مقدمة في الأدب
الباب الأول
1 - في تعريف اللغة ونشأتها
2 - في تاريخ اللغة العربية
3 - في أول كتاب بلغة العرب
4 - في السنة أو الأحاديث النبوية
5 - في جواز الاستشهاد بالقرآن والحديث في علوم الأدب
6 - في بعض ما اشتهر من كتب اللغة
الباب الثاني
1 - في تعريف الكتابة
2 - في تاريخ الخط العربي
3 - في الحروف ونقطها
4 - في علوم الخط
الباب الثالث
1 - في تعريف الشعر وفنونه ووجه تعلمه
2 - في تاريخ الشعر
3 - فيما يتبع الشعر
4 - في دواوين الشعر
الباب الرابع
في تاريخ العروض والقافية
الباب الخامس
1 - في تعريف النحو والصرف والاشتقاق
2 - في تاريخ النحو بالمعنى العام
الباب السادس
المعاني والبيان والبديع
الباب السابع
في تاريخ المحاضرات
الباب الثامن
1 - في تعريف الإنشاء ووجه تعلمه وأنواعه
2 - في تاريخ الإنشاء
3 - في شذرات من منشآت السلف والخلف
4 - فيما اشتهر من كتب الإنشاء
حياة المؤلف
مقدمة في الأدب
الباب الأول
1 - في تعريف اللغة ونشأتها
2 - في تاريخ اللغة العربية
3 - في أول كتاب بلغة العرب
4 - في السنة أو الأحاديث النبوية
5 - في جواز الاستشهاد بالقرآن والحديث في علوم الأدب
6 - في بعض ما اشتهر من كتب اللغة
الباب الثاني
1 - في تعريف الكتابة
2 - في تاريخ الخط العربي
3 - في الحروف ونقطها
4 - في علوم الخط
الباب الثالث
1 - في تعريف الشعر وفنونه ووجه تعلمه
2 - في تاريخ الشعر
3 - فيما يتبع الشعر
4 - في دواوين الشعر
الباب الرابع
في تاريخ العروض والقافية
الباب الخامس
1 - في تعريف النحو والصرف والاشتقاق
2 - في تاريخ النحو بالمعنى العام
الباب السادس
المعاني والبيان والبديع
الباب السابع
في تاريخ المحاضرات
الباب الثامن
1 - في تعريف الإنشاء ووجه تعلمه وأنواعه
2 - في تاريخ الإنشاء
3 - في شذرات من منشآت السلف والخلف
4 - فيما اشتهر من كتب الإنشاء
حياة المؤلف
تاريخ آداب اللغة العربية
تاريخ آداب اللغة العربية
تأليف
محمد دياب
العلم شيء حسن
فكن له ذا طلب
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمده، علم الإنسان ما لم يعلم، وأصلي على نبيه صاحب الفرقان المحكم، وعلى الآل والصحابة، والتابعين سننه وآدابه.
وبعد؛ فقد أخبرني فيما سلف صديق يعرف الألمانية أن مستشرقي الألمان عنوا بتاريخ آداب لغتنا العربية ؛ فوضعوا فيه كتابا ذا أسفار مطبوعا بلغتهم، وود الصديق لو يؤلف بالعربية مثل هذا الكتاب؛ فلاح بخاطري أن أشق عباب هذا الموضوع الجليل، فسرت في سبيله متجشما الصعاب بضعة أعوام إلى أن اهتديت إلى وضع مؤلف جامع لأشتاته المتفرقة في بطون مئين من أمهات الكتب ذات الاعتبار، وأبدعت فيه ما أبدعت مما لم تلده القرائح فيما غبر أو حضر، وقد شرحت فيه نشأة العلوم الأدبية وسيرها في مختلف العصور، والكتب التي ألفت فيها، وأزمانها وحياة مؤلفيها، وذكرت فصولا من كل فن اقتضاها سير التأليف، وغير ذلك مما يطول بيانه في هذا المقام، ولا أطري على هذا المؤلف بأنه جليل أو مفيد أو لم يسبق النسج على منواله أو أول كتاب في بابه أو ديوان أدب عزيز يضن به المالك، إلى غير ذلك من الدعاوى الواسعة، بل الحكم في هذا موكول إلى المطلعين، والله الهادي إلى الصواب.
محمد دياب
المفتش بالمعارف
قد عرض هذا الكتاب على نظارة المعارف فأرسلته إلى الأستاذ الفاضل الشيخ حمزة فتح الله المفتش الأول لهذه اللغة، فكتب إلى الأمير الهمام صاحب السعادة يعقوب أرتين باشا وكيل المعارف ما نصه:
قد فحصنا «تاريخ آداب اللغة العربية» الصادر لنا بشأنه أمر سعادتكم الشفاهي؛ فوجدناه مودعا من الفوائد العلمية والمحاسن الأدبية ما يشهد لمؤلفه الفاضل بطول الباع وسعة الاطلاع، فلا أقل من أن تتكرم النظارة بشراء جملة نسخ منه بعد طبعه على نفقة مؤلفه مساعدة للعلم وأهله والفضل وذويه، وها هي نسخته عائدة مع هذا. أفندم 18 ذي الحجة سنة 1314ه / 20 مايو سنة 1897م.
الفقير إليه عز شأنه
حمزة فتح الله
وقد سجل هذا في دفاتر الديوان بقلم اللوازم نمرة 406 في 24 مايو سنة 1897م.
مقدمة في الأدب
(1) أدب النفس
الأدب: تحلي النفس بالفضيلة، ومظهر ذلك جميل الفعل وحسن القول، قال الشاعر الفزاري:
أكنيه حين أناديه لأكرمه
ولا ألقبه والسوأة اللقبا
كذاك أدبت حتى صار من خلقي
أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
ولذا أطلقوه على آثاره فقالوا إنه استعمال ما يحمد قولا وفعلا، أو هو الوقوف مع المستحسنات، أو هو أن تعظم من فوقك وترفق بمن هو دونك.
وأصل الأدب: الدعاء، ومنه قيل للوليمة يدعى إليها: مأدبة. (2) أدب الدرس
ولما كانت علوم اللسان في صدر الإسلام لها العناية القصوى في أخذ الناس بها، وكانت أعظم وسيلة آدبة إلى تزكية نفوسهم؛ أطلقوا عليها اسم «الأدب» وأضافوها إليه، فقالوا: علوم الأدب أو علم الأدب. قال ابن عباس: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، ومن علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل. وقال والد لابنه: حبب إلى نفسك العلم حتى ترأمه، ويكون لهوك وسكوتك. والعلم علمان: علم يدعوك إلى آخرتك فآثره على ما سواه، وعلم لتزكية القلوب وهو جلاؤها وهو علم الأدب، فخذ بحظك منه. وقال الإمام المطرزي: الأدب الذي كانت تعرفه العرب هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم. قال الغنوي:
لا يمنع الناس مني ما أردت ولا
أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على تسمية العالم بالشعر أديبا وعلوم العربية أدبا. ا.ه. باختصار.
وقد يطلق الأدب على الملكة التي يكتسبها ممارس هذه العلوم فيقتدر بها على رواية أشعار العرب وأمثالهم وأخبارهم ونوادرهم، وعلى إجادة قرض الشعر وكتابة الإنشاء؛ فيكون بذلك أديبا، وكانوا يصنفون لهذا الغرض مصنفات جامعة لما عساه تحصل به هذه الملكة من أشعار وأخبار وأمثال ومسائل لغوية ونحوية مبثوثة في أثناء شرح ذلك. وقد قالوا إن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين؛ وهي: «أدب الكاتب» لابن قتيبة المتوفى سنة 270 للهجرة، و«الكامل» للمبرد المتوفى سنة 285، و«البيان والتبيين» للجاحظ المتوفى بالبصرة سنة 255، و«النوادر» لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها، وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.
وقد أنهى العلماء علوم الأدب إلى ثلاثة عشر؛ وهي: متن اللغة، وكتابة الحروف أو الخط، وقرض الشعر، والعروض، والقافية، والنحو، والصرف أو علم الأبنية، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، والتاريخ أو المحاضرات، وإنشاء النثر. وبعض يسقط البديع ويجعله ذيلا لعلمي المعاني والبيان. وقد نظمت أسماءها غير مراع هذا الترتيب، فقلت:
لغة وشعر ثم قافية
نحو عروض ثم إنشاء
وكذا اشتقاق ثم أبنية
خط بديع فيه آراء
وبيان معنى مع محاضرة
أدب له شرح وأنباء
وسأبسط القول على تاريخ هذه الفنون باذلا جهد المستطيع في بيان نشأة كل فن، وأدوار سيره، وترقيه مع العصور والأجيال، وهذا في ثمانية أبواب.
الباب الأول
في تاريخ اللغة
الفصل الأول
في تعريف اللغة ونشأتها
اللغة من حيث هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ فاللغة العربية ألفاظ يعبر بها العرب عن المعاني المرادة لهم، وما يبين الألفاظ ومعانيها يسمى «متن اللغة». ومن ذلك: «القاموس». وقال ابن الحاجب: «حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى.» وفي «كشف الظنون»: علم اللغة؛ علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيئاتها الجزئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي، وعما حصل من تركيب كل جوهر، وهيئاتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية، وغايته الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية، والوقوف على ما يفهم من كلمات العرب، ومنفعته الإحاطة بهذه المعلومات وطلاقة العبارة وجزالتها والتمكن من التفنن في الكلام، وإيضاح المعاني بالبيانات الفصيحة والأقوال البليغة. فإن قيل: علم اللغة عبارة عن تعريفات لفظية، والتعريف اللفظي من المطالب التصورية، وحقيقة كل علم مسائله وهي قضايا كلية والتصديقات بها وأيا ما كان فهي من المطالب التصديقية؛ فلا تكون اللغة علما. أجيب بأن التعريف اللفظي لا يقصد به تحصيل صورة غير حاصلة كما في سائر التعاريف من الحدود والرسوم الحقيقية أو الاسمية، بل المقصود من التعريف اللفظي تعيين صورة من بين الصور الحاصلة؛ ليلتفت إليه ويعلم أنه موضوع له اللفظ، فمآله إلى التصديق بأن هذا اللفظ موضوع بإزاء ذلك المعنى؛ فهو من المطالب التصديقية. لكن يبقى أنه حينئذ يكون علم اللغة عبارة عن قضايا شخصية حكم فيها على الألفاظ المعينة المشخصة بأنها وضعت بإزاء المعنى الفلاني، والمسألة لا بد وأن تكون قضية.
واختلف في نشأة اللغة: أهي من الأوضاع الإلهية؟ أم من الموضوعات البشرية ؟ (1) فذهب ذاهب إلى أنها توقيف وإيحاء من الله. (2) وذهب آخر إلى أنها مواضعة وتواطؤ من الناس. (3) وقال ثالث: إنها مأخوذة من الأصوات المسموعات كزفيف الريح، وحفيف الطائر، وخرير الماء، وجعجعة الرحى، وأز القدر، وصهيل الفرس، ونعيق الغراب، وبغام الظبية، ومواء الهر، وخشخشة السلاح، وصلصلة الحديد ... وغير ذلك مما يطول تعداده. ولما اختلف اعتبار الصوت عند السامعين تولدت ألفاظ متقاربة النطق لمدلول واحد: كغطيط النائم وخطيطه، وقهقهة الضاحك وقرقرته وكركرته، وكالشخشخة والخشخشة وكالطنطنة والدندنة. ويمكن الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال المتضاربة الظاهر، وذلك بأن يلقي الله في صدور بعض خلقه علوما بديهية بأخذ أسامي الأشياء من أصواتها الساذجة، ثم يحرك نفوسهم إلى الاصطلاح والتواطؤ على التسمية؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم، وألفاظهم الموضوعة يتناقلها قوم، ويزيد فيها آخرون وهكذا حسب ما تقتضيه ضرورات التخاطب. وصاحب القول الثالث يقول: إن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع. (1) المناسبة بين الألفاظ ومعانيها
في «المزهر»: وقد كاد أهل اللغة يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، قال الخليل: «كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة؛ فقالوا: صر، وفي صوت البازي تقطيعا؛ فقالوا: صرصر». وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة؛ نحو: الغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات الأمثال حركات الأفعال. وقال ابن جني: وقد وجدت أشياء كثيرة من هذا النمط؛ من ذلك: المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير والزعزعة؛ نحو: القلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والقرقرة. والفعلى تأتي للسرعة؛ نحو: الجمزى والزلقى. ومن ذلك: الخضم لأكل الرطب، والقضم لأكل اليابس، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، وغير هذا. وفي «الجمهرة»: الخنن في الكلام أشد من الغنن، والخنة أشد من الغنة، والأنيت أشد من الأنين، والرنين أشد من الحنين، والعطعطة تتابع الأصوات في الحرب وغيرها، والغطغطة صوت غليان القدر وما أشبهها، والجمجمة أن يخفي الرجل في صدره شيئا ولا يبديه، والحمحمة أن يردد الفرس صوته ولا يصهل، والقبص الأخذ بأطراف الأصابع، والقبض الأخذ بالكف كلها. وقال الأصمعي: من أصوات الخيل: الشخير، والنخير ، والكرير؛ فالأول من الفم، والثاني من المنخرين، والثالث من الصدر. والهتل من المطر أصغر من الهطل. ومن ذلك: المد والمط؛ فإن فعل المط أقوى؛ لأنه مد وزيادة جذب فناسب الطاء التي هي أعلى من الدال. وفي «فقه اللغة» للثعالبي: النقش في الحائط، والرقش في القرطاس، والوشم في اليد، والوسم في الجلد، والوشي في الثوب. وقد قالوا: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ من ذلك ما حكاه الزمخشري عن نفسه قال: اجتزت يوما بساحل البحر فرأيت رجلا أعرابيا فسألته عن مركبين؛ صغير وكبير، فسألته عن اسم الكبير، فأشار إلى الصغير وقال: أليس هذا الشقدف؟ فقلت: بلى. فقال: فهذا الشقداف! فانظر إلى بديع مناسبة الألفاظ لمعانيها، وكيف فاوتت العرب في هذه الألفاظ المقترنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخف عملا أو صوتا، وجعلت الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر لما هو أقوى عملا وأعظم حسا! ا.ه. بتصرف.
السبب في وضع الألفاظ
وفي «المزهر» أيضا: وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السبب في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحده لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد له من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب، كحركات أو إشارات أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأفيدها وأعمها الألفاظ؛ أما أنها أيسر فلأن الحروف كيفيات تعرض لأصوات عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلف اختياري؛ وأما أنها أفيد فلأنها موجودة عند الحاجة، معدومة عند عدمها؛ وأما أنها أعمها فليس يمكن أن يكون لكل شيء نقش، كذات الله تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكون لكل شيء لفظ، فلما كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعم صارت موضوعة بإزاء المعاني.
لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ
قال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه: لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ؛ لأن المعاني التي يمكن أن تعقل لا تتناهى، والألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف، والحروف متناهية ، والمركب من المتناهي متناه، والمتناهي لا يضبط ما لا يتناهى، وإلا لزم تناهي المدلولات، قالوا: فالمعاني منها ما تكثر الحاجة إليه فلا يخلو عن الألفاظ؛ لأن الداعي لوضع الألفاظ لها حاصل والمانع زائل فيجب الوضع، والتي تندر الحاجة إليها يجوز أن يكون لها ألفاظ وألا يكون. ا.ه.
ولم تجئ اللغة مرة واحدة، بل جاءت تباعا سائرة مع الاجتماع الإنساني، وكانت مركبة في الأصل من مقاطع ساذجة؛ أي كلمات غير متصرفة ولا متغيرة الأواخر ينطق بها دفعة واحدة مشابهة لأصوات الأشياء المنقولة عنها، وكانت تستعمل أسماء وأفعالا في آن واحد ويعين المراد منها سياقها في الكلام وقرينة الحال. ثم دخل في أبنية هذه الكلمات حروف زوائد للدلالة على اختلاف المراد، وترقت شيئا فشيئا في التصرف وتغير الأواخر إلى أن بلغت ما بلغت من الكمال. وكانت اللغة كما قيل واحدة قبل تفرق بني آدم في أرجاء البسيطة وأقاصيها، فلما تفرقوا اختلفت لهجاتهم لاختلاف طبائع الأقاليم التي سكنوها، فإن كل إقليم له مشاهدات ومسموعات ومؤثرات خاصة به؛ ومن هذا نشأ اختلاف اللغات.
الفصل الثاني
في تاريخ اللغة العربية
بعد هذا الانتشار تناسل ممن استوطن جنوب آسية الغربي قبائل العرب العاربة عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وأميم وجاسم، فكان لسانهم العربية القديمة إلى أن جاء يعرب بن قحطان من ولد أرفخشذ بن سام وغلب عادا على اليمن، فاعتدل لسانه من السريانية إلى العربية؛ ولذا يقال: إنه أول من تكلم بالعربية؛ أي من ولد أرفخشذ ذوي اللسان السرياني، وسمي بنو قحطان بالعرب المتعربة، ونشأ عن ذلك عربية حمير. ولما انتقل منهم إلى الحجاز جرهم الثانية تعلم منهم إسماعيل - عليه السلام - العربية، وكان لسان أبيه إبراهيم عبرانيا أو عبريا؛ ولهذا سمي بنو إسماعيل ب «بالعرب المستعربة». وروي: أول من فتق لسانه بالعربية المتينة إسماعيل. (1) مقارنة ألفاظ عربية بأخرى عبرية
والعبرية قريبة من العربية بقدر قرب اللفظين؛ فيقولون في رأس: «روش»، وفي عين: «عاين»، وفي أذن: «أوذن»، وفي يد: «ياد»، وفي رجل: «رغل»، وفي أسبوع: «شابوع »، وفي ساعة: «شاعا »، وفي أرض: «أرص»، وسماء: «شمايم»، وفي كوكب: «كوخاب»، وفي كرم: «كيريم»، وفي زيتون: «زايت»، وفي أكل: «أخال»، وفي ذبح: «ذاباح» ... وغير ذلك كثير يكاد ألا يحصى، وربما اتحد اللفظ في اللغتين: كالحانوت، واليوم.
ورأيت في «الوسيلة الأدبية» ما نصه بالحرف: «وحكى صاحب «المثل السائر» أنه ورد في بعض سياحته مصر فلقي رجلا من بني إسرائيل عالما فجرى بينهما ذكر اللغة بالفصاحة والملاحة، فقال اليهودي: كيف لا تكون فصيحة مليحة وهي منتخبة من اللغات؟! ومثل لذلك بلفظ «الجمل»، فقال: إنه كان بالعبرانية «كوميلا»، فغير إلى ما سمعت فصار عذبا وفصيحا.» وأقول: إني سمعت من بعض اليهود العارفين بالعبرية أن الجمل يسمى «جمال»، فيكون الفرق بينهما الألف بعد الميم، وأنكر تسميته «كوميلا»، إلا أن هذا يقرب من اسمه بالرومية.
وفي قرب اللغتين وسبق العبرية على العربية دليل على أن الثانية تهذيب للأولى.
وتناسل من إسماعيل جيل عظيم كانوا شعوبا وقبائل اختلفت لهجاتهم مع رجوع الكل إلى العربية، ونشأ عن ذلك أن يقال: لغة تميم، لغة هذيل، لغة قيس، لغة طيئ، لغة قريش، وغير ذلك. (2) اختلاف لهجات القبائل
وهذه العربية المختلفة اللهجات مخالفة أيضا للهجة حمير وقبائل اليمن، وهذا الاختلاف قد يكون بإبدال حركة بأخرى: (1) ككسر أحرف المضارعة في لغة بهراء، فيقولون في نسمع ما تقول: «نسمع ما تقول» ويسمى هذا «تلتلة»، وهي شائعة في لسان أهل مصر، ما عدا الهمزة فإنهم ينطقون بها مفتوحة. (2) وككسر الكاف في نحو: عليكم وبكم في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب، ويسمى هذا «وكما». (3) وككسر الهاء في نحو: منهم وعنهم وبينهم في لغة كلب، مع أنه لم يكن قبلها كسرة ولا ياء، ويسمى هذا «وهما».
وقد يكون بإبدال حرف بآخر: (1) كإبدال الهمزة التي في أول الكلمة عينا في لغة تميم وقيس، فيقولون في أراق الدم: «عراق الدم»، ويسمى هذا «عنعنة»، ويظهر أن هذا ليس خاصا بالهمزة الأولى؛ فإنه جاء كثأ وكثع اللبن، والكثأة والكثعة وموت ذؤاف وذعاف وغير ذلك. والفرنج يبدلون العين بالهمزة فيقولون في علي : «ألي». (2) وكإبدال الحاء عينا في لغة هذيل فيقولون في حتى حين: «عتى عين» ويسمى هذا «فحفحة». والفرنج يبدلون الخاء بالهاء، فيقولون في أحمد: «أهمد». (3) وكإبدال العين الساكنة المتلوة بالطاء نونا في لغة سعد وهذيل والأزد وقيس والأنصار، فيقولون في أعطاه: «أنطاه»، ويسمى هذا «استنطاء»، وهو شائع الآن في لغة أعراب مصر. (4) وكتبادل الباء والميم في لغة مازن، فيقولون في ابني في مكة: «امني في بكة»، وفي يرمي من كثب: «يرمي من كثم»؛ أي من قرب. وفي كتاب: «مميزات لغات العرب» لصديقنا الفاضل حفني بك ناصف ما نصه:
وأهل مديرية الدقهلية وبعض الغربية يبدلون هذا الإبدال، ولكن لا في كل المواضع، بل يبدلون الباء الساكنة إذا تلاها نون؛ فيقولون: «يا امني، الجمنة وقعت على التمن»؛ أي: يا ابني، الجبنة وقعت على التبن. وقسم ديروط من أسيوط يبدلون الميم باء في بعض الكلمات، فيقولون: «اقعد بكانك»؛ أي مكانك. (5) وكإبدال كاف المخاطب سينا مهملة، وكاف المخاطبة شينا معجمة في لغة ربيعة ومضر، فيقولون في منك: «منس»، ومنك: «منش»، وتظهر فائدة هذا عند الوقف، ويسمى الأول: «كسكسة»، والثاني: «كشكشة». (6) وكإبدال الكاف شينا مطلقا في لغة اليمن؛ فيقولون في كلمني كلاما فأورثني كلاما: «شلمني شلاما فأورثني شلاما»، ويسمى هذا «شنشنة». (7) وكإبدال لام التعريف ميما في لغة حمير؛ فيقولون في القمر والشمس: «امقمر وامشمس» ويسمى هذا: «طمطمانية». (8) وكإبدال السين تاء في لغة اليمن أيضا؛ فيقولون في الناس: «النات»، ويسمى هذا «وتما». (9) وكإبدال الجيم من الياء المشددة أو المخففة أو المفتوحة في لغة قضاعة.
فالأول نحو:
خالي عويف «وأبو علج»
المطعمان اللحم في «العشج»
أي: أبو علي، والعشي.
والثاني نحو:
لاهم إن كنت قبلت «حجتج»
فلا يزال ساجح يأتيك «بج»
أي: حجتي، وبي. والساجح: السريع من الدواب.
والثالث نحو:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا
أي: أمسيت وأمسيا.
ويسمى هذا «عجعجة» وفي العجعجة كلام غير هذا. والترك يجعلون «جي» بدلا من ياء النسب في نحو: «مخزنجي».
وقد يكون بالحذف نحو: حب، واستحى، في: أحب، واستحيا .
وقد يكون بإمالة الألف نحو الياء في لغة عامة نجد؛ فيقولون في: هوى وغوى: «هوى وغوى».
وقد يكون بتغيير نحو: رضي وبقي إلى: «رضى وبقى» في لغة طيئ.
وقد يكون بتخفيف الهمزة نحو: كأس، وبئر، وشؤم في لغة تميم؛ فيقولون: «كاس، وبير، وشوم».
التضاد
وقد يكون بإطلاق اللفظ على ما يباين معناه، كإطلاق الجون وهو الأسود على الأبيض، وكإطلاق الوثب على القعود في لغة حمير، روي في أصل المثل «من دخل ظفار حمر» أن أعرابيا دخل على ملك من ملوك حمير، فقال له الملك: «ثب» يريد اقعد بلغته، فوثب الأعرابي، فسأل الملك عن ذلك، فقيل له: إن الوثب بلغة العرب هكذا، فقال: أما إنه ليست عندنا عربيت «من دخل ظفار حمر» أي: تكلم بلغة حمير؛ يضرب لمن يدخل في القوم فيأخذ بزيهم؛ ومن هذا نشأ التضاد في اللغة.
الترادف
وقد يكون بإطلاق لفظ آخر على معنى واحد؛ كإطلاق الحوجم على الورد، روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وقعت من يده سكين، فقال لأبي هريرة: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: نعم. فقال: أوتسمى عندكم سكينا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ. وكان أبو هريرة من قبيلة دوس. ومن هذا نشأ ترادف الألفاظ في اللغة.
اشتراك المعاني في لفظ واحد
وأما اشتراك المعاني في لفظ واحد فيظهر أن ليس منشؤه اختلاف القبائل، فإننا لو قلنا بلغة واحدة عامة لزم فيها وجود الاشتراك؛ لأن الأشياء التي تستحق التسمية غير متناهية والأسماء متناهية لتركبها من الحروف المتناهية. ومن الاشتراك: النوى في الدار والنية والبعد والغروب في قوله:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى
إذا رحل الجيران عند الغروب (1)
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا
ودمع عيني كفيض الغروب (2)
بانوا وفيهم طفلة حرة
تفتر عن مثل أقاحي الغروب (3)
يريد: (1) غروب الشمس. (2) والدلاء العظيمة. (3) والوهاد المنخفضة.
توجه العرب إلى توحيد لغات القبائل
ولاختلاف لهجات القبائل أرادت العرب أن توحد اللغة وتهذبها؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم بلسان عام، فكانوا يقيمون لذلك حول مكة أسواقهم الشهيرة كسوق عكاظ وذي المجاز ومجنة، ويتناشدون الأشعار ويلقون الخطب ويتبارون في ميادين الفصاحة، ويستقضون قضاة يرضون عنهم ليفصلوا بينهم فيما يختلفون فيه، فكان القضاة يفضلون من رقت عبارته أوج الفصاحة والبلاغة على غيره، ويتخيرون من الألفاظ المترادفة على معنى واحد ما قبله السمع، ويهجرون منها ما مجه الطبع؛ فلهذا كان الشاعر أو الخطيب يبذل مجهوده في أن تكون ألفاظ قصيدته أو خطبته فصيحة مألوفة لكل القبائل، فبهذا فصحت اللغة وخلصت من شوائب الغرابة والوحشة. ولنذكر مثالين لما وصلت إليه اللغة من درجة الفصاحة والبلاغة:
خطابة أكثم بن صيفي أمام كسرى
الأول:
قام أكثم بن صيفي بين يدي كسرى، فقال:
إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، والصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء، وآفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور منقبة الصبر، وحسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، وإصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، ومن فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، وشر البلاد بلاد لا أمير لها، وشر الملوك من خافه البريء، وخير الأعوان من لم يراع الصحبة، وأحق الجنود من حسنت سيرته، ويكفيك من الزاد ما بلغك المحل، وحسبك من شر سماعه، والصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة في الإيجاز. من شدد نفر، ومن تراخى ألف.
فتعجب كسرى من أكثم وأمثاله.
خطابة قس بن ساعدة في سوق عكاظ
والثاني:
خطب قس بن ساعدة في سوق عكاظ فقال:
أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحر يمور.
أما بعد؛ فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون؟ أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا كما هم فناموا؟!
في الذاهبين الأولي
ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا
يبقى من الباقين عابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر
فصاحة لغة قريش
وكانت لغة قريش - وهم سكان مكة وضواحيها - منتهى هذا الترقي؛ ففاقت غيرها فصاحة وصراحة، يشهد لذلك ما رواه الأصمعي، وهو: «قال معاوية: أي الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم ارتفعوا عن فراتية العراق، وتياسروا عن كسكسة بكر، وتيامنوا عن كشكشة تغلب، ليست فيهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قومك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت. قال: فممن أنت؟ قال: من جرم.» قال الأصمعي: وجرم فصحاء العرب. (3) الدخيل في لغة العرب من الألفاظ
اعلم أن من العرب قبل الإسلام من كان تابعا للفرس؛ كآل المنذر ملوك الحيرة، ومن كان تابعا للروم كآل غسان ملوك الشام. وكان الفرس والروم في ذلك العصر السالف ذوي السلطان وعلو الشأن، فقضى حكم التبع والاختلاط على العرب أن يستعملوا في كلامهم ألفاظا فارسية ورومية مع تغيير فيها إذا اقتضاه منهاج لغتهم، كما دخل في لغتهم من قبل ألفاظ سريانية وحبشة وهندية.
فمن الفارسية:
الإبريق والإستبرق والإسفيداج.
1
والبنفسج والبلور والتنور والجرة والجلنار والخوان والخز والديباج والديوان والرسن والزنديق والسكرجة.
2
والسندس والسوسن والشطرنج والشهر والصندل والطبق والطشت والعنبر والفالوذج والفيروزج والقرفة والقرنفل والكافور والكرويا والمسك والنرجس والنسرين.
3
والياسمين والياقوت.
ومن الرومية:
الأسطرلاب والإسفنط
4
والبستان والبطاقة والبطريق والترياق والخندريس والخوخ والسجنجل والصراط والفردوس والقسطاس والقسطل والقنطار والقنطرة.
ومن السريانية:
البرنسا والتامور والترعة والرباني والطور واليم.
ومن الهندية:
أوج معرب أود، ومعناه العلو.
ومن الحبشية:
المشكاة، وحار يحور، بمعنى رجع يرجع.
تقسيم الأسماء الأعجمية إلى ثلاثة أقسام
قال أبو حيان: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسم غيرته العرب وألحقته بكلامها؛ فحكم أبنيته في اعتبار الأصلي والزائد والوزن، حكم أبنية الأسماء العربية الوضع؛ نحو: درهم وبهرج. وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها؛ فلا يعتبر فيما يعتبر في القسم الذي قبله؛ نحو: آجر. وقسم تركوه غير مغير . فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم لم يعد منها، وما ألحقوه عد منها، مثال الأول: خراسان لا يثبت بها فعالان، ومثال الثاني: خرم ألحق بسلم وكركم ألحق بقمقم.
الاشتقاق من اللفظ الأعجمي
العرب تأخذ اللفظ العجمي وتتصرف فيه كما تتصرف في اللفظ العربي، كقول علي رضي الله عنه: «مهرجوا لنا كل يوم»، من «المهرجان»، وقولهم: تطلس من «الطيلسان»، وتقرطق من «القرطق»، ودبج من «الديباج»، ودون من «الديوان»، وعلى هذا إذا وجد من اللفظ فعل فلا يكون الفعل شاهدا على أن اللفظ عربي كما زعم ذلك بعض. (4) ألفاظ إسلامية وألفاظ اصطلاحية
ما نطقت به العرب من الألفاظ زمن الجاهلية هو المعتبر عربية صحيحة، سواء كان أصيلا أو دخيلا.
وأما ما حرفوه وأدخلوه في لغتهم بعد الإسلام لضرورة اختلاطهم بمغلوبيهم من الأمم؛ فليس من العربية الصحيحة. لكن لما جاءت الشريعة الإسلامية ونسخت ديانات العرب، وكثيرا من آدابهم وعاداتهم، وجاءت بآداب وأحكام إلهية جديدة، تركت ألفاظ وخصصت ألفاظ بعد أن كانت عامة، ونقلت ألفاظ من معانيها الأصلية إلى معان أخر مناسبة لها.
فمن المتروك قولهم للملك: «الرب»، وفي تحيته: «أبيت اللعن»، وقولهم: «أنعم صباحا وأنعم ظلاما»، وقولهم: «حجرا محجورا» عند الاستعاذة ممن يخشى منه، أو عند إرادة حرمان السائل، وقولهم: «المرباع والنشيطة والفضول».
5
ألفاظ إسلامية
ومما جاء به الإسلام: «الوضوء والتيمم والصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والكفر والنفاق»، فإن العرب تعرف: (1) الوضوء من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، فخصص بالعمل المعهود ذي المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين والمسح من الرأس. (2) والتيمم بمعنى القصد والتوخي، قال الأعشى:
تيممت قيسا وكم دونه
من الأرض من مهمه ذي شزن
فصار علما على مسح الوجه واليدين بالتراب بدل الوضوء غير المتيسر. (3) والصلاة بمعنى الدعاء، قال الأعشى:
وصهباء طاف يهوديها
وأبرزها وعليها ختم
وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
أي: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد فخصت بما فرضه الله من الأقوال والأفعال المعهودة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. (4) والصوم: بمعنى الإمساك، قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فخصته الشريعة بإمساك الرجل عن المطعم والمشرب والمباشرة من الفجر إلى الغروب بشرط النية. (5) والحج: بمعنى القصد، قال المخبل السعدي:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة
يحجون بيت الزبرقان المزعفرا
فخص بقصد مكة للنسك. (6) والزكاة من زكا: إذا نما أو طهر، وفي حديث علي: «المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق»، فخصت بما يخرج من المال للمساكين. (7) والإيمان من آمن إذا صدق، قال تعالى:
وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ، فخص بالتصديق بالله ورسوله وما جاء به، قال تعالى:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون . (8) والكفر: من كفره إذا ستره؛ ولهذا كانوا يسمون الزارع بالكافر لستره البذر بالتراب، قال تعالى:
كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ويسمون الليل كافرا؛ لأنه يستر بظلمته كل شيء، قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
وأجن عورات الثغور ظلامها
فأطلق على مقابل الإيمان بالله ورسوله. (9) والنفاق من نافق اليربوع إذا دخل نافقاءه؛ فأطلق على إخفاء الكفر وإظهار الإيمان أو الرياء.
ألفاظ اصطلاحية
وبعد أن توطدت دعائم الإسلام أخذ أهلوه في الحضارة والتقدم، واتسعت دائرة المعارف بالتصنيف في علوم شتى جاءت ألفاظ اصطلاحية في كل علم.
فمن ألفاظ النحو:
الإعراب والبناء والرفع والنصب والخفض والضم والفتح والكسر.
ومن ألفاظ العروض:
الوتد والسبب والخبن والطي والطويل والمديد.
ومن ألفاظ القافية:
الروي والردف والمجرى والرس والمتكاوس والإيطاء.
ومن ألفاظ البيان:
المجاز والاستعارة والكناية والعلاقة والقرينة والترشيح والتجريد.
ومن ألفاظ المعاني:
الفصاحة والبلاغة والخبر والإنشاء والقصر والفصل والوصل.
ومن ألفاظ البديع:
الجناس والاستخدام والافتنان والطباق والتورية والمشاكلة.
ومن ألفاظ المنطق:
التصور والتصديق والجنس والنوع والقضية والشكل والدليل والبرهان.
ومن ألفاظ الهندسة:
الوتر والقوس والدائرة والمحيط والكرة والقطر والمركز. وغير ذلك كثير من العلوم والألفاظ. (5) اللغات العامية
مع كون لغة قريش صارت السائدة على لغات القبائل الأخرى بفصاحتها، وكادت أن تكون لسان التخاطب العام في صدر الإسلام، وبقيت في لسان العلماء والأدباء وبقايا العرب الخلص ومن خالطهم ولم تزل اللسان العام في الكتابة والتدوين والتصنيف أخذت لهجات سكان الأقاليم المتباعدة مع تقادم العهد ودخول الدخيل فيهم صورا من الكلام فاسدة مبدلة عن أصولها بتغيير حركات أو زيادة حروف أو نقص وغير هذا، وصارت هذه الصور المحرفة ملكات راسخة في ألسنتهم يتكلمون بها في سرهم وجهرهم، ويتقاضون بها أغراضهم، وهذه اللهجات هي اللغات العامية كلغة أهل مصر ولغة الشام ولغة الغرب.
اللغة الجامعة
ومع اختلاف هذه اللغات اختلافا ظاهرا حتى يكاد ألا يفهم أهل لغة لغة الآخرين لم يزالوا جميعا يفهمون العربية الصحيحة الصريحة إذا سمعوها أو قرءوها فهي اللغة الجامعة بينهم، والسبب في ذلك أنهم وإن لم يتحاوروا بها تماما فقد تربت آذانهم على سماعها من الصغر إلى الكبر، فإن أولاد المسلمين في الشرق - وهم سواد عظيم إن لم نقل: السواد الأعظم - أول ما يتعلمونه القرآن ويحفظونه أو بعضه، ثم يتعلمون علوم لسانهم ودينهم وأحاديث نبيهم ويحفظون متون ذلك، وكل هذا بصحيح اللغة مكتوب ومقروء، وغير المتعلمين منهم يسمعون القرآن في مآتمهم وأفراحهم وفي منازلهم وحوانيتهم قصد التبرك، ويحفظون من سوره وآياته ما تتم به صلواتهم وكثيرا من الأدعية والأوراد، ويصغون إلى مواعظ الوعظاء وخطب الخطباء، ويتأثرون بما يسمعون ويحضرون دروس العلماء ليتلقوا عنهم ما ينفعهم في دينهم، وهذا كله بالعربية الصحيحة أيضا، فضلا عن كونها لسان الكتابة العام فيما بينهم، بها يكتبون رسائلهم الأهلية ويقرءونها ويسمعونها.
