مقدمة
1 - مدخل
2 - النحو في حدود المعيار
3 - النحو في حدود العقل
4 - النحو مجردا مما هو ثقافي
5 - النحو مدخلا لتذوق النصوص
6 - النحو في حدود الكلام الظاهر
المصادر والمراجع
مقدمة
1 - مدخل
2 - النحو في حدود المعيار
3 - النحو في حدود العقل
4 - النحو مجردا مما هو ثقافي
5 - النحو مدخلا لتذوق النصوص
6 - النحو في حدود الكلام الظاهر
المصادر والمراجع
تاريخ النحو العربي
تاريخ النحو العربي
منظورا إليه من جهة تطور مفهومه: تأملات استكشافية
تأليف
علي الشدوي
مقدمة
ما سيتلو تدوين لأفكار في تاريخ النحو العربي كما تمنيت أن يكون، وليس ما هو كائن. وهي أفكار تنطلق من تصور شخصي لأفق تاريخ مفهوم النحو العربي، وإحدى سبل مقاربته. تأملات تجعل من الكتاب كتابا شخصيا؛ لأنني هاو لعلم النحو ولست متخصصا، لكنني أومن بالتعاون بين المتخصصين والهواة في العلوم الإنسانية. فكلما غرقت الأبحاث العلمية في التخصص باتت في حاجة أكثر إلى غير المتخصصين؛ لأنهم أكثر مرونة وجرأة ومغامرة؛ وهذه قيم لا يستهان بها.
من وجهة نظر تعليمية، يقترح الكتاب تصورا لتاريخ مفهوم النحو العربي؛ فهناك أفكار تكشف تطور مفهومه، وهي أفكار تنتمي إلى عدد من النحاة، لكن بعض النحاة لهم التأثير الأكبر في تطور مفهوم النحو. ومن هذا المنظور، اقتصرت على خمسة نحاة هم: أبو الأسود الدؤلي، وسيبويه، وابن جني، وعبد القاهر الجرجاني، وابن مضاء النحوي. ومع أن القارئ يمكن أن يحاجج حول من ينبغي أن يعتبر من أساطين النحو العربي كأن يضيف ابن السراج أو المبرد أو الكسائي، إلا أنني لا أشك أن الذين اخترتهم أثروا بشكل غير عادي؛ بحيث نجد المتخصصين في النحو ما زالوا يوردون آراءهم أكثر من أي نحاة آخرين؛ ليوضحوا قضايا ومسائل ومشكلات كونت التفكير النحوي.
من وجهة نظر تاريخية، يقترح الكتاب تصورا يركز على الأولويات المتعلقة بمفهوم النحو؛ أي إنني حاولت أن أضع حدا لضوضاء الأفكار التي تزخر بها كتب النحو العربي، بحيث أركز على أفكار قليلة؛ لذلك توجب علي أن أفهم الصعوبات الكامنة في كثرة كتب النحو تأليفا واختصارا وشرحا، وأن أتخلص من بعضها لأنها غير ضرورية؛ لذلك لم أعط كتابا نحويا من كتب النحو العربي مكانة في تاريخ مفهوم النحو إلا بقدر ما أحدث من تغيير في تصور مفهوم النحو. والكتب التي لا تحقق هذا تنتقل إلى نوع آخر من الكتب؛ تلك التي لا نسميها كتبا مؤسسة كالحواشي والمختصرات والشروح؛ أي إنها كتب غير أصيلة؛ لكي أتلافى الخلط بين الكتب المؤسسة وغيرها. وهكذا اخترت الكتاب لسيبويه، والخصائص لابن جني، ودلائل الإعجاز للجرجاني، والرد على النحاة لابن مضاء؛ لاعتقادي أنها أبدعت أفكارا تعود في النهاية لتصب في تطور مفهوم النحو.
إنني أظن أن معظم القراء سمعوا بالكتاب والخصائص ودلائل الإعجاز، لكن من من القراء غير المتخصصين سمع بكتاب الرد على النحاة؟ لا أتحدث هنا عن معرفة القارئ العام؛ إنما عن معرفتي أنا؛ ذلك أن معرفتي به اقتصرت على نقد نحو المشرق، وهي الفكرة التي لم تعد عندي الفكرة الوحيدة بعد أن قرأته. إنما أخذتها على أنها إحدى سبل فهم الكتاب، وأن هناك سبلا أخرى لفهمه. سأجمل هنا ما فصلته هناك بأن إحدى سبل فهمه تقود إلى خيبة للأمل؛ لأنه لا يضيف شيئا إلى تطور مفهوم النحو؛ هذا إن لم يكن هناك تراجع في تصوره النحو على أن النحو علم عقلاني.
أما من وجهة نظر معرفية، فالكتاب يقترح طرقا مختلفة لتاريخ النحو تختلف عما ألفناه في كتب تاريخ النحو الكلاسيكية كالمدارس النحوية، والمراتب والطبقات، ويدعو النحويين المعاصرين إلى إسقاط الرهبة عن القدماء؛ إذ في استطاعتهم أن يطرقوا مناطق عمل جديدة. وكأي تاريخ علم؛ فتاريخ النحو لا يرتبط بأي زمن، وليس عرفا ولا تقليدا ينتقل من عصر إلى عصر؛ لذلك فإن كل مرحلة تاريخية يمكن أن يكون لها مؤرخوها من المهتمين بتاريخ علم النحو.
بسبب هذه المنظورات الثلاثة؛ أعني التاريخي والتعليمي والمعرفي، فإن الكتاب لم ير أبا الأسود الدؤلي بالصورة التي رآه بها سيبويه، ولا بالصورة التي رآه بها ابن جني أو الجرجاني أو ابن مضاء، بل إن الكتاب رأى الدؤلي على نحو مختلف ؛ بسبب سيبويه وابن جني والجرجاني وابن مضاء.
لقد عرضت أفكار هؤلاء النحاة بالشكل الذي يغني عن عودة القراء إلى الكتب، ومع ذلك لا يمكن أن يغني العرض عن عودة القارئ إليها ومن ذات المنظور؛ أعني من منظور تطور مفهوم النحو. أثناء العرض حاولت أن أقترح تصورا لتاريخ النحو العربي، ومن مداخل متعددة. وهو تصور يستند إلى تمعنات تاريخية ونقدية، ويضم أسئلة لم تعرض من قبل على ما أعرف، ومجالات تحليل مقترحة يمكن أن تؤدي إلى أن نفهم تاريخ النحو من جهة قضاياه ومشكلاته ومفهوماته.
حاولت أثناء التحليل أن أقوم بمحاولتين في آن واحد؛ الأولى: أن أساير ما هو وارد في الكتب التي اخترتها. والثانية: أن أتأمل ما أوردته هذه الكتب من موقع الذي جاء متأخرا، ويعرف من المعلومات أكثر مما يعرفه أحدهم عن الآخر، وقرأ كتبهم وهو ما لم يكونوا قاموا بذلك.
لست أنا في الغالب الذي يبادر في هذه التأملات الاستكشافية؛ إنما هي الكتب التي تمسك بزمام المبادرة، فهي التي تتحدث. وما أقوله أنا هو نوع من إشارات الطريق، وكما يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر؛ فإن إشارات الطريق غير مهمة بالمقارنة مع ما يجري في الطريق ذاته. إنها تظهر بين الفينة والأخرى على جانب الطريق؛ لكي تشير وتختفي من جديد حين نمر بها.
الفصل الأول
مدخل
مضى حتى الآن زمن منذ انتهى بعض الباحثين من وضع تصور عام يشمل مجمل القضايا والمسائل والأفكار التي تمت بصلة إلى علم النحو العربي. وقد صنفوها في المجمل إلى اتجاهين. ووفقا لهذا التقسيم، فإن القضايا والمسائل التي تنتمي إلى ما يعرف بالنحو التعليمي تهدف إلى غاية تعطي النحو تصورا معينا، وهي الغاية التي يجري الحديث عنها تحت فكرة صيانة اللغة.
يوصف مفهوم النحو التعليمي الفكرة الجوهرية في التراث النحوي العربي الكلاسيكي التي ترى أن دراسة النحو تؤدي دورا فاعلا في تجنب الخطأ اللغوي إذا ما حددت مجموعة من القواعد؛ لذلك فقد يعرف بالنحو المعياري، ولأنه يعنى بمكونات التركيب، فإنه قد يعرف بالنحو التحليلي .
أما مجموعة القضايا والأفكار والمسائل الأخرى التي لها صلة بمعاني الجمل اللغوية وتركيبها، ووصف النظام اللغوي؛ فتقع ضمن الاتجاه الآخر الذي يعرف بالنحو العلمي، وهو مفهوم يوصف دراسة النظام اللغوي وتركيب الجمل ومعانيها العامة؛ لذلك فقد يعرف بالنحو الوصفي.
وعلى الرغم من أن هذا التقسيم له جذوره التاريخية العميقة، فإنه لم يعرف ويبلور إلا في القرن الماضي (القرن 20) عندما عرضت قضية «تجديد النحو»، واطلع على تطور مناهج الدراسات اللغوية الغربية، والتعارض الذي قام بين من يريد تجديد النحو أو بقاءه في صورته الكلاسيكية.
غير أن الملاحظ أن كلا الاتجاهين التعليمي والعلمي تجاهلا تاريخ النحو؛ ذلك أن الحيز الذي أفرد للحديث عن قضايا ومشكلات ومسائل النحو العامة أو التفصيلية واسع، وارتبط في الغالب بحياة هذا النحوي أو ذاك لا سيما في الرسائل الجامعية، إلى حد يحق للمرء أن يتحدث عن معتقد علمي جامعي يبدأ بحياة النحوي عند الحديث عن النحو، وقد تدرب جيل كامل على هذا.
يتضمن هذا التناول - الذي يبدو أن حسا مشتركا يحكمه - مسلمات أبرزها فكرة أن تاريخ النحو مرتبط بتاريخ النحاة. وقد كفت هذه المسلمة تاريخ النحو عن أن يكون تاريخا لعلم النحو ذاته. ولم يعد السؤال سؤال النحو من حيث هو علم، إنما سؤال النحوي من حيث هو عالم.
لن أبدأ برفض تصور تاريخ النحو الذي يربطه بتاريخ النحاة، ولن أتعامل معه كخصم للتاريخ الذي اقترحه لعلم النحو؛ لذلك لن أتجاهله، إنما سآخذه مأخذ الجد، وسأبحث عبره وأنطلق منه؛ لذلك يجب أن أبدأ باعتراف هو وجود طيف لتاريخ النحو؛ أعني تاريخ النحو في شكله التقليدي الذي يؤرخ للنحاة وطبقاتهم وتراتبهم ومدنهم وأقاليمهم. غير أن حصة تاريخ النحو قليلة في هذا الإجراء الذي يعجز عن أن يدرك البعد التاريخي للنحو من حيث هو موضوع تاريخ النحو.
لم يعد تاريخ كهذا مرضيا. وليس واضحا في البداية كيف يمكن أن ينجز تاريخ آخر، بيد أن ما هو مؤكد أن إنجاز تاريخ مغاير لن ينجز عن طريق تفكير مضمون النتائج؛ إنما من الواجب أن يغامر الباحثون. ذلك أن العقل البشري إذا لم يكن موجها بالمغامرة، فإنه لا يستطيع أن يتغلب على ما كان يعتبر حقائق مقررة نشأ عليها، وفي العلوم الإنسانية المفتوحة على بعضها البعض لن يكون من المناسب لعلم معين ألا يخرج من كهفه إلى ما تشمله العلوم الإنسانية الواسعة.
لا يمكن أن تكون إعادة كتابة تاريخ النحو العربي بلا فائدة مثله مثل إعادة كتابة التاريخ العام. لقد اعتقد جوته أنه يتعين من وقت إلى آخر إعادة كتابة التاريخ العام، لا لأننا نكتشف وقائع جديدة، ولكن لأننا ندرك جوانب مختلفة، ولأن التقدم يأتي بوجهات نظر تفسح المجال أمام إدراك الماضي والحكم عليه من زوايا جديدة؛
1
لذلك رأيت أن كتابة تاريخ جزئي للنحو ستضفي على هذا الجزء الحيوية والنشاط الذي يتولد عن إدراك تاريخ النحو من زاوية جديدة.
لكي نعيد كتابة تاريخ علم النحو العربي نحتاج إلى أن نتخلى عن الأحكام المسبقة، وإلى عدسة جديدة. يشبه هذا أن نستخدم نظارة طبية تحول الإحساس بالمنظور، بحيث تكاد تلمس الأجسام بعد أن كانت بعيدة وغائمة، وأن ننتقل من مرحلة عاطفية إلى مرحلة عقلانية، من مغامرة فكرة إلى أمان معقوليتها. ومن هذه الأفكار فكرة أن يؤرخ للنحو العربي استنادا إلى تطور مفهومه.
مناطق تاريخ علم النحو المقترحة
إذا ما نظر إلى فكرة تاريخ مفهوم النحو العربي من الجانب الذي تبدو عليه ضمن تاريخ النحو، فإنها تبدو فكرة واحدة؛ ذلك أن أفكار تاريخ النحو العربي يمكن أن تكون أكثر منها بكثير. يمكن أن أضع تحت تاريخ النحو العربي تحليل صراع النحاة المتعلق بقضايا النحو ومسائله العلمية، والتساؤل عن الفكرة التي كونتها كل جماعة نحوية، وتتبع بناء مفاهيم النحو المؤسسة والنحاة الذين ساهموا في تأسيسها، وتتبع المفاهيم الموجهة للنحو والنحاة الذين ساهموا في تأسيسها.
تتوسع أفكار تاريخ النحو العربي بقدر ما نغامر في عرض أسئلة جديدة أو نعيد التفكير في أجوبة قديمة ومعادة ومألوفة؛ فكتب مراتب النحويين تتيح لمؤرخ النحو تحليل الكيفية التي قام بها النحاة بوصفهم أساتذة وشيوخا لنحاة آخرين. وكتب الطبقات تتيح له الكيفية التي تترابط بها جماعة نحوية ما. والشروح والحواشي تعطينا صورة تخطيطية لعصور المعرفة النحوية، ومساهمات النحاة الكبار تعطينا تاريخا لتكون أو تطور أو تفكك أو حتى تنقيح المفاهيم النحوية. وكتب الخلاف تعطينا فكرة عن مشكلات النحو الكبرى، ومخططا تاريخيا لتطور تلك المشكلات.
تتيح مناطق عمل كهذه أن تنقذ تدهور تاريخ النحو العربي الذي تعود إنجازاته التي نعرفها إلى قرون قديمة، وإلى إنجازات أقل في القرن الماضي. وبالرغم من كل الملاحظات التي أبديناها تحت كلمة «طيف» إلا أن الذين ألفوا في الخلافات النحوية، ومراتب النحويين وطبقاتهم والمدارس النحوية وفروا للباحثين مادة مهمة يمكن أن يجد فيها مؤرخ علم النحو نفسه في وضع يسمح له أن يرى تاريخ النحو من وجهة نظر غير مألوفة ومختلفة عن تلك التي أراد أولئك أن نراه.
أسئلة تاريخ علم النحو المقترحة
إذا نظرنا إلى كتب النحو العربي وشروحها وتلخيصاتها، وإلى كتب تراجم النحاة وطبقاتهم ومراتبهم، وخلافهم من حيث هي كتب أخرى أكثر من كونها تشرح أو تختصر قضايا ومسائل نحوية، أو تترجم لحياة هذا النحوي أو خلافه، فإن ذلك قد يؤدي إلى تحول في تصورنا لتاريخ النحو الذي يأسرنا الآن. ويحاول هذا المدخل أن يظهر تصورا آخر ومختلفا لتاريخ النحو.
لن يكشف هذا التصور إذا ظللنا نسأل الأسئلة ذاتها: متى ولد نحوي ما؟ وأين؟ ومن شيوخه؟ وما كتبه؟ وهي الأسئلة النمطية التي تفرضها الصورة المألوفة لتاريخ النحو؛ ذلك أن التراجم والمراتب والطبقات بدت لنا مقتطفات متعلقة بسيرة حياة النحوي مخلوطة بفكره النحوي. ولكي يتضح التصور الجديد يجب أن تتغير الأسئلة من الأسئلة أعلاه إلى: لماذا يشرح النحاة كتب بعضهم بعضا؟ لماذا يختصرون كتب بعضهم بعضا؟ ما علاقة النحوي المتأخر بالنحوي المتقدم؟ هل عارضه أم وافقه في آرائه النحوية؟ وأسئلة أخرى ستبدو من نمط مختلف. إن تغيير الأسئلة يغير الإجابات، وحينما نجيب عن أسئلة كهذه فإن تصورا لتاريخ النحو سيبدو مختلفا.
تشبه هذه الأسئلة تساؤلات الفيلسوف كارل ياسبرز في آخر نص فلسفي كتبه
2
عن معنى المعارف والنصوص التراثية عندنا. وعلى أي نحو تمثل لنا هذه النصوص كلا متكاملا، والكيفية التي تتسق بها فيما بينها. وتذكر هذه الأسئلة في الوقت ذاته باقتراحه أن الإجابة عن أسئلة كهذه تكون تالية لفهمنا معارف التراث ونصوصه، وأن تصورنا للتراث وتأويلنا له هو ما يجعله حاضرا أمام عقولنا. ما الذي يمكن لهذا النص الفلسفي أن يقدمه لموضوعنا؟ الفكرة الموجهة لذلك النص الفلسفي؛ أعني أن تاريخ النحو العربي يشبه تاريخ الفلسفة من حيث هو كل متكامل. لكن إذا ما بحثنا تفتت الكل إلى وجهات نظر أفراد فكروا في معاني ومضامين، وعاشوا قضايا وإشكالات. وبذلك يصير تاريخ النحو العربي تاريخ إشكالات تحاور النحاة حولها، وطرحوا أسئلة، وقدموا إجابة عنها. كل واحد من هؤلاء النحاة مميز ولا ينوب عنه آخر، ومكانته في تاريخ النحو العربي الكلي تخضع لأسلوبه ونوع فكره. كل واحد من هؤلاء النحاة له علاقة بغيره؛ فهو يقرؤهم، ويستوعبهم، ويتصارع معهم. وبذلك يكون تاريخ النحو العربي تاريخ تواصل وحوار بين النحاة. هذه الفكرة الموجهة لكتاب ياسبرز هو ما أريد تحسسها في تراث النحو العربي، شرحا واختصارا ونقدا ومعارضة وتراجم ومراتب للنحاة، وبين فكرة وفكرة هناك أفكار أخرى تشكل في نهاية المطاف ما أراه مخططا ممكنا لتحليل التصور التاريخي للنحو العربي الذي لم يقم به أحد حتى الآن.
شرح الكتب النحوية واختصارها
يشعر قارئ التراث النحوي العربي أن الكتب النحوية التي شرحت الكتب النحوية شرحا أو اختصرتها أكثر من الكتب التي شرحت أو اختصرت، حتى ليخيل للقارئ أن كتب التراث النحوي لا تقول شيئا سوى أنها تشرح أو تلخص بعضها بعضا. على سبيل المثال: أحصى عبد السلام هارون في مقدمته لتحقيق كتاب سيبويه «23» كتابا في شرحه و«11» كتابا في شرح شواهده و«3» كتب في اختصاره أو اختصار شروحه و«4» كتب في الاعتراض أو رد الاعتراضات. ومجموع هذا كله «55» كتابا شارك فيها كبار علماء العربية كالمازني وابن السراج والسيرافي. قد يقول قائل: إن كتاب سيبويه ؛ لأنه من الكتب المؤسسة للنماذج العلمية، وكما هو معروف، فهدف مثل هذه الشروح والتلخيصات هو الحفاظ على نموذج نحوي متماسك؛ أي إن مهمة هذه الكتب هي أن تصفي نموذج نحو سيبويه، وأن تشذبه، وأن تصقله. غير أن حجة كهذه يترتب عليها أن مهمة النحاة في تاريخ النحو العربي لن تكون إبداع المفاهيم النحوية الجديدة، ولا تطوير النحو من حيث هو علم بأن يضيفوا إليه، أو أن يولدوا نماذج نحوية أخرى. إنما مهمتهم أن يحافظوا على نموذج نحوي معين، ويفنوا أعمارهم في تشذيبه وتنقيته وصقله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشرح لم يقتصر على كتاب سيبويه، فقد شرح النحاة كتبا أخرى تعليمية وميسرة؛ أشهر هذه الكتب كتاب «الجمل في النحو» للزجاجي. قد أحصى محقق الكتاب «41» كتابا في شرحه، يتراوح حجمها بين مجلدين وبين تعليقات. كما أحصى «18» كتابا في شرح أبيات الكتاب وشواهده. وعلى أي حال، ليس هذا الجرد السريع بلا دلالة؛ إذ يمكن أن نستنتج التصور الفكري الذي يتحرك خلف التراث النحوي العربي؛ وهو أن المعرفة النحوية هي ما ينقل من أسلوب إلى أسلوب، وأن المعرفة تقوم على التشابه؛ لأن الشرح والاختصار يشبهان ما شرحاه أو لخصاه.
من منظور الفكرة التي نقترحها لتاريخ النحو العربي، وتهم مؤرخ النحو: أن شرح الكتب النحوية يشبه الشعب المرجانية التي تتكون من طبقات عديدة من حيوان المرجان. الطبقة الأخيرة على قيد الحياة. تموت هذه الطبقة بعد عدة سنوات لتحل محلها طبقة جديدة. وبعد أن تلد كل طبقة حية يتغير نوعا ما شكل الشعب؛ يصبح «أعلى قليلا، أكبر قليلا، ويبدو مختلفا قليلا.»
3
يعطي هذا الشبه مؤرخ النحو العمق التاريخي لشرح الكتب النحوية؛ ذلك أن شرح كتاب نحوي مرتبط بالكتاب الذي شرحه؛ ما يعني أن مفهوم النحو بني وتكون عبر الأجيال. يموت جيل ويأتي جيل، لكن الجيل الذي أتى لا يبدأ من جديد، إنما يواصل البناء على أساس ما تركه النحويون السابقون. وبالمقارنة مع الشعب المرجانية يحافظ الجيل الجديد على مفهوم النحو، لكن في الوقت ذاته يتغير معه مفهوم النحو. أو لنقل: يستمر مفهوم النحو، لكن مع المدد المديدة يتغير قليلا.
من جهة أخرى، يكمن الإطار العام لاختصار الكتب النحوية في أن المشكلة المعروضة على المهتمين بالنحو العربي، هي: كيفية التعامل مع والسيطرة على المعرفة النحوية المتراكمة. لا يمكنني هنا ألا أفكر في إمكانية الاستغناء عن ضخامة المؤلفات النحوية بمختصرات تمثل حلا مقبولا يستجيب لشرط الذاكرة. ومن هذا المنظور ولد المختصر من سؤال هو: كيف يمكن استيعاب المعرفة النحوية المتراكمة؟ قد يقول قائل: إن الاختصار لا يحتمل التجاوز؛ لأنه يحمل صدى المؤلف ومحاكاته. الاختصار موقف تعليمي أكثر منه موقفا تأليفيا. أن يختصر نحوي ما ألفه نحوي آخر يعني إيمانه بجدوى ما كتبه المؤلف الآخر، وإيصال كتابه إلى أكبر قدر ممكن من الناس. ويمكن أن أضيف تسهيل درس الكتاب وتحصيله لتسليم المختصر بأهمية المختصر. لكن من وجهة النظر التي نعرضها عن تاريخ النحو العربي، وتخص اختصار الكتب النحوية أن المختصر يحمل معه عملا مريبا، فعند مستوى ما تبدو الرغبة في اختصار كتاب ما رغبة في تجاوزه، فالكتاب هوية لا تقبل الاختراق ما دام يحمل اسم مؤلف آخر. كل اختصار هو بمعنى ما تجاوز ينطوي على إدانة المؤلف بالقصور. يتوسط المختصر بين مؤلف الكتاب وبين القارئ لأنه يعتبر ذاته أعلم منهما معا؛ فالقارئ قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب كل الكتاب، والمؤلف قاصر لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها. الاختصار بمعنى ما: هو اتهام مبطن بالثرثرة والهذر. والمختصرون إذ يقيمون بين المؤلف وبين القارئ يزعمون إنقاذ المؤلف من تشوهات وانحرافات؛ ولذلك لا يخلو عملهم من عنف مشروع، لم تكن المؤسسة الثقافية آنذاك تجرمه أو تدينه.
أما شارح الكتب النحوية، فهو مختصر الكتب النحوية، لكن بشكل معكوس. وكما قلنا عن الاختصار؛ فالرغبة في شرح كتاب ما رغبة في تجاوزه؛ إذ الكتاب هوية لا تقبل الاختراق ما دام يحمل توقيعا آخر، وكل شرح ينطوي على إدانة القصور. يتوسط الشارح بين الكاتب وبين القارئ؛ لأنه يعتبر ذاته أعلم منهما معا. القارئ قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب الكتاب. والمؤلف قاصر؛ لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها. الشرح بمعنى ما هو اتهام مبطن بالغموض، والشارحون إذ يقيمون بين المؤلف والقارئ يزعمون إنقاذ المؤلف من تشوهات وانحرافات. ومثل الملخصين لا يخلو عمل الشراح من عنف مشروع لم تكن المؤسسة الثقافية تجرمه أو تدينه. أكثر من هذا؛ يخفي الشرح تصورا يتعلق بالتأليف والحقيقة. وإذا ما تأملنا الكتب التي شرحت كتاب سيبويه؛ فسيتضح أن المطلوب من شرح تلك الكتب أن تكشف عن المبهم والخفي والمشوش في كتاب أصلي، وأن الحقيقة مبهمة ومختفية. ومهمة التأليف هي البحث عنها في هذا الكتاب.
مراتب وتراجم وطبقات النحاة
يحتمل أن تكون بدهية؛ تلك التي مفادها أن كل نوع من أنواع الإنتاج الأدبي التي ينتجها المجتمع تعبر عن دافع من دوافعه الواعية أو غير الواعية. ولتفهم هذه البدهية فيما يتعلق بالتراجم يفترض هاملتون جوب
4
أن ما يكمن وراء التراجم العربية هو أن تاريخ الثقافة الإسلامية هو في الأساس إسهام أفراد في ثقافتهم النوعية. يعكس هؤلاء الأفراد وليس السياسيون القوى الفاعلة في المجتمع الإسلامي، وإسهامهم الفردي جدير بأن يسجل ويبقى للأجيال القادمة.
لا يمكن أن ننسى تخليد الذكرى الذي بدأت به فكرة التراجم في التراث العربي لا سيما الصحابة، غير أنها اتسعت فيما بعد إلى الدور الفئوي الاجتماعي عوضا عن السياسي. ترتب على هذا أن المؤهل الأساسي للمترجم له هو إسهامه الفردي في التقليد الثقافية للمجتمع الإسلامي. ثم تبع ذلك أن توسعت فكرة التراجم إلى الثقافة العربية كالأدباء والشعراء واللغويين والنحاة.
في إطار هذا التقليد ترجم لعدد كبير من النحاة. بدأ ذلك المبرد وثعلب، وتبعهما ابن درستويه، والمرزباني وغيرهما. غير أن أهم كتابين عرفا في هذا المجال هما: «مراتب النحويين» لأبي الطيب اللغوي، و«طبقات النحويين واللغويين» لأبي بكر الزبيدي. فقد ترجم الزبيدي تحت مفهوم «الطبقة» لعشرات النحويين، وكذلك أبو الطيب اللغوي تحت مفهوم «المراتب».
لقد احتفى محقق كتاب «طبقات النحويين واللغويين» بنهج الكتابين معا، واعتبر كل واحد منهما فريدا من نوعه بين كتب تراجم النحويين. يقول عن الأول: «لم يسلكه أحد من قبله، ولا نهج نهجه ممن جاء بعده.» غير أن المؤرخ لعلم النحو في التصور الذي نقترحه سوف يتساءل عن معنى الكتابين، وعن الهدف الذي جعل المؤلفين يقيمان كتابيهما على مفهومي الطبقة والمرتبة.
تختلف بنية كتب التراجم عن بنية كتب الطبقات؛ ذلك أن كتب التراجم اتبعت ترتيبا مختلفا، فقد ترد ترجمة النحاة مع غيرهم من أصحاب العلوم مثل كتاب «تاريخ بغداد»، ويرتب النحاة ترتيبا هجائيا حسب أسمائهم الحقيقية. وقد تغلب بعض المؤلفين كالسيوطي على صعوبة البحث عن النحوي تحت اسمه الحقيقي في كتابه «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة»؛ حيث خصص الباب الأخير للكنى والألقاب والإضافات.
5
والغالب على هذه الكتب هو أن ينقل المؤلف التالي عن المؤلف السابق. وبالرغم من أن غالبها لا يضيف جديدا سوى في نواح جزئية لا تكاد تذكر، فإن أهميتها الحقيقة تكمن في أن بعضها قد ينقل عن كتاب لم يعد متاحا ككتاب المبرد الذي نتعرف مادته من نقولات السيرافي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يرتبط الترتيب والتبويب والتصنيف بتفكير الزبيدي وأبي الطيب اللغوي نفسيهما، وهو التفكير الذي لا يرتبط بالمؤرخ الحديث لعلم النحو كما نقترحه، الذي يعرف أن الأسئلة التي عرضت عن نشأة النحو العربي. وغايته ومعناه وتاريخه كانت موضعا للتأمل منذ قرون طويلة كتاريخ النحاة، والجماعات العلمية النحوية (الطبقات) والمدارس النحوية (الكوفة والبصرة وبغداد ... إلخ)، إلا أنها لا توفر تصورا تاريخيا لمفهوم النحو؛ إذ لا يوجد سوى تراجم النحاة وحكاياتهم. ويبدو لي أن مفهومي «الطبقة» و«المرتبة» هما مفهومان وصفيان، ولا يحملان أي دلالة تحليلية؛ فهناك أسئلة لا يجاب عنها كالنتائج المترتبة على الطبقة والمرتبة، ولا المفاهيم النحوية المشتركة بين أعضائهما. وبالتالي فهما عنوانان وليسا مفهومين؛ لأنهما لا يقولان لنا شيئا أكثر من حكايات النحاة وأساتذتهم ... إلخ. ومع ذلك، فإنني أظن أن هذين المفهومين مفيدان لاقتراحنا عند مستوى التفسير المألوف للنحاة على أساس الأجيال؛ كأن يقال: الجيل الأول أو الثاني. وفيما لو أراد مؤرخ النحو الحديث كما نراه أن يستفيد من ذلك، فبإمكانه أن يتوقف عند كل جيل ومفاهيمهم التأسيسية للنحو، واستكشافها واختلافها من جيل إلى جيل، مما يعني إثارة قضايا نحوية مهمة تنتمي إلى تاريخ النحو العربي. يمكن أن يكون سؤال المؤرخ الذي نقترحه للنحو العربي لهذا النوع من الكتب هو: على أي نحو يمكن أن يمثل كتابا أبي الطيب اللغوي والزبيدي تاريخا للنحو وليس للنحاة؟ ذلك أن كتابين كهذين يحتفيان بالنحاة قد يكونان محفزين لدراسات في تاريخ النحو، فالكتابان يربطان علاقة بين ماضي النحو في النحاة المنتمين إليه، ومستقبل النحو في النحاة الذين جاءوا فيما بعد. تكمن الصعوبة التي تواجه الإجابة عن سؤال كهذا في أن يوسع المؤرخ مفهوم الجزء المتعلق بالنحوي إلى مفهوم الكل المتعلق بالنحو. وبهذه الطريقة أتصور أن كتابين كهذين يمكن أن يكونا موضوعا للتأمل من زاوية غير مألوفة في تاريخ النحو. وعلى أي حال، يمكن للمؤرخ الحديث للنحو العربي الذي اقترحناه أن يتأمل كتب النحو العربي المؤلفة أو الشارحة والمختصرة، وتراجم النحاة في ضوء الأفكار العامة التالية:
أن يكون للتلقي أسبقية منهجية؛ أي أن يكون تاريخ النحو سلسلة من سلاسل التلقي، ومفاهيم ترتبت على تلقيه. كل كتاب نحوي صيغ في محيط ثقافي يستقي منه الشارح أو المؤلف تصوره النظري. وكلما ابتعد النحوي عن زمن تأليف كتاب ما صعب عليه أن يفهم دقائق المؤلف. فالسيرافي مثلا ينطلق من محيط ثقافي له مصادره المعرفية؛ ذلك أن عصر السيرافي الذي شرح كتاب سيبويه، أو عصر الزجاجي الذي كتب مؤلفا في رسالة كتاب سيبويه، ليس بالضرورة هو عصر سيبويه؛ أي إن عقلية السيرافي وتكوينه الثقافي ليس هي عقلية سيبويه وتكوينه.
