Recherches sur l'histoire des sciences chez les Arabes
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
Genres
ثم ينساق جابر في شرح هذه الموازين الطلسمية في شطط أعجب من العجب، والطلسم هو البعد المؤدي إلى ميزان الحروف الدالة على الطبائع الأربع، ويخبرنا جابر كبرهان على فاعلية علم «الطلسم» أن نعكس اسمه فيصبح «مسلط»، وهذا يدل على قدرته العظيمة في التأثير على الأشياء والكائنات بأساليبه الملغزة التي تتلخص في البحث عن تقابلات الأشياء وتوافقاتها، ليصل علم الطلسم إلى إمكانية تحويل المخلوقات الحية وليس فقط المعادن إلى بعضها البعض، بل ويشرح جابر بعضا من كيفية أو كيفيات هذا التحويل، وأيضا تركيب البشر. كأن نضيف وجه جارية إلى جسم رجل أو عقل شيخ إلى رأس طفل! وتفاصيل العمليات والتجارب المؤدية إلى هذا في كتاب جابر «التجميع»، ودع عنك الآن الروح العلمية، فكيف يقول بهذه الترهات «التجريبية» رجل يدين بالعقيدة الإسلامية التي تحمل كل إنسان - كروح وبدن - المسئولية الكاملة. إن هذه التوصيفات التي يستفيض فيها جابر شارحا ومفسرا ومتجولا بين مذاهب شتى وأساليب تجريبية مختلفة لصنع وتركيب وإعادة تجميع البني آدميين والمخلوقات تبرر الزعم ببعد هندي في تفكيره، هو عقيدة التناسخ ، ولئن كانت تخالف صحيح العقيدة الإسلامية، فقد قيل: إن نفرا من غلاة الشيعة أخذوا بها.
إن علم الطلسم أو ميزان الحروف الدالة على الطبائع الأربع هي منطلق كل هذه الترهات. •••
لكن فكرة الطبائع الأربع التي نشأت عنها جميع الكائنات هي محور كيمياء جابر وعمودها وعمادها، وهي هكذا بالنسبة للكيمياء القديمة بأسرها؛ لذلك كان جابر عميدها، وإذا أخذنا في الاعتبار أن كل مرحلة من مراحل العلم خطوة مؤدية إلى لاحقتها، وجدنا مؤرخي الكيمياء يعتبرون فكرة الطبائع أو العناصر الأربعة هي منطلق علم الكيمياء؛ لأنها نقطة البدء التي تطورت إلى العناصر والمركبات، هذه المواد الأولية التي تتكون منها كل المواد الأخرى.
38
عادة ما تعتبر هذه الفكرة إغريقية، تعود إلى أرسطو الذي أخذها عن الفيلسوف الطبيعي القبل سقراطي أنبادوقليس. لكن الدراسات المحدثة، خصوصا مع العالم الفلكي الأثري «أنتونيادي» أثبتت أن فكرة الطبائع الأربعة ذات أصل مصري، وأخذها الإغريق عن الفراعنة.
39
ثم أخذها بيقين طاغ جابر بن حيان، وكان يسميها أوائل الأمهات البسائط، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، الحرارة والبرودة طبيعتان فاعلتان. أما الرطوبة واليبوسة فطبيعتان منفعلتان، ومن تفاعلهما أزواجا تكونت عناصر أربعة أولية. فانفعال اليبوسة بالحرارة يكون النار، والرطوبة بالحرارة يكون الهواء - أو البخار - واليبوسة بالبرودة يكون التراب - أو الأرض - والرطوبة بالبرودة يكون الماء، وكل جسم لا يعدو أن يكون تجمعا وافتراقا لهذه المواد الأولية الأربع: النار والهواء والتراب والماء، وبنسب متفاوتة، ومن ثم يكون اتصافها بطبائع معينة راجعا إلى غلبة العنصر السائد، لكن العناصر الأربعة، أو الطبائع الأربع مضمرة في كل جسم. مثلا: الحديد ظاهره حار يابس، لكن باطنه بارد رطب، والزئبق ظاهره رطب بارد، لكن باطنه حار ويابس ... وهكذا.
معنى كل هذا أن الأشياء جميعها تشترك في أصل واحد؛ لذلك جاز تحويل بعضها إلى بعض، وهذا هو عمل الطبيعة؛ إذ تحول الأشياء إلى بعضها، على أن الطبيعة بتلقائيتها تستغرق في هذا التحويل آلاف السنين، أما الكيميائي فعن طريق الصنعة (العلم أو الكيمياء)، والتدبير (التقانة أو التكنولوجيا) ... أي بتعمده المتدبر وتجاربه يستطيع إنجاز هذا التحويل في زمن وجيز. على هذا كانت كل كيمياء جابر بن حيان، وكل خيمياء أو كيمياء العصور الوسطى - كما صدرنا الحديث - تدور حول محور أساسي هو محاولة تحويل العناصر إلى بعضها، وبالتحديد تحويل المعادن الخسيسة الرخصة كالنحاس ... والحديد إلى ذهب، وبتحديد أكثر: اكتشاف حجر الفلاسفة الذي يستطيع هذا التحويل إلى ذهب.
ثمة ظواهر عديدة غرت القدامى بإمكانية هذا التحويل، منها أنه بغمس الحديد في كبريتات النحاس يحل الحديد محل النحاس فتنفرد الكبريتات بلونها الأحمر ويترسب النحاس على سطح الحديد، فيتغير لونه ومظهره، أيضا بتسخين كبريتات الرصاص تتصاعد رائحة كبريتية، وتتخلف مادة إذا سخنت في بوتقة مصنوعة من رماد العظام، تظهر كرة صغيرة من الفضة؛ وذلك أن خام كبريتيد الرصاص يحتوي على نسبة ضئيلة من الفضة، وبتسخينه في الهواء يتحول إلى مادتين: غاز ثاني أكسيد الكبريت ذي الرائحة الكبريتية، وأكسيد الرصاص، وبتسخين أكسيد الرصاص في البوتقة يتطاير جزء، ويمتص رماد العظام - لأنه فوسفات كالسيوم - الجزء الباقي، ولا يبقى إلا الفضة.
40
Page inconnue