وعربية الرسائل وإن لم تكن صحيحة من كل وجه فليست بالعامية المحضة.
ومن شواهد ما تقدم أننا نرى عامة مصر في سمرهم يصغون وكلهم آذان كأنما فوق رءوسهم الطير إلى راوي قصة عنترة وعربيتها في الجملة صحيحة ولا تخلو من أشعار رقيقة، ويتأثرون عند كل توقيع بما يناسبه؛ فيحزنون عند أسر القائد، ويفرحون بانتصاره كأنهم في ساحة الحرب، ويطربون من سماع أخبار ابنة مالك وما قيل فيها من النسيب وغير هذا.
فكون كتب العلوم والفنون والآداب بالعربية الصحيحة دون لغة العامة ليس حائلا دون تربيتهم وتقدمهم في المعارف، كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين من أهل أوروبا، ومال إلى أن الكتابة إذا كانت باللغة العامية في الشرق كانت أقرب إلى الوصول إلى الغاية من التعلم والتربية. وهذه الفكرة كثيرا ما تخطر بأذهان الفرنج المختلطين بالشرقيين فيتكلمون بعربيتهم العامة، ثم يتعلمون الهجاء العربي ويأخذون في المطالعة، فيحسون أن الكلام المقروء ذو تجويد وإعراب وهيئة لفظية تغاير ما اعتادته ألسنتهم من لهجة العامة فيستصعبون الأمر جدا، ويودون لو يكون المكتوب نفس ما اعتادوا نطقه أولا.
وفاتهم أن لغة التخاطب في كل أمة لا تطابق تماما لسان الكتابة فيها؛ خصوصا في القرى البعيدة عن دوائر التعليم كما هو مشاهد ومسموع، فليس هذا خاصا بالشرق. نعم، درجة التفاوت بين الكلام والمكتوب في مسالك أوروبا تقل عن درجته في ممالك الشرق بسبب أن دائرة التعلم والتعليم في الأولى أوسع منها في الثانية، فإنه كلما سادت المعارف في أمة تقومت ألسنة أفرادها وقربت من الصواب، وكلما تقلص ظلها اعوجت الألسنة وفسدت؛ ولهذا نرى لهجات المتعلمين أقرب إلى الصحة من لهجات الأميين.
فإذا كانت حكومات الشرق تسعى في نشر التعليم بين أرجائه القاصية والدانية كما في الممالك الغربية اعتدل المقول وبعد عن الفضول. (6) ألفاظ أجنبية دخيلة في لغة العامة
دخل في لغة العامة ألفاظ أجنبية كثيرة صقلتها الألسنة وقبلتها الآذان واستعملوها كأنها عربية.
منها: وابور
VAPEUR
وعربوه بالقطار، كأنهم أخذوه من: جاءت الإبل قطارا؛ أي بعضها وراء بعض على نسق، وسماه بعض: بالرتل، وهو حسن تناسق الشيء، وعربية اللفظ الإفرنجي بخار.
ومنها: بوستة
والجرائد تعربها بالبريد، وهو حسن. والبريد في الأصل: البغل، والرسول الحامل للرسائل، والمسافة ذات الأربعة الفراسخ.
ومنها: تلغراف
TELEGRAPHE
وعربوه بالسلك والبرق والسلوك البرقية والإشارة.
ومنها: بروة أو بروفة
EPREUVE
لأول ما يطبع ليقرأ ويصحح أو لصورة الكسوة قبل الخياطة لتختبر، وعربيتها: التجربة والاختبار.
ومنها: تياترو
THEATRE
وعربيتها: ملعب أو ملهى.
مثل هذه الألفاظ كثير متداول على الألسنة، والذي قضى بذلك ضرورة الاختلاط بالأجانب، ويمكن جمع ما جاء من هذا القبيل في معجم خاص به.
الفصل الثالث
في أول كتاب بلغة العرب
إن أول كتاب عربي ملأ الأرض نورا والخافقين علما، وهدى العالمين إلى الصراط السوي بعد الاعتساف في شعاب الغي، فأخرجهم من ظلام الجهالة إلى نور المعرفة، ومن أودية الاختلاف إلى أندية الائتلاف، ومن بحر الغواية إلى بر الهداية، ومن مهوى الشقاوة إلى مرقى السعادة، وكان إماما لحضارة العرب ومدنيتهم، وآما لرأس بداوتهم وخشونتهم، ونبراس لغتهم ومشكاة أدبهم؛ هو القرآن المبين، الذي أنزله الله على نبيه الأمين، فكان الآية الكبرى على نبوته، والحجة البالغة على رسالته؛ إذ تحدى ذوي اللسن أن يأتوا بمثال أو صورة لآية منه أو سورة، فوقفت قرائحهم وعجزت ألسنتهم، واعترفوا بأن الأمر لا تبلغه مكنتهم، وقد نزل القرآن منجما في عشرين سنة على حسب الوقائع مشرعا للأحكام بين الناس.
وقد كتب كله في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مرتب الآيات والسور، لكن غير مجموع في مصحف واحد بل مفرقا في الرقاع والألواح والعسب واللخاف والأكتاف.
1
وكان يحفظه كله أو بعضه كثير من الصحابة، وقد نظم بعضهم أسماء عشرة من القراء في عهده - عليه الصلاة والسلام - فقال:
لقد حفظ القرآن في عهد أحمد
علي وعثمان وزيد بن ثابت
أبي أبو زيد معاذ وخالد
تميم أبو الدرداء وابن الصامت
وكانوا يقرءونه - كما تلقوه عنه عليه الصلاة والسلام - على سبعة أحرف؛ أي لغات أو قراءات.
2
ولما استحر القتل بقراء القرآن يوم اليمامة وقتل منهم سبعون رجلا؛ أمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن من الرقاع المفرقة وصدور الرجال ونسخه في صحف مجموعة من الورق حتى لا يضيع منه شيء، ففعل زيد ما أمر به وبقيت الصحف عند أبي بكر حتى توفي وعند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
ولما خيفت الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في القراءات الواردة حتى كان بعضهم يقول: قراءتي خير من قراءتك؛ أرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلي الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث أن ينسخوها على لغة قريش ففعلوا، وأرسل المصاحف المنسوخة إلى الآفاق ليزول الاختلاف، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا.
والمصاحف التي بأيدينا الآن هي على حسب ما في مصاحف عثمان بن عفان بالضبط والصحة، لم يشبها أدنى تبديل ولا تحريف. (1) إفادة القرآن للناشئين والمنشئين
وفضلا عن كون القرآن الكريم قوام الشريعة، هو مقوم الألسنة والأفئدة؛ فإن الناشئين من المسلمين في العصر الأول وبعده عماد ما يتعلمونه في المبدأ «القرآن»، يحفظونه ويجودون قراءته بضبط الحروف والحركات، فكانت تتقوم ألسنتهم وتعتدل لهجاتهم، فإذا شبوا درسوه وتعرفوا معانيه واتخذوه مادتهم اللغوية ونموذج كتاباتهم الإنشائية، فينبغون في الأدب.
علوم القراءات والتفسير
ولهذا كان مرجع كثير من علوم السلف إلى القرآن؛ فمنهم أئمة تصدوا لبيان كيفيات قراءته وكتابته، ودونوا من أجل ذلك علوم القراءات والتجويد ورسم المصحف، ومنهم آخرون نصبوا أنفسهم لتفسير مفرداته وشرح مركباته وأسباب نزول آيه، وكشف النقاب عن وجوه بلاغته وإعجازه ونحو ذلك؛ ولهذا دونوا علم التفسير ودون غيرهم علوما أخرى مما يطول شرحه. (2) بعض كتب القراءات المشهورة
ومن أشهر كتب القراءات: «التيسير في القراءات السبع» لأبي عمرو الداني، ولد سنة 371ه، وتوفي سنة 444 بدانية الأندلس، ومنظومة حرز الأماني المعروفة «بالشاطبية» من نظم أبي القاسم بن فيره الأندلسي، ولد بشاطبة سنة 538، وتوفي سنة 590 بالقاهرة، وقد عني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين. (3) بعض كتب التجويد
ومن كتب التجويد: «الجزرية» من نظم أبي الخير محمد المعروف بابن الجزري، توفي سنة 833ه.
و«تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن» من نظم الشيخ سليمان الجمزوري، من علماء القرن الثاني عشر. (4) بعض كتب الرسم
ومن كتب رسم المصحف منظومة رائية من نظم أبي القاسم السالف الذكر، تسمى «عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد»، ورسالة تأليف أبي طاهر إسماعيل بن خلف المقري، ولد سنة 554 وتوفي سنة 623.
و«عمدة العرفان في مرسوم القرآن» تأليف السيد محمد النابلي المتوفى في أواخر القرن الثالث عشر الهجري. (5) بعض كتب التفسير المشهورة
ومن أشهر كتب التفسير: «تفسير ابن عباس» المتوفى سنة 68 في الطائف، ويظهر أنه أول تفسير دون، وقد طبع في المطبعة الأميرية في سفر واحد سنة 1290. و«جامع البيان في تأويل القرآن» تأليف الإمام أبي جعفر محمد الطبري، ولد سنة 224 بآمل طبرستان، وتوفي سنة 310 ببغداد، ويوجد منه ثلاثة وعشرون جزءا بالمكتبة الخديوية. وتفسير الإمام الحافظ أبي الليث نصر السمرقندي المتوفى سنة 375. و«غريب القرآن» لأبي بكر محمد السجستاني، توفي سنة 330. و«غريب القرآن» مرتب على حروف المعجم، تأليف الإمام أبي عبيد أحمد الهروي، المتوفى سنة 401. و«مفردات ألفاظ القرآن» تأليف الشيخ أبي القاسم حسين المعروف بالراغب الأصبهاني، كان في أوائل المائة الخامسة. و«الكشاف» للإمام أبي القاسم جار الله الزمخشري الخوارزمي، ولد سنة 467 وتوفي سنة 538 بجرجانية خوارزم، وقد طبع في المطبعة الأميرية سنة 1281 وفي غيرها. و«مفاتيح الغيب» المشهور ب «التفسير الكبير» تأليف الإمام أبي عبد الله محمد الطبرستاني فخر الدين الرازي المعروف بابن الخطيب، ولد سنة 544 وتوفي بمدينة هراة سنة 606، وقد طبع في بولاق سنة 1278، وهو ذو ستة أجزاء. و«تفسير القاضي ناصر الدين البيضاوي» المتوفى بتبريز سنة 685، وقد طبع في الآستانة. و«لباب التأويل في معاني التنزيل» تأليف علاء الدين البغدادي المعروف بالخازن، ولد سنة 670 وتوفي سنة 741 بحلب، وقد طبع سنة 1287 بمطبعة المويلحي. و«ألفية في غريب ألفاظ القرآن» تأليف الشيخ زين الدين الكردي نزيل القاهرة، ولد سنة 725 وتوفي سنة 806. و«تفسير الفناري» شمس الدين محمد الرومي، ولد سنة 751 وتوفي سنة 834، و«تفسير الجلالين» جلال الدين المحلي المولود سنة 791 بمصر والمتوفى سنة 864، وجلال الدين السيوطي المولود سنة 849 والمتوفى سنة 911، وقد طبع في المطبعة الأميرية وغيرها. و«مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» تأليف جلال الدين السيوطي، وقد طبعت في بولاق سنة 1284. و«السراج المنير» تأليف الخطيب الشربيني المتوفى سنة 977، وقد طبع في بولاق في أربعة أجزاء. و«إرشاد العقل السليم» المعروف ب «تفسير أبي السعود»، وقد طبع في بولاق سنة 1289. و «روح البيان في تفسير القرآن» تأليف الشيخ إسماعيل حقي من علماء القرن الثاني عشر، تم تأليفه سنة 1117، وقد طبع في المطبعة الأميرية سنة 1255. و«روح المعاني» تأليف أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي مفتي بغداد، من علماء القرن الثالث عشر الهجري، وقد طبع في بولاق سنة 1301 في تسعة أجزاء. وهذه الكتب توجد هي وغيرها بالمكتبة الخديوية، وما ذكرناه غرفة من بحر. (6) حكم وآداب من القرآن
فضلا عن فصاحة القرآن وبلاغته وتشخيصه صورة لغة العرب، وإفادته مريدي هذه اللغة والمنشئين؛ فإن فيه من الحكم والآداب ما فيه كمال النفوس وتحليها بالفضائل، ولنغترف غرفة من بحر هذه الحكم والآداب، فنقول:
قال تعالى في سورة البقرة:
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ،
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ،
كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ،
وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا ،
ولكم في القصاص حياة ،
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ،
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ،
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ،
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ،
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ،
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ،
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ،
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ،
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ،
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ،
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ،
ولا يضار كاتب ولا شهيد ،
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه .
وفي سورة آل عمران:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ،
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وفي سورة النساء:
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ،
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ،
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ،
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ،
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ،
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ،
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول .
وفي سورة المائدة:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ،
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ،
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ،
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ،
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم .
وفي سورة الأعراف:
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ،
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ،
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .
وفي سورة الأنفال:
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ،
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ،
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ،
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين .
وفي سورة هود:
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار .
وفي سورة الحجر:
فاصفح الصفح الجميل ،
فاصدع بما تؤمر .
وفي سورة النحل:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ،
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ،
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ،
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
وفي سورة الإسراء:
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ،
ولا تزر وازرة وزر أخرى ،
وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ،
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ،
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ،
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ،
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ،
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ،
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ،
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ،
وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ،
ولا تقف ما ليس لك به علم ،
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .
وفي سورة النور:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم .
وفي سورة لقمان:
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير .
سورة الحجرات:
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم * يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم * وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون * يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون * يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم * يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير * قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون * قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم * يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين * إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .
الفصل الرابع
في السنة أو الأحاديث النبوية
ويلي القرآن الكريم في المنزلة السنة أو الأحاديث النبوية من حيث اللغة والإنشاء والحكم والآداب، وكانت الصحابة تحفظها، وإنما كانوا لا يكتبونها خشية اختلاطها بالقرآن. وكان أحفظ الصحابة وأكثرهم حديثا: أبو هريرة، ثم ابن عباس، وأنس بن مالك، وعائشة، وأبو سعيد الخدري، وأبو الدرداء، وابن مسعود، وغيرهم.
وروى الأحاديث عن الصحابة التابعون، وأحفظهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وابن شهاب الزهري، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة، وسعيد بن جبير، وقتادة، والأعمش، وغيرهم، وروى عن التابعين تابعوهم. (1) ابتداء تدوين الأحاديث
وكان ابتداء تدوين الحديث على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز، فإنه كتب إلى الآفاق: «انظروا إلى حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاجمعوه!» ودونه بأمره ابن شهاب الزهري وغيره. «موطأ مالك بن أنس»
وفي عصر أبي جعفر المنصور المتولي الخلافة العباسية سنة 137، صنف الإمام مالك بن أنس «الموطأ» بإشارته، وقد قال الخليفة إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فضع للناس كتابا ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، ووطئه للناس توطئة. قال مالك: والله لقد علمني التصنيف. وكان تصنيف «الموطأ» بالمدينة، وفي هذا العصر وبعده صنف في السنة كثير من الأئمة كل على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه.
وكانت الأحاديث تدون ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوي التابعين وغيرهم، ممزوجا فيها الصحيح بغيره إلى أن جاء: (1) الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، المولود في بخارى سنة 194، وصنف كتابه في الأحاديث الصحيحة خاصة؛ والسبب في ذلك على ما روي عنه أنه قال: «كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ! قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع «الجامع الصحيح»، وقد ألفته في بضع عشرة سنة.» وفيه من الأحاديث (كما في «تقريب النواوي») سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون بالمكررة، وبحذف المكرر أربعة آلاف (وفي غيره ما يخالف ذلك).
وقد طبع «صحيح البخاري» عدة مرات في مصر وغيرها، وفي عصرنا الحاضر سنة 1313 أمر أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد بطبع خمسة آلاف نسخة منه بمطبعة بولاق الأميرية، وأمر أن تراجعه وتصححه طائفة من علماء الأزهر، وأن توزع النسخ المطبوعة على العلماء ومواضع العلم. وقد منحت نظارة معارفنا منه خمسمائة نسخة فوزعتها على أهليها.
وقد اعتنى الأئمة ب «صحيح البخاري»؛ فمنهم من شرحه ومنهم من اختصره.
فمن الشارحين له: الحافظ ابن حجر المولود سنة 773، وسمى شرحه: «فتح الباري» وهو أحد عشر جزءا، والقسطلاني المولود بمصر سنة 851، وسمى شرحه «إرشاد الساري» وهو عشرة أجزاء، وكلا الشرحين مطبوع بمطبعة بولاق الأميرية.
ومن المختصرين له: الإمام الحسين الزبيدي، فرغ من مختصره المسمى «بالتجريد» سنة 889.
ثم تلا البخاري (2) تلميذه مسلم، فصنف جامعا آخر في الأحاديث الصحيحة وفيه أربعة آلاف حديث بإسقاط المكرر (كما في «تقريب النواوي» وفي «التقريب» وشرحه)، واختص مسلم بجمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المختلفة، وألفاظه المختلفة، فسهل تناوله، بخلاف البخاري فإنه قطعها في الأبواب بسبب استنباطه الأحكام منها.
وقد شرح «صحيح مسلم» النووي، وطبع «الصحيح» وحده ومع الشرح، وطبع أيضا «شرح النووي» على هامش «شرح القسطلاني» بالمطبعة المذكورة.
و«صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» أصح الكتب بعد القرآن العزيز.
وصنف بعدهما في الصحيح: أبو داود السجستاني المتوفى بالبصرة سنة 275، وأبو عيسى الترمذي المتوفى بترمذ سنة 279، وأبو عبد الرحمن النسائي المتوفى بفلسطين سنة 303، وابن ماجه القزويني المتوفى سنة 273.
كتب الأحاديث الستة
قال في «مشكاة المصابيح» للخطيب التبريزي: إن الكتب الستة المشهورة المقررة في الإسلام التي يقال لها الصحاح الست هي: «صحيح البخاري»، و«صحيح مسلم»، و«الجامع للترمذي»، و«السنن» لأبي داود والنسائي، و«سنن ابن ماجه ». وعند البعض «الموطأ» بدل «ابن ماجه»، وصاحب «جامع الأصول» اختار «الموطأ». وفي هذه الكتب الأربعة أقسام من الأحاديث؛ من الصحاح، والحسان، والضعاف. وسمى صاحب «المصابيح» أحاديث غير الشيخين بالحسان. ا.ه. (2) حكم وآداب من السنة
جاء في الحديث الشريف: «إن من أخيركم أحسنكم خلقا.» وفيه: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقا.» وفيه: «إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره.» وفيه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.» وفيه: «تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.» وفيه: «الكلمة الطيبة صدقة.» وفيه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.» وفيه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو يصمت.» وفيه: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.» وفيه: «من لا يرحم لا يرحم.» وفيه: «من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه وأمه.» وفيه: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.» وفيه: «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه.» وفيه: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا.» وفيه: «لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.» وفيه: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.» وفيه: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.» وفيه: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.» وفيه: «يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا.» وفيه: «خالط الناس ودينك لا تكلمنه.» وفيه: «قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر؛ بيدي الليل والنهار.» وفيه: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى.» وفيه: «لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.» وفيه: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين.» وفيه: «إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها.
فقال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه! قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.» وفيه: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع.» وفيه: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه.» وفيه: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.» وفيه: «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما.» وفيه: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان.» وفيه: «اطلبوا العلم ولو بالصين.» وفيه: «من تعلم وهو شاب كان كرسم في حجر، ومن تعلم وهو في الكبر كان كالكاتب على ظهر الماء.» وفيه: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.» وفيه: «من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا خصيمه يوم القيامة.» وفيه: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.» وفيه: «إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد تورث السقم، ومكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف.» وفيه: «إياك وكل أمر يعتذر منه.» وفيه: «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.» وفيه: «من دل على خير فله أجر فاعله.» وفيه: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين.» وفيه: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.»
الفصل الخامس
في جواز الاستشهاد بالقرآن والحديث في علوم الأدب
يجوز الاستشهاد في علوم الأدب بالقرآن الكريم، وهذا بالإجماع من العلماء؛ لأنه أبلغ كلام عربي بقي لفظه محفوظا إلى الآن كما سمع من النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإن الدين يقضي بعدم جواز تحريف في نصه الشريف. واختلف في جواز الاستشهاد بأحاديث السنة، فجوزه ابن مالك، ومنعه ابن الضائع وأبو حيان محتجين بأمرين؛ الأول: أن الأحاديث لم تنقل كما سمعت عنه عليه الصلاة والسلام؛ وإنما رويت بالمعنى. والثاني: أن أئمة النحو المتقدمين من البصرة والكوفة لم يحتجوا بشيء منها.
ورد الأول - على تقدير تسليمه - بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوين الأحاديث في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق. ورد الثاني بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به، قال أبو الحسن بن الضائع في «شرح الجمل»: «تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أفصح العرب.» وقال أبو حيان في «شرح التسهيل»: قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره.
على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين الأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على ذلك المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ذكر العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية، وإنما كان كذلك لأمرين؛ أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمنه
صلى الله عليه وسلم
لم يقل بتلك الألفاظ جميعا، نحو ما روي من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فنعلم يقينا أنه
صلى الله عليه وسلم
لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا يجزم بأنه قال بعضها؛ إذ يحتمل بأنه قال لفظا مرادفا لهذه الألفاظ فاتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدا، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: «إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.» ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب. ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان أفصح العرب، فلم يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز وتعليم ذلك له من غير معلم. والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من له التمييز. وقد قال لنا بدر الدين بن جماعة - وكان ممن أخذ عن ابن مالك: قلت له: يا سيدي، هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما نعلم أنه ليس من لفظ الرسول! فلم يجب بشيء. قال أبو حيان: وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة؛ لئلا يقول مبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما، فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث. ا .ه. من «خزانة الأدب» للبغدادي.
قال الشاطبي: الحديث على قسمين: قسم اعتنى ناقلة بمعناه دون لفظه، فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان، وقسم عرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته
صلى الله عليه وسلم ؛ ككتابته لهمذان، وكتابته لوائل بن حجر، والأمثال النبوية، فهذا يصح الاستشهاد به في العربية. وتبعه السيوطي في «الاقتراح» فقال: وأما الحديث فيستدل منه بما ثبت أنه قاله - عليه الصلاة والسلام - على اللفظ المروي، وذلك نادر جدا، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها كما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ؛ ولهذا نرى الحديث الواحد مرويا على أوجه شتى بعبارات مختلفة. قال الدماميني في «شرح التسهيل»: قد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنع أبو حيان عليه، وقال: إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له لتطرق احتمال الرواية بالمعنى، فلا يوثق بأن ذلك المحتج به لفظه - عليه الصلاة والسلام - حتى تقوم به الحجة، وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوب رأي ابن مالك فيما فعله بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما توقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كاف. ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك الموكول المحتج به لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين، ومن يقل منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه؛ فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون مع قولهم بجواز النقل بالمعنى. فيغلب الظن من هذا كله أنها لم تبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها. ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم، قال «ابن الصلاح» بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى: «إن هذا الخلاف لا نراه جاريا ولا أجراه الناس - فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت فيه لفظا آخر.» ا.ه.
وتدوين الأحاديث والأخبار بل وكثير من المرويات وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين على تقدير تبديلهم يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال، ثم دون ذلك المبدل على تقدير التبديل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى كما قال ابن الصلاح، فبقي حجة في بابه ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر، والله أعلم بالصواب. ا.ه. كلام الدماميني من «خزانة الأدب».
الفصل السادس
في بعض ما اشتهر من كتب اللغة
(1) مرجع التأليف في اللغة
قبل الخوض في بيان بعض الكتب المصنفة في اللغة، نذكر ما جاء في «كشف الظنون»، وهو بنصه:
إن مقصد علم اللغة مبني على أسلوبين؛ لأن منهم من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظا ويطلب معناه، ومنهم من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ. فلكل من الطريقين قد وضعوا كتبا ليصل كل إلى مبتغاه إذ لا ينفعه ما وضع في الباب الآخر؛ فمن وضع بالاعتبار الأول فطريقته ترتيب حروف التهجي، أما باعتبار أواخرها أبوابا وأوائلها فصولا تسهيلا للظفر بالمقصود كما اختاره الجوهري في «الصحاح»، ومجد الدين في «القاموس»، وأما بالعكس؛ أي باعتبار أوائلها أبوابا وأواخرها فصولا كما اختاره ابن فارس في «المجمل» والمطرزي في «المغرب»، ومن وضع بالاعتبار الثاني فالطريق إليه أن يجمع الأجناس بحسب المعاني، ويجعل لكل جنس بابا كما اختاره الزمخشري في قسم الأسماء من مقدمة الأدب. ثم إن اختلاف الهمم قد أوجب إحداث طرق شتى، فمن واحد أدى رأيه إلى أن يفرد لغات القرآن، ومن آخر إلى أن يفرد غريب الحديث، وآخر إلى أن يفرد لغات الفقه، كالمطرزي في «المغرب»، وأن يفرد اللغات الواقعة في أشعار العرب وقصائدهم وما يجري مجراها كنظام الغريب، والمقصود هو الإرشاد عند مساس أنواع الحاجات. ا.ه. (2) كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي ومختصره للزبيدي الإشبيلي
ممن نبغ في الأدب في المائة الثانية: الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي، أو الفرهودي، وهو أول من ضبط لغة العرب وألف فيها كتاب «العين»؛ وسماه بالعين لأنه بدأه بالكلم التي أولها العين، وابتدأها بها لأنها من الحروف القاصية وأكثر في الكلام دورانا، ولا يلحقها تغيير ولا حذف مثل الهمزة والألف، ولا همس مثل الهاء، وهي أنصع من الحاء.
وترتيب مواد الكتاب اللغوية مبني على مخارج الحروف من الحلق إلى الشفتين هكذا: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م أ و ي. قال ابن خلدون: «إن الخليل حصر في كتاب «العين» مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي، وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة؛ وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد؛ لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية، ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك، ثم الثالث والرابع، ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحدا، فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي؛ لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات، وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة وعشرين؛ لأن كل ثنائية يزيد عليها حرف فتكون ثلاثية، فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية ، وهي ستة وعشرون حرفا بعد الثنائية، فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات، ثم تضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تراكيبها من حروف المعجم، وكذلك في الرباعي والخماسي، فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه.
ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف، واعتمد فيه ترتيب المخارج؛ فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده من حروف الحنك، ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخرا، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين؛ لأنه الأقصى منها، فلذلك سمى كتابه بالعين؛ لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه، وضمن الخليل ذلك كله في كتابه «العين» واستوعبه أحسن استيعاب وأوعاه.» ا.ه.
وقد وقع في كتاب «العين» خلط وغلط؛ ولهذا أنكروا نسبته إلى الخليل وقالوا إنه من جمع «الليث بن نصر» عن الخليل. وقيل: إنه كان قد شرع فيه ورتب أوائله وسماه العين ثم توفي سنة 170 بعد الهجرة، فأكمله تلامذته «النضر بن شميل» و«مؤرج السدوسي» و«نصر بن علي الجضمي» ومن في طبقتهم، فما جاء عملهم مناسبا لما وضعه الخليل في الأول، فأخرجوا الذي وضعه أولا وصنفوا بدله؛ فلهذا وقع فيه خلل كثير يبعد وقوع الخليل في مثله.
قال السيوطي: «وقد طالعته فرأيت وجه التخطئة غالبا من جهة التصريف والاشتقاق، كذكر حرف مزيد في مادة أصلية، أو مادة ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك، وأما كون الخطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذب أو لا تعرف! فمعاذ الله لم يقع ذلك وحينئذ لا قدح فيه؛ فالإنكار راجع إلى الترتيب والوضع الأولي، وهذا أمر هين لا يمنع الوثوق بالخليل والاعتماد عليه في نقل اللغة .» ا.ه.
وفي المائة الرابعة اختصر كتاب «العين» أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي، من علماء الأندلس، مستدركا ما وقع فيه من الغلط، حاذفا المهمل، وكثيرا من شواهد المستعمل، فجاء كتابا مختصرا لطيفا فاق أصله وفضل عليه، وأعجب الناس به كثيرا ولهجوا به، وتوفي مؤلفه بإشبيليه سنة 379 بعد الهجرة. (3) كتاب «الجمهرة» لابن دريد و«التهذيب» للأزهري
وفي المائة الثالثة، ألف أبو بكر محمد بن دريد المولود بالبصرة سنة 223 كتاب «الجمهرة»، وهو مبدوء ب «أب»، ثم «أت» ثم «أج» إلى آخر الحروف، ثم «بت» و«بث» و«بج» وهكذا، وبعد المضاعف يذكر الألفاظ الثلاثية ثم الرباعية وهكذا، فهو مرتب على حروف المعجم. قال الأزهري: ممن ألف الكتب في زماننا ورمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ «أبو بكر بن دريد»، وقال: سألت عنه إبراهيم بن عرفة (يعني نفطويه) فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته، وهجاه بقوله:
ابن دريد بقرة
وفيه عي وشره
ويدعي من حمقه
وضع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العي
ن إلا أنه قد غيره
قال السيوطي في «المزهر»: معاذ الله، هو بريء، ومن طالع كتاب «الجمهرة» رأى تحريه في روايته، ولا يقبل فيه طعن نفطويه؛ لأنه كان بينهما منافرة عظيمة بحيث إن ابن دريد هجاه بقوله:
لو أنزل الوحي على نفطويه
لكان ذاك الوحي سخطا عليه
وشاعر يدعى بنصف اسمه
مستاهل الصفع على أخدعيه
أحرقه الله بنصف اسمه
وصير الباقي صراخا عليه
قال بعضهم: وكان لأبي علي القالي نسخة من «الجمهرة» بخط مؤلفها، وكان قد أعطي فيها 300 مثقال فأبى، فاشتدت الحاجة به فباعها بأربعين مثقالا، وكتب عليه هذه الأبيات:
أنست بها عشرين عاما وبعتها
وقد طال وجدي بها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها
ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لعجز وافتقار وصبية
صغار عليهم تستهل شئوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي
مقالة مكوي الفؤاد حزين:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
كرائم من رب بهن ضنين
قال: فأرسلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارا أخرى. ومات ابن دريد ببغداد سنة 321.
وألف أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المولود سنة 282 كتاب «تهذيب اللغة»؛ وهو كتاب كبير معتبر في اللغة، مرتب على الحروف باعتبار مخارجها كترتيب كتاب «العين»، وسيأتي مزيد وصف لهذا الكتاب في الكلام على كتاب «المحكم» لابن سيده. وتوفي الأزهري بمدينة هراة سنة 370. (4) كتاب «الصحاح» للجوهري و«المجمل» لابن فارس
وفي المائة الرابعة، صنف الشيخ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري كتاب «تاج اللغة وصحاح العربية» على ترتيب لم يسبق إليه؛ فجعله ثمانية وعشرين بابا مرتبة على حروف المعجم، الباب الأول: باب الألف المهموزة، وفيه الكلمات المنتهية بالهمزة، والباب الثاني: باب الباء، وفيه الكلمات المنتهية بالباء، والباب الثالث: باب التاء، والرابع: الثاء، وهكذا إلى آخر الحروف، إلا أنه جعل الواو والياء في باب واحد ذكره بعد باب الهاء، وذكر باب الألف اللينة أخيرا. وفي كل باب من هذه الأبواب يذكر عدة فصول: فصل الألف وفيه الكلمات المبدوءة بالهمزة، ثم فصل الباء وفيه الكلمات التي أوائلها باء، ثم فصل التاء، ثم فصل الثاء، وهكذا إلى الآخر، إلا أنه قدم فصل الواو من كل باب على فصل الهاء، وكان يجب أن يكون عدد الفصول في كل باب 28، إلا أن هذا العدد لم يكمل إلا في خمسة أبواب: الألف المهموزة، واللام، والميم، والنون، وباب المعتل، والأبواب الباقية منها ما نقص فصلا ومنها ما نقص فصلين وهكذا، والباب الأخير لم يفصل فيه. وإسقاط الفصول ناشئ عن كون كلماتها مهملة أو معربة أو غير لازمة في الاستعمال، والمعتبر في الأبواب والفصول أصل المادة، وحروف أوساط الكلم، مراعى فيها ترتيب حروف المعجم أيضا.
فإن أردت أن تكشف في هذا الكتاب عن الكلم: «بهظ» و«جوانح» و«توقان» و«استئثار»، فابحث عن الأولى في باب الظاء فصل الباء، وعن الثانية في جنح من باب الحاء فصل الجيم، وعن الثالثة في توق من باب القاف فصل التاء، وعن الرابعة في أثر من باب الراء فصل الهمزة.
ومن اصطلاح «الصحاح» وتبعه غيره فيه أنه إذا ذكر لفظا وقال عقبه بالكسر أو الفتح أو الضم فالضبط لأول حرف إن كان اسما، ولعينه إن كان فعلا، وإذا قال بالتسكين كان للثاني، وإذا قال محركا أو بالتحريك يكون اللفظ بفتحتين، ومحل كون الضبط للأول في غير المفعلة فالضبط فيها للعين.
وسمى الجوهري كتابه ب «الصحاح» بالكسر جمع صحيح، أو الفتح مفردا كصحيح؛ لأنه التزم فيه ذكر الصحيح من اللغة بخلاف غيره من الكتب قبله؛ فإنها لم تلتزمه بل جمعت ما صح وغيره، ونبهت على ما لم يثبت غالبا؛ ولذا قالوا: إن «صحاح الجوهري» في اللغة نظير «صحيح البخاري» في الحديث. قال الجوهري في خطبة كتابه: «قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة التي شرف الله تعالى منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطا بمعرفتها، على ترتيب لم أسبق إليه وتهذيب لم أغلب عليه في ثمانية وعشرين بابا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلا على عدد حروف المعجم وترتيبها، إلا أن يهمل من الأبواب جنس من الفصول بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دراية ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آل في ذلك نصحا ولا ادخرت وسعا.» وجمع الجوهري في صحاحه أربعين ألف مادة.
وقد كثر تداول هذا الكتاب واشتهر شهرة عظيمة لحسنه وسهولته وما فيه من الفوائد والقواعد والشواهد، لكن قل تداول الناس له في هذه الأيام؛ لأنه طبع خلوا من ضبط الكلمات اللغوية، ومالوا إلى «القاموس» لطبعه مضبوطا ولزيادة مواده. وكثير من الفضلاء يفضلون «الصحاح» على «القاموس» لسهولة عباراته وكثرة شواهده الرصينة، ولعدم تكلفه الإجمال في الكلام، والاختصار البالغ حده. وتوفي الجوهري في حدود الأربعمائة، وقيل سنة 393.
قال السيوطي: «وكان في عصر صاحب «الصحاح» ابن فارس، فالتزم أن يذكر في «مجمله» الصحيح، قال في أوله: قد ذكرنا الواضح من كلام العرب والصحيح منه دون الوحشي المستنكر، ولم نأل في اجتباء المشهور الدال على تفسير حديث أو شعر، والمقصود في كتابنا هذا من أوله إلى آخره التقريب والإبانة عما ائتلف من حروف العربية، فكان كلاما وذكر ما صح من ذلك سماعا أو من كتاب لا يشك في صحة نسبه؛ لأن من علم أن الله تعالى عند مقال كل قائل فهو حرى بالتحرج من تطويل المؤلفات وتكثيرها بمستنكر الأقاويل وشنيع الحكايات، فقد كان يقال: من تتبع غرائب الأحاديث كذب، ونحن نعوذ بالله من ذلك. وقال في آخره: قد توخيت فيه الاختصار، وآثرت فيه الإيجاز، واختصرت على ما صح عندي سماعا أو من كتاب صحيح النسب مشهور، ولولا توخي ما لم أشك فيه من كلام العرب لوجدت مقالا.» ا.ه.
قال أحمد فارس إنه رأى خطبة «المجمل» على غير النسق الذي نسقه الإمام السيوطي، ثم ذكر نصها، وجاء في آخر النص: «وسميته «مجمل اللغة»؛ لأني أجملت فيه الكلام، ولم أكثره بالشواهد والتصاريف إرادة الإيجاز؛ وذلك أني خرجته على حروف المعجم فجعلت كل كلمة أولها ألف في كتاب الألف، وكل كلمة أولها باء في كتاب الباء، حتى أتيت على آخر الحروف كلها.» وتوفي ابن فارس القزويني سنة 398. (5) كتاب «المحكم» و«المخصص» لابن سيده
ألف أبو الحسن علي المعروف بابن سيده الأندلسي المولود في دولة علي بن مجاهد سنة 397 كتاب «المحكم» على نحو ترتيب كتاب «العين». قال ابن خلدون: «وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدواوين، ولخصه محمد بن أبي الحسين (صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس) وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب «الصحاح» في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توءمي رحم وسليلي أبوة.»