6
يمكن أن يكون تاريخ النحو سلسلة من المفاهيم التي تشكل ذخيرة إنجازات التلقي؛ لذلك فتحليل التلقي والاستجابات يزودنا برؤية النحاة للنحو في فترات تاريخية متلاحقة، وبتصوره التاريخي لا سيما إذا ما انتبهنا إلى الاستجابات المميزة والمعبرة. إن التحليل من منظور الاستجابات المعبرة والمميزة يساعد مؤرخ النحو على أن يفهم نظرات المراحل التاريخية، والسياق والكيفية التي يتحدث بها العلماء عن فكرة النحو العلمية، ما وكيف تحدثوا عنها.
لا يعني إنجازات النحاة أن هؤلاء النحاة لا غنى عنهم ولا بديل. فالقول: إن سيبويه كان لا بد من أن يكون سيبويه هو نفسه، أو أن ابن جني لا بد من أن يكون ابن جني هو نفسه، أو أن يقال ذلك عن غيرهما هو قول غير يقيني؛ ذلك أن علما كالنحو متى ما نضجت الفكرة، واكتملت ظروف الزمن ستتحقق الفكرة على يد عالم ليس شرطا أن يكون ذلك الذي حققها في التاريخ.
يمكن أن يعبر كل عالم من علماء النحو عن فكرة نحو عربي مكتمل يحمل طابعه الشخصي، ويشير إلى أصالة أسلوبه في تحليل القضايا النحوية. إن كل نحو من نحو هؤلاء يمثل مجموع قضايا نحوية متماسكة، ويبقى لكل واحد منهم قيمة مميزة في سياق تاريخ النحو العام.
يتحاور هؤلاء العلماء حوارا عقليا؛ ذلك أن الماضي عند كل واحد من النحاة لا غنى عنه لكي يستوعبه. يلوذ النحاة الموتى بالصمت، ولا يسمعهم النحاة الأحياء إلا من خلال كتاباتهم. يتكلمون عنهم، لكنهم لا يجيبون إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم النحوية.
7
يمكن أن يعد أحد النحويين نموذجا للآخر. وكما نعرف الآن فإن سيبويه نموذج ابن جني. ولا أبالغ إذا قلت: إن فهم ابن جني لكتاب سيبويه لا يماثله أي فهم آخر في التراث النحوي العربي. ربما يكون أحد علماء النحو خصما لعلماء آخرين مثلما كان ابن مضاء خصما لسيبويه وابن جني، وقد اخترت هذين النحويين لكونهما أسسا أغلب المفاهيم المؤسسة للنحو العربي.
يشترك علماء النحو في المعاني والخبرة. فالعلاقة بين هؤلاء العلماء علاقة فكرية وعلمية كتبادل المعلومات والأفكار من خلال الإشارة أو العزو أو التهميش، وهي علاقة تسهم في بلورة قضايا النحو وتطوير مفاهيمه، وتساعدهم على التعرف على الجديد، وما إذا كان يحتاج إلى شرح أو تأويل. إنها علاقة من نوع خاص؛ تثري المعرفة عن نشوء الجماعات العلمية كما هي في طبقاتهم، يتوج هذا كله بمظاهر تمسك هؤلاء النحويين بمفاهيم النحو العلمية.
هناك وجه آخر يبرز العلاقة العلمية بين النحاة؛ ذلك أن أحدهم قد لا يكتفي بأن يدعي أن يكون الحق معه في تحليل قضية نحوية، أو أن تكون حججه وبراهينه أقوى، إنما يريد أن تكون حججه وبراهينه ضد عالم آخر يخالفه ولا يتفق معه. من وجهة النظر هذه، فتاريخ النحو العربي في جزء منه تاريخ صراع، وخلفيته العميقة التي صدر عنها هو الصراع الخفي الذي يكنه كل عالم لآخر. تليق وجهة النظر هذه بالنحاة الكبار، وتبرر محاولة تجاوز بعضهم بعضا. من هذا المنظور فالنحاة قلما يسعون إلى أن يكونوا محقين من أجل الحق ذاته، إنما أن يكونوا محقين تجاه نحاة آخرين. وحججهم العميقة إنما هي دليل على رغبتهم في أن يقولوا الحق من أحقاد دفينة، وضغائن خفية. بصياغة أخرى فبراهين وأدلة كل ليست بريئة كما يعتقد القراء، إنما هي براهين آثمة لأنها تجل لرغبة خفية في أن يفرض ما يعتقده كما حدث من ابن مضاء.
لا يجب أن نعتبر صراع النحاة وتنافسهم عيبا في تاريخ النحو العربي؛ إذ يبدو أنه السائد في المعرفة. يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار في إحدى تبصراته النافذة: «لا يكتفي المرء أبدا بأن يكون الصواب إلى جانبه والحق معه، وأن تكون الحجة له لا عليه، بل إنك لتجده يتحرى دوما أن يكون محقا ضد شخص آخر يخالفه ويناقضه، وإنك قلما تجد المرء يسعى إلى أن يكون محقا تجاه القول الحق، بل إن مسعاه الدائم هو أن يكون محقا تجاه الغير. والحق أنه من دون ممارسة القناعة العقلية الممارسة الاجتماعية هذه، فإنه ليس يمتنع أن تكون أعمق الحجج العقلية، إن حقق أمرها وكشف شأنها، أقوى دليل على ما تحويه رغباتنا في قول الحق من أحقاد دفينة.»
المفاهيم المؤسسة للنحو العربي
يمكن لمؤرخ النحو كما نقترحه أن يتتبع في كتب بعض النحويين ما يمكن أن أسميه المفاهيم المؤسسة للنحو العربي؛ أعني اتفاق النحاة على مجموعة من المفاهيم لا يقوم النحو العربي بدونها. وهنا أسوق ملاحظتين في سياق الإجابة عن معنى مفاهيم النحو العربي المؤسسة. الملاحظة الأولى: أن المفاهيم التي أسسها بعض النحاة هي مفاهيم مشتركة بين علماء النحو العربي، وهي مفاهيم لا توجد بالضرورة بين علماء آخرين كعلماء البلاغة أو التفسير أو الفقه أو الحديث، ولا توجد بين المؤرخين والبلاغيين. فهي مفاهيم خاصة بالنحو العربي من حيث هو علم. فالعامل مثلا مفهوم مشترك بين النحاة، وليس بين المؤرخين أو المفسرين أو علماء الحديث. والملاحظة الثانية: أن هذه المفاهيم المؤسسة للنحو العربي هي مفاهيم مشتركة. وأكثر من ذلك هي مفاهيم مستلهمة، أو على الأقل مطمورة تحت ركام من التفصيلات وتفصيل التفصيلات في تاريخ النحو العربي. بأي معنى يوحي بعض النحاة بمفاهيم النحو العربي المؤسسة؟ في الواقع ليس الأمر بهذا الشكل من الوضوح في تاريخ النحو العربي؛ ذلك أن النحاة الكبار يمكن أن يشكلوا قائمة طويلة. غير أن وضع سيبويه وابن جني على سبيل المثال في مقابل رد ابن مضاء على النحاة يظهر إلى أي مدى كان سيبويه وابن جني من كبار مؤسسي مفاهيم النحو العربي الأساسية.
تبدأ قائمة كبار النحويين بسيبويه مؤلف الكتاب العمدة في النحو العربي. صحيح أن قبله نحاة كبارا، لكنهم في الغالب مشدودون إلى روح البنية الذهنية للقرن الأول الإسلامي؛ لذلك يمكن القول: إن سيبويه هو أول من جمع وحزم ووحد في مفاهيم نحوية ما أنجز قبله. وعلى حد ما أعرف فإن سيبويه لم يرحل إلى الصحراء، ولم يجمع اللغة من أفواه الأعراب، لكن وجوده ضروري للكم اللغوي المجموع من قبل العلماء الآخرين. وقد استخدم في ذلك عقله الخالص، وخياله الفذ لكي يصف اللغة العربية. وبحكم تلمذته على الخليل بن أحمد؛ فقد وجد سيبويه كمية اللغة التي جمعها الخليل طوال حياته، وما ينقصها هو عقل كعقل سيبويه. لقد أجاب سيبويه عن أول الأسئلة وأوضحها التي يطرحها أي دارس للنحو العربي، وهو: ما الذي يحدث الأثر في أواخر الكلمات العربية؟ ونحن الآن نعرف إجابة سيبويه من قوله: «وإنما ذكرت لك ثمانية مجار؛ لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة كما يحدث فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه بغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكل منها ضرب من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب.»
8
ولتأكيد مفهوم العامل، وأنه علة العمل؛ أي إنه هو الذي يحدث الأثر في آخر الكلمة العربية ضمن سيبويه كتابه أبوابا تحمل مفهوم العامل وتنص عليه، سأدرج منها ما يشير إلى ذلك:
هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينصب، وهو حال وقع عليه الفعل وليس بمفعول.
هذا باب ما يعمل عمل الفعل، ولم يجر مجرى الفعل، ولم يتمكن تمكنه.
هذا باب ما لا يعمل فيه قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول لا غيره.
هذا باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده.
لا أنوي هنا مناقشة وجهات النظر التي ترتبت على مفهوم العامل في تاريخ النحو العربي، وكونه هو المؤثر أو أنه أمارة أو أنه علامة فقط، أو لا عمل له على الإطلاق. إنما أود أن أقترح أن مفهوم العامل حدد به سيبويه النحو العربي، من حيث هو علم، يختلف مثلا عن علوم اللغة والدين والتاريخ؛ أي إن مفهوم العامل مفهوم أساس في دراسة النحو العربي، ومفهوم مؤسس. والنقاش الذي أثاره العامل في تاريخ النحو العربي، وقبوله الضمني بين النحاة - مهما كانت رغبتهم في متابعة سيبويه أو رغبتهم في مجادلته أو معارضته - أقول: أود أن أقترح أن يكون مفهوم العامل هو المفهوم المؤسس الأول للنحو العربي؛ لأننا لن نجد نحويا لا يسلم في البادية بهذا المفهوم.
إن مشكلة مفهوم العامل من حيث هو المفهوم الأول والمؤسس للنحو العربي ليست في ظهوره. فلا مشكلة في أن الفعل «ضرب» هو العامل في رفع زيد ونصب عمرو في قولنا: «ضرب زيد عمرا». إنما تكمن المشكلة في عدم ظهوره، كما في قولنا: «زيد» جوابا على من سأل: «من ضرب عمرا؟» في هذه الحالة يظهر مفهوم مؤسس آخر هو مفهوم الإضمار. وكل النحاة يعرفون إجابة سيبويه التالية: «إذا رأيت رجلا متوجها وجهة الحاج، قاصدا في هيئة الحاج، فقلت: «مكة ورب الكعبة.» حيث زكنت (حدست) أنه يريد مكة، كأنك قلت: «يريد مكة والله.» ويجوز أن تقول: «مكة والله.» على قولك: «أراد مكة والله.» كأنك أخبرت بهذه الصفة عنه أنه كان فيها أمس. فقلت: مكة والله، أي أراد مكة إذ ذلك.»
9
وتأكيدا لأهمية مفهوم الإضمار نص سيبويه عليه. وسأدرج من الكتاب ما يشير إلى ذلك.
هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي.
هذا باب ما يضمر فيه المستعمل إظهاره بعد حرف.
هذا باب منه يضمرون الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوله.
هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء.
لا أنوي هنا مناقشة ما طرأ بعد ذلك على مفهوم الإضمار في تاريخ النحو العربي، إنما أريد أن أؤكد على أن مفهوم الإضمار هو المفهوم المؤسس الثاني للنحو العربي، ومثله مثل مفهوم العامل. لا أظن أننا سنجد نحويا لا يسلم بأهمية هذا المفهوم.
لقد أرسى سيبويه النحو العربي بوصفه علما، وحدد طريقه للآخرين. أكتفي هنا بابن جني النحوي الأهم عندي بعد سيبويه. من قرأ كتابه الخصائص يعرف أن ابن جني أنجز مهمة مملة ولكنها حيوية جدا في تاريخ النحو العربي. فقد أراد من تأليف كتابه الخصائص أن يفكر من جديد في النحو، وأن يحدد أصوله على أصول الكلام والفقه مما مكن من استخدام مفهوم العلة على نحو منتج ومفيد. يقول: «... أنا لم نر أحدا من علماء البلدين (البصرة والكوفة) تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه، فأما كتاب أصول أبي بكر (ابن السراج) فلم يلملم فيه بما نحن عليه إلا حرفا أو حرفين في أوله، وقد تعلق عليه به. وسنقول في معناه.»
10
دشن كتاب الخصائص مفهوم العلة. بدأ ابن جني بتوضيح غرابة هذا المفهوم عن نحو تلك المرحلة التاريخية؛ أعني ما يفهم من قوله في مقدمة كتاب الخصائص عن «تعريد (هروب وفرار) كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه (التعليل)، وتحاميهم طريق الإلمام به، والخوض في أدنى أوشاله وخلجه، فضلا عن اقتحام غماره ولججه.»
11
يمكن أن نستخلص من عبارة ابن جني هذه، ومن عبارات أخرى مشابهة تخص أصول الأخفش النحوية، وأصول الكلام وأصول الفقه، يمكن أن نستخلص شعور ابن جني بأن هناك جانبا من كلام العرب لم يعلل أو أنه علل بشكل بدائي. وحين ألف كتاب الخصائص أصبح عندنا نوعان من الكتب؛ كتب تصف لغة العرب، وكتب أخرى تعللها. وإذا ما كان كتاب سيبويه الكتاب الأهم في تاريخ النحو العربي الذي يصف كلام العرب، فإن كتاب الخصائص هو الكتاب الأهم في تعليل كلام العرب في التراث النحوي كله.
تكمن جدة كتاب الخصائص في الوعي بمفهوم العلة؛ فبغير مفهوم العلة يبدو الحكم النحوي مليئا بالثغرات؛ أي إن ما يجعل الحكم النحوي متماسكا هو مفهوم العلة؛ فقد ساوى بين الأحكام النحوية. وهذه أعظم مساهمة لكتاب الخصائص؛ إذ بإمكان أي شخص أن يتحدى أي حكم نحوي، بشرط أن يقدم العلة لحكمه النحوي المعارض. أما المساهمة الأخرى التي لا تقل أهمية عن هذه، فهي أن النحوي لم يعد الشخص الذي يعرف الحكم النحوي فقط، إنما الشخص الذي يبحث أيضا عن علته. إننا نخطئ خطأ جسيما إذا نحن أولنا كتاب الخصائص على أنه تطوير لفكرة العلل عند ابن السراج. لذلك يجب أن نعتبر كتاب الخصائص محاولة ابن جني لإيقاظ النحو العربي ودعم مفهوميه المؤسسين (العامل والإضمار) بمفهوم جديد هو مفهوم «العلة». وعلى أي حال لن أناقش مفهوم العلة، وما ترتب عليه من عدد العلل التي وصلت إلى عشرات العلل في تاريخ النحو العربي، إنما أريد أن أؤكد أن من النادر أن نجد نحويا لا يسلم بمفهوم العلة في النحو.
يأتي بعد سيبويه وابن جني عبد القاهر الجرجاني الذي نظر إليه المعاصرون على أنه بلاغي. ومكانته لا تكاد تذكر في تاريخ النحو العربي، ولا يشكل مرجعية علمية عند التعرض لقضايا النحو. ومن المثير في هذا الصدد ما جاء في التعريف بالطبعة الأولى من كتاب «دلائل الإعجاز» التي كتبها السيد محمد رشيد رضا. كتب: «أما الكتاب (دلائل الإعجاز) فيعرف مكانته من يعرف معنى البلاغة، وسر تسمية هذا الفن بالمعاني. وأما من يجهل هذا السر ويحسب أن البلاغة صنعة لفظية محضة قوامها انتقاء الألفاظ الرقيقة أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالج بهذا الكتاب.» تبدو غرابة هذا القول حينما نقرأ في مقدمة الكتاب أن الجرجاني نفسه أدرج كتابه في النحو وليس في البلاغة. يقول: «هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة، وكل ما به يكون النظم دفعة، وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له، حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مشئما قد ضم إلى معرق، ومغربا قد أخذ بيد مشرق.»
12
ويقول في صفحة أخرى: «ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر، أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادا أو مجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم ولا يصح في عقل، أن يتفكر متفكر في معنى «فعل» من غير أن يريد إعماله في «اسم»، ولا أن يفكر في معنى «اسم» من غير أن يريد إعماله في «اسم» ولا أن يفكر في معنى «اسم» من غير أن يريد إعمال «فعل»، فيه وجعله فاعلا أو مفعولا، أو يريد منه حكما سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ، أو خبرا، أو صفة، أو حالا، أو ما شاكل ذلك.» وسوف يوضح لنا بشطر بيت من الشعر كيف أن المعنى يتوقف، أو بالأحرى «يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو»، حينما نزيل ألفاظه من مواضعها.
لاحظ الجرجاني أن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلمات المفردة؛ أي وهي متجردة من معاني النحو «إنما منطوقا بها على وجه يأتي معه تقدير معاني النحو وتوخيها فيها». ويستطرد: «ولم تجئ إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر». ماذا يعني هذا لفكرتنا عن المفاهيم المؤسسة للنحو العربي؟ يعني أن هناك قضيتين نحويتين مفترضتين:
لكل كلمة في الجملة حكم نحوي.
ليس لكلمتين متتاليتين في جملة واحدة الحكم النحوي ذاته.
من أين جاء اللبس في حشر كتاب «دلائل الإعجاز» في كتب البلاغة والجرجاني في علماء البلاغة؟ يبدو لي أن عبد القاهر الجرجاني أراد أن يكون النحو علم علوم اللسان العربي؛ أعني العلم الشامل لكل فنون اللغة العربية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى من أن الجرجاني استطاع مستعينا بفكرة العقل الإنساني الذي يهيمن على كتابه أن يصوغ قضية الإعجاز صياغة جمالية بعد أن كانت مثقلة بالدين. لقد هيأت اللغة العربية لعبد القاهر الجرجاني سبل تحليل كلامها وفنها وجمالها من منظور النحو. ومن المفارقة أن الشعر والقرآن - وليس كلام الأعراب أو لغات القبائل التي تؤخذ عنها اللغة - هما ما سمحا له بصياغة نظريته الجمالية. فالقرآن والشعر يتمايزان عن الكلام اليومي، ولا أقدر من النحو مدخلا لتحليل الكلام الجميل والمعجز.
تكمن أهمية عبد القاهر الجرجاني في تاريخ النحو العربي في تأكيده على مفهوم الحذف الذي يعتبر أهم مظهر من مظاهر التأويل النحوي. وهو ينص على ذلك صراحة في عنوان فصل من فصول كتابه دلائل الإعجاز «القول في الحذف». وهو فصل أظن أنه أجمل فصل كتب عن مفهوم الحذف في تاريخ النحو العربي. مكمن الروعة في هذا الفصل أن الجرجاني وعى وظائف الحذف ليس من جهة النحو فحسب، إنما أيضا من ناحية الجمال. فغموض اللغة كما يكون عادة في الكلام الجميل والكلام المعجز يحتاج إلى وضوح العقل. ولم يجد الجرجاني أفضل من علم النحو المستند إلى العقل ليوضح وحدات الفن والإعجاز التركيبية؛ فالعقل ليس دلاليا أو وصفيا فحسب؛ إنما أيضا جمالي. لقد ذكرت فيما سبق أن هناك نوعين من الكتب في التراث النحوي. الأولى: تصف كلام العرب وأهمها كتاب سيبويه. والثانية: تعلل كلام العرب وأهمها كتاب الخصائص. وسأضيف هنا نوعا ثالثا يتذوق كلام العرب، وأهمها كتاب دلائل الإعجاز.
ينطلق الجرجاني من فرضية مفادها أن مستويات اللغة العربية؛ أعني الكلام بعامة، والكلام الجميل كالشعر، والكلام المعجز كالقرآن نتاج عقل المتكلم بها، فحيثما يوجد مستوى من هذه المستويات يعني أن العقل يعمل؛ «فالعاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به». وكل مستوى منها قادر على أن يحقق الهدف الذي يريده العقل الذي أنتجه، ويسعى لكي يحقق فكرة المستوى اللغوي الكامل. وبالتالي فإن عمل النحوي هو أن يتقصى الحد الذي يقترب فيه المستوى اللغوي من فكرة كمال المستوى اللغوي ذاته. هناك اختلافات بين هذه المستويات، ويقر الجرجاني بذلك؛ إلا أنه لا يفرض معيارا من خارج كل مستوى، إنما يستمده من طبيعة المستوى الداخلية.
لا أحد قبل الجرجاني فكر في أن الحذف يمكن أن يهيئ معرفة. ومقارنة الفصل الذي خصصه ابن جني للحذف «باب في شجاعة العربية» بالفصل الذي خصصه الجرجاني يرينا إلى أي حد تحول عمل الهاوي (ابن جني) إلى عمل محترف (الجرجاني)، وأن ما أطلق عليه ابن جني «شجاعة العربية» ليست إلا فكرة بدائية نضجت، وآتت أكلها عند عبد القاهر الجرجاني، وشجاعة العربية عند ابن جني لم يكن لها أن تقاوم شجاعة المعرفة عند الجرجاني. وهكذا يختفي وراء بناء النحو العلمي عند الجرجاني قناعة تتمثل في إعجاز اللغة ودلائل إعجازها، وليس ما فهم على أنه إعجاز مستوى لغوي معين. هذه القناعة هي أن اللغة معجزة الإنسان.
إن ما أردت أن أوضحه هو وجود مفاهيم مؤسسة للنحو العربي من حيث هو علم، أسهم في وضعها سيبويه وابن جني والجرجاني. هذه المفاهيم المؤسسة هي: العامل والإضمار والعلة والحذف. وهي مفاهيم نحوية تشكل حدا أدنى لكل معرفة بالنحو العربي، وبداية يؤمن بها معظم النحاة، ويستعملونها بوصفها لا تقبل الجدل.
بدهيات النحو العربي
لا جدوى من أن أميز بين البدهيات وبين المسلمات، فهذا أمر ثانوي على الأقل عند غير الإقليديين (نسبة إلى إقليدس)؛ لذلك بإمكاننا أن نقول بدهيات النحو العربي في الوقت الذي بإمكاننا أن نقول مسلماته. وفي تصورنا يمكن أن نبحث عن بدهيات النحو العربي، وأن نعرضها ضمن تاريخ النحو العربي، وأن نؤسسها على أقل عدد ممكن. وسأقترح البدهيات التالية:
لكل حكم نحوي عامل.
إذا لم يكن العامل ظاهرا فهو مضمر.
لكل حكم نحوي علة.
تسقط كلمة أو أكثر بشرط ألا تتأثر الصياغة أو المعنى.
مؤكد أنني أشعر بضعف صياغة هذه البدهيات، وبمقدار تداخلها، وتعقيداتها في التراث النحوي العربي. وهي تعقيدات لن أتوقف عندها؛ فما أريد قوله هو أن المفاهيم المؤسسة للنحو العربي هي التي مكنت القول ببدهيات النحو العربي، وقد تعرضا إلى تحد كبير من ابن مضاء. ظهر هذا التحدي بعد وقت طويل من تأليف كتابه «الرد على النحاة»؛ حيث أثار صدوره محققا من قبل شوقي ضيف الرغبة في أن يتخلى النحو عن المفاهيم المؤسسة والبدهيات أو على الأقل مراجعتها.
إن من يقرأ كتاب «الرد على النحاة» يعرف أن ابن مضاء لم يكن غريبا عن النحو العربي. وما يثير الإعجاب حقا هو خبرته بالتراث النحوي إلى حد أنه اختار بحصافة ما يهاجمه منه. من هذا المنظور فكتابه يؤكد أن ما اقترحته على أنها بدهيات ومفاهيم مؤسسة للنحو العربي هي بالفعل كذلك، فتفكيك قضية ما أو تدميرها يجب أن تستهدف فيها بدهياتها ومفاهيمها المؤسسة.
ما الذي شغل ابن مضاء في كتابه؟ سأتجاوز لغة السجال لأتوقف عند فكرة، هي أن ابن مضاء شعر بأن النحو العربي فقد براءة وبساطة بدهياته ومفاهيمه المؤسسة، وأن هناك طرقا إلى المعرفة النحوية أسهل مما آلت إليه مفاهيم النحو وبدهياته المؤسسة. وقد ركز الكتاب على هذه الفكرة، وهو يعالجها تقريبا بشكل تفصيلي. وكما هو معروف فإن الكتاب مستوحى من المذهب الظاهري، ويعكس وجهة نظره في التمسك بحرفية النصوص وإلغاء القياس واستبعاد العلل.
هل قبل النحاة كتاب الرد على النحاة أم رفضوه؟ بالإمكان أن نتجنب كلا الموقفين؛ ذلك أن تحدي ابن مضاء بدهيات النحو ومفاهيمه المؤسسة كان يمكن أن يدفعهم إلى أن ينظروا بجدية إلى المفاهيم والبدهيات التي هاجمها. ما تحداه ابن مضاء وأراد هدمه هو أهمية هذه المفاهيم والبدهيات في علم النحو، لا سيما في صورتها الأبسط والأبعد عن التعقيد.
وعلى أي حال؛ لن أعيد هنا إنتاج حجج ابن مضاء في الاستغناء عن العلل الثواني والثوالث؛ إنما سألفت النظر إلى أن ابن مضاء قبل المفهوم البسيط منها؛ أعني أنه قبل العلل الأولى؛ وهو قبول لمفهوم أمثل به لما عنيته هنا بالمفهوم النحوي في صورته الأبسط والأبعد عن التعقيد.
المفاهيم الموجهة للنحو العربي
كتب ابن جني «وليس غرضنا فيه (كتاب الخصائص) الرفع، والنصب، والجر، والجزم؛ لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنفة فيه منه. وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع والمبادي، وكيف سرت أحوالها في الأحناء والحواشي.»
13
ثم يبين بعد ذلك أن لغة العرب هي التي يسميها دارسو النحو الجمل على اختلاف تراكيبها. كتب هذا في ختام باب الفرق بين الكلام والقول. وهو فرق يستند إلى أن القول أوسع تصرفا من الكلام، وأن القول قد يقع على الجزء الواحد وعلى الجملة، وعلى ما هو اعتقاد وعلى ما هو رأي. ويأخذ على آخرين أنهم ضيقوا القول إلى حد أنهم لا يفصلون بينهما. ثم يتعجب من أن أولئك الذين لم يفهموا أن سيبويه فصل بينهما، ويختم بشطر بيت من معلقة لبيد يدل على أنه متبع لا مبتدع.
14
يتابع ابن جني سيبويه في التفريق بين القول وبين الكلام، ويميز من جهة بين القول المرتبط بالكلام الناقص وغير المفيد الذي يخلو من المعنى، وبين الكلام من حيث هو قول تام من جهة أخرى. والكلام التام هنا هو الكلام المفيد ذو المعنى كالجملة وما كان في معناها.
قبل ابن جني لم يكن للمعنى أي دور استكشافي للتفريق بين المفاهيم، فقد استخدم عند سيبويه لتحليل المبنى الناتج عن المعنى الذي يقصده المتكلم. ولكي يتم ابن جني ما بدأه سيبويه؛ فقد تعلقت بعض أبحاثه في كتاب الخصائص بمفاهيم كالمعنى والخفة والثقل والتشابه والإيجاز. وهناك نص يقودنا رأسا إلى أهم المفاهيم الموجهة للنحو العربي. يقول: «ومعلوم أن الكلمة الواحدة لا تشجو، ولا تحزن، ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام، وأمتع سامعيه، بعذوبة مستمعه، ورقة حواشيه ... والإطالة والإيجاز جميعا، إنما هما في كل كلام مفيد مستقل بنفسه. ولو بلغ الإيجاز غايته لم يكن له بد من أن يعطيك تمامه وفائدته، مع أنه لا بد فيه من تركيب الجملة، فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان، ولا استعذاب.»
15
ما الذي نفهمه من هذا النص؟ أن ابن جني يحتاج إلى مرشد وموجه ليتجاوز أي إشكال للتفريق بين القول والكلام. وقد وجد هذا المفهوم في المعنى؛ أي لكي يفرق ابن جني بين القول وبين الكلام احتاج إلى المعنى من حيث هو مفهوم موجه. وقد حل الإشكال بهذا المفهوم، وأدرك به الفرق بين القول والكلام. ولم يكن ممكنا الحل بدون مفهوم المعنى؛ فالكلام ذو المعنى ينطبق عليه وصف ابن جني. فهو قد يشجو، وقد يحزن. قد يمتلك قلب السامع، وقد يمتع سامعيه، بعذوبة مستمعه، ورقة حواشيه، وهذه الآثار للكلام ذي المعنى لا يمكن أن تكون آثارا لكلام غير ذي معنى. ولكي يكون الكلام ذا معنى يجب أن يكون مركبا، وهو ما يستدعي مفهوم الجملة النحوية؛ فالتركيب يصنع سياقا للكلمات، وتصنع الكلمات في سياقها جملا مركبة. غير أن مفهوم التركيب لم يكن عند ابن جني مفهوما يوصف بنية اللغة ولا بنية النصوص إنما يوصف بنية الجملة. مفهوم التركيب عند ابن جني هو مفهوم شرط الإفادة منظورا إليها بما هي معنى يراد به أن يفهم. المعنى عند ابن جني هو المفهوم الموجه الأول الذي يرسم للنحوي السبيل الذي يسلكه، ويوجهه نحو الهدف.
يعبر ابن جني عن مفهوم موجه آخر ضروري للنحوي. يكمن المفهوم في قوله: «وهذا عادة للعرب مألوفة، وسنة مسلوكة.»
16
يقصد مفهوم التشابه. فالعرب «إذا أعطوا شيئا من شيء حكما ما قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه؛ عمارة لبينهما، وتتميما للشبه الجامع لهما.»
17
ثم يفسر ذلك في مكان آخر فيقول: «واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل، ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن، وأنه منها على أقوى بال.»
18
لقد دفع ابن جني مفهوم التشابه إلى أقصاه؛ فولد منه مفهوم القياس؛ ذلك أن القياس يعني المماثلة والتشابه والنظير من حيث هو منهج بدأ أولا في الأحكام الفقهية؛ حيث الاستدلال الفقهي من مقدمات مشروعة في النصوص الدينية المؤسسة كالقرآن الكريم والسنة النبوية. وقد حاد عن الصواب من اعتقد بتأثر ابن جني بالقياس الفلسفي الذي يعني لزوم نتيجة من مقدمتين.
19
إن ما جمعته هنا يكفي لأن يشير إلى بعض من مفاهيم النحو الموجهة وليس كلها. لقد أهملت أكثر مما ذكرت من المفاهيم الموجهة للنحو؛ إذ إن هدفي هو أن أشير إلى مجالات في تاريخ النحو كما نقترحه لم تدرس بعد. مجرد اقتراحات أعرضها في أفكار عامة؛ لذلك سأكتفي بمفهومين آخرين هما الخفة والثقل دليلا على فكرتنا عن المفاهيم الموجهة للنحو العربي. يقول ابن جني: «أما إهمال ما أهمل، مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة أو المستعملة، فأكثره متروك للاستثقال، وبقيته ملحقة به، ومقفاة على أثره.»
20
ويقول في مكان صفحة أخرى: «فأعلق يدك بما ذكرناه، من أن سبب إهمال ما أهمل، إنما هو لضرب من ضروب الاستخفاف.»
21
مشكلات النحو الكبرى
دراسة الخلاف بين النحويين مفيدة، لكن الاكتفاء بالتوقف عند مسائل الخلاف وقسمتها إلى أصولية وإلى موضوعات نحوية جزئية ليس أكثر من تصنيف الخلاف وإعادة سرده؛ أي إن هذه الدراسات لا تتعدى إلى ما هو أهم لتاريخ علم النحو كما نقترحه، كربط الخلافات بتصورات النحويين العلمية، وعلاقتها بالثقافة؛ ذلك أن تاريخا جزئيا كتاريخ النحو مرتبط قبل كل شيء بالتاريخ العام، ولا ينبغي لمؤرخ النحو أن يتجاهل ذلك. ومهما حاولت دراسات كهذه أن تورد العوامل التي هيأت الجو للخلاف كالاتجاهات السياسية، والتعصب، والمنهج ... إلخ؛ فإنها لن تكون كافية من دون أن تحلل تكوين النحاة العلمي، وارتباط نحوي بآخر؛ لأن شبكة من المسلمات تشكل خلفية النحوي المعرفية؛ فحين يفكر نحوي؛ فهو يسلم بوجود طريقة معينة توصف بأنها شبكة من الأحكام. يمكن أن يقال عن شبكة الأحكام هذه بأنها نظرية، وربما مجموعة من النظريات، لكن حين تؤدي الخلفية عملها عند النحوي؛ أي أن تقوم بوظيفتها، فليس النحوي في حاجة إلى نظرية؛ لأن مسلماته تسبق نظرياته. بناء على ذلك يقصد بأصول النحاة المعرفية مسلمات النحاة. ليست تصوراتهم وفرضياتهم وآراؤهم فحسب، بل هي جزء مما يسمى بخلفية فكرهم.
