تاريخ صفد للعثماني

| تاريخ صفد للعثماني

|| تاريخ صفد للعثماني

Page 113

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحكم الوجود وأتقنه، ونقل آدم إلى الأرض وأسكنه، وبث ذريته فيها ونشرهم عليها، فكلما مضى منهم قرن وذهب غيره ووقب 1 إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ومن جملة حكم الله تعالى التاريخ الموضوع لحفظ الأمم، ومعرفة من غبر منهم ونجم، وما مر من الأعوام وتصرم من الأنام تبصرة لمن اذكر، وعبرة لمن اعتبر.

أحمده على ما منح من الفضل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم الفصل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الحاشر 2، العاقب 3، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر أولي المناقب ..

أما بعد فهذه فائدة مستظرفة، وتحفة منتخبة، تشتمل على تاريخ مدينة صفد، مما لم يسبق إلى تدوين ذلك أحد، نقلت بها أمورا مجملة لعدم الظفر بها مفصلة، وإذا فتح باب في أمر لم يتيسر لفاتحه الأقل، ثم يتبعه أهل الفضل وينمقونه بغرائب النقل.

وكان السبب في تأليفها، والباعث على تصنيفها مذاكرة حصلت في ضبط نوابها 4، اقتضت تعليق هذه الفائدة، وفتح بابها بين يدي من جعله الله تعالى في محبة العلم الشريف وأهله علما ووهبه من فضله سيفا وقلما، ومنحه اليمن في آرائه وتدبيره، وقرن السعادة بثغور أساريره، عمر لهذه المملكة بفضله وإنعامه، وزينها في المجالس بوجهه، كما شرفها بوطىء أقدامه، وأثر فيها آثارا محمودة، واستضىء حكامها في مهماتهم السعيدة سبل أن ينور فأنار، فظهر من حسن سيرته ماسر أولو الألباب، وكان طول ليله في الحراسة، وجميع نهاره في السياسة، مع المواظبة على أوراده، والملازمة لاجتهاده.

Page 114

شعر:

فياليت أن الله أسعد خلقه

فصيره طول الزمان ينوب

المقر الأشرف السيفي علمدار، بلغه الله جميع الأوطار

فذكرت فتحها أولا إلى أن فتحت عكا، وتمدنت صفد، وتوطن أهلها وزال النصب والنكد، ثم اذكر النواب على محجة حسنة إلى آخر سنة أربع وستين، مدة مائة سنة، ثم أذكر أرباب الوظائف الدينية على هذا المنوال من القضاة والخطباء ووكلاء بيت المال، ثم أذكر من أرباب الوظائف الديوانية من يفتقر إليه من في انتظام الأمور، من كتاب السر، ونظر المال، والجيش المنصور، من أول الفتح إلى آخر المدة على الولاء، ولم يتيسر لي غير ذكر هؤلاء.

لكني أذكر بعد الفراغ من هؤلاء المذكورين فصلا لبيان الأعيان من الصفديين، ثم أبتدي التاريخ مفصلا بالسنين على عادة المؤرخين، من استقبال سنة خمس وستين وأختصر في مقالي لاشتغالي بمهمات أحوالي، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل.

Page 115

مدينة صفد

| مدينة صفد

|| مدينة صفد

أما صفد نفسها، فحصن منيع بقمة جبل كنعان، كان قرية قديمة فبني عليها هذا الحصن، وهو صفد، وأما اليوم فالمدينة نفسها هي التي تسمى صفد.

ولذلك معنيان: المعنى الأول إن الصفد العطية، وهذا هو المناسب لتسميتها عند الافرنج لأمرين: أحدهما أن ملوك الافرنج أعطوها لطائفة يقال لها الداوية 5، لا يشاركها فيها أحد فسموها لذلك بصفد، الثاني أنهم سموها أيضا صفت بالتاء، فلما وصفت بالصفاء صلحت للعطاء.

المعنى الثاني أن الصفد المغارة، ومنه قوله تعالى:

(مقرنين في الأصفاد) 6 أي في الأغلال، وقد يكون لهذا الاسم مناسبة إما لأن صاحب الغل يمتنع من الحركة، ويلزم موضعه، وهذه المدينة كذلك لأنها جبل عال وعر لا يتمكن ساكنها من الحركة كل وقت، إن ركب تعب، وإن مشى على قدميه اختلط لحمه بدمه لصعود الربوة وهبوط الوهدة، فهي لعلوها أعظم مشرف، فضياع الحركة فيها من السرف، ويستقر ساكنها بأي مكان ويقتنع فيها بالنظر وسنان.

واعلم أنها لطيفة الهواء، طيبة الماء، لها منظر بهج، ومشرف أرج، لا سيما في أيام الربيع، فلها رونق بديع، ومن أبيات لشيخنا قاضي القضاة جمال الدين التبريزي 7 (رحمه الله تعالى):

لما قضى الفرد الصمد

أني أسير إلى صفد

فدخلتها متيمنا

فوجدتها نعم البلد

ورأيت منظرها الذي

يشفي العيون من الرمد

وهواؤها مع مائها

فأصح شيء للجسد

يا حسنهالو لم يكن

للناس موردها ثمد

Page 116

والله يعلم السر لي

بفراق عجلون جلد

وأهليها في مهجتي

كل أضر من الولد

جمر اشتياقي نحوهم

بشغاف قلبي قد وقد

وفي الجملة فهي أبيات طويلة لا ضرورة إلى إيراد ما بقي منها.

وقوله «موردها ثمد» يشير إلى قلة مائها، وكان ذلك قديما في أيامه، أما الآن فقد كثر ماؤها، وتجدد بها آبار وعيون.

قال القاضي الفاضل شهاب الدين بن فضل الله العمري، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، تغمده الله برحمته في تاريخه، المسمى مسالك الأبصار، وهو سبعة وعشرون مجلدا: وصفد مدينة صحيحة الهواء، خفيفة الماء، لها أعين، لو أنها دمع لما بلت الآماق، ولا ملأت الأحداق، ولها حمامات يأنف أهلها من دخولها لقلة مائها، وسوء بنائها، ولها قلعة قل أن يوجد لها شبيه كأنما عليها من الذهب تمويه، لا تروم السحب إلا من صبب، ويطوف عليها من الشفق مدام عليه من مواقع النجوم حبب، ولا تجاوز الأرض إلا وهي إذا رامت السماء لا يعوقها سبب.

ولما فتحها الملك الظاهر عظمها، وهي تستحق التعظيم، وتستوجب الرفعة بما رفع الله من بنائها العظيم.

وقد ذكرها ابن الواسطي الكاتب فقال: وقلعة صفد بنتها الأفرنج، وكانت أولا تلا 8 عليه قرية عامرة تحت برج اليتيم، بنتها الداوية في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. انتهى كلام ابن فضل الله.

ولصفد عشرة أعمال لكل عمل قاض ووال، العمل الأول: عمل المدينة، ويسمى الزنار، لاختلاطه بالمدينة من كل جانب، وبهذا العمل أرض تشبه أرض العراق يزرع فيه: الأرز، والبطيخ، ومغله جيد، وأرضه مثل العنبر، وبه بحيرة قدس يوجد فيها اللينوفر، والسمك

Page 117