قال أبو الفضل بن منظور في خطبة كتابه «لسان العرب»: «ولا أقول: شافهت أو سمعت أو شددت أو رحلت أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت؛ فهذه دعاوي لم يترك فيها الأزهري وابن سيده مقالا لقائل، فإنهما عينا في كتابيهما عمن رويا، وبرهنا عما حويا، ولعمري لقد جمعا فأوعيا وأتيا بالمقاصد فوفيا، وهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق، وما عداهما ثنيات للطريق، غير أن كلا منهما مطلب عسر المهلك، ومنهل وعر المسلك، وكأن واضعه شرع للناس موردا عذبا وحلأهم عنه، وارتاد لهم مرعى مريعا ومنعهم منه ، قد أخر وقدم وقصد أن يعرب فأعجم، فرق الذهن بين الثنائي والمضاعف والمقلوب، وبعد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب، فأهمل الناس أمرهما وانصرفوا عنهما وكادت البلاد لعدم الإقبال عليهما تخلو منهما؛ وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب وتخليط التفصيل والتبويب.»
وألف ابن سيده كتابا آخر في اللغة سماه «المخصص» جمع فيه الأجناس بحسب معانيها، وجعل لكل باب جنسا وما تعلق به، وهو نافع لمن يذهب من جانب المعنى إلى جانب اللفظ عكس المشهور. قال في خطبته: «فلما رأيت اللغة على ما أريتك من الحاجة إليها لمكان التعبير عما نتصوره وتشتمل عليه نفوسنا وخواطرنا، أحببت أن أجرد فيها كتابا يجمع ما تنشر من أجزائها شعاعا، وتنثر من أشلائها حتى قارب العدم ضياعا ... ثم إني لما وضعت كتابي الموسوم ب «المحكم» مجنسا لأدل الباحث على مظنة الكلمة المطلوبة، أردت أن أعدل به كتابا أضعه مبوبا حين رأيت ذلك أجدى على الفصيح المدره، والبليغ المفوه، والخطيب المصقع، والشاعر المجيد المدقع، فإنه إذا كان للمسمى أسماء كثيرة وللموصوف أوصاف عديدة تنقى الخطيب والشاعر منها ما شاءا واتسعا فيما يحتاجان إليه من سجع أو قافية، على مثال ما نجده في الجواهر المحسوسة كالبساتين تجمع أنواع الرياحين، فإذا دخلها الإنسان أهوت يده إلى ما استحسنته حاستا نظره وشمه.»
وفي المكتبة الخديوية نسخة من «المخصص» ذات 17 سفرا، مكتوبة بقلم مغربي، فيها خروم وتقديم وتأخير، والآن يطبع بمطبعة بولاق الأميرية. وتوفي ابن سيده بدانية سنة 458. (6) «فقه اللغة» للثعالبي
ألف أبو منصور الثعالبي النيسابوري المولود سنة 350 كتاب «فقه اللغة وسر العربية» في ثلاثين بابا تتضمن من الفصول ما يناهز ستمائة فصل، جمع في كل منها من الألفاظ ما هو من واد واحد، فهو مفيد لمن يذهب من جانب المعنى إلى جانب اللفظ ك «المخصص» لابن سيده، وتوفي الثعالبي سنة 425. (7) كتاب «أساس البلاغة» للزمخشري
ألف أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المولود سنة 467 كتاب «أساس البلاغة» على الترتيب المعهود في حروف المعجم؛ فجعل الكلم المبدوءة بالهمزة في باب والمبدوءة بالباء في آخر، والمبدوءة بالتاء في ثالث وهكذا، وراعى في ترتيب أوساط الكلم من كل باب ما راعاه في ترتيب أوائلها. والكتاب ليس قاصرا على إفادة اللغة بل يرشد أيضا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما فيه من السجع والشواهد والأمثال وبيان المجاز. قال ابن خلدون: «ومن الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ وفيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.» ولحسن ترتيبه يسهل على الطالب الكشف منه على معاني الكلم، لكن ربما أبطأ به عن نوال المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر معانيها صراحا اعتمادا على فهم المطالع واستنباطه معنى الكلمة من الجملة؛ فلهذا ربما يصح أن يقال إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وفضلا عن هذا قد طبع غير مضبوط بالمطبعة الوهبية سنة 1299. وتوفي الزمخشري سنة 538. (8) نهاية ابن الأثير
ألف الإمام مجد الدين أبو السعادات الجزري المعروف بابن الأثير المولود في جزيرة ابن عمرو سنة 544 كتابه الموسوم ب «النهاية في غريب الحديث والأثر»، جمع فيه من غريب الحديث ما في كتابي الهروي وأبي موسى الأصفهاني في غريبي القرآن والحديث، وزاد عليهما، قال: «وقد سلكت طريق الكتابين في الترتيب والوضع على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة وإتباعهما بالحرف الثالث منها على سياق الحروف، إلا أني وجدت في الحديث كلمات كثيرة في أوائلها حروف زائدة قد بنيت الكلمة عليها حتى صارت كأنها من نفسها، وكان يلتبس موضعها الأصلي على طالبها، فرأيت أن أثبتها في باب الحرف الذي هو أولها وإن لم يكن أصليا ونبهت عند ذكره على زيادته ... وجعلت على ما فيه من كتاب الهروي «هاء» بالحمرة، وعلى ما فيه من كتاب أبي موسى «سينا»، وعلى ما أضفته من غيرهما مهملا من غير علامة.» وتوفي ابن الأثير بالموصل سنة 606. (9) «العباب» و«التكملة» و«مجمع البحرين» للصغاني
من أئمة اللغة العظام «حسن الصغاني» المولود سنة 577 في لاهور (إحدى مدن الهند)، وإنما قيل له: الصغاني؛ لأن أحد أسلافه جاء من صغان، إحدى قرى ما وراء النهر، وتوفي سنة 650 في بغداد، ونقل إلى مكة ودفن فيها. ألف كتابه «العباب الزاخر واللباب الفاخر» في عشرين مجلدا مع أنه لم يكمله، بل انتهى فيه إلى مادة: «بكم»؛ ولهذا قيل:
إن الصغاني الذي
حاز العلوم والحكم
كان قصارى أمره
أن انتهى إلى بكم
وألف «تكملة الصحاح»، وهي أكبر منه حجما، ثم جمع بينهما في كتاب واحد سماه «مجمع البحرين»، وترتيبه في ذلك كترتيب «الصحاح». (10) كتاب «لسان العرب» لابن منظور
أعظم كتاب ألف في اللغة هو كتاب «لسان العرب» للإمام جمال الدين بن منظور الأنصاري الخزرجي الأفريقي، نزيل مصر، المولود في سنة 690، وهو كتاب شهرته تغني عن البيان، جمع فيه مؤلفه كثيرا من كتب اللغة ك «الصحاح» و«التهذيب» و«المحكم» و«الجمهرة» و«النهاية»، فهو يغني عن جلها إن لم نقل عن كلها، فيه ثمانون ألف مادة مرتبة ترتيب مواد «الصحاح»، لا يقتصر فيه على إفادة اللغة بل يبين من فنون الأدب وتفسير الآي وشرح الأحاديث والأمثال والأشعار ما يأتي في عرض الكلام ويمس إليه البيان، وهذا كثير يفوق الحصر.
وقد طبع هذا الكتاب في عشرين جزءا في مطبعة بولاق الأميرية سنة 1300 بعد الهجرة، ولولا طبعه ما كثر تداوله بل كان كنزا مدفونا ودرا مكنونا. وتوفي ابن منظور سنة 771، وقيل إنه ولد سنة 630 وتوفي سنة 711، وعلى القول الأول يكون ابن منظور معاصرا للفيروزآبادي صاحب «القاموس» المولود سنة 729، وعلى الثاني تكون وفاة ذاك قبل ولادة هذا. (11) «المصباح» للفيومي
على نسق كتاب «النهاية» في ترتيب الكلم اللغوية، جرى الإمام أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المتوفى سنة 770 في ترتيب كتابه المسمى ب «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير»، وهو مختصر كتاب له مطول كان جمعه في غريب «شرح الوجيز» للإمام الرافعي، وقال في آخر المصباح إنه جمع أصله من نحو سبعين مصنفا، وعد منها كثيرا، وأنه فرغ من تأليفه سنة 734، وقد طبع «المصباح» في مطبعة بولاق الأميرية سنة 1281 وطبع في غيرها. (12) «القاموس» للفيروزآبادي
ومن كتب اللغة المشهور كتاب «القاموس المحيط» للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي
1
المولود بكارزين سنة 729، وقد اشتهر هذا الكتاب وتداولته الأيدي أكثر من غيره حتى الآن، وترتيبه على نسق ترتيب «الصحاح»، من اعتبار أواخر الكلمات مجردة للأبواب، وأوائلها للفصول، كما قيل:
إذا رمت في القاموس كشفا للفظة
فآخرها للباب والبدء للفصل
ولا تعتبر في بدئها وأخيرها
مزيدا ولكن اعتبارك بالأصل
إلا أن عبارة «الصحاح» أوسع وأصرح لا يظهر عليها أثر التكلف مشفوعة بالشواهد، وعبارة «القاموس» ضيقة موجزة محذوفة الشواهد مطروحة الزوائد، وكثيرا ما يعمى المراد منها على غير الممارس لمطالعته ولا العارف باصطلاحاته، قال في خطبته: ومن بديع اختصاره، وحسن ترصيع تقصاره: (أ) أني إذا ذكرت صيغة المذكر أتبعتها المؤنث بقولي: وهي بهاء ولا أعيد الصيغة. (ب) وإذا ذكرت المصدر مطلقا أو الماضي بدون الآتي ولا مانع
2
فالفعل على مثال كتب. (ج) وإذا ذكرت آتيه بلا تقييد فهو على مثال: ضرب. على أني أذهب إلى ما قال أبو زيد:
3
إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على «فعل» فأنت في المستقبل بالخيار، إن شئت قلت: يفعل بضم العين، وإن شئت قلت: يفعل بكسرها. (د) وكل كلمة عريتها عن الضبط فإنها بالفتح إلا ما اشتهر بخلافه اشتهارا رافعا للنزاع من البين، وما سوى ذلك فأقيده بصريح الكلام غير مقتنع بتوشيح القلام. (ه) مكتفيا بكتابة ع د ة ج م عن قولي موضع وبلد وقرية، والجمع ومعروف فتلخص، وكل غث إن شاء الله عنه مصروف. ا.ه.
وفي «القاموس» 60 ألف مادة، فهو يزيد عن «الصحاح» بعشرين ألف، وينقص عن اللسان بمثلها، والمواد المزيدة عن «الصحاح» كانت تكتب حمراء في نسخ «القاموس» المكتوبة بالأيدي، فلما طبع ميزوها بوضع خطوط فوقها.
ومن الناس من يفضل «القاموس» على «الصحاح»؛ لزيادة المواد وكثرة اللغات وتكثير المعاني للألفاظ مع الإيجاز ولما في «الصحاح» من الأوهام. وقد مدح «القاموس» غير واحد، قال ابن العليف المتوفى بمكة سنة 815:
منذ مد مجد الدين في أيامه
من بعض أبحر علمه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها
سحر المدائن حين ألقى موسى
وقال آخر:
لمجد الدين في القاموس مجد
وفخر لا يوازيه موازي
أصح من الصحاح بغير شك
وإن خلط الحقيقة بالمجاز
ومنهم من يفضل «الصحاح» على «القاموس»؛ كالشيخ عبد القادر اليمني، قال: «في زماننا قد نقصت رتبة «الصحاح» وشهرته، واكتفى الناس ب «القاموس» لثلاثة أمور: الأول: جهلهم أن «الصحاح» أصح الكتب في اللغة حتى توهموا أنه كثير الغلط لما سمعوا أن فيه تصحيفا يسيرا، ولم يعلموا أن ذلك لا يخلو منه إلا كتاب الله تعالى، وأنه يمكن أن يعرفه كل مشتغل باللغة، الثاني: لجهلهم بعيوب «القاموس» حتى صار عندهم جميع ما فيه قطعيا، الثالث: جهلهم بمحاسن «الصحاح»، وما ادعى المجد أن الجوهري وهم فيه فهو دعوى مجردة، وأوهام «الصحاح» يسيرة كما نص عليه الأئمة؛ ولذلك اعتمد عليه أئمة اللغة بخلاف «القاموس»، وإن أكب عليه أهل عصرنا. على أننا تتبعنا كثيرا مما ادعى المجد وغيره أن الجوهري وهم فيه فوجدناه صحيحا، وقد أبان ذلك شيخنا ابن الطيب في «شرح القاموس».» ا.ه. وقد رد على أصحاب القول الأول الشيخ عبد الغني النابلسي بقوله:
من قال: بطلت صحاح الجوهري
لما أتى القاموس فهو المفتري
قلت: اسمه القاموس وهو البحر إن
يفخر فمعظم فخره بالجوهري
وتوفي الفيروزآبادي في اليمن بزبيد سنة 817، وقد كتب كثير من الحواشي والشروح على «القاموس»؛ فمن ذلك حاشية ابن الطيب المولود بفاس سنة 1110، وشرح السيد محمد مرتضى نزيل مصر المتوفى بها سنة 1205 عن ستين سنة، وكان تلميذ ابن الطيب، وقد طبع هذا الشرح حديثا في المطبعة الخيرية سنة 1306 في عشرة أجزاء ضخام، وقد طبع «القاموس» ثلاث مرات في مطبعة بولاق الأميرية، وآخر طبعة كانت سنة 1301 بعد الهجرة. (13) «مختار الصحاح»
اختصر «الصحاح» الإمام محمد بن أبي بكر الرازي، وسمى مختصره «مختار الصحاح» وهو مشهور متداول، فرغ من تأليفه سنة 760. (14) «المزهر في علوم اللغة»
كتاب جليل الفائدة ألفه جلال الدين السيوطي المولود سنة 849 والمتوفى سنة 911، قال في خطبته: «هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه واخترعت تنويعه وتبويبه، وذلك في علوم اللغة وأنواعها وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وأتيت فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع، وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك، ويعتني في تمهيدها ببيان المسالك، غير أن هذا المجموع لم يسبق إليه سابق ولا طرق سبيله قبلي طارق، وقد سميته ب «المزهر في علوم اللغة».» وقد جاء بخمسين نوعا، ثمانية منها راجعة إلى اللغة من حيث الإسناد، وثلاثة عشر منها من حيث الألفاظ، وثلاثة عشر أيضا من حيث المعنى، وخمسة منها من حيث لطائفها، والباقية منها راجعة إلى رجال اللغة ورواتها، وقد طبع هذا الكتاب بمطبعة بولاق سنة 1282. (15) «محيط المحيط» و«قطر المحيط»
كتابان ألفهما المعلم بطرس البستاني اللبناني المولود سنة 1819 بعد الميلاد، والمتوفى سنة 1883، قال في أول «محيط المحيط» إنه يحتوي على «محيط الفيروزآبادي»، وعلى زيادات كثيرة عثر عليها. وقال في أول «قطر المحيط» إنه سماه بذلك؛ لأن نسبته إلى «محيط المحيط» تقرب من أن تكون كنسبته قطر دائرة إلى محيطها. وفرغ من تأليف الأول سنة 1261 بعد الهجرة، ومن الثاني سنة 1286، وهما في ترتيب المواد اللغوية ك «المصباح»، وقد طبعا في بيروت، ومنهما نسختان في المكتبة الخديوية. (16) «الجاسوس» و«سر الليال»
كتابان ألفهما أحمد أفندي فارس، صاحب «الجوائب»، الأول في تخطئة «القاموس»، وقد طبع في القسطنطينية سنة 1299، والثاني في القلب والإبدال، وقد تم طبعه سنة 1284 بالآستانة العلية، وتوفي أحمد فارس سنة 1305. (17) «أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد»
كتاب نفيس ألفه الفاضل سعيد أفندي الشرتوني اللبناني، من نبهاء هذا العصر، وقد طبع في بيروت سنة 1889 بعد الميلاد في سفرين ضخمين، وطريقته في الترتيب ك «المصباح». (18) «قلائد الذهب في فصيح لغة العرب»
كتاب جمعت فيه من الألفاظ ما هو كثير الدوران على ألسنة الفصحاء، ومشخص للمعاني المتواردة على أفئدة البلغاء، يتبع اللفظ معناه، ويشفع هذا بشاهد أو مثال يهدي إلى مرماه؛ فتستبين بذلك مرامي الكلام، وينال الطالب ما يعز من فوق الثمام:
يقرب الأقصى مع الإيجاز
ويردف الأصلي بالمجاز
شواهده وأمثلته توقف على مناهج الإنشاء والتأليف، وتوفق إلى مدارج الإبداع في التصنيف، يرتب كلمات المادة اللغوية حسب معانيها الأصلية والفرعية، والمواد مرتبة ترتيب الحروف على وجه جميل مألوف يستسهل معه الكشف، ويستعذب منه الرشف. وقد طبع منه السفر الأول في مطبعة بولاق سنة 1311، وهذا السفر يشمل نحو خمسة آلاف كلمة لغوية ولها من الشواهد نحو 500 بيت شعر، و500 آية، و150 حديثا، و100 مثل سائر، وغير ذلك من نوابغ الكلم وجوامع الحكم، وفي مادة «جلل» مقامة أدبية بديعة.
الباب الثاني
في تاريخ الكتابة أو الخط
الفصل الأول
في تعريف الكتابة
الكتابة أو الخط: تصوير اللفظ بحروف هجائه، ومثلها الكتاب بدون هاء، قال تعالى لعيسى عليه السلام:
وإذ علمتك الكتاب والحكمة ، وقد يطلق كل منهما على المكتوب من إطلاق المصدر على اسم المفعول؛ كالحياكة في المحيك، والبساط في المبسوط، وعلى هذا تعرف الكتابة بأنها: نقوش القلم المخصوصة الدالة على المعاني المقصود دلالة الألفاظ عليها، فهي واللغة سيان، ولا اختلاف بينهما إلا في طريقة التبليغ إلى الذهن، ففي اللغة ينقل الهواء الصوت إلى السمع فيصل إلى الذهن، وفي الكتابة ينظر البصر المكتوب وينقله إليه، وقد تطلق الكتابة على صناعة الإنشاء، وبهذا ترادف النثر وتقابل القريض، قال الشاعر:
وما كل من لاق اليراع بكاتب
ولا كل من راش السهام بصائب
الفصل الثاني
في تاريخ الخط العربي
كثرت الأقوال في أولية الخط العربي، والذي يؤخذ من مجموعها أن أهل اليمن الحميريين كانوا يكتبون، وخطهم المسمى بالمسند كان ذا حروف منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمه. ومن خطهم استنبط عرب طيئ خطا ذا اتصال وانفصال بدون نقط ولا إعجام سموه بالجزم، فأخذه عنهم أهل العراق، ومن هؤلاء تعلمه عرب قريش. وفي «المزهر»: قال ابن دريد في «أماليه»: أخبرني السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن عوانة قال: أول من كتب بخطنا هذا - وهو الجزم - مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة الطائيان، ثم علموه أهل الأنبار، فتعلمه بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك الكندي، صاحب دومة الجندل، وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، فعلم جماعة من أهل مكة؛ فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش، فقال رجل من أهل دومة الجندل من كندة يمن على قريش بذلك:
لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو
فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو
من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملا
وطامنتمو ما كان منه منفرا
فأجريتم الأقلام عودا وبدأة
وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتمو عن مسند الحي حميرا
وما زبرت في الصحف أقيال حميرا
وممن اشتهر في الإسلام بالكتابة من علية الصحابة: عمر وعثمان وعلي وطلحة وأبو عبيدة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ويزيد بن أبي سفيان.
وفي «المطالع»: ومعرفة شرذمة من قريش للكتابة لا تنفي عن العرب الأمية التي وصفهم الله بها في قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم . وانتشرت الكتابة في المدينة بعد الهجرة بنحو سنة، وذلك أنه لما أسرت الأنصار سبعين رجلا من صناديد قريش وغيرهم في غزوة بدر جعلوا على كل واحد منهم من الأسرى فداء من المال، وعلى كل من عجز عن الافتداء بالمال أن يعلم الكتابة لعشرة من صبيان المدينة، فلا يطلقونه إلا بعد تعليمهم، فبذلك كثرت فيها الكتابة وصارت تنتشر في كل ناحية فتحها الإسلام في حياته - عليه السلام - وبعده. وقد بلغ عدد كتابه - عليه السلام - ثلاثة وأربعين كاتبا، منهم: زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان، واختلف في كونه
صلى الله عليه وسلم
يقرأ ويكتب، فمن قال بذلك استدل بقوله تعالى:
رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، وبحديث البخاري أنه - عليه الصلاة والسلام - في غزوة الحديبية أخذ الكتاب ليكتب فكتب. ومن قال بأنه أمي استدل بقوله تعالى:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ، وبحديث البخاري: «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب.» وقد أخذ أبو الوليد الأندلسي بظاهر الحديث فقام عليه علماء عصره وطلبوه عند أميرهم فجمعهم وإياه، واحتجوا عليه بأنه قد خالف نص الآية الكريمة، وهي:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ، فاستظهر عليهم بأن هذا النفي مقيد بما قبل ورود القرآن، وأما بعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزاته فلا مانع أن يعرف الكتابة من غير معلم، ويكون ذلك معجزة أخرى له، ووافقه على ذلك شيخه أبو ذر الهروي، والنيسابوري، وجماعة من علماء إفريقية محتجين بما ورد أنه ما مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى كتب وقرأ. وقد روي عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - أنه قال: كان يقرأ من الكتب وإن كان لا يكتب. ا.ه. بتصرف.
وقد كتبت المصاحف العثمانية بخط الجزم، وسمي بالخط الكوفي بعد إنشاء الكوفة، واستعمل في عهد بني أمية مع ترقية في درجات الحسن تبعا لحضارة الأمة الإسلامية، وتمييز الحروف المتشابهة بالنقط حدث في صدر الإسلام، ذكر ابن خلكان في ترجمة الحجاج أن أبا أحمد العسكري قال: «إن الناس غبروا يقرءون في مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج بن يوسف إلى كتابه، فسألهم أن يضعوا علامات لهذه الحروف المتشابهة، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفرادا وأزواجا، وخالف بين أماكنها فغبر الناس بذلك لا يكتبون إلا منقوطا، فكان مع استعمال النقط يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط بالإعجام.» ويظهر من هذا أن الإعجام هو الشكل وأنه غير النقط، وأنه وضع في زمن الحجاج، وهذا لا ينافي ما روي من أن أول من نقط المصحف «أبو الأسود الدؤلي» فإن النقط الذي وضعه كان عبارة عن علامات الإعراب ليس إلا، كما يؤخذ من الروايات المعزوة إليه، قال أبو علي المقري في كتاب «المقنع»: «اختلف الرواة فيمن نقط المصاحف من التابعين، فروينا أن المبتدي بذلك كان أبا الأسود، وأنه أراد أن يعمل كتابا في النحو يقوم الناس به ما فسد من كلامهم فقال: أرى أن أبتدئ بإعراب القرآن أولا، فأحضر من يمسك المصحف، وأحضر صبغا يخالف لون المداد، وقال للذي يمسك المصحف: إذا فتحت شفتي فاجعل نقطة فوق الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة تحت الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، فإذا أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة فاجعل نقطتين، ففعل ذلك حتى أتى على آخر المصحف.» وذكر في «المحكم» سبب ذلك؛ أن معاوية كتب إلى زياد يطلب عبد الله ابنه، فلما قدم عليه وجده يلحن، فرده إلى زياد وكتب إليه كتابا يلومه فيه على ذلك، فبعث زياد إلى أبي الأسود وطلب منه أن يضع شيئا يصلح الناس به كلامهم ويعرفون به كلام الله تعالى، فأبى ذلك أبو الأسود فوجه زياد رجلا وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود فإذا مر بك فاقرأ شيئا من القرآن وتعمد اللحن، فلما مر أبو الأسود رفع الرجل صوته وقال: «أن الله بريء من المشركين ورسوله» بالجر، فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عز وجه الله أن يتبرأ من رسوله! ثم رجع من فوره إلى زياد وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلي ثلاثين رجلا. فأحضرهم زياد فاختار منهم عشرة، ثم لم يزل يختار حتى اختار رجلا من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغا يخالف لون المداد ... وساق الحديث المتقدم.
وأما ما وضع في زمن الحجاج فكان نقطا لتمييز الحروف المتشابهة، وشكلا للأوائل والأواسط، وخولفت طريقة نقط أبي الأسود إلى طريقة الشكل الحديث، ويقال: إن الخليل بن أحمد هو الذي تمم بقية علامات الإعجام، كالشدة والمدة والقطعة والصلة، وهذب في جميع العلامات فجعل الضمة واوا صغيرة فوق الحرف، والكسرة ياء تحته، والفتحة ألفا مسطحة فوقه، والشدة رأس شين، والصلة رأس صاد، وسمى كل هذه العلامات «بالشكل» أخذا من شكال الدابة الذي تقيد به، فكأن شكل الكلمة يقيدها عن الاختلاف فيها ويزيل عنها الإبهام. قال ابن خلكان: إن الخليل هو أول من صنف كتابا في الشكل، ومع ما تقدم فالنقط والشكل يسميان بالإعجام، من أعجمته إذا أزلت عجمته وبينته؛ ولهذا تسمى حروف الهجاء العربية بحروف المعجم. وقد يخصص الإعجام بالحرف المنقوط إذا شاركه في صورته الخطية حرف آخر مهمل فيقال: خاء معجمة وحاء مهملة ومثلهما الذال والدال والزاي والراء والشين والسين والغين والعين، لكن الباء وأمثالها لا توصف بالإعجام، بل بالموحدة والمثناة الفوقية والتحتية والمثلثة، وكذا الظاء يقال فيها: المشالة، والضاد الساقطة.
وانتقل الخط الكوفي إلى الأمصار التي افتتحها الإسلام، وتنوعت أشكاله ورسومه واختلفت أسماؤه؛ فانتقل من الأمويين إلى بلاد إفريقية الشمالية، وتولد منه الخط المغربي المستعمل للآن في الجزائر وتونس وطرابلس ومراكش، وأول من وصف بحسن الخط في صدر الإسلام «خالد بن الهياج»، وكان يكتب المصاحف والأشعار والأخبار للوليد بن عبد الملك سادس خلفاء بني أمية المتولي الخلافة سنة 86 من الهجرة، وفي أول خلافة بني العباس ظهر «الضحاك» الكاتب، وجاء بعده «إسحاق بن حماد» في خلافة المنصور والمهدي، وقد كتب عليه عدة تلامذة أنواعا مختلفة من الخطوط الموزونة، منها ما يعرف بقلم الطومار الكبير، وقلم الجليل، وقلم السجلات، وقلم الديباج، وقلم العهود، وقلم القصص. ويقال: إن جودة الخط انتهت إلى رجلين من أهل الشام: «الضحاك»، و«إسحاق بن حماد» وكانا يخطان الجليل، قيل: وكأنه الطومار أو قريب منه، وأقول: لعله ما يعرف بالجلي الآن.
ومن كتاب المصاحف في عهد الرشيد: «خشنام البصري»، و«المهدي الكوفي».
وفي عهد المأمون أخذ الكتاب بتجويد خطوطهم، وظهر «إبراهيم السجزي» وأخوه يوسف، و«الأحول» الذي تكلم على رسوم الخط وقوانينه وجعله أنواعا، وظهر قلم الثلثين، وقلم الثلث، وقلم النصف، وقلم النسخ، والقلم الرياسي نسبة إلى ذي الرياستين «الفضل بن سهل»، وكانت تحرر به الكتب السلطانية، وقلم غبار الحلية، ويقال: إن قلم غبار الحلية حروفه كلها مستديرة، بخلاف قلم الطومار فإن حروفه كلها مستقيمة فهما حاشيتان وبينهما خطوط الثلثين والنصف والثلث على حسب استقامة ثلثي الحروف أو نصفها أو ثلثها. ثم كان «أبو الحسين إبراهيم التميمي» معلم المقتدر وأولاده، وكان أكتب أهل زمانه، وله رسالة في الخط سماها «تحفة الوامق». قيل: واستمر الخط الكوفي نحو ثلاثة قرون هجرية إلى أن ظهر في بغداد الوزير «ابن مقلة» وأخوه عبد الله، فحولا الكتابة الكوفية في أواخر القرن الثالث إلى طريقة النسخ المستعملة إلى الآن في كتابة الكتب والمصاحف. لكن الظاهر أن التحويل ابتدأ قبل ابن مقلة كما يؤخذ مما سبق، وإنما نسب إليه ذلك لكونه هو الذي أتم إزالة غبار الكوفية عن وجه الخط فظهر بديعا. وتوفي ابن مقلة سنة 328. ومن الثلث والنسخ تولد خط التوقيع، وفي بلاد العجم تولد خط التعليق ويعرف بالفارسي وهو مستعمل بها للآن. وجاء بعد ابن مقلة «ابن البواب» المتوفى سنة 413، قيل: ولا يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضيلة السبق، وخطه أيضا في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة. ثم ظهر «أبو الدر ياقوت الموصلي» الملقب بالملكي نسبة إلى السلطان «ملكشاه أبي الفتح بن سلجوق»، قيل: كان مولعا بنسخ «الصحاح للجوهري»، وكان يبيع النسخة منه بمائة دينار، توفي سنة 618. ثم «أبو المجد ياقوت الرومي المستعصمي» المتوفى سنة 698، وهو الذي سار ذكره في الآفاق، واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته.
وبعد سقوط بغداد انتقل تقدم العلوم والكتابة إلى مصر إلى أن ظهرت الدولة العثمانية بالقسطنطينية، فارتقت فيها الخطوط إلى أقصى درجات الحسن والكمال، واشتهر عندهم من الخطوط: الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع والديواني. ومن أشهر كتابهم المتأخرين حمد الله المعروف بابن الشيخ، والحافظ عثمان، ومحمود المعروف بجلال الدين، والسيد الحاج محمد المعروف بشكرزاده. ومن أشهر كتاب مصر المعاصرين: محمد أفندي مؤنس، ومحمد أفندي جعفر، واشتهر قبلهما عبد الله بك زهدي. والآن نرى حسن الخط وتقدمه في حواضر الدولة العلية والعجم. وفي المكتبة الخديوية كثير من المصاحف القرآنية قديمة وحديثة يؤخذ من الاطلاع عليها سير الخط وترقيه؛ منها مصحف مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال، إلا أن يد الزمان أضاعت بعض صفحاته وأبلت البعض الآخر، واستحضر هذا المصحف من جامع عمرو بن العاص، ويقال: إنه مصحف سيدنا عثمان بن عفان وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار، وأنه استخرج من خزائن المقتدر، فأخذه أبو بكر الخازن وجعله في جامع عمرو، ويحتمل أن يكون المصحف الذي أرسل إلى مصر في عهد الخليفة. ومنها نصف مصحف مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال، يقال إنه بخط الإمام جعفر الصادق المولود سنة 80، والمتوفى سنة 148 من الهجرة. وهذا وما قبله ليس بهما نقط ولا إعجام. ومنها مصحف مكتوب بخط مغربي من وقف الأمير محمد بك أبي الذهب. ومنها جزء أول سورة الحجر بقلم نسخ يقال إنه بخط «ابن مقلة» في شهور سنة 308، وهو ذو جداول ومحلى بالذهب. ومنها مصحف بقلم ياقوت المستعصمي فرغ من كتابته سنة 690. ومنها مصحف بالقلم الريحاني فرغ من كتابته «عبد الرحمن بن الصائغ» سنة 814، وهذا المصحف وقف السلطان فرج ابن السلطان برقوق المتوفى سنة 815. ومنها مصحف بقلم «حمد الله» المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري. ومنها مصحف بقلم «الحافظ عثمان» فرغ من كتابته سنة 1083، وآخر مطبوع مأخوذ بالمصورة الشمسية (الفوتوغرافية) من مصحف فرغ من كتابته سنة 1094، وقد أخذت مصاحف الحافظ عثمان شهرة فائقة وللناس فيها رغبات زائدة. وفي المكتبة الخديوية أيضا مجموعات خطوط بأقلام كثيرين من مشاهير الكتاب، منها مجموعات خطوط مطبوعة ومأخوذة بالمصورة من خط محمود جلال الدين، كتب بعضها سنة 1109، ومجموعاته المطبوعة تتخذ الآن أساليب لتعليم الخطوط في المدارس المصرية.
ولا ريب أن النساخين في العصر السالف كانوا يفنون أعمارهم النفيسة في نسخ القليل من الكتب، فضلا عن المشاق التي كانوا يكابدونها في النسخ؛ ولذا كانت كتبهم غالية القيمة جدا، وأما الآن فالمطابع نسخت كل هذه الصعوبات وقربت البعيد، وجعلت الكتب سهلة الحصول للغني والفقير. والذي اخترع فن الطباعة رجل جرماني يسمى «يوحنا غوتمبرج» في القرن الخامس عشر الميلادي (راجع الجزء الثاني من كتابنا «دروس الأشياء»).
الفصل الثالث
في الحروف ونقطها
حروف الخط العربي أثرت عن السلف مرتبة ترتيبين: ترتيب «أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ»، وترتيب «أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ه و لا ي»، وعلى الترتيب الأول نرى عددها 28 حرفا، وعلى الثاني 29 حرفا، فإن فيه أول حرف عبارة عن الألف اليابسة وهي الهمزة التي تقبل الحركات، وأما الألف اللينة التي لا يمكن النطق بها على حدتها، فجاء بها معتمدة على اللام في «لا»، ويحقق ذلك أنه وسطها بين حرفي العلة الواو والياء بخلاف الترتيب الأول، فإنه أدرج قسمي الألف في أول الحروف. وإذا تأملت في الترتيب الثاني تراه في الأغلب جمع الحروف المتقاربة في الصورة الخطية أو النطق بعضها بجانب بعض بخلاف الترتيب الأول، لكنهم يبنون عليه ما يسمونه بحساب الجمل؛ فيجعلون من الألف إلى الطاء للآحاد، ومن الياء إلى الطاء للعشرات، ومن القاف إلى الظاء للمئات، ويحسبون الغين بألف. وكلا الترتيبين مبدوء بالألف؛ قيل: لأنها من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، وقيل: لاستقامته كما أشار إلى ذلك يحيى بن زياد في قوله:
ألف الكتابة وهو بعض حروفها
لما استقام على الجميع تقدما
ويظهر أن تعليم الهجاء على ترتيب «أبجد» سابق على الترتيب الآخر، حكي عن عمر بن الخطاب أنه لقي أعرابيا فقال له: هل تحسن أن تقرأ شيئا من القرآن؟ فقال: نعم. قال: فاقرأ أم القرآن! فقال: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟ قال: فضربه ثم أسلمه إلى الكتاب، فمكث فيه حينا، فهرب ثم أنشأ يقول:
أتيت مهاجرين فعلموني
ثلاثة أسطر متتابعات
كتاب الله في رق صحيح
وآيات القران مفصلات
وخطوا لي أبا جاد وقالوا
تعلم سعفصا وقريشيات
وما أنا والكتابة والتهجي
وما خط البنين من البنات
وقال أحمد فارس: «أما ترتيب الحروف على أبجد فالظاهر أنه جرى على ترتيب اللغة السريانية إلى حرف التاء وهي فيها «تاو»، ثم زادوا عليها ثخذ ضظغ؛ لأن الثاء والخاء والذال ليس لها فيها شكل مخصوص، وإنما تتميز عن الثاء والكاف والدال بالنقط، وحرفا الضاد والظاء لا وجود لهما فيها لا رسما ولا نطقا، والغين تتميز عن الجيم التي تقدم ذكرها بنقطة في جوفها.» ا.ه. والمغاربة يخالفوننا في ترتيب الأبجدية؛ فهي عندهم أبجد هوز حطي كلمن صعفض قرست ثخذ ظغش؛ ولهذا يخالف حساب جملهم ما عندنا في ستة أحرف تعلم من مقارنة الترتيبين. ويخالفوننا أيضا في الترتيب الثاني فهو عندهم هكذا: «أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش ه و لا ي»، وينقطون الفاء من أسفل، والقاف واحدة من فوق، ويميلون كالترك بالضاد في النطق نحو الظاء. والفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية إلا أنهم يزيدونها أربعة أحرف: (1) باء بثلاث نقاط ينطق بها بين الباء العربية والفاء كما في «پك» بمعنى جدا. (2) وجيما بثلاث نقط ينطق بها بين الشين والتاء كما في «چوق» بمعنى كثير. (3) وزايا بثلاث نقط ينطق بها بين الزاي والجيم العربيتين كما في «مژدة» بمعنى بشرى. (4) وكافا ينطق بها كالجيم المصرية كما في «گرد» بمعنى شجاع. وكذا الترك يكتبون لغتهم بالحروف العربية لكنهم زادوها هذه الأربعة السالفة وحرفا خامسا، وهو كاف ينطق بها كالنون كما في «بيكباشي» بمعنى رئيس ألف. (1) كتابة الألفاظ غير العربية بالخط العربي
وكتاب العربية إذا عرض لهم حرف من هذه الأحرف ردوه إلى أقرب الحروف إليه؛ فأبدلوا الكاف الفارسية في «نركس» و«كلنار» عند التعريب بالجيم وكتبوا نرجس وجلنار. وأبدلوا باء «پالوزة» الفارسية بالفاء وكتبوا فالوذ، وعامة مصر يقولون: «بالوظة». قال ابن فارس في «فقه اللغة»: حدثني علي بن أحمد الصباحي قال: سمعت ابن دريد يقول: حروف لا تتكلم العرب بها إلا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم إلى أقرب الحروف من مخارجها، كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل: پور، إذا اضطروا قالوا: فور. قال ابن فارس: وهذا صحيح؛ لأن پور ليس من كلام العرب؛ فلذا يحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيره فاء.
