Histoire de la pensée arabe
تاريخ الفكر العربي
Genres
6
قرأت بكثير من الإمعان والعجب معا ذلك المقال الذي نشره المقتطف في صدر باب المراسلة والمناظرة في العدد الماضي، والذي تناول فيه كاتبه نقد مقالي أسلوب الفكر العلمي، ولست أعلم إلى أي حد ذهب تأثير الفكرات التي أوردتها في ذلك المقال من نفسه، غير أن الظاهر من أسطر مقاله أن الأثر كان بالغا، على أنه مهما كان يقيني فيما كتبت ثابتا، ومهما كان اعتقادي في صحة ما أرى في أسلوب الفكر العلمي عند العرب راسخا، فإني لا أتوقع مطلقا أن أقنع به رجالا عكفوا على أساليب المدرسة القديمة.
لقد وقف الفكر العربي عند حد النظر الغيبي الممسوس بشيء من الشك في حقيقة الأسباب التي كانت تعزى إليها الظاهرات، وكذلك في مقدرة الفكر الإنساني نفسه على معالجة مشكلات ما كان لنا أن نعيب عليهم أنهم عجزوا عن حلها، ولكن نقرر وبكثير من الاقتناع أن طريقة نظرهم فيها لم تكن لتؤدي بهم إلى الوصول إلى حلها، أفينكر ناقدنا مثلا أن العرب قد بدءوا نظرهم العلمي والفلسفي من حيث نريد اليوم أن ننتهي؟ أينكر أنهم بدءوا بالنظر في الماهيات ابتغاء الوصول إلى غايات الفلسفة والعلم، وأنهم أغفلوا النظر في الظاهرات «الأعراض» وتعليلها لينتهوا منها إلى معرفة ما هي حقيقية الأشياء؟
نمضي قليلا في المقارنة بين الأسلوب الغيبي الذي عكف عليه العرب أو المسلمون أو كما شئت فادعهم، والأسلوب اليقيني الذي وضعه باكون وجرت عليه الفلسفة في العصور الحديثة، خذ مثلا موقف الأسلوبين إزاء الرياضيات؛ فإن العرب كانوا يعتقدون كما اعتقد غيبيو الحكماء، وعلى رأسهم أفلاطون أحد أساتذة العرب الأكرمين، أن دراسة العدد ليس لها من فائدة عملية سوى رياضة العقل على البحث والاستبصار والوصول من طريق هذا البحث إلى معرفة حقائق الموجودات، وتجريد النفس من أدران المادة والتعالي بالفكر إلى ما بعدها، بل إنهم لم يجعلوا لدراسة علم الحساب أو الهندسة من فائدة عملية ما أو إحراز كسب مادي في ضرب من ضروب المعاملات كالتجارة أو الصناعة أو الحاجيات الأولية التي تحتاج إليها الجماعات في العمران، تلك الحاجيات التي لولاها لما كان لدراسة هذه العلوم من وزن يذكر في كل عصور التاريخ، أما لورد باكون فعين لهذه العلوم قدرها بما ينتج من المنافع المادية التي كان يعتقد الأقدميون أنها مرض الإنسانية العضال، وشأن العرب في الهندسة شأنهم في علم العدد، فقد قالوا مجاراة لأفلاطون أو لمن وصلت إليهم كتبه من تلاميذه أو المتخرجين في مذهبه: إن المشتغلين بعلم الهندسة يجب ألا يتذرعوا بها لإحراز المنافع المادية وإلا نبا بهم القصد عن إصابة الغاية منها؛ لأن اشتغال العقل بالماديات يصرفه عن إدراك كنه الموجودات؛ أي ماهياتها أو التوصل إلى معرفة الحقيقة المحضة والخير المطلق، أما المحدثون أصحاب الأسلوب اليقيني فإنهم قالوا بأن الهندسة ليس لها من فائدة إلا بقدر ما تنتج من فائدة مادية في حياتنا العملية، ذلك في حين أنهم لم ينكروا تأثير العلوم الرياضية على الآداب وضروب المعقولات بتة، فوضعوا لآثارها حدودا معينة، إذ قالوا بأن تأثير العلوم الرياضية من الوجهة المعنوية عرضي صرف، وكذلك نجد أن الفرق بين الأسلوبين كبير لدى النظر في علم الفلك، فقد كان القدماء وعلى الأخص المسلمون يعتقدون أن معرفة حركة الأجرام السماوية وكيفية هذه الحركة ليست بذات شأن كبير، ولم يحثوا على الاشتغال بالفلك لما ينجم عنه من المنافع كمعرفة الفصول والمواقيت؛ بل لما ينتج عنه من رياضة النفس على معرفة الحقائق المطلقة، أما الأسلوب الحديث فله في الفلك مآرب أخرى، مبناها المنفعة المادية المنحصرة في استكشاف المستحدثات.
