لم يكن الشيخ قاسم، أو جاسم كما تلفظ هناك سيدا على غير عشيرته يوم كانت قطر تابعة لحكومة البحرين. فقام، وكان يومئذ قد تجاوز الخمسين من سنه، يدعو العشائر كلها إلى الاستقلال فلبت دعوته. وبعد وقعات بحرية وبرية مع أهل البحرين، وكسرات وغلبات، حازت قطر استقلالها، وكادت تستولي على البحرين.
من عجائب السياسة في الخليج أنه كان للإنكليز يد، ولنا أن نقول يد سلبية في استقلال قطر؛ أي إن حكومة بريطانية العظمى أرسلت عليها سفينة من سفنها الحربية، فضربت الزبارة عاصمتها بالمدافع ومنعت القطارنة عن التوسع والاستيلاء، ثم أرضتهم بأن فصلت شبه جزيرتهم عن جزائر آل خليفة.
أما الترك فقد حاربهم ابن ثاني فكسرهم في وقعات عديدة، وذبح عددا كبيرا منهم، ولكنه لم يتمكن من إخراجهم من الحساء. والحق يقال: إن الحرب لم تكن من الأوليات في حياة الشيخ جاسم، ولا همه أن يكون له صفحة ذهبية، أو بالحري قرمزية، في التاريخ، بل كان همه الأكبر إكثار النسل الإنساني كما قلت. وهمه الآخر أن يحسن تجارة اللؤلؤ (كان له خمس وعشرون سفينة للغوص)، وأن يجمع المال من هذي التجارة ويبذله في سبيل البر والإحسان.
ومن إحسانه أنه كان ولوعا في جمع العبيد وعتقهم ؛ قيل إنه أعتق في حياته أكثر من خمسين عبدا، وإن مماليكه الأحرار أسسوا بلدة في قطر سموها السودان.
ومن دواعي إحسانه الورع والتقوى؛ فقد كان حنبلي المذهب متصلبا فيه، يصرف واردات أوقافه على الجوامع والخطباء، بل كان هو نفسه يعلم الناس الدين، ويخطب فيهم خطبة الجمعة.
أضف إلى الورع والتقوى إذن فصاحة اللسان، وإلى الفصاحة العلوم الدينية والفقهية، وإلى العلوم الضمير الحي واليقين، وإلى ذلك كله الثراء والجود، فيكون المجموع رجلا ولا كالرجال، عاش قرنا ويزيد في قطر، فكان أميرها، وخطيبها، وقاضيها، ومفتيها، والمحسن الأكبر فيها.
الشاب المجهول
ولد في الرياض عاصمة ملك أجداده، فرأى عمومته يتنازعون الملك ويتحاربون، ورأى العدو على أبواب العاصمة وهو يطمع بالاستيلاء على نجد أجمع، ورأى أباه يحارب في الوقعة الأخيرة ويستسلم إلى الله، ثم سمعه وهو جالس إلى جنبه في الحساء يرفض شروط الدولة العلية، فسدت أمامه الأبواب كلها إلا الباب إلى الصحراء، فلجأ إلى خيام الشعر وهو مثل أصحابها لا يملك فترا من الأرض، وليس له غير تلك الثقة الوطيدة العالية، الثقة بالله، التي هي كنز الأعرابي الأكبر.
ثم سكن الأب الكويت، وصار الصبي شابا، فكانت الذكرى الأليمة رفيقة أفكاره وسميرة أحلامه. قرأ شيئا من العلوم هناك وهو يفكر في الملك المفقود. جلس أمام البحر وهو لا يدري إذا ركبه إلى أين تحمله الأقدار، ثم نظر إلى البادية وهو يهجس بالملك المفقود. عاشر الأمراء والعلماء، وجلس ساكتا متأدبا في مجلس الشيوخ، وهو يحلم بالملك المفقود. فتح الكتاب ثم ألقاه جانبا، وهو يرمق السيف بنظرة كلها شوق وأمل.
عاش مجهولا في الكويت، مجهولا إلا في الاسم والنسب، وفيما يبدو للعين المجردة فقد كان الناس يعرفون أن ذاك الشاب القوي البنية، الطويل القامة، البراق العين، هو عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود. وما كان كبار القوم فكرا وفراسة ليعرفوا أكثر من ذلك، بل كانوا كلهم في ظلال سور الغيب كالأطفال. جهلوا ما كان يجهله حتى أقرب الناس إلى عبد العزيز، حتى أبوه وأمه. جهلوا ما كان يجهله التاريخ. جهلوا ما كان يجهله الشاب المجهول نفسه. جهلوا ما لم يكن يعلم به غير الله.
Page inconnue