Histoire de la grammaire arabe
تاريخ النحو العربي: منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
Genres
لماذا نقل ابن مضاء مفهوم العامل من مجال الذهن إلى مجال الواقع؟ يجيب نصر حامد أبو زيد بأن ابن مضاء نقل موقفا أيديولوجيا من مجال النصوص الدينية (الظاهرية) إلى مجال الدرس اللغوي.
10
قد يكون هذا صحيحا، لكن ما أميل إليه هو ضعف ابن مضاء في التعامل مع أعراف العلم. معرفة ابن مضاء بالنحو، وتبحره في الدين الذي جعل منه قاضيا، وخبرته بالعالم الذي يعيش فيه لا تكفي لجعله مدركا لآليات العلم وأعرافه؛ لا لأن ابن مضاء لا يفهم أو لا يدرك أو لقصور في لغته أو فهمه، إنما لابتعاده عن مجال العلم وهو القاضي والفقيه والدارس لعلوم الدين التي تختلف أعرافها عن أعراف العلم. وما ذكره عن مفهوم الفاعل النحوي من أن الله هو الفاعل عند أهل الحق (المعتزلة)، وهو فاعل فعل الإنسان وسائر الحيوان يشير إلى أن خبرة ابن مضاء القاضي في التعامل مع العلم قليلة، وفكرته عن الكيفية التي يكون بها العلم علما ضعيفة. لا يمكن بحال من الأحوال أن أنكر تمكن ابن مضاء من النحو، لكنه تمكن القاضي والفقيه الذي يعرف النحو لكنه لا يعيه من حيث هو علم له أعرافه العلمية المختلفة عن أعراف علم الفقه. لا بد أن يفهم جيدا تشبيه ابن مضاء بالقارئ الحقيقي؛ ذلك أن القارئ الحقيقي يفرق بين ما يجري في الحكاية وما يجري في الواقع. فلو أن حكاية أوردت أن جنيا قطع مسافة بين المغرب والمشرق في غمضة عين فلن يصدق؛ لأنه قليل خبرة بالفرق بين الفني والواقعي. وكذلك ابن مضاء فيما يظهر لي؛ فهو يخلط بين النظري والعملي؛ ويبدو غير خبير بأطر العلم النظرية؛ ذلك أن نظرية كنظرية النحو العربي هي تنظيم لما «يعتقده» النحويون يساعد على أن يفهم النظام اللغوي. وقد وضعت «يعتقده» بين مزدوجتين لكي أنبه إلى أن هذا التعبير يضعف النظرية من كونها من عمل الإنسان لكي يفهم، فالإنسان هو الذي يبني النظرية ويكونها. ومع ذلك فحتى لو كان «معتقدا» علميا فلا مجال للحرام والحلال؛ لأن في هذا خلطا بين العلم وبين الأيديولوجيا. وبالرغم مما قيل عن نقل ابن مضاء المذهب الظاهري من مجال النصوص الدينية إلى مجال الدرس اللغوي، فإنني أميل إلى أنه ليس نقلا واعيا، بقدر ما هو خبرة قاض وفقيه تدرب في علوم تنتمي إلى الدين، وانتقل إلى علم يحتاج إلى خبرة مغايرة يشير إلى ذلك قوله وهو يتحدث عن تقدير العامل المحذوف: «وأما طرد ذلك (تقدير العامل المحذوف ) في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وادعاء زيادة معان فيه من غير حجة ولا دليل إلا القول بأن كل ما ينصب إنما ينصب بناصب ... فالقول بذلك حرام.»
