Histoire moderne de l'Égypte : de la conquête islamique à nos jours, avec un aperçu de l'histoire de l'Égypte ancienne
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
Genres
وأخذ عمرو من ذلك الحين في تنظيم البلاد؛ فقسم القطر المصري إلى كور أو أعمال، يرأس كلا منها حاكم قبطي تأتيه القضايا فينظر فيها، ويصدر أحكامه إلى من هم تحت حكمه رأسا، فحصل الأهلون على راحة لم يكونوا رأوها منذ أزمان، وساد الأمن في بلادهم.
فأمر عمرو بترميم مقاييس النيل التي كانت قد تعطلت؛ منها مقياس أسوان، ومقياس أرمنت، ومقياس منف ... وغيرها، وكان من عادة المصريين قبل الفتح الإسلامي أنه إذا مضى 12 يوما من شهر بئونة يعمدون إلى جارية بكر من أبويها فيرضونهما، ويجعلون عليها من الحلي أفضلها، ثم يلقونها في النيل ضحية له، فأبطل عمرو هذه العادة، وعوض عن الجارية بتمثال من طين.
وقد ذكر بعض المؤرخين هذه الحقيقة في سياق حكاية لا بأس من ذكرها، وهي أنه اتفق للنيل في السنة التالية للفتح أنه لم يرتفع الارتفاع اللازم للري، ولما دخل شهر بئونة القبطي، قال له أهل البلاد: «أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها.» فقال لهم: وما ذلك؟ فقالوا: «إذا كان اثنتا عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل.» فقال لهم عمرو: «إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله.» فمضى بئونة وأبيب ومسرى، وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى أمير المؤمنين عما كان فأجابه: «إنك قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.»
فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة، فإذا فيها: «من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري بأمرك فلا تجر، وإذا كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك بأمره فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.» فألقى عمرو البطاقة في النيل، وقيل: إن ذلك كان قبل عيد الصليب بيوم، وقد هم أهل مصر بالخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى 16 ذراعا، فلما رأى المصريون ذلك تعجبوا، ووقع في قلوبهم الرعب، وزاد احترامهم للخليفة وأوامره، وأبطلوا تلك العادة القبيحة، واستبقوا رمزا عنها تمثالا من طين يصنعونه كل سنة عند فتح الخليج يسمونه العروسة، فيلقونه في الخليج، وما زال ذلك جاريا إلى عهد غير بعيد أثرا لما كان يرتكبه المصريون القدماء من العسف كل سنة في شأن الفيضان.
شكل 3-4: ضحية النيل.
ثم أخذ عمرو في تنظيم القضاء، وكانت أمورها إلى ذلك العهد منوطة بنواب ماليين أو جهاديين من قبل حكومة الروم يستبدون بالرعية كيف شاءوا وليس من ينصف، فأوجد لهم عمرو المحاكم النظامية، وقسمها إلى مجالس دائمة وزمنية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة ومقام رفيع عند الأهلين، ولا بد لنا من ذكر فضل هذا الفاتح بأنه أول من أوجد هذه المحاكم بمصر تحت اسم دواوين. أما أعضاؤها فينتخبون من الأهالي، والأحكام تجري بمقتضى عدل القضاة، وتستأنف عند الاقتضاء لنقضها أو إبرامها، ولم تكن أحكام القضاة المسلمين تجري إلا على المسلمين باعتبار كونهم من جيش الاحتلال ، والقضايا التي فيها أحد الخصمين قبطي كان لنواب القبط حق الدخول فيها، والعمل بمقتضى قوانينهم الدينية والأهلية.
أما أعطيات الجيش فكانت تصرف مما يجبى من أموال الخراج، وتوزع في الديوان على الأمراء والعمال والأجناد على قدر مراتبهم، وبحسب مقاديرهم، ويحمل ما يفضل إلى بيت المال، وكان يقال لذلك في صدر الإسلام: العطاء، وما زال ذلك جاريا في الدول الإسلامية إلى آخر الدولة الفاطمية، ثم صارت منذ أيام صلاح الدين تعطى إقطاعات تفرق على السلطان، وأمرائه، وأجناده.
وما فتئ عمرو يتخذ الوسائل الممكنة لاكتساب ثقة المصريين، ولم يدع فرصة تفوته في اكتسابها. قيل: إن البطريرك بنيامين كان من الطائفة اليعقوبية، وقد اضطهده هرقل ملك الروم اضطهادا عظيما لمحافظته على خطته الدينية، وهو لا يبالي بما كان يهدده من المخاوف والأخطار، فشدد هرقل عليه النكير، ومنعه من السلطة الدينية، وهدده بالقتل، ففر يطلب ملجأ في بعض الأديرة، فأقام هرقل مقامه في زمن الحصار رجلا كان بيد المجلس آلة يديرونها كيف شاءوا، وكانت مصر حينئذ منقسمة - كما تقدم - إلى قسمين دينيين ملكيين ويعقوبيين، وكان على رئاسة الطائفة الأولى - وهي الأصغر - هذا البطريرك الجديد، وعلى الطائفة الثانية بطريرك وأساقفة أقامهم هرقل باختياره، غير أن الشعب كان يعاملهم بالاحتقار، ولم يكن يعتبر الرئاسة الحقيقية إلا لبنيامين المختار قديما منهم.
فعندما بادت سلطة الروم، ورأى القبط من الإسلام ميلا ورفقا عرضوا أمرهم إلى عمرو يلتمسون استرجاع بطريركهم القديم، فاستدعاه عمرو وطيب خاطره، وأقامه في منصبه، وخلع الذين كانوا بمكانه؛ فحسب القبط هذا الأمر منة وفضلا، وازدادوا ثقة وميلا للمسلمين، ولا سيما لما رأواهم يفتحون لهم الصدور، ويبيحون لهم إقامة الكنائس والمعابد في وسط الفسطاط، بل وفي وسط جيش الإسلام على حين أنه لم يكن للإسلام معبد؛ فكانوا يصلون، ويخطبون في الخلاء.
شكل 3-5: جامع عمرو.
Page inconnue