Histoire de la folie: de l'antiquité à nos jours
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
ومع ذلك، اعتبارا من القرن الثالث عشر الميلادي، بدأت السجلات تذكر أولئك المجانين الهائمين على وجوههم و«المتشردين» [الذين لم يتعرف عليهم أحد، وبالتالي لا يوجد لهم ضامن ولا كفيل]. وهنا برز سؤال خطير يطرح نفسه: من الذي سيتكفل بمصاريف هؤلاء؟ ففي سياق مستوى اقتصادي يكفي المرء بالكاد للبقاء على قيد الحياة، ما من أحد - أفرادا أو جماعات - يقبل أن يثقل كاهله بأعباء رعاية غرباء. وكانت هذه هي الحال في المدن الكبرى على وجه الخصوص؛ حيث انضم المجانين المشردون إلى المتسولين لكسب قوتهم. وبناء على ذلك، ساد الاتجاه نحو «انعدام التسامح»، كما أن البلديات رأت أنه يكفيها ما تواجهه من مشاكل فيما يتعلق بالمجانين التابعين لها. ومن ثم، تم طرد المجانين «المتشردين»؛ وهو ما حدث في ألمانيا: حيث تم إقصاء 43 مجنونا في هيلدسهايم في الفترة من 1384 إلى 1480، ويعتبر هذا العدد مساويا - ربما أكثر بقليل - لعدد المجانين الذين تكفلهم المدينة. نجد النسبة نفسها أيضا في مدينة نورمبيرج، التي دأبت على التخلص من أولئك المجانين غير المرغوب فيهم ونقلهم عبر جميع أنحاء ألمانيا، وأحيانا إلى مناطق أبعد، وذلك بعد أن يجلدوا ويضربوا بالسوط. وفي فرنسا، على ما يبدو خلال القرن الرابع عشر الميلادي، وفي المنطقة الشمالية بأكملها، كان بعض قضاة البلديات يقومون بإعطاء ملك السفهاء بالمدينة بعض القطع النقدية حتى يطرد من البلدة بعض «المجانين أو البله» الغرباء، سواء أكانوا إناثا أم ذكورا، وذلك كان يجري عادة بعد ضربهم وجلدهم. في مدينة ليل، على سبيل المثال، كان هذا السيناريو يتكرر مرتين أو ثلاث مرات خلال العقد الواحد، مثلما حدث في عام 1447، حين تلقى ملك السفهاء 12 فلسا نظير قيامه «باقتياد امرأة مجنونة حتى بلدية كومين، وكانت هذه المرأة التي سبق طردها من هذه المدينة تعاني من اضطرابات شديدة». «وفي مدينة أميان، في مارس 1459، أصدر بعض قضاة البلديات أوامرهم بشأن أحد المجانين، وهو يدعى جاكو مانيت، وكان قد فعل في المدينة المذكورة بعض التصرفات المثيرة للاستياء والانزعاج؛ مثل ضرب الناس والأطفال، والدخول إلى منازل الصناع والتجار وإسقاط بضائعهم من على الرفوف، وأخذ غلاتهم رغما عنهم. وبناء على ذلك، صدرت الأوامر بضربه بالعصي في شوارع المدينة المذكورة من قبل رقيب هيئة العدل العليا، على أن يتولى هذا الرقيب مسئولية الحرص على عدم عودة هذا المجنون إلى المدينة مرة أخرى. وإذا عاد ثانية، يقوم أفراد الشرطة المسئولون عن طرده من المدينة بإيهامه أنه سوف يتم إغراقه في حالة رجوعه؛ وذلك حتى لا يعود مطلقا إلى هذه المدينة.»
5
وأحيانا كان يعطى المجنون زادا ومعونة وبعض الملابس، حتى يذهب بعيدا ليمارس جنونه في مكان آخر. وهو ما حدث على سبيل المثال، في عام 1427، في فرانكفورت، مع امرأة «فاقدة العقل». وقد كانت هذه المرأة تصطحب ابنها معها، وخشي الجميع من أن تقوم بقتله. وفي أحيان أخرى، ولكن نادرا، كان يتم استدعاء بعض الأطباء، ربما على الأرجح لإثبات حالة الجنون أكثر من الاهتمام بتقديم خدمات الرعاية الطبية.
بيد أنه كان لا بد من حبس المجانين الخطرين؛ «أي أولئك البله الذين يتصرفون بشكل جنوني مبالغ فيه ويتسببون في مضايقات وإزعاج»، مع الطرح الدائم لذلك السؤال الملح بشأن من سيتحمل تكاليف رعايتهم. وكان مثل هذا الإجراء يطبق على نطاق محدود للغاية وبشكل مقنن، كما يتضح ذلك من خلال القانون العرفي لمدينة نورماندي كما يلي: «إذا كان هناك إنسان فاقد لرشده، وكان يتسبب في إيذاء أو جرح وتعذيب أي شخص بأفعاله الجنونية، يجب في هذه الحالة إلقاء القبض عليه ووضعه في السجن، ويتم الإنفاق عليه من أمواله الخاصة، أو أموال الصدقات، إذا لم يكن له مورد يعيش منه. وإذا كان هناك شخص مجنون وهائج بأي شكل من الأشكال، وكان ثمة شك في أن يكون قد تسبب بجنونه في اضطراب البلاد، سواء بالنار، أو بأي شيء مؤذ، فلا بد من تقييده، ويتولى رعايته أولئك الذين لديهم حاجياته، ويجب ألا يرتكب أي خطأ في حق أي إنسان، وإذا لم يكن لديه مورد مالي يعيش منه، يجب أن يقوم جيرانه بتعضيده ومساعدته، وكبح جماح جنونه» (عن المصابين بجنون اهتياجي، بحث رقم 79). كما نص هذا القانون العرفي أيضا (الذي يعد بمنزلة نموذج ممثل للقوانين العرفية الأخرى) على ضرورة حبس المجنون القاتل مدى الحياة؛ نظرا لكونها الطريقة الوحيدة للتأكد من عدم تكرار فعلته. في عام 1425، على سبيل المثال، حكم على امرأة بالحبس في سجن بايو؛ لأنها قتلت زوجها في نوبة جنون. وقد جاء نص الحكم كما يلي: «ستظل هذه المرأة في السجن مدى الحياة أو سيتم التحفظ عليها بشكل آخر، تبعا لحالتها، ووفقا لعرف مدينة نورماندي؛ وذلك للتيقن من أنها لن تفعل أي سوء في المستقبل.»
