ثم عاد غابينيوس إلى رومية وخلفه قرسس فنهب الهيكل وسلب اليهود وظلمهم ظلما شديدا، ثم سار إلى مقاتلة الفرثيين فهلك، فرأى اليهود في ذلك عقوبة كفره وتعدياته على هيكل الله سنة 53ق.م، ولما هلك قرسس نجا قسيوس أحد قواده فرد الفرثيين عن سورية، وقدم إلى اليهودية وأخضعها وأخضع إسكندر وأثبت أنتيباتر على ما كان عليه من السطوة فبقي مشيرا لهركانس، وتقوى أنتيباتر إلى أن تمكن نسله من التسلط على اليهودية، وظلت الحال كذلك إلى أن ملك يوليوس قيصر فأفرج عن أرستبولس وجهزه إلى اليهودية ليعضد حزبه فيها فقتل قبل وصوله، أما إسكندر فحشد وهو يتوقع مجيئه جيشا وافرا فقبض عليه ميتلس شببيون والي سورية قبل بمبيوس وجز رأسه في أنطاكية سنة 49ق.م، فلم يبق من بني أرستبولس إلا أنتغنوس فخضع لقيصر، وظن أنه يفوز بملك اليهودية بعد قتل بمبيوس، وأما أنتيباتر نتاثر الأدومي، فكان ذكيا لبيبا، فلما رأى أمر بمبيوس متأخرا بذل جهده في مؤازرة قيصر وسار في جيش إلى مصر عندما تضايق قيصر في الإسكندرية وعضد أمره، واشتهر كثيرا بشجاعته في القتال حتى قيل: إن فوز قيصر يومئذ توقف عليه، ولما عرف هذا ما كان منه من الشجاعة والنجدة له أنعم عليه بما أراد من ملك اليهودية دون أنتغنوس.
وغلظ أمر أنتيباتر كثيرا بأن أيده قيصر فتسلط على هركانس، وتصرف كما شاء ومنحه قيصر رعوية رومية وأقامه نائبا له في اليهودية سنة 48ق.م، وكان له أربعة من البنين منهم فسايل فرأسه على مدينة أورشليم وهيرودس على الجليل، وهو لم يجاوز سن الخامسة عشرة فصار ملك اليهود إلى يد هذا الأدومي وبنيه، مع أن هركانس استمر رئيس الكهنة وعظيم الأمة في الظاهر.
ولم يسر الناس بأنتيباتر وأولاده فاشتكوهم إلى هركانس وتظلموا منهم وحرضوه على طردهم من مقامهم، ولا سيما هيرودس؛ لأنه ظلم الرعية ظلما فاحشا وقتل أناسا من اليهود فطلبوه للمحاكمة أمام مجمع السبعين في أورشليم فأتى مع شرطه وكل علامات المجد والفخر، ولما جرت المحاكمة لم يجسر أحد أن يشهد عليه فانفض المجمع ولم يحكم عليه بشيء فخرج يتوقد غضبا من أعدائه وأضمر النقمة فحشد جيشا وزحف به إلى أورشليم، لكنه رجع عنها بمشورة أبيه، ثم اضطربت اليهودية بسبب قتل قيصر، فإن قسبوس أحد القائمين عليه أتى وضرب على البلاد الجزية وأجبر أنتيباتر وأولاده على أن يجمعوها له فحقد عليهم الناس، فاحتال بعضهم على أنتيباتر وقتله، وقام هيرودس وانتقم لأبيه ولم يقدر هركانس أن يمنع هذه الأمور لضعفه فتسلط عليه هيرودس، ولما أخذ أوغسطوس وأنطونيوس الرئاسة في رومية قام أنتغنس بن أرستبولس وجمع جيشا بغية أن يسترجع مملكة أبيه، فهزمه هيرودس فأكرمه هركانس كثيرا وتزوج هيرودس سنة 37ق.م، مريمنة ابنة إسكندر بن أرستبولس وهي بنت ابنة هركانس أيضا، وأتى ذلك ليدعي الحق في الملك ويجمع بين بيتي هركانس وأرستبولس.
وجاء أنطونيوس إلى سورية بعد حرب فيلبي سنة 42ق.م، وهي الحرب التي قتل فيها بروتس وقسيوس فأقام هيرودس وأخاه فسايل على أمور اليهود، وجعل كلا منهما رئيس ربع، فكره كثيرون سلطتهما وسعوا بهما إلى أنطونيوس فلم يصغ إليهم بل قتلهم.