كتب أرسطوطاليس في علم الحيوان وله مباحث عميقة في انقلابه الجنيني؛ وكتب العرب ومنهم الجاحظ في كتابه الحيوان، ومنهم الدميري في كتابه حياة الحيوان «والأكمة في كتابه التذكرة»، ومنهم القزويني في كتابه عجائب المخلوقات، فهل لناقدنا أن ينظر في هذه الكتب ويقارنها بكتاب أرسطوطاليس، وكان من الواجب ألا تغيب عنهم مفصلات ما كتب، ليحكم بعد ذلك علينا أو لنا؟ وليسائل نفسه: لماذا أصبح منطق أرسطوطاليس بين يدي العرب في المنزلة الأولى بعد القرآن، كما كان بين يدي اليعاقبة والنساطرة في المنزلة الأولى بعد التوراة والإنجيل؟ هل ينكر أن السبب في هذا أن المنطق - وعلى الأخص نواحيه الجدلية - أكبر مرض للعقل إذ يكب على الأسلوب الغيبي وأكبر عون لفلسفة الغيبيات في سبيل القضاء على الأسلوب اليقيني؟
أما قاعدة «جرب واحكم» فليس العرب أول من وضعها ولا الإسلاميون أول من اعتنقها؛ فإن أبيقورس وديمقريطس أول من علق عليها في تاريخ الفلسفة على ما بلغ إليه علمي، وليظهر لنا ناقدنا أي باحث من الإسلاميين في الفلك لم يخلط الفلك بالتنجيم وكشف الطوالع؟ وأي كيماوي منهم لم يعكف على تحويل المعادن إلى ذهب؟ وليبين لنا على أية قاعدة حاولوا أن يخرجوا بالعلوم التي ذاعت بينهم من حيز النظر إلى حيز التطبيق؟ فلعلنا على جهل بهذا، ولعله يزيدنا من لدنه علما.
ليس من الصعب أن يتفوه المرء أو يكتب كلمتي «جرب واحكم»، ولكن من الصعب أن يطبق هذه القاعدة، فلو أن مجرد التفوه بشيء مرقاة إليه لأصبح الكلام ثمينا ولأصبحت الكتب أغلى قيمة مما نرى، ولكان الأجدر بها أن تكتز وأن تشترى بأغلى الأثمان كما يقول تيوغينيس، ولكن الواقع نقيض ذلك، فإن «جرب واحكم» شيء عرفه العرب عن اليونان، ولكنهم مع الأسف لم يتخذوا هذه القاعدة أساسا لأبحاثهم العلمية، وقد يكون هناك شواذ، غير أن هذه الشواذ لا حكم لها، ولكني أستطيع أن أقول بكثير من التعيين أن لا شواذ أيضا.
ألم يكتب الرازي في تحويل المعادن إلى ذهب أشياء لا يقبلها العقل ولا تجيزها التجربة ؟ ألم يكتب جابر بن حيان كتاب البدوح في طلسمات تسهل على الوالدات الوضع إذا تعذر عليهن؟ وهما بعد أكبر من عرف العصر العربي من الكيماويين؟ وهل من شيء في هذا العالم هو أحوج إلى التجربة وإلى التخلص من موحيات الأسلوب الغيبي من علم الكيمياء؟ ولماذا أذهب بالناقد بعيدا فما عليه إلا أن يقلب صفحات «تاريخ الحكماء»، وهو من الكتب المعتمد عليها في تاريخ الفلك عند العرب بتحقيق الأستاذ «نلليتو»، ليرينا أي فلكي ممن ذكرهم لم يأت في أول ترجمته أنه «الحاسب المنجم» حتى إذا ما رجعت إلى كتب «الحاسب المنجم» وقعت على أشياء هي أدنى إلى زجر الطير وضرب الحصى ونعيب الغربان وضرب السقاء، منها إلى أي شيء في عالم المعرفة الإنسانية.
والظاهر من كل ما كتب الناقد أنه أخطأ فهم ما نعني بالأسلوب العلمي اليقيني؛ فإنه ترفق في النقد، ولم تأخذه حدة؛ إذ توسل أن نجعل العرب في أول مراقي الدرجة الثالثة؛ أي الدرجة اليقينية من درجات «كونت»؛ ذلك لأن الأسلوب العلمي فكرة أو قاعدة يهتدي بها الإنسان إذ يمضي باحثا وراء الحقائق، إنها ليست شخصا ولا رمزا ولا تمثالا، بل هي طابع تطبع به المدنية، ونحلة ينتحلها الفكر، بحيث تصبح تلك النحلة عامة شاملة، فإذا فرض وظهر في العرب من جرب وحكم، أو إذا فرض وظهر فيهم من استكشف وقرر، فإنما ذلك عمل فردي ذاتي لا يدل على أن ذلك كان للمدنية طابعا، أو كان للفكر العام نحلة وديدنا.
وبعد فلنرجع به إلى السيد الأفغاني، فإننا على ما نحمل له في قلوبنا من الاحترام، لا نبرؤه من العكوف على الأسلوب الغيبي، وهل أتى ناقدنا ذكر رسالة الرد على الدهريين؟ هل أتاه ذكر النقد الذي وجه به إلى«داروين»، معلم القرن التاسع عشر، محاولا أن ينقض مذهبه في النشوء، فلم يجد من قول يدفع به حقائق العلم إلا قوله أن مذهب «داروين» يفضي بالبرغوث لأن يكون فيلا وبالفيل لأن يكون برغوثا؟ وإذا سألته لماذا؟ أجابك: لأن لكليهما خرطوما! ولا أذكر له غير ذلك من تلك الرسالة على ما فيها من فاحش الخطأ وفاضح الخلط، تاركا لناقدي الحرية الكاملة في أن يقدر إلى أية درجة من درجات قانون كونت يبلغ أسلوب الأفغاني في تقرير حقائق العلم.
Page inconnue