22
سأتوقف عند مشكلة كبرى من مشكلات النحو العربي هي مشكلة العامل. وقد تتبع السيد رزق الطويل الخلاف بين مدرستي البصرة والكوفة في كتاب ابن الأنباري «الإنصاف في مسائل الخلاف» وعدها في اثنتين وعشرين مسألة. وقد وصل إلى نتيجة هي أن الكوفي اتجه نحو العامل اللفظي، وأن البصري اتجه نحو العامل العقلي؛ ويفسر نتيجته هذه بقرب الكوفيين من الواقع اللغوي، وفهمهم لطبيعة اللغة، بينما يفرض البصريون على العامل قيودا عقلية بحتة.
يرضي الاتجاه الكوفي الفكر الذي يود دائما أن يبسط المعقد، ويركز على البسيط، ويرضي الاتجاه البصري الفكر العلمي الحقيقي؛ فجوهر هذا الفكر أنه يقرأ المعقد في البسيط على حد تعبير باشلار.
23
وعلى هذا النحو ندرك أن التفسير بكون الاتجاه الكوفي أو الاتجاه البصري أقرب إلى اللغة وطبيعتها هو تفسير يتناسى أن قيمة مشكلة نحوية كالعامل النحوي قيمة تتناسب مع إيحاءاتها بالتحقيقات العقلية التي تتفق مع اللغة التي نتكلمها بسهولة، لكن العقل يعقدها كشأن أي علم يدرس ظاهرة ما. لقد اهتم الكوفيون بالظاهر؛ أي إنهم لم يعتنوا بالمستتر، بينما اقتنع البصريون أن فيما يستر ويحذف ويضمر ما يزيد على ما يظهر؛ لذلك كان من المتعذر على الكوفيين أن يتوصلوا إلى مفهوم التأويل المهم في بناء علم النحو. قد يرضي اكتفاء الكوفيين بالعامل اللفظي الوصفيين، لكن هؤلاء يتناسون الإطار الثقافي لتخريجات البصريين وتحقيقاتهم العقلية وتأويلهم؛ حيث يتجاوب هذا الإطار مع تأويل النصوص المؤسسة للمجتمع الإسلامي كالقرآن والحديث. لقد منح التأويل النحو حيوية وقيمة عقلية استخلصها نصر حامد أبو زيد. فالتأويل في النحو العربي ليس ذلك المرض الذي يتخلص منه الوصفيون، إنما هو أداة أساسية في بناء أي علم كعلم النحو، وهو يعكس الرؤية العلمية لإحدى الظواهر في فترة تاريخية معينة. ثم إنه أداة أصيلة في الثقافة العربية الإسلامية التي ولدت من نص أساسي ومركزي هو القرآن.
24
لن نتوقف عند أطر المجتمع الإسلامي الثقافية؛ فقد أشبعت بحثا. ما نود أن نتوقف عنده هو مفهوم الشذوذ بوصفه مشكلة كبرى من مشكلات النحو العربي؛ فأهمية الشذوذ بوصفه مشكلة تكمن فيما لو عرفنا الآن على الضد مما عرفه القدماء وبنوا عليه قاعدة. الشذوذ تعريفا هو ما لم يخضع للقاعدة التي وضعها البصريون.
25
ما نريد أن نلفت النظر إليه هو أن الشذوذ ليس نقيض القاعدة، أو خروج عن النظام فقط، إنما هو أيضا مرتبط بطبيعة العلم. فمن طبيعة العلم أن يكشف ما هو خارج نظامه على أنه شاذ؛ أي أنه يخرج «غير المفهوم طبقا للإطار المعرفي الحالي».
26
العامل والشذوذ مجرد مثلين للمشكلات الكبرى للنحو العربي. لا شك في أن هناك ما هو أكثر؛ فالخلافات النحوية كثيرة. وهذه الخلافات لا سيما الكبرى منها ترتبط بمشكلات نحوية بعينها، وهو أمر جيد؛ لأنها تشير إلى أن النحو علم يعي موضوعه. وتبعا لما نقترحه يمكن أن يوصف مؤرخو النحو تاريخ النحو استنادا إلى مشكلاته الكبرى. مثلا يمكن أن يعلموا المراحل التاريخية ويبرزوها في تاريخ النحو تبعا للمشكلة الكبرى أو المشكلات التي دار حولها الخلاف، وما إذا كان الخلاف يشير إلى عوامل ثقافية كالتي أثارها ابن مضاء وعلاقتها بالعوامل الثقافية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أن توفر لهم مشكلات النحو الكبرى مخططا تاريخيا لتناسل المشكلات من بعضها البعض وتناسل الحلول التي قدمها النحاة. مشكلات النحو الكبرى تختلط في تاريخ النحو برد النحاة على بعضهم البعض، وبوسائل الخلاف فيما بين النحاة؛ لذلك فإن دراسة مؤرخي النحو لكتب الخلاف بين النحاة ستساعد على رسم المخطط التاريخي لمشكلات النحو.
الفصل الثاني
النحو في حدود المعيار
تكاد تجمع المصادر على أن أبا الأسود الدؤلي هو واضع النحو العربي. غير أن «الوضع » المنسوب لرجل واحد تبدو الكلمة غير المناسبة لفهم عملية معقدة كنشوء علم من العلوم؛ فما يبرر القيمة الحقيقة لوضع علم من العلوم ليس العقل الخاص لهذا الرجل العبقري أو ذاك، إنما العقل الجماعي للعلماء؛ لذلك فمشكلة نشأة النحو العربي أشد تعقيدا مما ذكر في المصادر القديمة.
ومع تحفظي على فكرة الوضع إلا أنني سأوافق عليه، لكن ليس من جهة أبي الأسود الدؤلي أو من جهة غيره العلماء؛ إنما من جهة أن بعض الأفكار تفرض نفسها على المشهد الفكري بقوة هائلة. وفق سوزان لانغر في كتابها «الفلسفة بنغمة جديدة»؛ فإن الأفكار التي تفرض نفسها تعد بحل كثير من المشكلات على نحو آني. أكثر من هذا تبدو هذه الأفكار كما لو أنها ستحل المشكلات الأساسية، وتضيء المشكلات الغامضة؛ لذلك يرحب بها الجميع كما لو أنها المفتاح السحري لعلم جديد، أو كما لو أنها يمكن أن تكون المركز المفهومي الصالح لبناء تحليلي شامل.
1
ما الفكرة التي فرضت نفسها على المشهد الفكري لمرحلة الدؤلي التاريخية؟ سأبني إجابتي على الربط الذي تورده المصادر بين وضع أبي الأسود الدؤلي النحو وبين ضبطه المصحف بالشكل. فهذا الربط يشير إلى أن أبحاثه النحوية انصرفت إلى ضبط أواخر كلمات القرآن؛ أي إن الفكرة التي فرضت نفسها هي فكرة أن يكون هناك علم يضبط أواخر كلمات القرآن من جهة، ومن جهة أخرى يصون اللسان العربي من الخطأ. وعلى الرغم من النقد الموجه حديثا إلى هذه الفكرة فإنها أبعد الأفكار أثرا، وأشدها وعدا بصفتها بداية، ومن منظورها فإن الدؤلي في تاريخ النحو العربي يشبه طاليس المالطي في تاريخ الفلسفة اليونانية؛ إذ إن الدؤلي عرض المشكلة، وحدد اتجاه وطابع النحو؛ لذلك فأهمية أبي الأسود الدؤلي في تاريخ النحو تكمن في أنه عرض مشكلة، وليس لأنه حلها.
في إطار الأفكار التي تفرض نفسها، سأختبر نشأة النحو العربي في حكايات نشأته. وسأنطلق من فرضية هي أنها حكايات ألفت لاحقا، لكن تأخر تأليفها لم يكن ليمنع مؤلفيها من أن يضفوا بتأليفها المشروعية على نشأة النحو لحفظ اللسان العربي، وأنهم لخصوا بها فكرة النحو الأولى حين تصوروه في نموذج نافع؛ فالمعرفة النافعة المرتبطة بنشأة أي علم هي المعرفة المرتبطة بحياة الناس، ولا يوجد أفضل من ارتباط القرآن باللغة العربية، وارتباطهما معا بحياة المسلم اليومية.
لقد نشأت الحاجة إلى تركيب نظري كالنحو؛ بسبب نمو المجتمع العربي الإسلامي وتطوره. وإذا ما تأملنا النحو بوصفه تركيبا نظريا، فسنلاحظ أنه يوسع المعرفة النحوية التي يستقيها من الناطقين باللغة العربية. فتبعا للقدماء فالعربي من أهل الوبر يرفع الفاعل، ليأتي النحو بعد ذلك ليوسع معرفتنا بالفاعل إعرابا وتقديما وتأخيرا ... إلخ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الناطقين باللغة العربية يتجلون في النحو العربي؛ فوظيفة الناطقين إثارة التفكير النحوي؛ فالعربي من أهل المدر الذي نصب الفاعل يثير تفكير المهتمين باللغة العربية. يعني هذا أن مهمة النحو لا تتعلق بالناطقين، إنما تتعلق باللغة التي يتواصلون بها؛ فالفرق بين الأعرابي الذي قال: يا سبحان الله! يلحنون ويرزقون، وبين أبي الأسود الدؤلي الذي وضع الفاعل والمفعول، هو الفرق بين الأعرابي الناطق الذي يفكر في الناطقين، وبين النحوي الذي يفكر في اللغة. ولا يمكن أن نقدر أهمية هذا التطور، إلا إذا نظرنا إلى تلك المرحلة التاريخية في إطار موقعها التاريخي.
عند بعض مؤرخي النحو العربي وجد النحو مشكلته الأولى ضمن ملاحظات مرضية يعبرون عنها بفساد الألسن وجرثومة اللحن وتسرب الضعف إلى سليقة العربي.
2
من منظور الصحة والمرض يمكن عرض المسألة على النحو التالي: الرجال الأصحاء الذين لا يعكر صحتهم شيء لن يعرفوا علما للصحة،
3
كذلك هم العرب الفصحاء لن يعرفوا علم النحو. هذا ما توحي به حكاية الأعرابي الذي وقف على مجلس الأخفش، فحار وعجب وأطرق ووسوس. فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ فقال: أراكم تتكلمون بكلامنا عن كلامنا بما ليس من كلامنا.
4
قبل الإسلام لم يكن العرب في حاجة إلى تركيب نظري يسمى النحو؛ لأنهم في غنى عن ذلك؛ فقد «كانوا ينطقون عن سليقة جبلوا عليها، فيتكلمون في شئون حياتهم من دون تعمل فكر، أو رعاية إلى قانون كلامي يخضعون له، قانونهم ملكتهم التي خلقت فيهم، ومعلمهم البيئة المحيطة بهم.»
5
ماذا يعني هذا للأعرابي الذي حضر مجلس الأخفش النحوي؟ يعني أن الأعرابي يقف خارج العلم؛ أي في الحياة قبل العلمية (دون تعمل فكر أو رعاية إلى قانون كلامي)، ولا يوجد في محيطه أشخاص يمتهنون النحو (غنيون عن تعرفه)، ولا وجود لتقاليد علمية نحوية منحدرة من أشخاص نحويين يؤثرون فيه (معلمهم البيئة المحيطة بهم). ينتمي الأعرابي إلى مجتمع ما قبل علمي (قانونهم ملكتهم التي خلقت لهم) تشترك فيه كل الذوات الفردية لجماعة (نحن) في صورة المجتمع، وفي نمط وضعياته المألوفة؛ أي نحن عائلتنا، نحن فخذنا، نحن قبيلتنا، نحن العرب.
6
في المقابل، يقف الأخفش داخل العلم، وفي الحياة العلمية، وفي تقاليد علمية منحدرة من علماء نحو أثروا فيه. أن يكون الأخفش عالما من علماء الطبقة الخامسة في تاريخ النحاة فذلك يعني أنه ينتمي إلى جماعة علمية تتشكل من مجموع الفاعلين فيها، وأن يكون منتسبا إلى جماعة علمية نحوية، فذلك يعني أن يدمج وأن يخضع لموضوع مراقبة اجتماعية.
7
والخلاصة: «أن الامتثال لانتظارات الزمرة وتوقعاتها ليس ثمرة رغبة الأفراد وحدها، إنه نتاج مران على دور اجتماعي يسبق دخولنا الحياة المهنية، ونتاج ضبط مستمر (دوزنة) لأبناء المؤسسة العلمية بواسطة أنفسهم.»
8
يستحق مفهوم «الحياة المهنية» أن نتوقف عنده. لماذا لا نعتبر النحو مهنة من المهن التي تنشأ بين مرحلة تاريخية وأخرى؟ بالفعل هو مهنة. وما يشير إلى ذلك أن كتاب سيبويه خرج إلى الناس بسبب التكسب؛ فقد روي أن الجرمي والمازني تشاورا على أن يحيلا بين أستاذهما الأخفش وبين كتاب سيبويه الذي ضن به بترغيبه في المال؛ إذ كان الجرمي ثريا فقرآه عليه.
9
لكل مهنة مهمة تخصها. لا يتعلق الأمر بمهمة يؤديها أفراد، إنما بمهمة مترابطة في حياة اجتماعية، وعبر سلسلة من الأجيال والأزمنة. في البداية يعي شخص ما فكرة في شكل تخمين، أو شعور. قد تكون فكرته، وقد تكون فكرة آخرين تبناها واعتبرها فكرته، لكن مجرد كونها فكرة مشروع أولي فهي لا تعطي أهدافا؛ لأن الهدف يضعه الفرد (الأنا) في الفعل (أنا أريد) من أجل هدف (على هذا الهدف أن يتحقق)، وبفضل إرادة الفرد (أنا أريد) تصبح الفكرة قصدا جديا.
10
وبالعودة إلى موضوعنا فقد وضع الدؤلي هدفا لنفسه (أنا أريد)، وأصبح أسير هدفه (على هذا الهدف أن يتحقق) وبفضل إرادته (أنا أريد) أصبحت فكرة النحو قصدا جديا كرس له جهده ووقته.
كيف نفهم أصل التقابل بين الأعرابي وبين الأخفش في الحكاية؟ كيف نفهم التقابل بين الحياة ما قبل العلمية وبين الحياة العلمية في العالم اليومي؟ من المعروف أن اللغة العربية «لم تؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم لسائر الأمم.»
11
وقد أخرج بسبب هذا لغات قبائل كثيرة، وبقي القليل من القبائل التي ينتسب إليها الأعراب الذين امتهنوا نقل اللغة وبيعها إلى اللغويين. مهنة الأعرابي هذه مثلها مثل أي مهنة أخرى في العالم، لها مهام قابلة لأن تحقق. وقد حققت من قبل عندما حدث التحول الأول الذي أنجزه أعرابي مجهول خطرت على باله فكرة موفقة، هي أن يتكسب بلغته. ومنذئذ أصبح السبيل سالكا لأعراب آخرين. لم تصل إلينا قصة ذلك الأعرابي المجهول لنفهم نمط تفكيره. كل ما نعرفه أن الأعراب توارثوا هذه المهمة، وتوارثوا معها الكيفية التي يحققون بها مهمتهم؛ أي الممارسة المنهجية للتنفيذ. ذلك أن «تدشين المهن المعتادة يعني في الحقيقة مسبقا توارث ابتكار، تم القيام به سابقا وحالفه التوفيق، عبر الأزمان في منهج يمكن تكراره كما نشاء. تنشأ في كل مهنة منتجات غائية يمكن التعرف عليها باشتراك بين الذوات، وبذلك تندرج من جديد في عالمنا المحيط. هكذا توجد فيه الآن موضوعات نافعة تنتمي حسب نوعها للمهن المختلفة المعهودة: أحذية، ألبسة، منازل ... إلخ.»
12
لكل اهتمام وقته؛ أي حين يفعل أحد ما أحد اهتماماته، ويمارسه فعليا، فإنه يعلق في الوقت ذاته اهتماماته الأخرى من غير أن يغيبها تماما، إنما تكون موجودة؛ فالأعرابي الذي ينقل اللغة ومعه الأخفش الذي يتحدث عن اللغة يعلقان اهتماماتهما الأخرى ككونهما أبوين، يعولان أسرتين، ويربيان أطفالا، ويصرفان عليهم ... إلخ. وهكذا يمكن القول: حان الوقت الذي ينقل فيه الأعرابي اللغة، وحان وقت الأخفش لكي يتحدث عن اللغة باللغة بما ليس في اللغة.
من وجهة النظر هذه يتوفر كل شيء على وقته داخل الوقت الشخصي للأعرابي والوقت الشخصي للأخفش، ويتوفر كل شيء في الأوقات المهنية الأخرى التي تفرض نفسها عليهما؛ كأن يكونا مواطنين عربيين ومنتمين إلى مجتمع عربي، ولهما فيه أدوارهما الاجتماعية. غير أن هذا كله لا يمنع بقاء مهنتيهما قائمتين؛ فالطبيعي هو ألا يغير اهتمامهما بأسرتيهما على سبيل المثال من اهتمامهما بمهنتيهما التي تستمر موجودة، وكذلك تستمر مع وجودها صلاحيتها.
الآن يمكننا أن نسأل: ألا تشبه اللغة التي ينقلها الأعرابي الموضوعات النافعة للمهن المختلفة؟ أي: ألا تشبه لغة الأعرابي عند النحوي الأدوات النافعة للإسكافي والخياط؟ ألا تختلف مهمة النحوي الأخفش عن مهمة الأعرابي بكيفية حاسمة؟ إن مهنة النحوي تتميز عن مهنة الأعرابي. وبالعودة إلى الأخفش؛ فالمعنى التحليلي لمهمة النحو ومهنة النحوي يكمن في إنشاء معرفة تقابل معرفة أخرى كما هي معرفة الأعرابي القائمة في حياته ما قبل العلمية في العالم اليومي.
من وجهة نظر العلم الأعرابي على حق؛ فالكلام الذي تتكلم به جماعة علمية (مجلس الأخفش) يختلف اختلافا نوعيا عن الكلام الذي يستخدم في الحياة اليومية. ويعود السبب إلى أن كلام الجماعة العلمية يبتعد عن خبرة الحياة اليومية، وإلى أنها تستخدم المصطلحات والمفاهيم المجردة، وتعرف المعاني بطرق تقنية تنتمي إلى العلم؛ لذلك لم يفهم الأعرابي الكلام الذي سمعه؛ لأنه يقف خارج الجماعة العلمية. وبمقارنة المرجعيات نجد أن مرجعية الكلام عند الأعرابي هي خبرة الحياة اليومية، بينما مرجعيته عند الأخفش خبرة الجماعة العلمية.
يحضر الأعرابي في تاريخ النحو على مستوى الشواهد النحوية، وهذه ليست النحو؛ إنما هي من جنس الأشياء النافعة كالتي تحضر إلى الإسكافي أو النجار أو البناء. الشواهد النحوية التي نقلها الأعرابي ليست النحو، إنما هي عظام النحو مثلما أن الجلد هو عظام الحذاء، والصوف هو عظام الثوب، والحجر هو عظام البيت. يترتب على هذا أن مهنة الأعرابي تختلف عن مهنة النحوي مثلما تختلف مهنة الدباغ عن مهنة الإسكافي ومهنة الصواف عن مهنة الخياط ومهنة من يقتلع الحصى ويشذبها عن مهنة البناء. الأعرابي عبر عن الاختلاف بقوله: يتحدثون بكلامنا عن كلامنا بما ليس من كلامنا. وبالفعل هذه هي مهنة النحوي مثلما جسدها أبي الأخفش.
وفق أحد الباحثين ما كان للنحو لينشأ إلا أن يكون نحوا تعليميا وليس نحوا علميا، وبتعبيره «أن يكون في عمومه نحوا معياريا لا نحوا وصفيا.»
13
من الصعب ألا نتفق معه؛ لأن النحو المعياري هو المدى المدرك في تلك المرحلة التاريخية. وكما سنعرف فيما بعد
14
فقد فكر في اللغة العربية، وفي النحو العربي تحت ضغط الظرفين التاريخي والأيديولوجي. وعلى أي حال، قد يخطئ المرء إذا ما أول حماس بعض المعاصرين كتمام حسان للنحو الوصفي على حساب النحو المعياري على أنه رغبة منه في أن يذل النحو التعليمي أمام النحو العلمي. ليس الأمر كذلك إنما هو تقويم أفكار القدماء في ضوء تطور الفكر اللغوي المعاصر؛ ذلك أن دراسة تمام حسان التي استشهدنا منها أعلاه «تعد من أخطر الدراسات الحديثة وأهمها في اللغة العربية، ولا أكون مبالغا لو قلت: إنها أشمل دراسة مستوعبة لكل جوانب اللغة. وهي إلى جانب ذلك أكثر تقديرا واحتراما لجهد القدماء، وتعتمد في كثير من جوانبها على نتائج دراساتهم، وتضعها في سياق لغوي حديث.»
15
فيم تتمثل السمة التي يجب أن يتسم بها النحو العربي؛ لكي يكون نحوا علميا؟ تتمثل من وجهة نظر تمام حسان في أن تكون دراسة النحو دراسة للتركيب؛ فالجانب التحليلي من دراسة النحو لا يلتفت إلى معنى الجملة، لا من الناحية الوظيفية العامة، ولا من ناحية الدلالة الاجتماعية.
16
وبما أنه لا يوجد عمل متقن من دون نفع تماما،
17
فقد كان النحو المعياري وهو بطبيعة الحال عمل متقن وفريد في الثقافة العربية القديمة نافعا في مرحلته التاريخية، وفي المستوى الذي وصلت إليه العلوم العربية آنذاك. لم يفشل في الغاية، وإن لم ينجح نجاحا نهائيا. لكن الأهم أنه يمثل بداية لا تقل أهمية عن بدايات كبرى؛ الأمر الذي جعل البعض يضع الحكايات عن نشأته؛ فالناس يبحثون عن تفسير لكل الأشياء، وحين لا يعرفون يؤلفون الحكايات. ربما تبدأ الحكاية مما هو تاريخي (واقعي) ثم تتوسع إلى ما هو أبعد لتتحول إلى حكاية صافية. لكن هذا التحول لا يحول دون دراستها؛ فالحكاية مهما جنحت إلى الخيال؛ فهناك إمكانية لأن نقتفي أثر نقطة ما هي بذرتها الحميمية، وهذه البذرة التي سنقتفي أثرها هنا هي أسس النحو الثقافية والاجتماعية.
هناك شخصيتان مختلف على أي منهما هو بطل حكايات نشأة النحو.
18
الشخصية الأولى هي علي بن أبي طالب، وقد ذهب الأنباري والقفطي إلى أنه هو البطل. والثانية هي أبو الأسود الدؤلي، وقد ذهب ابن سلام وابن قتيبة والزجاجي وأبو الطيب اللغوي والسيرافي والنديم إلى أنه هو البطل.
لا يمكن أن نكون سذجا لكي نصدق. فكما قلنا أعلاه فالوضع المنسوب لرجل واحد كعلي بن أبي طالب أو زياد بن أبيه أو نصر بن عاصم أو أبي الأسود الدؤلي تبدو الكلمة غير المناسبة لفهم عملية معقدة كنشوء النحو العربي. فما يبرر القيمة الحقيقة لوضع النحو العربي ليس العقل الخاص لهؤلاء، إنما العقل الجماعي. وما يجعلنا نتوقف عند الحكايات المرتبطة بوضع النحو هو أن هذه الحكايات تمثل من وجهة نظرنا إعادة سرد حدث مهيب وجليل هو بداية النحو. وهو ما يساعد على أن نستشف القيمة الكبرى التي أعطيت لنشأة علم النحو في الثقافة العربية الإسلامية.
19
إن السمة الأوضح لحكايات البدء هي جدة ما بدأ فجأة وظهر في روعة البناء والتصميم. وهي الجدة التي تذهل لتكون موضع حكاية متناقلة. وقد جعلت الحكايات وضع النحو حدثا كبيرا تتساوى قيمته مع أحداث كونية كبرى كالحكايات التي تسردها مقدمات الكتب التاريخية القديمة عن الأحداث الكبرى البدئية، كبناء الكون أو خلق الإنسان ... إلخ. كما أنها أكدت على المدى الذي يعيش فيه المهتمون بالنحو في الحكاية، والمدى الذي يصل إليه هؤلاء المهتمون في أن يحكوا الحكايات لآخرين ؛ لكي يضفوا معنى على تجربة علمية كنشأة علم النحو.
المكان المثالي للصراع بين الأجيال
لكي تسهل متابعة التحليل سأبدأ بحكاية واحدة، وسأستخدم بقية الحكايات على أنها وسائل ضبط وتحقيق. وإذا ما تحتم علي أن أوصف هذا الإجراء في التحليل فهو فرضي؛ أي يستند إلى فكرة مبدئية توجه التحليل، وهي الأساس الثقافي لمفهوم النحو في تلك المرحلة التاريخية، وهو استنباطي في الوقت ذاته؛ حينما يستخدم نصوصا أخرى من أجل الضبط والتحقيق.
20
سأختار أقصر حكاية من تلك الحكايات التي رويت. روي عن عاصم أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسن السماء؟ فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا، وإنما تعجبت من حسنها، فقال لها: إذن فقولي ما أحسن السماء! فحينئذ وضع النحو، وأول ما رسم منه باب التعجب.
21
أول ما نلاحظه هو أن الحوار دار بين أب وابنته؛ أي في أسرة. يشير هذا إلى أن من بين التغيرات التي تحدث في المجتمع لا شيء يكتسي أهمية مثل التغيير الذي يحدث في الأسرة؛ لذلك فالأسرة مكان مثالي للصراع بين الأجيال. وبالتالي يمكن أن يكون الأب وابنته في الحكاية رمزا للصراع بين جيلين أحدهما متمسك باللغة العربية في مستواها الفصيح، والآخر لا يدير لذلك بالا.
نجد في الأسرة أصل فكرة وجود خليفة كعلي بن أبي طالب، أو وال كزياد بن أبيه في حكايات أخرى تتعلق بنشأة النحو؛ ذلك أن الأسرة تفضي إلى ما هو أوسع منها؛ أعني إلى الدولة؛ فالأسرة هي «المنوال الأول للمجتمعات السياسية: فالرئيس هو صورة عن الأب، والشعب هو صورة عن الأولاد ... أما الاختلاف كله فكون الحنو الذي للأب لأولاده يبتاعه بما يصرفه لهم من عناية، بينما لذة الرياسة تقوم في الدولة مقام ذلك الحنو الذي يكون الرئيس معدوما منه إزاء شعبه.»
22
على أن اسم خليفة كعلي ووال كزياد غير كافيين لنربط نشأة النحو بقيام الدولة، وإرادة السلطة على نحو «يجعل من النحو وسيلة من وسائل تقويم شأن الناس، وتصحيح أحوالهم في إطار مفهوم للسلطة يجعل من حقها مراقبة القول والمحاسبة عليه وإلزام الناس بالصواب.»
23
هذا تأويل لا متناه، ولا بد أن نحاة كثرا لا يطيقون صبرا على مثل هذا النوع من النواتج اللغوية.
ما أميل إليه هو أن اللغة هوية، وأن الفتوحات الإسلامية وسعت المجالات التي تستخدم فيها اللغة العربية، وبسبب هذا حاد معظم العرب عن النموذج الفصيح، الأمر الذي هدد الهوية العربية. وبصرف النظر عن تاريخية تدخل الخليفة أو الوالي فإن الأمر ممكن، وله ما يشابهه في هذا العصر حينما يتدخل ملك أو رئيس أو وزير لإنشاء مجمع لغوي أو الدعوة إلى مؤتمر لغوي.
تظهر الحكاية أن بنت الدؤلي لحنت في جملة نثرية، ولم تلحن في جملة شعرية؛ أعني لم تلحن في تركيب شعري، أو في شطر من بيت شعري، أو في بيت من الشعر. هذا اللحن في النثر الذي أوردته حكاية الدؤلي هو ذاته اللحن في النثر الذي خاطب به رجل زياد بن أبيه. ماذا يعني هذا لموضوعنا؟ لكي نجيب سنعود إلى ما قبل الإسلام حين كانت اللغة العربية الفصحى ذات وظيفة فنية واحدة تتمثل في الشعر العربي؛ أي أنها لم تكن لغة نثر، لكن القرآن أسند إليها وظيفة فنية أخرى هي النثر. لقد توصل أحد الباحثين إلى أن اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام لم تكن لغة نثر، وأن المراسلات والكتابات والمعاهدات لم تكن باللغة الفصحى؛ وإلا لكان استشهد بها النحويون. ويختم قائلا: «لما كان هناك غياب كامل لأي مادة نثرية مكتوبة في العصر الجاهلي مما يمكننا من إصدار حكم كامل وصحيح بخصوص وظيفة اللغة الفصحى خارج نطاق الشعر الجاهلي؛ أستطيع أن أزعم، ولو بشكل مؤقت، أن العربية لم تكن لغة نثر عربي قط. وعلاوة على أنها لم تكن إلا لغة فنية.»
24
بعد أن نزل الإسلام وقامت الدولة الإسلامية اتسعت وظيفة اللغة الفصحى لتشمل وظائف غير فنية كالمراسلات والمعاهدات. وبشكل عام كل ما يتعلق بالناحية العملية لتسيير شئون الدولة ورعاية مصالحها ما يجعلها لغة نثر. وقد تكشف اللحن أول ما تكشف في هذه الوظيفة النثرية العملية. وأول إشارة نعرفها هي رسالة أبي موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب.
من جهة أخرى، تظهر أهمية رد فعل الدؤلي على ابنته، ورد فعل الخليفة والوالي في الحكايتين الأخريين حين نقارن رد أفعال هؤلاء برد فعل النبي، حين قال لرجل لحن في حضرته: «أرشدوا أخاكم فقد ضل.» وبرد فعل الخليفة عمر بن الخطاب حين كتب إلى أحد الولاة: «قنع كاتبك سوطا.»
25
مثل هذا الانتقال من التفكير في الناطق إلى التفكير في اللغة عاملا أساسيا في البحث عما يصلح لغة الناطق وليس عما يقوم سلوكه؛ أي التفكير في اللغة، وليس في ناطق اللغة.
الجو الفكري الذي وجد فيه النحو قوام نشأته الأولى
تتواءم فكرة النحو في حكايات نشأته مع المرحلة التاريخية التي نشأ فيها؛ فصيانة اللسان العربي من اللحن فكرة مقنعة في تلك المرحلة التاريخية؛ ذلك أن قوة إقناع فكرة أو عدم إقناعها لا تتوقف على المنطق الذي تعرض به؛ بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد فيه الفكرة قوام حياتها.
26
ولكي نفهم جو هذه المرحلة الفكري سنعود إلى المرحلة التي سبقتها؛ لنستحضر النبي والقرآن والحديث والأمة والإسلام التي أسبغت المعاني الدينية والثقافية على المرحلة التي سبقت مرحلة نشأة النحو. لقد فوجئ الصحابة بموت الرسول الذي بنى برامج اجتماعية وثقافية تمثل ثورة بكل معنى الكلمة؛ لأنهم لم يفكروا في أنه سيموت ليجهزوا برامجهم.
على أي حال، تصرف الصحابة بما يمليه عليهم الظرف التاريخي؛ فبايعوا أبا بكر الخليفة الأول للدولة الإسلامية. بعد أن رتب أبو بكر الدولة من الداخل رأى ومعه كبار الصحابة أن نشر الإسلام يقتضي تبديل الحكومات المجاورة أو إسلامها، وشرعوا في الفتوحات وهم يحملون فكرا منزلا يتصور العقيدة والسلوك والعدالة الاجتماعية والاقتصادية تحت رعاية خليفة الله وخليفة رسوله. لم يتخل العرب عن لغتهم كما فعل بعض الفاتحين في عصور تاريخية مختلفة، ولم يكتسبوا لغة الشعوب المفتوحة؛ إنما استخدموا اللغة العربية ليبينوا للناس أفكارهم وتصوراتهم عن مفاهيم الإسلام؛ لذلك عمد العرب تعليم لغتهم الشعوب التي أخضعوها. والمهم هنا هو تأكيدهم على القيمة الكونية للغتهم، بعد أن كانت قيمتها فيما قبل قيمة محلية.
بفضل القرآن أصبح للعرب نموذج لغوي مثالي. وهنا يجب ألا نخلط بين الوضع الاجتماعي الرفيع للعربية الفصحى قبل نزول القرآن وبعد نزوله؛ فقد أصبحت الفصحى بعد الوحي اللسان العربي المبين، ولغة تنزيل القرآن، وبذلك لم تعد لغة فصيحة فحسب؛ بل أصبحت رفيعة رفعة التقديس.
27
حدثت هذه النقلة من كونها مجرد لغة إلى لغة مقدسة؛ لأنهم تصوروها صدرت مباشرة عن الله. وألفاظها وأساليبها أزلية كأزلية القرآن؛ لذلك من الواجب ألا تتغير، ولا مجال للناس إلا أن يتحدثوا بها كما هي عليه، ولا مجال للعالم اللغوي إلا أن يتأمل بديع صنعها.
