شكل 5-1:
الملك طهراق كما هو في تمثال مبتور بمتحف الجيزة.
على أن الملك الثالث وهو طهراق (شكل
5-1 ) لم يعتبر بهذا، فإنه جلب على نفسه سخط أشرحدون (آشوراخي الدين) بسبب الدسائس التي بثها في الشام بين الولاة التابعين لآشور، فهزمه هذا الملك وأقصاه إلى أتيوبيا، واستولى على منف، ووضع القطر تحت ولاية مرزبان من الآشوريين (في سنة 672)، ثم أعاد الأتيوبيون الكرة ثلاث مرات في مدة عشر سنين (من سنة 671 إلى سنة 660)، وصدهم آشور بأنيال خليفة أشرحدون (آشوراخي الدين) فاغتنمت العائلة الصاوية فرصة انقلاب الدهر عليهم، وزوال الإقبال عنهم، فإن رؤساءها وهم: نخاو الأول، يتلوه أبسماتيك كانوا مذبذبين في موالاة الآشوريين تارة، ومصافاة الأتيوبيين تارة أخرى بحسب ما فيه الحظ والمصلحة لهم، فحافظوا على أملاكهم، بل واكتسبوا سلطة حقيقية، وصار لهم كلمة نافذة على بقية الولاة الأخاذيين، فلما صعد أبسماتيك الأول على كرسي المملكة (في سنة 666) أزال سلطان منازعيه ومناصبيه واحدا بعد واحد، مستعينا في ذلك بالمرتزقة من الجند اليونانيين، والكاريين حتى استخلص مصر من أيدي ملتزميها، واستبد بحكمها، ثم تزوج بأميرة من بيت ملوك أتيوبيا، فاستولى بذلك على إمارة طيبة، وصار له السيادة على جنوبي مصر، وفي سنة 655 اغتنم فرصة انشغال آشور بأنبال في عيلام، فأبى دفع الإتاوة للآشوريين، ونادى لنفسه بالاستقلال. (4) خراب المملكة المصرية الكبرى وذكر الصاوية وفتوح الفرس
فازت العائلة الصاوية، ولكن كان في فوزها ختام انحلال المملكة وتقويض دعائمها، فإن أبسماتيك لم يعمل على إعادة افتتاح النوبة وأتيوبيا، ومن هذا العهد بقيت مصر الكبرى التي كانت تحكمها العائلات الطيبية وتمتد من سهول سنار إلى شطوط البحر المالح، منقسمة إلى قسمين مستقلين عن بعضهما؛ ففي الجنوب كانت مملكة نباتا، ثم أعقبتها مملكة مروى، واستمرتا في بلاد النيل الأعلى على السير بمقتضى نظام الحكومة الدينية (التي على رأسها وكلاء الدين وخلفاء الآلهة) التي كانت لأكبر كهنة آمون ، ولكونهما كانتا منعزلتين عن بقية العالم كانت تأتي إليها عناصر قليلة من الحضارة مما يجاورها ويحيط بها من القبائل الأفريقية، وما لبثت أن أخذت في السقوط شيئا فشيئا في مهواة الهمجية والانحطاط، وأما في الشمال فقد رجعت مصر إلى حدودها في عهد المنفيين؛ أي إلى الشلال الأول ودخلت في الجامعة المؤلفة من أمم آسيا واليونان، وقد كان لها في ثروتها وصنائعها واقتدارها على الابتداع والابتكار وموقعها الجغرافي ما يضمن لها في تاريخ هذا العالم الجديد مقاما وشأنا ربما كانا أقل ظهورا وبهاء مما أصابته في العالم القديم، ولكنهما ليسا أقل منه في الأهمية والخطورة.
