر أن يصالح الملك فرديناند الثالث صاحب قشتالة (1217-1252م)، وظل على ذلك إلى أن مات، فخلفه ابنه محمد الثاني (671ه/1272-1302م)، وحاول أن يتحلل من معاهدة الصلح مع فرديناند ومن الجزية التي كان يدفعها أبوه إليه، فاتصل ببني مرين أصحاب مملكة مراكش، وطلب إليهم أن يعاونوه على فرديناند، فأنجده السلطان أبو يوسف المريني، كما أنجد المرابطون والموحدون ملوك الأندلس ضد النصارى من قبل، وزحفت جيوش بني مرين على الأندلس، ولكنها لم تستطع أن تقضي على النفوذ النصراني، فعمد محمد الثاني إلى المخاتلة والمراوغة، وعقد معاهدات مع ملك قشتالة، واستطاع أن يأمن شره، ويعيش فترة من الزمن في هدوء وسكينة، استطاع أن يعنى فيها بأمور البلاد وعمرانها، فشيد بعض القصور والأماكن العامة، وأجلها وأشهرها «قصر الحمراء» الخالد في غرناطة، التي غدت كالبقعة البيضاء في البساط الأسود، فقد استولى النصارى من أصحاب قشتالة وليون على كل بقاع الأندلس إلا عليها. في سنة «512ه/1118م» كانت قد سقطت مدينة سرقسطة. وفي سنة «524ه/1130م» سقطت مدينة تطيلة. وفي سنة «541ه/1147م» سقطت مدينة إشبونة، وفي سنة «542ه/1148م» سقطت مدن طرطوشة ولادة وأفراعة. وفي سنة «627ه/1229م» سقطت جزيرة ميورقة. وفي سنة «628ه/1230م» سقطت ماردة وبطليوس. وفي سنة «631ه/1233م» سقطت مدينة أبدة. وفي سنة «633ه/1236م» سقطت مدينة قرطبة. وفي سنة «634ه/1237م» سقطت بياسة وأستجة والمدور. وفي سنة «636ه/1238م» سقطت مدينة بلنسية. وفي سنة «638ه/1240م» سقطت شاطبة ودانية. وفي سنة «640ه/1242م» سقطت مدينة لقنت وأريولة وقرطاجنة. وفي سنة «641ه/1243م» سقطت مرسية. وفي سنة «644ه/1246م» سقطت مدينة جيان. وفي سنة «646ه/1248م» سقطت مدينة إشبيلية، ولم يأت منتصف القرن السابع للهجرة حتى أضحت مقاطعات الأندلس الشرقية والوسطى تحت يد النصارى، ولم يبق بيد بني الأحمر إلا بعض المدن الصغيرة.
ومن الأحداث الخطيرة التي جرت في هذه الحقبة زواج الملك فرديناند ملك الأرغون بالملكة إيزابيلا ملكة قشتالة في سنة 1469م؛ فقد اتفقا على توحيد مملكتيهما، وعلى القضاء على دولة بني نصر
3
التي تعاقب ملوكها الواحد والعشرون على العرش في فترات طويلة، ولكنها مضطربة، ومملوءة بكثير من الدسائس والفتن حتى سقطت المدن الإسلامية الواقعة تحت نفوذ بني نصر مدينة مدينة، ولم يبق إلا مدينة غرناطة، فحاصرها الملك فرديناند حصارا عنيفا، وقطع عنها الطعام حتى استسلمت في «ربيع الأول سنة 897ه/كانون الأول سنة 1491م»، وعقد الملك أبو عبد الله الصغير - آخر ملوكها - مع فرديناند معاهدة الاستسلام، على أن يسمح له بمغادرتها سالما، ويسكن في منطقة البشرات
Alpujarras
المرتفعة الواقعة جنوبي سلسلة جبال «سيرانيفادا»، وأن يمهله حتى يأخذ أهله وأمواله ورجاله، وتم له ما أراد، ولم تدخل جيوش فرديناند إلا في كانون الثاني سنة 1492م.