يختلف الأسلوب اللغوي الذي نزل به القرآن عن الأساليب اللغوية التي يتكلم بها العرب في حياتهم اليومية. ما يهم موضوعنا هو أن الذين يعرفون القرآن الكريم هم «أكثر الأشخاص المعرضين لإنتاج نصوص فيها أخطاء صحة زائدة ... لأن تدريبهم على استخدام قواعد هذا النمط من العربية غير كاف في أحسن الأحوال.»
28
تعني أخطاء الصحة الزائدة أن المتكلم أو الكاتب يعرف أن هناك فرقا بين حديثه في الحياة اليومية وبين الفصحى، لكنه لا يعرف الشكل الذي يجب أن يستخدمه، أو أنه لا يعرف كيف يستخدم شكلا دون غيره.
29
والأهمية التحليلية لمفهوم خطأ الصحة الزائدة يكمن في أن بنت الدؤلي والكتاب الذين يحررون الرسائل الديوانية ربما كانوا يعرفون الفرق بين الحديث اليومي وبين الفصحى، لكنهم لا يعرفون الشكل الذي يستخدمونه.
لا يفسر جو المرحلة الفكري وحده نشأة النحو على النحو الذي قالت به حكايات نشأته؛ فهناك أيضا الاعتقاد المشترك بين الناس الذي يتولد عن حاجة غامضة إلى المحافظة. ف «ضرورة المحافظة على الأشكال اللغوية هي التي تدعو إلى الاعتقاد بأن الحالة الثابتة أمر واقع. وككل اعتقاد غريزي، يبلغ من قوة هذا الاعتقاد ألا يعد هذا الواقع واقعا ذاتيا محضا، بل ينتهي إلى أن يتشيأ، وبفضله تكون التغيرات أبطأ مما لو عدم هذا الوهم الضروري الحيوي.»
30
أين العقل من هذا الاعتقاد ؟ حاضر، ولكن مهمته أن يبين للناس أخطاءهم اللغوية؛ أي ينبغي أن يشغل في حدود تعريف الناس بما يرتكبونه من ضلاله حين يتحدثون، كما ورد في الأثر، عن وصف لحن أحد الرجال. يستخدم العقل هنا لدعم الإيمان بقدسية اللغة العربية في أن تظل كما هي، وسيظل هذا الدعم لكي تجتمع حرارة الإيمان بقدسية اللغة العربية مع حجج العقل.
حين كف الجو الفكري للمرحلة التاريخية التي نشأ فيها النحو كف النحو عن متابعة صورته المعيارية ليناسب جوا فكريا آخر، سنعرفه ونحن نتابع تطور مفهوم النحو. أكتفي هنا بالقول: إن كل تطور في مفهوم النحو تلاءم مع الجو الفكري للمرحلة التاريخية، وإن هذا ما جعل النحو يستمر؛ ذلك أن علما ما إذا ما أراد أن يستمر فعليه أن يتطور. غير أن تطور مفهوم النحو لا يعني أنه لم يبق حول موضوعه الأول، بل بقي متصلا مع نشأته الأولى، لكن من دون انخراط كلي فيه.
الافتراض الضمني لنحو أبي الأسود الدؤلي
سأدرج هذا القول من مقدمة ابن منظور لمعجمه لسان العرب، وسيتضح فيما بعد السبب. يقول ابن منظور: «فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.» ما العلاقة بين لسان العرب وبين سفينة نوح؟ هناك فكرة وراء أحداث قصة نحو يمكن أن أصوغها على النحو التالي: في يوم ما وجد مجتمع مثالي، ثم حلت الكارثة بهذا المجتمع حيث تمادى الناس في المعصية، وتعاظمت منه الخطيئة، فحل الطوفان من أجل بناء مجتمع مثالي خال مما يشوبه. وسفينة نوح هي الأداة كما أنها هي النواة الأولى. أما الزوجان من كل شيء فهو فإشارة إلى بداية حياة جديدة، ونواة أولى لمجتمع صاف.
يمكن أن نسحب هذا التأويل على معجم لسان العرب؛ فالفكرة الرئيسة وراء عمل ابن منظور يمكن أن أصوغها على النحو التالي: في يوم ما كان هناك مجتمع صاف يتكلم اللغة العربية، ويحافظ عليها كما يحافظ على وجوده، وفيما بعد حلت به الكارثة؛ إذ شرع المجتمع يتفاصح ويتحدث بلغة أخرى غير لغته العربية؛ لذلك فالحاجة ماسة إلى إعادة ذلك الصفاء.
من هذه الزاوية هناك يوتوبيا؛ محاولة لاسترجاع حالة الصفاء اللغوي بدأها قبل ابن منظور أبو الأسود الدؤلي. وسواء أكانت ابنته أم من خاطب زيادا؛ فإن هناك من عكر صفاء اللغة. والحالة هنا ليست فردية، إنما هي حالة عامة. لقد كانت المهمة جسيمة، شحذت قوى أبي الأسود الدؤلي وقوى نحويين ولغويين آخرين، فانطبع تفكير أفضل علماء تلك المرحلة بطابع استرداد حالة النقاء.
عبر انشغال أبي الأسود الدؤلي عن فرضية هي أن اللغة العربية لم تعد لغة نقية وصافية كما كانت عليه في زمن مضى، وصادق على فكرة تنزع إلى هيمنة لغة وصفت بكونها مقدسة أنزل الله بها كتابه. وبالتالي فأبو الأسود الدؤلي لا يعبر عن رأي شخصي، إنما يستجيب ويدعم اختيارا وتحيزا لمستوى من اللغة تكرس في الغيب قبل أن يكون بين الناس.
أحد مفاتيح المستقبل موجود في النحو؛ ذلك أن فيه رؤية حياة جديدة نقية وصافية تكاد تعدل الحياة الجديدة النقية والصافية التي بدأتها سفينة نوح. قد يعالج النحو مشاكل اللحن في اللغة العربية كالمشاكل الصرفية والمعجمية والنحوية ... إلخ. وهذه الرؤية الشاملة قد نضعها في موازاة النظرة الشاملة لسفينة نوح من حيث هي وعد بعصر ذهبي، وبشرى للعالم.
حافز تصور أبي الأسود الدؤلي للنحو
لكي نفهم حافز أبي الأسود لا بد من أن نتذكر أنه هو من ضبط المصحف الشريف؛ فاهتمامه بضبط أواخر كلمات القرآن أبعدته عن أن يفكر في نظام اللغة العربية؛ أي إن نحو الدؤلي وسيلة تقنية للحصول على نتائج مباشرة. أما التفكير في التركيب النظري الذي يمنح هذه التقنية معناها فلم يفكر فيه؛ ربما لأن الظرف التاريخي وروح المرحلة الفكري لم يكونا مناسبين.
غير أن النظريات الإنسانية والمعرفية في علم النفس المعاصر ترى أن الظرف التاريخي وروح المرحلة الفكري لا يحددان وحدهما السلوك الإنساني، فهناك أيضا اتجاهات الإنسان وتوقعاته واعتقاداته؛
31
لا سيما العلماء منهم الذين ينتجون المعرفة. يعمل هؤلاء العلماء على أن يظهروا الرصيد المتراكم من الأفكار والمفاهيم التي تبلورت في أذهانهم، وشكلت استجاباتهم. وما يعطي لتوقعات العالم واعتقاداته قيمة تحليلية هو بيان أثرها في سلوك العلماء. ففي مرحلة تاريخية ما يندفع هؤلاء نحو وجهة محددة وواحدة، مطبوعين بجو المرحلة الفكري. هذا الجو الفكري قوة عابرة للقوى الفردية، وليس شرطا أن يكون العلماء واعين بهذه الروح؛ فروح العصر هي قدر الوجود أو الشروط الجدلية لحقبة من حقب التاريخ.
32
وفي مرحلة الدؤلي التاريخية التي نتحدث عنها لا بد من وجود أفكار ومعتقدات تعلق بطبيعة اللغة ووظيفتها وعلاقتها بالفكر.
تنشأ التصورات أفكار العالم ومعتقداته لأسباب ثقافية. ولا يقتصر الأمر على مجال واحد، إنما على مجالات العلوم كلها. وفيما يتعلق بموضوعنا فتصورات المرحلة التي نتحدث عنها لم تؤثر في نشأة النحو فحسب؛ إنما أثرت أيضا في تدوين اللغة الذي صاحب نشأة النحو؛ فالكلمات التي جمعها اللغويون ليست مادة اللغة فحسب؛ إنما تشكل حدثا حيا وانعكاسا لعلاقات اجتماعية؛ فالناس يجتمعون في أسر أو جماعات دينية أو تجمعات مهنية ... إلخ. وإذا ما أخذنا في الاعتبار العلاقة بين الكلمات وبين مستخدميها، فإن شيوع كلمات أو تلاشيها يشير إلى سهولة أو صعوبة اشتغالها بين تلك التجمعات البشرية. ما يتداوله الناس ليس كلمات فحسب، إنما حقائق أو أكاذيب، أشياء حسنة أو قبيحة، مهمة أو مبتذلة، مفرحة أو محزنة، وبالتالي فالكلمة محملة دائما بمضمون أيديولوجي أو وقائعي. لا يستجيب الناس إلا للكلمات التي توقظ في نفوسهم أصداء أيديولوجية؛ لذلك فمقياس التصحيح لا ينطبق على الكلمات إلا في المواقف الشاذة أو الخصوصية. أما في الحياة فإن الناس يتخلون عن مقياس التصحيح لصالح المقياس الأيديولوجي؛ أي إن الناس في حياتهم اليومية لا يهتمون بصحة الكلمة اللغوية أو النحوية بقدر ما يهمهم صدقها أو كذبها أو طابعها الشعري أو طابعها المبتذل.
33
خضع اللغويون والنحويون للعوامل التاريخية والثقافية والفكرية التي ولدت تصوراتهم، وحددت معتقدات كفايتهم العامة التي تتشكل من الخبرات وآراء الآخرين. هذه المعتقدات أثرت في عمليات المعجميين والنحاة المعرفية التي تتضمن التخطيط للأهداف، وتنظيم الأفكار، ومواجهة المصاعب، ومثلت دافعا إلى الإنجاز، وإلى التوقعات المتعلقة بالإنجاز وقيمته. وبالعودة إلى موضوعنا، فقد عرف عن الدؤلي أنه من سادات التابعين وأعيانهم، وأنه «من أكمل الرجال وأسدهم عقلا».
34
ولا شك أن معتقدات كفايته العامة هذه مثلت دافعا لإنجازه، وأثرت في تحديد طبيعة هدفه. لقد أنجزت حديثا دراسات أشارت في مجملها إلى أهمية معتقدات المرء العامة كدافع للمثابرة والإنجاز في المجالات المختلفة، ومنها المجال العلمي. كما أن نظريات التعلم الاجتماعي والمعرفي المعاصرة تشير إلى أن الخبرات الناجحة تدفع الفرد إلى أن يدرك المهام الصعبة من حيث هي تحد للإنجاز، وليس معجزات لا يمكن التغلب عليها. والخلاصة هي أن معتقدات أبي الأسود الدؤلي المتعلقة بكفايته العامة في مواجهة الصعاب والمشكلات التي أرقته هي أساس من أسس ابتكاره.
ما يشير إلى اعتقاد أبي الأسود الدؤلي بكفايته العامة: الحكاية التي تحكى أنه قدم على الخليفة عبد الملك بن مروان، وقد كان أبو الأسود دميما، أعور، وقبيح المنظر. فقال له: «يا أبا الأسود، لو علقت عليك عوذة من العين! فقال: إن لك جوابا يا أمير المؤمنين ... أما والله لئن ابتلتني السنون، وأسرعت إلي المنون، لما أثبت ذلك إلا في موضعه، ولرب يوم كنت فيه إلى الآنسات البيض أشهى منك إليهن ... فقال عبد الملك: قاتلك الله من شيخ، ما أعظم همتك!»
35
ما أعظم همتك! تشخيص عميق ومختصر. هذا هو ما جعل أبا الأسود الدؤلي ذا الاعتقاد الإيجابي بكفايته العامة إلى أن يرسم أهدافا مثيرة للتحدي، ويبذل جهدا أكبر لتحقيقها.
لا تنفصل اعتقادات المرء العامة عن النموذج أو القدوة. ويبدو لي أن هذا الارتباط بينهما هو ما يفسر علاقة أبي الأسود الدؤلي بعلي بن أبي طالب، فالأول نموذج ومثال حي وواقعي للثاني. وهناك حكايات لهذا الارتباط الذي عبرنا عنه بالقدوة. أكتفي منها بما يشير إلى أي حد بلغ فيها تمسك أبي الأسود بنموذجه وقدوته. فقد روي أن فخذا من أفخاذ العرب من العرب يدعى «بني قشير»، هواهم مع عثمان بن عفان. كان أبو الأسود نازلا بينهم، وقد كانوا يرمونه بالليل؛ لأنه يحب عليا ويمدحه، ومع ذلك لم يفت هذا من عضده؛ بل إنه حاججهم حينما قالوا: ما نحن نرميك، ولكن الله يرميك، فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني.
36
إن المدهش في علاقة أبي الأسود بعلي أن المهتمين بقضية في جو فكري واحد قد يصلون إلى الأفكار ذاتها.
الطيف العقلي لمفهوم النحو
ما اسم هذا المبحث الذي يتشكل؟ يخصص النديم في كتاب الفهرست فصلا قصيرا عنوانه: «سبب يدل على أن أول من وضع في النحو كلاما أبو الأسود الدؤلي.»
37
أول ما نلاحظ في العنوان أن ما وضعه أبو الأسود هو «كلام في النحو»؛ أي إن مضمون ما عثر عليه في أربعة أوراق كالفاعل والمفعول
38
هو كلام، وأن هذا الكلام ينتمي إلى النحو. هل هو نحو أو كلام؟ هناك ارتباك؛ لأن النديم وراق محترف ومتخصص في تصنيف الكتب يعرف أولا موضوعات الكتب من المفاهيم التي تنتمي إلى العلم، وذلك ما يبدو في العلوم الأخرى المستقرة، وسأشير هنا فقط إلى الكيمياء.
39
ما يبدو لي هو أن بلورة قضايا المبحث الجديد في مفاهيم ما زالت في مرحلة التشوش؛ أي إن مباحث النحو لم تتحدد إلا في مرحلة متأخرة. مثلا ما بدا للقدماء أن كتاب سيبويه كتاب في النحو فقط تصنيف قلق. والأقرب أن يكون كتابه في «علم العربية» وهو المفهوم البديل الذي استخدم بدلا من النحو. تبدو وجاهة هذا المفهوم فيما لو عرفنا أن سيبويه بحث في أصوات العربية (علم الأصوات) وفي بناء الكلمة (علم الصرف) وفي بناء الجملة (علم النحو). وقد ظل هذا المفهوم مستخدما عند المغاربة، بينما ظل مفهوم النحو مستخدما عند المشارقة.
40
والمفارقة هنا هي إذا ما نشأ النحو تحت مفهوم علم العربية، فإن أبا الأسود الدؤلي قد يكون مات قبل أن يعرف أنه نحوي.
يتفق هذا مع طبيعة المفاهيم التي لا تولد فجأة، إنما تتكون في عملية طويلة ومعقدة، وهذا ما أظنه ينطبق على النحو. ويبدو أنه نشأ كطيف عقلي مشوش وغير مكتمل، لكنه يمثل بعض العناصر الرئيسية كدراسة الأصوات اللغوية وبنيتي الكلمة والجملة ومباحث أخرى تتعلق بدقة إشارة الكلمات إلى المعنى، والمناسبات التي تقال فيها الحكم والأمثال العربية القديمة، وشرح الأبيات الشعرية ... إلخ؛ أي إن النحو اشتمل إبان نشأته على كافة المباحث اللغوية. وتبدو وجاهة هذا الطيف العقلي أن القائمين على «هذه المباحث اللغوية يعرفون بالنحاة، على أن ذلك لم تنفرد به اللغة العربية، بل كان هذا شأن النحو والنحاة بالنسبة للإغريقية واللاتينية.»
41
لكي أوضح الفكرة سأفترض أننا دؤليون. يشير هذا الافتراض إلى أننا نفكر في فساد اللغة، ثم في أن نفكر فيما يمكن أن نفعله. إذن هناك مشكلة. والخطوة التالية هي أن نفحص ونصنف الأخطاء وهي كما نعرف من الحكايات التي وصلت إلينا أخطاء صوتية وصرفية وتركيبية. لقد اتخذ المفهوم عندنا أبعادا مختلفة؛ بعدا يتعلق بالأصوات، وبعدا ببنية الكلمة، وبعدا ببنية الجملة.
في مقابل أننا دؤليون سأفترض أن هناك سيبويهيين. أن يكون هؤلاء سيبويهيين يعني أن يفكروا في النظام اللغوي، لكن من ناحية وصف أصواته وكلماته وتركيبه، لا من أجل إصلاح الخطأ في النطق بأواخر الكلمات؛ إنما من أجل معنى المتكلم والقوانين التي تحكمه. نحن الآن في وضع متأخر زمنيا؛ لكي ندرك الفرق بين أن نكون دؤليين أو سيبويهيين، لكن العلماء آنذاك لم يكونوا يدركون إلا ما يجمع بينهما؛ أي إصلاح النطق بالعربية، رغم أنهم يعرفون اختلاف نحو هذا عن نحو ذاك بدليل التسمية «علم العربية» لأبي الأسود الدؤلي و«النحو» لسيبويه.
يمكننا أن نلخص ما بدا للقارئ تحليلا طويلا ومملا على النحو التالي: توفر لنشأة النحو المفترضة على يد أبي الأسود الدؤلي مجموعة من العوامل كاعتقادات أبي الأسود الدؤلي العامة، والحتمية القائمة بينها وبين الجو الفكري للمرحلة التاريخية. وتظافر هذه العوامل معا يشير إلى فكرة الخطأ اللغوي وصوابه. يعني الصواب اللغوي ما يساير عرف الجماعة اللغوي، والخطأ هو ما يخالف ذلك العرف. ولا يجب أن نحاكم نحو تلك الفكرة على ما نعرف الآن؛ ذلك أن مستوى الصواب كالصوغ القياسي فيما يذهب تمام حسان لا يمكن النظر إليه باعتباره فكرة يستعين الباحث بواسطتها في تحديد الصواب والخطأ اللغويين، وإنما هو مقياس اجتماعي يفرضه المجتمع اللغوي على الأفراد، ويرجع الأفراد إليه عند الاحتكام إلى الاستعمال. وإن المستوى الصوابي لا يوجد في اللغة فحسب، إنما يوجد في كل شئون الثقافة بالمعنى الأعم.
الفصل الثالث
النحو في حدود العقل
سأذكر بفكرة سوزان لانغر عن الأفكار التي تفرض نفسها على المرحلة تاريخية لتحل عددا من المشاكل. وقد رأينا أن فكرة صيانة اللسان العربي من اللحن هي الفكرة التي فرضت نفسها في مرحلة أبي الأسود التاريخية، وقد حلت مشكلة على قدر كبير من الأهمية للدين وللثقافة وللعرق. تكمل سوزان لانغر بأن الأفكار التي تفرض نفسها تصبح مع الزمن أفكارا مألوفة، وجزءا من المفاهيم النظرية للجيل التالي، وبهذا تنتهي فورة الفكرة. صحيح أن هناك من يتعصب لها ويراها تحل كل المشاكل، لكن الأقل تعصبا سيرى المشاكل التي ولدتها تلك الفكرة.
تبدو فائدة هذا لموضوعنا أن فكرة صيانة اللسان العربي من اللحن أصبحت مع الزمن فكرة مألوفة، وجزءا من مفاهيم النحويين النظرية. صحيح أن هناك من تعصب للفكرة وتمسك بها (أحفاد هؤلاء ما زالوا موجودين إلى الآن)، لكن في مقابل هؤلاء هناك من هم أقل تعصبا كالخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أكمل ما بدأه أبو الأسود الدؤلي من شكل أواخر كلمات القرآن الكريم، فرسم شكل العلامات المعروفة لنا الآن كالضمة والفتحة والكسرة. يتزامن هذا مع تنقيط نصر بن عاصم كلمات القرآن الكريم. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن جو النحو الفكري بدأ يتخفف من الشرطين التاريخي والأيديولوجي؛ حين كانت الوظيفة العملية والمجتمعية عند أبي الأسود ومعاصريه من النحاة تتفوق من حيث الأهمية على الوظيفة المعرفية (الوظيفة النظرية).
1
ترتب على هذا الفرق بين النظرية وبين الممارسة أن كل ما قيل قبل سيبويه عن تعليل النحو، وتسبيب علله إنما كان من أجل قراءة القرآن والشعر؛ أي الممارسة، وليس من أجل النظرية. والحكايات المعروفة التي نقلتها إلينا المصادر عن عبد الله بن أبي إسحاق، وتتبعه اللحن في شعر الفرزدق تشير إلى الممارسة وليس إلى النظرية؛ أي قراءة الشعر. وبالرغم من كل ما قيل عن غزارة علم النحاة واللغويين قبل سيبويه بما فيهم أستاذه الخليل إلا أن الإشكالية؛
2
أي الشكل الذي يجب أن تعرض فيه المشكلات النحوية لم تتغير منذ أبي الأسود الدؤلي. وقد انتظرت سيبويه الذي عرضها في أفق فكر ذلك الزمان والمكان؛ مستغلا انفتاح البصرة على الفكر العقلي.
تأسيس النحو على درب العلم الآمنة
يحسن اللاحقون الابتكارات ويكيفونها مع الوضعيات الجديدة؛ أي مع وضعيات الأزمنة الجديدة وحاجاتها الجديدة.
3
يتعلق الأمر بالأفق الفكري الذي عرض فيه سيبويه المشكلات النحوية؛ وهو بطبيعة الحال أفق جديد بحكم تغير الزمان؛ فقد انهارت دولة الأمويين، وهاجرت المناقشة العقلانية من الشام إلى العراق لا سيما البصرة. أثر جو البصرة العقلاني في سيبويه، وكان سببا في أن سيبويه استخدم العقل في البحث عن النظام في اللغة العربية؛ أي إنه أجبر اللغة على أن تتبع عقله، ولم يجبر عقله على أن يتبعها. وبقدر ما كان هذا محفزا بقدر ما كان إبداعا فكريا في كتابه الفريد من نوعه؛ بحيث إن نموذجا علميا نشأ معتمدا على توجهه العقلي.
في ضوء مبدأ أن اللغة قابلة لأن تعرف؛ أي إن اللغة تتيح للعقل الإنساني أن يفهمها، وفي ضوء العقل فإن اللغة لم تعد قابلة لأن تعرف بإصلاح خطئها؛ إنما تعرف بالعلاقة بين الكلمات التي يتركب منها الكلام. ومن غير أن يحلل الكلام؛ فلن يستطيع أحد أن يدرك العلاقة.
هنا أمران جديران بأن نأخذهما بعين الاعتبار، وهما: الحصول على الكلام عن طريق السماع عن العرب، وتشغيل العقل للعثور على قوانين للكلام. تحدث هذه على مستويين؛ المستوى الأول: هو ملاحظة النحوي الكلام كما يلاحظ العالم الطبيعة. والمستوى الثاني: هو ما يترتب على الملاحظة من التحليل والترتيب والتصنيف. هناك إنصات إلى الكلام في المستوى الأول مثلما ينصت عالم الطبيعة إلى الطبيعة، وهناك استجواب للكلام في المستوى الثاني مثلما يستجوب عالم الطبيعة. بسبب هذه العملية نشأ الطريق الآمن لعلم النحو العربي الذي أسسه سيبويه.
ما يملكه العقل هو أن يسعى إلى تحقيق نسق المعرفة.
4
والفكرة وراء العقلانية هي أن استعمال العقل يؤدي إلى معرفة تختلف نوعيا عن أي معرفة لم يستخدم فيها. وكتاب سيبويه استخدم العقل في البحث عن النظام في اللغة العربية. لم ينشغل بما نقله العرب إلا في حدود الاستعمال الفرضي للعقل؛ أي من معرفة الجزئي إلى معرفة الكلي؛ لكي يعرف هل يقع الجزئي ضمن الكلي. بهذا أجرى سيبويه تحولا جذريا أثار إعجاب العلماء القدامى والمحدثين. سأكتفي بما قاله صاعد الأندلسي. قال: «لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها اشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب: أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة الفلك، والثاني كتاب أرسطو طاليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي؛ فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له.»
5
يهم موضوعي من عبارة الأندلسي الكتابان المجسطي لبطليموس، وعلم المنطق لأرسطو؛ فمنذ كتاب علم المنطق سلك المنطق دروب العلم الآمنة ولم يحد عنها، وما عد تحسينا في علم المنطق بحذف بعض جزئياته أو بتعيين مضمونه تعيينا أوضح؛ إنما يعود إلى التنميق أكثر مما يعود إلى وثوق العلم، فعلم المنطق من ذلك الوقت لم يتقدم خطوة لإحكامه وكماله.
6
يمكننا أن نقول هذا كتاب سيبويه، فقد سلك بالنحو دروب العلم الآمنة، وما عد تحسينا في علم النحو إنما هو نوع من التنميق. أبعد من هذا أستطيع أن أرى النحو العربي منذ كتاب سيبويه من المنظور الذي وضع فيه توماس كون كتاب المجسطي لبطليموس، فقد جعل من نظرية بطليموس نموذجا إرشاديا، وأيا كان عجز هذه المقارنة؛ فإنها تنصب هنا على النجاح والإعجاب والكفاءة.
لقد شعر النحاة القدامى بعظمة إنجاز سيبويه. سأكتفي هنا بما قاله علمان بارزان هما السيرافي والمازني. قال الأول: «لم يسبقه إلى مثله أحد قبله.»
7
وقال الآخر: «من أراد أن يعمل كتابا في النحو بعد سيبويه فليستح.»
8
إن تسميته كتاب سيبويه ب «قرآن القوم»
9
لهي تسمية بالغة الدلالة في هذا المقام؛ حيث لم يحظ كتاب عربي بمثل هذا الشرف العظيم. ترتب على هذا التقدير أن كسب إنجاز سيبويه في الكتاب أنصارا دائمين من العلماء، وهو كسب صرفهم عن نشاطات علمية أخرى منافسة كلحن العامة ولحن الخاصة. ساعدهم على ذلك أن كتاب سيبويه كالكتب التي بنت نموذجا إرشاديا رحبا ومفتوحا لا يدعي أنه القول الجامع، إنما فتح الباب للمشكلات النحوية في مرحلته العلمية؛ لكي تناقش من قبل العلماء المشتغلين بعلم النحو في مفهومه الجديد.
تشكل بسبب نموذج سيبويه النحوي الإرشادي ما يسميه توماس كون «العلم القياسي»؛
10
أي إن النحاة انشغلوا بتنقية وصقل نموذج سيبويه النحوي الإرشادي، ونذروا له حياتهم العلمية. وما روي عن أن الفراء النحوي المرموق من أنه مات وتحت رأسه كتاب سيبويه
11
لذو دلالة كبرى على أن توجيه الفراء في البحث العلمي القياسي في النحو العربي كان في اتجاه الإبانة عما هو موجود في النموذج الإرشادي الذي بني مع كتاب سيبويه وبسببه. وهو ما يشير أيضا إلى أن المجالات التي يكتشفها العلم القياسي صغيرة جدا،
12
لكن في المقابل هناك «إحكام النموذج وحل بعض مظاهر اللبس المتبقية»،
13
وهو ما ينطبق على كتاب سيبويه ونموذجه الإرشادي.
معنى النحو بعد أن وجد دربه الآمن
وضع سيبويه النحو على درب العقل الآمن؛ أي العقل الذي يدرس اللغة من حيث هي نظام، ولا يضع في قضاياه ومسائله العلمية لحن العامة ولا لحن الموالي ولا إصلاح النطق ولا الحفاظ على اللغة العربية ولا تعليم النحو للموالي؛ إنما يضع في اعتباره دراسة قوانين اللغة العربية التي تمكن المتكلم من التعبير عن قصده. لقد وضع التركيب النظري لنحو الدؤلي بدون أن يتنكر له؛ فأن يقول سيبويه: «والله لأطلبن علما لا يلحنني فيه أحد»؛
14
يعني أنه ما زال يفكر في إطار فكرة الدؤلي ومعاصريه عن مهمة علم النحو. إنني أظن أن هذين النوعين من النحو؛ أعني نحو أبي الأسود المعياري، ونحو سيبويه الوصفي ضروريان لتقدم علم النحو. من يجرؤ من النحويين الآن على أن يتمنى أن أبا الأسود الدؤلي لم «يضع» علم النحو، أو أن كتاب سيبويه لم يظهر، وأن يكون اختفى بعد موته؟ إن لكل من المعيار والوصف النحويين دورهما، ومن المفيد لتاريخ النحو أن يبحث تاريخ تطورهما، وما قدمه كل واحد منهما. لا ينبغي أن نعتقد أن النظريات القديمة عقيمة وباطلة؛ لأن مسيرة العلم لا تقارن بالتحولات في مدينة؛ حيث تهدم البنايات القديمة لتحل محلها البنايات الجديدة، إنما يجب أن تقارن بتطور الأنواع الحيوانية التي تتطور وتنتهي إلى أن تصبح العيون العادية غير قادرة على أن تتعرفها، في حين أن العيون الخبيرة ستجد فيها دائما العمل السابق الذي قامت به القرون الماضية.
15
وإذا كانت عيون معاصري سيبويه عادية فقد وجدت عينا سيبويه الخبيرتان في نحو الدؤلي ما ينتفع به. وقد أدى لزومه الخليل بن أحمد الفراهيدي كما تكمل الحكاية إلى ما جعله يحدث انعطافا في فكرة النحو الأولى بفضل تأملات متجددة في اللغة لينجز بها كتابه، الكتاب الذي دشن فيه فكرة النحو الخالص، وأسس به فكرة دراسة النظام اللغوي ووصفه. وهكذا فإن فكرة نحو سيبويه ككل الأفكار التاريخية في مسار أي علم من العلوم؛ حيث تعيش الأفكار في وعي حامليها، ثم تندفع مثل غريزة من دون أن يستطيعوا تبرير ذلك. إن العقل هو الأداة التي توفر عليها سيبويه؛ لكي يقوم بهذا الانعطاف في تاريخ النحو العربي.
يظهر الانعطاف الذي أحدثه سيبويه في تاريخ النحو العربي حين نقارن النحو المعياري بالنحو الوصفي؛ فالنحو المعياري يجزئ الجملة؛ لكي يكتشف الصحيح والخطأ. نقطة ضعف النحو المعياري أنه لا يفهم النظام اللغوي، ولا يصف اللغة؛ ولهذا ظل موضوع النحو ناقصا. لقد ظن النحويون المعياريون كالدؤلي أنهم يعرفون اللغة؛ لأنهم تصوروها بمعيار الصحة والخطأ؛ لذلك كان على النحو أن يتطور في اتجاه وصفي لكي يجلو فكرة المعياريين الغامضة عن اللغة. وقد حدث هذا التطور بالرجوع إلى نظام اللغة وإلى المفاهيم التي تصفه. لقد كانت مهمة سيبويه الوصفية أن يعثر على مفاهيم علم النحو في نحو أبي الأسود المعياري. وإذا ما كان لي أن أصنف النحويين إلى فئتين هما عمال النحو وعلماء النحو، فإن أبا الأسود الدؤلي عامل من عمال النحو، بينما سيبويه عالم من علماء النحو، ومقدمة الكتاب التي سماها القدماء رسالة الكتاب أو خطبته هي دفاع مطول عن استعمال المفاهيم التي تكونت مما جمعه أولئك العمال المجتهدون والمثابرون.
عرض الكتاب المفاهيم النحوية
رتبت محتويات رسالة الكتاب لسيبويه (مقدمته) كما سماها الزجاجي، أو خطبته كما سماها ابن جني وحدد نهايتها ب «هذا باب ما يحتمل من الشعر»
16
على النحو التالي: (1) باب علم ما الكلم في العربية. (2) باب مجاري أواخر الكلم من العربية. (3) باب المسند والمسند إليه. (4) باب اللفظ للمعاني. (5) باب الاستقامة من الكلام والإحالة. (6) باب ما يحتمل من الشعر.
يمكن أن نرسم شجرة لهذا الترتيب، وبغض النظر عن الأبواب الثلاثة الأخيرة التي تمثل المعرفة النحوية الأحدث في تلك المرحلة التاريخية، فإن الأبواب الثلاثة الأولى تتضمن سلسلة من المفاهيم النحوية التي تكون عندنا فكرة عن أن سيبويه ليس نحويا يعلم النحو، إنما عالم نحو يفكر بالنحو وهو ما هيأ رسالة الكتاب لكي تكون موضوع تفكير آخرين إلى حد أن الزجاجي شرحها. رسالة الكتاب هي فكرته الكبرى التي سبق غيره إليها، وتحليلها سيظهر الانعطاف الذي أحدثه.
