وهكذا مع أن هنيبال قد وصل في آخر الأمر إلى أسوار رومية على أنه لم يأت هناك أمرا سوى ما يمكننا التعبير عنه بكلمة تخويف، ووجوده هناك لم يسبب انزعاجا عظيما أو خوفا للسكان، ذلك لأن الرومانيين كانوا قبل ذلك بكثير قد استخفوا بصولة الجيش القرطجني، فلم يعد يرهبهم كالأول، ولكي يظهروا استخفافهم بهنيبال كانوا يبيعون بالمزاد العمومي الأراضي التي كان جيشه معسكرا عليها، بينما كان هو يتظاهر بمحاصرة المدينة وقد بيعت بأثمان عادية.
وقد كان إقدام المشترين على شراء الأرض ناجما من بعض الوجوه عن حميتهم الوطنية، وعن رغبتهم في إبداء الاحتقار لهنيبال، وأن وجوده هناك في رأيهم ليس إلا لوقت محدود يضطر بعده إلى الانصراف، وأراد هنيبال عندما بلغه ذلك أن يثأر لنفسه منهم من وجه المقابلة، فباع بالمزاد العمومي - وهو في معسكره - دكاكين أحد شوارع رومية، فاشتراها كثيرون من ضباط جيشه بابتهاج ومسرة.
فظهر من هذا أن تغييرا مدهشا قد طرأ على العراك القائم بين قرطجنة ورومية؛ وهو أن تينك الدولتين العظيمتين اللتين كانت إلى ما قبل ذلك بوقت قصير تتطاحنان في معارك دموية هائلة على نهر بو وفي ناحية كانيه؛ تكتفيان الآن من ذلك العراك بمثل هذه الألاعيب الصبيانية على مثل ما يفعل صغار الأولاد.
وعندما خابت آمال هنيبال من الحصول على نجدات عسكرية بعد استفراغ كل الوسائل التي فكر فيها، حاول استجلاب جيش ثان إلى إيطاليا يجتاز جبال الألب بقيادة أخيه أسدروبال، وكان ذلك الجيش لجبا وقد عانى صنوف الأهوال التي صادفها هنيبال تقريبا، إلا أن الطريق التي سار فيها هنيبال ووصفها لأخيه قد خففت عنه وعن جيشه الشيء الكثير من المتاعب. ولكن بالرغم من كل هذا لم يصل من ذلك الجيش العرمرم الذي بدأ المسير من إسبانيا إلى هنيبال سوى رأس أخيه، وكانت الحوادث التي انتهت بها سيرة محاولة أسدروبال إنجاد أخيه كما يأتي:
عندما هبط أسدروبال من جبال الألب مسرورا منشرح الصدر لفوزه في التغلب على ما اعترضه في اجتيازها من العراقيل والأهوال؛ تصور أن كل متاعبه قد انقضت فوجه إلى أخيه رسلا يعلمه باجتيازه جبال الألب وأنه زاحف لنصرته بأسرع ما يمكنه، وكان القنصلان في رومية يومئذ نيرو وليفيوس، وقد عهد إلى كل واحد منهما جريا على عادة الرومان في حماية مقاطعة معلومة، وأعطي جيشا معلوما للذود عن حياضها، وحتم عليهما ألا يترك أحدهما مقاطعته تحت كل الظروف، ما لم تصدر إليهما الأوامر بذلك من المجلس الاشتراعي الروماني.
وكان في هذا الحين أن القسم الشمالي من إيطاليا وضع تحت رعاية ليفيوس والقسم الجنوبي تحت رعاية نيرو، فتعين على ليفيوس إذ ذاك أن يلاقي أسدروبال عند هبوطه من جبال الألب ويكافحه، وأمر نيرو بالبقاء على مقربة من هنيبال؛ لكي يفسد عليه تدابيره ويقف في وجهه أو يبطش به إذا تسنى له ذلك، ويكون القنصل الثاني في نفس الوقت عاملا جهد إمكانه على منع وصول النجدات التي ينتظرها هنيبال من إسبانيا.
وإذ كانت الأحوال على ما ذكرنا كان على رسل أسدروبال الحاملين كتبه إلى أخيه أن يكونوا على حذر كلي من الوقوع في قبضة أحد القنصلين قبل الوصول إلى هنيبال، فنجحوا في التخلص من ليفيوس إلا أنهم وقعوا في أسر نيرو فاستولى على الكتب وفتحها وقرأ ما فيها، فإذا بها تحتوي على كل الخطط والتدابير التي أقر أسدروبال على العمل بها، فأدرك من ذلك أنه إذا زحف شمالا للاتحاد مع القنصل ليفيوس جريا على ما علمه من كتب أسدروبال؛ فإنهما يتمكنان من البطش به، ولكنه إذا ترك ليفيوس وهو جاهل ما عزم عليه أسدروبال فإن هذا يسطو عليه ويفوز باختراق جيشه، والإسراع إلى نجدة هنيبال وبذلك يتم اتحاد القرطجنيين.
وعلى ذلك رغب نيرو كثيرا في الاتجاه شمالا ليساعد ليفيوس؛ لأنه وجد الضرورة تدعو لمناصرته، إلا أن القانون كان يحرم ذلك عليه ويحول دون تركه المقاطعة التي عهد إليه في حمايتها، والذهاب إلى حيث زميله بدون إذن خاص من رومية، وقصر الوقت لا يساعد على استجلاب مثل ذلك الإذن، ومعلوم أن قوانين الطاعة العسكرية شديدة الصرامة، وهي القوانين الوحيدة التي يعمل بموجبها حرفيا.
فالضباط والجنود من كل الرتب والمقامات يجب أن يتلقوا الأوامر من رؤسائهم، ويطيعوها بدون نظر إلى العواقب التي تنجم عنها، وإبداء أي عذر لانحرافهم عن الخطة المرسومة لهم مهما كانت، وفي الواقع أن هذه القاعدة هي أساس القيادة العسكرية وركنها المكين الذي تستند إليه، فهي توجب الطاعة والعمل بلا أقل تردد، فإذا صدر أمر من القيادة العليا؛ فإنه يبطل كل رأي أو حكم أو فكر في شخصية الذي وجه إليه ذلك الأمر.
وأعظم القواد وأفضل الحكومات يفضلون حصول الضرر من طاعة أوامرهم على النفع الذي يجيء من عدم الطاعة لتلك الأوامر ، وهو مبدأ حسن ليس فقط في الحرب، بل في سائر الأحوال الاجتماعية حين يعمل الناس متحدين، ويرغبون في أن يكون العمل جيدا والاتفاق على القيام به تاما، ولكن بالرغم من كل ذلك فقد تختلف الحالة باختلاف الظروف، فالمسائل التي يتساهل فيها بالعدول عن هذه القاعدة هي التي يبدو فيها ضرورة ماسة، أو تكون النتائج المنتظر حصولها عنها عظيمة إلى الغاية، وتكون المخاطرة عندها مهمة جدا، ويكون الفوز من الأمور اليقينية الخالية من شوائب الريب، عندئذ يعقد القائد النية على عصيان الأوامر ويأخذ كل المسئولية على عاتقه.
Page inconnue