Histoire de Babylone et d'Assyrie
تاريخ بابل وآشور
Genres
ولما فرغ من هذه المعارك وقد اطمأنت البلاد بين يديه ودانت الملوك لشوكته، قفل إلى بابل ومعه الأسرى من كل إقليم وأمة وصرف همه إلى عمارة البلاد فتوفر دخل الدولة خراجا وغلة، وأكثر من المباني المزخرفة والمصانع المشيدة حتى أصبحت بابل منقطعة القرين والثروة والعزة، وقد ذكرها هيرودوطس إثر سياحته في القرن الخامس قبل الميلاد فقال: وبابل مدينة متناهية في الفخامة والجلال لا يتصور أن تحاكيها مدينة في رونق وسعة حضارة، وكان الأسرى والغرباء في عهده يتولون الإمارات والمناصب العالية كما هو جار بين الأتراك لهذا العهد، وحسبنا ثبتا في ذلك أن دانيال اليهودي - عليه السلام - كان وزيرا في بلاط الملك تنفذ كلمته في أمم الكلدان بلا معارض.
وكان بختنصر من أجل الملوك قدرا وأعلاهم همة وأسعدهم طالعا، إلا أنه في آخر مدته غلبت عليه الخيلاء والزهو، وفيما رواه دانيال - عليه السلام - أنه بينا كان في بعض الأيام يختال في قصره تيها وبين يديه بابل يرى عظمتها وفخامتها أخذت من نفسه نشوة الكبر ونزت في رأسه سورة العجب، وقال في نفسه: هذه بابل مقر سلطاني ومباءة مجدي قد شيدتها بقدرتي وعززتها بجلالي، فأي ملك يضاهيني في قوة السلطان وعزة الحول، ولحينه وقع عليه صوت من السماء يقول له: اعلم يا بختنصر أن ملكك هذا سيبتز من يدك، وعن قليل ستكون منفيا من بين أظهر البشر، ويكون أليفك وحش الصحراء، وتأكل العشب كالثيران، وتمضي عليك سبعة أزمنة - كذا - وأنت في هذه الحال حتى تعلم أن الملك لله يؤتيه من يشاء. فلما سمع بختنصر هذه المقالة دهش، واختل عقله، وخرج فهام في الأرض لا يأوي منزلا ولا يألف إنسا حتى انقضى الأجل المضروب له، فثاب إليه رشده وعاد إلى بابل وتسلم أزمة الملك من يد بعل بسروق الذي كان قد ناب عنه في تلك المدة، وملك بعد ذلك سنة ثم أدركته الوفاة لثلاث وأربعين سنة من وفاة أبيه. انتهى ببعض زيادة.
وبعد وفاة بختنصر أفضت نوبة الملك إلى ابنه البكر أويل مرودخ وكان في مدة مرض أبيه قد سجن في محبس يهوياكين ملك يهوذا، فلما استقل بالأمر رفع شأن يهوياكين وأعلى منزلته على سائر من عنده من الملوك الذين أسرهم أبوه وجعل له وظيفة دائمة في بلاطه، وكان أويل مرودخ متفرغا للملاهي قليل الاكتراث بشرائع الأمة حتى روى بيروسوس أنه وطئ بنعله كتاب السنة التي جرى عليها سلفاؤه، فكان ذلك داعية إلى حنق الأمة عليه، فثاروا بأجمعهم يطلبون قتله فظفروا به وقضوا عليه بعد سنتين من وفاة بختنصر، وكان في مقدمة الثائرين عليه نريكليصر بن بعل بسروق المقدم ذكره، وكان صهرا لأويل مرودخ متزوجا بأخته فتسلم الملك من بعده واستقر على سرير بابل، وكان الماديون في ذلك العهد قد اشتدت شوكتهم وتعاظم شأنهم، فحدثته نفسه أن يزحف لقتالهم اقتداء بما فعل الذين سلفوه من ملوك بابل، وأنفذ رجالا من قومه يتجسسون ما عند الماديين ويستبطنون دخلتهم، وأرسل إلى حلفائه من الملوك يسألهم النجدة فأجابوه، ووجه إليه كرسيوس ملك ليدية جيشا كثيفا فنهض يجر جحافله حتى وفد على أرض مادي، وكان الماديون على بينة من قصده، فأرسل كياقصر ملكهم إلى كمبيز ملك فارس، وكانت بينهما مصاهرة أن يوافيه بالعدة والمدد، فوجه إليه ثلاثين ألفا من الجند يقودهم قورش ابنه وانضموا جميعا يتوقعون مقدم نريكليصر، فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالا شديدا، وكان نريكليصر في مقدمة حاميته فأصابه رجل من أتباع قورش بنصل خرق صدره فخر لساعته صريعا وانفض جيشه وتتبعهم جيش مادي، فمزقوهم كل ممزق وعادوا عنهم بالأسرى والغنائم وكان ذلك سنة 555.
وملك بعد نريكليصر ولد له اسمه لبورسرخد وكان صبيا دون البلوغ، فعبث بالملك وقتل جما غفيرا من كبراء دولته ونبلاء عصره لغير جريرة أو لبدوات صبيانية، حتى قيل إنه قتل ابن قائد جيشه لأنه أصاب في الصيد طيرا لم يصبه هو، ولما سئم الكلدان أمره تمالئوا عليه وخلعوه لتسعة أشهر من ملكه وبايعوا مكانه ملكا آخر اسمه نبونيدس من أعقال بختنصر، وكان قورش الفارسي في تلك الأثناء قد أغزى إلى أكثر الممالك بآسيا، فألحقها بسلطنته، ولم يبق إلا بابل فتقدم إليها بجيشه المنتصر سنة 538 وأقام الحصار على سورها الداخلي المحدق ببورسيبا، ففوض نبونيدس إمرة الجيش إلى ابنه بلطشصر، وأقامت المدينة تحت الحصار ما شاء الله إلى أن رأى قورش أن لا سبيل إلى أخذها عنوة، فعاد إلى استنباط الحيلة، حتى إذا كان في ليلة عيد للكلدان وقد اشتغلوا بالملاهي والشراب، دخل المدينة من ماء الفرات، فلم يشعر الناس إلا وأسلحة قورش تتخطفهم من كل جانب فقتل بلطشصر ونجا أبوه إلى بلاد الكرمان، فقضى غابر حياته هناك، ومذ ذاك اضمحلت كلمة الكلدان فلم يعقد لهم ملك ولم تثبت لهم جماعة.
Page inconnue