Histoire de la pensée arabe
تاريخ الفكر العربي
Genres
السيد جمال الدين الأفغاني هو ذلك الزعيم، وهو لا يمتاز على غيره من زعماء المتدينين بشيء إلا بأنه أراد أن يتخذ من قوة الدين سبيلا للتأثير السياسي، والدعوة السياسية القائمة حول فكرة استقلال الشعوب الإسلامية، وإعداد العدة لمقاومة النفوذ الأوروبي في الشرق الإسلامي.
تعلم السيد جمال الدين الأفغاني منتحيا الأساليب العلمية العتيقة التي عكف عليها العرب منذ القرون الوسطى، فهو بذلك صورة مصغرة أو مكبرة لعصر من العصور البائدة في تاريخ الفكر الإنساني، وهو بنزعته السياسية أشبه الأشياء في عصره بالهياكل الحفرية التي تعيش بيننا بجثمانها وإن رجعت بتاريخها إلى أبعد العصور إيغالا من أحشاء الزمان، لهذا نرجع بأنظارنا إلماما إلى نزعات العرب العلمية التي مثلها السيد الأفغاني في القرن التاسع عشر، لنتخذ من ذلك سبيلا إلى المقارنة والاستنتاج.
والسيد الأفغاني وريث العرب بحق في علومهم وفلسفتهم، وقف من الرقي الفكري حيث وقفوا، ووقف عند النظر الغيبي، فكان في كل ما دبجت يراعته أو تحرك به لسانه مثالا حيا لما اختلط من مباحث آبائه، ولما تناثر خلال كتبهم من مختلف الأبحاث، وما تضمنت مجلداتهم من متنافر الوضع الذي اتصفت به تآليفهم، وحد النظر الغيبي الذي انتهى عنده العرب جدير بإبراز أمثال ما أبرزوا من كتب اختلط فيها العلم بالفن ليخرج من مجموعها فلسفة، هي عنوان على ما بلغ الفكر الإنساني من تهوش وانحلال في القرون الوسطى. •••
إذا كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري في عالم الكون والفساد، فإن قانون «الدرجات الثلاث» الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير «أوغست كونت» لأكبر استكشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية، وأن متابعتنا لشرح هذا القانون لهي النواة التي تدور حولها أبحاثنا، لذلك نتابع الكلام فيه بإيجاز إتماما لفائدة البحث.
إن درس الإدراك الإنساني من كل ناحياته، وخلال كل الأزمان، يدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نستبينه من حقائق النظام الاجتماعي، والتجاريب التاريخية الثابتة، فإن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بد من أن يمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة، الأولى اللاهوتية أو التصورية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية الغيبية أو المجردة، والثالثة اليقينية الإثباتية أو الواقعة، هذا هو قانون الدرجات الثلاث. ويمكننا أن نحصر القول في هذا القانون بأن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاث طرق مختلفة للتأمل من حقائق الأشياء، وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا أنها تتضاد تمام التضاد، من هنا ينتج ثلاثة ضروب من الفلسفة أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير في اكتناء حقيقة الظواهر كل منها تتافي الأخرى، أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق أو البحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة الملموسة، وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية تتوسط بين الأسلوبين.
أما العقل في الدرجة اللاهوتية فإنه يبحث في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة، يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في «المعرفة المطلقة»، وهنالك يفرض أو يسلم بأن كل الظواهر الطبيعية ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تختفي وراء الطبيعة المرئية.
أما في الدرجة الثانية؛ أي في الحالة الميتافيزيقية الغيبية، وهي ليست إلا صورة معدلة عن الدرجة الأولى، فإن العقل يستبدل فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود في نظره، في مستطاعها إحداث مختلف الظواهر، وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظواهر إلا نسبة كل منها إلى مصدره الأول.
أما في الدرجة الأخيرة، وهي الدرجة اليقينية، فإن العقل يكون قد اطرح طريقة البحث العقيم وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظواهر، وألقى بجهوده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها ، هنالك يتحد العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة، فإذا تكلمنا في هذه الحال في تفسير حقائق الكون، فلا نخرج عن إيجاد صلة بين ظاهرة من الظواهر، وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجا بحسب تقدم العلم اليقيني. •••
فإذا نظرت بعد هذا التحليل في ما أبرز العرب من صور الفكر، من علم أو أدب أو فلسفة أو فن، وجدت أن فيها من آثار التخلخل والتشعب ما هو جدير بأن يبرز في عصر عكف فيه الفكر على طريقة الشك الغيبي لم يعدها إلى طريقة التحليل والنقد، ذاعت بينهم مذاهب فلسفية نقلها المترجمون، وجلهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران عن اليونانية، ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية ينسب إليهم ابتكارها، فليس لهم مدرسة تعزى إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن سينا مثلا، بل إن ابن رشد على الأخص لم تصبح له مدرسة تعتنق مذهبه الفلسفي الذي ذهب إليه في تفسير أرسطوطاليس، وتشيد بذكره وتذود عن حياضه، إلا بعد أن انتقلت كتبه إلى جامعات أوروبا في القرون الوسطى، فالمذهب الفلسفي ظل رأيا فرديا عند العرب، وانقلب مدرسة فلسفية في أوروبا عند بدء نهضتها العلمية، بل إن شئت فقل عند بدء عكوفها على الأسلوب اليقيني، ذلك فرق جلي بين درجتين معينتين يمر بهما العقل الإنساني، الدرجة الغيبية والدرجة اليقينية.
وقد يخطئ بعض الناس إذ يقولون: إن للسنيين أو للأشاعرة أو المعتزلين مدارس فلسفية، فإن جماع هذه وما يجري مجراها مذاهب لاهوتية استعانت بالفلسفة وببعض ضروبها دون بعض على بث أفكارها، وقد يصح أن يكون من أفرادها من غلب عليه النظر الفلسفي، فواصل بين عطاء مثلا قد نعتبره مجددا من جهة ما يدعو إليه من حرية الرأي واتباع ما يرشد إليه العقل في النظر العلمي والفلسفي والديني.
Page inconnue