ما يثير الانتباه في الأبواب الأولى السبعة الأولى منها هو إشارتها إلى جوانب أساسية ومركزية في النحو الخالص؛ كالقوانين التي تتحكم في ترتيب وتنظيم وتركيب الكلام، وتفهم من باب المسند والمسند إليه، وباب الاستقامة من الكلام والإحالة، ومعاني الكلام أو دلالته؛ أي العلاقات بينه وبين الأشياء والأفكار، ويفهم من باب اللفظ للمعاني، وباب ما يكون في اللفظ من الأعراض، والأهم كون الكلام يوجد في مجتمع. كما أنها تعرض بعض المجالات العلمية المحتملة؛ كالنحو من حيث هو الاعتبارات الشكلية للكلام، وفلسفة اللغة وتاريخها؛ من حيث هي الطبيعة الرمزية للغة والعلاقة بينها وبين الحقيقة، وأنظمة الاتصال كالعلاقة بين المتحدث والسامع.
تعبر رسالة الكتاب عن جهد سيبويه التجريدي والمنهجي المختلف؛ أي إننا أمام فكر نحوي غريب عن الفكر النحوي المألوف آنذاك. ففي زمن لم تكن فيه المفاهيم النحوية محددة تحديدا جيدا حددها سيبويه بالأمثلة؛ فالاسم كرجل وفرس وحائط، والفعل كذهب وسمع ومكث وحمد واذهب واقتل واضرب ويذهب ويضرب والأحداث (المصادر) كالضرب والقتل والحمد، وما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل (الحروف) ك «ثم وسوف وواو القسم ولام الإضافة».
علام يدل تحديد المفهوم بهذه الطريقة؟ يدل على أن سيبويه يعي ما يفعل فبدأ بالتدريب على المفاهيم. يشبه هذا أن تعلم طفلا؛ في التعليم حين ننطق الكلمة (رجل) لتحل محل إنسان حاضر أمامنا، فإننا نوجه الانتباه إلى المفهوم (اسم)، وليس إلى استحضار الصورة الذهنية للرجل. وسيبويه حين يربط بين الكلمة وبين المفهوم فالهدف ليس استحضار الصور الذهنية للكلمات، مثلما تستحضر كلمة (رجل) صورة ذهنية إنما الكيفية التي تتدرب بها ليعرف المفهوم.
يرتبط هذا الأسلوب في التدريب على المفاهيم عند سيبويه بما يعرف في سيكولوجية التعلم ب «المفاهيم السيئة التحديد»؛ أي تلك المفاهيم التي تكون فيها سمات المفهوم غير واضحة. مثل هذه المفاهيم لا تعلم بالتعريف إنما بالأمثلة. مثلا لم يكن بإمكان سيبويه أن يعرف الاسم بأنه ما يدل على معنى بنفسه من دون أن يرتبط بزمن؛ لأن علم النحو ما زال يبلور مفاهيمه. لذلك فإن ذكر مثال للاسم هو الأسلوب المناسب، وهكذا الفعل والحرف. والمهم بالنسبة لفكرتنا أن تمييز سيبويه بين الاسم والفعل لم يكن تمييزا بإعطاء سمات محددة للمفهومين إنما بإخبارنا بالأمثلة.
يستطيع سيبويه في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ النحو أن يورد كلمات مثل رجل وذهب واذهب ويذهب؛ لأن الجماعة النحوية العلمية اعتادت على أن تنظر إليها باعتبارها أمثله للاسم والفعل. أما مفهوما الاسم والفعل فلم تحن اللحظة لكي توصف سماتها المحددة بدقة. والحال أنه من المحال اليوم أن نتكلم عن مفاهيم كهذه من دون أن ندقق في سماتها. إن عددا من شروح كتاب سيبويه لا تتمثل غايتها في شرح وتوضيح ما غمض منه فحسب؛ إنما تتمثل أيضا في متابعة البحث في سمات المفاهيم النحوية وخصائصها المميزة، وإن كان سيبويه لم يذكر سماتها في المستوى نفسه الذي ذكره شراح كتابه فيما بعد، فإن هذا لا يمثل نقصا بقدر ما يكون ميزة تعطي مؤرخ النحو منطقة عمل؛ أعني كشف النحاة عن سمات المفاهيم بصورة تدريجية.
تكون المفهوم النحوي في الكتاب
لا يمكن أن يكون تاريخ النحو غريبا غرابة تامة عن تاريخ علم التفسير وعلم اللغة. والعلاقة بين هذه العلوم الثلاثة لا يمكن أن تتصور في اتجاه واحد؛ وإن كان الاتجاه المعتاد أكثر عند الباحثين هو الاتجاه الذي يسير من التفسير إلى النحو، ويوفر لنا أحد الباحثين أمثلة
17
على أن تاريخ بعض المفاهيم النحوية كالنعت (الصفة) والخبر والاستثناء والعلامة (أثر العامل في المعمول) تجد بدايتها في التفسير، كتفسير مقاتل بن سليمان الذي يعد واحدا من أقدم التفاسير الكاملة التي يمكن أن يتتبع فيه مؤرخ نحوي نشوء بعض المفاهيم النحوية. ويعيد هذا الباحث كون هذه المفاهيم بدأت في التفسير إلى أن علماء البصرة في النصف الثاني من القرن الثاني من الهجرة اهتموا ببنية اللغة بالمقابلة مع بنية النص. وكانوا نشطين كونهم مختصين في تفسير القرآن الكريم، ولكنهم توسعوا في بحوثهم لتشمل الظواهر العامة في اللغة. وقد أثمرت هذه التطورات في أول كتاب عن النحو العربي، وهو الكتاب لسيبويه المتوفى سنة 793 ميلادية.
18
لكي نفهم كيف تكونت المفاهيم التي بدأ بها سيبويه كتابه؛ فلا بد من أن نحدد علاقات التعارض والتكامل بين المفهوم وبين جذره اللغوي، وأن ننصت إلى إيحاءات الفعل. هذه العمليات المعقدة في الانتقال من المعنى اللغوي إلى معنى المفهوم تسمى النقل المعرفي. لقد توجهت بعض الأبحاث اللاحقة إلى تحليل هذه العملية المعقدة، كأبحاث ابن جني في كتاب الخصائص، سأكتفي منها هنا بالبناء. يقول ابن جني: «وكأنما إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضربا واحدا، فلم يتغير تغير الإعراب؛ سمي بناء، من حيث البناء لازما موضعه، لا يزول من مكان إلى غيره؛ وليس كذلك سائر الآلات المنقولة المبتذلة، كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك. وعلى أنه قد أوقع هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ البناء؛ تشبيها لذلك - من حيث كان مسكونا، وحاجزا ومظلا - بالبناء من الآجر والطين والجص.»
19
ينتمي أصل كلمة البناء كما يشرح ابن جني إلى حياة الإنسان العامة (التعلم الحدسي) أي ما يقتضيه الإنسان في حالته الطبيعية. في مقابل هذا الإنسان يوجد الإنسان الخبير الذي عرف مفهوم «البناء»، ويستطيع أن يشغله بصورة ملائمة. ولكي أوضح هذه الفكرة فسأستحضر الطلاب الذين يفهمون بسهولة كلمة البناء في مجال استخداماتها اليومية، بينما يفشلون في فهمها في مجال النحو؛ لأن البناء في مجال النحو لا يعني ما هو مألوف للطالب في الحياة اليومية. وهكذا فالتفكير في اللغة تقره صياغة المفهوم؛ فما إن تنفصل الدلالة اللغوية لكلمة «بنى» عن عالم الأشياء والكائنات والمخلوقات، وبشكل عام عن الحياة الإنسانية حتى يتكون المفهوم (البناء).
حين بدأ سيبويه رسالة الكتاب بتحديد المفاهيم النحوية الأساسية، فإنه يعامل اللغة بوصفها ظاهرة بشرية لا ترتبط بما هو فوقي، كأن تكون من وضع الله. ما فعله سيبويه شكل من البرهنة لا يستحضر النصوص الدينية، إنما يستقصي كلمات اللغة ليصنفها إلى أسماء وأفعال وحروف. يرتبط بهذا ولا ينفك عنه أن تتخذ الرسالة شكل النثر، وأن يختلف شكلها النصي النثري؛ فلم تكون نصا سرديا إنما نص يعرض ويفسر ويعبر ويشرح. ولهذا النوع من النصوص علاقة بالكتابة؛ فسيبويه لم يكن ليستطيع أن يعرض ويشرح ما يفكر فيه كتابة إلا لأن الكتابة كانت قد خلقت نمطا جديدا من الخطاب، ومنطقا وشكلا جديدين من التواصل بين المؤلف وبين القراء.
20
إن المفهوم هو الفكرة التي تمثل كلية الخواص الجوهرية؛
21
فالعقل يشكل المفاهيم بأخذه عددا معينا من الموضوعات التي تمتلك خصائص مشتركة؛ أي إنها تتطابق من بعض النواحي، ثم يجمعها ولا يحتفظ منها إلا بالمتشابهات ليتأملها. وبالعودة إلى الأفعال التي سردها سيبويه في رسالة كتابه؛ فإن ما هو جوهري وكلي فيها هي أنها حسبما يرى «أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع».
22
تنويع الكتاب تقديم المفهوم النحوي
يضيف سيبويه إلى طريقة الأمثلة التي قدم بها مفهومي الاسم والفعل طريقة أخرى في تقديم مفهوم الحروف. تستند هذه الطريقة إلى أمثلة ليست على المفهوم. يقول: «وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل، فنحو: ثم، وسوف، وواو القسم، ولام الإضافة، ونحوها.»
23
بعبارة أخرى: إن الأفعال كذهب ويذهب واذهب، والأسماء كرجل والضرب، ليست أمثلة على الحروف. هذا الأسلوب يسمى أسلوب المثال واللامثال؛ أي إن سيبويه عرض مفهوم الحرف بطريقة جديدة تتمثل في المقارنة بين الأمثلة واللاأمثلة؛ فذهب والرجل ليست أمثلة على الحرف بينما «سوف» مثال عليه.
لقد استخدم سيبويه ما يسمى متطلبات التعلم حين عرض مفهوم الحرف بعد عرض مفاهيم الاسم والفعل والمصدر؛ فهذه المفاهيم خبرات سابقة لتعلم مفهوم الحرف. وبتقديم سيبويه الأمثلة غير المنطقية للحرف بجانب أمثلة الحرف المنطقية؛ فذلك يعني تيسير عملية فهم المفهوم.
تدفعنا الكيفية التي عرض بها سيبويه المفهوم النحوي إلى أن نلاحظ أن التفكير النحوي لا يهبط كما لو أنه وحي. إنما هو إعمال للعقل يحتاج إلى وجود خبرات سابقة، وإلى سمات وخصائص تبرز بالمقارنة. وإذا ما لاحظنا أن النحاة آنذاك لم يكونوا مناصرين للعقل الذي يتأمل اللغة، إنما العقل الذي يصلحها من الفساد، فإن عرض سيبويه للمفاهيم النحوية جديد وبلا سابقة.
هل تصنيف سيبويه للكلام في اللغة العربية تصنيف مناسب؟ لا مجال لأن نحكم بأن يكون مناسبا أو غير مناسب؛ فالمجال مجال توصيف. لنتصور متكلما يريد أن يتواصل مع متكلم آخر ليبلغه بشيء ما. لا مناص أن يبني هذا المتكلم كلامه مستخدما مفاهيم سيبويه. سيستخدم فعلا واسما وحرفا، أو فعلا واسما ... إلخ. وهنا يمكن القول إن سيبويه يصف نظاما لغويا للتفاهم ولإيصال المعنى الذي يقصده المتكلم. وسيبويه ما فتئ يكرر على امتداد صفحات الكتاب بدون كلل ولا ملل أن هدف التحليل هو المعنى الذي يقصده المتكلم. إن المهم هنا هو أن سيبويه عالم درس اللغة مستخدما لهذا الغرض «المفاهيم العلمية التي تشكل علم النحو». درس نظام اللغة بدلا من أن يؤول نصوص اللغة أو يصحح لحنها، ونظر إلى المعرفة النحوية التي وصلت إليه على أنها معرفة يجب أن تحسن، ونظر إلى نفسه بوصفه نحويا يتساوى في القيمة المعرفية مع القيمة يتمتع بها الفقيه أو المفسر للنصوص الدينية. إن الحياد العاطفي الذي يظهره سيبويه تجاه اللغة العربية منذ الصفحة الأولى (هذا باب علم ما الكلم من العربية) لهو أحد معايير العلم؛ ذلك أن تعلقا عاطفيا باللغة العربية سيبدو غير مستحسن؛ لأنه سيدفع سيبويه إلى أن يدير ظهره للروح العلمية، وسيجعله يدافع عن نظرة خاصة تكون فيها اللغة العربية هبة إلهية فريدة ومتفردة.
استعارة الكتاب بعض مفاهيمه من علوم أخرى
عنون سيبويه الباب الثاني في رسالة الكتاب «هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية».
24
وقد استعار مفهوم «المجرى» من علم آخر، ثم اختفى من علم النحو، فلم يعد له أثر إلا نادرا. ينقل ابن منظور في معجم لسان العرب عن ابن سيده أن الأخفش قال: «والمجرى في الشعر حركة حرف الروي فتحته وضمته وكسرته، وليس في الروي المقيد مجرى؛ لأنه لا حركة فيه فتسمى مجرى، وإنما سمي ذلك مجرى؛ لأنه موضع جري حركات البناء والإعراب.»
25
يعلق أحد الباحثين المعاصرين على هذا بقوله: «فالمجرى مصطلح عروضي أساسا، وليس مصطلحا نحويا، ولكن سيبويه استعار هذا المصطلح واستعمله.»
26
ويضيف في مكان آخر من دراسته: «ولسيبويه الحق في أن يأخذ مصطلحا ما من أي علم من العلوم، ويوظفه كيفما شاء في علمه، وعلى القارئ أن يحذر من مفاهيم المصطلحات، ولا يؤول المصطلح إلا داخل العلم المستخدم فيه.»
27
يضيف ابن منظور إلى ما قاله عن المجرى: «والمجاري: أواخر الكلم؛ وذلك لأن حركات الإعراب والبناء إنما تكون هناك. قال ابن جني: سمي بذلك لأن الصوت يبتدئ بالجريان في حروف الوصل منه.»
28
يقصد ابن جني بالوصل المفهوم العروضي الذي يعني حرف المد الذي يتولد عن إشباع حركة الروي، فيكون ألفا أو واوا أو ياء في اللفظ. والأمثلة التي ساقها تشير إلى هذا؛ فالفتحة في حرف العين «مصرعا» هي ابتداء جريان الصوت، وهكذا الكسرة في «فالسند» والضمة في «لائم».
ما أضافه سيبويه إلى مفهوم المجرى ليكون مفهوما نحويا هو أنه «لم يقصر المجاري هنا على الحركات، كما قصر العروضيون المجرى في القافية على حركة الروي دون سكونه.»
29
ثم استقر على مفهوم الجر في الإعراب وعلى مفهوم الكسر في البناء، وهو تطور مهم؛ لأنه ينقص كثرة المفاهيم في حالة كهذه. فعلى ما يحكى عن الخليل بن أحمد أن حالة كهذه تستدعي أربعة مفاهيم «الخفض: ما وقع في أعجاز الكلم منونا، نحو زيد. والكسر: ما وقع في أعجاز الكلم غير منون، نحو لام «الجمل». والإضجاع: ما وقع في أوساط الكلم نحو باء «الإبل». والجر: ما وقع في أعجاز الأفعال المجزومة عند استقبال ألف الوصل نحو: يذهب الرجل.»
30
استبعد سيبويه مفهوم «الإضجاع» من النحو؛ لأنه لا علاقة له بكون الكلمة معمولا لعامل فيتحرك آخرها، إنما علاقته بتركيب الكلمة حين يحرك مثلا فاء الكلمة أو عينها أو لامها بالكسرة مما لا علاقة له بالنحو.
أخذ على سيبويه أنه جعل الجزم والوقف حركتين؛ لكن ابن جني فند هذا المأخذ. فمن وجهة نظره أن سيبويه يعني بقوله مجاري أواخر الكلم «أحوال أواخر الكلم وأحكامها والصور التي تتشكل بها، فإذا كانت أحوالا وأحكاما فسكون الساكن حال له، كما أن حركة المتحرك حال له أيضا.»
31
وقد استعاد باحث معاصر رأي ابن جني؛ فالمجرى علامة في آخر الكلمة تكون بالحركة أو بغيرها؛ لأنه مرتبط بالتكوين المكون في نظر سيبويه من عوامل ومعمولات، بينما الحركة مرتبطة بالتركيب ولها علاقة بالحرف فقط، سواء أكان في حشو الكلمة أم في آخرها أم في بدايتها.
32
من جهة أخرى؛ يتضمن الباب الخامس من الرسالة «هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب»
33
مفاهيم تنتمي إلى علم مصطلح الحديث، وهو علم طلبه سيبويه ثم تركه إلى علم العربية كما هو معروف، ويبدو أنه حافظ على ما تعلمه حتى وهو يدرس النحو. ويبدو من الأمثلة التي أوردها سيبويه، وحكمه عليها بمفهوم مستقيم حسن، أو محال، أو مستقيم كذب، أو مستقيم قبيح، أو ما هو محال كذب أنها أحكام تشبه الأحكام التي يصدرها رجال الحديث. على سبيل المثال: فأتيتك أمس، وسآتيك غدا، كلام مستقيم حسن يذكر بالأحاديث النبوية التي تتبعها الرتبة كقولهم عن أحد الأحاديث: حديث صحيح أو حسن. وتكمن الأهمية العلمية للمفاهيم التي أوردها سيبويه كحسن وقبيح في معياريتها؛ أي في استخدامها للحكم على صحة تركيب من الوجهة النحوية.
المفهوم المفتاح في مفاهيم سيبويه هو «مستقيم» ثم تأتي بعده مفاهيم رتبة الصحة، كأن تكون حسنة أو قبيحة أو كاذبة. ويبدو لي أن مفهوم «مستقيم» يعادل في علم مصطلح الحديث مفهوم «صحيح» من حيث هو حكم تأتي بعده رتبة الحديث كأن يكون صحيحا لكن رتبته متفاوتة.
يعني الكلام المستقيم في رتبة الحسن عند سيبويه: ما روعي فيه قواعد اللغة العربية صوتا وتركيبا ودلالة؛ أي إنه اشتمل على أعلى صفات الصحة اللغوية؛ لذلك فهو كلام مستقيم حسن. ويعني الحديث الصحيح السلامة من الشذوذ والعلل، واتصال السند بنقل العدل الضابط عن مثله. قد يكون الحديث الصحيح لذاته؛ أي إنه اشتمل على أعلى صفات القبول، وقد يكون الحديث صحيحا لغيره؛ أي صحح لأمر أجنبي عنه؛ لكونه لم يشتمل على أعلى صفات القبول كالحسن، فإذا روي من غير وجه ارتقى بما عضده من درجة الحسن إلى درجة الصحة.
34
من وجهة النظر هذه، يتبين لنا أن أحد الباحثين المعاصرين لم ينتبه إلى التغير الذي يحدث للمفهوم حينما يستعار من حقل علمي إلى حقل آخر. يقول هذا الباحث عن وصف سيبويه لبعض الكلام بالحسن: «ويبدو أن هذا «الحسن» يكاد يقترب من الحديث الحسن.»
35
وكما قلنا فإن الحسن رتبة يرتقي بها الحديث الصحيح بغيره إلى رتبة الصحيح لذاته، وهو ما يشير إلى أن المفهوم المفتاح هو الصحيح؛ وليس الحسن، وهو ما يقابل مفهوم المستقيم عند سيبويه.
يذهب باحث آخر إلى أن القبح والحسن مفهومان كلاميان.
36
وكما هو معروف فإن هذين المفهومين يعبر بهما في علم الكلام عن الخير والشر، وقد يعبر بهما عن المصلحة والمفسدة. والحكم بهما إما أن يكون عقلا (المعتزلة) أو شرعا (الأشاعرة). وما يهم هنا هو أن سيبويه وإن استعارهما من علم الكلام؛ إلا أنه لم يستخدمهما استخداما كلاميا. وإذا صح أن الاستقباح والاستحسان يعتمدان على «الشيوع والكثرة في الظاهرة اللغوية»؛
37
أي إن الشائع الكثير حسن والنادر قبح، فإن هذا تحسين لغوي أو تقبيح لغوي عقلي؛ أعني حكم بهما العقل وهو يستقرئ الظاهرة اللغوية، ويستنبط أحكامها وقواعدها، ولا مجال هنا للتحسين أو التقبيح الشرعي.
سأكتفي بما توقفت عنده من استعارة النحو بعض مفاهيمه من علوم أخرى، وهي استعارة تتعلق بالشروط العقلية للممارسة العقلية النحوية. ومن غير أن أحمل مرحلة سيبويه التاريخية فوق ما تحتمل من شروط التفكر العقلي، فإن ممارسة عقلية كهذه لم تكن لتوجد ما لم يتوفر حد أدنى من الشروط على المستويين الثقافي والاجتماعي لتلك المرحلة التاريخية.
لا يمكن لي أن أعيد تفكير سيبويه العقلي في النظام اللغوي من حيث هو نحو في حدود العقل إلى مؤسسات مدينة البصرة، كما يقال مثلا على المدينة في اليونان. وإن كان الاعتراف بعقلانية البصرة يجب أن يؤخذ في الاعتبار؛ فنحو سيبويه يتميز بمعاصرته؛ ليس لعلوم الشرع فحسب إنما أيضا للعلوم الأخرى كعلم الكلام. وإذا ما كانت معرفة سيبويه بعلم الحديث معرفة المحترف الذي تعلمه، فإن معرفته علم الكلام معرفة الهاوي التي انعكست على تفكيره.
حين ترك سيبويه تعلم الحديث تعلم على الخليل بن أحمد، وسيبدي لنا وصف ابن المقفع للخليل أي شيء تميز به الخليل بن أحمد حينما قال عنه: «رأيت رجلا عقله أكبر من علمه.» وهو ما أثر في سيبويه الذي تجاوز العقل البلاغي للنحاة الذين سبقوه إلى المفاهيم النحوية التحليلية. لقد وجد وصف ابن المقفع لسيبويه الصدى الذي يستحقه. يروى عن صاحب الأخبار وراوية الآداب أبي بكر الباهلي البصري أنه نظر في كتاب سيبويه فقال: «علمه أبلغ من لسانه .»
38
والمهم هنا ليس الحبسة التي في لسان سيبويه كما يروى، إنما التفكير العقلاني الذي تنبئ به العبارة.
المفاهيم الموجهة للكتاب
في المتن الذي أحلله (رسالة الكتاب) سلسلة من أقوال سيبويه ك «اعلم» أن:
بعض الكلام أثقل من بعض؛ فالأفعال أثقل من الأسماء.
39
ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام ووافقه في البناء أجري مجرى ما يستثقلون، ومنعوه ما يكون لما يستخفون.
40
النكرة أخف من المعرفة، وهي أشد تمكنا.
41
الواحد أشد تمكنا من الجميع.
42
المذكر أخف عليهم من المؤنث.
43
مفهوما الخفة والثقل اللذان تضمنهما كلام سيبويه مفهومان في غاية الأهمية؛ لأن سيبويه يختبر بهما صحة الاحتمالات حين يستعرض المفاهيم النحوية المترتبة عليهما. وقد تجاوبت استنتاجاته مع هذين المفهومين؛ فالأفعال أثقل من الأسماء لذلك لا تنون لكنها تجزم وتسكن. وترتب على خفة النكرة والمفرد على الترتيب أنهما أشد تمكنا من المعرفة والجمع. وهكذا فسيبويه لا يحلل مفاهيم النكرة والمعرفة والمذكر والمؤنث والمفرد كيفما اتفق؛ إنما يحللها استنادا إلى مفهومي الخفة والثقل اللذين يستخدمهما الناطقون لكنهما غير مصاغين، وعلى هذا المستوى فإن عمل سيبويه هو الإخراج المبتكر لهذا المفهومين بعد أن كانا مألوفين، لكنهما غير معروفين.
يتضح هذا في مفهوم موجه آخر هو مفهوم التشابه. يقول: «وإنما ضارعت (الأفعال المضارعة) أسماء الفاعلين»؛ وذلك بسبب اجتماعهما في المعنى. ودليل اجتماعهما في المعنى أن الاسم يمكن أن يحل محل الفعل المضارع وليس العكس؛ مما يعني أنه فعل وليس اسما. وقد رتب سيبويه على هذا استنتاجات دقيقة، وتعليلات دخول اللام على الفعل المضارع، والتحاق السين وسوف به. وعلى أي حال لا مجال هنا لأن أتوسع، فما أردته هو أن أشير إلى مجال لم يدرس بعد.
تكفي هذه المفاهيم الموجهة التي شرحها سيبويه في كتابه لتضعه في مكان فريد ومميز عن نحويي عصره بالنسبة لمرحلته التاريخية، وهي المفاهيم التي يعرفها جميع النحويين الآن. إنني أعتقد أن لكتاب سيبويه نظام تفسيره، ولكي نفهم هذا النظام علينا أولا أن نحدد المفاهيم الموجهة، وفيما توقفنا عنده أعلاه بينا أنه حيث يوجد ثقل أو خفة أو تشابه، فإن ثمة شيئا يمكن أن يحلل بوصفه تفسيرا، الأمر الذي يجعل المفاهيم الموجهة جزءا أصيلا من مشروع سيبويه النحوي.
مفاهيم الكتاب المتعلقة بالتركيب
تتضمن رسالة الكتاب بابا عنوانه «هذا باب المسند والمسند إليه»،
44
وكما نعرف فإن مفهومي المسند والمسند إليه انتقلا فيما بعد إلى البلاغة العربية؛ وأسس عليهما علم المعاني. وقد نقد بعض المعاصرين هذا؛ فالنحو العربي من وجهة نظره «أحوج ما يكون أن يدعي لنفسه هذا القسم من أقسام البلاغة الذي يسمى علم المعاني حتى إنه ليحسن في رأيي أن يكون علم المعاني قمة الدراسات النحوية أو فلسفتها.»
45
وهو رأي من الصعب ألا أتفق معه؛ لأن النحو قبل سيبويه نشأ تحليليا؛ أي إنه كان يعنى بمكونات التركيب أكثر من عنايته بالتركيب ذاته؛ لذلك فإن حديث سيبويه عن المسند وعن المسند إليه في كتاب نحوي يعتبر نقلة نوعية في مجال البحث النحوي.
يعرف سيبويه مفهومي المسند والمسند إليه بأنهما «ما لا يغني واحد منهما عن الآخر»؛ وهو تعريف يستند إلى علاقة الإسناد بينهما؛ فالمسند إليه عبد الله لا بد له من مسند هو أخوك في قولنا: «عبد الله أخوك». ويعبر سيبويه عن هذا بقوله: «لم يكن للاسم الأول بد من الآخر في الابتداء.» وكذلك فإن المسند «يذهب» لا بد له من مسند إليه هو «عبد الله» في قولنا: «يذهب عبد الله». ويعبر سيبويه عن هذا بقوله: «فلا بد للفعل من اسم.» وكما نعرف الآن فقد وصفت علاقة الإسناد في قولنا: «عبد الله أخوك» بالجملة الاسمية، وبالجملة الفعلية في قولنا: «يذهب عبد الله».
يضيف سيبويه أن «مما يكون بمنزلة الابتداء قولك: كان عبد الله منطلقا.» ويبدو أن هذه إضافة «كان» لها علاقة بإضافة معنى زمني لجملة لا تشير إلى زمن «الجملة الاسمية». وتبدو أهمية هذه الإضافة إذا ما أخذنا في اعتبارنا قرائن التعليق المعنوية، ومن أهمها الإسناد، وهو ما اهتم به تمام حسان؛ فقد أكد على أن علاقة الإسناد قرينة معنوية تميز المسند إليه بما لا يحتاج إلى إضافة.
46
غير أن سيبويه لا يكتفي بعلاقة الإسناد بين اسمين أو بين فعل واسم، إنما يشرك المتكلم فيقول: «ولا يجد المتكلم منه بدا». ويمثل إدخال المتكلم تطورا نوعيا في مفهوم النحو؛ ذلك أن المتكلم يحضر في نحو أبي الأسود الدؤلي من حيث هو ناطق يتجنب الخطأ، بينما يحضر في نحو سيبويه؛ ليس لأنه ناطق فحسب، إنما فوق ذلك لأنه يقصد معنى؛ كأن يثبت شيئا لشيء، أو ينفيه عنه، أو يطلبه منه؛ أي إن للإسناد معنى وظيفيا، ترتبت عليه تفريعات شرحتها فيما بعد كتب البلاغة.
على أننا لا نتوقع من بلورة سيبويه مفهومي المسند والمسند إليه أن يكون ردا على نحو أبي الأسود الدؤلي؛ فما زال النحو بمعنى ما دؤليا ولم يحدث القطيعة التامة. فسيبويه استخدم المفاهيم النحوية التحليلية التي دشنها الدؤلي، لكنه سيضع البذرة التي نبتت في كتاب دلائل الإعجاز الذي صنف على أنه بلاغي وليس نحويا، وهو ما يمثل عندنا مفهوم النحو المنسي.
47
مفاهيم المساءلة الجديدة في الكتاب
حسب التقليد العلمي الذي وصلنا؛ فإن قضية اللفظ والمعنى تنتمي إلى البلاغة، لكن محمد عابد الجابري يذهب إلى أكثر من ذلك؛ فقد «هيمنت «قضية اللفظ والمعنى» على تفكير اللغويين والنحاة وشغلت الفقهاء والمتكلمين واستأثرت باهتمام البلاغيين والمشتغلين بالنقد، نقد الشعر ونقد النثر، دع عنك المفسرين والشراح الذين تشكل العلاقة بين اللفظ والمعنى موضوع اهتمامهم العلني الصريح.»
48
ثم يرتب على هذا أن سيبويه لم يكن «الوحيد الذي اتجه بالدرس النحوي العربي هذا الاتجاه الذي يتداخل فيه المنطق واللغة، بل إن عمله إنما كان جمعا وتنظيما للمناقشات النحوية اللغوية البلاغية المنطقية التي انشغل بها جيله والجيل السابق له.»
49
غير أن فرضية الجابري الأساسية؛ أعني النظرة إلى اللفظ والمعنى من حيث هما منفصلان لا تفسر ما تخيله وسماه النظام المعرفي البياني. وليس كافيا أن يقول: إن جمع اللغة وتدوينها وتأليف المعاجم اللغوية نتج عن تصور اللغويين الفصل بين اللفظ والمعنى؛ فالأمر الأهم يؤول إلى التصورات الشخصية المتعلقة بمعتقدات اللغويين اللغوية وتصوراتهم عن طبيعة اللغة ووظائفها.
لقد استند جمع اللغة وتدوينها إلى تصورات شخصية لجامعي اللغة عن طبيعة اللغة ووظيفتها وعلاقتها بالفكر، وعن طبيعة المنهج وعلاقته بما يدونونه أو يتجاهلونه. وقد كان لهذه التصورات أسباب تاريخية وثقافية. وإذا كانت هذه العوامل التاريخية والثقافية قد ولدت تصورات المعجميين اللغوية، وأن هذه التصورات نجم عنها معاجم لغوية فصلت اللغة عن أفقها الاجتماعي، وأن هذا الفصل ولد مشكل الكلمة في علاقتها بالأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية. إذا كان كذلك فإن الأسئلة التي تنتظر الباحثين هي: ما الأصول التاريخية لهذا المشكل؟ ما الشروط الاجتماعية لبقائه؟ وما الأسس الثقافية لهذا كله؟ وهو ما لا تجيب عنه فرضية الجابري المتعلقة بفصل اللغويين بين اللفظ وبين المعنى.
نشأت معتقدات اللغويين والمعجميين المتعلقة بطبيعة اللغة العربية من جو المرحلة الفكري الرافض لأي تجديد لغوي؛ لأنه يتعارض مع ثبات اللغة العربية وأزليتها. ومن زاوية ثبات اللغة وأزليتها من الطبيعي أن يتجاهل اللغويون وجود الكلمة المجتمعي الجديد، وتسرب الكلمات الجديدة إلى العلاقات التي تربط بين الأفراد، ولحمة الكلمات لمجال العلاقات الاجتماعية، وسجل الكلمات الذي تتواصل به شرائح المجتمع. لهذا كله لا أوافق على الفصل الذي افترضه الجابري بين اللفظ والمعنى وأدى إلى ما اعتقده في كتاب سيبويه، فالجابري يرى أننا لسنا «بإزاء تقرير قواعد نحوية تضبط كيفية النطق والكتابة».
50
إنما بإزاء «جهات - أو موجهات - مركبة من جهات عقلية منطقية تخص المعنى وجهات لغوية تخص تركيب الكلام».