واستحسن بعض المتأخرين أن يتبع في كتابة هذه الأحرف ما يكتب عند أهلها بتعداد نقطها؛ تنبيها على أنها دخيلة، وأن يلفظ بها كنطقها الأصلي، وهذا الاستحسان أتى له مما رآه ابن خلدون في مقدمته، وهو: (اعلم) أن الحروف في النطق هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع الحنك والحلق والأضراس، أو بقرع الشفتين أيضا، فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع، وتجيء الحروف متمايزة في السمع، وتتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر. وليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف، فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى، والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفا، ونجد للعبرانيين حروفا ليست في لغتنا، وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم، وكذا الإفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم. ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين، وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملا عن الدلالة الكتابية مغفلا عن البيان، وربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يليه من لغتنا قبله أو بعده، وليس ذلك بكاف في الدلالة بل هو تغيير للحرف من أصله.
ولما كان كتابنا مشتملا على أخبار البربر وبعض العجم، وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا؛ اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه؛ لأنه عندنا غير واف بالدلالة عليه، فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه؛ ليتوسط القاري بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته. وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام؛ «كالصراط» في قراءة خلف فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي ، فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي، ودل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين، فكذلك رسمت أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا، كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف، مثل: اسم بلكين فأضعها كافا وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل، أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين، فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف. وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر وما جاء من غيره، فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين الحرفين من لغتنا بالحرفين معا ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك فيكون قد دللنا عليه، ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيرنا لغة القوم.
وأقول: ما استحسنه البعض وما رآه ابن خلدون أولا لا يسري حكمه على الألفاظ المعربة المدونة في كتب اللغة، وثانيا إذا اتبعناه في غير هذه الألفاظ وبالقياس عليه وضعنا أوضاعا جديدة كتابية لتشخيص نطق الألفاظ الإفرنجية الدخيلة في لسان تخاطبنا الآن - وهي كثيرة جدا ربما لا يسعها سفر ضخم - تكلمنا بلسان غيرنا، ونحونا بلهجتنا إلى منحى صعب غير مألوف لألسنتنا، وربما تعذر أداؤه مع حركات النطق الأجنبية الغريبة عن حركاتنا، فالأحسن طريقة السلف، وهي إذا مست الحاجة إلى دخول لفظ أجنبي في لغتنا يجب وضعه في القالب العربي والنطق به على حسبه، وبهذا يكون من عداد الألفاظ العربية. قال صاحب «الصحاح»: تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها، وبالمثل نرى الإفرنج إذا أخذوا لفظا من لغتنا فيه حاء أو خاء أو صاد أو ضاد أو طاء أو ظاء أو عين أو غين أو قاف حروف ليست في لغاتهم حولوا هذه الحروف إلى ما يقرب منها، ويا ليتهم اقتصروا على ذلك! بل حرفوا الكلمات العربية جوهرها وعرضها؛ فالفرنسيس قالوا في صلاح الدين سلدن
SALADIN
وفي ابن سينا أڤسين
AVICENNE ، وفي ابن رشد أڤروويس
AVFRROES ، وفي رشيد روزيت
ROSETTE ، كلمات صارت في عداد كلماتهم مدونة في معجماتهم. ومع هذا إذا كان الغرض مجرد بيان النطق الأجنبي والمقام مقام توقيف فلا بأس بما استحسنه البعض، ويوضع نقطة تحت الكاف لينطق بها جيما، وفوقها لينطق بها نونا، ووضع ثلاث نقط فوق الفاء لينطق بها كحرف متوسط بين الباء الفارسية والفاء العربية، ووضع ألف صغيرة فوق الحرف وياء بعده إذا أريد إمالته، ووضع ضمة وفتحة فوق الحرف إذا أريد نطقه بحركة متوسطة بين الضمة والفتحة ونحو ذلك، كما ترى بعض هذا في أمثلة صلاح الدين وابن سينا وابن رشد ورشيد السابقة، فتدبر.
الفصل الرابع
في علوم الخط
قد صنفوا علوما مختلفة في الخط، منها ما يتعلق بأدواته من القلم والدواة والمداد والكاغد. ونظم «ابن البواب» في أدوات الكتابة قصيدة رائية، ولياقوت رسالة فيها أيضا. قال عبد الحميد الكاتب المشهور لمسلم بن قتيبة، وقد رآه يكتب خطا رديئا: «إن كنت تحب أن تجود خطك فأطل جلفتك وأسمنها، وجوف قطتك وأيمنها.» قال مسلم: ففعلت ذلك فجاد خطي. ومنها ما يتعلق بقوانين الكتابة؛ أي في كيفية نقش صور الحروف. ولمحمد أفندي مؤنس المصري رسالة في ذلك سماها: «الميزان المألوف». ومنها ما يتعلق بتحسين الكتابة، ويرجع ذلك إلى حسن تشكيل الحروف، وإلى حسن وضع الكلمات. ومنها ما يتعلق بالإملاء، وللشيخ نصر الهوريني كتاب جليل في هذا الموضوع سماه: «المطالع النصيرية»، وقد تمت تأليفا وطبعا سنة 1275 للهجرة.
وأعيد طبعها بالمطبعة الأميرية سنة 1302. وللشيخ مصطفى السفطي المؤدب بالمدارس المصرية رسالة مفيدة في هذا الموضوع اسمها: «عنوان النجابة في قواعد الكتابة»، وللفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل المكتبة الخديوية منظومة لطيفة في قواعد الرسم، فرغ من تأليفها سنة 1306، وهي مطبوعة في مجموع المتون. ومنها ما يتعلق بخط المصحف، فإن فيه أشياء جاءت مخالفة للقياس فتحفظ عن السلف ولا يقاس عليها. ومثل خط المصحف في عدم القياس عليه خط العروضيين؛ فإنهم يكتبون في تقطيع الشعر ما يلفظونه تماما، فيكتبون التنوين نونا، والحرف المشدد بحرفين، ويحذفون «ال» الشمسية ونحو ذلك. قال ابن درستويه: «خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف ؛ لأنه سنة، وخط العروض؛ لأنه يكتب فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه.»
الباب الثالث
في تاريخ الشعر
الفصل الأول
في تعريف الشعر وفنونه ووجه تعلمه
(1) تعريف الشعر
الشعر لغة: العلم والفطنة، ومنه: ليت شعري، ثم غلب على منظوم الكلام لشرفه بالوزن والقافية كما غلب الفقه على علم الشرع والنجم على الثريا، ومنه حديث: «إن من الشعر لحكمة، فإذا ألبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر.» قال في «المزهر»: «وكان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأنجاد وسمحائها الأجواد؛ لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم؛ فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا؛ لأنهم شعروا به.» ا.ه.
والمناطقة يشترطون في الشعر الخيال لا الوزن؛ فإنهم أطلقوه على القياس المركب من قضايا خيالية تؤثر في النفس فتصير مبدأ فعل أو ترك أو رضاء أو سخط أو بسط أو قبض أو لذة أو ألم، وجاءهم هذا من الشعر اليوناني فإن المنطق مأخوذ عن اليونان. والشعر بهذا المعنى يفيد عند الاستعطاف والاستقضاء وفي الإقدام على الهيجاء ونحو ذلك ما لا يفيده البرهان، فإن النفس أطوع إلى التخييل منها إلى التصديق؛ لأنه إليها ألذ وأغرب. ثم قالوا: ويزيد في تأثيره الوزن والصوت، قال عبد الغني النابلسي:
لا تلمني إن السماع يقيت
وهو يحيي بطيبه ويميت
وقال طرفة:
تغن في كل شعر أنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وقال العطار: من لم يتأثر برقيق الأشعار تتلى بلسان الأوتار على شطوط الأنهار في ظلال الأشجار؛ فذلك جلف الطبع حمار.
من كل معنى لطيف أحتسي قدحا
وكل ساجعة في الكون تطربني
ونحن نشاهد أهل الصناعة الشاقة يستعينون عليها بالتغني، والإبل عند كلالها ينشطها صوت الحادي والمغني، وشجعان العرب تتمثل بالأشعار وتلقي نفسها عند ذلك في مهالك الأخطار، فلا تبالي بمواقع السيوف ولا بوارق الحتوف. وقال شارح «سلم العلوم»: ولا بد في الشعر من أن يكون جاريا على قانون اللغة، وأن يكون ذا استعارات لطيفة أو تشبيهات بديعة، وأن تكون قضاياه بحيث تؤثر في النفس سواء كانت صادقة أو كاذبة، فلا يجوز فيه استعمال الأوليات الغير مؤثرة، ويجوز استعمال المخيلات ولو كاذبة مستحيلة، وقد يستنتج منه اجتماع الضدين؛ نحو: أنا مضمر الشكوى باللسان مظهرها بالدموع، وكل مضمر صامت، وكل مظهر متكلم، فأنا صامت متكلم، ويقرب من هذا:
أشكو وأشكر فعله
فاعجب لشاك منه شاكر
ا.ه.
ويظهر أن الاقتصار في تعريف الشعر على الوزن والتقفية آت من اصطلاح العروضيين؛ فإنهم لا يبحثون عنه إلا من هذه الجهة، وأن الشعر في اعتبار الأديب يجمع بين شرطي الوزن والخيال، كقوله:
والشمس لا تشرب خمر الندى
في الروض إلا من كئوس الشقيق
لكن ذلك يخرج من الشعر ما هو منه؛ فإن كثيرا من منظوم الكلام مع جودته يخلو من القضايا الخيالية، كقول زهير:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
وقول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
وقول عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
فمثل هذا خال من الخيال، مركب من قضايا أولية، ولا يسعنا أن ننكر أنه شعر جيد في باب الحكم. على أن شرط الخيال مع الوزن لا يستقيم معه تقسيمهم الشعر إلى خمسة أقسام: مرقص، كقوله:
ومهفهف يحميه عن نظر الورى
غيران سكنى الملك تحت قبابه
أوما إلي أن ائتني فأتيته
والفجر ينظر من خلال سحابه
فضممته للصدر حتى استوهبت
مني ثيابي بعض طيب ثيابه
وكأن قلبي من وراء ضلوعه
طربا يخبر قلبه عما به
ومطرب كقوله:
لك قد لولا جوارح عيني
ك لغنت عليه ورق الحمام
ومقبول كقول زهير:
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يعد حمده ذما عليه ويندم
ومسموع مما يستقيم به الوزن، كقول ابن الرومي:
بجهل كجهل السيف والسيف منتضى
وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
ومتروك يمجه الطبع كقوله:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
قلاقل هم كلهن قلاقل
ومع هذا فالشعر الخيالي أجذب للنفس وأشد تأثيرا فيها من غيره، فهو الأحق بأن يسمى شعرا. وعرف الشعر ابن خلدون بعد أن أطال فيه القول بأنه الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة، ثم قال: «فقولنا: الكلام البليغ جنس، وقولنا: المبني على الاستعارة والأوصاف فصل عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا: المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس شعرا عند الكل، وقولنا: مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة؛ لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء، وقولنا: الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم؛ لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور، وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب.» ا.ه. (2) فنون الشعر
جعل أبو تمام فنون الشعر عشرة: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومذمة النساء، وبنى عليها كتاب «الحماسة»، ومما جاء فيه:
في باب الحماسة، قول الفند الزماني في حرب البسوس:
صفحنا عن بني ذهل
وقلنا: القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجع
ن قوما كالذي كانوا
فلما صرح الشر
فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا
ن دناهم كما دانوا
مشينا مشية الليث
غدا والليث غضبان
بضرب فيه توهين
وتخضيع وإقران
وطعن كفم الزق
غذا
1
والزق ملآن
وفي الشر نجاة حي
ن لا ينجيك إحسان
وبعض الحلم عند الجه
ل للذلة إذعان
وفي باب المراثي قول مهلهل:
نبئت أن النار بعدك أوقدت
واستب بعدك يا كليب المجلس
وتكلموا في أمر كل عظيمة
لو كنت شاهدهم بها لم ينبسوا
وإذا تشاء رأيت وجها واضحا
وذراع باكية عليها برنس
تبكي عليك ولست لائم حرة
تأسى عليك بعبرة وتنفس
وفي باب الأدب قول مسكين الدارمي:
وقتيان صدق لست مطلع بعضهم
على سر بعض غير أني جماعها
لكل امرئ شعب من القلب فارغ
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
وفي باب النسيب قول نصيب:
كأن القلب ليلة قيل: يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها
2
شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
لها فرخان قد تركا بوكر
فعشهما تصفقه الرياح
إذا سمعا هبوب الريح نصا
3
وقد أودى بها القدر المتاح
فلا في الليل نالت ما ترجي
ولا في الصبح كان لها براح
وفي باب الهجاء قول آخر:
إذا بكرية ولدت غلاما
فيا لؤما لذلك من غلام!
يزاحم في المآدب كل عبد
وليس لدى الحفاظ بذي زحام
وفي باب الإضافة والمدح قول عتيبة المازني:
ومستنبح بات الصدى يستتيهه
4
إلى كل صوت فهو في الرحل جانح
فقلت لأهلي: ما بغام مطية
وسار أضافته الكلاب النوابح؟
فقالوا: غريب طارق طوحت به
متون الفيافي والخطوب الطوارح
فقمت ولم أجثم مكاني ولم تقم
مع النفس علات البخيل الفواضح
وناديت شبلا فاستجاب وربما
ضمنا قرى عشر لمن لا نصافح
فقام أبو ضيف كريم كأنه
وقد جد من فرط الفكاهة مازح
إلى جذم مال قد نهكنا سوامه
5
وأعراضنا فيه بواق صحائح
جعلناه دون الذم حتى كأنه
إذا عد مال المكثرين المنائح
6
لنا حمد أرباب المئين ولا
يرى إلى بيتنا مال مع الليل رائح
وفي باب الصفات قول البعيث الحنفي:
وهاجرة يشوي مهاها سمومها
طبخت بها عيرانة واشتويتها
مفرجة منفوجة حضرمية
مساندة سر المهارى انتقيتها
فطرت بها شجعاء قرواء جرشعا
إذا عد مجد العيس قدم بيتها
وجدت أباها رائضيها وأمها
فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها
وفي باب السير والنعاس قول الخطيم:
وقال وقد مالت به نشوة الكرى
نعاسا ومن يعلق سرى الليل يكسل
أنخ نعط أنضاء النعاس دواءها
قليلا ورفه عن قلائص ذبل
فقلت له: كيف الإناخة بعد ما
حدا الليل عريان الطريقة منجلي؟
وفي باب الملح قول بعض الحجازيين:
خبروها بأنني قد تزوج
ت فظلت تكاتم الغيظ سرا
ثم قالت لأختها ولأخرى
جزعا: ليته تزوج عشرا!
وأشارت إلى نساء لديها
لا ترى دونهن للسر سترا:
ما لقلبي كأنه ليس مني
وعظامي كأن فيهن فترا
من حديث نما إلي فظيع
خلت في القلب من تلظيه جمرا
وفي باب مذمة النساء قول آخر في امرأة طلقها:
رحلت أنيسة بالطلاق
وعتقت من رق الوثاق
بانت فلم يألم لها
قلبي ولم تبك المآقي
ودواء ما لا تشتهي
ه النفس تعجيل الفراق
لو لم أرح بفراقها
لأرحت نفسي بالإباق
وخصيت نفسي لا أري
د حليلة حتى التلاقي
وقال عبد العزيز بن أبي الأصبع: «الذي وقع لي أن فنون الشعر ثمانية عشر فنا: غزل، ووصف، وفخر، ومدح، وهجاء، وعتاب، واعتذار، وأدب، وزهد، وخمريات، ومراث، وبشارة، وتهان، ووعيد، وتحذير، وتحريض، وملح، وباب مفرد للسؤال والجواب.» (3) وجه تعلم الشعر
إذا أردت أن تقول الشعر فتخير أولا من أشعار الشعراء النوابغ الشعر الرصين ذا الخيالات والأساليب، واحفظ كثيرا منه، وتفهم معانيه، فبهذا تتكيف نفسك وتشحذ قريحتك وتتهيأ للنظم، فأقبل عليه وأكثر منه تزكو فيك ملكته. قال الخوارزمي: «من روى حوليات زهير واعتذارات النابغة وحماسيات عنترة وأهاجي الحطيئة وهاشميات الكميت ونقائض جرير وخمريات أبي نواس ومراثي أبي تمام ومدائح البحتري وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم ولم يخرج إلى الشعر فلا أشب الله قرنه!» وإذا خلوت في مكان يروق فيه نظر المياه وتزكو نفحة الأزهار ويطيب استنشاق الهواء ويستلذ المسموع أجممت فؤادك ونشطت القريحة إلى الشعر. قالت الحكماء: لم يستدع شارد الشعر بأحسن من الماء الجاري والمكان الخالي والشرف العالي. ولقي أبو العتاهية الحسن بن هانئ، فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تؤتى بالرياحين والزهور فتوضع بين يديك؟ قال : وكيف ينبغي للشعر أن يقال إلا على هكذا؟! قال: أما إني أقوله على الكنيف. قال: ولذلك توجد فيه الرائحة، ولا بد أن يكون فيك ما يبعث عليه. قال ابن رشيق: ومن بواعثه العشق والانتشاء. قيل لكثير عزة لم تركت الشعر؟ قال: ذهب الشباب فما أعجب، وماتت عزة فما أطرب، ومات عبد العزيز فما أرغب - يريد عبد العزيز بن مروان. وتخير لعلم شعرك باكورة نهارك عندما تهب من النوم، قال الفرزدق: من أسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكرى، وأول النهار قبل الغداء وعند مناجاة النفس واجتماع الفكر، فإذا استعصى عليك بعد هذا كله فراوضه في وقت آخر. قال ابن خلدون: فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف بالترك والإهمال. قيل لكثير عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحبلة، والرياض المعشبة، فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني فروح قلبك وأجم ذهنك وارتصد لقولك فراغ بالك، فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول وليلك الأجمع. وضع قوافي قصيدتك أولا وابن عليها الأبيات لئلا تجيء القوافي نافرة عن محالها، وإذا جادت قريحتك ببيت لا يناسب سابقه فاتركه إلى موضعه الأليق به. وليكن شعرك فصيحا بليغا يمضي مع النفس، تسابق معانيه ألفاظه إلى الفهم، ذا تأثير في الطباع؛ ففي الحماس يكون مهيجا للقوى مثيرا للخواطر باعثا على الحمية، وفي العتاب يكون هاديا للموافقة مولدا للرضا ... إلى غير ذلك. وراجع شعرك بعد الفراغ منه ونقحه، فقد روي أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها في سنة؛ ولذا كانت قصائده تسمى بالحوليات.
روي عن البحتري أنه قال: «كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال: يا أبا عبادة، تخير الأوقات وأنت قليل الهموم ، صفر من الغموم، واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر؛ وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق ولوعة الفراق، فإذا أخذت في مديح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، وأبن معالمه وشرف مقامه، ونضد المعاني واحذر المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله. قال: فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة.»
الفصل الثاني
في تاريخ الشعر
الشعر قالته العرب من قديم من عهد عاد وثمود والعمالقة كما يدل على ذلك رواية بعض أخبارهم، إلا أنه لما كانت أحوال الأمم في هذه الأعصر الغابرة مدرجة تحت طي الخفاء لم تصل إلينا أشعار شعرائهم، ولا أخبارهم مفصلة حتى نتعرف منها سير الشعر وترقيه، ولم يزل الأمر مستورا إلى أن جاء عصر آل المنذر ملوك الحيرة قبل الإسلام بنحو مائة سنة فأكثر، فبرح الخفاء وأخذ الشعر في الظهور والنماء. وأولع العرب به حتى صار ديدنا لهم وسجية فيهم ومبلغ علمهم وحكمتهم وأدبهم، يقولونه رجالا ونساء في فنون مختلفة، كالحماسة والفخر والنسيب والحكم والآداب والأخلاق والمدح والهجاء والرثاء والاعتذار والوعيد والعقاب والشكوى وذكر المنازل والطلول، ووصف الظباء والغزلان وتاريخ الوقائع وأيام الحروب وغير ذلك؛ ولذا قيل: «الشعر ديوان العرب.» قال الخطيب التبريزي: «به يحفظون المكارم والمناسب، ويقيدون به الأيام والمناقب، ويخلدون به معالم الثناء، ويبقون به مواسم الهجاء، ويضمنونه ذكر وقائعهم في أعدائهم، ويستودعونه حفظ صنائعهم إلى أوليائهم.» ا.ه.
وكان للعرب أسواق يقيمونها يعرضون فيها أشعارهم إما ارتجالا وإما استحضارا، روي أن النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ، فيجلس لشعراء العرب على كرسي، وتأتيه الشعراء فتنشده أشعارها فيفضل من يرى تفضيله، فأنشده في بعض المواسم الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم الخنساء فأعجبه شعرها، فقال لها: «اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولولا أن أبا بصير (يريد الأعشى) أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم، فإنك أشعر الإنس والجن.» فلما أن سمع حسان ذلك غضب، وقال: أنا أشعر منك ومنها. فقال له: يا ابن أخي، ليس الأمر كما ظننت. ثم التفت إلى الخنساء وقال: خاطبيه يا خناس. فالتفتت إليه الخنساء وقالت: ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفا؟ قال: قولي فيها:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قالت: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا. قال: وكيف؟ قالت: قلت: «لنا الجفنات»، والجفنات ما دون العشر، ولو قلت: الجفان لكان أكثر. وقلت: «الغر»، والغرة بياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعا. وقلت: «يلمعن»، واللمعان شيء يأتي بعد شيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت: «بالضحى»، ولو قلت: بالدجى لكان أكثر طراقا. وقلت: «أسياف»، والأسياف ما دون العشرة، ولو قلت: سيوف لكان أكثر. وقلت: «يقطرن»، ولو قلت: يسلن لكان أكثر. وقلت: «دما»، والدماء أكثر من الدم. فسكت حسان ولم يحر جوابا. (1) المعلقات السبع
ومن أشهر شعر العرب القصائد السبع المشهورة بالمعلقات؛ لأنها علقت على الكعبة احتراما لها، وأصحابها: امرؤ القيس الكندي، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى المزني، ولبيد بن ربيعة العامري، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد العبسي، والحارث بن حلزة اليشكري.
ورأيت على هامش «شرح الزوزني» لهذه المعلقات ما نصه: «إنما سميت المعلقات؛ لأن العرب في الجاهلية كان الرجل منهم يقول الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ به ولا ينشده أحدا، حتى يأتي مكة فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرا لقائله، وإن لم يستحسنوه طرح ولم يعبأ به. قال أبو عمرو بن العلاء: وكانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش. قال ابن الكلبي: فأول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه فعلقت الشعراء بعده، وكان ذلك فخرا للعرب في الجاهلية. وعدد من علق شعره سبعة آلاف، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة. وروى آخرون أن بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعار فسماها المعلقات الثواني.»
قال حماد الراوية: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش فما قبلوا منه كان مقبولا، وما ردوا منه كان مردودا، فقدم عليهم علقمة الفحل، فأنشدهم قصيدته التي أولها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
فقالوا: هذه سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته التي أولها:
طحا بك قلب في الحسان طروب
بعيد الشباب عصر حان مشيب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
وكان للبداوة والحضارة تأثير على الشعر؛ فكان شعر البدوي يدور بين جبل وجمل وحط وترحال ورداء وخباء وصيال ونزال وقتام وغمام، وما أشبه ذلك من مشاهده التي هو فيها، وشعر الحضري بين قصور وحور وترف وطرف ولهو وطرب وخلاعة وما شاكل ذلك.
وكان الشعر ذا تأثير واعتبار في النفوس؛ فكان الشاعر يرفع قوما ويخفض آخرين بشعره. مما يرشد إلى ذلك ما جاء في ترجمة الأعشى في «الأغاني» من أنه كان لأبي المحلق شرف فمات وقد أتلف ماله، وبقي المحلق وثلاث أخوات له ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة كان يسد بها الحقوق. فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه، فأقبلت عمة المحلق فقالت: يا ابن أخي هذا الأعشى قد نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلا رفعهم، ولم يهج قوما إلا وضعهم، فانظر ما أقول لك واحتل في زق من خمر من عند بعض التجار، فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردتي أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردتين ليقولن فيك شعرا يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها! فأقبل يدخل ويخرج ويهم ولا يفعل، فكلما دخل على عمته حضته حتى دخل عليها، فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك مولى له أسود شيخ، فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائبا عن الماء عند نزوله إياه، وأنت لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر، وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه، فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه، فخرج يتبعه فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمفتوحة اليمامة، فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيخا فهم يشربون منه، إذ قرع الباب، فقال: انظروا من هذا؟ فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا، فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: ويحكم، أعرابي والذي أرسل إلي لا قدر له! والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعرا لم أقل قط مثله. فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة ثم أتيناك فلم تطعمنا لحما وسقيتنا الفضيخ واللحم والخمر ببابك لا نرضى بذا منك. فقال: ائذنوا له، فدخل فأدى الرسالة، وقد أناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. قال: أقره السلام وقل له: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤنا. وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها، وجلدها عن سنامها ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
وما بي من سقم وما بي معشق
ولكني أراني لا أزال بحادث
أغادي بما لم يمس عندي وأطرق
حتى انتهى إلى قوله:
أبا مسمع سار الذي قد فعلتم
فأنجد أقوام به ثم أعرقوا
به تعقد الأجمال في كل منزل
وتعقد أطراف الحبال وتطلق
قال: فسار الشعر وشاع في العرب، فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف. وقال ابن رشيق: «وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشارة لذكرهم، وكانوا يهنئون إما بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج.» (2) تأثير الإسلام على الشعر
وفي أول الإسلام انصرف العرب عن الشعر بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، ولكنهم رجعوا إليه لما علموا أن لا حظر عليه فيما أتاهم به النبي، بل رأوه - عليه الصلاة والسلام - يسمعه ويثيب عليه، فقد أجاز كعب بن زهير بردا حين مدحه بقصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
ويروى أن كعبا باع البردة إلى معاوية بعشرين ألف درهم. قال عمر بن الخطاب: «كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه.» فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثير. وقد كان عند آل النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه. وبعد الإسلام بزمن لما كثر تمدن العرب وتحضرهم واختلاطهم بأهل الأمصار أخذ الشعراء في التأنق في الشعر فرق وحسن ولبس صبغة غير صبغته التي كان عليها عصر الجاهلية. وبالإجمال حضارة الإسلام سلت عن الشعر رداء المعاظلة والحوشية، وألبسته حلل الرقة والملاحة، انظر إلى قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
ومما كان يساعد على ترقي الشعر أن الخلفاء والأمراء كان يثيبون الشعراء المجيدين ويقربونهم من مجالسهم؛ فكان الشاعر ينفتق لسانه بالشعر المليح رغبة في الجائزة أو طمعا في الجاه، وقد ينتجع بشعره قاصدا الممدوح مع بعد المشقة طلبا لنواله. وقد انتجع أبو نواس من بغداد قاصدا الخصيب بن عبد الحميد، أمير مصر من قبل الرشيد، ومدحه بقصيدته التي أولها:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
فغمره بإحسانه ورده إلى أوطانه. (3) اعتبار الشعر بعد الإسلام
ولم تزل درجة الشعر عالية واعتباره في النفوس باقيا عصر الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية، فقد روي أن بني عبد المدان كانوا يفخرون بطول أجسامهم، حتى قال فيهم حسان:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ
جسم البغال وأحلام العصافير
فقالوا له: يا أبا الوليد، لقد تركتنا ونحن نستحيي من ذكر أجسامنا بعد أن كنا نفخر بها! فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت، فقال فيهم:
وقد كنا نقول إذا رأينا
لذي جسم يعد وذي بيان
كأنك أيها المعطى لسانا
وجسما من بني عبد المدان
وروي أن الزبرقان بن بدر لما هجاه الحطيئة بشعر قال فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
حط من أمره، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأسا. قال الزبرقان: والله يا أمير المؤمنين ما هجيت ببيت قط أشد علي منه، فبعث إلى حسان بن ثابت وقال: انظر إن كان هجاه! فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه. فأمر الأمير بحبس الحطيئة، فكتب إليه وهو في الحبس:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر!
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه
ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها
لكن لأنفسهم قد كانت الأثر
فأمر بإطلاقه وأخذ عليه أن لا يهجو أحدا.
وكان بنو نمير أشراف قيس وذوائبها، فلما هجا جرير راعيهم بقوله:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
اتضع اسمهم وانحط شأنهم.
وروي أن جريرا دخل على عبد الملك بن مروان، فأنشده قصيدته التي أولها:
أتصحو أم فؤادك غير صاحي
عشية هم صحبك بالرواح؟
تقول العاذلات: علاك شيب
أهذا الشيب يمنعني مزاحي؟!
تعزت أم حرزة ثم قالت:
رأيت الموردين ذوي لقاح
ثقي بالله ليس له شريك
ومن عند الخليفة بالنجاح
سأشكر أن رددت إلي ريشي
وأنبت القوادم في جناحي
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح؟
فلما انتهى جرير إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئا، فاستوى جالسا وقال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم أجاز جريرا بمائة ناقة.
ثم أخذ اعتبار الشعر يتناقص في غضون دولة بني العباس لما كان يؤخذ به الشعراء من مس شرف ذوي المقامات.
فمن ذلك ما روي أن بشار بن برد في خلافة المهدي ثالث خلفاء بني العباس استنهض بني أمية في استرداد الخلافة إليهم، مدعيا أن الخليفة مغمور في ملاهيه وأن القائم بأعباء الخلافة وزيره يعقوب بن داود، فقال في ذلك:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناي والعود
فضربه حتى مات. وقيل: إن بشار بن برد هجا صالح بن داود أخا يعقوب حين ولي فقال:
همو حملوا فوق المنابر صالحا
أخاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب هجاؤه فدخل على المهدي فقال: إن هذا الأعمى المشرك قد هجا الخليفة، قال: وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده، فأبى أن يعفيه، فأنشده:
خليفة يزني بعماته
يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره
ودس موسى في حر الخيزران
فوجه في حمله فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه ، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة.
وفي القرون الأخيرة مالت الأنظار عن الشعر وقلت جوائزه. (4) تقسيم الشعر إلى أربع طبقات
وقد قسم الشعر إلى أربع طبقات: شعر جاهلي؛ وهو شعر من جاء قبل الإسلام كشعر امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى المتوفى قبل الإسلام بنحو سنة، وشعر مخضرم؛ وهو شعر من أدرك عصر الجاهلية والإسلام، كشعر الأعشى والحطيئة، وشعر إسلامي؛ كشعر شعراء الدولة الأموية مثل الفرزدق وجرير، وشعر مولد؛ كشعر شعراء الدولة العباسية مثل أبي نواس وأبي فراس الحمداني المتوفى سنة 357. قالوا: إن الشعر ختم بأبي فراس كما بدئ بامرئ القيس الكندي. (5) الاستشهاد بالشعر في العلوم
وشعر الطبقة الأولى والثانية يستشهد به في اللغة وغيرها، وأما شعر الثالثة فالصحيح أنه يستشهد به أيضا، وأما الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بشعرها إلا في علوم المعاني والبيان والبديع؛ فإنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين الجاهلي والمولد. وقد زيدت طبقة خامسة وهي: شعر المتأخرين، كابن مطروح، وصفي الدين الحلي المتوفى سنة 750. ويلحق بهذه الطبقة شعر شعراء هذا العصر؛ أي القرن الرابع عشر الهجري وما قبله، مثل الشيخ علي الليثي، والشيخ علي أبي النصر من شعراء العائلة الخديوية. ولما توفي خديوي مصر محمد باشا توفيق سنة 1309 من الهجرة رثاه بقصائد الشعر نحو ستين شاعرا ترى أسماءهم وقصائدهم في كتاب «القول الحقيق في رثاء وتاريخ الخديوي المغفور له محمد باشا توفيق».