11
أليس كلام الله كلاما؟ أبسط الإفادات العلمية في النحو تجيب بأنه كلام؛ فالفهم المبني على فهم منظم للكلام كالنحو قابل لأن يعمم على كل أنواع الكلام بدون استثناء، وتقويم مسألة ذهنية كتقدير العامل لا تكون بالحلال والحرام؛ إنما تقوم بالترابط والتماسك من جهة. أعني هل ينطوي تقدير العامل على تناقض؟ هل تقدير العامل منتظم؟ وعلى الشمول من جهة أخرى؛ أعني هل يغطي تقدير العامل المحذوف ما يفترض أن يغطيه؟ صحيح أنه لا يوجد ضمان أن تكون فكرة العامل فكرة حقيقية، لكن من قلة الخبرة أن نفكر على أنها فكرة غير حقيقية؛ فمفهوم العامل وما يترتب عليه من حذف وتقدير وإضمار ليس إلا مفهوما يستعمله النحوي كعالم، والنحو كعلم يشرح الظواهر اللغوية.
لم أرد أن يكون تحليلي لكتاب الرد على النحاة سجاليا، لكن عرض ابن مضاء للقضايا النحوية يستدعي هذا السجال، ومنها العلة التي يعرضها على النحو التالي: «ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام زيد» لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: لم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب. ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر. ولا فرق بين ذلك وبين من عرف أن شيئا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل: لم حرم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه.» لا يمكن أن نخضع علم النحو للمفاهيم التي استخدمها ابن مضاء في هذه العبارة؛ فالصواب والحرام والنص والتواتر استخدمها ابن مضاء بمعزل عما تستعمل فيه؛ أعني العلوم الدينية. ولن ينكشف عوار هذه المفاهيم التي استخدمت في مجال غير المجال الذي تنتمي إليه إلا عندما يرفض أن «يعطى الأثقل، الذي هو الرفع، للفاعل، وأعطي الأخف، الذي هو النصب، للمفعول»؛
12
ذلك أن ابن مضاء يغفل مفهومين من المفاهيم الموجهة لعلم النحو وهما الخفة والثقل، وما بني عليهما. إن الإجابة التي يقترحها ابن مضاء لسؤال لماذا رفع الفاعل؟ (كذا نطقت به العرب) (ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر) إجابة ليست من العلم في شيء. ويمكن أن تتضح الفكرة فيما لو سأل أحد ما: لماذا ينبض القلب؟ فيقال: كذا خلقه الله. لا يمكن أن تطور إجابة ابن مضاء عن سؤال: «لماذا رفع الفاعل» النظرية النحوية؛ فأهمية التفكير العلمي النظري في كلام العرب الذي تنتمي إليه العلل الثواني والثوالث تكمن في أن النحو يحرر الكلام من تجربته في حياة العرب اليومية، ويجعله يتعالى عن تجربته اليومية الضيقة. وإذا كان ما يقترحه ابن مضاء يصح في الفتاوى، فلا يصح في النحو من حيث هو علم. لا تتيح إجابة «كذا نطقت به العرب» مجالا لقيم المعرفة لا سيما الفضول العلمي باعتباره روح العلم؛ فبدون الفضول الخلاق لا يمكن للنحو أن يكون نظاما مفتوحا يتغير ويتعدل ويتطور. ومن دون الأسئلة التي تتلو الأسئلة، التي نعبر عنها هنا بالفضول، لا يمكن للنحو أن يعيد بناء تاريخه.
تفترض إجابة ابن مضاء عن سؤال: لماذا رفع الفاعل؟ أنه يستطيع أن يقف أمام غموض أن الفاعل مرفوع من دون أي رد فعل. فكون الفاعل مرفوعا لا يقلق ابن مضاء غموض أن يكون كذلك، وهو ما دفعه إلى إجابته الظاهرة، والقامعة لأي تساؤل، ولهذا علاقة بغياب الشك الذي هو أحد أهم قيم المعرفة؛ فابن مضاء قادر على أن يكون منغلقا، وعلى أن يتحمل غياب الإجابة.
إذا ما تبعت هذا النوع من التحليل الذي يظهر عدم خبرة ابن مضاء بأعراف العلم؛ فسأتوقف عند دعوته إلى إلغاء القياس. لقد قيل عن القياس الكثير من الغث والسمين، لكن من حسن الحظ أن هناك بحثا
Page inconnue