ثم ذهب أنطونيوس إلى مصر وهام في عشق كليوباترا فقدم الفرثيون واستولوا على سورية، فنهض أنتغنس بن أرستبولس وأعطى قائد الفرثيين دراهم كثيرة و500 جارية، وسأله أن يفتتح اليهودية ويعزل هركانس وهيرودس وأخاه ويقيمه على الملك، فأجابه إلى ذلك وجهز الجنود وزحف بهم إلى اليهودية فاستولى عليها سوى أورشليم فحاصرها مدة فلم يستفد شيئا، ثم اعتمد أنتغنس وقومه المكر، فكتبوا إلى هركانس وقومه يسألونه المصالحة وأغروا هركانس وفسايل بأن يذهبا إلى كبير الفرثيين بعهد الأمن، فينصف بين الفريقين بعد الفحص فاحتسب هيرودس المكر فلم يذهب، ولما وصل هركانس وصاحبه إلى كبير الفرثيين قبض عليهما فبلغ الخبر هيرودس فهرب هو وعائلته، ولجأ إلى بعض الحصون في أدومية فغزا الفرثيون البلاد وسلموها إلى أنتغنس بمقتضى الشرط واستودعوه هركانس وفسايل، فانتحر فسايل يأسا وجدع أنتغنس أذني هركانس ليمنعه من رئاسة الكهنة؛ لأن اليهود توجب أن يكون الكاهن بلا عيب في الجسد، ثم بعثه إلى الفرثيين فاستحيوه، أما هيرودس فاستودع عائلته أخاه يوسف وهرب إلى مصر ثم إلى رومية مستصرخا، وملك أنتغنس على اليهودية مدة ثلاث سنين بين سنة 40 وسنة 37ق.م.
ولما بلغ هيرودس رومية وده أنطونيوس كثيرا فاتفق مع أفنافيوس على أن يولياه اليهودية، مع أن هيرودس طلب الملك لصهره أرستبولس وهو حفيد أرستبولس السابق وهركانس، ولكن لما رأى أنطونيوس أن يملك هيرودس قبل بفرح ورجع إلى الشرق مع أنطونيوس وقد أمده بعسكر إلى اليهودية، ولما وصل إليها كان الرومانيون قد طردوا الفرثيين، وكان أنتغنس محاصرا مساد الحصن، حيث ترك هيرودس عائلته وأخاه كما مر، فما لبث أن طرد أنتغنس وخلصهم، ثم حاصر أورشليم ولم يتمكن من افتتاحها إلا بمساعدة الرومانيين، أما سولو قائدهم فأفسده أنتغنس بالبراطيل حتى أعاق هيرودس كثيرا، فلم يبلغ مراده حينئذ لكنه حارب أدومية وأخضع جانبا منها، واستولى على السامرة وهاجم اللصوص الكثيرين الذين سكنوا كهوف الجبال في الجليل وأضروا الناس كثيرا، وسمع أن أنطونيوس تضايق في حرب الفرثيين فسار لنجدته وكسر فرقة من العدو كمنت له في الطريق ولحق بأنطونيوس فأكرمه لشجاعته ورغبته في معونته، فلما عاد أمده بعسكر لينصره على أنتغنس، وكان قد قتل يوسف أخو هيرودس فاغتاظ هيرودس وبذل جهده في أخذ الثأر، وحمل في بعض المعارك على الأعداء بشجاعة وبأس فولوا منهزمين، فهابه الناس وانحاز كثيرون إليه واستولى على البلاد سوى أورشليم فحاصرها سنة 37ق.م فقاومته أشد المقاومة وطال الحصار نحو ستة أشهر، فاغتاظ الرومانيون، ولما دخلوا قتلوا ونهبوا فأوشكت المدينة أن تخرب لكثرة العسكر، فاشتكى هيرودس إلى قائدهم قائلا: إن لم تمنع الجنود عن القتل والنهب، وليتني خرابا يبابا لا مدينة، وأعطاه مالا وافرا فرد الجنود فسأله أنتغنس الأمان باكيا فضحك عليه القائد وقيده وأخذه إلى أنطونيوس فقطع رأسه فهو آخر من ملك من بيت حشمناي وقتل سنة 37ق.م، أي: بعد 130 سنة لنصرات يهوذا، و70 سنة للبس أرستبولس الأول التاج، وكان أنتغنس آخر تلك الأسرة فانقرضت بموته دولة المكابيين، وانتقل الملك إلى هيرودس الكبير نسيبهم.
وقد كان عصر المكابيين من العصور التي أجلى فيها اليهود عن شجاعة وبسالة عظيمتين فعاودتهم النخوة الوطنية والغيرة الدينية التي كانت قد خمدت فيهم أثناء السبي وبعده، وأظهروا للملأ قاطبة إنهم لم يعدموا تلك الصفات التي ميزت أسلافهم أيام غزوا أرض كنعان وطردوا أهلها منها وحلوا محلهم يحمون حوضهم ويدفعون أعداءهم الكثيرين عنهم، على أن ذلك العصر لم يطل لوقوع النزاع الأهلي وانقراض تلك الأسرة الباسلة وعدم قيام غيرها مثلها بين اليهود تتولى زعامتهم وتقود جيوشهم إلى مواقع النصر والظفر، وكان الرومان قد شرعوا يوسعون سلطتهم ويبسطون ظلهم ويمدون تخومهم، فلم يكن ينتظر أن تقف جماعة اليهود على ما بهم من الضعف الداخلي وقلة العدد سدا حائلا في سبيل نصرتهم وفوز جيوشهم على كثرتها وحسن تدريبها بعد أن تغلبوا على جزء كبير من العالم، وأخضعوا لصولتهم أكثر أنحاء المعمور في تلك العصور.
جدول رؤساء المكابيين.
رؤساء المكابيين
الاسم
Page inconnue