51
ما أغفله الجابري هو أن قضية اللفظ والمعنى تتعلق بتفسير نصوص مؤسسة للمجتمع الإسلامي. ومن هذه الزاوية لا تمثل علاقة اللفظ بالمعنى قضية طارئة من خارج الثقافة العربية الإسلامية. بل إنني أذهب إلى أن قضية اللفظ والمعنى قضية أساسية داخل الثقافة العربية الإسلامية؛ لكنها حتما لم تأخذ التوجه النحوي الذي توصل إليه الجابري حين قابل بين مشتقات النحاة وبين مقولات أرسطو.
52
يختصر سيبويه في بابين من كتابه علاقة اللفظ بالمعاني، وما يكون في اللفظ من الأعراض. وقد أتاح هذان البابان تقدما يسيرا على مستوى المعرفة النحوية في عصره، من حيث إنه أعطى بهما الفرصة للنحو ليشتغل في مجال لم يكن الآخرون قادرين على وطئه، وفتح بهما ميادين البحث النحوي التي ستظهر ناضجة فيما بعد عند نحويين هما ابن جني وعبد القاهر الجرجاني؛ ففكرة أن العرب يحذفون ويعوضون، ويستغنون بالشيء عن الشيء، التي أشار إليها سيبويه فرضت انتظام التحليل النحوي فيما بعد، وهي بمعنى ما مبادئ استخدمت في شرح ما ينطق به المتكلم.
لا أعني بالمبادئ سلسلة مرتبطة من المفاهيم العلمية التي تصف ظاهرة أو حدثا كما عرفها العلم الحديث؛ إنما أعني ظهور مفاهيم جديدة للمساءلة في النحو والصرف كالحذف والتعويض والاستغناء.
53
وهي مفاهيم تعبر بوضوح عن إشكاليات فعلية في اللغة، ك «لماذا قالوا يدع ولم يقولوا ودع؟ لماذا قالوا زنادقة ولم يقولوا زناديق؟» هناك أسئلة أخرى سعى سيبويه إلى الإجابة عنها. ولكي يجيب عنها فكر على مستويين: مستوى ما يسمع، ومستوى ما لم ينطق. وقد أتاح له هذا شكلا من التعقل أخذ شكلا كافيا من الوضوح مما أدى إلى نتائج جديدة في البحث النحوي.
لم يكن سيبويه ليستطيع أن يتابع مشروعه؛ أعني إنشاء تفكير نحوي جديد إلا بعد أن يفطن إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى. والفصل الذي افترضه الجابري لم يكن مفكرا فيه آنذاك. وما فعله سيبويه هو تطوير فكرة التقصي عن العرب. وهو يبدأ البابين ب «اعلم أن من كلامهم» و«اعلم أنهم مما (ربما) يحذفون» وهو مما أدى إلى أفضل النتائج؛ أعني التقصي الذي رسم إلى حد ما الحدود للألفاظ والمعاني؛ فاللفظان قد يختلفان لاختلاف المعنى، وقد يختلفان والمعنى واحد، وقد يتفقان ويختلفان في المعنى وإن كان الواقع اللغوي قد يستعصي على هذا التحديد الدقيق.
مفاهيم الكتاب الذهنية
يهدف سيبويه من أمثلته على اختلاف الألفاظ لاختلاف المعنى «جلس وذهب»، واختلافهما والمعنى واحد «ذهب وانطلق»، واتفاقهما واختلافهما في المعنى «وجدت عليه، ووجدت» إلى استكشاف معنى ما ينطق به. ما الذي دفع سيبويه إلى هذه التفصيلات؟ الفضول العلمي هو ما دفعه إلى البحث في الفروق الدقيقة بين الألفاظ؛ فالناس يتكلمون في تجربتهم اليومية بكيفية عائمة وفضفاضة، وحين يتحدثون لا يتوخون الدقة في دلالة اللفظ على المعنى أو «مطابقته». هناك نمطية عامة في التحدث مشروطة بألا تعرقل التواصل في الحياة اليومية، وتبادل التجارب مع أناس يشبهوننا.
بسبب الفضول العلمي المتعلق باللفظ والمعنى سلكت المساءلة الذهنية في كتاب سيبويه دربا جديدا أفضى إلى مفاهيم تشير إلى ما يختفي خلف الظاهر المنطوق به، وهو ما يفهم من حذف العرب بعضا من كلامهم. ثم شمل هذا الفضول المعرفي استكشاف مجمل الظاهرة اللغوية. ومن هذا المنظور فالحذف هو ما قاد إلى مفهوم الإضمار، ومن ثم قاد هذا إلى مفهوم العامل، وليس العكس.
54
فالحذف أقل تجريدا من الإضمار والعامل، مما يعني أن الأكثر تجريدا يتلو الأقل تجريدا. التفكير في الحذف ثم في الإضمار ثم في العامل هو عمليات النحو العلمية التي توقفت عند العامل بوصفه تصورا ذهنيا تأويليا، وأداة تحليلية لعلم النحو.
55
ما كان لسيبويه أن يعقد باب «مجاري الكلم العربية» بدون مفهوم العامل، وما كان له أن يكون عقلانيا وعلميا معا ليتوقف عند قضايا تتعلق بأساليب النداء والقسم والاختصاص ... إلخ من دون افتراض الحذف أو الإضمار. تكمن وظيفة مفاهيم الحذف والإضمار والعامل في أنها تجعل من إحدى وظائف اللغة «التبليغ» افتراضية. وبفضل هذا الافتراض يصبح معنى الكلام موضوع النحو. قد كان سيبويه واعيا بذلك حين يقول: «وهذا تمثيل ولا يتكلم به.»
56
يعلق أبو زيد على أن هذه العبارة دليل «على وعي سيبويه بالفارق بين «العبارة الأصلية» موضوع التحليل وبين «العبارة الشارحة». ومعنى قول سيبويه إن «العبارة الشارحة» «تمثيل ولا يتكلم به» هو أن تقدير المحذوف مسألة افتراضية. وإذا كان المحذوف هو العامل؛ فذلك يؤكد ما ذهبنا إليه من أن «العامل» مجرد تصور ذهني تأويلي، أو هو أداة تحليلية لبناء العلم.»
57
المنزلة المعرفية للغة الكلام مقابل لغة الشعر
أنهى سيبويه رسالة الكتاب بمجموعة من الملاحظات، وأدرجها تحت عنوان عام هو «باب ما يحتمل الشعر». يقول: «اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف ... وحذف ما لا يحذف ... وربما مدوا مثل مساجد ومنابر ... وقد يبلغون بالمعتل الأصل، فيقولون رادد في راد، وضننوا في ضنوا، ومررتم بجواري قبل ... ومن العرب من يثقل الكلمة إذا وقف عليها، ولا يثقلها في الوصل، فإذا كان في الشعر فهم يجرونه في الوصل على حاله في الوقف نحو: سبسبا وكلكلا ... ويحتملون قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه ... وجعلوا ما لا يجري في الكلام إلا ظرفا بمنزلة غيره من الأسماء.» لقد أطلت الاستشهاد لكي أحدد قيمة ما أورده سيبويه فيما يتعلق بالمنزلة المعرفية للغة الكلام في مقابل لغة الشعر، ولكي أدعم تصور لغة الشعر على طريقة الخليل بن أحمد (الشعراء أمراء الكلام) الذي قد يرى البعض أن سيبويه أورده متأثرا بالخليل؛ فالنصان فيما أذهب إليه لا يتماثلان، ولا يتحملان المعنى ذاته من جهة الغاية؛ ذلك أن الغاية عند الخليل بن أحمد غاية عروضية تتعلق بالوزن؛ فالفرزدق - مثلا - مد الصيارف في بيته الشهير «تنقاد الصياريف» من أجل أن يستقيم الوزن. أما الغاية عند سيبويه فهي غاية نحوية؛ أي لا يجب أن تخضع لقواعد النحو من حيث الصحة والخطأ، ذلك أن الشاعر اضطر إلى ذلك اضطرارا لكي يكون له لغته الخاصة، وهو ما يفهم من قوله: «وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها.» ويمكن أن نفهم هذا القول في إطار أن اللغة منظومة اجتماعية، فهي تقتضي دائما بأن يضحي الفرد بلغته الخاصة من أجل لغة الناس جميعا، وما يحدث للغة الشعر هو أن الشاعر يضحي بلغة الناس من أجل لغته الخاصة.
الفصل الرابع
النحو مجردا مما هو ثقافي
يرى ابن جني أن النحاة القدماء خبروا شخصيا الكلام في الحياة اليومية، ودلل على ذلك بقوله: «ليس المخبر كالمعاين.»
1
وفي صفحة أخرى يقول: «يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه، ولم يحضره إنشاده.»
2
يتحرز ابن جني بهاتين العبارتين من اللغة المكتوبة التي لا تساعد على اكتشاف خصائص اللغة الحية؛ لأن اللغة المكتوبة «خارجة عن ظروف الحياة الواقعية؛ وهي كذلك لا يمكن أن تعطي صورة صحيحة لحالة لغوية؛ لأنها بحكم الضرورة، وبفضل امتيازها، تعيش الماضي والحاضر والمستقبل جميعا، ولأن الكاتب الواحد في صفحة واحدة يمكن أن يكون سابقا لتطور اللغة المتكلمة ومتخلفا عنه.»
3
الصورة التي يوضح بها ابن جني اللغة المكتوبة ينقلها عن أحد شيوخه حينما قال: «أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة.»
4
وبالرغم من أن ابن جني يورد عبارة شيخه في سياق أهمية مشاهدة وجه المتكلم، وكيف يمكن أن تكون مشاهدة وجهه دليلا على ما في نفسه، فإننا يمكن أن نستخدمها صورة للكلام الذي يجرد الكلام من كل ما هو شخصي وثقافي، ومن الخصائص الثقافية لحياة الناس اليومية، وهي صورة تمثل ما فعله في كتاب الخصائص؛ حيث جرد ابن جني الكلام من كل ما هو شخصي وثقافي وحياتي. والأمثلة التي يختارها تفي بالغرض من ناحية النحو العلل والقياس، لكنها غالبا معزولة عن حياة الناس حتى إنها ترد عنده بدون سياق لغوي.
كلام العرب كما حلله ابن جني في كتاب الخصائص أكثر مما يعرف به كتاب الخصائص، وهو أكثر من مجموع الصفات التي أطلقها عليه. لا سبيل فيه إلى وصف الكلام الخاص والحميمي في تجربة الحياة اليومية، إذ يحيي الإنسان الكلام وينعشه بما يتجاوز القياس والعلل. والسبيل الوحيد أمام الإنسان لأن يجرب الكلام هو أن يتكلم، حينئذ يوقظ حريته وتواصله مع الناس، أن يشعر في حياته اليومية أن هناك إنسانا يتكلم معه وعنه في موقف حياتي حميم. يمكن لابن جني أن يقترب من اللغة المتكلمة وأن يقاربها، يمكنه أن يحاكيها، لكن المحاكاة تظل تحويلا وتحريفا.
5
وقارئ كتاب الخصائص لن يستغرق وقتا حتى يلاحظ الكلمات المبهمة، والتي في طريقها إلى أن تتلاشى، والتي ماتت، والتي صنعها ولا يتكلم بها أحد. كل هذا بسبب اعتماده على اللغة المكتوبة التي لا تعطي صورة أمينة عن اللغة كما يتكلمها الناس في حياتهم اليومية .
لكن ألا يعد ما قام به ابن جني في كتابه الخصائص تقدما كبيرا لعلم النحو العربي؟ بلى. ذلك أن التزام ابن جني الجديد بتجريد النحو من كل ما هو ثقافي أثبت في جانب آخر أنه تجريد مثمر وخصب؛ حيث وجه أنظار النحويين من بعده إلى مسائل نحوية تمثل موضوعات جديدة؛ حين أصبح مفهوما الاستقراء والقياس أشبه بالشرط في دراسات النحاة التاليين لابن جني.
تجديد النحو بما هو أصل فكرة قوانين الصواب والخطأ
ينطلق نحو سيبويه من مفاهيم وقضايا نحوية تسمح للمتكلم بأن يركب أي شكل للمعنى الذي تصوره قبليا؛ أي «قوانين النحو في سيرورتها وتعدد إمكاناتها ولا نهائية الاختيارات المتاحة عند المتكلم».
6
أما فكرة نحو ابن جني، فهي الفكرة النحوية التي تقوم على قوانين الصواب والخطأ. أين الجدة ونحو الدؤلي يستند هو أيضا إلى قوانين الصواب والخطأ؟ تاريخ أي علم لا يكرر الأفكار ذاتها، وإن حدث وتكررت فإن الفرق بينها يحول دون تطابقها؛ كالتاريخ الذي لا يتكرر. وإذا ما حدث وتكرر فإن الفرق بين تاريخين يحول دون أي تعميم بالتطابق بينهما. والفرق بين فكرتي الدؤلي وابن جني هو الفرق بين فكرة تنشأ ولا تعرف أي جهة تسلكها كما هي فكرة الدؤلي، وبين فكرة يراد لها أن تسلك جهة محددة كما هي فكرة ابن جني.
يقوم نحو سيبويه على تشارك الوصفي والمعياري، وهذا ما هيأ جزءا من نحو سيبويه لكي يطبق على أواخر كلمات اللغة. أما النحو المستند إلى قوانين الصواب والخطأ فقد نشأ تحت توجيه فكرة النحو الجديدة؛ أعني قول ابن جني في جزء من تعريفه النحو «ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها من الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذ بعضهم رد به إليها»؛
7
أي إن النحو يصبح بالنسبة للكلام قوانين مستخدمة ينتج عنها علامات إعراب يخضع لها المتكلمون؛ لا من حيث إنتاج الدلالة والمعنى كما في نحو سيبويه، إنما من حيث صواب الكلام وخطؤه.
يمكنني أن أعيد بناء مسار التفكير الذي أوصل إلى فكرة ابن جني عن النحو؛ فقد هيئ الإنسان على نحو يجعله يتعلم اللغة بسهولة ما لم يكن هناك عائق. ولا يثير تعلم الإنسان اللغة أي إشكال. حين يتكلم الفرد في حياته اليومية، فهو يتكلم من غير أن يفكر في قوانين الصواب والخطأ. إنما يتكلم باعتباره ذاتا تعبر عن حياتها الداخلية، ولكي يلبي حاجاته اليومية؛ لذلك فإن مركز الثقل ليس في أن يطابق كلامه صيغ الكلام الصائبة، إنما أن يفهم المخاطب المعنى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتحتم على الفرد، أن يأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر المخاطب الذي يتكلم معه؛ لأن المخاطب هو الذي سيفهم كلام المتكلم. ولا علاقة هنا لقانون الصواب والخطأ؛ فصحة كلام الفرد لا تهم بقدر ما تهم قيمة الحقيقة فيه أو الكذب، أو طابع الكلام الشعري أو المبتذل
8 ... إلخ.
حين يتكلم الفرد في الحياة اليومية؛ فكلامه لا ينفصل عن محتواه الأيديولوجي أو عن حياته اليومية. ما ينطقه في الحياة اليومية ويسمعه الآخرون ليس الكلمات، إنما الحقائق أو الأكاذيب، الأشياء الحسنة أو القبيحة، المهمة أو المبتذلة، المفرحة أو المحزنة ... إلخ. فالكلام محمل دائما بمضمون أيديولوجي أو وقائعي. وعلى هذه الشاكلة يفهم الناس الكلام، ولا يستجيبون إلا للكلام الذي يوقظ فيهم أصداء أيديولوجية، أو له علاقة بحياتهم اليومية.
9
عندما يهتم أحد بكلامنا وينشغل به، ويتأمله، ويصفه ويصححه أو يخطئه يركب كلاما جديدا انطلاقا من هذه العلميات؛ وهنا يظهر عالم النحو وعلم النحو. في مقابل كلام الفرد الذي ينشأ ضمن سياق محدد هو سياق الحياة نشأ الآن تفكير خالص في كلام الفرد وبكلام الفرد بما ليس من كلام الفرد. ومن هذا المنظور نشأت كلمات مميزة (مفاهيم) ومحددة ومنضبطة كالفعل والفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر ... إلخ. وإبداع النحو العربي يكمن في أنه استعمل كلام العرب، وأنتج منه مفاهيم بكيفية نظرية، وفرضيات ومنهج مصطنع.
10
يتعلق الأمر بأخذ عدد معين من الأمثلة تملك سمات مشتركة، وجمعها، واستخلاص الفروق بينها، والاحتفاظ بما يتشابه منها. بهذه الطريقة تتشكل فكرة عامة عن فئة من الأمثلة فتتشكل المفاهيم كالفعل والفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر ... إلخ. وهكذا فالمفاهيم النحوية أفكار تمثل «كلية الخواص الجوهرية؛ أي جوهر الأمثلة التي اهتم بها النحوي».
11
التركيب النظري للنحو تحول من الاهتمام العملي كالتعبير وتلبية الحاجات الإنسانية إلى اهتمام نظري لا يهتم بالحكم على صواب الكلام أو خطئه.
بالعودة إلى موضوعنا؛ فحين يتحدث ابن جني عن النحو بوصفه أداة يلحق بها من ليس من أهل العربية بأهلها من الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم، ويرد بها الشاذ منهم إليها؛ فهو يتحدث عن مهارات اللغة العربية التي يصعب على الفرد أن يتعلمها من محيطه المباشر، كما يشير إلى أن وصف نظام اللغة ليس كل النحو، وأن فكرة الخطأ والصواب تحتفظ بدورها من حيث هي فكرة مكملة لوصف نظام اللغة، وأن المعيار يحتفظ بمكانته في تعليم اللغة، وبدونه لن يصبح النحو قادرا على أن يكون في جانب منه علما تطبيقيا يمكن تعليمه والتدريب عليه.
الفكرة الأساس للنحو المستند إلى القياس
لا يمكننا أن نتصور علما يجمد كما هو حين نشأ؛ وقد ظهر التركيب النظري للنحو لأن علم النحو واصل تطوره. وجه هذا النحو الخالص تفكير ابن جني النحوي؛ أعني النحو الذي يصف الإمكانات المتاحة للمتكلم، وهو ما أفهمه من قوله: «أما في الحقيقة وحصول الحديث، فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم، إنما هو للمتكلم نفسه، لا شيء غيره، وإنما قالوا لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ.»
12
يقصد بقوله لفظي ومعنوي المفاهيم التي استخلصها النحاة وهم يتأملون الكلام، وهذا ما أفهمه أيضا من قوله: «وإنما قال النحويون: عامل لفظي، وعامل معنوي؛ ليروك أن بعض العمل يأتي مسببا عن لفظ يصحبه.»
13
يشير ابن جني هنا إلى المهمة الوصفية التي حفزت في الأصل مهمة النحو الخالص عند سيبويه، وقد أصبح هذا النحو الخالص وسيلة يصف بها النحاة تعدد الإمكانات المتاحة أمام المتكلم، وموجها للنحو في تصور وإنجاز مهمة المتكلم التي تكمن في أن يفهم المخاطب المعنى الذي يقصد.
كان هذا كله موجودا ومعروفا عند ابن جني من نحو سيبويه، ولم يكن ابن جني في حاجة إلى أن يعود من جديد ليعالج الكيفية التي ينجز بها المتكلم الكلام؛ لأن سيبويه كان قد استنفدها، لا يليق بابن جني الذي درس النحو، وخبره وعرفه وعرف معه المفاهيم والقضايا النحوية وتآلف معها أن يكرر ما فعله سيبويه. لقد قاد تمرس ابن جني وخبره بالنحو الخالص إلى التفكير النحوي في فكرة العلل التي نشأت لأول مرة؛ أعني قوله: «ذلك أنا لم نر أحدا من علماء البلدين (البصرة والكوفة) تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه.»
14
انطلاقا من فهم ابن جني لفكرة النحو الخالص أراد أن يعلله؛ لكي يجعله مقنعا لمن يريد أن يدرسه؛ أي إن ابن جني أراد أن يبرهن على أن التغييرات التي يجريها المتكلم على الكلام لا يجريها اعتباطا؛ إنما هي تغييرات معللة. هذه العملية احتاجت من ابن جني أن يسأل «لماذا؟» ليكتشف انتظام الكلام على العلة بالترابط بين الكلمات التي توجد مع بعضها في الجملة، وبتعبير ابن جني «بعض العمل يأتي مسببا عن لفظ يصحبه». وقد مكن هذا الأسلوب المعتمد على التعليل ابن جني من أن يضع في الكلام افتراضات واستقراءات وتنبؤات. لقد ظهرت علل النحو عند ابن جني بديلا لحجة النحوي الضعيفة، وليس بلا دلالة أن ينسب هذان البيتان إلى ابن فارس المعاصر لابن جني.
15
مرت بنا هيفاء مجدولة
تركية تنمي لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن
أضعف من حجة نحوي
يكمن الفرق بين علل النحو وحجة النحوي في الفرق بين ما ينتمي إلى العلم وما يخرج عن العلم. فاستشهاد النحوي بآية من القرآن أو ببيت من الشعر القديم لبيان مخططات العرب في تأليف كلامهم هو حجة، بينما تقتضي علل النحو القدرة المعرفية؛ أعني معرفة النحو لا معرفة النحوي. تشير حجة النحوي إلى أن النحوي يجب أن يخضع لكلام العرب، بينما تشير علل النحو إلى أن كلام العرب ينتظم وفقا لمعرفة النحو. أما الفرق الأهم فهو أن علل النحو تعني التلاؤم مع تصور ما. والتلاؤم عنصر عقلاني ذو دلالة مهمة جدا ضمن تصور ابن جني للتعليل. وهذا ما نفهمه من تمييز ابن جني بين علل الفقه وعلل النحو، وكون علل الفقه أدنى رتبة من علل النحو. ويشرح هذا مستعينا بالتاريخ الثقافي والاجتماعي فالجاهليون يحصنون فروج مفارشهم، ويجيرون الجار ويحفظونه؛ أي إن الشريعة جاءت بما هو معلوم ومعمول به عند العرب، ولو لم تصادق الشريعة على تلك الممارسات الحياتية لما أخل بحال تلك الممارسات ولاستمرت كذلك. ثم إننا لا نعرف علة عدد ركعات الصلاة، ولا ترتيب الأذان، ولا ترتيب مناسك الحج. والخلاصة هي «جميع علل النحو إذن مواطئة للطباع، وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد.»
16
لقد فتح النحو الخالص الطريق أمام علل النحو بتركيزه على أن ما في حوزة العقل الإنساني، ويسعى إلى تحقيقه هو نسق المعرفة. وإذا ما وضعنا في الاعتبار ارتباط النحو الخالص بالقياس؛ فإن النحوي بفضل هاتين الإمكانيتين (التعليل والقياس) يمكن أن يبدأ من كلام لكي يقيس عليه كلاما آخر. ومن هذا المنظور يصبح التعليل والقياس منهجين عامين لمعرفة الكلام معرفة علمية. وفي هذا الإطار أفهم قول ابن جني: «واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل، ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن، وأنه منها على أقوى بال.»
17
ما الذي يضمن دقة التعليل والقياس عند ابن جني؟ الصورة الشاملة والواحدة لكلام العرب، فلا يوجد كلامان؛ هناك كلام واحد، وبمقتضى بنية كلام العرب القبلية يتكلم العرب، وكلامهم امتداد لفكرة كلام كلي. كلام العرب الكلي له صورة كلية تشتمل على كل صور الكلام، وهو ما يمكن أن يسيطر على الكلام عن طريق التعليل بالكيفية التي حللتها.
دافع تصور فكرة نحو ابن جني
ما الذي كان ممكنا في النحو قبل قرن ابن جني (القرن الرابع الهجري) ليغذي فكرته الجديدة عن النحو، حتى ولو عند مستوى محدود؟ تأثر ابن جني بسيبويه، لكنه تأثر مصحوب بمقاصد نقدية كما أفهمه من الأبواب التي عقدها في بداية كتاب الخصائص. يتعلق الأمر بالفصل بين الكلام وبين القول، وبالقول في النحو، وبالقول في الإعراب والبناء، وبأصل اللغة، وهي أبواب ذات صلة قليلة مع كتاب سيبوبه الذي لم يعرف اللغة ولم يتوقف عند أصلها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ثمة تأثير ابن السراج الذي سبق أن أثار فكرة أصول النحو وعلله، وهي فكرة عرفها ابن جني في قوله: «فأما كتاب أصول أبي بكر فلم يلملم فيه بما نحن عليه إلا حرفا أو حرفين في أوله، وقد تعلق عليه به. وسنقول في معناه.»
18
الكلمة الأهم في عبارة ابن جني هي (يلملم) فاللملمة في المعجم العربي تشير إلى الإحكام
19
الذي يعبر عنه العرب أحيانا بالاستدارة، كقول العرب لملم الحجر؛ أي جعله مستديرا، وإلى التنسيق كقولهم شعر ململم؛ أي مدهون ومنسق، وإلى التماسك كقولهم رجل ململم. ومن منظور هذه المعاني يمكنني أن أفهم عبارة «لم يلملم فيه» أن أثر ابن السراج في ابن جني ليس حاسما؛ لأنه لم يبن نظرية متماسكة.
يختلف الأمر مع مقاييس الأخفش الأوسط؛ لأن طابع أصول النحو عند الأخفش ارتبط بالقياس. وقد احتفى ابن جني بمعرفة الأخفش احتفاء قل نظيره إلى حد أن جعل كتابه الخصائص نيابة عن كتيب الأخفش، وجهده بديلا عن جهد الأخفش؛ احتراما ومكافأة له على الطريق الذي فتحه للمعرفة النحوية. يقول ابن جني: «على أن أبا الحسن كان قد صنف في شيء من القياس كتيبا، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أننا نبنا عنه فيه، وكفيناه كلفة التعب به، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا، المفيضة بماء البشر والبشاشة علينا.»
20
ما الذي حفز ابن جني على أن يقتنع بمقاييس الأخفش؟ جرأة الأخفش في القياس التي يفصح عنها في الباب الذي عقده للقياس على ما يقل، ورفض ما هو أكثر من ذلك. في هذا الباب وجدت جرأة الأخفش في قياس ذلك قبولا وإعجابا من ابن جني إلى حد أنه قال عن الأخفش: «وما ألطف هذا القول من أبي الحسن!»
21
هذا التعجب ورد سياق تحليل ابن جني فكرة أن يقل الشيء وهو قياس، ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس.
لكي يصل ابن جني إلى فكرة قياس شامل لكلام العرب فضل أن يبحث في كلام مستعمل بكثرة وفي الوقت ذاته قياسه قوي؛ أعني ما يتحدث عنه في قوله: «وإذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس؛ فذلك ما لا غاية وراءه.»
22
يعرف ابن جني أن تعارضا قد يحدث بين السماع وبين القياس، وقد عقد بابا لذلك.
23
وقدم اقتراحات مفيدة لحل التعارض لصالح الاستعمال.
24
فإذا شذ الشيء في الاستعمال، وقوي في القياس؛ فإن استعمال ما كثر أولى، وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله. وإذا أدى القياس بالمتكلم إلى شيء ما، ثم سمع العرب تنطق بشيء آخر على قياس غيره، فيجب أن يدع المتكلم ما كان عليه إلى ما هم عليه. أما إذا سمع المتكلم من عرب آخرين مثلما أجازه في القياس فهو مخير يستعمل أيهما شاء. قد يبدو هذا تنازلا من ابن جني، وثغرة في شمول القياس من حيث هو أداة شاملة، لكن لو تذكرنا أن النحو الخالص معرفة علمية بتعدد الإمكانات، ولا نهائية الاختيارات عند المتكلم؛ فإن تنازل ابن جني دعم لفكرة النحو الخالص. وهو ما أفهمه من خلاصة ابن جني التي أنهى بها الباب الذي عقده في تخصيص العلل.
25
يخلص ابن جني إلى أن عناية العرب بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها، ويسمي العلامات كالنصب والجر والرفع والجزم حلية الألفاظ وزينتها؛ إذ لم يقصد بها إلا تحصين المعنى والإحاطة به. وأن المعنى هو المكرم والمخدوم، وأن اللفظ هو المبتذل الخادم. وعلى أي حال فالأهم عند ابن جني أن يجد أداة تحسن باستمرار حتى يتجاوز نحو سيبويه؛ لا ليلغيه، إنما ليؤكده ويقنع به؛ فنحو سيبويه الخالص معرفة تهدف إلى وصف عناية العرب بمعانيها الأقوى من عنايتها بألفاظها، وهذا ما أفهمه من قول ابن جني: «إنه معنى عند العرب مكين في أنفسها، متقدم في إيجابه التأثير الظاهر عندها، وهو ما أوردناه وشرطناه من كون الحركة غير لازمة ، وكون الكلمة في معنى لا بد من صحة حرف لينة، ومن تخوفهم التباسه بغيره؛ فإن العرب - فيما أخذناه عنها وعرفناه من تصرف مذاهبها - عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها.»
26
لا يحول السياق الجزئي الذي وردت فيه عبارة ابن جني هذه؛ أعني سياق تقمصه دور المعارض في قوله: «فإن قلت ... كأنك إنما جئت إلى هذه الشواذ التي تضطرك إلى القول بتخصيص العلل، فحشوت بها حديث علتك لا غير.»
27
لا يحول دون بلوغ السياق العام لطرح ابن جني؛ لذلك فهو يسارع إلى القول: «أو لتعلم عاجلا إلى أن تصير إلى ذلك الباب آجلا أن سبب إصلاحها (العرب) ألفاظها، وطردها إياها على المثل والأحذية التي قننتها لها وقصرتها عليها، إنما هو لتحصين المعنى وتشريفه والإبانة عنه وتصويره؛ ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ونصب المفعول، إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول، وهذا الفرق معنوي، أصلح اللفظ له، وقيد مقاده الأوفق من أجله.»
28
لا يجب أن نغفل عن كلمتين موفقتين هما «معنوي» و«الأحذية». حيث تشير كلمة «معنوي» إلى المعنى بالنسبة إليه، وتشير «الأحذية» إلى القالب؛ مما يعني أنه استوعب ترابط كلام العرب، وترابطه وفق المعنى والقالب. إن القياس الذي يشير إليه معنى «الأحذية» يعني أن يمسك ابن جني كلام العرب في شبكة واسعة من الأقيسة. هنا نسأل: هل يمكن أن يكون هذا نحوا جديدا؟ هل يمكن أن يكون هذا معرفة علمية بكلام العرب؟ يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن ابن جني متحمس لتطوير فكرة القياس ليبرهن على النحو الخالص من داخله، وبما ينتمي إليه؛ أي العقل. وهو حماس يقرب النحو الخالص من الكمال. ترتب على ذلك أن القياس ليس علما جديدا؛ إنما هو أداة لتحسين النحو الخالص، أداة فنية إن صح هذا التعبير.
ما زال في السياق الذي أتحدث فيه مسألة معلقة؛ ذلك أن إنجاز القياس الحاسم هو أنه وفر إمكانية القيام بتنبؤات محددة؛ أي أن يركب نظريا كلام قد لا يستخدم في الحياة اليومية. وهنا تنشأ مشكلة؛ حيث يتحول النحو من الدراسة العلمية للكلام كما يستعمل في الحياة اليومية إلى مجرد تركيب نظري للكلام غير المستخدم في الحياة اليومية. انطلاقا من هذا الفهم يحتاج مفهوم القياس إلى توضيح دقيق، وذلك بالنظر إلى كونه تحول إلى أداة تستخدم بكيفية محكمة ودقيقة من دون أن تستحضر الإنجاز المؤسس لها إلا في سياق ما فات عليه؛ أعني ما فات النحو الخالص عند سيبويه الذي يصف الكلام كما يستعمل في الحياة اليومية في إنتاجه المعنى. وفي هذا الإطار يمكن أن أفهم الباب الذي عقده ابن جني لفوائت كتاب سيبويه،
29
حيث وسع فيه القياس توسيعا غير معروف بالنسبة لنحو سيبويه. لقد أصبح القياس في هذا الباب حرا ومستقلا عن الكلام في الحياة اليومية، ويهتم بالغريب والطريف.
تفريغ النحو الخالص من معناه
تحول القياس إلى فن في الباب الذي خصصه ابن جني للأمثلة التي فاتت كتاب سيبويه؛ أعني أنه تحول إلى مجرد أداة فنية ابتعدت عن التفكير الذي يمنح القياس معناه. يفهم ابن جني السبب الذي جعل تلك الفوائت تفوت سيبويه، بل إنه ينص عليها؛ فما فات سيبويه يعيده إلى عدة أسباب «منها ما ليس فصيحا عنده، ومنها ما لم يسمع إلا في الشعر، والشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيرا ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته، وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها.»
30
دفع حماس ابن جني للقياس إلى أن يهتم لا بطبيعة النحو الخالص، إنما بما يسمح به القياس. وإحدى الحكايات التي أوردها توضح ما أريد قوله. يقول: «وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية، ويتباعد عن الضعفة الحضرية، إلى أن أنشدني يوما شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيه: أشئؤها، وأدأؤها (بوزن أشععها وأدععها) فجمع بين الهمزتين كما ترى، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه. نعم، وأبدل إلى الهمز حرفا لا حظ في الهمز له، بضد ما يجب؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبا ساذجا عن غير صنعة ما لا حظ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعا؟! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد بمثله سماع.»
