Histoire de la folie: de l'antiquité à nos jours
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
يشدد فوكو على أنه لا يريد استعراض تاريخ الطب النفسي، وإنما تاريخ الجنون نفسه «في عنفوانه، قبل أن تكبح المعرفة جماحه.» ولكن، ما هي التواريخ، أو على حد تعبيره، ما هما الحدثان اللذان سيستند إليهما في بحثه؟ «1657» (في الواقع 1656): «إنشاء المستشفى العام والاحتجاز الكبير للفقراء»، «1794» (في الواقع 1793): «إطلاق سراح المكبلين في بيستر». إنهما حدثان يشكلان بالطبع (ضمن وقائع أخرى) لحظات حاسمة في تاريخ الاعتقال، ومن ثم في تاريخ الطب النفسي. بين هذين التاريخين، كان هناك انتقال «من تجربة القرون الوسطى والخبرة الإنسانية في شأن الجنون إلى تلك التجربة المستندة إلى خبرتنا الخاصة، والتي تؤطر الجنون ضمن حدود المرض العقلي. إبان العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، كان الجدل الدائر بين الإنسان والخبل جدلا دراميا يضع الإنسان في صدام ومواجهات مع القوى الصماء في العالم؛ وهكذا كانت تجربة الجنون محفوفة بالصور المتعلقة بالسقوط والكمال، والوحش، والتحول، وبجميع أسرار المعرفة المثيرة للدهشة. أما في عصرنا الحالي، فإن تجربة الجنون يغلفها الصمت ويحيط بها هدوء المعرفة التي نسيتها بعد أن استغرقت في بحثها وعرفت عنها الكثير.» نستنتج من ذلك أن الجنون «السابق»؛ أي الجنون النابع من الحمق (الاختلال العقلي في العصور الوسطى)، كان ذا طبيعة خاصة وبنية مختلفة جذريا عن الجنون «اللاحق» النابع من العقل (العقلانية في العصر الكلاسيكي). هذه المقدمة، التي تنتهي على ذلك النحو، ليست إلا تمهيدا لبرهان تاريخي طويل أفضى، في الجزء الأول، إلى كتابة أطروحة نالت شهرة واسعة عن «الاعتقال الكبير» - وهو تعبير أوجده ميشيل فوكو عبر مصطلح «الاحتجاز» التاريخي - حيث قررت السلطة الملكية، باسم العقل، أن تسجن، سياسيا، المجنون.
كانت الفكرة الأولى التي وردت في الفصل المعنون «سفينة الحمقى» هي: مع اختفاء مرض الجذام في نهاية القرون الوسطى، وانتفاء الحاجة إلى مشافي الجذام، أفسح المجال لظهور «انبعاث جديد للشر، ووجه جديد للخوف، وطقوس سحرية متجددة للتطهير والإقصاء [...]» في البداية، حلت الأمراض التناسلية محل الجذام، ولكن «الإرث الحقيقي للجذام [...] يكمن في ظاهرة أشد تعقيدا لم يكتشفها الطب إلا بعد وقت طويل؛ ألا وهي الجنون.» وقد ذكر فوكو «الصور الرئيسة» للجنون، وذلك قبل أن «تجري السيطرة عليه، نحو منتصف القرن السابع عشر.» يبدأ فوكو بسفينة الحمقى، ويرى أنها ليست رمزا فحسب وإنما حقيقة واقعية أيضا: في العصور الوسطى، كان المجانين المطرودون من المدينة، يعهد بهم أحيانا إلى بعض البحارة والسفن، التي كانت مخصصة هذه المرة بشكل كامل للقيام برحلات الحج العلاجية، وربما كانت هذه السفن، على حد قوله، تجوب أنهار أوروبا صعودا ونزولا. يرى فوكو أن هذه الرحلات الإقصائية، تمثل «طقوسا للنفي». يمزج فوكو، في إيجاز مثير للدهشة، بين جنون الخطيئة وجنون المرض كما لو كانت القرون الوسطى لديها، مرة أخرى، مفهوم «واحدي» للجنون.
بيد أن هذه «الواحدية» الخاصة بالجنون لا وجود لها إلا لدى فوكو. ويتناقض هذا المذهب بشكل مطلق مع النزعة الثنائية التي طالما فرقت بين ما هو فلسفي وأخلاقي وديني من جهة، وبين ما هو طبي من جهة أخرى (وهكذا فإن «المخ الذي يعاني خللا بفعل الأبخرة السوداء المنبعثة من الصفراء»، كما ورد في «تأملات» ديكارت، يتبع المجال الطبي). مع ذلك، سوف يستخلص فوكو مما سبق استنتاجات حاسمة، وسيعمل جاهدا على الانتقال مباشرة إلى الحديث عن إنشاء دور الحجز في القرن السابع عشر باعتباره «أحد علامات مجيء عصر العقل». وهكذا نصل إلى الفصل الحاسم (الفصل الثاني: «الاعتقال الكبير»): «فقد أعاد عصر النهضة إلى الجنون صوته، ولكنه تحكم في عنفه، وسيأتي العصر الكلاسيكي لكي يسكته بقوة غريبة.»
ها نحن إذن، أمام حيلة جديدة للخداع والمراوغة، على الصعيد نفسه المتعلق بالاحتجاز وخاصة احتجاز المختلين عقليا: «نعرف أن المختلين عقليا كان يتم إيداعهم المعتقلات بأوامر ملكية [...] غير أنه لم يتم على الإطلاق تحديد وضعهم بدقة داخل هذه الزنازين، ولا تحديد معنى ذلك الاختلاط الذي كان يبدو وكأنه يمنح وطنا واحدا للفقراء، والعاطلين، والجانحين والمختلين عقليا [...] منذ منتصف القرن السابع عشر، ارتبط الجنون بهذه الأرض الخاصة بالحجز، وبالسلوك الذي كان ينظر إليها باعتبارها بؤرته الطبيعية.» وقد استند فوكو إلى هذا التأكيد كما لو كان أمرا بديهيا: «إن احتجاز المختلين عقليا يشكل البنية الأكثر وضوحا في التجربة الكلاسيكية للجنون.»
