بل هي كالنار في الهشيم إذا علقت بمكان، وصادفت رياحا امتدت ألسنة لهيبها إلى مكان والتهمت الأخضر واليابس، وفضلا عن ذلك فإنه عندما استولى هنيبال على ساغونتوم وجد هناك أموالا كثيرة لم يأخذها لنفسه، بل وقفها على تقوية جيشه وتأييد قوته العسكرية والمدنية، وقد تهالك أهل ساغونتوم في سبيل منع هنيبال من الوصول إلى هاتيك الكنوز، وقاتلوا قتال المستميتين إلى النهاية وأبوا كل رأي عرض عليهم للتسليم.
ويقول عنهم المؤرخ ليفي: إنهم كانوا في الجلاد كالمجانين، حتى إنهم عندما شاهدوا الأسوار تنهار منقلبة إلى الداخل، وأدركوا أن رجاءهم بالدفاع عن حياضهم قد انقطع أوقدوا نيرانا كبيرة في الشوارع العمومية، وألقوا فيها كل الكنوز والأشياء الثمينة التي وصلت إليها أيديهم ، وليس ذلك فقط بل إن العدد الكبير منهم ألقوا بأنفسهم في تلك النيران؛ لكيلا يقعوا أسرى في قبضة المنتصرين فيخسر هؤلاء الكنوز وأصحابها معا.
ولكن هنيبال بالرغم من ذلك استولى على مقادير غير يسيرة من الذهب والفضة، منها نقود ومنها سبائك وآنية، فضلا عن الأبضعة الثمينة المختلفة التي اختزنها تجار ساغونتوم في قصورهم ومخازنهم، فاستخدمها جميعا في تعزيز مركزه السياسي والعسكري كما تقدم القول، فدفع للجند أرزاقهم المتأخرة بكاملها وقسم بينهم أسلابا كثيرة كانت بمثابة حصتهم من الغنائم، وبعث إلى قرطجنة أسلابا كثيرة وهدايا، بينها نقود وجواهر وأحجار كريمة إلى أصدقائه وإلى غيرهم ممن أراد اكتساب صداقتهم.
فكانت نتيجة هذا السخاء وما اشتهر في الأنحاء عن انتصاراته في إسبانيا أن هنيبال بلغ ذروة المجد والنفوذ والشرف الذي لم يبلغه قائد قبله، وانتخبه القرطجنيون واحدا من السفطاء، وكان السفطاء أسمى موظفي الحكومة القرطجنية المنفذين وأهل الأمر والنهي فيها، فقد كانت الحكومة على نوع ما جمهورية أرستقراطية، والجمهوريات تحذر دائما من إلقاء مقاليد القوة حتى القوة التنفيذية إلى شخص واحد.
وكما كان لرومية قنصلان يملكان معا، ولفرنسا بعد ثورتها الأولى مجلس إداري مؤلف من خمسة مديرين، كذلك كان القرطجنيون ينتخبون اثنين من السفطاء كل سنة، وهكذا كانوا يسمونهم في قرطجنة. على أن كتبة الرومانيين قد أطلقوا عليهم أسماء متعددة كالسفطاء والقناصل والملوك، وعلى هذا فقد أحرز هنيبال هذا المنصب السامي، بالاشتراك مع زميله قابضا على السلطة المدنية العليا في قرطجنة فضلا عن أنه كان قائد الجيش اللهام الظافر في إسبانيا.