31
لقد كان بإمكان ابن جني أن يعتبر ما سمعه من الرجل كلاما ممكنا في الشعر كما هو ممكن في الحياة اليومية حتى لو لم يرد على القياس؛ لا سيما أن ابن جني وثق في فصاحة الرجل؛ حيث يقول عنه: «من أمثل من رأيناه ممن جاءنا مجيئه، وتحلى عندنا حليته.»
32
هناك حكاية أخرى لهذا الرجل مع ابن جني. يقول: «وأنشدني أيضا شعرا لنفسه يقول فيه: كأن فاي ... فقوي في نفسي بذلك بعده عن الفصاحة، وضعفه عن القياس الذي ركبه ... ولكن هذا الإنسان حمل بضعف قياسه قوله (كأن فاي) على قوله: كأن فاه، وكأن فاك، وأنسي توجيه ياء المتكلم: من كسر قبلها وجعله ياء.»
33
لماذا لم يأخذ ابن جني ما قاله الرجل في إطار الشعر الذي يقول عنه هو نفسه «يحرف فيه الكلم عن أبنيته، وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها»؟
34
يبدو لي أن ذلك بسبب القياس الذي تحمس له. وهكذا يشبه ابن جني الحرفي الذي توجهه المعرفة العملية؛ كتلك التي توجه النجار من حيث إلفته ودرايته بموضوعه، مما يجعله ماهرا في إنتاج ما يريد أن ينتجه؛ أي إن ابن جني حول القياس إلى معرفة عملية، وقد سطحه بهذا التحويل، فهو يقيس من غير أن يستحضر المعنى الأصلي للنحو الخالص. فلو أن سيبويه على سبيل المثال سمع من الرجل (أشئؤها، وأدأؤها) وهو يثق بفصاحته لما تردد في قبولهما والتفكير فيهما تفكيرا علميا، من جهة إيصالهما المعنى كما هي وظيفة النحو. لكن ماذا لو أن ابن جني يحكي؛ أي يفترض سياقا نسب فيه الكلام إلى رجل من دون أن يكون هناك رجل ليتحدث عن مسألة يريد أن يتحدث عنها؟ سيكون قد ركب كلاما لا يستعمل في الحياة اليومية. ما يجعلني أميل إلى هذا هو أن ابن جني وريث نحو ونحويين؛ فالنحاة والنحو المعطى له مسبقا لا يركب الكلام من دون أن يكون مستعملا، وإذا ما حدث، فينبه إليه كما فعل سيبويه في قوله: «هذا تمثيل ولم يتكلم به»؛
35
أي إن الكلام في الحياة العامة يسبق النحو، وهو الأساس الذي يعطي النحو معنى من حيث هو علم.
كلام الحياة المنسي
تكلم الإنسان قبل أن يكون هناك نحوي ونحو. لا يدري النحوي كيف تكلم الإنسان، وليس من مهمته ولا من مهمة النحو الخالص أن يعرفا؛ ذلك أن مهمة النحوي هي أن يتمعن في تركيب الكلام. ترتب على هذا أفكار في غاية الأهمية بالنسبة للنحو الخالص، فللكلام غاية وقصد، وغاية الكلام تنعكس في تركيبه، وتركيبه يناسب وظيفته، والكلام لا يعمل على العكس مما تقتضيه طبيعة تركيبه؛ لذلك فالحاجة قائمة لمعرفة تركيب الكلام. هناك توافق مفترض بين وظيفة الكلام وبين تركيبه؛ مما يقتضي العقلانية التي نشأ وفقها النحو الخالص عند سيبويه. مهمة هذا النحو المعرفية هي أن يعرف معرفة علمية ما يستعمله المتكلمون في حياتهم اليومية؛ لذلك لا يكل ولا يمل سيبويه من تنويع العبارات التي تشير إلى المتكلم في الحياة الواقعية إلى حد يمكن فيه أن نستل من الكتاب معجما تحيل كلماته إلى إرادة المتكلم ومشيئته، وظنه وإضماره، وإعماله وخياره، واقتصاده في الكلام، واستفادته من الموقف الحياتي.
تحضر الحياة خلف نحو سيبويه؛ أعني الناس الواقعيين الذين يتكلمون ويشكلون خلفية الكتاب، وقد انتبه ابن جني إلى هؤلاء وعددهم في سياق ثنائه على سيبويه وكتابه. يقول: «أحاط بأقاصي هذه اللغات المنتشرة ... كلام الصرحاء والهجناء، والعبيد والإماء ... حتى لغات الرعاة الأجلاف، والرواعي ذات صرير الأخلاف، وعقلائهم والمدخولين، وهذاتهم والموسوسين، في جدهم وهزلهم، وحربهم وسلمهم، وتغاير الأحوال عليهم.»
36
ثم جاء ابن جني ليواجه مهمات علمية جديدة، وكتابه الخصائص شهادة على الطريقة التي أدار بها ابن جني هذه المهمات العلمية الجديدة، وبوسع المرء الذي قرأ كتاب الخصائص أن يتوصل إلى فكرة عن تأثر ابن جني بالكتاب لسيبويه. لكن في الوقت ذاته بوسع المرء أيضا أن يتوصل إلى فكرة أخرى هي أن ابن جني لم يكن متماهيا مع سيبويه؛ ذلك أن ابن جني يهدف أساسا إلى تطوير برنامج علمي للنحو خاص به. وتكمن القيمة الأولية لتأملاته في كتاب سيبويه في إزالة الغشاء الذي غطى به النحويون نحو سيبويه حين اعتبروه كتابا في المعيار النحوي؛ ليبدو النحو الخالص عند سيبويه يتحدث بلغة العلم في تلك المرحلة التاريخية من تطور العلوم العربية.
تحدثت الأبواب الأولى من كتاب الخصائص عما لم تتحدث عنه الأبواب الأولى من كتاب سيبويه؛ كالفصل بين القول والكلام، وتعريف النحو، والإعراب والبناء. يعرض سيبويه من خلال الأمثلة كقوله: «فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومكث وحمد.»
37
بينما يعرض ابن جني المفاهيم من خلال عدد من الصفات المرتبطة بقاعدة ما كالإعراب والبناء. يكمن الاختلاف بين المفاهيم شبه الطبيعية عند سيبويه وبين المفاهيم الجيدة التحديد عند ابن جني في الفرق بين المفاهيم الأولية التي ترتبط بغموض الكلام في الحياة اليومية، وما يترتب على الغموض من أن المتكلم لا يستطيع أن يحدد بيقين فئة المفهوم الصحيحة فيذكر لها أمثلة كما فعل سيبويه، وبين المفاهيم التي تحدد بالاستناد إلى مجموعة من السمات كما فعل ابن جني.
يمكن أن أفهم هذا التحول في إطار المهمات التعليمية الجديدة التي تسهل فهم النحو؛ ذلك أن إنسانا ما سيسهل تعلمه النحو فيما لو أنه يعرف مسبقا الفرق بين الإعراب والبناء، ووظائف علامات الإعراب وهو ما يفهم من قول ابن جني: «ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه، وشكر سعيدا أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل والمفعول.»
38
وهكذا فكتاب الخصائص فوق أنه شرح للكلام وما يقصد منه إلا أنه أضاف العلل والقياس للتعلم.
ربما أشار الفرق بين مفهوم المجرى عند سيبويه وبين مفهوم الحركة عند ابن جني إلى الفرق بين نحو سيبويه ونحو ابن جني؛ ذلك أن «سيبويه يفرق بين المجرى والحركة، فالمجرى علامة في آخر الكلمة تكون بالحركة وغيرها، فهو مرتبط بالتركيب المكون في نظر سيبويه من عوامل ومعمولات، على عكس الحركة، فهي غير مرتبطة بالتركيب، وإنما لها علاقة بالحرف فقط.»
39
ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم تحليل ابن جني الأصول الثلاثة (الثلاثي، والرباعي، والخماسي) وكون الثلاثي أعدلها، والعلل التي نسبها إلى الحركات في كونه كذلك.
40
إن ما لا يخطر على بال أحد في ضوء مهمات ابن جني العلمية والتعليمية هو أن يلجأ إلى علل غير علمية لكي يتخلص من مأزق بعض المعترضين المفترضين. يقول: «فإن قلت (فما تنكر) أن يكون ذلك شيئا طبعوا عليه، وأجيبوا إليه، من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه؛ بل لأن آخرا منهم حذا على ما نهج الأول فقال به، وقام الأول للثاني في كونه إماما له في مقام من هدي الأول إليه، وبعثه عليه، ملكا كان أو خاطرا؟ قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرا روسلوا به، أو تيقظا نبهوا إليه على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيا أو ما يجري مجراه فهو أنبه له، وأذهب في شرف الحال به، وانطواء على صحة الوضع فيه.»
41
ليس هذا تعليلا علميا؛ إنما هو ظن ورأي رجل حكيم، وحتى لو كان الرأي هنا صادقا فلا أحد يسميه معرفة علمية، ذلك أن المعرفة يجب أن تستند وتتأسس على العقل وليس على الاعتقاد والإيمان. يمكن أن نسمع الرأي الصادق من خطيب مفوه ومتمكن في البلاغة، أو من متنبئ، أو من حكيم، أو من متصوف، وليس من باحث علمي؛ لأن المعرفة العلمية لا تصدر إلا عن العقل. قد يكون الرأي الصادق أحكم وربما أفضل إلا أنه فهم لا ينتمي إلى العلم.
ومع ذلك يمكن أن أتفهم رأي ابن جني في ضوء دهشته من كلام العرب التي عبر عنها في الباب الذي عقده عن أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح؟ وكيف أن فكره «يتغول» وهو يفكر في حال كلام العرب؛ رقته ودقته وإرهافه وإحكامه حتى قوي في نفسه «اعتقاد كونها توفيقا من الله سبحانه وأنها وحي. ثم أقول في ضد هذا لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانا، فأقف بين الخلتين حسيرا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها قلنا به.»
42
نعثر هنا على شهادة مؤثرة على الكيفية التي أدار بها ابن جني مهماته العلمية. تمتمة معذبة تصارع من أجل أن تفهم. لماذا هذا؟ الأعراف والتصورات والمفاهيم التي حددها التراث الديني؛ أعني قوله: «وارد الأخبار المأثورة بأنها (اللغة) من عند الله عز وجل»
43
التي تهدد تفكيره. وقد بقي موقف ابن جني متأرجحا بين هذا وذاك؛ أي بين الإلهام (التوقيف) والاصطلاح، وهو تأرجح يشير إلى التحدي المستمر للمهمة العلمية التي كرس اهتمامه لها، وفتنته العظيمة باللغة العربية.
لم تكن لتخفى على ابن جني الجهود التي بذلها سيبويه وغيره في بيان جمال اللغة العربية ودقة تراكيبها من منظور غير ديني. يقول: «من ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنها ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه.»
44
غير أن ابن جني يشك في إخفاق هؤلاء حينما تقارن آراؤهم بقوة الأخبار الدينية. من المؤكد أن ابن جني أدرك أن سيبويه أستاذ في صوغ المفاهيم أو استعاراتها، وهو السبب في إحالته الدائمة إليه رغم تعاطفه مع الأخبار والمرويات الدينية التي تحفز دوافعه الداخلية. وهو ما يجعلني أذهب إلى أن ابن جني رغم علميته لم يشف الشفاء الكامل من أثر الاعتقاد والإيمان في البحث العلمي؛ ذلك أن المرء «عندما يتعافى من ألم أو مرض، فإن الشعور بالألم أو بالمرض يظل قائما بتمامه؛ إذ ليس من البساطة نسيانه.»
45
الفصل الخامس
النحو مدخلا لتذوق النصوص
أراد عبد القاهر الجرجاني من نظريته في النظم أن تؤدي إلى انهيار فكرة الإعجاز القرآني عند المعتزلة؛ فكتابه دلائل الإعجاز
1
يكاد يقتصر على رد وإبطال فكرتين هما: تزايد المعاني وعدم تزايد الألفاظ من ناحية، وأن الفصاحة لا تظهر والكلمات مجردة من السياق من ناحية أخرى. من هذه الزاوية ارتبط كتاب دلائل الإعجاز بمرحلته التاريخية، وبمشكلاتها الفكرية، واحتفظ بمقاصده النقدية والسجالية، وما قبله من أفكار وما رفضه. والنصوص التي استشهد بها عبد القاهر الجرجاني إما ليدحضها أو يستند إليها تعطي فكرة عن اختلافه عن نحويي عصره.
غير أن عمل عبد القاهر الجرجاني الأكبر لم يكن هذا، إنما يوجد في كتابه على نحو ضمني. وسأكتفي هنا بإجمال ما سأفصله فيما بعد؛ فعبد القاهر الجرجاني عرض في كتابه برنامجا لقراءة الكلام الجميل والكلام المعجز، وهو ما عسه - مجرد عس - مصطفى ناصف حينما أشار إلى أن عبد القاهر الجرجاني أراد أن يحرض الباحثين على أن يعيدوا قراءة الشعر العربي في ضوء فكرة تنظيم الكلمات؛ وإذ ذاك يجدون أن الشعر «البسيط» سيكون مثقلا بالمزايا.
2
توجد هذه الفكرة الكبرى بشكل ضمني، لكنها ليست فكرة مكتملة؛ فلم يكن من الممكن تأسيس هذه الفكرة وإظهارها مكتملة في كتاب مرتبك كدلائل الإعجاز، وهو ما لاحظه محقق الكتاب بحق، وأشار إلى فكرة تهم موضوعي هنا؛ وهي أن عبد القاهر لم يبن كتابه هذا بناء يؤسس علما جديدا مثلما فعل سيبويه في الكتاب، وابن جني في الخصائص اللذين شكلا مضمون الفصلين السابقين من هذه التأملات الاستقصائية لتطور مفهوم النحو العربي من جهة تطور مفهومه. لقد أراد الجرجاني أن يكون النحو علما شاملا لوصف الكلام وتأويله وتذوقه، وأراد من كتابه دلائل الإعجاز أن يكون دليلا للإعجاز يستند إلى النحو أداة لتذوق الكلام الجميل والمعجز.
مشكلة العلوم التي ساهمت في معنى أسئلة الجرجاني
نقد عبد القاهر الجرجاني علمي البيان وعلم النحو في عصره، واستند في نقده إلى أن هذين العلمين تحولا إلى مشكلة؛ لأنهما لم يعودا علمين ينتميان إلى العقل؛ فعلم البيان من حيث كونه علما يقوم على المفاهيم البلاغية لم يعد من وجهة نظر الجرجاني سوى خبر واستخبار، وأمر ونهي.
3
هذا من ناحية العلم، أما من ناحية عالم البيان فلم يعد سوى مجموعة صفات كأن يكون جهير الصوت، جاري اللسان. أما من حيث الأسلوب والطريقة، فلم يعد علم البيان سوى استعمال اللفظ الغريب، والكلمة الوحشية. والمأخذ الذي يأخذه عبد القاهر الجرجاني على علم البيان، ويأخذه على العالم الذي يشتغل على البيان هو أن علم البيان والعالم به أصبحا جهلا؛ «لأن هناك دقائق وأسرارا طريق العلم بها الروية والفكر، ولطائف مستقاها من العقل.»
4
يفترض نقد الجرجاني علم البيان وعلماءه وأسلوبه عالما يوجد فيه الناس بكيفية واعية؛ فهناك إنجازات علمية سابقة من المفترض أن تندمج في أفق الزمان ومرحلته الزمنية، وأن تستعاد وتنقل من جديد. كان على جيل علماء البيان آنذاك أن يفهموا ويستوعبوا إنجازات علم البيان السابقة، لكنهم نسوا تلك الانجازات أو صرفوها عن جهتها. وفي النتيجة وبالتعالق مع ذلك الزمان الذي هجاه الجرجاني هجاء مرا من جهة إحالته الأمور عن جهاتها، وتحويل الأشياء عن حالاتها «صار أعجز الناس رأيا عند الجميع، من كانت له همة في أن يستفيد علما أو يزداد فهما».
5
وقد جاء الوقت ليعيد عبد القاهر الجرجاني إلى علم البيان مشروعيته. وفي هذا الإطار أفهم فاتحة دلائل الإعجاز التي خصصها لمكانة العلم.
المجال القابل للكشف كمجال من مجالات النحو
ما تعرض له علم البيان تعرض له علم النحو؛ حتى إن الناس بما فيهم علماء النحو أنفسهم تهاونوا به، وصغروا أمره، وقد اعتبر الجرجاني هذا صدا عن كتاب الله، وعن معرفة معانيه. تكمن قيمة النحو عند الجرجاني في أنه يفتح المعاني، ويعرف به جميل الكلام من قبحه، ويرجع إليه في معرفة تركيب الكلام الجميل والكلام المعجز، وما لم يعلم هذا فهو نقص في علم النحو، وغبن لعلمائه؛ ذلك أن النحو ليس معرفة زائدة ومتكلفة، أو اشتغالا بالفكر فيما لا يفيد.
6
لكن ماذا لو كان النحو كذلك؟ يعترف عبد القاهر الجرجاني بأن ذلك قد يكون، لا سيما في التمرينات التي يضعها النحويون في بعض مسائل النحو والصرف كالتصريف، والتدريب على القياس، وذكر العلل في أبواب النحو. ومن هذه الجهة قد يعذر العلماء في قولهم إن النحو معرفة متكلفة، واشتغال في الفكر بما لا يفيد، لكن النحو أكثر من ذلك، وقد حرموا من أن يفهموه. غير أن ما لا يعذر فيه علماء النحو، وما لا يرضاه العقل عند عبد القاهر الجرجاني هو ألا يحتاج الكلام الجميل كالشعر والكلام المعجز كالقرآن النحو مفتاحا لفهمهما وتحليلهما وتذوقهما.
إن ما أغاظ الجرجاني وهو العالم في النحو أن علماء النحو في زمانه الرديء، كما وصفه، يكثرون من غير أن يحصلوا. وفي إشارة إلى الأهمية الكبرى لإنجازات النحو السابقة التي يجهلها علماء النحو في عصره يقول: «يحسن (عالم النحو) البناء على غير أساس، وأن يقول الشيء لم يقتله علما.»
7
ويمكن أن أشرح تعبيره (يحسن البناء على غير أساس) بصقل النموذج العلمي النحوي، وتشذيبه، وأن أوضح تعبيره الآخر (القتل) بتجاوز النموذج العلمي النحوي؛ ذلك أن القتل مجاز للتجاوز كما لو قلنا قتل الجرجاني سيبويه دراسة وبحثا.
إذا ما أردت أن أوصل هذه التمعنات التي تتعلق بإنجازات علم النحو قبل الجرجاني، فإن الكلام المعجز كالقرآن والكلام الجميل كالشعر لم يسبق أن كانا مجالا لتحليل النحو. والنحاة السابقون الذين يلجئون إلى القرآن، أو إلى الشعر العربي القديم، إنما كانوا يلجئون إليهما ليستشهدوا بهما على أصالة التركيب العربي؛ فحينما يورد سيبويه في الكتاب، أو ابن جني في الخصائص آية قرآنية أو بيتا من الشعر، فإنهما يوردانهما من حيث هما شاهدان على مخطط العرب في كلامها، وليس من جهة جمال الشعر العربي، أو إعجاز القرآن.
لماذا بقي مجال الكلام الجميل والمعجز خفيا على النحو في إنجازاته السابقة؟ لماذا لم يثر إحساس النحويين بجمال الشعر العربي، وإحساسهم بإعجاز القرآن اهتماما نظريا يكون مدخله النحو؟ يتعلق الأمر هنا بوظيفة أيديولوجية؛ فلو اقتصرت هنا على قراءة القرآن بما أنها قراءة تكاد تكون من نشاطات عالم النحو المسلم اليومية، سيكون مفهوما أن علما بالنحو يعني فقط ضبط أواخر كلمات القرآن لكي يفهم المعنى؛ أي إن قراءة النحوي اليومية للقرآن لا تعطي أي فكرة عن عمق القرآن؛ لأنها قراءة إيمان لا تتيح مجالا إلا للأيديولوجيا. تعطي قراءة النحوي القرآن بعين الإيمان بعدا يهتم بالصحة والخطأ، ولا تعطيه بعدا يتعلق بتشكيل نظري لفكرة إعجازه.
لماذا هذا الوقت المتأخر لكي ينتبه عبد القاهر الجرجاني إلى أن النحو يمكن أن يكون مدخلا لفكرة إعجاز القرآن؟ يتعلق الأمر بموضوع، وبميدان معرفة ممكنة كان محجوبا. لقد عبر الجرجاني بفكرة النحو المتعلقة بكلام البشر، إلى فكرة نحو تتعلق بكلام ما فوق البشر. من الإنسان المتكلم إلى الله المتكلم والعبور هنا عقلي؛ فالنحو مدخلا لفهم كلام الله تعليل لجهل البشر وقصورهم، وإبطال لفكرة القائلين بالصرفة؛ فالله لم يمنع الناس من أن يأتوا بمثل كلامه، بل هو عجز البشر أمام مزايا كلام الله وخصائصه. عجز العرب عن محاكاة القرآن نتج عن الدهشة التي أخرست ألسنتهم، وهو ما أفهمه من كلام الجرجاني الآتي: «وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاما واتساقا، وإتقانا وإحكاما، لم يدع في نفس بليغ منهم، ولو حك بيافوخه السماء، موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول.»
8
مثلما تولد عن دهشة اليونان تركيب نظري دعي فيما بعد بالفلسفة، تولد عن دهشة العرب من القرآن تركيب نظري هو نحو عبد القاهر الجرجاني. يتضح معنى الدهشة فيما لو اعتبرناها المصدر العقلي لنظرية النظم؛ فالجرجاني أورد دهشة العرب وأقوالهم وعلق عليها في مناسبتين على الأقل. صحيح أن الجرجاني لم يحدد ما يعنيه بالانبهار والهيبة والروعة، إلا أننا يمكن أن نفهم الدهشة على أنها ردة أفعال العرب تجاه الخارج عن المألوف، وإلى هذه الدهشة تنتمي ردة فعل الوليد بن المغيرة التي أوردها الجرجاني ردود فعل أخرى ذكرها، ونسبها إلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والجاحظ؛ حيث ردود الأفعال تجاه الجليل والعظيم والجميل.
التعبير الذي يستخدمه الجرجاني للدهشة هو الإزعاج في قوله: «والروعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم.»
9
بالفعل كما هو الانزعاج الدهشة انفعال غير مستحب، ومزعج، وتعب للمخيلة، وحيرة، وقلق، وحب اطلاع، واضطراب عنيف، ومرض قاس للنفس.
10
لكن الأهم في هذا الذي يبدو موقفا سلبيا من الدهشة هو إيجابي في دلالته على أن التأمل ينشأ بسبب من الدهشة، وأن التأمل في الجميل والعظيم والجميل والرائع يحدث بدافع داخلي تعبر عن حاجة أصلية وأصيلة للفكر البشري، وأن الحاجة إلى المعرفة حاجة إنسانية أساسية، وأن الإنسان يريد أن يفهم بحافز ذهني محض كما فعل الجرجاني حين جعل من النحو كاشفا عن الكلام الجميل والمعجز.
الفرق بين الكلام بعامة والكلام الجميل والكلام المعجز
أعني بالكلام بعامة الكلام الذي يصفه النحو كما هو عند سيبويه، وهو معروف أكثر من الكلام الجميل. أعني بالكلام الجميل الحديث النبوي والشعر العربي في نماذجه العليا، وهذا بدوره معروف أكثر من الكلام المعجز. أعني بالكلام المعجز القرآن، وسوف أستخدم هذه المفاهيم فيما سيلي.
يعرف الكلام بعامة في نمطيته المألوفة في الحياة اليومية، ويكتفى بمعرفته لفائدته العملية. وهي فائدة تكفي البشر لأن يمارسوا حياتهم اليومية. وقد تأسست على هذا الكلام معرفة النحو الوصفية. غير أن الكلام الجميل كالشعر العربي أتاح للنحو العربي مهمة علمية مختلفة؛ لكنها مهمة مرتبطة بمعرفة الكلام بعامة. وعلى حد ما أعلم لم يتساءل أحد قبل عبد القاهر الجرجاني كيف تكون معرفة النحو الوصفية للكلام بعامة قاعدة تحتية لمعرفة الكلام الجميل. سؤال عبد القاهر الجرجاني هو: كيف يمكن أن تنجز هذه المهمة العلمية التي هي من نوع مختلف عن مهمة معرفة الكلام بعامة؟ وفق عبد القاهر الجرجاني تنجز المهمة بأن تتحدد فكرة الكلام الجميل من خلال مستواه اللغوي الذي يأتي فوق المستوى اللغوي للكلام بعامة؛ حيث وظيفة الكلام بعامة هي إنجاز حاجات عملية من غير أي تأويل إلا بما يتعلق بالإنجاز العملي. في مقابل هذا لا يتوقف الكلام الجميل على الإنجاز العملي، إنما يتوقف على الإنجاز الجمالي.
يتكون الكلام بعامة من اللفظ والمعنى، بينما يتكون الكلام الجميل من اللفظ والمعنى والصورة. إن الجهل بالعنصر الثالث؛ أعني الصورة هو عند عبد القاهر الجرجاني سبب الجهل بالكلام الجميل، وقد ترتب على هذا من وجهة نظره الإعلاء من شأن اللفظ. أما العلم بالصورة فهو سبب المعرفة بالكلام الجميل، وقد ترتب على هذا إعلاء شأن اللفظ على أنه الصورة التي تحدث في المعنى، وهو ما يفهم من كلام الجرجاني التالي: «لما جهلوا شأن الصورة، وضعوا لأنفسهم أساسا، وبنوا على قاعدة فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث، وإنه إذا كان كذلك وجب ... أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وألا يكون لها مرجع إلى المعنى.»
11
يأتي الكلام المعجز فوق الكلام بعامة وفوق الكلام الجميل. لا تعني «فوق» الانفصال عنهما، إنما تعني أنه أعلى في القيمة. يستمد الكلام المعجز من الكلام بعامة والكلام الجميل ما هو ضروري لتحقيق أهدافه. تشترك هذه الأنواع الثلاثة من الكلام في التركيب، لكن تركيب الكلام بعامة يتمايز عن النوعين الآخرين تبعا للموقف التواصلي، والموقف الجمالي. قد يخرج الكلام الجميل إلى التملق والمبالغة والكذب، وإلى ما يعجب ويطرب؛ لذلك يأتي الكلام المعجز فوقه من حيث القيمة فهو لا يتملق، ولا يبالغ ولا يكذب، وهو صادق من الوجهة التاريخية. ليس هذا فحسب، إنما هو الكلام الصادق. لا يريد الكلام المعجز أن يحظى بإعجاب البشر مثلما يسعى الكلام الجميل، إنما يريد أن يخضعهم، ولا يريد أن ينسي البشر واقعهم كما يفعل الكلام الجميل، إنما يريد من البشر أن يلحقوا واقعهم به. من هذا المنظور لا يوصف الكلام المعجز بأنه فن مثلما نقول فن الشعر، إنما هو تعليمات ووعد ووعيد ... إلخ. يهدف الكلام المعجز إلى طاعة قائله المطلقة، يتجلى ذلك في الموقف الذي يمكن أن يكون فيما لو شكك البشر فيه، أو خالفوا تعليماته.
الكلام المعجز كمجال قابل لأن يفهم، والنحو كتركيب نظري لإعجازه
وعى عبد القاهر الجرجاني ما يجعل من الكلام الجميل كلاما معجزا. سأكتفي هنا بتوقفه عند كلمة (قلب) في الآية القرآنية:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ،
12
أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر إليه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه، كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له ولا بصر.
13
تكمن فائدة هذا الاستشهاد الطويل في الأسئلة التي تثيرها بعض عباراته. ما الفائدة التي ترجى من عمل القلب؟ ما المطلوب من القلب؟ ما الذي ينبغي أن ينظر فيه القلب؟ ما الذي خلق من أجله القلب؟ كيف ينتفع بالقلب؟ لا يورد عبد القاهر الجرجاني سوى إجابة واحدة هي: الإيمان؛ ذلك أن القلب يتدبر ويتفكر وينظر لكي يؤمن. والعلاقة التي يقيمها بين القلب الذي لا ينتفع به من ناحية، والسمع والبصر اللذين لا ينتفع بهما من ناحية أخرى تستحضر آيات قرآنية أخرى تربط بين عدم الإيمان وقفل القلوب وصم الآذان، وعمى العيون والقلوب. «القلب» في الآية ليس بمعنى «العقل» إلا في حالة واحدة، حين يراد بالقلب ما يسميه الجرجاني بالدلالة على الغرض بالجملة؛ عندئذ يكون القلب بمعنى العقل؛ ذلك «أن المراد به (القلب) الحث على النظر، والتقريع على تركه، وذم من يخل به ويغفل عنه، ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته.»
14
ما الطريق الذي قدمه الجرجاني؟ ما قدمه هو: «أصول النحو جملة، وكل ما يكون النظم دفعة ... (و) معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض.»
15
يمكن أن نفهم هذه العبارة على النحو التالي: النحو عند الجرجاني علم، بينما النظم ممارسة خاصة للنحو. النحو من حيث هو علم قابل للتعلم، بينما النظم من حيث هو ممارسة خاصة للنحو تعلم للنحو وتدرب عليه في آن. بإمكان أي أحد أن يتعلم النحو ويبرع في تعلمه إلى حد يطلق عليه علامة في النحو، لكنه لا يستطيع أن يستخدم ما تعلمه في النحو في تحليل الكلام الجميل والكلام المعجز؛ لأنه لم يتدرب على تشغيل النحو بما يكفي.
النحو كتركيب نظري والنظم كممارسة عملية
يجد النحو كنظرية والنظم كممارسة أساسهما في مضمون الكلام المعجز؛ انسجام البشر في حياتهم اليومية مع مضمون الكلام المعجز يحتاج إلى التأويل. بمقتضى هذا الانسجام تنشأ علاقة بين حياة البشر اليومية وبين معنى العالم الذي يريد الكلام المعجز أن يبنيه للبشر. قد ترد تعاليم الكلام المعجز غامضة أو منصهرة في القول بكيفية لا تقبل الفصل مما يقتضي الأمر التأويل والتنقيب. من هذا المنظور أفهم خلاصة الجرجاني التالية: «أن تقول «المعنى» و«معنى المعنى»، تعني بالمعنى المفهوم الظاهر من اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك إلى معنى آخر.»
16
معنى «أن تعقل» في عبارة الجرجاني «الاستنتاج العقلي»، ويتضح من تحليلاته أنه يستند إلى تصور يبدأ من الكل، ثم يستنتج نوعية العلاقات في ذلك الكل، ويسمي هذا «توخي معاني النحو». وقد قادته طريقته في التحليل إلى أن يصل إلى تصور يمكن صياغته على النحو التالي: يجب أن يحظى الكل بأهمية أكبر من الجزء، وأن يضحى بالأجزاء لتتراجع إلى مكانة ثانوية. بصياغة أخرى: أن يحظى تركيب الكلام بأهمية أكبر من الكلمات التي تكونه؛ لتكون الكلمات في مرتبة ثانوية.
لقد حلل الجرجاني الكثير من التراكيب. سأكتفي هنا بأن أدرج تحليله الآية القرآنية الكريمة
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين .
17
يقول: «فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وإن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها.»
18
تبنى الجرجاني هذه الطريقة؛ أعني توخي معاني النحو وعبر عنه بالنظم، وهي طريقة تتضمن فرضية هي: أن ترى الجزء متناسقا في الكل الذي هو عبارة عن أجزاء متناسقة ومتجانسة.
الإمكانية العلمية والوصفية للنظم كتوخ لمعاني النحو
لكي يحل الجرجاني مشاكل النظم بدأ بنقد مفهوم اللفظ كما فهم آنذاك، ونقد القائلين بتفاضل الألفاظ المفردة، وخلص إلى أن «الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، مما لا تعلق له بصريح اللفظ.»
19
سأشير هنا إلى أهمية أمر عام يورده الجرجاني بالنسبة إلى ما هو أعم منه؛ أعني تفريقه بين «الحروف المنظومة» وبين «الكلم منظومة»؛ ذلك أن نظم الحروف يعني عند الجرجاني مجرد تواليها في النطق، وليس بمقتضى دلالتها على معنى، بينما «كلم منظومة» يعني اقتفاء الألفاظ آثار المعاني وترتيبها على حسب ترتب المعاني في النفس.
لا يوجد دور للمتكلم في «نظم الحروف»؛ لأن هذا الدور أنيط قبلا بواضع اللغة، وبتعبير الجرجاني «ولا الناظم لها (المتكلم) بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تتحراه. فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد».
20
وعلى العكس من هذا، فإن المتكلم أنيط به الدور في «كلم منظومة» حيث يبني الكلام بمقتضى العقل، وهو ما يشير إليه الجرجاني بقوله: «مما يوجب اعتبار الأجزاء مع بعضها حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح.»
