Histoire de la folie: de l'antiquité à nos jours
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Genres
ما هذه العواطف؟ نجد في البداية الحزن، وهو أكثر العواطف إيذاء للجسم؛ لأنه يصيب الإنسان بالسوداوية ويمكن أن يقوده إلى الهوس والجنون؛ ولذلك نجد أن القديس توما الأكويني قد اهتم بذكر العلاجات التقليدية للحزن وتشمل: كل أنواع الفرح أو انشغال النفس فيما يبدد روح الحزن عنها مثل الأصدقاء، والنوم، والبكاء، والاستحمام، ومن ذلك يتضح أنه يتحدث عن الحزن بوصفه مرضا. وهناك عواطف أخرى كالحب (النشوة) والبهجة (الناتجة عن امتلاك ما يسر القلب ويمتعه، سواء أكان أمرا متعلقا بالروح أم بالجسد).
ولن نجد بالطبع في الفلسفة التوماوية توصيفا حقيقيا دقيقا لمرض الجنون. ولكن يكفي أنه قد ورد بالفعل ذكر للجنون وإحياء لفكرة ارتباطه بالعواطف في مجال علم اللاهوت. ذلك اللاهوت الأخلاقي، حينما يتعلق الأمر بتعريف تلك الفضيحة الميتافيزيقية المتمثلة في انقطاع التناغم بين الأنيموس والأنيما؛ لا يستنكف من أن يقترض من معجم علم النفس المرضي الموجود بالفعل [الجنون في جانبه الطبي البحت]. إضافة إلى المجانين والمعاتيه الهائجين، نجد أيضا المختلين عقليا وهم أكثر نشاطا وحيوية، وأكثر تطورا من المصابين بالخبل الذي يعتبر حرمانا مطلقا من العقل، سواء بشكل دائم أم مؤقت. أما الاختلال العقلي، فيحدث نتيجة فقدان بمعنى هجر أو تخل: حين يسمح الإنسان لجانب الأنيموس فيه أن يتغلب عليه ويتحكم به، مما يذكرنا بالمفهوم الرواقي للجنون. وهكذا برز، بعيدا عن التعبيرات المجازية البسيطة، تشابه بين جنون الجسد وجنون الروح الذي ترسخ وتطور الاعتقاد به في سياق المجتمع المسيحي.
وأخيرا، من المثير للاهتمام ملاحظة أن توما الأكويني يتجنب استخدام مصطلح «الجهالة»، على الرغم من كونه المصطلح الأكثر شيوعا في العصور الوسطى للتعبير عن الجنون. حتى إن القديس بولس الرسول استخدمه للإشارة إلى جنون الصليب (في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس). كما صرح القديس توما الأكويني «بوجود نوعين من الحكمة ونوعين من الجنون [...] وبأن الإنسان الذي يتكل على الله يؤكد على كونه الأكثر جنونا في حكم البشر؛ لأنه يحتقر الكنوز الأرضية التي تبحث عنها الحكمة البشرية.» وسنتناول فيما بعد هذه المسألة بالتفصيل.
الأطباء
اعتبارا من القرن الحادي عشر الميلادي، انتعش الطب بفعل التأثير القادم من إسبانيا وصقلية والمدرسة الطبية بساليرنو. واستفادت هذه الأماكن من المساهمة العلمية المزدوجة التي قدمها العرب؛ فمن جهة كانوا يقومون بنقل النصوص اليونانية، ومن جهة أخرى كانوا يضيفون إلى تلك النصوص دراسات وتأملات انتفع بها الطب الغربي في العصور الوسطى.
ما الذي يمكن أن نستخلصه من الخطاب الطبي بشأن الاضطرابات العقلية اعتبارا من هذه الفترة وخلال القرون التالية، علما بأن هذه الحقبة قد شهدت انتشار المدارس الطبية (مثل مدرسة مونبلييه التي تأسست في بداية القرن الثالث عشر، والعديد من المدارس الأخرى التي ظهرت في إيطاليا في القرن الرابع عشر)؟ في الواقع، إن عدد المقالات البحثية التي خصصت بشكل حصري أو بشكل رئيس لموضوع الجنون محدود للغاية. ولكن، في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، قام قسطنطين الأفريقي، الذي ترهب بالدير البنديكتي بمونت كاسينو، بترجمة كتيب من العربية إلى اللاتينية عن السوداوية (الكآبة)، يظهر فيه التأثر الشديد بفكر روفوس الأفسسي. وهكذا، جرى استكمال الدراسات الطبية من حيث انتهى اليونانيون.
لا بد من البحث في المؤلفات العامة للعثور على الاضطرابات العقلية. وقد استمر قسطنطين الأفريقي، من جانبه، في ترجمة العديد من المؤلفات من العربية إلى اللاتينية، نذكر من بينها «زاد المسافر» لابن الجزار؛ وهو كتاب هام في الباثولوجيا (علم الأمراض) - بالرغم من أن عنوان الكتاب لا يدل على ذلك - ويضم بين دفتيه فصلا عن «النسيان». وهذا المجلد الأخير يثير اهتمامنا على نحو خاص؛ لأن قسطنطين الأفريقي ذكر في المقدمة أنه يخاطب ثلاث فئات من القراء: أولئك الذين يودون ممارسة الطب، وأولئك الذين يودون إثراء معارفهم من خلال الاهتمام بمجال الطب، وأخيرا أولئك الذين يطمحون إلى الاثنتين معا؛ أي الممارسة والمعرفة. ولم يكن الطب علما منغلقا على ذاته، بل قدم فيما بعد، اعتبارا من القرن الثاني عشر الميلادي وخاصة في القرن الثالث عشر، أداة محركة لأفكار وتأملات فلاسفة الطبيعة.
في المقاربة التي تعتمد بشكل أساسي على المنظور الجسدي، نجد أن تناول «أمراض الدماغ» يقتصر في أغلب الأحيان على تعدادها، وإعطاء وصف سريري لها، وتكرار ما ورد في الدليل الخاص بالأمراض العقلية التي جرى تعريفها في العصور القديمة.
2
وهذا هو النهج عينه الذي اتبعه أبو بكر الرازي (865-925) على وجه الخصوص، وهو طبيب عربي شهير ومن أتباع أبقراط. بيد أن بعض المؤلفين حاولوا وضع تصنيف لهذه الأمراض، من بين هؤلاء ابن سينا (980-1037)، وهو ليس طبيبا عربيا فحسب، ولكنه أيضا فيلسوف ومتصوف. ويعد كتابه «القانون في الطب» من أكثر الكتب التي أجمع عليها العلماء والدارسون في الشرق والغرب، وفي نهاية حقبة القرون الوسطى، أصبحت النسخة المترجمة عنه إلى اللاتينية أكثر الكتب طباعة بعد الكتاب المقدس.
Page inconnue