وهكذا طويت راية العروبة والإسلام في هاتيك الربوع الجميلة، واضطر الخليفة أبو عبد الله الصغير إلى أن يهاجر إلى مدينة فاس، فسكن فيها إلى أن مات سنة 940 (1533-1534).
4
ولم ينفذ الملكان المسيحيان فرديناند الثاني وإيزابيل الكاثوليكية تعهدهما للمسلمين بالمحافظة على شعائرهم وحماية مقدساتهم، ورعاية كتبهم وآثارهم، بل أسسا محاكم للتفتيش عن المسلمين والفتك بهم وإكراههم على اعتناق الدين المسيحي، أو الجلاء عن البلاد إلى شمال إفريقية.
الفصل الخامس
الحضارة الأندلسية والحركات العلمية
ازدهرت الحضارة الإسلامية في الأندلس أيام الخليفة عبد الرحمن الثالث، فقد حكم نحوا من خمسين عاما (912-961م)، عمل فيها على السير بالبلاد قدما في سبيل العلم والفن، بعد أن وطد أبوه وجده دعائم السيادة والقوة فيها، واعتنى بكل نواحي الحياة من زراعة وتجارة وصناعة وعمران، كما اعتنى بمجالي الحياة الزاهية من ملاعب وحدائق.
أما الآثار العمرانية التي خلفتها الحضارة الأندلسية فهي كثيرة، وما يزال كثير من أطلالها وأشخاصها ماثلا، وأجلها: (1) جامع قرطبة الأعظم
الذي بدأ به مؤسس الأسرة الأموية في الأندلس سنة 785-786م، ودام البناء فيه اثني عشر شهرا، استعان فيها ببعض المعماريين القوط، وبأطلال من المعابد القديمة، وتعاقب الأمراء الأمويون بعده على توسيعه وتكميله، فشيد هشام الأول مئذنته، وزاد عبد الرحمن الثاني أروقته ومحاريبه، ورفع محمد الأول مقصورته، وشيد عبد الرحمن الثالث منارته العظيمة 951م، وزاد الحكم الثاني امتداد أروقته الاثني عشر، وشيد إلى جانبه دارا ذات ثماني زوايا، تعلوها قبة معقودة على رخامات حلزونية الشكل، ومقصورة جديدة لها أقواس متقاطعة مفلطحة وقبب ذات أضلاع رائعة الشكل، وفي زمن الحاجب المنصور زيدت أروقة الجامع فبلغت تسعة عشر، وفي كل رواق خمسة وثلاثون عمودا، وأحيط الجامع بسور ذي شرفات عالية، وواحد وعشرين بابا شامخا مزدانا بالرخام والنحاس المكفت، وفي وسط الجامع حوض عظيم للوضوء تقوم من حوله أعمدة تحمل عقودا من الرخام للزخرفة والزينة.
ومن الآثار العمرانية الجليلة التي لم يبق لنا منها اليوم إلا اسمها ووصفها : (2) مدينة الزهراء
التي روى المؤرخون أن الخليفة عبد الرحمن الثالث قد سماها باسم جاريته المحبوبة «زهراء»، وشرع في بنائها سنة 936م على أسفل الجبل المعروف بجبل العروس، شمالي قرطبة، وأن عشرة آلاف عامل ظلوا يعملون فيها خمسا وعشرين سنة، وكانت مكونة من ثلاث طبقات؛ أقيمت في الطبقة الأولى البساتين والحدائق والأنهار، والطرقات المؤدية إلى الطبقة الثانية التي جعلت للموظفين والخدم والإماء والموالي والحرس، وكانت الطبقة الثالثة مقرا للخليفة وأسرته ورجال بلاطه، وأعظم ما في هذه الطبقة قاعة العرش والاستقبال المبنية بالرخام والمرمر وصفائح الذهب، وفي وسطها تشرق «الجوهرة المضيئة» التي أهداها إليه الإمبراطور «ليو» البيزنطي ملك القسطنطينية، ويذكر المؤرخون أن أبواب الزهراء كانت ثمانية مصنوعة من الرخام الملون والبلور والأبنوس والنحاس المكفت والعاج، وأن غرفة نوم الخليفة كانت رائعة بفسقيتها الفخمة المزدانة بتماثيلها الذهبية الاثني عشر، وأن طول القصر كان 2700 ذراع، وعرضه 1500 ذراع، وفيه ألف وخمسمائة باب وأربعة آلاف وثلاثمائة عمود، وقد تهدم أكثر هذه المدينة في ثورة البربر سنة 1010م، أما اليوم فلا يعرف لها أثر، ويظن أن أكوام الردم الواقعة في «قرطبة القديمة» على مسافة ميل من المدينة الجديدة هي أطلال مدينة الزهراء.