وقد كان أول أمر عني به أبسماتيك الثاني توطيد أسباب الأمن، وإعادة دواعي النظام؛ فعمل على إذلال الأمراء الكبار حتى جعلهم تابعين له مطيعين لأوامره، واجتهد بما وصلت إليه يده في تلافي الخراب الذي توالى على البلاد بسبب حروب داخلية وغارات أجنبية، استمرت مدة ثلاثة قرون، وسعى في توسيع نطاق العلاقات التجارية التي كانت بين مملكته وبين الفلسطينيين، وأوجد طريقا للمعاملات مع قبائل الهلاد (اليونانيين)، فرغب اليونان في الوفود على مصر، وأكرم مثواهم، وكان من بعض مقاصده في ذلك أن يتخذ له منهم جنودا وأعوانا يكونون أساسا لجيش قوي متين، ثم أقطعهم الأراضي في نقط كثيرة على الشطوط، فبنوا فيها محالا تجارية. واستطال حكمه من (سنة 666 إلى سنة 611ق.م) وكان السلام ضاربا أطنابه في أيامه؛ حتى إنه شاهد انحطاط وانحلال دولة الآشوريين، ولم يعمد إلى اغتنام شيء منها.
أما خلفاؤه فلم يجروا على سنته في الانحياز والانعكاف، فإن نخاو الثاني (الذي حكم من سنة 611 إلى سنة 595) شن الغارة على بلاد الشام في السنين التي أعقبها سقوط نينوي (سنة 608)، واستظهر في طريقه (في مجدو) على يوشياملك يهوذا، ثم سار حتى بلغ الفرات، وبعد ذلك بثلاث سنين (سنة 605) هزمه نابوكودوتوزور (المعروف ببخت نصر أو نبوخذ نصر) في كركميش؛ فأضاع في يوم واحد جميع البلاد التي افتتحها، واكتفى بعد ذلك بتحريض الملوك الصغار الذين كانوا حاكمين على بلاد يهوذا وموآب وعمون وفينيقية، وإغرائهم على الإيقاع بالكلدانيين. أما ولده أبسماتيك الثاني فقد مات في شرخ الشبيبة، ومقتبل العمر؛ فلم يكن له شيء من المآثر والأعمال (سنة 595 إلى سنة 589ق.م)، ولكن الفرعون وفريس (ابريس) عاود ما شرع فيه أبسماتيك الأول، نعم، إنه لم ينجح في منع سقوط أورشليم (سنة 586) ولكنه ساعد مدينة صور على الفوز في مقاومة بختنصر، وأوجد له سلطة مؤقتة على شطوط فينيقية، وقد أرسل جنودا لمقاتلة المستعمرة اليونانية المتوطنة في قورين
2 (غربي مصر) فلم يفز بالنجاح، وكان ذلك سببا في هياج المصريين عليه، ولم يكن لديه من يستعين به على قمع الثورة العامة إلا المرتزقة من اليونانيين؛ فانهزم في مومنفيس وقتل بها وقام بالأمر بعده أماسيس، ولم يكن من العائلة الملوكية.
وكان أماسيس هذا (سنة 569 إلى سنة 526) آخر الفراعنة العظيمين من الوطنيين، وبعد أن صد غارات الكلدانيين التي وقعت في مبدأ حكمه أفرغ جهده في اجتناب أية حرب هجومية، واكتفى بحفظ بلاده في حالة الدفاع، وقد اعتمد على العنصر اليوناني أكثر من أسلافه بكثير، وأقطع اليونان بالقرب من سايس (صا) أرضا جعلوا فيها مستعمرة نقراطيس، وجعل حراسه منهم، وقد عقد المحالفات وأبرم المواثيق مع الليديين والكلدانيين لكي يعوق التقدم الغريب الذي كانت مملكة الفرس آخذة فيه، وتيسر له اجتناب القتال مع كورش ملك الفرس، ومات في سنة 526 قبل الميلاد حينما كان قمبيز زاحفا على مصر؛ لمهاجمته، فوقعت الغارة على ولده أبسماتيك الثالث فانهزم في بيلوزة (مدينة الطينة)، ووقع أسيرا في منف بعد أن حكم ستة شهور (من سنة 526 إلى سنة 525 قبل الميلاد)، وصارت مصر تحت إدارة مرزبان فانحطت عن مقامها الرفيع وأصبحت بمنزلة عمالة بسيطة من عمالات الدولة الفارسية.
خلاصة ما تقدم (1)
Page inconnue