ولهذا كانوا يجهلون ما هي إيطاليا أو رومية وعظمة المملكة الواسعة التي كانوا يسيرون لاجتياحها، وهكذا فإنهم عندما وصلوا إلى جبال البيرنيه، وأدركوا أنهم سوف يرغمون على تسلقها وقطع قممها والهبوط منها بمثل ذلك العناء، قطبوا وجوههم وتولاهم الخور وصار كثيرون منهم يتذمرون علنا، وبلغ منهم التذمر حدا حمل قسما منهم يبلغ عدده ثلاثة آلاف رجل على الانفلات من بقية الجيش، وساروا راجعين نحو أوطانهم.
ولدى البحث علم هنيبال أن عشرة آلاف آخرين من جنوده قد تولاهم الشعور نفسه فصمموا على اللحاق بأولئك، فالآن ما الذي يتصوره القارئ بالذي يفعله هنيبال في مثل ذلك الموقف الحرج؟ هل يلحق الفارين من الجيش الذي لا يزيد عدده على مائة ألف ويبطش بهم تأديبا لهم وعبرة لغيرهم، أو أنه يتركهم وشأنهم ويحاول بالكلام اللطيف والتشجيع إقناع من معه بالبقاء؛ لكي يبقى لديه جيش يحارب به العدو؟
إن هنيبال لم يفعل هذا ولا ذاك، بل دعا العشرة آلاف جندي الذين كانوا لا يزالون في المعسكر وهم على أهبة الرجوع وقال لهم بصريح اللفظ: إنهم ما داموا خائفين من مرافقة جيشه أو غير ميالين إلى اتباعه فليرجعوا؛ فهو لا يريد أن يكون بين رجاله من ليست له الشجاعة الكافية والصبر على الجهاد، واللحاق به حيثما أراد اقتياده؛ فالجبان أو الخائر القوى ليس له محل في جيشه؛ لأنه يكون حملا ثقيلا يهد به قوى بقية الجيش ويفت من صلابتهم.
وإذ قال هذا أمرهم بالرجوع في الحال، واستأنف المسير ببقية الجيش متسلقا الجبال، وقد تصلبت قلوب رجاله مما قد سمعوه، وتضاعفت شجاعتهم من كلمات التوبيخ التي قالها للرجال الذين تولاهم الجبن والخوف. ومن المعلوم أن عمل هنيبال هذا بالسماح لجنوده المتذمرين ليرجعوا كان من الشهامة بمكان، وقد أثر على جنوده الباقين، ونفخ في صدورهم روح الشجاعة والإقدام، على أنه ليس من أصالة الرأي أن يحسب عمله نبالة مقصودة ، بل هي من النوع الذي تجيء به الضرورة عندما يصبح الإنسان بين أمرين شديدين لا بد له من أحدهما، فيختار الأخف.
وهذا ما يقال له سياسة، فهنيبال كما قد عرف عنه كان شديد الوطأة لا يعرف قلبه الرحمة، ولا يلين لأمر إذا كان في اللين ضرر أو خطر؛ ولهذا فالقائد الأريب ذو الحزم يجب أن يعرف متى يعاقب ومتى يغضي ويتسامح. فهنيبال كان كالإسكندر ونابليون توفرت له الحكمة، وهي التي حملته في هذه الحادثة على ما فعل، وهكذا اجتاز هنيبال جبال البيرنيه، وكانت الصعوبة التي اعترضته بعدها في عبور نهر الرون.
الفصل الرابع
عبور نهر الرون
لم يلق هنيبال بعد اجتياز جبال البيرنيه عوائق جديدة حتى انتهى إلى نهر الرون، فهو قد عرف أن النهر عريض وسريع الجري وأن عليه أن يعبره عند مصبه حيث الماء عميق والضفتان منخفضتان، وفضلا عن هذا كله فقد يكون الجيش الروماني الزاحف لملاقاته، بقيادة القنصل كرنيليوس سيبيو، قد بلغ النهر ورصد هناك؛ لكي يمنع جيش هنيبال من العبور.
فأرسل هنيبال كتيبة تتقدمه إلى حيث تستكشف البلاد وتستهدي إلى أفضل الطرق الموصلة إلى ذلك النهر، وبعد الوصول إليه تستمر على المصير إلى جبال الألب؛ لكي تكون على علم بالدروب والمضايق التي سيمر فيها جيشه عندما يقدم على اجتياز تلك الجبال المغطاة بالثلوج، وحدث أنه إذ كان يسير لاجتياز جبال البيرنيه، وهو بعد في أرض إسبانيا على الجانب الآخر منها، أن بعض القبائل التي اضطر إلى المرور في أراضيها تصدت له وأرادت مناوأته.
فتعين عليه أن يهاجمها ويبطش بها، فلما انتهى منها وسار أبقى وراءه قسما من رجاله في تلك الأرض التي قهر أهلها لإرغامهم على السكون، فبلغت أخبار هذه المواقع أرض الغاليين وحملتهم على الاحتساب والتأهب للذود عن سلامتهم، وكانوا قبل وقوفهم على ما أصاب غيرهم يظنون أن هنيبال يبغي المرور ببلادهم للوصول إلى إيطاليا؛ ولهذا لم يفكروا في التعرض له، أما الآن فقد رأوا ما حل بأهل البلدان التي مرت فيها، وأيقنوا أن هنيبال مصمم على تدويخ كل أرض تطؤها أقدام رجاله، فولد لهم ذلك قلقا عظيما.
Page inconnue