فإذا تقرر عندنا هذا تقرر أن حفظ الأنساب هو عبارة عن حفظ الفضائل وإمتاع المجتمع بها. ومتى كثرت الفضائل في المجتمع ترقت الأمة وعرجت في سلم النجاح، وأصبحت أمة عزيزة غالبة، لأن الأخلاق الفاضلة هي الأساس الذي يبنى عليه كيان الأمم.
وقد تقدم لنا أن الأوروبيين شديدو العناية بالأنساب، خلافا لما يتوهم الشرقيون، وأن الكفاءة في الزواج طالما كانوا يراعونها ولا يزالون يراعونها حتى اليوم، وإن كان قد خف ذلك التمسك القديم بعض الشيء، وذلك بأن النبلاء لا يزوجون بناتهم من الطبقات التي ليست في درجتهم. وأشد الأوروبيين منعة في هذا الأمر هم نبلاء الإنجليز، الذين يأتي الأمريكي المثري فيبذل القناطير المقنطرة من الذهب حتى ينال شرف مصاهرتهم، ولا ينالها إلا لأيا، وكل هذا لأجل أن «يستقطر بأنبيق ديناره دمهم الشريف في دن نسبه» كما قال أحمد فارس في «كشف المخبأ عن فنون أوروبا». وما قاله أحمد فارس من ثمانين سنة في هذا الموضوع لا يزال تصداقه جاريا إلى الآن.
وكذلك نجد النبلاء في ألمانيا وفرنسا وغيرهما محافظين على أنسابهم، مفتخرين بها، مستظهرين على صحتها بالكتب والوثائق والشجرات التي يعتقدونها مع أنفس أعلاقهم وذخائرهم، وكثيرا ما اجتمعنا بأناس من هؤلاء يرفعون أنسابهم إلى عهود بعيدة جدا، ويذكرون أن أصول عائلاتهم معروفة من ألف سنة، وألف ومائتي سنة، ولم نجد أشراف العرب أشد اعتناء بأنسابهم من نبلاء الإفرنج، وهم يزيدوننا في شيء واحد، وهي هذه الأشعرة (جمع شعار) التي تمتاز بها كل عائلة منهم وتحفظها في عهود متطاولة. ونحن العرب لا يوجد عندنا هذا الاصطلاح إلا ما ندر وأكثر ما يكون في الأعلام والرايات. فالعباسيون رايتهم السواد، والأمويون رايتهم بيضاء، والفاطميون رمزهم اللون الأخضر، وأمراء مكة رايتهم عنابية وما أشبه ذلك. فنحن نستظهر على حفظ أنسابنا بالتواريخ والوثائق والصكوك القديمة وكثيرا ما نثبتها بالمحاكم الشرعية، فأما أن تتخذ كل عائلة من بيوتات العرب شعارا خاصا تمتاز به كما هو الشأن عند الإفرنج فليس بمعهود، وإنما جرت العادات عند العرب بأن يتخذ عشائرهم أسماء خاصة يتنادون بها في ميادين القتال، فهؤلاء يقال لهم «إخوة بلجاء» وهؤلاء يقال لهم «إخوة شيخة» وأولئك يقال لهم «رعاة العليا» أو «فرسان الصباح» وما أشبه ذلك من الألقاب والكنى. فأما نبلاء الإفرنج فلا تكاد تكون منهم أسرة شهيرة بدون شعار تجد صورته على آنيتها ومواعينها وحلاها وفى كتبها، ويقال إن أصل هذا الاصطلاح عندهم هو من زمان الصليبيين.
وقد غلا نبلاء الإفرنج في التمسك بأنسابهم، ورفعوها أحيانا إلى أبعد ما يكون من الأعصر، حتى دفع ذلك العقل. وغلا أيضا علماء الأنساب في مراعاة قواعدهم ودخل بينهم المتزلفون الوضاعون الذين كانوا يتقربون إلى الأسر النبيلة بزيادة رفع الأنساب - أو بوضعها اختراعا - حتى وقعت الشبهة في الصحيح منها، واتهم النسابون جميعهم بالكذب، وفى أوروبا مثل سائر يقولون «هو أكذب من نسابة».