6
وبخلاف القتل الفعلي، يمكن أن يؤدي جنون الهياج إلى أن يتخذ المجتمع قرارا بتقييد وحبس أحد أفراده في السجن، خاصة إذا لم يستطع أي شخص من عائلته أو من المحيطين به رعايته وكفالته. ففي عام 1406، في مدينة كارنتان، كلف حداد ب «إحكام غلق زنزانة بها جيوم موجييه، وهو مجنون وأبله وفاقد لعقله. وتم إيداعه السجن بعد أن ألقي القبض عليه من قبل ضباط تابعين للملك؛ وذلك للحماقات والتصرفات الشاذة والغريبة التي كان يقوم بها، فضلا عن رفض أي أحد من أصدقائه استقباله.» وفي مدينة أميان، في 13 يوليو 1501، قام أعضاء مجلس البلدية بحبس «شخص مجنون» يدعى جيهان كوشي في أحد أبراج بوابة أوتوا؛ وذلك لأنه حاول قتل رقيب.
على الرغم من ذلك، ظل حبس المجانين (ولا نجرؤ أن نقول «اعتقال»، حتى وإن كان هذا هو المقصود بالفعل) إجراء استثنائيا تركز العمل به في أواخر القرون الوسطى، وربما لا يرجع السبب في ذلك إلا إلى نقص الأماكن. في ألمانيا، لا تشير التعدادات المحلية في مدينة هيلدسهايم إلا إلى وجود 39 مجنونا تكفلهم البلدة، وذلك في الفترة من 1384 إلى 1480؛ أي على مدار قرن. وفي مدينة نورمبيرج، تذكر السجلات أن عدد أولئك المجانين بلغ 20 مجنونا، وذلك في الفترة من 1377 إلى 1397، ثم أصبح العدد 31 في الفترة من 1400 إلى 1450؛ أي إنه في المتوسط يتناقص العدد بمقدار واحد كل عام.
7
بيد أنه، في نهاية العصور الوسطى، وفي أعقاب حدوث مفارقة بين مرحلة البناء المتأخرة ومرحلة تحويل المباني الدفاعية إلى غرض آخر (في فرنسا، تعلمنا الدروس المستفادة من حرب المائة العام في وقت متأخر للغاية)؛ ظهر في معظم المدن ما يعرف ب «أبراج المجانين»، نذكر من بينها: برج شاتيموان في كاين، وبوابة سان بيير في ليل، وأبراج روزندال وليزل في سانت أومير وغيرها. غير أن هذه الأبراج كانت في الغالب تستوعب أعدادا قليلة للغاية؛ فلم نكن نجد بها إلا بعض المجانين المحبوسين معا، وأحيانا كنا نجد مجنونا واحدا محبوسا بمفرده، هذا بالإضافة إلى بعض النفقات التي كانت تصرف على أعمال النجارة، كما هي الحال في مدينة ليل، في عام 1453؛ حيث ورد في السجلات الحسابية للمدينة المرتب الذي صرف للنجار نظير قيامه ببناء «كوخ صغير» لتقطن به «امرأة بلهاء تدعى بيرويت». وفي مدينة سانت أومير، لم تتكرر النفقات التي صرفتها البلدية لاحتجاز أحد المجانين وتقييد حريته في أحد هذه الأبراج إلا اثنتي عشرة مرة خلال ما يقرب من قرنين (القرن الخامس عشر وثلثي القرن السادس عشر).
أما فيما يتعلق بتقييد المجانين المصابين بالهياج والسيطرة عليهم، فقد تدفق الحبر غزيرا من أقلام فاعلي الخير في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، ومن بعدهم من أقلام العديد من المؤرخين المعاصرين، ليروي بشاعة هذا المشهد بما يشمله من حلقات حديدية ثقيلة تدمي الأجساد، وصوت قعقعة الأغلال الكريه (ناهيك عن البرد والجوع والحشرات الطفيلية القذرة)، بالإضافة إلى سادية الحراس، والقسوة المفرطة في التعامل، وذلك في عصر لم يكن يرى في المجنون إلا «طبيعته الحيوانية»؛ تلك الطبيعة الحيوانية الشهيرة. وهذا تفسير خاطئ. فيما بعد، تداعت السجون التي شيدت في هذا العصر، وأصبحت الأبراج أثرا بعد عين. أما عن الحراس، فقد كانوا قليلي العدد وفي الغالب عاجزين. ومن ثم بات من السهل الهرب. وكان الحبس المشدد المتمثل في استخدام الأقفاص الحديدية لاحتجاز السجناء السياسيين، (في سجن الباستيل على سبيل المثال أو في سجن جبل القديس ميشيل)؛ يمثل «سجونا داخل السجن»، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين هربوا من قبل. مثلما حدث مع كولاس فافيرول؛ ذلك المجنون الهائج الهارب الذي ألقي القبض عليه حين كان «يجوب الشوارع»، ثم وضع في قفص حديدي «حتى لا يؤذي الناس».
Page inconnue