ولدرك تفاوت درجات الشعر مع تقلبات العصور نذكر أشعارا لهذه الطبقات تتوارد على باب واحد، كالمدح والنسيب والرثاء. (6) أشعار متواردة على المدح
قال الشاعر الجاهلي، وهو زهير بن أبي سلمى، يمدح هرم بن سنان المري:
إن الخليط أجد البين فانفرقا
وعلق القلب من أسماء ما علقا
1
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت
فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
2
وفارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
3
قامت تراءى بذي ضال لتحزنني
ولا محالة أن يشتاق من عشقا
بجيد مغزلة أدماء خاذلة
من الظباء تراعي شادنا خرقا
4
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت
من طيب الراح لما يعد أن عتقا
5
شج السقاة على ناجودها شبما
من ماء لينة لا طرقا ولا رنقا
6
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت
أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
7
دانية من شرورى أو قفا أدم
تسعى الحداة على آثارهم حزقا
8
كأن عيني في غربي مقتلة
من النواضح تسقي جنة سحقا
9
تمطو الرشاء فتجري في ثنايتها
من المحالة قبا رائدا قلقا
10
لها متاع وأعوان غدون به
قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا
وخلفها سائق يحدو إذا خشيت
منه اللحاق تمد الصلب والعنقا
وقابل يتغنى كلما قدرت
على العراقي يداه قائما دفقا
11
يحيل في جدول تحبو ضفادعه
حبو الجواري ترى في مائه نطقا
12
يخرجن من شربات ماؤها طحل
على الجذوع يخفن الغم والغرقا
13
بل اذكرن خير قيس كلها حسبا
وخيرها نائلا وخيرها خلقا
القائد الخيل منكوبا دوابرها
قد أحكمت حكمات القد والأبقا
14
غزت سمانا فآبت ضمرا خدجا
من بعد ما جنبوها بدنا عققا
15
حتى يئوب بها عوجا معطلة
تشكو الدوابر والأنساء والصفقا
16
يطلب شأو امرأين قدما حسنا
نالا الملوك وبذا هذه السوقا
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما
على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل
فمثل ما قدما من صالح سبقا
أشم أبيض فياض يفكك عن
أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
وذاك أحزمهم رأيا إذا نبأ
من الحوادث غادى الناس أو طرقا
فضل الجياد على الخيل البطاء فلا
يعطي بذلك ممنونا ولا نزقا
17
قد جعل المبتغون الخير في هرم
والسائلون إلى أبوابه طرقا
إن تلق يوما على علاته هرما
تلق السماحة منه والندى خلقا
وليس مانع ذي قربى وذي رحم
يوما ولا معدما من خابط ورقا
18
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
19
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا
ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
هذا وليس كمن يعيا بخطبته
وسط الندي إذا ما ناطق نطقا
لو نال حي من الدنيا بمنزلة
وسط السماء لنالت كفه الأفقا
وقال الشاعر المخضرم وهو الحطيئة يمدح آل لأي:
ألا هبت أمامة بعد هدء
تعاتبني وما قضت كراها
فقلت لها: أمام ذري عتابي
فإن النفس مبدية نثاها
وليس لها من الحدثان بد
إذا ما الدهر عن كثب رماها
فهل أبصرت أو خبرت نفسا
أتاها في تمنيها مناها
كأني ساورتني ذات سم
نقيع لا يلائمها رقاها
لعمر الراقصات بكل فج
من الركبان موعدها مناها
لقد شدت حبائل آل لأي
حبالي بعدما ضعفت قواها
فما تتام جارة آل لأي
ولكن يضمنون لها قراها
لعمرك ما يضيع آل لأي
وثيقات الأمور إلى عراها
وما تركت حفائظها لأمر
ألم بها وما صغرت لهاها
ومن يطلب مساعي آل لأي
تصعده الأمور إلى علاها
كرام يفضلون قروم سعد
أولي أحسابها وأولي نهاها
وهم فرع الذرى من آل سعد
إذا ما عد من سعد ذراها
وخطة ماجد في آل لأي
إذا ما قام صاحبها قضاها
إذا اعوجت قناة الأمر يوما
أقاموها لتبلغ منتهاها
ويبني المجد راحل آل لأي
على العوجاء مضطمرا حشاها
وتسعى للسياسة آل لأي
فتدركها وما اتصلت لحاها
لعمرك إن جارة آل لأي
لعف جيبها حسن ثناها
وقال الشاعر الإسلامي، وهو الأخطل، يمدح الحجاج بن يوسف:
صرمت حبالك زينب وقذور
وحبالهن إذا عقدن غرور
يرمين بالحدق المراض قلوبنا
فغويهن مكلف مضرور
وزعمن أني قد ذهلت عن الصبا
ومضى لذلك أعصر ودهور
وإذا أقول: صحوت من أدوائها
هاج الفؤاد دمى أوانس حور
وإذا نصبن قرونهن لغدرة
فكأنما حلت لهن نذور
ولقد أصيد الوحش في أوطانها
فيذل بعد شماسه اليعفور
أحيا الإله لنا الإمام فإنه
خير البرية للذنوب غفور
نور أضاء لنا البلاد وقد دجت
ظلم تكاد بها الهداة تجور
الفاخرون بكل يوم صالح
وأخو المكارم بالفعال فخور
فعليك بالحجاج لا تعدل به
أحدا إذا نزلت عليك أمور
ولقد علمت وأنت أعلمنا به
أن ابن يوسف حازم منصور
وأخو الصفاء فما تزال غنيمة
منه يجيء بها إليك بشير
وترى الرواسم تختلفن وفوقها
ورق العراق سبائك وحرير
وبنات فارس كل يوم تصطفى
يعلونهن وما لهن مهور
والخيل يتعبها على علاتها
لله منتصب الفؤاد شكور
خوصا أضر بها ابن يوسف فانطوت
والحرب لاقحة لهن زجور
وترى المذكي في القياد كأنه
من طول ما جشم الغوار عقير
هريت نطاف عيونهن فأدبرت
فكأنهن من الضرارة عور
وحولن من خلج الأعنة وانطوت
منها البطون وفي الفحول جفور
قطع الغزاة عجافهن فأصبحت
حردا صلادم قرح وذكور
ولقد علمت بلاءه في معشر
تغلي شناة صدورهم وتفور
والقوم زأرهم وأعلى صوتهم
تحت السيوف غماغم وهرير
وإذا اللقاح غلت فإن قدوره
جوف لهن بما ضمن هدير
طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت
بشبيب غائلة النفوس غدور
يرجو البقية بعدما حدقت به
فرط المنية يحصب وحجور
فأباح جمعهم حميدا وانثنى
وله لوقعة آخرين زئير
وقال الشاعر المولد، وهو المتنبي، يمدح كافورا الإخشيدي:
من الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب؟
إن كنت تسأل شكا في معارفها
فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
لا تجزني بضنى لي بعدها بقر
تجزي دموعي مسكوبا بمسكوب
سوائر ربما سارت هوادجها
منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخدت أيدي المطي بها
على نجيع من الفرسان مصبوب
كم زورة لك في الأعراب خافية
أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها
وخالفوها بتقويض وتطنيب
جيرانها وهم شر الجوار لها
وصحبها وهم شر الأصاحيب
فؤاد كل محب في بيوتهم
ومال كل أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب؟!
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته
رغبت عن شعر في الوجه مكذوب
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
فما الحداثة من حلم بمانعة
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
قبل اكتهال أديبا قبل تأديب
مجربا فهما من قبل تجربة
مهذبا كرما من قبل تهذيب
حتى أصاب من الدنيا نهايتها
وهمه في ابتداءات وتشبيب
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
إذا أتتها الرياح النكب من بلد
فما تهب بها إلا بترتيب
ولا تجاوزها شمس إذا شرقت
إلا ومنه لها إذن بتغريب
يصرف الأمر فيها طين خاتمه
ولو تطلس منه كل مكتوب
يحط كل طويل الرمح حامله
من سرج كل طويل الباع يعبوب
كأن كل سؤال في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
إذا غزته أعاديه بمسألة
فقد غزته بجيش غير مغلوب
أو حاربته فما تنجو بتقدمة
مما أراد ولا تنجو بتجبيب
أضرت شجاعته أقصى كتائبه
على الحمام فما موت بمرهوب
قالوا: هجرت إليه الغيث! قلت لهم:
إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمن على آثار موهوب
ولا يروع بمغدور به أحدا
ولا يفزع موفورا بمنكوب
بلى يروع بذي جيش يجدله
ذا مثله في أحم النقع غربيب
وجدت أنفع مال كنت أذخره
ما في السوابق من جري وتقريب
لما رأيت صروف الدهر تغدر بي
وفين لي ووفت صم الأنابيب
فتن المهالك حتى قال قائلها:
ماذا لقينا من الجرد السراحيب؟!
تهوي بمنجرد ليست مذاهبه
للبس ثوب ومأكول ومشروب
يرى النجوم بعيني من يحاولها
كأنها سلب في عين مسلوب
حتى وصلت إلى نفس محجبة
تلقى النفوس بفضل غير محجوب
في جسم أروع صافي العقل تضحكه
خلائق الناس إضحاك الأعاجيب
فالحمد قبل له والحمد بعد لها
وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
وكيف أكفر يا كافور نعمتها
وقد بلغنك بي يا خير مطلوب
يا أيها الملك الغاني بتسمية
في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
أنت الحبيب ولكني أعوذ به
من أن أكون محبا غير محبوب
وقال شاعر العصر «حفني بك ناصف» القاضي بالمحاكم الأهلية يمدح خديوي مصر توفيق باشا ، ويهنئه بالعام الجديد، ويذكر حريق قصر عابدين والخديوي في مصيفه بالإسكندرية:
وافى يقبل راحتيك العام
وحنت إليك رءوسها الأيام
والدهر أقسم لا يجيء بغير ما
ترضى وكم برت له أقسام
فاقبل معاذير الزمان فطالما
قبلت معاذير المنيب كرام
واغفر جنايته على القصر الذي
لم تحو مصر نظيره والشام
شبت به النيران فارتاعت لها
مهج الأنام وهالها استعظام
وسعوا إلى إطفائها فتزاحمت
ثم السنابك والتقى الأقدام
زاغت لها الأبصار واحتشدت لها الن
ظار بل طاشت لها الأحلام
لولا الدخان أحاط حول لهيبها
ما شك فرد أنها أعلام
أمر به نفذ القضاء وليس في
أحكامه نقض ولا إبرام
لسنا نذكرك القضاء فأنت في
هذا المقام وفي سواه إمام
بل حكمة شاء الإله بيانها
لعباده ليذيع الاستسلام
حتى يروا أن الملوك وإن علوا
قدرا تسير عليهم الأحكام
فإذا اقتدى بهم الرعية أحسنوا
صبرا وخفت عنهم الآلام
عين السماء لعابدين تطلعت
حسدا عليك وللعيون سهام
وتشوف القصر الكريم لأهله
والشوق في قلب المحب ضرام
لم يستطع صبرا على طول النوى
والصبر في شرع الغرام حرام
فتصعدت زفراته وتأججت
جمراته والصب كيف يلام؟!
لولا الدموع من المطافئ ما انقضى
منه الهيام ولم يبل أوام
خرقت طباق الجو إلا أنها
برد قصارى أمرها وسلام
والنار من آي القبول فقد عفا
قربان هابيل لها إضرام
هذا وكم من نعمة في نقمة
طويت فلم تفطن لها الأفهام
عام بما فيه مضى ووفا أبا ال
عباس عام وجهه بسام
يفتر ثغر الدهر عن نفحاته
ويضيء من قسماته الإظلام
أيامه بك كلهن مسرة
وزمانه بك كله إنعام
مولاي أغرقت الأنام بأنعم
ليست تفي ببيانها الأقلام
طوقتهم بمواهب سجعوا بها
كالروض تسجع في رباه حمام
عفو وإحسان وحط ضرائب
ومدارس ومجالس ونظام
ودوام إرسال الوفود لمنتدى
أهل العلوم وللعلوم ذمام
أكرمتهم حتى ملكت قلوبهم
والحر يملك قلبه الإكرام
دم يا عزيز لمصر تصلح شأنها
فدوام ملكك للصلاح دوام
واستقبل الأيام تكلؤك العلا
ويحوطك التبجيل والإعظام
وانعم بعباس وطب بمحمد
فهما لأوصاف الكمال مرام
واهنأ بعام قلت في تاريخه:
توفيقنا تسمو به الأعوام
سنة 1309
وقال الشاعر المجيد أحمد بك شوقي، من موظفي المعية السنية، يهنئ الجناب العالي بعوده من دار الخلافة إلى مصر سنة 1316:
على قدر الهوى يأتي العتاب
ومن عاتبت تفديه الصحاب
ألوم معذبي فألوم نفسي
فأغضبها ويرضيها العذاب
ولو أني استطعت لتبت عنه
ولكن كيف عن روحي المتاب؟
ولي قلب بأن يهوى يجازى
ومالكه بأن يجني يثاب
ولو ساغ العقاب فعلت لكن
نفار الظبي ليس له عقاب
يلوم اللائمون وما رأوه
وقدما ضاع في الناس الصواب
صحوت فأنكر السلوان قلبي
علي وراجع الطرب الشباب
وللعيش الصبا فإذا تولى
فكل بقية في الكأس صاب
وما رثت له عندي حبال
ولا ضاقت له عني ثياب
وشأني والصبابة منذ كنا
كما الصهباء يألفها الحباب
كأن يد الغرام زمام قلبي
فليس عليه دون هوى حجاب
كأن جوانحي والحب فيها
فلاة التيه ما منها مآب
كأن الحب جوعة قوم موسى
فبعدي عنه بالسلوى اقتراب
كأن رواية الأشواق عود
على بدء وما كمل الكتاب
كأني والهوى أخوا مدام
لنا عهد بها ولنا اصطحاب
إذا ما اعتضت عن عشق بعشق
أعيد الكأس وامتد الشراب
وكل هوى بلائمة مشوب
وحبك بالملامة لا يشاب
لأنك أنت للأوطان كهف
وأنت حقوق مصرك والطلاب
وأنت الرأس ما منه بديل
وأنت الروح ما عنها مناب
وأنت سلاحنا ما خان يوما
وغيرك سهمنا وبه نصاب
فأهلا «بالأمير» وما رأينا
هلالا تستقر به الركاب
ولا شمسا «برأس التين» حلت
وفي الدنيا ضحاها واللعاب
وأكرم قادم أنت المفدى
وأيمن مقدم هذا الإياب
تغيب عن البلاد وعن بنيها
ومالك عن قلوبهم غياب
تقربك المنى آنا وآنا
تقربك الأحاديث العذاب
إذا ما سرت من قطر لقطر
أقام البحر وانتقل السحاب
إذا جاورت قوما حل فيهم
صميم المجد والشرف اللباب
إذا جعل الكرام لنا سماء
فإنك شمسها وهم الضباب
ولما جئت «دار الملك» حيت
بأحسن ما تعود ذا الجناب
أظلتك الخلافة في ذراها
وبرت سوحها بك والرحاب
وفتح للرعاية ألف باب
هناك وسد للواشين باب
وردنا الماء بينكما نميرا
وأظمأ من يريبكما السراب
وما وجدوا لمفسدة مجالا
ولكن تنبح القمر الكلاب
فعيشا فرقدين من الليالي
وعاش خلائق بكما وطابوا
نداء الخلف بينكما عقيم
وداعي الله بينكما مجاب (7) أشعار متواردة على النسيب
قال امرؤ القيس، وهو جاهلي:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟!
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد
قليل الهموم ما يبيت بأوجال؟
وهل ينعمن من كان أحدث عهده
ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
ديار لسلمى عافيات بذي الخال
ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا
بوادي الخزامى أو على رأس أوعال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا
من الوحش أو بيضا بميثاء محلال
ليالي سلمى إذ تريك منصبا
وجيدا كجيد الريم ليس بمعطال
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي!
بلى رب يوم قد لهوت وليلة
بآنسة كأنها خط تمثال
يضيء الفراش وجهها لضجيعها
كمصباح زيت في قناديل ذبال
كأن على لباتها جمر مصطل
أصاب غضى جزلا وكف بأجذال
وهبت له ريح بمختلف الصوى
صبا وشمالا في منازل قفال
كذبت لقد أصبي على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ومثلك بيضاء العوارض طفلة
لعوب تنسيني إذا قمت سربالي
لطيفة طي الكشح غير مفاضة
إذا انفتلت مرتجة غير متفال
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها
تميل عليه هونة غير مجبال
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه
بما احتسبا من لين مس وتسهال
إذا ما استحمت كان فيض حميمها
على متنتيها كالجمان لدى الجالي
تنورتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عال
نظرت إليها والنجوم كأنها
مصابيح رهبان تشب لقفال
سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
فقالت: سباك الله إنك فاضحي
ألست ترى السمار والناس أحوالي؟
فقلت: يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
ورضت فذلت صعبة أي إذلال!
حلفت لها بالله حلفة فاجر
لناموا فما إن من حديث ولا صال
فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها
عليه القتام كاسف الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه
ليقتلني والمرء ليس بقتال
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟!
وليس بذي سيف فيقتلني به
وليس بذي رمح وليس بنبال
أيقتلني وقد قطرت فؤادها
كما قطر المهنؤة الرجل الطالي؟!
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها
بأن الفتى يهذي وليس بفعال
وماذا عليه إن ذكرت أوانسا
كغزلان رمل في محاريب أقوال؟
وبيت عذارى يوم دجن دخلته
يطفن بجماء المرافق مكسال
قليلة جرس الليل إلا وساوسا
وتبسم عن عذب المذاقة سلسال
طوال المتون والعرانين كالقنا
لطاف الخصور في تمام وإكمال
أوانس يتبعن الهوى سبل المنى
يقلن لأهل الحلم ضلا بتضلال
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
ولست بمقلي الخلال ولا قالي
كأني لم أركب جوادا للذة
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أشهد الخيل المغيرة بالضحى
على هيكل نهد الجزارة جوال
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا
له حجبات مشرفات على الفال
وصم صلاب ما يقين من الوجى
كأن مكان الردف منه على رال
وقد أغتدي والطير في وكناتها
لغيث من الوسمي رائده خال
تحاماه أطراف الرماح تحاميا
وجاد عليه كل أسحم هطال
بعجلزة قد أترز الجري لحمها
كميت كأنها هراوة منوال
ذعرت بها سربا نقيا جلوده
وأكرعه وشي البرود من الخال
كأن الصوار إذ يجاهدن غدوة
على جمد خبل تجول بأجلال
فجال الصوار واتقين بقرهب
طويل القرا والروق أخنس ذيال
فعادى عداء بين ثور ونعجة
وكان عداء الوحش مني على بال
كأني بفتخاء الجناحين لقوة
صيود من العقبان طأطأت شملالي
تخطف خزان الشربة بالضحى
وقد حجرت منها ثعالب أورال
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
فلو أنما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي
وقال النابغة الذبياني، وهو جاهلي، يصف المتجردة، وقد دخل على النعمان، ففاجأته، فسقط نصيفها عنها، فغطت وجهها بمعصمها:
أمن آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود؟
أفد الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
زعم الغداف بأن رحلتنا غدا
وبذاك خبرنا الغداف الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به
إن كان تفريق الأحبة في غد
حان الرحيل ولم تودع مهدرا
والصبح والإمساء منها موعدي
في إثر غانية رمتك بسهمها
فأصاب قلبك غير أن لم تقصد
غنيت بذلك إذ هم لك جيرة
منها بعطف رسالة وتودد
ولقد أصاب فؤاده من حبها
عن ظهر مرنان بسهم مصرد
نظرت بمقلة شادن متربب
أحوى أحم المقلتين مقلد
والنظم في سلك يزين نحرها
ذهب توقد، كالشهاب الموقد
صفراء كالسيراء أكمل خلقها
كالغصن في غلوائه المتأود
والبطن ذو عكن لطيف طيه
والنحر تنفجه بثدي مقعد
محطوطة المتنين غير مفاضة
ريا الروادف بضة المتجرد
قامت تراءى بين سجفي كلة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درة صدفية غواصها
بهج متى يرها يهل ويسجد
أو دمية من مرمر مرفوعة
بنيت بآجر يشاد وقرمد
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
نظرت إليك بحاجة لم تقضها
نظر السقيم إلى وجوه العود
تجلو بقادمتي حمامة أيكة
بردا أسف لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غب سمائه
جفت أعاليه وأسفله ندي
زعم الهمام بأن فاها بارد
عذب مقبله شهي المورد
زعم الهمام - ولم أذقه - أنه
عذب إذا ما ذقته قلت: ازدد
زعم الهمام - ولم أذقه - أنه
يشفى بريا ريقها العطش الصدي
أخذ العذارى عقدها فنظمنه
من لؤلؤ متتابع متسرد
لو أنها عرضت لأشمط راهب
عبد الإله صرورة متعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها
ولخاله رشدا وإن لم يرشد
بتكلم لو تستطيع كلامه
لدنت له أروى الهضاب الصخد
وبفاحم رجل أثيث نبته
كالكرم مال على الدعام المسند
وإذا لمست لمست أجثم جاثيا
متحيزا بمكانه ملء اليد
وإذا طعنت طعنت في مستهدف
رابي المجسة بالعبير مقرمد
وإذا نزعت نزعت عن مستحصف
نزع الحزور بالرشاء المحصد
وإذا يعض تشده أعضاؤها
عض الكبير من الرجال الأدرد
ويكاد ينزع جلد من يصلى به
بلوافح مثل السعير الموقد
لا وارد منها يحور لمصدر
عنها، ولا صدر يحور لمورد
وقال الأعشى، وهو مخضرم:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتل
يكاد يصرعها لولا تشددها
إذا تقوم إلى جاراتها الكسل
هركولة فنق درم مرافقها
كأن أخمصها بالشوك منتعل
إذا تقوم يضوع المسك أصورة
والزنبق الورد من أردانها شمل
ما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
ومنها:
صدت هريرة عنا ما تكلمنا
جهلا بأم خليد حبل من تصل
أأن رأت رجلا أعشى أضر به
ريب المنون ودهر مفند خبل
قالت هريرة لما جئت زائرها:
ويلي عليك وويلي منك يا رجل!
أما ترانا حفاة لا نعال لنا
إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وقد أخالس رب البيت غفلته
وقد يحاذر مني ثم ما يئل
وقد أقود الصبا يوما فيتبعني
وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاو مشل شلول شلشل شول
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
نازعتهم قضب الريحان متكئا
وقهوة مزة راووقها خضل
لا يستفيقون منها وهي راهنة
إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجات له نطف
مقلص أسفل السربال معتمل
ومستجيب تخال الصنج تسمعه
إذا ترجع فيه القينة الفضل
والساحبات ذيول الريط آونة
والرافلات على أعجازها العجل
من كل ذلك يوم قد لهوت به
وفي التجارب طول اللهو والغزل
وقال عمر بن أبي ربيعة، وهو إسلامي:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر؟
لحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
أهيم إلى نعم فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع
ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها
نهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر
إذا زرت نعما لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيتها يتنمر
عزيز عليه أن ألم ببيتها
يسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه
يشهر إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها
بمدفع أكنان: أهذا المشهر؟
قفي فانظري أسماء هل تعرفينه؟
أهذا المغيري الذي كان يذكر؟
أهذا الذي أطريت نعتا فلم أكن - رعيتك - أنساه إلى يوم أقبر؟
فقالت: نعم لا شك غير لونه
سرى الليل يحيي نصه والتهجر
لئن كان إياه لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قليل على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
وليلة ذي دوران جشمني السرى
وقد يجشم الهول المحب المغرر
فبت رقيبا للرفاق على شفا
أحاذر منهم من يطوف وأنظر
إليهم متى يستمكن النوم منهم
ولى مجلس لولا اللبانة أوعر
وباتت قلوصي بالعراء ورحلها
لطارق ليل أو لمن جاء معور
وبت أناجي النفس أين خباؤها
وكيف لما آتي من الأمر مصدر؟
فدل عليها القلب ريا عرفتها
لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت
مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أهوى غيوبه
وروح رعيان ونوم سمر
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال
حباب وشخصي خشية الحي أزور
فحييت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمخفوض التحية تجهر
وقالت وعضت بالبنان: فضحتني
وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف - وقيت - وحولي من عدوك حضر؟!
فو الله ما أدري أتعجيل حاجة
سرت بك أم قد نام من كنت تحذر؟
فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى
إليك وما نفس من الناس تشعر «فقلت: كذاك الحب قد يحمل الفتى
من الهول حتى يستقاد فينحر»
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها:
كلاك بحفظ ربك المتكبر
فأنت أبا الخطاب غير مدافع
علي أمير ما مكثت مؤمر
فبت قرير العين أعطيت حاجتي
أقبل فاها في الخلاء فأكثر
فيا لك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلى قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس
لنا لم يكدره علينا مكدر
يمج ذكي المسك منها مقبل
نقي الثنايا ذو غروب مؤشر
تراه إذا ما افتر عنه كأنه
حصا برد أو أقحوان منور
وترنو بعينيها إلي كما رنا
إلى ظبية وسط الخميلة جؤذر
فلما تقضى الليل إلا أقله
وكادت توالي نجمه تتغور
أشارت بأن الحي قد حان منهم
هبوب ولكن موعد منك عزور
فما راعني إلا مناد: ترحلوا!
وقد لاح معروف من الصبح أشقر
فلما رأت من قد تنبه منهمو
وأيقاظهم قالت: أشر كيف تأمر؟
فقلت: أباديهم فإما أفوتهم
وإما ينال السيف ثأرا فيثأر
فقلت: أتحقيقا لما قال كاشح
علينا وتصديقا لما كان يؤثر؟
فإن كان ما لا بد منه فغيره
من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقص على أختي بدء حديثنا
وما لي من أن يعلما متأخر
لعلهما أن يطلبا لك مخرجا
وأن يرحبا سربا بما كنت أحصر
فقامت كئيبا ليس في وجهها دم
من الحزن تذري عبرة تتحدر
فقامت إليها حرتان عليهما
كساءان من خز؛ دمقس وأخضر
فقالت لأختيها: أعينا على فتى
أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا:
أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر
فقالت لها الصغرى: سأعطيه مطرفي
ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر
يقوم فيمشي بيننا متنكرا
فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر
فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص؛ كاعبان ومعصر
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي:
أما تتقي الأعداء والليل مقمر؟
وقلن: أهذا دأبك الدهر سادرا
أما تستحي أو ترعوي أو تفكر؟!
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فآخر عهد لي بها حيث أعرضت
ولاح لها خد نقي ومحجر
سوى أنني قد قلت يا نعم قولة
لها والعتاق الأرحبيات تزجر
هنيئا لأهل العامرية نشرها ال
ذيذ ورياها الذي أتذكر
وقمت إلى عنس تخون نيها
سرى الليل حتى لحمها متحسر
وحبسي على الحاجات حتى كأنها
بقية لوح أو شجار مؤسر
وماء بموماة قليل أنيسه
بسابس لم يحدث به الصيف محضر
به مبتنى للعنكبوت كأنه
على طرف الأرجاء خام منشر
وردت وما أدري أما بعد موردي
من الليل أم ما قد مضى منه أكثر
فقمت إلى مفلاة أرض كأنها
إذا التفتت مجنونة حين تنظر
تنازعني حرصا على الماء رأسها
ومن دون ما تهوى قليب معور
محاولة للماء لولا زمامها
وجذبي لها كادت مرارا تكسر
فلما رأيت الضر منها وأنني
ببلدة أرض ليس فيها معصر
قصرت لها من جانب الحوض منشأ
جديدا كقاب الشبر أو هو أصغر
إذا شرعت فيه فليس لملتقى
مشافرها منه قدى الكف مسأر
ولا دلو إلا العقب كان رشاءه
إلى الماء نسع والأديم المضفر
فسافت وما عافت وما رد شربها
عن الري مطروق من الماء أكدر
وقال ابن زيدون الأندلسي، وهو مولد:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا
ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا فنون الوصل دانية
قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكمو عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم
حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا؟
أن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنسا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقودا بأنفسنا
وانبت ما كان موصولا بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأيا ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا
أن طالما غير النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا
منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلا عنك يشغلنا
ولا اتخذنا بديلا منك يسلينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به
من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حيا كان يحيينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا
وردا جلاه الصبا غضا ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها
منى ضروبا ولذات أفانينا
ويا نعيما رفلنا من غضارته
في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالا وتكرمة
وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة
فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا
يا جنة الخلد أبدلنا بسلسها
والكوثر العذب زقوما وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا
والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو أنا ذكرنا الحزن حين نهت
عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله
شربا وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه
سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارا تجنبناك عن كثب
لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة
فالحر من دان إنصافا كما دينا
فما ابتغينا خليلا منك يحسبنا
ولا استفدنا حبيبا منك يغنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه
بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أولى وفاء وإن لم تبذلي صلة
فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا
وفي الجواب قناع لو شفعت به
بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك مني سلام الله ما بقيت
صبابة منك نخفيها فتخفينا
وقال محمود باشا سامي المصري، نزيل جزيرة سيلان الآن:
ظن الظنون فبات غير موسد
حيران يكلأ مستنير الفرقد
تلوي به الذكرات
20
حتى إنه
ليظل ملقى بين أيدي العود
طورا يهم بأن يزل بنفسه
سرفا وتارات يميل على اليد
فكأنما افترست بطائر حلمه
مشمولة أو ساغ سم الأسود
قالوا: غدا يوم الرحيل ومن لهم
خوف التفرق أن أعيش إلى غد؟!
هي مهجة ذهب الهوى بشغافها
معمودة إن لم تمت فكأن قد
يا أهل ذا البيت الرفيع مناره
أدعوكم يا قوم دعوة مقصد
21
إني فقدت العام بين بيوتكم
عقلي فردوه علي لأهتدي
أو فاستقيدونى
22
ببعض قيانكم
حتى ترد إلي نفسي أو تدي
بل يا أخا السيف الطويل نجاده
إن أنت لم تحم النزيل فأغمد
هذي لحاظ الغيد بين شعابكم
فتكت بنا خلسا بغير مهند
من كل ناعمة الصبا بدوية
ريا الشباب سليمة المتجرد
23
هيفاء إن خطرت سبت وإذا رنت
سلبت فؤاد العابد المتشدد
يخفضن من أبصارهن تختلا
للنفس فعل القانتات العبد
فإذا أصبن أخا الشباب سلبنه
ورمين مهجته بطرف أصيد
وإذا لمحن أخا المشيب قلينه
وسترن ضاحية المحاسن باليد
فلئن غدوت دريئة لعيونها
فلقد أفل زعارة
24
المتمرد
ولقد شهدت الحرب في إبانها
ولبئس راعي الحي إن لم أشهد
تتقصف المران في حجراتها
ويعود فيها السيف مثل الأدرد
عصفت بها ريح الردى فتدفقت
بدم الفوارس كالأتي المزبد
ما زلت أطعن بينها حتى انثنت
عن مثل حاشية الرداء المجسد
ولقد هبطت الغيث يلمع نوره
فى كل وضاح الأسرة أغيد
تجرى به الآرام بين مناهل
طابت مشاربها وظل أبرد
بمضمر أرن كأن سراته
25
بعد الحميم سبيكة من عسجد
خلصت له اليمنى وعم ثلاثة
منه البياض إلى وظيف أجرد
فكأنما انتزع الأصيل رداءه
سلبا وخاض من الضحى في مورد
زجل يردد في اللهاة صهيله
دفعا كزمزمة الحبي المرعد
26
متلفتا عن جانبيه يهزه
مرح الصبا كالشارب المتفرد
فإذا ثنيت له العنان وجدته
يمطو كسيد الردهة المتورد
27
وإذا أطعت له العنان رأيته
يطوي المهامه فدفدا في فدفد
يكفيك منه إذا استحس بنبأة
شدا كألهوب الإباء الموقد
صلب السنابك لا يمر بجلمد
فى الشد إلا رض فيه بجلمد
نعم العتاد إذا الشفاه تقلصت
يوم الكريهة في العجاج الأربد
28
ولقد شربت الخمر بين غطارف
شم المعاطس كالغصون الميد
يتلاعبون على الكئوس إذا جرت
لعبا يروح الجد فيه ويغتدي
لا ينطقون بغير ما أمر الهوى
فكلامهم كالروض مصقول ندي
من كل وضاح الجبين كأنه
قمر توسط جنح ليل أسود
بل رب غانية طرقت خباءها
والنجم يطرف عن لواحظ أرمد
قالت وقد نظرت إلي: فضحتني
فارجع لشأنك فالرجال بمرصد
فخلبتها بالقول حتى رضتها
وطويتها طي الحبيرة
29
باليد
ما زلت أمنعها المنام غواية
حتى لقد بتنا بليل الأنقد
30
روعاء تفزع من عصافير الضحى
ترفا وتجزع من صياح الهدهد
حتى إذا نم الصبا وتتابعت
زيم
31
الكواكب كالمها المتبدد
قالت: دخلت وما إخالك بارحا
إلا وقد أبقيت عار المسند
32
فمسحتها حتى اطمأن فؤادها
ونفيت روعتها برأي محصد
وخرجت أخترق الصفوف من العدا
متلثما والسيف يلمع في يدي
فلنعم ذاك العيش لو لم ينقضي
ولنعم هذا العيش إن لم ينفد
يرجو الفتى في الدهر طول حياته
ونعيمه والمرء غير مخلد (8) أشعار متواردة على الرثاء
قال المهلهل يرثي أخاه كليبا، وهو جاهلي:
أهاج قذاء عيني الاذكار
هدوا فالدموع لها انحدار
وصار الليل مشتملا علينا
كأن الليل ليس له نهار
وبت أراقب الجوزاء حتى
تقارب من أوائلها انحدار
أصرف مقلتي في إثر قوم
تباينت البلاد بهم فغاروا
وأبكي والنجوم مطلعات
كأن لم تحوها عني البحار
على من لو نعيت وكان حيا
لقاد الخيل يحجبها الغبار
دعوتك يا كليب فلم تجبني
وكيف يجيبني البلد القفار
أجبني يا كليب خلاك ذم
ضنينات النفوس لها مزار
أجبني يا كليب خلاك ذم
لقد فجعت بفارسها نزار
سقاك الغيث إنك كنت غيثا
ويسرا حين يلتمس اليسار
أبت عيناي بعدك أن تكفا
كأن غضا القتاد لها شفار
وإنك كنت تحلم عن رجال
وتعفو عنهم ولك اقتدار
وتمنع أن يمسهم لسان
مخافة من يجير ولا يجار
وكنت أعد قربي منك ربحا
إذا ما عدت الربح التجار
فلا تبعد فكل سوف يلقى
شعوبا يستدير بها المدار
يعيش المرء عند بني أبيه
ويوشك أن يصير بحيث صاروا
أرى طول الحياة وقد تولى
كما قد يسلب الشيء المعار
كأني إذ نعى الناعي كليبا
تطاير بين جنبي الشرار
فدرت وقد عشى بصري عليه
كما دارت بشاربها العقار
سألت الحي: أين دفنتموه؟
فقالوا لي: بسفح الحي دار
فسرت إليه من بلدي حثيثا
وطار النوم وامتنع القرار
وحادت ناقتي عن ظل قبر
ثوى فيه المكارم والفخار
لدى أوطان أردع لم يشنه
ولم يحدث له في الناس عار
أتغدوا يا كليب معي إذا ما
جبان القوم أنجاه الفرار؟
أتغدوا يا كليب معي إذا ما
حلوق القوم يشحذها الشفار؟
أقول لتغلب والعز فيها:
أثيروها لذلكم انتصار
تتابع إخوتي ومضوا لأمر
عليه تتابع القوم الحسار
خذ العهد الأكيد علي عمري
بتركي كل ما حوت الديار
وهجري الغانيات وشرب كأس
ولبسي جبة لا تستعار
ولست بخالع درعي وسيفي
إلى أن يخلع الليل النهار
وإلا أن تبيد سراة بكر
فلا يبقى لها أبدا أثار
وقالت الخنساء، وهي مخضرمة:
قذى بعينك أم بالعين عوار؟
أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار؟
كأن عيني لذكراه إذا خطرت
فيض يسيل على الخدين مدرار
تبكي لصخر هي العبرى وقد ولهت
ودونه من جديد الترب أستار
تبكي خناس فما تنفك ما عمرت
لها عليه رنين وهي مفتار
تبكي خناس على صخر وحق لها
إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
لا بد من ميتة في صرفها عبر
والدهر في صرفه حول وأطوار
قد كان فيكم أبو عمرو يسودكم
نعم المعمم للداعين نصار
صلب النحيزة وهاب إذا منعوا
وفي الحروب جريء الصدر مهصار
يا صخر وراد ماء قد تناذره
أهل الموارد ما في ورده عار
مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة
له سلاحان؛ أنياب وأظفار
وما عجول على بو تطيف به
لها حنينان؛ إعلان وإسرار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
فإنما هي إقبال وإدبار
لا تسمن الدهر في أرض وإن رتعت
فإنما هي تحنان وتسجار
يوما بأوجد مني يوم فارقني
صخر وللدهر إحلاء وإمرار
وإن صخرا لوالينا وسيدنا
وإن صخرا إذا نشتو لنحار
وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا
وإن صخرا إذا جاعوا لعقار
وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
جلد جميل المحيا كامل ورع
وللحروب غداة الروع مسعار
حمال ألوية هباط أودية
شهاد أندية للجيش جرار
فقلت لما رأيت الدهر ليس له
معاتب وحده يسدي ونيار
لقد نعى ابن نهيك لي أخا ثقة
كانت ترجم عنه قبل أخبار
فبت ساهرة للنجم أرقبه
حتى أتى دون غور النجم أستار
لم تره جارة يمشي بساحتها
لريبة حين يخلي بيته الجار
ولا تراه وما في البيت يأكله
لكنه بارز بالصحن مهمار
ومطعم القوم شحما عند مسغبهم
وفي الجدوب كريم الجد ميسار
قد كان خالصتي من كل ذي نسب
فقد أصيب فما للعيش أوطار
مثل الرديني لم تنفد شبيبته
كأنه تحت طي البرد أسوار
جهم المحيا تضيء الليل صورته
آباؤه من طوال السمك أحرار
مورث المجد ميمون نقيبته
ضخم الدسيعة في العزاء مغوار
فرع لفرع كريم غير مؤتشب
جلد المريرة عند الجمع فخار
في جوف لحد مقيم قد تضمنه
في رمسه مقمطرات وأحجار
طلق اليدين لفعل الخير ذو فجر
ضخم الدسيعة بالخيرات أمار
ليبكه مقتر أفنى حريبته
دهر وحالفه بؤس وإقتار
ورفقة حار حاديهم بمهلكة
كأن ظلمتها في الطخية القار
لا يمنع القوم إن سألوه خلعته
ولا يجاوزه بالليل مرار
وقال كعب بن سعد الغنوي، وهو إسلامي:
تقول ابنة العبسي: قد شبت بعدنا
وكل امرئ بعد الشباب يشيب
وما الشيب إلا غائب كان جائيا
وما القول إلا مخطئ ومصيب
تقول سليمى: ما لجسمك شاحبا
كأنك يحميك الشراب طبيب؟!