وعندما اتصلت أنباء هذه الحوادث برومية، وبلغها خبر حصار ساغونتوم وتدميرها، وما أقدم عليه أهل قرطجنة من رفض مطاليب سفراء الرومانيين، وما هم شارعون فيه من الاستعداد الكبير للحرب تولاها الاستياء والرعب، فعقد مجلس الشيوخ والشعب اجتماعات ساد فيها الهياج والتشويش، ودار فيها البحث عن أعمال القرطجنيين وعن وجوب استعداد الرومانيين للحرب، وطال الجدال في ذلك وسط ضوضاء وحدة عظيمتين، وكان الرومانيون في الواقع متخوفين من القرطجنيين؛ ذلك لأن حملات هنيبال في إسبانيا وما أبداه في جميعها من الدربة والشدة والبطش قد أوقعت الرعب في قلوبهم من مآتي هذا القائد، وأدركوا من ذلك أنه مصمم على تكييف خطته الحربية في صورة تمكنه من الزحف على إيطاليا، وأنه لا يبعد أن يتابع التقدم إلى أبواب المدينة، فينزل بها وبهم ما أنزله بساغونتوم وسكانها، وقد دلت الحوادث التي تلت على إصابة ما حسبوه من هذا القبيل، وعلى إدراكهم مقدرة هذا الرجل.
دام السلم بين الرومانيين والقرطجنيين بعد الحرب القرطجنية الأولى نحو ربع جيل، وفي غضون هذه المدة أدركت الأمتان تقدما عظيما في الثروة والقوة والرقي، على أن القرطجنيين قد فاقوا الرومانيين من هذا الوجه، «ومن المعلوم أن الرومانيين كانوا أوفر نجاحا من أعدائهم في الحرب الأولى، ولكن القرطجنيين قد برهنوا على أنهم أنداد لهم في كل أمر، مما دل على سهرهم واجتهادهم؛ لكيلا تكون للرومانيين عليهم ميزة، ومن أجل هذا بدت على الرومانيين أدلة الخوف من النزول مع عدوهم القوي في ميدان حرب جديدة، يقودهم إلى معاركها مثل ذلك القائد هنيبال.»
فقر رأيهم على توجيه وفد ثان إلى قرطجنة، وبذل الجهد في المحافظة على السلام بين الشعبين قبل الإقدام على العراك، وانتخبوا لذلك الوفد خمسة من أعاظم رجالهم ومن أكبر أهل الوجاهة بينهم سنا، وأمروهم بالسفر إلى قرطجنة، وأوصوهم أن يسألوا مجلس قرطجنة عما إذا كان أقر نهائيا على الرضا عن أعمال هنيبال وتحمل مسئوليتها، فركب الوفد البحر ووصل إلى قرطجنة، ومثل أمام مجلسها، وهناك أوضحوا الغاية التي قدموا لأجلها، ولكنهم كانوا يخاطبون آذانا صماء.
وأجابهم خطباء قرطجنة على كلامهم ورد عليهم أولئك، بحيث كان كل جانب يتبرأ من اللوم في خرق المعاهدة ويلقيه على الآخر، وكانت ساعة هائلة يتوقف على نتيجتها سلام العالم، وحقن دماء مئات الألوف من الرجال وسعادة الشعبين أو تعاستهما وخرابهما، وتدمير عمران البلادين في حرب ضروس، لا يعلم نهايتها إلا الله، فكانت نتيجة الجدال اتساع الخرق لسوء الحظ، وعندها قال رجال الوفد الروماني: «إننا نعرض عليكم السلم أو الحرب فأيهما تختارون؟» فأجاب القرطجنيون قائلين: «اختاروا أنتم»، قال الرومانيون: «نختار الحرب إذن، ما دام لا مفر لنا منها»، وانفض المجلس وعاد الوفد إلى رومية.
على أنهم رجعوا بطريق إسبانيا، وكان غرضهم من اتخاذ تلك الطريق المرور بالممالك والقبائل المختلفة في إسبانيا وفرنسا التي يمر فيها هنيبال، عندما يزحف مريدا اجتياح إيطاليا، ومحاولة حملها على نصرة رومية، على أنهم وصلوا متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد أجهد نفسه في مد نفوذه وتأصيل تأثيره في هاتيك الأنحاء، بحيث لا يقوى أحد على أن يفسد ذلك عليه، ومن أجل هذا كانت البلدان التي يجيئها الوفد الروماني طالبا محالفتها ترفضه متعللة معتذرة بمختلف الأعذار.
Page inconnue