Recherches sur l'histoire des sciences chez les Arabes
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
Genres
وأخيرا، تجمل الإشارة إلى أن المتجه الإلهي - وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا - فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر الوسيط. فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة إلى آخر المدى، وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية، أيضا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية. قد تحرمه من استقلاله، أما وجوده الموضوعي فكلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلا متعين للقدرة الإلهية. مما يوضح أن العرب أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، لكن كل هذا في إطار تصوراتهم وثوابتهم الحضارية.
وكان التراث العربي الإسلامي تيارا مستقلا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين: المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركب جدلي أشمل، لم يكن محض انتقاء بينهما، أو توفيق لهما مع الشريعة. بل كانت خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي، عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي، وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر.
وأخيرا نرجو لهذا العرض المقتضب أن يكون قد أبان عن مواطن القوة التي خلقت التراث العلمي العربي الزاخر، مثلما أبان عن مواطن الضعف التي تبرر لماذا كان عرضة للتوقف والانحسار بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية.
المبحث الثالث
الأبعاد المعرفية1 لكيمياء جابر بن حيان
لعل الكيمياء - أعرق المناشط الإمبيريقية للإنسان - فرضت عليه التعامل الحي مع المادة واستجوابها والإنصات لشهادة الحواس بشأنها، واستقراء متغيراتها، منذ أن كان لزاما عليه في العهود السحيقة تدبير احتياجاته العملية من قبيل الزجاج والفخار والأصباغ وتقطير الخمور والعطور والأشكال البدائية للعقاقير والأدوية ... كانت هذه البدايات الخام حرفا عملية بلا أساس نظري، ثم اقتربت الكيمياء من الإطار النظري والمنظومة المعرفية المهوشة طبعا، وبدأ التأليف فيها حين استبد بالإنسان القديم الحلم الجامح بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب بغية الثراء السريع، وفي سياق الجهد المشبوب والفاشل لتحقيق هذا الحلم تخلف رصيد هائل من المعارف بشأن طبائع المواد وتحولاتها وعمليات هذا التحويل طبعا مشتت ومبعثر، لكنه قطعا السلف التاريخي للكيمياء الحديثة التي خرجت من أعطاف العلم المعني بتحويل المعادن إلى ذهب - علم الخيمياء أو السيمياء
Alchemy .
2
وسوف نعود مجددا لحلم الذهب، لكن لنلاحظ مبدئيا أنه سيطر على الإنسان سيطرة طاغية أكثر كثيرا من كل ما نتصور، حتى إن إسحاق نيوتن ذاته - أمير الفيزياء الحديثة، وربها بغير منازع، وواحد من أعظم العقول العلمية في تاريخ العلم بأسره، ولعله أعظمها جميعا - ثبت أنه قضى وقتا طويلا في دراسة كل ما كتب في الخيمياء، وأجرى تجارب يحاول بها تحويل المعادن إلى ذهب،
3
Page inconnue