21
ولكي يرسخ الجرجاني دور المتكلم، يستعير مفاهيم من مجالات الفنون الجمالية العملية كالنسج والصياغة والوشي والتحبير ليرسخ دور المتكلم.
يتقصى الجرجاني عناصر اللفظ - المعنى - الصورة. يجب في المقام الأول ألا يفهم اللفظ على أنه مجرد «نطق اللسان، أو ما يسمعه المتكلم، أو من حيث هو كلمة مجردة». ويجب في المقام الثاني ألا يكون المعنى بتعبير الجرجاني غفلا وساذجا، ثم في المقام الثالث الصورة التي تحدث في المعنى ويشرحها بعبارات «لفظ متمكن غير قلق ولا ناب في موضعه» و«طبقا للمعنى لا يزيد عليه ولا ينقص» و«ألفاظه قوالب لمعانيه» أو «لفظ ليس له فضل عن معناه».
22
ترتب على عناصر الجرجاني الثلاثة (اللفظ - المعنى - الصورة) نموذج علمي لنظرية النظم. استخدم النموذج هنا بمعنى الاسم؛ أي من حيث هو يمثل الكلام وعلاقات أجزائه. وبمعنى الفعل من حيث هو يوضح ويشرح ويفسر تركيب الكلام. وبمعنى الصفة؛ أي من حيث أن هذا النموذج لا يمكن أن يبدل شيء فيه، لكي يعمل على أكمل وجه.
23
ولكي يبني الجرجاني هذا النموذج انطلق من الكلام الجميل والكلام المعجز الموجودين من قبل؛ إذ لو لم يكونا موجودين ما أمكن أن يفكر في مثل هذا النموذج الذي سعى إلى أن يكون على أكبر قدر من التماسك. هذا النموذج تقاس فاعليته بمدى قدرته على أن يستوعب الكلام الجميل والمعجز، وقدرته على أن يستمر، وأخيرا قدرته على أن يمثل ما أراد الجرجاني أن ينمذجه. قلب هذا النموذج هو مفهوم الفصاحة في كونها مرتبطة باللفظ المفرد؛ أي إن فصاحة الألفاظ وتفاضلها لم تعد من منظور هذا النموذج مرتبطة بألفة اللفظ واستعماله أو غرابته ووحشيته، أو بخفة حروفه؛ إنما الفصاحة حيث يقع اللفظ في التركيب، والنظر إلى مكانه من التركيب، وحسن ملاءمة معناه لمعاني الألفاظ المجاورة له، وبتعبير الجرجاني: «تناسق دلالة الألفاظ وتلاقي معانيها على الوجه الذي يقتضيه العقل.»
24
هنا يجب أن أنبه إلى أن هذا المعنى الخاص للفصاحة يتعارض مع المعنى التقليدي الذي عرف آنذاك؛ فالنظم من حيث هو توخي معاني النحو يخضع لتوجيه التركيب؛ أعني يخضع لبناء نظري كأن يعمد إلى اسم فيجعل فاعلا أو مفعولا، أو إلى اسمين فيجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو يتبع الاسم فيكون صفة للثاني أو تأكيد له أو بدلا منه، أو أن يؤتى لاسم بعد تمام الكلام صفة أو حالا أو تمييزا. ولا يقتصر هذا المفهوم على الأسماء، إنما أيضا على الأفعال والحروف. أركز هنا على الحروف؛ ذلك أن حرفا لا يعمل لم يكن نحو سيبويه ليتوقف عنده مثلما فعل عبد القاهر الجرجاني في الباب الذي عقده ل إنما.
وفر الانتقال من معنى الفصاحة المرتبط باللفظ إلى معنى الفصاحة المرتبط بالتركيب معارف جديدة مثلما حدث مع الحروف غير العاملة، وهي معارف ستؤدي عند تأمينها بفكرة النظم إلى إعادة صياغة جذرية لفهم الكلام الجميل والمعجز. ولغرض هذا التأمين شرع الجرجاني في تمعنات شغلت الجزء الأكبر من الكتاب. سأكتفي هنا بالإشارة إلى ما عقده للتمعن في التقديم والتأخير والحذف والخبر والفصل والوصل والعطف والحال والقصر والاختصاص.
ظهور مشكلات غير قابلة للحل وضعت النظم موضع سؤال
غير أن تمعنات الجرجاني سرعان ما تعرضت إلى مشكلات لم يكن الجرجاني نفسه ينتظرها، وهي مشكلات أرى أنها تضع مشروع الجرجاني موضع سؤال. تكمن المشكلة الأولى في إعراض النظم عن الكلام بعامة الذي ينشأ في موقف الحياة اليومية، وعن حاجة عملية يسعى البشر بواسطته إلى أن يلبوا حاجاتهم، وأن يؤمنوها. وقد ترتب على هذا أن فقد النحو مهمته الأولى؛ أعني أن يصف ويحلل الفروق الشكلية من غير أن يكون المعنى مركز ثقل التحليل؛ ذلك أن المعنى في الظروف العادية يعود إلى المتكلم الذي يميزه، والمخاطب الذي يفهمه. ما نواجهه هنا هو الفرق بين النحو الذي يقوم على أساس الكلام بعامة في تجربة الحياة اليومية، وتصنيفه واستقرائه كما هو عند سيبويه، في مقابل النحو الذي يقوم على أساس الكلام الجميل والمعجز وقراءته من أجل معناه.
تظهر مشكلة أخرى وهي أنه بمقتضى النظم الذي يتوخى معاني النحو يتساوى الكلام بعامة في خبرة الحياة اليومية مع الكلام بنوعيه الجميل والمعجز، فيتساوى التقديم والتأخير في الكلام بعامة مع التقديم والتأخير في الكلام الجميل والكلام المعجز. والمشكلة هنا تكمن في أن الجرجاني لم يشعر بالمسافة التي افترضها بين الكلام المعجز وبين نوعي الكلام الآخرين. وأكثر من هذا أنه جعل من الكلام المعجز الذي حلله أقل روعة مما كنا نعتقد. ليس الكلام الجميل أو المعجز موضع فهم فحسب مثلما أراد أن يبرهن لنا الجرجاني؛ إنما أيضا موضع حب أو كره أو احتفاء ... إلخ. وكلام البشر جميلا كان أم كلامهم اليومي أبعد مما يمكن أن يعرف به كتاب؛ ذلك أن الحوار الحقيقي تجربة الحياة اليومية يوصل إلى أفكار لم يكن أحد المتكلمين ليتعرف عليها هو نفسه فيما لو كان وحيدا، وربما لا يستطيع؛ لأن كلام البشر مدفوع بالآخر.
ومع هذا، ورغم كل المشكلات التي أفضت إليها نظرية النظم إلا أن عبد القاهر الجرجاني عرف كيف يجعل نحو سيبويه أسلوبا للتفكير في النصوص الجميلة والمعجزة. لقد عثر الجرجاني في نحو سيبويه على جوهر فكرته الخاصة عن النظم. ويمكن أن ننظر إليه على أنه مفهوم تحليلي داخل مفهوم النحو من حيث هو مفهوم وصفي. لقد كان للجرجاني الفضل في كونه دس الفكرة القائلة بأن يكون النحو مدخلا لتذوق الكلام في الفكرة القائلة بأن يكون النحو وصف الكلام.
الفصل السادس
النحو في حدود الكلام الظاهر
لقد بدا لنا إلى الآن أن السؤال عن مفهوم النحو محرج، وهو عند النحاة أكثر إحراجا من سؤال مفهوم الشعر عند النقاد العرب القدماء؛ فكما رأينا فإن معنى مفهوم النحو أكثر من أن تحدده إجابة واحدة. وقد ترتب على هذا أن مسألة مفهوم النحو وضعت وجود النحو ذاته من حيث هو علم موضع سؤال؛ فعلم النحو يجب أن يجيب عما يجب أن يفعله النحو؛ لكن النحو إلى الآن عاجز عن ذلك بسبب عجز المفهوم عن أن يحدد ما هو المتناثر بين المشاريع النحوية التي توقفنا عندها.
عجز مفهوم النحو هو مدخل ابن مضاء في كتابه «الرد على النحاة»،
1
ومحاولة فهم هذا الكتاب ضرورية ومفيدة. وكما سنرى فيما يتلو سينصب معظم اهتمامي على تصور ابن مضاء لمفهوم النحو، وسأنتقي المسائل ذات العلاقة بمفهوم النحو؛ لذلك سأكون مؤولا وليس عارضا، وسآخذ في الاعتبار فاتحة الكتاب من منظور يبرز بنية الكتاب العامة التي قادت إلى ما اعتبره ردا على النحاة. وسأفكر انطلاقا منها من غير أن أدير بالا للمظهر البدائي الذي تتخذه أفكار الكتاب.
يبدأ ابن مضاء نقاشه بالثناء على النحاة وعلى نواة مفهوم النحو الأولى؛ أعني حفظ كلام العرب من اللحن، وصيانته عن التغيير،
2
إلا أنه يتحفظ على ما هو أكثر من حفظ وصيانة اللسان؛ فمن وجهة نظره أن النحاة «التزموا ما لا يلزمهم، وتجاوزا فيها (الحجج النحوية) القدر الكافي فيما أرادوه منها، فتوعرت مسالكها، ووهنت مبانيها ، وانحطت عن رتبة الإقناع حججها.»
3
حين يقول ابن مضاء: إن النحاة ألزموا أنفسهم بما لا يلزم فهو لا ينكر جهدهم؛ إنما يثني عليه؛ فجهدهم من وجهة نظره «بلغ الغاية التي أموا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا.»
4
غير أن ما بعد هذا المطلوب هو ما بعد الغاية والمطلوب حين ألزم النحاة أنفسهم بما لا يلزمهم به علم النحو. في الواقع فإن هذا الإلزام لا يزيد عند ابن مضاء عن «الزجاج الذي صفا حتى ظن زبرجدا، والنحاس الذي عولج حتى حسب عسجدا.»
5
وأنه هو من سيبين للنحويين أن زجاجهم «لا يثبت للنار ولا يصبر عليها».
6
وبذلك فهو يظن أن عرضه سؤال ما النحو؟ لا تنقصه الوجاهة.
وحدة مجال النحو عند ابن مضاء
يمكن لابن مضاء أن يجيب عن سؤال النحو «ما النحو؟» بأن يبرز وحدة مجال النحو من حيث هو علم بالرغم من تعدد إجابات النحاة العلمية، وذلك بأن يجعل من النحو نظرية عامة تحفظ كلام العرب وتصونه من التغيير، وما عدا ذلك فيجب من وجهة نظر ابن مضاء أن يتخلص منه، ذلك أن قصده من مكتوبه كما سماه أن يحذف من النحو «ما يستغني عنه النحو».
7
غير أننا إذا ما أمعنا النظر سنجد أن وحدة مجال النحو التي حددها ابن مضاء؛ أعني حفظ كلام العرب، وصيانته من التغيير، ليست أكثر من تواطؤ بين النحاة، فبين أن يكون النحو كذلك، أو أن يكون أكثر من ذلك، يبدو لي أن ما هو أكثر من أن يكون النحو حفظا لكلام العرب، وصيانة له من التغيير هو الذي يجعل من النحو علما. لا يمكن أن يكون النحو علما تطبيقيا يحفظ كلام العرب، ويصونه من التغيير، من دون الإطار النظري الذي نقده ابن مضاء. ثم إن فكرة حفظ كلام العرب ليست أصيلة إنما مكتسبة، وقد اتضحت مع أبي الأسود الدؤلي. وهي فكرة أعقبت مرحلة أولية من اللاتحدد، ومن تكافؤ يستطيع النحوي أن يفترض مصيرا، وسيرورة تتساوى فيها إمكانات ما يمكن أن يكون النحو، ولقد اختار أبو الأسود الدؤلي أن يكون النحو على ما عرفناه عنده.
قلة خبرة ابن مضاء بأعراف العلم
هناك حالة محتملة في كتاب «الرد على النحاة» تستحق أن تخضع للتأمل والتحليل، وهي قلة خبرة ابن مضاء بأعراف العلم، وبوجه الخصوص تلك الأعراف التي تخص علم النحو، وهي بطبيعة الحال أعراف علمية عامة؛ ذلك أننا نعتقد أن عالم النحو العربي شخص يدرس اللغة العربية بدلا من أن يدرس القضايا التي تتعلق بالله والعلاقة بالإنسان. يقول: «وأما القول بأن الألفاظ يحدث بعضها بعضا؛ فباطل عقلا وشرعا، لا يقول به أحد من العقلاء ... فإن قيل: بم يرد على من يعتقد أن معاني هذه الألفاظ هي العاملة؟ قيل: الفاعل عند القائلين به إما أن ينفعل بإرادة كالحيوان، وإما أن ينفعل بالطبع كما تحرق النار ويبرد الماء، ولا فاعل إلا الله عند أهل الحق، وفعل الإنسان وسائر الحيوان فعل الله تعالى، كذلك الماء والنار وسائر ما يفعل ... وأما العوامل النحوية فلم يقل بعملها قائل، لا ألفاظها ولا معانيها؛ لأنها لا تفعل بإرادة ولا طبع.»
8
قال ابن مضاء: هذا القول في سياق دعوته إلى إلغاء نظرية العامل. وهو قول يذكر بالقارئ الذي لا يصدق أن الحيوانات تتكلم في الحكايات كحكايات كليلة ودمنة. ما ينقص هذا القارئ الذي لا يصدق هو أن يتعاون مع حكايات كليلة ودمنة لكي تكون فنا. لا يختلف ابن مضاء عن هذا القارئ؛ فهو لا يتعاون مع نظرية العامل لكي يكون النحو علما، ولأنه كذلك فهو لا ينظر إلى العامل من حيث هو «مفهوم ذهني يفسر علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة».
9
لماذا نقل ابن مضاء مفهوم العامل من مجال الذهن إلى مجال الواقع؟ يجيب نصر حامد أبو زيد بأن ابن مضاء نقل موقفا أيديولوجيا من مجال النصوص الدينية (الظاهرية) إلى مجال الدرس اللغوي.
10
قد يكون هذا صحيحا، لكن ما أميل إليه هو ضعف ابن مضاء في التعامل مع أعراف العلم. معرفة ابن مضاء بالنحو، وتبحره في الدين الذي جعل منه قاضيا، وخبرته بالعالم الذي يعيش فيه لا تكفي لجعله مدركا لآليات العلم وأعرافه؛ لا لأن ابن مضاء لا يفهم أو لا يدرك أو لقصور في لغته أو فهمه، إنما لابتعاده عن مجال العلم وهو القاضي والفقيه والدارس لعلوم الدين التي تختلف أعرافها عن أعراف العلم. وما ذكره عن مفهوم الفاعل النحوي من أن الله هو الفاعل عند أهل الحق (المعتزلة)، وهو فاعل فعل الإنسان وسائر الحيوان يشير إلى أن خبرة ابن مضاء القاضي في التعامل مع العلم قليلة، وفكرته عن الكيفية التي يكون بها العلم علما ضعيفة. لا يمكن بحال من الأحوال أن أنكر تمكن ابن مضاء من النحو، لكنه تمكن القاضي والفقيه الذي يعرف النحو لكنه لا يعيه من حيث هو علم له أعرافه العلمية المختلفة عن أعراف علم الفقه. لا بد أن يفهم جيدا تشبيه ابن مضاء بالقارئ الحقيقي؛ ذلك أن القارئ الحقيقي يفرق بين ما يجري في الحكاية وما يجري في الواقع. فلو أن حكاية أوردت أن جنيا قطع مسافة بين المغرب والمشرق في غمضة عين فلن يصدق؛ لأنه قليل خبرة بالفرق بين الفني والواقعي. وكذلك ابن مضاء فيما يظهر لي؛ فهو يخلط بين النظري والعملي؛ ويبدو غير خبير بأطر العلم النظرية؛ ذلك أن نظرية كنظرية النحو العربي هي تنظيم لما «يعتقده» النحويون يساعد على أن يفهم النظام اللغوي. وقد وضعت «يعتقده» بين مزدوجتين لكي أنبه إلى أن هذا التعبير يضعف النظرية من كونها من عمل الإنسان لكي يفهم، فالإنسان هو الذي يبني النظرية ويكونها. ومع ذلك فحتى لو كان «معتقدا» علميا فلا مجال للحرام والحلال؛ لأن في هذا خلطا بين العلم وبين الأيديولوجيا. وبالرغم مما قيل عن نقل ابن مضاء المذهب الظاهري من مجال النصوص الدينية إلى مجال الدرس اللغوي، فإنني أميل إلى أنه ليس نقلا واعيا، بقدر ما هو خبرة قاض وفقيه تدرب في علوم تنتمي إلى الدين، وانتقل إلى علم يحتاج إلى خبرة مغايرة يشير إلى ذلك قوله وهو يتحدث عن تقدير العامل المحذوف: «وأما طرد ذلك (تقدير العامل المحذوف ) في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وادعاء زيادة معان فيه من غير حجة ولا دليل إلا القول بأن كل ما ينصب إنما ينصب بناصب ... فالقول بذلك حرام.»
11
أليس كلام الله كلاما؟ أبسط الإفادات العلمية في النحو تجيب بأنه كلام؛ فالفهم المبني على فهم منظم للكلام كالنحو قابل لأن يعمم على كل أنواع الكلام بدون استثناء، وتقويم مسألة ذهنية كتقدير العامل لا تكون بالحلال والحرام؛ إنما تقوم بالترابط والتماسك من جهة. أعني هل ينطوي تقدير العامل على تناقض؟ هل تقدير العامل منتظم؟ وعلى الشمول من جهة أخرى؛ أعني هل يغطي تقدير العامل المحذوف ما يفترض أن يغطيه؟ صحيح أنه لا يوجد ضمان أن تكون فكرة العامل فكرة حقيقية، لكن من قلة الخبرة أن نفكر على أنها فكرة غير حقيقية؛ فمفهوم العامل وما يترتب عليه من حذف وتقدير وإضمار ليس إلا مفهوما يستعمله النحوي كعالم، والنحو كعلم يشرح الظواهر اللغوية.
لم أرد أن يكون تحليلي لكتاب الرد على النحاة سجاليا، لكن عرض ابن مضاء للقضايا النحوية يستدعي هذا السجال، ومنها العلة التي يعرضها على النحو التالي: «ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام زيد» لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: لم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب. ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر. ولا فرق بين ذلك وبين من عرف أن شيئا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل: لم حرم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه.» لا يمكن أن نخضع علم النحو للمفاهيم التي استخدمها ابن مضاء في هذه العبارة؛ فالصواب والحرام والنص والتواتر استخدمها ابن مضاء بمعزل عما تستعمل فيه؛ أعني العلوم الدينية. ولن ينكشف عوار هذه المفاهيم التي استخدمت في مجال غير المجال الذي تنتمي إليه إلا عندما يرفض أن «يعطى الأثقل، الذي هو الرفع، للفاعل، وأعطي الأخف، الذي هو النصب، للمفعول»؛
12
ذلك أن ابن مضاء يغفل مفهومين من المفاهيم الموجهة لعلم النحو وهما الخفة والثقل، وما بني عليهما. إن الإجابة التي يقترحها ابن مضاء لسؤال لماذا رفع الفاعل؟ (كذا نطقت به العرب) (ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر) إجابة ليست من العلم في شيء. ويمكن أن تتضح الفكرة فيما لو سأل أحد ما: لماذا ينبض القلب؟ فيقال: كذا خلقه الله. لا يمكن أن تطور إجابة ابن مضاء عن سؤال: «لماذا رفع الفاعل» النظرية النحوية؛ فأهمية التفكير العلمي النظري في كلام العرب الذي تنتمي إليه العلل الثواني والثوالث تكمن في أن النحو يحرر الكلام من تجربته في حياة العرب اليومية، ويجعله يتعالى عن تجربته اليومية الضيقة. وإذا كان ما يقترحه ابن مضاء يصح في الفتاوى، فلا يصح في النحو من حيث هو علم. لا تتيح إجابة «كذا نطقت به العرب» مجالا لقيم المعرفة لا سيما الفضول العلمي باعتباره روح العلم؛ فبدون الفضول الخلاق لا يمكن للنحو أن يكون نظاما مفتوحا يتغير ويتعدل ويتطور. ومن دون الأسئلة التي تتلو الأسئلة، التي نعبر عنها هنا بالفضول، لا يمكن للنحو أن يعيد بناء تاريخه.
تفترض إجابة ابن مضاء عن سؤال: لماذا رفع الفاعل؟ أنه يستطيع أن يقف أمام غموض أن الفاعل مرفوع من دون أي رد فعل. فكون الفاعل مرفوعا لا يقلق ابن مضاء غموض أن يكون كذلك، وهو ما دفعه إلى إجابته الظاهرة، والقامعة لأي تساؤل، ولهذا علاقة بغياب الشك الذي هو أحد أهم قيم المعرفة؛ فابن مضاء قادر على أن يكون منغلقا، وعلى أن يتحمل غياب الإجابة.
إذا ما تبعت هذا النوع من التحليل الذي يظهر عدم خبرة ابن مضاء بأعراف العلم؛ فسأتوقف عند دعوته إلى إلغاء القياس. لقد قيل عن القياس الكثير من الغث والسمين، لكن من حسن الحظ أن هناك بحثا
13
يمنح نظرة شاملة للقياس؛ أعني أصل القياس في الثقافة الإسلامية، واستمراريته في علمي الفقه والنحو. وأول شيء نلاحظه أن القياس هو حركة العقل لفهم الظاهرة، وهو أداة تنظيمية تحول «الكلام» إلى لغة، وترد التغاير والتعدد إلى النسق والنظام. إن الطريقة التي وصف بها نصر حامد أبو زيد كيفية اشتغال علم النحو لا سيما ما وصف به النحو من كونه نظاما ثانويا داخل إطار نظام موحد هو الثقافة العربية الإسلامية: وصف يفترض قبليا مفهوم القياس؛ وبناء على ذلك يتحدث أبو زيد عن الاستعداد الذي يزخر به هذا النظام.
بيد أننا يمكن أن نقر بأن القياس أداة من أدوات العلم من دون أن يكون هذا المفهوم مرتبطا بتأويل أبي زيد عن النظامين الإطار والثانوي، ولا بد من أن ندرك أن مفهوم القياس ضروري للعلوم. وحتى ما قيل عن الظهور المبكر للقياس الفقهي، فإن هذا الظهور ليس هو ما خلق الانسجام بين علمي الفقه والنحو؛ إنما افتراض العلم أن يكون العالم قد وصل إلى المرحلة التي تجعل منه عالما يفكر بأدوات العلم، ومنها القياس الذي أوصل النحو إلى أحد المفاهيم الموجهة لعلم النحو، وأعني به مفهوم المشابهة، وهو ما لم يكن حاضرا في وعي ابن مضاء لقلة خبرته بأعراف العلم.
يدعو ابن مضاء إلى إلغاء تمارين النحو غير العملية. يقول: «ومما ينبغي أن يسقط من النحو «ابن من كذا مثال كذا» فيقول قائل: «بوع» أصله بيع فيبدل من الياء واوا لانضمام ما قبلها؛ لأن النطق ثقيل.»
14
يعلق شوقي ضيف: «وهكذا يريد ابن مضاء أن يريحنا من كل ما يعدل بنا عن صيغ اللغة إلى ظنون النحاة في عبارات لا نستخدمها، وألفاظ يمتحن بها بعضها بعضا، وهي لا تجري في كلام العرب، وإنما تجري على ألسنة النحاة، كي يضيفوا إلى النحو كل ما يمكن من مشقة وتصعيب.»
15
يجانب تعليق شوقي ضيف الصواب؛ فظنون النحاة، وامتحان بعضهم بعضا هو ما يجعل من النحو علما، فعلماء النحو يختارون المسائل التي يدرسونها، وكل عالم منهم لا يعمل خارج انتمائه إلى النحاة. والحال أن هذا الانتماء إلى جماعة علمية نحوية يؤدي دورا حاسما في اشتغال العلماء؛ فامتحان علماء النحو بعضهم بعضا الذي ينتقده شوقي ضيف هو رغبة هؤلاء العلماء منتجي المعرفة النحوية في الاعتراف ببعضهم بعضا. إن القول بعدم أهمية التمارين غير العملية كونها لا تجري في كلام العرب موقف يتناسى امتلاك النحاة موقفا نظريا يتعاملون فيه مع الفكر، وليس مع ما هو موجود حقا؛ فثقافة النحو النظرية تفضي إلى وراء ما ينطقه العرب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتناسى أن هذه التمارين العملية جزء من تدريب العلماء الشباب تنمي فيهم القدرة على الملاحظة والتعليل، ولكي يسيطروا على النموذج العلمي المعتمد.
الحياد العاطفي أحد معايير العلم والعلماء؛ وهذا لم يكن ممكنا عند ابن مضاء وهو متعلق بأفكاره الشخصية؛ يدافع عن وجهة نظر خاصة كونه فقيها وكونه ظاهريا، ومن دون أن يكون مقنعا بما فيه الكفاية. ربما نجد له العذر في كونه تكون معرفيا في حقول معرفية أخرى، لكن ما نشير إليه هنا هو أن ابن مضاء لم يضف شيئا إلى مفهوم النحو من حيث هو علم إن لم يكن كتابه مخيبا للآمال. وما جعله يأخذ الهالة لا سيما بين الداعين إلى تيسير النحو وتسهيله هو ما يمكن الإشارة إليه بقول ريلكة من أن الخلود يرتبط بسوء فهم شخصية ما، وأنا أعتقد أن هذا ينطبق على ابن مضاء.
المصادر والمراجع
ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، الطبعة الثانية، المجلد الأول، بيروت، دار الهدى للطباعة والنشر، د. ت.
ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون، لجنة من العلماء، دار الفكر. د. ت.
ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، د. ط، بيروت دار الثقافة، د. ت، مج2.
ابن منظور، لسان العرب، الطبعة الأولى، بيروت، دار صادر، 1955-1992م.
أبو الخير، يحيى محمد شيخ، المنهجية في العلوم الإنسانية التطبيقية فيما وراء النظرية العلمية «التأصيل الإجرائي: النماذج» في: مجلة جامعة الملك سعود، المجلد الخامس، الآداب (1) 1993م-1413ه.
أبو زيد، حامد نصر، النص، السلطة، الحقيقة، الطبعة الأولى، بيروت ، والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1995م.
أبو زيد، نصر حامد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، الطبعة السابعة، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2005م.
إريكسن، توماس هيلاند، مفترق طرق الثقافات، مقالات عن الكريولية، ترجمة: محيي الدين عبد الغني، الطبعة الأولى، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2012م.
باختين، ميخائيل، الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة: محمد البكري، ويمنى العيد، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1986م.
باشلار، غاستون، الفكر العلمي الجديد، ترجمة: عادل العوا، بيروت، الطبعة الخامسة، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2002م.
بالي، شارل، علم الأسلوب وعلم اللغة العام، في اتجاهات البحث الأسلوبي، ترجمة: شكري محمد عياد، الطبعة الأولى، الرياض، دار العلوم للطباعة والنشر، 1985م.
بونكاري، هنري، قيمة العلم، ترجمة: الميلودي شغموم، الطبعة الأولى، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2006م.
بيكر، كارل ل، المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر، ترجمة: محمد شفيق غربال، الطبعة الثانية، المركز القومي للترجمة، 2009م.
الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990م.
جب، هاملتون، أدب التراجم الإسلامي، في: لويس، برنار وهولت، ب. م. مؤرخو العرب والمسلمين حتى العصر الحديث، نقله إلى العربية وقدم له: سهيل زكار، الطبعة الأولى، دمشق، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2008م.
الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر، الطبعة الثالثة، القاهرة، مكتبة الخانجي، ومكتبة المدني، 1992م.
الجهاد، عبد الله، رسالة كتاب سيبويه، في جذور (دورية تعنى بالتراث وقضاياه) النادي الأدبي الثقافي بجدة، ج1، مج 1، ذو القعدة 1419ه، فبراير 1999م.
الجوة، محمد، معاني النحو والبلاغة في كتب الجرجاني، في جذور (دورية تعنى بالتراث وقضاياه)، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد الأول، فبراير، 1999م.
حجازي، محمود فهمي، علم اللغة العربية، مدخل تاريخي في ضوء التراث واللغات السامية، ب. ط. القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع.
حسان، تمام، اللغة العربية، معناها ومبناها، الطبعة الثالثة، القاهرة، عالم الكتب، 1998م.
دبوا، ميشال، مدخل إلى علم اجتماع العلوم، ترجمة: سعود الموسى، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008م.
روسو، جان جاك، في العقد الاجتماعي، أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة وتقديم وتعليق: عبد العزيز لبيب، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011م، ص80.
سبيلا، محمد، وبنعبد العالي، عبد السلام (اختيار وترجمة) الفلسفة الحديثة، نصوص مختارة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2001م.
ستيس، وولتر، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، الطبعة الثانية، بيروت، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2005م.
السريحي، سعيد، نحو السلطة واغتيال سيبويه، في علامات في النقد، جدة، النادي الأدبي الثقافي، ج75، مج19، 2011م.
السنجرجي، مصطفى عبد العزيز، المذاهب النحوية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، الطبعة الأولى، مكة المكرمة، الفيصلية، 1986م.
سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، كتاب سيبويه، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، المجلد الأول، بيروت، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت.
السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطه وعنون موضوعاته وعلق حواشيه: محمد أحمد جاد المولى، وعلي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، د. ط. بيروت، دار الجيل، ودار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
الشرقاوي، محمد (تأليف وترجمة) التعريب في القرن الأول الهجري، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2007م.
الطنطاوي، محمد، نشأة النحو، وتاريخ أشهر النحاة، تعليق: عبد العظيم الشناوي، ومحمد عبد الرحمن الكردي، الطبعة الثانية. د. ت.
غادامير، هانز جورج، الحقيقة والمنهج، الخطوط التأسيسية لتأويلية فلسفية، ترجمة: حسن كاظم وعلي حاكم صالح، راجعه على الألمانية: جورج كتورة. الطبعة الأولى، طرابلس، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، 2007م.
فرنان، جان بيير، بين الأسطورة والسياسة، تقديم وترجمة: جمال شحيد، الطبعة الأولى، دمشق، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1999م.
فلسفة المتكلمين، ترجمة: مصطفى لبيب عبد الغني، الطبعة الثانية، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2009م، مقدمة المجلد الأول.
فوكو، ميشيل، جينالوجيا المعرفة، ترجمة: أحمد السطاتي، وعبد السلام بنعبد العالي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2008م.
فير ستيج، كيس، أعلام الفكر اللغوي، التقليد اللغوي العربي، ترجمة: أحمد شاكر الكلابي، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2007م.
القاسمي، محمد جمال الدين، قواعد التحديث، من فنون مصطلح الحديث، د.ط، بيروت، دار الكتب العلمية، د. ت.
القرطبي، ابن مضاء، الرد على النحاة ، تحقيق: شوقي ضيف، القاهرة، دار المعارف، د. ت.
كاسيرر، أرنست، اللغة والأسطورة، ترجمة: سعيد الغانمي، أبو ظبي، كلمة، 2009م.
كانغيلام، جورج، تاريخ الأديان وتاريخ العلوم في النظرية الصنمية عند أوغست كونت، في: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها، ترجمة: محمد ساسي، الطبعة الأولى، المنظمة العربية للترجمة، 2007م.
كنط، عمانوئيل، نقد العقل المحض، ترجمة: موسى وهبة، الطبعة الأولى، بيروت، مركز الإنماء القومي. د. ت.
كون، توماس، بنية الثورات العلمية، ترجمة: شوقي جلال، الطبعة الأولى، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، العدد 168، 1992م.
ليشته، جون، خمسون مفكرا أساسيا معاصرا من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، ترجمة: فاتن البستاني، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008م.
مارتن، والاس، نظريات السرد الحديثة، ترجمة: حياة جاسم محمد، الطبعة الأولى، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 1998م.
مصطفى، إبراهيم وآخرون (إخراج)، المعجم الوسيط، الطبعة الثانية، الجزء الأول، إستانبول، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت.
مطر، عبد العزيز، لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، الطبعة الأولى، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1966م.
النديم، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحق، كتاب الفهرست، تحقيق: رضا تجدد ابن علي زين العابدين الحائري الماندراني، الطبعة الثالثة، بيروت، دار المسيرة، 1988م.
هوسرل، إدموند، أزمة العلوم الأوربية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة: إسماعيل المصدق، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009م.
هولس، ستيوارت وإجت، هوارد، وديز، جيمس، سيكولوجية التعلم، ترجمة: فؤاد أبو حطب، وآمال صادق، مراجعة عبد العزيز القوصي، الطبعة العربية الأولى، دار ماكرو هيل للنشر، 1983م.
ياسبرز، كارل، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، نقله إلى العربية وقدم له: عبد الغفار مكاوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2007م.
ياقوت، محمود سليمان، التراكيب غير الصحيحة نحويا في «الكتاب» لسيبويه، دراسة لغوية، د.ط، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية ، 1985م.
Page inconnue