وكان يوجد عند الملوك في أوروبا وظيفة اسمها وظيفة «نساب الملك» وهو ضابط من ضباط رهبانية روح القدس، ترجع إليه مهمة تثبيت الأنساب، لا سيما أنساب الفرسان الذين يقال لهم «شيفالير
Chevalier » وذلك أن النبلاء كانت لهم حقوق لم تكن للعامة، فكان النبيل يدخل في نظام الفرسان عند الملك مثل نظام مالطة، وليون، وسانت كلود، وغيرها. فكانوا يحتفظون بأنسابهم لتكون لهم وسيلة إلى الدخول في هذه الأنظمة، وكان النساء النبيلات أيضا رهبانيات يدخلن فيها، ويلتزمن لأجل الدخول فيها تثبيت أنسابهن.
وإثبات النسب كان عبارة عن إظهار ورقة المعمودية التي تثبت أن فلانا هو ابن أبيه فلان، وأن هذا هو ابن فلان وهلم جرا. وكانوا يقدمون مع أوراق المعمودية الوصايا، وعقود الزواج، وصكوك الشراء. والبيع والهبة، وما أشبه ذلك من الوثائق، وكانوا إذا حرروا نسب عائلة ضموا جميع فروعها في السجل، وجعلوا بجانب كل فرع جميع ما يتعلق به من وصايا وعقود أنكحة، وصكوك مهمة بتواريخها مع براءات الملوك المتعلقة بذلك الفرع.
وهذه البراءات هى التي يقال لها في الدولة العثمانية «الفرامين» جمع «فرمان» ومعناه الأمر، ويقابل الفرمان في الدولة المغربية «الظهير». وكانوا في أوروبا يذكرون أيضا في سجلات الأنساب تواريخ الأشخاص المشهورين، ومن قتل منهم في الحروب، ويقال إن هذا الاصطلاح بدأ في فرنسا منذ سنة 1600 وإنه من قبل ذلك التاريخ لم تكن للأنساب دائرة خاصة بل كانت الحكومة عندما تريد التحقيق عن نسب من يدلي إليها بطلب ترسل مأمورين إلى البلدة التي ينتسب إليها طالب الوظيفة فيسألون الشيوخ وأهل الخبرة، ويرفعون خلاصة التحقيق إلى الحكومة.
ولما قدمت إلى ألمانيا في أيام الحرب الكبرى، كان ممن تعرفت إليهم من العلماء مؤرخ جليل اسمه الدكتور «ستراد ونتز» وكان مديرا لمصلحة الأنساب في البلاد الجرمانية، وقد تذاكرت معه طويلا في مسألة الأنساب، وذكرت له أنساب العرب وسألته عن أنساب الألمان، فعلمت منه أن أقدم أسرة معروفة في ألمانيا ينتهي قدمها إلى القرن التاسع بعد المسيح، ولا يوجد أسرة معروفة يعرف لها نسب لأبعد من هذا التاريخ. قال: وإن الأسرة المالكة في الساكس هي أقدم بيت في ألمانيا، ويوجد من لهم نسب إلى القرن الثاني عشر للمسيح.
وذكر لي أسرا عريقة من جملتها آل هونلوهيه وكنت عرفت منهم برنسا ضابطا وشاهدته في الأستانة، وتكلمنا على نسب آل هوهنزولون قياصرة ألمانيا، وأن أصلهم من جهة بحيرة كونستاتزا في بلاد بافاريا، ومنذ نحو من ست مئة سنة قام جدهم بخدمات جليلة للوطن فأعطاه الإمبراطور سيجموند لقب شرف وجعله أميرا على براند نبورغ، وهذا هو مبدأ سيادتهم. ومن هناك لم يزالوا يعظمون ويغلظ أمرهم ويتسع ملكهم حتى أوائل القرن الثامن - أي منذ مائتين وعشر سنوات - إذ ترقوا إلى درجة الملك، وصاروا ملوك بروسية. وفى سنة 1870 بعد الغلبة على فرنسا توج الملك غليوم الأول إمبراطورا على ألمانيا كلها كما هو معلوم. ومما ذكره لي هذا الأستاذ المؤرخ أنه يوجد في جبال سويسرا أسرة رومانية، أي من الرومانيين القدماء محفوظة النسب، يقال لها «بلانتا» وكان ذلك متواترا عندهم والناس تنكره ولا يجدون له سندا حتى كشفوا بطريق الاتفاق كتابة لاتينية على حجر كان قد طمسه التراب فإذا به يؤيد تواتر نسب هذه الأسرة، فهي الآن أقدم عائلة معروفة في أوروبا. انتهى.
Page inconnue