فقلت ولم أعي الجواب ولم أنح
وللدهر في الصم الصلاب نصيب:
تتابع أحداث تخرمن إخوتي
فشيبن رأسي والخطوب تشيب
لعمري لئن كانت أصابت منية
أخي والمنايا للرجال شعوب
لقد عجمت مني الحوادث ماجدا
عروفا لريب الدهر حين يريب
لقد كان أما حلمه فمروح
عليه وأما جهله فعزيب
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته
ولا ورع عند اللقاء هيوب
أخي كان يكفيني وكان يعينني
على نائبات الدهر حين تنوب
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت
حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب
هو العسل الماذي لينا ونائلا
وليث إذا يلقى العداة غضوب
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا
وماذا يؤدي الليل حين يئوب؟
هوت أمه ماذا تضمن قبره
من المجد والمعروف حين يثيب؟
أخو شتوات يعلم الضيف أنه
سيكثر ما في قدره ويطيب
حبيب إلى الزوار غشيان بيته
جميل المحيا شب وهو أديب
كأن بيوت الحي ما لم يكن بها
بسابس قفر ما بهن عريب
كعالية الرمح الرديني لم يكن
إذا ابتدر الخيل الرجال يخيب
إذا قصرت أيدي الرجال عن العلا
تناول أقصى المكرمات شبيب
جموع خلال الخير من كل جانب
إذا حال مكروه بهن ذهوب
مغيث مفيد الفائدات معود
لفعل الندى والمكرمات كسوب
وداع دعا: يا من يجيب إلى الندا؟
فلم يستجب عند النداء مجيب
فقلت: ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا
لعل أبا المغوار منك قريب
يجبك كما قد كان يفعل إنه
بأمثالها رحب الذراع أريب
أتاك سريعا واستجاب إلى الندى
كذلك قبل اليوم كان يجيب
كأن لم يكن يدعو السوابح مرة
بذي لجب تحت الرماح مهيب
فتى أريحي كان يهتز للندى
كما اهتز من ماء الحديد قضيب
فتى ما يبالي أن يكون بجسمه
إذا نال خلات الكرام شحوب
إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا
فلم ينطقوا العوراء وهو قريب
على خير ما كان الرجال خلاله
وما الخير إلا قسمة ونصيب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه
سريعا ويدعوه الندى فيجيب
غياث لعان لم يجد من يعينه
ومختبط يغشى الدخان غريب
عظيم رماد النار رحب فناؤه
إلى سند لم تجتنحه عيوب
يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه
إذا لم يكن في المنقيات حلوب
حليم إذا ما الحلم زين أهله
مع الحلم في عين العدو مهيب
معنى إذا عادى الرجال عداوة
بعيد إذا عادى الرجال قريب
غنينا بخير حقبة ثم جلحت
علينا التي كل الأنام تصيب
فأبقت قليلا ذاهبا وتجهزت
لآخر والراجي الحياة كذوب
وأعلم أن الباقي الحي منهم
إلى أجل أقصى مداه قريب
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى
على يومه علق علي حبيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة
إلي فقد عادت لهن ذنوب
جمعن النوى حتى إذا اجتمع الهوى
صدعن العصا حتى القناة شعوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره
نكوب على آثارهن نكوب
كأن أبا المغوار لم يوف مرقبا
إذا ربأ القوم الغزاة رقيب
ولم يدع فتيانا كراما لميسر
إذا اشتد من ريح الشتاء هبوب
فإن غاب منهم غائب أو تخاذلوا
كفى ذاك منهم والجناب خصيب
كأن أبا المغوار ذا المجد لم تجب
به البيد عنس بالفلاة خبوب
علاة ترى فيها إذا حط رحلها
ندوبا على آثارهن ندوب
وإني لباكيه وإني لصادق
عليه وبعض القائلين كذوب
فتى الحرب إن حاربت كان سمامها
وفي السلم مفضال اليدين وهوب
وحدثتماني أنما الموت في القرى
فكيف وهذا روضة وقليب
وماء سماء كان غير محمة
بداوية تجري عليه جنوب
ومنزله في دار صدق وغبطة
وما اقتال من حكم عليه طبيب
فلو كانت الدنيا تباع اشتريته
بما لم تكن عنه النفوس تطيب
بعيني أو يمنى يدي وقيل لي:
هو الغانم الجذلان يوم يئوب
لعمركما إن البعيد لما مضى
وإن الذي يأتي غدا لقريب
وإني وتأميلي لقاء مؤمل
وقد شعبته عن لقاي شعوب
كداعي هذيل لا يزال مكلفا
ولا يناله حتى الممات مجيب
سقى كل ذكر جاءنا من مؤمل
على النأي زحاف السحاب سكوب
وقال ابن الأنباري، وهو مولد، يرثي ابن بقية وزير عز الدولة بويه لما صلبه عضد الدولة ببغداد بعد قتل عز الدولة:
علو في الحياة وفي الممات
لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا
وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء
كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس بقيت ترعى
بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلا
كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد
علاها في السنين الماضيات
وتلك فضيلة فيها تأس
تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعا
تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت
فأنت قتيل ثأر النائبات
وصير دهرك الإحسان فيه
إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعدا فلما
مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي
يخفف بالدموع الجاريات
وكنت تجير من صرف الليالي
فعاد مطالبا لك بالترات
ولو أني قدرت على قيام
بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي
ونحت بها خلاف النائحات
ولكني أصبر عنك نفسي
مخافة أن أعد من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى
لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى
برحمات غواد رائحات
وقال الفاضل إسماعيل باشا صبري محافظ ثغر الإسكندرية الآن يرثي خديو مصر محمد توفيق باشا، المتوفى في أوائل جمادى الثانية سنة 1309:
نحن لله ما لحي بقاء
وقصارى سوى الإله فناء
نحن لله راجعون فمن ما
ت ومن عاش ألف عام سواء
يفرح المرء في الصباح وما يع
لم ماذا يكنه الإمساء
ومتاع الدنيا قليل وما يل
هو به المرء من حطام هباء
زهد الناس في الحياة ملم
روعتنا بهوله الأنباء
قصر حلوان كنت أنضر قصر
فيه يحلو ويستطاب الهواء
كنت ذا هيبة يحاذرها الده
ر وتكبو أمامها البأساء
كيف أصبحت مستضاما وللخط
ب إلى ركنك المنيع ارتقاء؟
ما كذا عهدنا بعزك ترمي
ه الليالي أو يعتريه انقضاء
كان بالأمس في ذراك أبو الع
باس تحيا ببشره الأحياء
فطوت برده الخطوب وكانت
قبل تشقى بسعده وتساء
ويح من شيعوه قد أودعوا القب
ر كريما يبكي عليه العلاء
وارتضوا بالبكا وما الحزن إلا
أن تسيل القلوب والأحشاء
عاش فينا عذب البشاشة والأخ
لاق تروى به النفوس الظماء
وتولى وفي الصدور من الوج
د عليه ما ليس يرويه ماء
عطلت مصر من سناه كما قد
عطلت من حليها الحسناء
كل خطب في جنب خطبك يا مص
ر يرجى للناس فيه عزاء
ما يقول الراثون في فقد توفي
ق وماذا تحاول الشعراء؟!
والرزايا في بعضها يطلق القو
ل وتعيا في بعضها البلغاء
إن مولاك كان أحسن من تز
هى بأنوار وجهه البطحاء
كان للتاج فوق مفرقه ضو
ء لديه تحقر الأضواء
كان يجلو دجى الكوارث إن جل
ت برأي تعنو له الآراء
كان أدرى الملا بكسب ثناء
آه لو خلد النفوس ثناء!
آل توفيق الكرام البسوا الص
بر رداء فالصبر نعم الرداء!
أنتم الراسخون في علم ما كا
ن فقولوا من ذا عداه الفناء؟
أين قوم شادوا البلاد وسادو
ها وكانت تهواهم العلياء؟
ملكوا الأرض حقبة ثم أمسوا
وهمو في بطونها نزلاء
سنة الله في البرية لم يس
تثن منها الملوك والأنبياء
لا أعزيكم وأنى لقولي
أن تعزى بمثله الحكماء!
أحمد الله في العشية والإص
باح فالبؤس قد تلاه هناء
إن يكن خر من سمائكم بد
ر فعباسكم به يستضاء
ورث الملك عن أبيه فلما
قام بالأمر دب فينا الرجاء
واجتنيناه طود مجد وسورا
دار منه حول البلاد بناء
حبذا منه همة تترك الصع
ب ذلولا وعزة قعساء
وثبات في طيه وثبات
للمعالي وحكمة وإباء
وصفات عن كنهها يعجز الوص
ف وفيها يستغرق الإحصاء
دام يكسو الزمان حسنا ويسدي
أنعما لا يشوبهن انتهاء
وقالت عائشة هانم التيمورية ترثي ابن تها، وهو من الشعر الجزل الرصين المزري بشعر الخنساء:
إن سال من غرب العيون بحور
فالدهر باغ والزمان غدور
فلكل عين حق مدرار الدما
ولكل قلب لوعة وثبور
ستر السنا وتحجبت شمس الضحى
وتغيبت بعد الشروق بدور
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسا
وغدت بقلبي جذوة وسعير
يا ليته لما نوى عهد النوى
وافى العيون من الظلام نذير
ناهيك ما فعلت بماء حشاشتي
نار لها بين الضلوع زفير
لو بث حزني في الورى لم يلتفت
لمصاب قيس والمصاب كثير
طافت بشهر الصوم كاسات الردى
سحرا وأكواب الدموع تدور
فتناولت منها ابن تي فتغيرت
وجنات خد شانها التغيير
فذوت أزاهير الحياة بروضها
وانقد منها مائس ونضير
لبست ثياب السقم في صغر وقد
ذاقت شراب الموت وهو مرير
جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا
إن الطبيب بطبه مغرور
وصف التجرع وهو يزعم أنه
بالبرء من كل السقام بشير
فتنفست للحزن قائلة له:
عجل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي إن والدتي غدت
ثكلى يشير لها الجوى وتشير
وارأف بعين حرمت طيب الكرى
تشكو السهاد وفي الجفون فتور
لما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت ودمع المقلتين غزير:
أماه قد كل الطبيب وفاتني
مما أؤمل في الحياة نصير
لو جاء عراف اليمامة يبتغي
برئي لرد الطرف وهو حسير
يا روع روحي حلها نزع الضنا
عما قليل ورقها ستطير
أماه قد عز اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي
جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة
فتراك روح راعها المقدور
أماه قد سلفت لنا أمنية
يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت
مذ بان يوم البين وهو عسير
عودي إلى ربع خلا ومآثر
قد خلفت عني لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكارا فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا
لبس السواد ونفذ المسطور
والقبر صار لغصن قدي روضة
ريحانها عند المزار زهور
أماه لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقبور
ورجاء عفو أو تلاوة منزل
فسواك من لي بالحنين يزور
فلعلما أحظى برحمة خالق
هو راحم بر بنا وغفور
فأجبتها والدمع يحبس منطقي
والدهر من بعد الجوار يجور
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي
قد زال صفو شأنه التكدير
لا توصي ثكلى قد أذاب وتينها
حزن عليك وحسرة وزفير
قسما بغض نواظري وتلهفي
مذ غاب إنسان وفارق نور
وبقبلتي ثغرا تقضى نحبه
فحرمت طيب شذاه وهو عطير
والله لا أسلو التلاوة والدعا
ما غردت فوق الغصون طيور
كلا ولا أنسى زفير توجعي
والقد منك لدى الثرى مدثور
إني ألفت الحزن حتى إنني
لو غاب عني ساءني التأخير
قد كنت لا أرضى التباعد برهة
كيف التصبر والبعاد دهور؟
أبكيك حتى نلتقي في جنة
برياض خلد زينتها الحور
إن قيل: عائشة أقول: لقد فنى
عيشي وصبري والإله خبير
ولهي على توحيدة الحسن التي
قد غاب بدر جمالها المستور
قلبي وجفني واللسان وخالقي
راض وباك شاكر وغفور
متعت بالرضوان في خلد الرضا
ما ازينت لك غرفة وقصور
وسمعت قول الحق للقوم ادخلوا
دار السلام فسعيكم مشكور
هذا النعيم به الأحبة تلتقي
لا عيش إلا عيشه المبرور
ولك الهناء فصدق تاريخي بدا
توحيدة زفت ومعها الحور [بدا = 7، توحيدة = 433، زفت = 487، ومعها = 122، الحور = 245]
سنة 1294 (أ)
فترى من قصائد المدح أن أغلبها مبدوء بالنسيب وهو أسلوب غريب؛ ولعل سببه أن شعراء العرب كانت أشعارهم في الغالب حكاية عن واقع، فكان الشاعر يقص على الممدوح في مدحته ما انتابه من فراق امرأته أو ابن ته ذات المكانة في فؤاده لما لها من الصفات الحسان، ولا يأنف من ذكر اسمها ولا صفاتها، ويقص عليه أيضا ما اعتراه وراحلته من عناء السفر وركوب الخطر حتى وصل إليه، ثم يمدحه فيستعظم الممدوح حال الشاعر ويجزل له العطاء استعاضة لما نابه، فلما جاء الشعراء المتأخرون أرادوا أن ينسجوا على منوال شعر العرب، فافتتحوا مدائحهم بالتشبب بمحبوب اخترعه وهمهم وخيالهم، وصار هذا الأمر عادة مألوفة لهم. وقال الدسوقي: إن السبب في ذلك تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر والمبالغة في الوصف وترويح النفس ورياضتها. وقال أحمد فارس إنه لا شيء أفظع عند الإفرنج من أن يروا في قصائد المدح تغزلا بامرأة ووصفها بكونها رقيقة الخصر ثقيلة الكفل نجلاء العينين سوداء الفرع وما أشبه ذلك، وأفظع منه التشبب بغلام، وأقبح من هذا وذاك نسبة شيء من صفات المؤنث إلى المذكر؛ كقول الشاعر: «كأن ثدياه حقان»، فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب ويجعلونه ضربا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعي الممدوح ومقاصده وفضله على من تقدمه من الملوك، وأنه لما مدح أحمد باشا والي تونس بقصيدته التي مطلعها: «زارت سعاد وثوب الليل مسدول»، سئل: هل اسم الباشا «سعاد»؟ فقال: لا، بل هو اسم امرأة. فقال السائل: وما دخل المرأة بينك وبين الباشا؟!
وأقول: إن العرب ما كانت تشبب بالغلمان قط، وإن هذا ما جاء إلا في شعر المتأخرين، ولم نر في أشعار هؤلاء وأولئك نسبة شيء من صفات المؤنث إلى المذكر، واستشهاد أحمد فارس على هذا بقول الشاعر: «كأن ثدياه حقان» وهم؛ فإن الضمير في «ثدياه» لا يعود لمحبوب مذكر أن توهمه، بل يرجع إلى الصدر في الشطر الأول من البيت، وهو: «وصدر مشرق النحر كأن ثدياه حقان»، ومن أنى جاءه أن هذا الصدر صدر غلام وليس صدر فتاة ولم يرو ما قبل هذا البيت ولا ما بعده من الأبيات، وهو من شواهد سيبويه التي لا يعلم قائلها. وكونه صدر فتاة أحق وألزم. وقد قال الشيخ جمال الدين بن هشام: «وصدر» مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولها صدر. ولم يقل: وله صدر.
هذا وقد هجر كثير من شعراء العصر الأسلوب العربي القديم كما ترى في قصيدة حفني بك وغيره. (ب)
وترى من قصائد النسيب أنهم يذكرون رحيل النساء ونأيهن، ويخاطبون أطلالهن ويصفون محاسنهن، ويذكرون أيام شباب ولهو ولذات قضوها معهن، قال بعض: والنسيب نوع من التشبب، وهو المعبر عنه بالغزل، وهو عند المحققين من أهل الأدب يشتمل على أربعة أنواع: (1) ذكر ما في المحب من الصفات؛ كالشغف والنحول والذبول والحزن والأرق. (2) وذكر ما في المحبوب من الصفات؛ كحمرة الخد، ورشاقة القد، والملاحة والخفر. (3) وذكر ما يتعلق بهما من هجر وصد ووصل وسلو واعتذار ووفاء وإخلاف ونحو ذلك. (4) وذكر ما يتعلق بغيرهما بسببهما من الوشاة والرقباء ونحوهما . (ج)
وترى من قصائد الرثاء أنها دائرة حول الجزع على الفقيد، وفيض العبرات، والحزن والأسف عليه، ووصف مآثره ونحو ذلك. (د)
وبالإجمال ترى أن كل نوع من الشعر يناسب زمانه ومكانه، كما يعلم ذلك من التتبع.
الفصل الثالث
فيما يتبع الشعر
بعد الإسلام لما رسخت أقدام الأمة العربية في الحضارة والعمران في الأندلس والعراق ولواحقهما، أولعوا بالعلوم والفنون والآداب، وركنت نفوسهم إلى ما يريضها ويزكيها من سماع أناشيد الشعراء وألحان المغنين شأن كل أمة توطدت دعائم ملكها وتوفرت دواعي الرفه فيها، فكان شعراؤهم ينظمون جيد الشعر ذي الخيالات التي لا تخطر بفكر العربي البحت، ففاقوا أسلافهم في ذلك حتى نظموا الكلام على أوزان غير المأثورة عنهم في أشعارهم، واستحدثوا فنونا ستة ألحقها الأدباء بالشعر. (1) أولها: الموشح
واخترعه أرباب الألحان من أهل الأندلس تطبيقا على أصوات الموسيقى، وأول من قاله مقدم بن معافر، وقيل إن بعض الألحان الموسيقية كانت تجيء إلى مصر من بلاد الروم على أوزان ساذجة تضرب على آلات الموسيقى خالية من الكلام، فكان المغنون يأخذون اللحن منها ويتأملون في دوره وتوقيعه، مراعين متحركاته وسواكنه، وينظمون الكلام على هواه وعلى قدر ما فيه من الأغصان والسلاسل حتى يكمل توشيحا موزونا مقفى ويؤخذ مثالا لغيره.
ويجيء الموشح على أوزان وصور مختلفة، منها أن تأتي ببيت تلتزم فيه التقفية في صدر الشطر الأول وعروضه وصدر الشطر الثاني وضربه، ويسمى هذا البيت «مذهبا»، ثم تأتي بثلاثة أشطر أخرى تلتزم فيها التقفية أيضا، لكن على حرف آخر، وتسمى هذه الأشطر «دورا»، ثم تعود وتأتي ببيت مقفى كالأول ومتحد معه في حرف التقفية ويسمى قفلة، ثم تأتي بدور آخر وقفلة أخرى، وهكذا إلى سبعة أدوار في الأكثر، مثال هذا موشح ابن سناء الملك:
كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي
واجعلي سوارها منعطف الجدول
المذهب
يا سما فيك وفي الأرض نجوم وما
كلما أغربت نجما أشرقت أنجما
دور
وهي ما تهطل إلا بالطلا والدمى
فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
وانقلي للدن طعم الشهد والفوفل
قفلة
تتقد كالكوكب الدري للمرتصد
يعتقد فيها المجوسي ما يعتقد
دور
فاتئد يا ساقي الراح بها واعتمد
وامل لي حتى تراني عنك في معزل
قلل فالراح كالعشق إن يزد يقتل
قفلة
من ظلم في دولة الحسن إذا ما حكم
فالسدم يجول في باطنه والندم
دور
والقلم يكتب ما سطر فوق القمم
من ولي في دولة الحسن ولم يعدل
يعزل الألحاظ الرشا الأكحل
قفلة
لا أريم عن شرب صهباء وعن عشق ريم
فالنعيم عيش جديد ومدام قديم
دور
لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم
وانهل من أكؤس صورن من صندل
أفضل من نكهة العنبر والمندل
قفلة
هل يعود عيش قطعناه بوادي زرود
والجنود في حضرتي تضرب جنكا وعود؟
دور
والحسود في معزل عنا غدا لا يسود
عذلي لا تعذلوني فالهوى لذ لي
ما الخلى في الحب مثل العاشق المبتلي
قفلة
أسفرت ليلتنا بالأنس مذ أقمرت
بشرت بملتقى المحبوب واستبشرت
دور
شمرت فقلت للظلماء مذ قصرت:
طولي يا ليلة الوصل ولا تنجلى
واسبلي سترك فالمحبوب في منزلي
قفلة
يا نسيم بلغ سلام المستهام السقيم
للكريم طه إمام المرسلين العظيم
دور المديح
عن اليم وجدي به حدث وشوقي القديم
ليس لي من ملجأ سوى الحمى الأفضل
الجلي وآله ذوي الجناب العلي
قفلة
وشطر هذا الموشح وزنه: «فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن»، وقد يأتي فيه فاعلن على فاعلان.
وقد يكون المذهب بيتين يتفق عروضاهما في قافية ويتفق ضرباهما في أخرى. ويكون الدور خمسة أبيات، ثلاثة منها تتفق أعاريضها في قافية وأضربها في أخرى، والبيتان الآخران يتفقان مع المذهب في قافيتيه، فهما بمنزلة القفلة، كقول بعض المغاربة:
المذهب
قابل الصبح الدجى فانهزما
ومحا بالسيف أفق الغلس
وجلا الغيم ببرق رقما
ثوب ديباج به الجو كسي
دور
نسخ الصبح أحاديث الدجى
بيد بيضاء في لوح النهار
ولكهف المغرب الليل التجى
حين نادى الفجر في الشرق البدار
وجلا الصبح جبينا أبلجا
فاختفى النجم من نوره وغار
وبكى القمري لما ابتسما
عاطر الزهر بثغر ألعس
وزها خد الربا فانسجما
دمع عين العارض المنبجس
دور
للرياض اذهب ترى بلبلها
يتغنى بين زهر ينجلي
وخدود الروض قد كللها
دمع طل لاشتياق البلبل
وقدود البان قد قام لها
يانع الغصن مقام الأسل
والربا فاحت تحاكي خزما
وعليها من ثياب السندس
جيبها زرر بالزهر كما
زر بالفضة ثوب الأطلس
وكقول الأديب أمين أفندي الخوري طبيب مستشفى دمياط يوصي الحليلة بآداب جليلة:
مذهب
إن أوقات التلاهي قد مضت
وأتى وقت الزواج المؤنس
فخذي عني وصايا جمعت
يا فتاتي من نفيس أنفس
دور
إن حسن الحظ ألقانا إلى
بيت قوم مثلنا في كل حال
وحليل كل ما فيه حلا
من جمال ورشاد وكمال
فبه بدر هناك اكتملا
أسأل الله لكم حسن المآل
إن يكن هام بحسن قد حلت
وزهت بهجته للأنفس
فأريه فيك أخلاقا سمت
حسبما يقتضيه طيب المغرس
دور
ستنالين الرضا بالابتدا
والصفا الدائم في شهر العسل
ويكون الكل فيكم سعدا
والهنا أين تقيمان يحل
إنما ذا ليس يبقى سرمدا
فلقد يعقبه بعض الملل
ربما نار هوى الزوج خبت
فأحسني الظن ولا تبتأسي
فإذا المرأة في ذا عقلت
تجعل العمر كشهر العرس
دور
ودي أخت الزوج واسترضي أباه
وابذلي كل احترام لأمه
اتركي الهزل ولا تلقي أخاه
بمزاح لا ولا ابن ي عمه
اقضي ما يرضى وخلي ما أباه
وكذا اهتمي له في همه
وإذا البشرى عليه ظهرت
أظهري بشرا له وأتنسي
وكذا في غمه لو بدرت
حدة لا تنزعي للشرس
دور
خلي عنك الهزل مع أهل القرين
لا لكي تستظهري بالعظمة
بل لأن الهزل للنفس مهين
مثلما الكبر سجايا المجرمة
وزني الأعمال بالعقل الرزين
وقبيل النطق ذوقي الكلمة
حاذري الجارة مهما برهنت
كذبا عن حبها واحترسي
وبك الأقوام مهما أعجبت
فإلى تمليقهم لا تأنسي
دور
أودعي سرك أعماق الفؤاد
ولدى الحاجة في وقت الصفا
زوجك المختار من رب العباد
إذ سواه ليس يرجى للوفا
امدحي أطواره في كل ناد
وألقي الشكوى ولو يوما هفا
إنما الشكوى من الزوج عنت
تورث الوحشة بعد الأنس
فأمور مثل هذي لو جرت
تنطق الألسن بعد الخرس
دور
إن يكن عيب به يوما طرا
أو أتى أمرا على غير المرام
غضي من طرفك عنه حذرا
أن تقوديه لشر وخصام
فبحسن الرأي تقضي الوطرا
لا ببذل اللوم أو بذء الكلام
واحفظي الواجب مهما وصلت
معه حرية واستحرسي
ولتك الآداب فيك انطبعت
خيفة من وصمة الملتبس
دور
البسي ما كان محبوبا لديه
وامنعي ما النفس منه تشمئز
اجمعي أولاده بين يديه
واشغليه فيهم عمن يعز
لا تلحي بالسؤالات عليه
وأريه فيك نفس المستعز
وأبعدي الغيرة مهما فتكت
بالحشى فهي نذير الأبؤس
وانفري منها إذا ما هاجمت
كالظبا من أسد مفترس
دور
أنت بالحسنى وباللين فقط
قد تفوزين لدى إرجاعه
فاحذري أن تركبي متن الشطط
إن دعت حال إلى إقناعه
وتأني واعلمي أن الغلط
غالبا للمرء من إسراعه
إنما المرأة من قد أدركت
قصدها تحت لواء الأنس
لا من الغيرة فيها اشتعلت
فأضاعت رشدها بالهوس
دور
رتبي بيتك فيما تقتضيه
حال ذاك الزوج في هذا الوجود
والذي عنه غنى فاقتصديه
وامنعي الاثنين؛ تقتيرا وجود
إن من وفر شيئا يلتقيه
فليالي عمرنا بيض وسود
وبأوقات فراغ قد خلت
من مهماتك لا بأس ادرسي
فمبادي طبنا قد تممت
كلما يصلح أن تلتمسي
وشطر هذا وما قبله: «فاعلاتن فاعلاتن فاعلن»، وقد جاءت العروض والضرب على فاعلان.
وقد يكون المذهب أربعة أبيات تتحد أعاريضها في قافية وأضربها في قافية أخرى، والدور أربعة أخرى تتحد أعاريض ثلاثة منها في قافية وأضربها في أخرى، والبيت الرابع كبيت من المذهب، كقوله:
المذهب
اجمعوا بالقرب شملي
واسمحوا لي بالتلاق
وصلوا بالود حبلي
فالنوى مر المذاق
نال أهل العشق قبلي
في الهوى ما لا يطاق
من رأى في الناس مثلي
من تباريح الفراق؟!
الدور
يا ملوك الحسن رفقا
بمساكين الغرام
ارحموا من هام عشقا
وتغشاه السقام
أنا لا أنفك رقا
عنك يا أقصى مرام
فتداركني بفضل
واطف نار الاشتياق
وشطر البيت: فاعلاتن فاعلاتن، إلا أن ضربه فاعلان.
وقد يكون المذهب بيتين تتحد عروضاهما وضرباهما في قافية، والدور بيتين تتحد عروضاهما، وضرب البيت الأول في قافية أخرى، وضرب البيت الثاني يتحد مع المذهب في القافية وهكذا. ومنه قول الشاعر المجيد أحمد بك شوقي عند الاحتفال بفتح مدرسة في الإسكندرية من مجزوء الرجز:
يا ربنا يا ذا المنن
أكثر مدارس الوطن
واجزل الأجر لمن
يجري على هذا السنن
وهب لنا فيما تهب
حسن الثبات في الطلب
وفضل علم وأدب
كي ترتقي منا الفطن
إن العلوم للورى
كالنجم يهدي في السرى
والماء يجري في الثرى
والروح تسري في البدن
هن مفاتيح المنى
وهي أسباب الغنى
من اقتناهن اقتنى
ملكا كبيرا في الزمن
يا من لهذا أسسوا
ومن له قد غرسوا
من فضلكم نلتمس
دوام ذا السعي الحسن
ها نحن جئنا نشكر
والشكر منا أجدر
عذرا إذا نقصر
فليس للعلم ثمن
أبقاكمو الله لنا
مؤيدا سلطاننا
موفقا عباسنا
لما به يحيا الوطن (2) وثانيها: الدوبيت
ويؤخذ من لفظه أنه نشأ عند الفرس، ومعناه بيتان، ويسمونه بالرباعي، وقيل إن اسمه الدوبت بحذف الياء وأنه مركب من كلمتين فارسيتين: «دو» بمعنى اثنين، و«بت» بمعنى حاشية، وعندهم القافية حاشية الفن، فمعنى «دوبت»: فن ذو قافيتين، وقافيتاه تكونان محركتين على وزن «قمري»، فيمتاز عن غيره بدخول القمرية في قافيتيه، وتجيء أيضا في درجه مع الحسن. ا.ه.
والشائع هو التسمية الأولى.
ووزن الشطر منه: «فعلن متفاعلن فعولن فعلن محركا»، وقد يغير متفاعلن إلى متفاعيل أو متفاعيلن، وفعلن المحرك إلى فعلن الساكن أو إلى فعلان.
ومنه قول الصلاح الإربلي وهو في سجن الملك، فكان سببا في الإفراج عنه:
ما أمر تجنيك على الصب خفي
أفنيت زماني بالأسى والأسف
ما ذا غضب بقدر ذنبي ولقد
بالغت وما أردت إلا تلفي
ومنه:
إحسانك طول الدهر لا أنساه
لا أذكر بعد خالقي إلا هو
إن أبعدك الزمان عني حسدا
مولاي خليفتي عليك الله
ومنه:
أهوى رشأ كل الأسى لي بعثا
مذ عاينه تصبري ما لبثا
ناديت وقد فكرت في خلقته
سبحانك ما خلقت هذا عبثا
ومنه:
أهوى رشأ حوى من الحسن فنون
عيناه تقول للهوى كن فيكون
غنى فتمايل الندامى طربا
لا شك هو النسيم والقوم غصون
والدوبيت والموشح معربان، وقيل إن اللحن في الثاني ليس بعيب. (3) وثالثها: الزجل
وأول شهرته كانت في حواضر المغرب، وأول من قاله «ابن قزمان»، وهو صبي في المكتب. وأصل الزجل رفع الصوت، ثم خص بالصوت الطرب، قال: «له زجل كأنه صوت حاد.» وله أوزان كثيرة جدا حتى قيل: من لا يعرف ألف وزن ليس بزجال، ويجيء على أوزان الشعر والموشح إلا أنه يخرج من بابيهما بكونه بلسان العامة، حتى إنه يشترط فيه اللحن.
فمنه على وزن البسيط:
لو ان مائي ذهب ولي مراكب درر
ما كان لشمسي كسوف ولا جفاني قمر
ومنه على وزن مجزوء الرمل قول مدغيس الأندلسي:
ورذاذ دق ينزل
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض
وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكر
والغصون ترقص وتطرب
وتريد تجي إلينا
ثم تستحي وتهرب
ويسمى منه ما يشبه قصيدة الشعر بالحمل.