ومن الآثار العمرانية الخالدة الباقية: (3) مدينة الحمراء
التي أشرنا إليها في كلامنا عن دولة بني نصر، فقد شيدت في ساحة من أعظم ساحات غرناطة من الآجر المتقن الجميل، على شكل هندسي رائع ممتاز بعقوده وأقواسه وقبابه وزخارف سقوفه، ويحيط بالمدينة ساحتان واسعتان تؤديان إلى جنان واسعة تؤدي إلى مدخل القصر، وفي الجنوب ساحة واسعة تسمى ساحة الريحان تؤدي إلى البرج الأعظم، والقاعة الكبرى المعروفة بقاعة السفراء، ويتصل الحريم الجنوبي الشرقي لساحة الريحان بدار عظيمة عرفت بدار الأسود التي تؤدي إلى قاعات الحكم، وإلى يمينها دار ابن سراج، وإلى يسارها دار الأختين.
أما دار الأسود، فهي مدينة صغيرة سميت بذلك للأسود الرخامية الفخمة الجميلة التي تزين باحتها وتحمل بركتها، وتزدان جبهة هذه الدار بصور مشاهد الصيد والطرد، وصور عشرة أشخاص من الأمراء متكئين على سرر وأرائك ، وقد فرشت أرض الدار بالمربعات الرخامية البيض، وترتيب أسافل حيطانها بالقاشاني الملون بعلو أربعة أقدام، ومن فوقها أفاريز خشبية رائعة الحفر والنقش، ومن فوقها كان السقف ذو المتدليات، ومن تحته العمد الرشيقة والقناطر ذات شكل نعل الفرس، ويحيط بالجدران نقوش وزخارف رائعة لا حد لها، وقطع قاشانية بديعة وأشكال رخامية متقنة، وخطوط هندسية ونجوم ومثمنات، وصور نباتات يحار البصر في إدراك مبتداها، ومن فوق ذلك نقوش خطية جميلة متعددة امتدت على طول الإفريز والتفت حول القناطر والكوى والنوافذ، وقد انتشرت في جنبات القصر كله زخارف ودهانات ونقوش بألوان ساحرة متناسقة بالغة الروعة، والحق أن هذا القصر على الرغم من مرور الأعوام على بنائه ما يزال رائعا جديدا فخما شاهدا على عظمة الفن العربي وروعته وخلوده.
هذا وصف موجز لبعض مظاهر الحضارة الأندلسية من الناحية العمرانية، فأما من الناحية العلمية فقد عني الأندلسيون بالفقه الإسلامي واللغة العربية والفلسفة، وقد نبغ فيهم أو عاش بينهم نفر من الفحول؛ كابن مسرة الفيلسوف، وأبي علي القالي اللغوي، وابن القوطية المؤرخ، وابن دراح الشاعر، وابن شهيد الكاتب، وداود بن علي الأديب، وابن حزم العبقري المؤلف، وأبي القاسم الزهراوي الطبيب، وابن طفيل وابن رشد الحكيمين، ومحيي الدين بن عربي الصوفي، وابن الخطيب وابن خلدون المؤرخين.
Page inconnue