انطلاقا من هذه النقطة، يفكر ميشيل فوكو مطولا في أمر المشفى العام بباريس الذي أنشئ في عام 1656: «إن المشفى العام لا يحتوي على أي فكرة طبية، لا من حيث اشتغاله ولا من حيث خطابه. إنه محفل من محافل النظام، النظام الملكي البرجوازي الذي كان منهمكا في تنظيم أوضاعه في تلك الفترة في فرنسا.» خلاصة القول: «لقد اخترعت الكلاسيكية الاعتقال.» هذا الاختراع المتعلق بالحجز، الذي يشكل «لحظة حاسمة»، هو نتاج «رد الفعل الجديد إزاء البؤس». «فابتداء من هذه اللحظة لم يعد البؤس حلقة ضمن جدلية الذل والمجد، بل أصبح مرتبطا بثنائية أخرى هي اللانظام والنظام، ثنائية تصنف البؤس ضمن الشعور بالذنب.» ومن ثم، يستطرد فوكو قائلا: إن العصور الوسطى كانت تنظر إلى البؤس باعتباره أمرا مقدسا في مجمله، وبدأت الكنيسة المشرفة على حركة الإصلاح المضاد تميز بين الفقراء الجيدين والفقراء السيئين الذين ضم فوكو طائفة المجانين إليهم: «وتلك هي أولى الحلقات التي سيحصر ضمنها العصر الكلاسيكي الجنون.» عبر نزع طابع القدسية عن البؤس، انتفت بالتالي عن الجنون صفة القداسة (بعد أن كان ينظر إليه قبلا باعتباره شيئا مقدسا). وبعد أن كان الباعث على الحساسية في التعامل مع الجنون دينيا، أصبح الدافع لها اجتماعيا. وأصبح له منذ ذلك الحين أفقا ضمن النطاق الأخلاقي.
بالرجوع إلى «الحدث الحاسم» المتعلق بإنشاء المشفى العام ونظائره من المشافي الأوروبية، نجد أن فوكو يشدد على طابعه الحصري فيما يخص منع البطالة، «إنها اللحظة التي نظر فيها إلى الجنون باعتباره أفقا اجتماعيا للفقر، وعدم القدرة على العمل، واستحالة الاندماج مع الغير [...] وهكذا فقد انتزع الجنون من تلك الحرية الخيالية التي كانت في تزايد مستمر في سماء عصر النهضة.»
و«على الجانب الآخر من أسوار المعتقل»، في «عالم الإصلاحيات» كما أطلق عليه (المذكور في الفصل الثالث) ماذا نجد؟ «أولئك الذين جرى توزيعهم، بتردد كبير وخوف، على السجون والإصلاحيات والمشافي النفسية أو عيادات الطب النفسي.» يشدد فوكو على أن الأمر لا يتعلق بإقصاء غير القادرين على الاندماج اجتماعيا، بقدر ما يتعلق بذلك «الفعل المؤسس للاغتراب»، ومن هنا جاء قوله: «إن إعادة كتابة تاريخ الإقصاء معناه القيام بأركيولوجيا الاستلاب. ذلك الحقل الاستلابي، الذي تم تسييجه فعليا بفضاء الحجز، حيث شعر المجنون داخله بأنه مقصي مثله مثل مجموعة أخرى من الكائنات تختلف عنه، في تصورنا، في كل شيء ولا وجود لأي رابط بينهما.» ذلك أنه لا يوجد، في عرف الاحتجاز، أي فرق بين هذه الفئات، إنما يجمعها «نفس العار المجرد»: «الفاسق» و«الغبي» و«الضال» و«المعوق» و«المختل عقليا» و«المنحل» و«الابن العاق» و«الأب المبذر» و«المومس» و«الأخرق». ويسترعي فوكو الانتباه إلى هذه النقطة تحديدا: «إن الاندهاش من كونهم حبسوا المريض وخلطوا بين المجنون والمجرم لن يظهر إلا لاحقا. نحن الآن أمام واقعة منسجمة.»
سوف نبين في الفصول التالية أن هذا المزج بين «الأشخاص غير الاجتماعيين» (حديث للغاية وينطوي على مغالطة تاريخية في معناه) والحمقى لم يكن موجودا قط، ولن نخوض الآن في التفاصيل. أيتعين علينا أيضا السير وراء فوكو، حين يؤكد أن «المصابين بالأمراض التناسلية كانوا ينتمون بالكامل، منذ الشهور الأولى لاعتقالهم، إلى المشفى العام»؟ هذا الخلاف ليس عبثيا؛ لأنه يطرح فرضيتين مختلفتين جذريا تتعلقان بطريقة إدارة وعمل المشفى العام. على العكس من ذلك، نجد أن المصابين بالأمراض التناسلية، كما عرضنا في كتاب «داء نابولي»،
2
كان يجري طردهم بشكل صريح من المشفى العام ولم يتم قبولهم به إلا لاحقا لعدم وجود مكان آخر يمكن وضعهم به (فلم تكن المشافي الرئيسة ترغب في قبولهم). هنا يتجلى الفرق بين التشغيل الأيديولوجي والتشغيل البراجماتي للمشفى العام، وهو ليس بالاختلاف الهين.
Page inconnue