ومنه للغباري:
جار حبيبي فقلت دا الحجاج
جا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور
ويكون الرشيد
دور
أقلع القلب في هوى العشاق
والدموع في انحدار
وبحور الهوى إذا هاجت
ليس لها من قرار
كنت أحسب قلبي معوريس
غرتوا دي البحار
صحت لما وحلت يا محبوب
بحر عشقك يزيد
خفت فيه الغرق فقال افرح
من غرق مات شهيد
دور
أنا يوم في الغبوق باتفرج
على شط الغدير
إذ رأيت عالشط واحد واقف
شب صياد صغير
نظرت مقلتي إلى منظر
ما لحسنو نظير
قلت يا عين إن غرك الصياد
بالجمال المصيد
يوقعك في فخاخ شباك عشقو
وكرا كي يصيد
دور
من تحبو حديد سلب قلبي
يوم صدفتو صدف
قلت لين يا قاسي لمن دمعو
سال وحالو وقف
دار وقال لي ما الاسم بالإنجيل
قلت اسمي خلف
قال علينا يكتب ومن يسمع
دا الكلام يستفيد
في الحقيقة من لا يكون داود
ما يلين لو الحديد
دور
لك عوارض في الخد مرقومة
ليس لها من مثال
وجفاك صار حماق وباب وصلك
كان وكان يا غزال
وأنت دوبيت موشح القامة
يا عزيز الدلال
ولك ألفاظ صارت مواليا
بالزجل والنشيد
وبشعرك متوج القامة
وأنت بيت القصيد
دور
عن محرم شرابنا صمنا
ونفطر بالثمار
حين وجدنا سفرجل البستان
يذهب لاصفرار
وغنا الطير به الجماد يطرب
وكذا الجلنار
في ربيع حين رأى الثمر قاعد
فيه تعاليق عقيد
حسب الروض النص من شعبان
صار يقيد فيه وقيد
دور
من لهيب مدمعي جرى الطوفان
للهيب ما طفى
وأنا هو الغباري في العشاق
ما جرى لي كفى
حين عليا بالصد والهجران
والبعاد والجفا
جار حبيبي فقلت دا الحجاج
جا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور
ويكون الرشيد
ومنه ما قيل في مدينة سيون بعد أن تخربت بالشام:
مذهب
فين يا سيون العز راح
والمجد راح فين والعظم
ليه صبحت أرضك براح
ما قصر إلا وانهدم
دور
دور
فين الحصون فين القلاع
اللي رءوسها في السحاب
من بعد هذا الارتفاع
صبحت مساوية للتراب
دور
إن كنت أغدو أو أروح
منك خيال في فكرتي
أبكي على فقدك وانوح
ديما أقول يا حسرتي
دور
يا نهر لردن يا مليح
فين الرياض اللي رويت
ما عاد هناك كروان يصيح
ولا بقا في الشط بيت
دور
كانت وكنا والزمان
رايق ومتبسم لنا
يا هل ترى نفضل كمان
بالغصب منفيين هنا
ويقول الزجل في عصرنا هذا كثير من أدباء مصر، منهم الشيخ محمد علي أحد طلبة مدرسة دار العلوم، ومن زجله ما أنشأه حينما قطع محمود باشا الفلكي ناظر المعارف من طلبة هذه المدرسة الجنيه المرتب لكل منهم في الشهر، وهو:
ما للزمان يا ناس علينا جميل
تارة بنا يعدل وتارات يميل
كم للزمن فينا أمور من عجب
يبدي الفرح ساعات ويبدي الغضب
يحكي دولاب الماء إذا ما انقلب
يضحك ولكن أدمعه دوم تسيل
إن سرنا برهة يسئنا سنين
وازداد بنا من كتر جوره الأنين
حتى اشتكى في بطن أمه الجنين
خايف يبان يصبح بحكمه ذليل
بسطوته كم قد أذل الأسود
أخنى على شداد وعاد مع ثمود
وقبلهم يا ما قضى من جنود
من كل ماجد شهم بارع نبيل
دارت بنادي الكل كاس الزمان
شربو على الترتيب وفاتو المكان
وانضمت الهيئة لأخبار كان
حتى استوى فيها السليم والعليل
من فطنته لم ينس من شخص قط
إلا عليه هامة تلاطم زلط
لكن غلط مرة وزاد به الغلط
قبض غلام مصري مهفهف جميل
قبض الغلام والمغرمين فيه كتير
يبلغ ثمانية وأربعين شيخ كبير
وكل شيخ دمعه بخده غدير
وإن طال عليه الحال فعمره قليل
من كل شيخ عالم أبوه الأدب
لا ينثني عطفه إذا ما الطرب
يثني معاطف غانيات العرب
أو عطف زاهي الخد طرفه كحيل
من كل شيخ نحوي فصيح اللسان
صرفي فقيه مقري بديع البيان
حلو المعاني لو بديع الزمان
أبقاه زمانه كان يلاقي الخليل
والكل في علم الحديث له مجال
والهندسة ما عندك إلا رجال
وكل جغرافي كثير المقال
وفي الحساب والخط ما لوش مثيل
وكل دول يبكوا لفقد الولد
ويصبروا روحهم ولا فيش جلد
وجت تعزيهم ولاد البلد
سي فلان وسي علان فصبر جميل
إزي ما يبكيش أحدهم عليه
ويكبس المقلة على مقلتيه
دا كان ولد شاطر واسمه جنيه
من أكرمين غينا وأصلو أصيل
كان العشا محسوب عليه والفطور
والعمة والصرمة وملو المجور
حتى كرا الأودة ونابت ونور
وأجرة المركب نهار الرحيل
من يوم وفاته كم عيون قد بكت
حتى الدموع لون العقيق قد حكت
والجبة من كوع المشايخ شكت
دابت وقفطانهم يخيل في النخيل
كان النواح والشلشلة والعديد
أربع لغات عربي بلاده بعيد
شرقي وبحراوي وأقصى الصعيد
وينوحوا ليثي وصوتهم طويل
يا هل ترى هذا المصاب للعموم
والا مصيبة جت لدار العلوم
حتى غدت أهل الملامة تلوم
والمبغضين فرحوا وأشفوا الغليل
أروح لمين أبكي وأشكي الزمان
وإن رحت للزوجة تقول كان ومان
عمه وتفليس شيء يزرزر كمان
طلقني يا ابن الناس وشف لك سبيل
وإن جت حماتي بيتنا يوم تزور
فايرة شبيه البحر ما لوش جسور
تمط بوزها متر غير الكسور
وتقول أنا ليه بخت بنتي يميل
يا اهل البلاغة والفنون والفكر
قصر الكلام العلم فقره دكر
شوفوا لكم صنعة ويكفي بطر
واللي يكذبني يقيم الدليل
دي مسألة تكتب بماء الفسيخ
عني خذوا نانا الزعيق والصريخ
واتأملوا واقروا وشوفوا التاريخ
مات الجني واش راح يفيد العويل [مات = 441، الجني = 94، واش = 307، راح = 209، يفيد = 104، العويل = 147]
سنة 1302
ومنهم الأديب الشيخ «أحمد القوصي»، ومن زجله في حلاق:
اصفح وصلح يا ريس
يا مزين الدنيا والناس «حلاق»
1
مثلك فين اليوم
ولك أيادي فوق الراس
دور
بحق سيدنا «موسى»
والا مقام «الشعراني»
ما حد ماشي في «حدك»
ولا رأيت مثلك ثاني
دور
دنتا جدع طيب طاهر
ومحبتك «فضلة» عندي
ولك منافع في «الجلده»
2
وليه متحفظشي ودي
دور
إزي بتجرح في حواسي
وأنا بحاسب على شانك
وليه تقول على الصحبة «بدم»
وانت «مواسي» أقرانك
دور
ولك محاسن «سنتها»
وصرت قائم بالواجب
وفي الغسيل كله يطلع
والعين ما تعلى على الحاجب
دور
دنا انكسفت كسوف صنعة
لما رأيت عني بتقطع «وإشنابك» إنت من الدنيا
وكل «قصة» ليه تسمع
دور
ادعك وشوف «مرآة» فكرك
وتجعل الواحد باثنين
إن كنت تزعل من غير ذنب
تودي «وشك» مني فين
دور
وإن كان كلامي فيه غلطة
أرجوك يا سيدي «تصلحها»
وخد لوحدة
3
دي عندك
والمسلمين ليه تقطعها
دور
وإن كان كلام واقف في «الحلق» «بحلق» ولا تسأل عنه
وإن «طشت» مرة في «شروطك»
وفضلت أرغي سامحني
ومنهم الأديب الشهير الشيخ محمد النجار، ومن أحماله:
يا اللي إنت في حسنك عديم المثيل
وأنا بحبي فيك ضرب بي المثل
وفي غرامي شرح حالي طويل
لو كنت أحكي لك على ما حصل
دور
يا اللي الغزالة وهي شمس الضحى
من نور ضيا خدك بقت في خجل
يا اللي الغزال من لفتتك في التفات
ومن سواد عينيك أعاروا الكحل
يا اللي الغزل في وصف حسنك غلا
سعره وشعره فيه مذاق العسل
أصبحت من وجدي عليك يا جميل
أهوى الغزالة والغزال والغزل
دور
يابو قوام مياس يحاكي الغصون
وجيد يحاكي جيد غزال النقا
حبك ملا قلبي ولي قد ملك
وطمعت في قربك وحسن اللقا
حتى فنى صبري وعمري انقضى
لك يا حياة النفس طول البقا
وكم رثى لي في غرامي مليم
وكم عذرني في الهوى من عذل
دور
هندي لحظك يا غزال كم غزا
في معترك أهل الهوى والغرام
وكم أسر عشاق وقطع مهج
وكم هزم من جيش قوامك قوام
وبالعيون السود أكم صاد أسود
وكم كسرهم كسر جفنك ونام
وكم سلب وارحمتاه من قتيل
دمه يطالب في الهوى من قتل
دور
فقت الأهلة يا ضياء العيون
ودر ثغرك بالعقيق حين برق
أجرى بريقه من عيوني مطر
ومن شرار رعده فؤادي احترق
وصرت غرقان في دموع من ولوع
وما انطفت ناري بماء الغرق
وصرت اكدب من يقول مستحيل
الجمع بين ضدين وأمري جلل
دور
سحر الجفون طلسم على ناظري
وما انفتح للوصل باب مطلبه
في الرمل أستأنس بوحش الفلا
والدمع زادي آكله واشربه
ولذ لي ذلي وعذب العذاب
ومر صبري كم حلا مشربه
والجسم من جفنو السقيم صار عليل
ورق من خصره النحيل وانتحل
دور
لما حللت القلب حل الفرج
والبرج صار طالعه ببدره سعيد
وخفت من ناري عليه قلت له
يا قلب كن بردا عليه لا تقيد
يا هاجري أقلل وخلي القلا
نانا بقى دا الجسم ماهوش حديد
وقل لقلبك مثل قدك يميل
يا غصن بان والغصن طبعه الميل
دور
شبهت لفظك يا فصيح اللسان
بالدر ينظم باتساق في سلوك
ونور جبينك قد أقام حجتي
بأن أمك شمس والبدر أبوك
وشعرك الليل فوق محيا قمر
ستر ضياؤه وخاف عليك يحسدوك
يا شعر لك طوله علي وجميل
لاجلك أقول يا ليل جميلك وصل
دور
يا اللي لاجلك فت نظم القريض
وكرهت حرفة سوق رواجها كسد
راحت رجالها والعرب عندهم
كله صبون والوقت لاخر فسد
وصغت من فن «الغباري» نضار
طير غباره وقلت ماهوش حسد
ليه يمدحوا الفحام وفحمه عويل
ما يوم شراره بالمعاني اشتعل
دور
حسك خلي البال تخلي النظر
يجر يوم قلبك لعشق الملاح
البحر دا واسع وبره بعيد
ياما غرق عاشق وقع فيه وراح
وارجع واقول العشق إمتى يكون
خالص لوجهه وفين رجال الصلاح
إن كان لوجهه فين رجال من قبيل
من حب ذا عفة وكتم وانقتل
دور
مداح محاسنك يا بديع الصفات
فيك أحسن التشبيه ونظمه انتظم
عيب «أبو الطيب» وقالوا عليه
سيد من تنبأ بالمثل والحكم
شحتر كلام «البحتري» وبحتره
وفاق «أبو تمام» بقوله الأتم
ما يوم رأيت له في القوافي دخيل
ولا زحف منه الزحاف والعلل
دور
يا اللي لاجلك صرت منشي بليغ
في كل موضوع صرت أحكي وأعيد
وفقت «عنتر» في الغزل والحماس
وفي الكتابة فقت «عبد الحميد»
ولي كلام في السهل صار ممتنع
تلقى «لبيد» إن كان يعارضه بليد
عليك قصرت الشعر إلا قليل
والشعر في غير عارفيه مبتذل
دور
يا اللي بأسبابك جفاني الكرى
وصح في وجدي اختلاف الظنون
واحد يقول عاشق وآخر يقول
مسحور وغيره يقول أصابه جنون
وكل قائل قد أصاب الغرض
وصح قوله والصبابة فنون
اللحظ سحري والجفا لي مزيل
عقلي وداء العشق داعي الخبل
دور الاستغفار
أستغفرك يا رب وارجع إليك
تايب وظني فيك قبول من يتوب
دا انت اسمك التواب على من عصى
ونا أنا العاصي كثير الذنوب
يا رب عاملنا بفضلك وإن
عاملتنا بالعدل تحرق قلوب
يا رب صنعك في عبيدك جميل
لاجلك رفعنا جميل الجمل
دور المديح
أرسلت خير الناس لخير الأمم
رحمة ونور هادي شفيع العصاة
لمعجزاته الباهرة صدقوه
لكن بقي القرآن دليل لاح ضياه
يا ربنا صلي وسلم عليه
وجملة الأصحاب وآله معاه
ما صدقت دعوى وصح الدليل
وما تلي في وصف طه زجل
يا اللي انت في حسنك عديم المثيل
وأنا بحبي فيك ضرب بي المثل (4) ورابعها: كان وكان
وهو نوع من الزجل إلا أنه جعل فنا مستقلا بسبب أن دوره يأتي على بيتين، لكل شطر منهما قافية، والشطران الأولان من البيتين يتحدان في وزن والأخيران منهما يختلفان بين وزنين، وإذا جاء مركبا من أدوار اتحدت ضروب الأبيات الزوجية في قافية، وأعاريض الفرد به قد تتحد في قافية أخرى، كقوله:
ومنه:
يا قاسي القلب مالك
تسمع وما عندك خبر
ومن حرارة وعظي
قد لانت الأحجار
أفنيت مالك وحالك
في كل ما لا ينفعك
ليتك على ذي الحالة
تقلع عن الإصرار
تحضر ولكن قلبك
غايب وذهنك مشتغل
فكيف يا متخلف
تحسب من الحضار؟!
ويحك تنبه لأمرك
وافهم مقالي واستمع
ففي المجالس محاسن
تحجب عن الأبصار
يحصي دقائق فعلك
وغمز لحظك يعلمه
وكيف تعزب عنه
غوامض الأسرار؟
تلوت قولي ونصحي
لمن تدبر واستمع
فترى أن الشطور الأوائل على وزن مستفعلن فاعلاتن وقد يخبن فاعلاتن أو يشعث، والشطور الثواني دائرة بين وزن مستفعلن مستفعلن، ووزن مستفعلن فاعلان. (5) وخامسها: القومة
وهي نوع من الزجل أيضا، إلا أنها تمتاز بمجيء دورها على بيتين شطورهما تتحد في قافية ما عدا الشطر الثالث، ووزن كل شطر منها: مستفعلن فاعلان، وقيل أول من اخترعه «ابن نقطة»، برسم الخليفة الناصر. ومن المستظرف أنه لما مات ابن نقطة وأراد ابنه أن يعرف الخليفة بموته ليأخذ مفروضه أخذ أتباع والده من المسحرين في شهر رمضان ووقف تحت القصر أول ليلة من هذا الشهر، وغنى القومة بصوت رقيق، وقال:
يا سيد السادات
لك بالكرم عادات
أنا بني ابن نقطة
تعيش أبويا مات
فطرب منه الخليفة وخلع عليه، وفرض له ضعف ما كان لأبيه. ا.ه.
ومن قراءة هذه العبارة يخطر بالذهن أن هذا الفن سمي بالقومة، وهي المرة من القيام؛ لأن المسحرين كانت تنشده في رمضان لقيام الناس للسحور، ويحرفونه بضم القاف، وبعض يكتبه بالألف بدل تاء الوحدة، فليحرر. (6) وسادسها: المواليا
ويعرف الآن بالمواويل، جمع موال، فيقال إنه ظهر في بغداد بعد الفتك بالبرامكة والنهي عن رثائهم بالشعر، وإن بعض جواريهم صرن يندبنهم بكلام ذي أربع قطع متفقة في الوزن والتقفية، يكثرن فيه من قولهن: يا مواليا ؛ فسمي بذلك. ومن هذا الفن ما يأتي بلسان أهل الأدب ، ومنه ما يأتي بلسان العامة.
ومنه:
يا من على نار خدوده خال كحبة عود
ومهجتي فوق قوامه طير بأعلى عود
قل لي سبب دي الغضب مني وإلا عود
واصل ونادم فوصلك لي ولفظك عود
ومنه:
ألا هيف اللي تمناه الفؤاد ودعاه
في موقف الذل خلى العاشقين ودعاه
كم قلت عيني كفا عن هواه ودعاه
فإن له قلب عمره ما رحم عاشق
ولا يخاف من قيامه في الدجى ودعاه
ومنه:
يا عبد ابكي على فعل المعاصي ونوح
يا عبد اعمل عمل طيب وعش مشروح
دنيا غرورة تجينا في صفة مركب
ترمي معاشها على شط البحار وتروح
ومنه:
إن كنت عاقل وربك بالتقى برك
ادفع أذاك وهات خيرك ودع شرك
وإن تعدى حسودك والحسد ضرك
ناديه يا أيها الإنسان ما غرك؟!
وبالتأمل في وزن هذا الفن نراه من بحر البسيط، مع تغيير في العروض والقافية.
وفي صعيد مصر نوع شائع الآن يعرف بالمواويل الحمر
4
ونوع آخر يعرف بالواو.
ومن الأول: قول الأديب مصطفى بك نجيب:
امتى بقى يا زمان عدلك يمليني
5
واكتب كتاب الهنا والشوق يمليني
6
كان لي رفاقة وصبحوا اليوم مليني
7
صبحت بيني وبين دار الحبايب سد
8
أقضي الليالي على نار المحبة سد
9
أبكي وأنوح وما حدش يقول لي سد
الحق علقلب قال للشوق مليني
10
ومنه:
إنفاق مالك على المحتاج أنجالك
11
من التعرض لكيد الدهر إنجالك
12
ما تسمع اللي بلومه كل أنجالك
13
أنت من الناس واحد من ألوف ملايين
14
أكثر عددهم فوارع والقليل ملايين
15
والدهر قلبه علينا من حديد ملايين
16
وأنت أبو الكل والمساكين أنجالك
17
ومن الثاني:
الدهر له أرياح وشرود
وحتى الليالي كحايل
بدل الغزالات بقرود
وحمير بعد الكحايل
الفصل الرابع
في دواوين الشعر
أشعار العرب الجاهليين ما دونت في عصر الجاهلية؛ بسبب أن الأمة كانت أمية، وغاية ما سمع أنه كان عند آل المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان ، ولكن لم نر هذا الديوان ولا نعلم أين يوجد الآن . هذا وإنما كان بعض الأشعار يحفظ بتواتر روايته. وفي صدر الإسلام اهتم الأدباء برواية الشعر الجاهلي وجمعه وتدوينه وتفسيره مثل: الأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وحماد الراوية وخلف الأحمر، وقد حذا حذوهم من خلفهم. ونظم هؤلاء وأولئك الشعر وأكثروا منه، وأخذ الشعراء يدونون ما نظموه بأنفسهم غالبا. (1) فمما تدون من أشعارهم واشتهر
كتاب «العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين: النابغة الذبياني، وعنترة العبسي، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، وعلقمة الفحل، وامرئ القيس». وقد طبع هذا العقد في مدينة غريفزولد سنة 1869 للميلاد. و«ديوان امرئ القيس الكندي» المتوفى سنة 539 للميلاد؛ وبه ثلاثون قصيدة طبع في مصر سنة 1282 للهجرة مع شرحه للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب، وأعيد طبعه سنة 1307. و«ديوان النابغة الذبياني» وتوجد منه نسخة بالمكتبة الخديوية بخط محمود باشا سامي المصري الشهير بالبارودي. و«ديوان المتلمس» المتوفى سنة 550 للميلاد. و«ديوان علقمة الفحل» المتوفى سنة 561 للميلاد، وقد طبع بمدينة ليبسيك سنة 1867. و«ديوان زهير بن أبي سلمى» المتوفى قبل الإسلام بنحو سنة، وقد طبع مع شرح له منسوب للأعلم الشنتمري بمدينة ليدن سنة 1306 للهجرة من ضمن مجموعة مسماة بالطرف العربية ومنسوبة إلى الشيخ عمر السويدي، ولا أدري من هو المسمى بهذا الاسم، وأظنه إفرنجيا مستشرقا تسمى به. ومجموع مشتمل على خمسة دواوين لأربعة جاهلية، وهم: النابغة الذبياني، وعروة بن الورد، وحاتم طيء، وعلقمة الفحل، والخامس إسلامي وهو الفرزدق، ومع الديوان الأول شرحه للوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي المتوفى سنة 194، ومع الثاني والثالث شرحهما لابن السكيت المتوفى سنة 244، وهذا المجموع طبع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1293.
ومجموعة «المعلقات السبع وشرحها» لعبد الله الزوزني، وعلى الورقة الأولى منه أنه توفي سنة 375، والزوزني نسبة إلى الزوزن؛ وهي بلدة كبيرة بين هراة ونيسابور، وقد طبع بالإسكندرية سنة 1288، وشرحها لأحمد بن النحاس الغريق في النيل سنة 338، وشرحها للشيخ عثمان التنوخي جمع فيه بين الشرحين السابقين. و«جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي المتوفى سنة 170، تكلم فيها على الشعر والشعراء، وجمع لهم تسعة وأربعين قصيدة مقسمة إلى المعلقات والمجمهرات والمنتقيات والمذهبات والمراثي والمشوبات والملحمات، وشرح هذه القصائد بعض الشرح، وقد طبع بالمطبعة الأميرية سنة 1308. و«ديوان قيس بن الخطيم»، أدرك الإسلام ومات قبل الهجرة. و«ديوان الأعشى» المتوفى سنة 7 للهجرة. و«ديوان الخنساء» المتوفاة سنة 24 للهجرة، وقد طبع بمصر سنة 1888، وببيروت سنة 1889 للميلاد، وأضيفت إليه مراث أخرى. و«ديوان حسان بن ثابت» المتوفى سنة 40 للهجرة، وكان شاعر النبي عليه الصلاة والسلام. و«ديوان الحطيئة» المتوفى في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. و«ديوان لبيد بن ربيعة» المتوفى في أول خلافة معاوية بعد أن عاش 140 سنة، وهو مطبوع بمدينة ويانة سنة 1880 للميلاد. و«ديوان أبي محجن الثقفي» الصحابي، وشرحه لأبي هلال الحسن بن سهل، وقد طبع في مدينة ليدن سنة 1303 للهجرة من ضمن المجموعة المسماة بالطرف العربية السابقة. و«ديوان مختارات شعراء العرب»، وبه خمسون قصيدة، وهو مطبوع بمطبعة أبي زيد بمصر 1306، و«ديوان سيدنا علي بن أبي طالب» المتوفى بالكوفة سنة 40 للهجرة، وهو مرتب على حروف المعجم، طبع ببولاق سنة 1251. و«ديوان عمر بن أبي ربيعة» المتوفى سنة 93، وجميع شعره في النسيب ولم يمتدح أحدا؛ ولذا قال له سليمان بن عبد الملك: لم لا تمدحنا؟ فقال: إنما أمدح النساء لا الرجال، وقد طبع هذا الديوان بمصر سنة 1311.
و«ديوان الفرزدق» المتوفى بالبصرة سنة 110 بعد أن عاش نحو مائة سنة، وقد تم طبعه بمدينة باريس سنة 1875 للميلاد. و«ديوان جرير» المتوفى سنة 110 باليمامة وقد طبع بمصر سنة 1313. و«ديوان مجنون ليلى» وهو شاعر إسلامي، وقد طبع سنة 1294 بمطبعة بولاق. و«ديوان ذي الرمة» المتوفى سنة 117 للهجرة. و«ديوان العجاج» وديوان ابنه رؤبة المتوفى سنة 145 وليس فيهما إلا أراجيز. و«المفضليات» وهي أشعار مختارة جمعها للمهدي المفضل الضبي الأول، وقد طبعت بمدينة ليبسيك سنة 1885 للميلاد.
و«ديوان الحسن بن هانئ» المعروف بأبي نواس المتوفي سنة 195 ببغداد، وقد طبع بمصر سنة 1277. و«ديوان مسلم بن الوليد» الملقب بصريع الغواني من شعراء الدولة العباسية ، توفي سنة 208، وطبع الديوان سنة 1875 للميلاد بمدينة ليدن. و«ديوان إسماعيل أبي العتاهية» المتوفى سنة 211، وقد طبع ببيروت سنة 1886. و«ديوان أبي تمام» حبيب بن أوس الطائي المتوفى بالموصل سنة 228، وقيل: سنة 231، وفيه سبعة فنون من الشعر: المديح، والرثاء، والعتاب، والوصف، والغزل، والفخر، والهجاء، وقصائد كل فن مرتبة على حروف المعجم، وهو مطبوع بمصر سنة 1292 للهجرة، وببيروت سنة 1889.
و«ديوان الحماسة»، وهو ديوان جمع فيه أبو تمام ما اختاره من أشعار العرب، ورتبه على عشرة أبواب: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومذمة النساء؛ وهو مطبوع مع شرحه لأبي زكريا يحيى الشهير بالخطيب التبريزي سنة 1296 بمطبعة بولاق في سفرين. و«ديوان علي بن الرومي» المتوفى سنة 283 ببغداد، وكان شعره غير مرتب فرتبه أبو بكر الصولي على الحروف. و«ديوان الوليد البحتري» الطائي المتوفى سنة 284 بمنبج. و«ديوان عبد الله بن المعتز» العباسي المتوفى سنة 296، وقد طبع بمصر سنة 1308. و«ديوان أبي الطيب أحمد المتنبي» المتوفى سنة 354، وهو ديوان مشهور متداول، وقد طبع بمصر منفردا 1283، وسنة 1302، وطبع مع شرحه للعكبري سنة 1284 بمطبعة بولاق في سفرين.
و«ديوان أبي فراس الحمداني» المتوفى سنة 357. و«ديوان محمد بن هانئ الأندلسي» المتوفى سنة 362، وقد طبع بمطبعة بولاق سنة 1274 للهجرة، وفي بيروت سنة 1886 للميلاد. و«ديوان محمد أبي الحسن الشريف الرضي» المتوفى ببغداد سنة 406، وقد طبع سنة 1313. و«ديوان أحمد بن زيدون» الوزير الأندلسي المتوفى بمدينة إشبيلية سنة 463.
و«ديوان أبي العلاء المعري» المتوفى سنة 499، وهذا الديوان معروف ب «سقط الزند»، وقد طبعته جمعية المعارف مع شرحه المسمى «التنوير» سنة 1286. و«ديوان إبراهيم بن خفاجى» الأندلسي المتوفى سنة 533، وقيل: سنة 538، وقد طبعته جمعية المعارف بمصر سنة 1286. و«مختارات أشعار العرب» اختارها هبة الله بن الشجري المتوفى سنة 542 ببغداد. و«ديوان عمر بن الفارض» المتوفى سنة 579، وقد طبع بمصر منفردا سنة 1299، وطبع مع شرحه لرشيد بن غالب سنة 1289، وهذا الشرح مجموع شرحي حسن البوريني وعبد الغني النابلسي. و«ديوان كمال الدين المعروف بابن النبيه المصري» المتوفى بنصيبين سنة 619، وقد طبع بمصر سنة 1280، وسنة 1313. و«ديوان إبراهيم بن سهل الإشبيلي» المتوفى سنة 649، جمعه الشيخ حسن العطار المصري المتوفى سنة 1250 وطبع سنة 1279 بمصر. و«ديوان البهاء زهير» المتوفى بمصر سنة 656 وقد طبع بمصر مرارا.
و«ديوان محمد بن سليمان التلمساني» الملقب بالشاب الظريف المتوفى بدمشق سنة 688، وقد طبع بمصر سنة 1274 وسنة 1308. و«ديوان عبد العزيز الطائي» الملقب بصفي الدين الحلي المتوفى سنة 750، وقد طبع بدمشق سنة 1297. و«ديوان جمال الدين بن نباتة المصري» المتوفى سنة 768، وقد طبع بمصر سنة 1288. و«ديوان شهاب الدين الموسوي» المعروف بابن معتوق المتوفى سنة 1087، وقد طبع بمصر سنة 1278 للهجرة، وفي بيروت سنة 1885 للميلاد. و«ديوان عبد الله الشبراوي» المتوفى سنة 1171، وهو مرتب على حروف المعجم، وقد طبع بمطبعة بولاق سنة 1282، وبالمطبعة المحمودية سنة 1314. و«ديوان السيد عبد الرحمن العيدروس» المتوفى بمصر سنة 1192. و«ديوان السيد علي الدرويش المصري» المتوفى سنة 1270، وهذا الديوان مسمى ب «الإشعار بحميد الأشعار»، وقد طبع بمصر سنة 1284. و«ديوان شهاب الدين المصري» المتوفى سنة 1274، وقد طبع بمصر سنة 1277، وله أيضا كتاب «سفينة الملك ونفيسة الفلك»، وقد قال في خطبتها أنه رتبها على ثلاثة أنابير: صغير ووسيط وكبير؛ الأول: في معرفة الموسيقى، والثاني: فيما نظمه فيها، والثالث: في التلاحين وما فيها من الموشحات والأبيات، وقد طبعت بمصر سنة 1281.
و«ديوان محمود أفندي صفوت الساعاتي» المتوفى في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وقد طبع سنة 1276. و«ديوان السيد علي أبي النصر» المتوفى سنة 1298، وقد طبع ببولاق سنة 1300. و«ديوان السيدة عائشة التيمورية» المعاصرة، وهو مطبوع سنة 1303 للهجرة. وكتاب «شعراء النصرانية» جمعه وصححه الأب لويس شيخو اليسوعي، وقد رأيت منه أربعة أقسام في شعراء الجاهلية مطبوعة في بيروت سنة 1890 للميلاد.
وقد جمع في عصرنا هذا الفاضل السيد توفيق البكري كتابا جليلا في المختار من أراجيز العرب، مفسرا للغريب وشارحا للمعاني ومبينا للمقاصد، وقد طبعه سنة 1313 للهجرة، وقد صنف أيضا كتابا نافعا سماه «فحول البلاغة» قال في أوله: «هذا سفر وضعناه في المختار من شعر ثمانية من فحول الشعراء وأئمة البلاغة وأمراء الكلام، وهم: مسلم بن الوليد صريع الغواني، وأبو نواس الحسن بن هانئ، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي، وأبو عبادة البحتري، وابن الرومي علي بن العباس، وابن المعتز، وأبو الطيب أحمد المتنبي، وأبو العلاء المعري.» وقد طبعه بالمطبعة الأميرية سنة 13 للهجرة.
الباب الرابع
في تاريخ العروض والقافية
(1) العروض
علم أوزان الشعر، والذي اخترعه «الخليل بن أحمد» المتوفى سنة 170 للهجرة، وجاءه ذلك - كما في تاريخ ابن خلكان - من معرفة الإيقاع والنغم، قالوا: لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسيم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسيم الزمان بالحروف المسموعة.
وقيل إنه جاء في فكره حينما مر بشوارع البصرة وسمع طرقات مطارق الحدادين بأصوات مختلفة.
وقال بعض إن شعر اليونان له أوزان مخصوصة، والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل، ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل شيء من ذلك فأعانه على إبراز العروض.
وروى الأخفش عن الحسن بن يزيد قال: سألت الخليل: هل للعروض أصل؟ قال: نعم، مررت بالمدينة حاجا، فرأيت شيخا يعلم غلامه يقول له: قل:
نعم لا/نعم لا لا/نعم لا/نعم لا لا
نعم لا/نعم لا لا/نعم لا/نعم لا لا
فقلت له: ما هذا الذي تقول للصبي؟ فقال: هو علم يتوارثونه عن سلفهم يسمونه «التنعيم»؛ لقولهم فيه: نعم. قال الخليل: فرجعت بعد الحج فأحكمتها. فجرى الخليل في تجزئته على ما سمع من الشيخ، فإن وزن قوله: «نعم لا» فعولن، و«نعم لا لا» مفاعيلن. قيل: وسمى الخليل هذه الصناعة بالعروض؛ لأنه لما شبه البيت من الشعر بالبيت من الشعر شبه ما يقيم وزن الأول بعروض الثاني، وهي الخشبة المعترضة في سقفه، وشبه الأسباب بالأسباب، والأوتاد بالأوتاد، والفواصل بالفواصل. وقيل إنه لما امتحن الشعر ووجد الاختلاف والتنقل في أواخر أبياته على الجملة أكثر منه في أوساطها؛ سمى وسط البيت الذي هو منتهى قسمه الأول عروضا أيضا تشبيها بالعروض، وهو العمود المعترض في وسط الخباء لثباته وقلة تبدله.
ولما تتبع الخليل أشعار العرب رأى أن أوزانها تنحصر في خمسة عشر وزنا سماها بحورا، وسمى البحور بأسماء مختلفة: الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والسريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث والمتقارب.
وأخذ العروض عن الخليل سيبويه، وأخذه عنه الأخفش، وزاد بحرا سماه الخبب. ولم يزل يتواتر أخذ العلماء هذا الفن إلى وقتنا هذا.
وجعل الجوهري بحور الشعر اثنى عشر لا غير، منها المتدارك، وجعل فيها سبعة مفردات وهي: الوافر، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والمتقارب، والمتدارك. وخمسة مركبات: الطويل، والمديد، والبسيط، والخفيف، والمضارع. فالطويل مركب من المتقارب والهزج؛ لأن المتقارب مركب من «فعولن»، والهزج مركب من «مفاعيلن»، ومنهما الطويل. والمديد مركب من الرمل والمتدارك؛ لأن الرمل من «فاعلاتن» والمتدارك من «فاعلن»، والمديد منهما. والبسيط مركب من الرجز والمتدارك. والخفيف مركب من الرمل والرجز. والمضارع مركب من الهزج والرمل. ولم يتركب من الكامل والوافر شطر، وأسقط السريع والمنسرح والمقتضب والمجتث، قال: وإنما كثر الخليل الألقاب للتقريب والشرح، وإلا فالسريع من البسيط؛ لأن بناءهما من مستفعلن وفاعلن. والمنسرح والمقتضب من الرجز؛ لأنهما من مستفعلن، وهذا بناء على قاعدته أن مفعولات مقلوب مستفعلن، والمجتث من الخفيف؛ لأنهما من مستفعلن وفاعلاتن، ولا اختلاف بين هذه الأجزاء إلا في تقديم وتأخير أو تكرير بعضها. ا.ه.
ولمعرفة أجزاء البحور رسموا خمس دوائر وضعوا فوقها علامات للمتحركات والسواكن من شطر كل بحر؛ فالمتحرك علامته (5) والساكن علامته (1)، وإن شئت قلت علامة الوتد المجموع (155) والمفروق (515)، والسبب الخفيف (15) والثقيل (55). ووضعوا اسم البحر داخل الدائرة تحت علامة مبدأ الشطر، والسير في هذه الدوائر يرشد إليه الموقف.
ولا يتحتم أن تجيء أوزان البحور على الأجزاء المستخرجة من الدوائر تماما، بل يدخلها الزحاف والعلل والجزء والشطر وغير ذلك مما هو مبين في موضعه، كما يظهر من تقطيع أبيات الشعر المسموعة عند العرب. (1) وتسمى الدائرة الأولى بدائرة المختلف لتركبها من جزأين مختلفين: خماسي «فعولن أو فاعلن »، وسباعي «مفاعيلن أو فاعلاتن»، ويستخرج منها الطويل والمديد والبسيط.
فأجزاء الطويل: «فعولن مفاعيلن» أربع مرات، وهو كثير الدوران في شعر العرب، ومنه قصيدة امرئ القيس التي أولها:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان
ورسم عفت آياته منذ أزمان
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت
كخط زبور في مصحف رهبان
وقصيدته التي أولها:
خليلي مرا بي على أم جندب
لنقضي لبنات الفؤاد المعذب
وقصيدته التي أولها:
أعني على برق أراه وميض
يضيء حبيا في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة
ينوء كتعتاب الكثير المهيض
وقبض فعولن في الطويل حسن، ويزداد حسنا إن جاء بعده الضرب المحذوف ولا يكاد يسمع إلا مقبوضا، كقوله:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه
ولا كل مؤت نصحه بلبيب
وأجزاء المديد «فاعلاتن فاعلن» أربع مرات في الدائرة، لكنه لم يسمع إلا مسدسا، وهو قليل في شعرهم، ومنه قصيدة لتأبط شرا أولها:
إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلا دمه ما يطل
خلف العبء علي وولى
أنا بالعبء له مستقل
وقصيدة لامرئ القيس منها:
وخليل قد أفارقه
ثم لا أبكي على أثره
وابن عم قد تركت له
صفو ماء الحوض من كدره
وابن عم قد فجعت به
مثل ضوء الصبح في غرره
وقول علي بن زيد:
يا لبينى أوقدي النارا
فالذي تهوين قد حارا
رب نار بت أرمقها
تقضم الهندي والغارا
عندها ظبي يؤججها
عاقد في الجيد تقصارا
شادن في عينه حور
وتخال الوجه دينارا
ومن مشطور المديد قصيدة لامرأة يقال إنها أم تأبط شرا أو أم السليك بن السلكة، وهي:
طاف يبغي نجوة
من هلاك فهلك
ليت شعري ضلة
أي شيء قتلك!
أمريض لم تعد
أم عدو ختلك؟
أم تولى بك ما
غال في الدهر السلك
والمنايا رصد
للفتى حيث سلك
أي شيء حسن
لفتى لم يك لك
كل شيء قاتل
حين تلقى أجلك
طال ما قد نلت في
غير كد أملك
إن أمرا فادحا
عن جوابي شغلك
سأعزي النفس إذ
لم تجب من سألك
ليت قلبي ساعة
صبره عنك ملك
ليت نفسي قدمت
للمنايا بدلك
قال أبو العلاء : «هذا الوزن لم يذكره الخليل ولا سعيد بن مسعدة، وذكره الزجاج وجعله سابعا للرمل، وقد يحتمل أن يكون مشطورا للمديد.» ا.ه.
والعروض الثانية بأضربها الثلاثة قليلة الوجود، وقد استقريت كثيرا من شعر العرب فلم أر منها شيئا، وربما كانت شواهدها المذكورة في كتب العروض موضوعة، فإنهم لم يذكروا قائليها، ورأيت في شارح الخزرجية: «وحكى للثانية ضرب متمم، كقوله:
صاحبي استنطقا ساعة
دمنة فيها لذي الحب داء
وهذه العروض قل أن توجد لمحدث فضلا عن العرب.» وفيه أيضا أن ضربيها الثاني والثالث اللذين وضعهما الخليل لم يسمع نظيرهما للعرب، وقال الزجاج: «لم يجئ على أولهما قصيدة إلا للطرماح.» ا.ه. وكان عليه في هذا المقام أن يذكر أول القصيدة.
وأجزاء البسيط: «مستفعلن فاعلن» أربع مرات، وهو شائع في الشعر، ومنه قول سالم بن وابصة:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله
إن التخلق يأتي دونه الخلق
وموقف مثل حد السيف قمت به
أحمي الذمار وترميني به الحدق
فما زلقت ولا أبديت فاحشة
إذا الرجال على أمثالها زلقوا
ومنه قول الفضل بن العباس:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
مهلا بني عمنا من نحت أثلتنا
سيروا رويدا كما كنتم تسيرونا
الله يعلم أنا لا نحبكم
ولا نلومكم أن لا تحبونا
كل له نية في بغض صاحبه
بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وجزء البسيط قليل الاستعمال قبيح الوزن، لم يجئ في شعر العرب إلا نادرا، لكن يحسن إذا حولت العروض والضرب بعد الجزء إلى «فعولن»، ويسمى حينئذ مخلعا، ومنه قول الأعشى:
ألم ترو إرما وعادا
أودى بها الليل والنهار
وقد جاء مكان فعولن مفعولن في قصيدة لامرئ القيس أولها:
عيناك دمعهما سجال
كأن شأنيهما أوشال
أو جدول في ظلال نخل
للماء من تحته مجال
من ذكر ليلى وأين ليلى!
وخير ما رمت ما ينال
وقال بعض إن المخلع من المنسرح ، واستدل بإطباق المحدثين على مفعولات مكان فاعلن، كقول ابن المعتز :
العيش مر والموت مر
فأي هذين لا أذم؟
أنقل رحلي من كل دار
خوف المنايا والأرض سم
وعورض بإطباق العرب على فاعلن.
ويقرب من مخلع البسيط قول سلمى بن ربيعة:
إن شواء ونشوة
وخبب البازل الأمون
يجشمها المرء في الهوى
مسافة الغائط البطين
والبيض يرفلن كالدمى
في الريط والمذهب المصون
والكثر والخفض آمنا
وشرع المزهر الحنون
من لذة العيش والفتى
للدهر والدهر ذو فنون
والعسر كاليسر والغنى
كالعدم والحي للمنون
أهلكن طسما وبعده
غذي بهم وذا جدون
وأهل جأش ومأرب
وحي لقمان والتقون
قال التبريزي: «هذه الأبيات خارجة عما وضعه الخليل، وعما وضعه سعيد ابن مسعدة، وأقرب ما يقال فيها أنها تجيء على السادس من البسيط.» ا.ه. وعد من مجزوء البسيط:
عجبت ما أقرب الأجل
منا وما أبعد الأمل!
وقيل إن البسيط يجيء مشطورا، وبيته:
دار عفاها القدم
بين البلى والعدم
واستخرجوا من هذه الدائرة بحرين مهملين، أحدهما وزنه «مفاعيلن فعولن» أربع مرات عكس الطويل، وسموه المستطيل، ومنه قول بعض المولدين:
أيسلو عنك قلب بنار الحب يصلى
وقد سددت نحوي من الألحاظ نصلا؟
وثانيهما: «فاعلن فاعلاتن» أربع مرات مقلوب المديد، وسموه الممتد، ومنه قول بعض المولدين:
قد شجاني حبيب واعتراني ادكار
ليته إذ شجاني ما شجته الديار (2) وتسمى الدائرة الثانية بدائرة المؤتلف؛ لائتلاف أجزائها وتماثلها، ويستخرج منها: الوافر والكامل، فالوافر أجزاؤه «مفاعلتن» ست مرات، لكن عروضه وضربه لم يسمعا إلا مقطوفين عند عدم الجزء، فيحول كل منهما إلى فعولن، ومنه لقيس بن الخطيم:
وما بعض الإقامة في ديار
يهان بها الفتى إلا بلاء
وبعض خلائق الأقوام داء
كداء البطن ليس له دواء
يريد المرء أن يعطى مناه
ويأبى الله إلا ما يشاء
وكل شديدة نزلت بقوم
سيأتي بعد شدتها رخاء
ولا يعطى الحريص غنى لحرص
وقد ينمى على الجود الثراء
غني النفس ما عمرت غني
وفقر النفس ما عمرت شقاء
وليس بنافع ذا البخل مال
ولا مزر بصاحبه السخاء
وبعض الداء ملتمس شفاه
وداء النوك ليس له شفاء
ومن مجزوء هذا البحر قول عربي في ابنه:
هوى ابني من علا شرف
يهول عقابه صعده
هوى من رأس مرقبة
فزلت رجله ويده
فلا أم فتبكيه
ولا أخت فتفتقده
هوى عن صخرة صلد
ففزت
1
تحتها كبده
ألام على تبكيه
وألمسه فلا أجده
وكيف يلام محزون
كبير فاته ولده؟
وزاد الأخفش عروضا ثالثة مجزوة مقطوعة لها ضرب مثلها، وبيتها:
عبيلة أنت همي
وأنت الدهر ذكري
والكامل أجزاؤه «متفاعلن» ست مرات، وهو كالطويل في كثرة الدوران في الشعر، ومنه معلقة عنترة، وأولها:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
ومنه:
نزل المشيب فأين تذهب بعده
وقد ارعويت وحان منك رحيل؟
كان الشباب خفيفة أيامه
والشيب محمله علي ثقيل
ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل
وقول عربي:
عادوا مروءتنا فضلل سعيهم
ولكل بيت مروءة أعداء
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشر
أزرى بفعل أبيهم الأبناء
وقول ابن عبدل الأسدي:
بيناهمو بالظهر قد جلسوا
يوما بحيث ينزع الذبح
فإذا ابن بشر في مواكبه
تهوي به خطارة سرح
فكأنما نظروا إلى قمر
أو حيث علق قوسه قزح
وقول قيس بن عاصم المنقري:
إني امرؤ لا يعتري خلقي
دنس يفنده ولا أفن
من منقر في بيت مكرمة
والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقوم قائلهم
بيض الوجوه مصاقع لسن
ومن مجزوء الكامل قول ابن زهيمة:
وجد الفؤاد بزينبا
وجدا شديدا متعبا
أمسيت من كلف بها
أدعى الشقي المسهبا
ولقد كنيت عن اسمها
عمدا لكيلا تغضبا
وجعلت زينب سترة
وكنيت أمرا معجبا
ومن مجزوئه المرفل قول النابغة:
المرء يأمل أن يعي
يش وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويب
قى بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حت
ى لا يرى شيئا يسره
كم شامت لي إن هلك
ت وقائل: لله دره!
قال ابن مرزوق: ولما كثرت حركات الكامل، وقع في أعاريضه من الاختلاف ما لم يقع في غيره؛ كقول امرئ القيس :
الله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرحل
بعد قوله في هذه القصيدة بعينها:
يا رب غانية صرمت حبالها
ومشيت متئدا على رسلي
وقول زهير في قصيدة له:
إن الرزية لا رزية مثلها
ما تبتغي غطفان يوم أظلت
ولنعم حشو الدرع أنت إذا
نهلت من العلق الرماح وعلت
فاجتمع في هذه الأبيات العروض السالمة والحذاء، وهذا خلاف ما اشترط في العلل من اللزوم.
واستخرجوا من هذه الدائرة بحرا مهملا بالابتداء من السبب الخفيف وزنه «فاعلاتك» ست مرات، ويقال له: المتوفر، ومنه قول بعض المولدين:
ما رأيت من الجآذر بالجزيرة
إن رمين بأسهم جرحت فؤادي (3) وتسمى الثالثة بدائرة المجتلب؛ لأن أجزاءها كلها اجتلبت إليها من دائرة المختلف، واستخرجوا منها الهزج والرجز والرمل، فالهزج أجزاؤه «مفاعيلن» ست مرات على حسب ما تقتضيه دائرته، لكنه لم يسمع عن العرب إلا مجزوا، وهو أقل استعمالا من الكامل، ومنه قصيدة الفند الزماني التي أولها:
صفحنا عن بني ذهل
وقلنا القوم إخوان
قال ابن مرزوق: وحكي استعمال الهزج مسدسا على الأصل وهو قليل جدا، كقوله:
عفا يا صاح من سلمى مراعيها
فظلت مقلتي تجري مآقيها
ومنه:
ترفق أيها الحادي بعشاق
نشاوى قد تعاطوا كأس إشراق
والرجز أجزاؤه «مستفعلن» ست مرات، وأكثر ما يستعمل منه العرب المشطور، كقول جحدر بن ضبيعة:
قد يتمت بنتي وآمت كنتي
وشعثت بعد الرهان حمتي
ردوا علي الخيل إن ألمت
إن لم يناجزها فجزوا لمتي
قد علمت والدة ما ضمت
ما لففت في خرق وشمت
إذا الكماة بالكماة التفت
أمخدج في الحرب أم أتمت
وكقول الزباء:
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا؟!
أم صرفانا تارزا شديدا
ويقال إن كل شطرين من هذا بيت، والتزمت العرب التقفية بين الأعاريض والأضرب، ومن غير الأكثر قول امرئ القيس:
لم تسبنا خيلكم فيما مضى
حتى استفأنا الحي من أهل ومال
ذاك وكم كندية سوداء قد
تستقبل القوم بوجه كالجمال
قايظننا يأكلن فينا عفرا
نطعمها قدا ومحروث الخمال
أيام صبحناكم ملمومة
كأنها نطقت قد من حزم آل
من كل قباء بعدو الوكرى
إذا توانى الخيل بالقوم الثقال
ومنهوك الرجز كقول دريد بن الصمة يوم هوازن:
يا ليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع
كأنها شاة صدع
ويقال إن هذا من مجزوء الرجز، الملتزم فيه التقفية بين الأعاريض والأضرب.
وللعرب تصرف واتساع في الرجز لكثرته في كلامهم في مواطن الحروب والفخر، قال الزجاج: ولو جاء منه شعر على جزء واحد مقفى لاحتمل ذلك، كقول عبد الصمد بن العدل:
قالت أجل ماذا الخجل هذا الرجل حين احتفل أهدى بصل
فجاء بالقصيدة على «مستفعلن»، ومثله قول يحيى بن علي المنجم:
طيف ألم بذي سلم
بعد العتم يطوي الأكم
جاد بفم وملتزم
فيه نظم إذا يضم
ويقال إن أول من انترع مثل هذا «مسلم الخاسر»، في قصيدة مدح بها موسى الهادي رابع الخلفاء العباسيين أخا الرشيد، وهي:
موسى المطر غيث بكر
ثم انهمر أروى المدر
كم اعتسر ثم ايتسر
وكم قدر ثم غفر
عدل السير باقي الأثر
خير وشر نفع وضر
فرع مضر بدر بدر
والمفتخر لمن غبر
ولم يسمع شيء من هذا عن العرب، وأقل ما سمع لهم كان على جزأين، كقول دريد السابق.
واشتهر بالرجز في صدر الإسلام: العجاج، ورؤبة، وكل منهما له ديوان ليس فيه من الشعر غير الأراجيز. وكذا أبو النجم، ومن رجزه:
خرجت من عند زياد كالخرف
تخط رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام ألف
وقد تصفحنا كثيرا من أراجيزهم وأراجيز من سبقهم؛ فرأيناها ملتزما فيها التقفية بين الأعاريض والأضرب، لكن من جاء بعدهم لم يلتزموا التقفية. ومن ذلك مقصورة ابن دريد التي أولها:
يا ظبية أشبه شيء بالمها
ترعى الخزامى بين أشجار النقا
إما ترى رأسي حاكى لونه
طرة صبح تحت أذيال الدجا
ويحتمل أن قول امرئ القيس السابق من الكامل المزاحف المعلول. والرمل أجزاؤه في الدائرة: «فاعلاتن» ست مرات، لكن عروضه لم تسمع في شعر العرب إلا محذوفة عند عدم الجزء، ومنه قصيدة لطرفة أولها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر؟
ومن الحب جنون مستعر
لا يكن حبك داء قاتلا
ليس هذا منك ماوي بحر
وقصيدة لعبيد بن الأبرص أولها:
يا خليلي أربعا واستخبرا ال
منزل الدارس عن حي حلال
مثل سحق البرد عفى بعدك ال
قطر مغناه وتأويب الشمال
ومن مجزو هذا البحر قصيدة جساس بن مرة، أولها:
إنما جاري لعمري
فاعلموا أدنى عيالي
وأرى للجار حقا
كيميني من شمالي (4) وتسمى الدائرة الرابعة بدائرة المشتبه؛ لاشتباه أبحرها، ويستخرج منها السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث. «فالسريع» أجزاؤه: «مستفعلن مستفعلن مفعولات» مرتين، لكن المسموع في عروضه أنها لا تجيء تامة.
ومنه قول جساس بن مرة:
إنا على ما كان من حادث
لم نبدأ القوم بذات العقوق
قد جربت تغلب أرماحنا
بالطعن إذ جاروا وحز الحلوق
لم ينههم ذلك عن بغيهم
يوما ولم يعترفوا بالحقوق
وأسعروا للحرب نيرانها
للظلم فينا باديا والفسوق
أليس من أردى كليبا لمن
دون كليب منكم بالمطيق؟
من شرع العدوان في قاتل
اقترف الظلم وضنك المضيق
بدأتم بالظلم في قومكم
وكنتم مثل العدو الحقيق
والظلم حوض ليس يسقى به
ذو منعة في كل أمر يطيق
فإن أبيتم فاركبوها بما
فيها من الفتنة ذات البروق
ومنه قول امرئ القيس:
أحللت رحلي في بني ثعل
إن الكريم للكريم محل
وجدت خير الناس كلهم
جارا وأوفاهم أبا حنبل
أقربهم خيرا وأبعدهم
شرا وأجودهم إن بخل
ومنه قول حطان بن المعلى:
أنزلني الدهر على حكمه
من شامخ عال إلى خفض
وغالني الدهر بوفر الغنى
فليس لي مال سوى عرضي
أبكاني الدهر ويا ربما
أضحكني الدهر بما يرضي
لولا بنات كزغب القطا
رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
ومن مشطور السريع قول قبيصة الحرمي:
هاجرتي يا بنت آل سعد
أأن حلبت لقحة للورد
جهلت من عنانه الممتد
ونظري في عطفه الألد!
إذا جياد الخيل جاءت تردي
مملؤة من غضب وحرد
و«المنسرح» أجزاؤه: «مستفعلن مفعولات مستفعلن» مرتين ، إلا أن ضربه عند التمام لا يجيء إلا مطويا، وقال بعض: وكذا عروضه لا تجيء إلا مطوية، ويؤيد هذا تتبع شعر العرب الصحيح، ومنه قول امرئ القيس:
أنى علي استتب لومكما
ولم تلوما حجرا ولا عصما
كلا يمين الإله يجمعنا
شيء وأخوالنا بنو جشما
حتى يزور الضباع ملحمة
كأنها من ثمود أو إرما
قال الصبان: وحكى غير الخليل ضربا مقطوعا لهذا البحر، كقوله:
ما هيج الشوق من مطوقة
قامت على بابه تغنينا
واستحسن هذا الضرب المحثون وأكثروا منه.
ومن منهوك المنسرح قول هند بنت عتبة:
صبرا بني عبد الدار
صبرا حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
و«الخفيف» أجزاؤه: «فاعلاتن مستفع لن مفروق الوتد فاعلاتن» مرتين، ومنه قول منقذ الهلالي:
أي عيش عيشي إذا كنت منه
بين حل وبين وشك رحيل
كل فج من البلاد كأني
طالب بعض أهله بذحول
ما أرى الفضل والتكرم إلا
كفك النفس عن طلاب الفضول
وبلاء حمل الأيادي وإن تس
مع منا تؤتى به من منيل
ومنه قصيدة لعدي بن زيد، أولها:
طال ليلي أراقب التنويرا
أرقب الليل بالصباح بصيرا
شط وصل الذي تريدين مني
وصغير الأمور يجني الكبيرا
كم ترى اليوم من صحيح تمني
وغدا حشو ريطة مقبورا
ومن مجزو الخفيف قول فقيد ثقيف:
أيها الجيرة اسلموا
وقفوا كي تكلموا
خرجت مزنة من ال
بحر ريا تحمحم
هي ما كنتي وتز
عم أني لها حم
و«المضارع» أجزاؤه: «مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن» مرتين. و«المقتضب» أجزاؤه: «مفعولات مستفعلن مستفعلن» مرتين، قالوا كلاهما مجزوء وجوبا، وذكروا:
شاهد الأول:
دعاني إلى سعادي
دواعي هوى سعادي
وشاهد الثاني:
أقبلت فلاح لها
عارضان كالثبج
أدبرت فقلت لها
والفؤاد في وهج
هل علي ويحكما
إن عشقت من حرج؟
وقد بحثت كثيرا في شعر العرب الذي يؤخذ حجة؛ فلم أعثر على أبيات من كليهما إلى أن رأيت في «حاشية الدمنهوري على الكافي» ما نصه: «قال الدمامني: أنكر الأخفش أن يكون المضارع والمقتضب من شعر العرب، وزعم أنه لم يسمع منهم شيء منهما، قلت: وهو محجوج بنقل الخليل. وقال الزجاج: هما قليلان حتى إنه لا يوجد منهما قصيدة لعربي، وإنما يروى من كل واحد منهما البيت والبيتان، ولا ينسب بيت منهما إلى شاعر من العرب ولا يوجد في أشعار القبائل.»
و«المجتث» أجزاؤه في الدائرة: «مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن»، لكنه لم يستعمل إلا رباعيا، ويكاد أن لا يوجد في شعر العرب الجاهلي كالمضارع والمقتضب، ومنه قول العباس بن الأحنف في جارية اسمها «فوز» حجت مع مولاها:
يا رب رد علينا
من كان أنسا وزينا
من لا نسر بعيش
حتى يكون لدينا
يا من أتاح لقلبي
هواه شؤما وحينا
ما زلت مذ غبت عني
من أسخن الناس عينا
ما كان حجك عندي
إلا بلاء علينا
وللوليد بن يزيد بن عبد الملك:
إني سمعت بليل
نحو الرصافة رنة
خرجت أسحب ذيلي
أنظر ما شأنهنه
إذا بنات هشام
يندبن والدهنه
يندبن ويلا وعولا
والويل حل بهنه
وحكى بعضهم استعمال المجتث مسدسا، وأنشد:
يا من على الحب يلحى مستهاما
لا تلحني إن مثلي لن يلاما
واستخرجوا من هذه الدائرة أيضا ثلاثة أبحر مهملة، الأول أجزاؤه «فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن» مرتين، ويسمى «المتئد»، وقال بعض المولدين:
ما لسلمى في البرايا من مشبه
لا ولا البدر المنير المستكمل
والثاني أجزاؤه: «مفاعيلن مفاعيلن فاع لات»، ويسمى بالمنسرد، وقال منه بعض المولدين:
لقد ناديت أقواما حين جابوا
وما بالسمع من وقر لو أجابوا
والثالث أجزاؤه: «فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن» مرتين، ويسمى بالمطرد، وقال منه بعض المولدين:
من مجيري من الأشجان والكرب
من مزيلي من الإبعاد بالقرب؟ (5) وتسمى الدائرة الخامسة بدائرة المتفق؛ لاتفاق أجزائها، ويستخرج منها: المتقارب والمتدارك، فالمتقارب أجزاؤه: «فعولن» ثماني مرات، ومنه قصيدة بشر بن أبي حازم التي أولها:
غشيت لليلى بشرق مقاما
فهاج لك الرسم منها سقاما
بسقط الكثيب إلى عسعس
تخال منازل سلمى وشاما
ومنه قصيدة لدريد بن الصمة أولها:
مدحت يزيد بن عبد المدان
فأكرم به من فتى ممتدح
ومنه قول الصلتان العبدي:
تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي
وهذا البحر كثير في شعرهم، غير أنه يقل منه المجزو ولم يستعمل منه المشطور، ويجوز فيه خلط العروض التامة بالمحذوفة والمقصورة والمحذوفة بالبتراء لتصرف العرب فيه. وأنشدوا منه لعبيد بن الأبرص:
هي الخمر تكنى الطلا
كما الذيب يكنى أبا جعدة
وأصلحه الخليل بقوله:
هي الخمر يكنونها بالطلا
كما الذيب يكنى أبا جعدة
و«المتدارك» أجزاؤه: «فاعلن» ست مرات، ولم أعثر على شواهد له في أشعار العرب الجاهلية، ومع ذلك وزنه محبوب وفي الأسماع مؤثر في النفوس، خصوصا إذا دخله الخبن، نحو:
كرة طرحت بصوالجة
فتلقفها رجل رجل
أو القطع نحو:
ما لي مال إلا درهم
أو برذوني ذاك الأدهم
وقد اجتمعا في قوله:
قم نحو حماة وابتهج
وعلى ذاك المحيا فعج
وقد سموا هذا البحر بضرب الناقوس والمتسق وغير ذلك، وقال الصبان: «وحكم كثير بشذوذ ورود هذا البحر سالما ووروده مجزوا، وأن المطرد استعماله مخبونا.» ا.ه. وهذا البحر لم يذكره الخليل، بل زاده الأخفش كما سبق، وزعم ابن رشيق أنه قديم، ومنه:
يا بني عامر قد تجمعتم
ثم لم تدفعوا الضيم إذ جئتم
وقد نظم بعضهم أسماء بحور الخليل، فقال:
طويل مديد فالبسيط فوافر
فكامل أهزاج الأراجيز أرملا
سريع سراح فالخفيف مضارع
فمقتضب مجتث قرب لتفضلا
ونظم أوزان البحور كثير من الشعراء، منهم الصفي الحلي، فقال:
الطويل:
طويل له دون البحور فضائل
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعل
المديد:
لمديد الشعر عندي صفات
فاعلاتن فاعلن فاعلات
البسيط:
إن البسيط لديه يبسط الأمل
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعل
الوافر:
بحور الشعر وافرها جميل
مفاعلتن مفاعلتن فعول
الكامل:
كمل الجمال من البحور الكامل
متفاعلن متفاعلن متفاعل
الهزج:
على الأهزاج تسهيل
مفاعيلن مفاعيل
الرمل:
رمل الأبحر يرويه الثقات
فاعلاتن فاعلاتن فاعلات
السريع:
بحر سريع ماله ساحل
مستفعلن مستفعلن فاعل
الرجز:
في أبحر الأرجاز بحر يسهل
مستفعلن مستفعلن مستفعل
المنسرح:
منسرح فيه يضرب المثل
مستفعلن فاعلن مفتعل
الخفيف:
يا خفيفا خفت به الحركات
فاعلاتن مستفعلن فاعلات
المضارع:
بعد المضارعات
مفاعيلن فاعلات
المقتضب:
اقتضب كما سألوا
فاعلات مفتعل
المجتث:
اجتث الحاجات
مستفعلن فاعلات
المتقارب:
عن المتقارب قال الخليل
فعولن فعولن فعولن فعول
المحدث:
حركات المحدث تنتقل
فعلن فعلن فعلن فعل
وقد جاءت آيات قرآنية وأحاديث نبوية على الأوزان الشعرية اتفاقا، فمن ذلك آية:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . وحديث: «إن أنت إلا أصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت»؛ فالآية من مجزو الرمل، والحديث من الرجز المقطوع.
وقد نظم الشيخ شهاب بيتين لكل بحر مبينا فيهما اسم البحر وأجزاءه، ومقتبسا آية من القرآن الكريم جاءت على وزنه.
فقال في الطويل:
أطال عذولي فيك كفرانه الهوى
وآمنت يا ذا الظبي فأنس ولا تنفر
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
وقال في المديد:
يا مديد الهجر هل من كتاب
فيه آيات الشفا للسقيم
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
تلك آيات الكتاب الحكيم
وقال في البسيط:
إني بسطت يدي أدعو على فئة
لاموا عليك عسى تخلو أماكنهم
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
وقال في الوافر:
غرامي بالأحبة وفرته
وشاة في الأزقة راكزونا
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
إذا مروا بهم يتغامزونا
وقال في الكامل:
كملت صفاتك يا رشا وأولو الهوى
قد بايعوك وحظهم بك قد نما
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
إن الذين يبايعونك إنما
وقال في الهزج:
لئن تهزج بعشاق
فهم في عشقهم تاهوا
مفاعيلن مفاعيلن
وقالوا حسبنا الله
وقال في الرجز:
يا راجزا باللوم في موسى الذي
أهوى وعشقي فيه كان المبتغى
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
اذهب إلى فرعون إنه طغى
وقال في الرمل:
إن رملتم نحو ظبي نافر
فاستميلوه بداعي أنسه
فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
ولقد راودته عن نفسه
وقال في السريع:
سارع إلى غزلان وادي الحمى
وقل أيا غيد ارحموا صبكم
مستفعلن مستفعلن فاعلن
يا أيها الناس اتقوا ربكم
وقال في المنسرح:
تنسرح العين في خديد رشا
حيا بكأس وقال خذه بفي
مستفعلن مفعولات مستفعلن
هو الذي أنزل السكينة في
وقال في الخفيف:
خف حمل الهوى علينا ولكن
ثقلته عوازل تترنم
فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم
وقال في المضارع:
إلى كم تضارعون
فتى وجهه منير
مفاعيلن فاع لاتن
ألم يأتكم نذير
وقال في المقتضب:
اقتضب وشاة هوى
من سناك حلولهم
مفعولات مفتعلن
كلما أضاء لهم
وقال في المجتث:
اجتث من عاب ثغرا
فيه الجمان النظيم
مستفع لن فاعلاتن
وهو العلي العظيم
وقال في المتقارب:
تقارب وهات اسقني كأس راح
وباعد وشاتك بعد السماء
فعولن فعولن فعولن فعولن
وإن يستغيثوا يغاثوا بماء
وقال في المتدارك:
دارك قلبي بلمى ثغر
في مبسمه نظم الجوهر
فعلن فعلن فعلن فعلن
إنا أعطيناك الكوثر
وقال في المخلع:
خلعت قلبي بنار عشق
تصلى بها مهجتي الحرارة
مستفعلن فاعلن فعولن
وقودها الناس والحجارة
وقال في الدوبيت:
دوبيت لنظم فارس ميزان
ما خصصهم بكسبه الإمكان
فعلن متفاعلن فعولن فعلن
بل ران على قلوبهم ما كانوا
وقال في المواليا:
لذ بالموالي الأكابر واعتصم بالله
يهديك إذا شا وإلا لا تزل باللاه
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
وما تشاءون إلا أن يشاء الله
لطائف
الأولى:
قيل لا حاجة إلى العروض؛ لأن الشعر به شاق ويجيء متكلفا؛ فإن العروضي ليتأتى له وزن البيت ينظر في أجزائه ويقابل ما فيها من الأوتاد والأسباب على التفاعيل، وإلى أن ينظم بيتا ينظم الشاعر بالسليقة قصيدة.
قال أبو فراس:
تناهض الناس للمعالي
لما رأوا نحوها نهوضي
تكلفوا المكرمات كدا
تكلف النظم للعروضي
وقال ابن حجاج:
مستفعلن فاعلن فعول
مسائل كلها فضول
قد كان شعر الورى صحيحا
قبل أن يخلق الخليل
وقال بهاء الدين السبكي:
إذا كنت ذا فكر سليم فلا تمل
لعلم عروض توقع القلب في كرب
فكل امرئ عانى العروض فإنما
تعرض للتقطيع وانساق للضرب
الثانية:
ألغز ابن الصائغ في جبل، فقال:
يا عروضيا له فطن
بحرها بالفكر يضطرب
أيما اسم وضعه وتد
وهو إذا صحفته سبب
ويرى في الوزن فاصلة
ساكن تحريكه عجب
أراد بالوتد: الجبل، قال تعالى : وجعلنا
الجبال أوتادا ، وهو إذا صحفته جبل، وهو السبب لغة ، ووزنه: فاصلة صغرى؛ لأن جبلا ثلاثة أحرف متحركة بعدها ساكن.
وألغز بعضهم في الساقية، فقال:
يا أيها الحبر الذي
علم العروض به امتزج
أبن لنا دائرة
فيها بسيط وهزج
وظاهر هذا مشكل؛ لأنه ليس في دوائر العروض ما يجمع البسيط والهزج؛ لأن البسيط من دائرة المختلف، والهزج من دائرة المجتلب وأوهم بالبسيط وهو يريد الماء، وأوهم بالهزج وهو يريد الصوت المسموع من الساقية حال دورانها. ا.ه. من الصفدي.
الثالثة:
قال في «النفحات الأرجية»: قال الخليل وغيره: للعرب نوعان من الشعر: المخمس والمسمط. قال ابن رشيق: «المخمس» أن يؤتى بخمسة أقسام على قافية واحدة، ثم بخمسة أخرى على قافية أخرى إلى تمام القصيدة، هذه أصله، وقد يستعمل على أقل من خمسة أو أكثر. أنشد الزجاج:
سقى طللا بحزوى
هزيم الودق أحوى
عهدنا فيه أروى
زمانا ثم أقوى
وأروى لا كنود
ولا فيها صدود
لها طرف صيود
ومبتسم برود
لئن شط المزار
بها ونأت الديار
فقلبي مستطار
وليس له قرار
وهذا الوزن يحتمل أن يكون من مربع الوافر المقطوع، أو من المضارع المقبوض المكفوف. و«المسمط» أنه يؤتى ببيت مصرع، ثم بأربعة أقسام على قافية واحدة غير قافية البيت الأول، ثم يؤتى بشطر واحد متحد في الوزن والقافية مع البيت الأول؛ نحو:
توسمت من هند معالم أطلال
عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومطايف
يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف
وكل مسف ثم آخر رادف
بأسمح من نوء السماكين هطال
وهذا جرى عليه اسم المخمس غلطا، وربما كان التسميط بالإتيان بثلاثة أشطر متحدة في التقفية ورابعة على قافية أخرى، ثم بثلاثة أخرى متحدة في التقفية، ورابعة متحدة مع الرابعة السابقة في القافية وهكذا، كقوله:
خيال هاج لي شجنا
فبت مكابدا حزنا
عميد القلب مرتهنا
بذكر اللهو والطرب
سبتني ظبية عطل
كأن رضابها عسل
ينوء بخصرها كفل
كميل روادف الحقب
ا.ه. بتصرف.
وأقول: التخميس المستعمل الآن بمصر أن يؤتى بأربعة أشطر متحدة في التقفية، وخامسة مخالفة لها في القافية، إلا إذا أريد التصريع، كقول الشيخ إبراهيم راضي المؤدب في تخميس هذا البيت: «كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات»
احترس من سواك قربا وبعدا
وتبصر في الأمر عكسا وطردا
أنت للناس لست تعلم قصدا
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات
والتشطير: أن تجعل بيتا بيتين، كقوله في البيت السابق:
كل من في الوجود يطلب صيدا
تتجارى لقنصه الغايات
لو علمنا بسرها لاحترسنا
غير أن الشباك مختلفات
ومن الشعر نوع ثالث يسمى «القادوسي» لم يذكره الخليل وذكره غيره، شبه بقواديس الساقية لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في جهة أخرى؛ نحو:
كم للدمى الأبكار
بالحسن من منازل
بمهجتي للوجد من
تذكارها منازل
منازل غيرها
سواكب الهواطل
لما ناء ساكنها
فأدمعه هواطل (2) القافية
علم أحوال أواخر الأبيات، وتطلق على مجموع الساكنين اللذين في آخر البيت وما بينهما من المتحركات والمتحرك الذي قبل الساكن الأول، كذا قال الخليل. وقال الكوفيون إنها حرف الروي خاصة. ورأيت في رسالة لابن كيسان مطبوعة في ليدن ما يخالف هذا؛ فإن فيها ما نصه: «قال الخليل: القافية الحرف الذي يلزمه الشاعر في آخر كل بيت حتى يفرغ من شعره، وكان الخليل يسمي الكلمة التي فيها القافية: الضرب والروي.» وهذا مخالف للمشهور، ولما جاء في لسان العرب، وهو: وقال الخليل: القافية من آخر حرف البيت إلى أول ساكن يليه مع الحركة التي قبل الساكن كأن القافية على قوله من قول لبيد: عفت الديار محلها فمقامها، من فتحة القاف إلى آخر البيت.
وقال قطرب: القافية الحرف الذي تبنى القصيدة عليه، وهو المسمى رويا.
وقال ابن كيسان: القافية كل شيء لزمت إعادته في آخر البيت. وقد لاذ هذا بنحو قول الخليل لولا خلل فيه.
وقال الأخفش إنها آخر كلمة في البيت. وقال آخرون: هي المصراع الأخير.
قال الخطيب التبريزي: والقول قول الأخفش لأنا رأيناهم إذا قالوا البيت حتى تبقى منه كلمة قالوا: بقيت القافية.
ولو أن شاعرا قال لك اجمع قواف لم تجمع له أنصاف أبيات، وإنما كنت تجمع له كلمات أواخرها الحرف الذي تريد أن تجعله روي القصيدة. ا.ه.
والعرب يطلقون القافية على البيت وعلى القصيدة.
قال حسان:
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء
وقال آخر:
وكم علمته نظم القوافي
فلما قال قافية هجاني
وقالت الخنساء:
وقافية مثل حد السنا
ن تبقى ويهلك من قالها
وقال الشميذر الحارثي:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما
دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
أي: دفنتم بصحراء الغمير شاعركم صاحب القصائد.
ويقال إن مهلهل بن ربيعة أول من أجاد تقفية القصائد الطوال، وأنه لم يقل أحد قبله عشرة أبيات من روي واحد، وأنه أول من يروى له كلمة ثلاثون بيتا من الشعر.
قال الفرزدق:
ومهلهل الشعراء ذاك الأول
ولهذا نسبوا إليه وضع القوافي. وأما علم القافية فالظاهر أنه من علم العروض، فيكون من وضع الخليل؛ فإن تعاريف القافية الاصطلاحية وأسماء حروفها وحركاتها وعيوبها وأنواعها منسوبة كلها إلى الخليل ومن تبعه، ولم يؤثر عن زمن الجاهلية وضع علم ولا تدوين فن، ولو كان العلم نفسه من وضع المهلهل لما خفي على النابغة الذبياني شاعر العرب المحكم عيب الإقواء في قصيدته التي أولها:
أمن آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود؟
فإنه خالف فيها مجرى رويها المكسور حيث قال:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك خبرنا الغداف الأسود
ولما أنكر عليه أهل يثرب ذلك لم يعرف ما أنكروا فألقوه على لسان جارية فتغنت فيه فمدت صوتها في «مزود» ومدت صوتها في قوله «الأسود»، فقال النابغة: ما أبصركم يا أهل يثرب بمجاري الكلام، ورجع عنه فقال:
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
وقد أقوى النابغة في موضع آخر من هذه القصيدة، فقال:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
ويؤيد ما ذهبنا إليه قول ابن مرزوق شارح الخزرجية. وإنما أفردت القوافي بالتأليف وإن كانت من علم العروض لكثرة مباحثها، كما أفردت الفرائض بالتآليف وإن كانت من علم الفقه، وكإفراد التصريف بالتأليف وإن كان من علم النحو.
ولقافية البيت حروف وحركات إذا جاءت للشاعر في مطلع شعره وجب عليه التزامها في بقيته؛ فالحروف ستة نظمها بعضهم فقال:
روي ووصل والخروج وردفه
ومن قبله التأسيس ثم دخيل
والحركات ست أيضا نظمها آخر فقال:
إن القوافي عندنا حركاتها
ست على نسق بهن يلاذ
رس وإشباع وحذو ثم تو
جيه ومجرى بعده ونفاذ (1)
فالروي: الحرف الذي ينسب إليه الشعر، ويكون ساكنا ومتحركا. فالساكن: ويسمى مقيدا كالميم الملتزمة أخيرا في قصيدة طرفة بن العبد التي أولها:
سائلوا عنا الذي يعرفنا
بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسوقها
وتلف الخيل أعراج النعم
ولذا يقال لها: «ميمية طرفة».
والمتحرك: ويسمى مطلقا كالهمزة في معلقة الحارث بن حلزة التي أولها:
آذنتنا ببينها أسماء
رب ثاو يمل منه الثواء (و)
بعد عهد لنا ببرقة شما
ء فأدنى ديارها الخلصاء
ويقال لها «همزية الحارث»، وكالنون في معلقة عمرو بن كلثوم التي أولها:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
مشعشة كأن الحص فيها
إذا ما الماء خالطها سخينا
ويقال لها المعلقة النونية، وكالباء في قصيدة النابغة التي أولها:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض
وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وتسمى بالبائية، وكالميم في قصيدة عبيد بن الأبرص التي أولها:
لمن جمال قبيل الصبح مزمومة
ميممات بلادا غير معلومة
عالين رقما وأنماطا مظاهرة
وكللا بعتيق العقل مقرومة
والباء في قصيدة أبي النشناش التي أولها:
إذا المرء لم يسرح سواما ولم يرح
سواما ولم تعطف عليه أقاربه
واللام في قطعة لابن زيابة أولها:
نبئت عمرا غارزا رأسه
في سنة يوعد أخواله (و)
وتلك منه غير مأمونة
أن يفعل الشيء إذا قاله
والعين في قول مسكين الدارمي:
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم
على سر بعض غير أني جماعها
لكل امرئ شعب من القلب فارغ
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
والهمزة في قطعة للهذيل بن مشجعة:
إني وإن كان ابن عمي غائبا
لمقاذف
2
من خلفه وورائه (ي)
ومفيده نصري وإن كان امرأ
متزحزحا في أرضه وسمائه
ويعاب على الشاعر أن يغير حرف الروي في شعر واحد، وسموا هذا العيب إكفاء، كقول رؤبة:
أزهر لو يولد بنجم الشح
ميمم البيت كريم السخ
وحركة الروي المطلق تسمى مجرى، وحركة ما قبل الروي المقيد توجيها، وفي اختلاف المجرى عيب الإقواء كما تقدم في شعر النابغة، وفي اختلاف التوجيه عيب السناد، كقول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامر
ي لا يدعي القوم أني أفر
تميم بن مر وأشياعها
وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا
تحرقت الأرض واليوم قر (2)
والوصل: لين أو هاء تلي الروي المطلق، كالواو المتولدة بعد الهمزة في «الثواء»، والألف بعد النون في «الأندرينا»، والياء بعد الباء في «الكواكب»، وهاء التأنيث بعد الميم في «معلومة»، وهاء الضمير في «أقاربه» وفي «أخواله» وفي «جماعها» وفي «ورائه»، فليست الهاء وصلا في مثل قصيدة الحطيئة التي أولها:
ألا هبت أمامة بعد هدء
تعاتبني وما قضت كراها
فقلت لها: أمام ذري عتابي
فإن النفس مبدية ثناها
بل هي الروي والألف الوصل، والوصل لا يتأتى في الروي المقيد، وأشار إلى هذا الوراق، فقال:
قلت: صلني فقد تقيدت في الحب
به والإسار في الحب ذل
قال: يا من يجيد علم القوافي
لا تغالط ما للمقيد وصل
وحركة هاء الوصل نفاد أو نفاذ، ولم يسمع في شعر اختلافها. (3)
والخروج: حرف مد يلي هاء الوصل؛ إن ضمة فواو، وإن فتحة فألف، وإن كسرة فياء، كالواو والألف والياء المتولدة بعد الهاء في «أخواله» و«جماعها» و«ورائه». (4)
والردف: حرف لين قبل الروي كالألف قبل الهمزة في «الثواء»، والياء قبل النون في «الأندرينا»، والواو قبل الميم في «معلومة». والردف إذا كان بالألف انفردت في الشعر كقصيدة بشر بن أبي خازم التي أولها:
تعنى القلب من سلمى عناء
فما للقلب إذ بانت شفاء
وآذن آل سلمى بارتحال
فما للقلب إذ ظعنوا عزاء
وإذا كان بالواو أو الياء جاز أن يجتمعا في شعر واحد، كقول المعلوط بن بدل السعدي:
إن الظعائن يوم جو سويقة
أبكين عند فراقهن عيونا
غيضن من عبراتهن وقلن لي:
ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟!
بل لو يساعفنا الغيور بداره
يوما لقد مات الهوى وحيينا
وحركة ما قبل الردف حذو، وفي اختلافها عيب السناد، كقول عبيد:
فإن يك فاتني أسفا شبابي
وأضحى الرأس مني كاللجين
وكان اللهو حالفني زمانا
فأضحى اليوم منقطع القرين
فقد ألج الخباء على عذارى
كأن عيونهن عيون عين
وفي إرداف بعض الشعر دون البعض الآخر عيب السناد، كقول حسان:
إذا كنت في حاجة مرسلا
فأرسل حكيما ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى
فشاور لبيبا ولا تعصه (5)
والتأسيس: ألف سبق الروي بحرف وكان معه في كلمته أو في كلمة أخرى، بشرط أن يكون الروي ضميرا أو بعض ضمير، كقول حفص العليمي:
أقول لحلمي: لا تزعني عن الصبا
وللشيب لا تذعر علي الغوانيا (من كلمته).
طلبت الهوى الغوري حتى بلغته
وسيرت في نجديه ما كفانيا (ضمير).
فيا رب إن لم تقضها لي فلا تدع
قذور لهم واقبض قذور كما هيا (بعض ضمير).
ويا ليت أن الله إن لم ألاقها
قضى بين كل اثنين ألا تلاقيا
وأما إذا كان الألف في كلمة أخرى ولم يكن الروي ضميرا ولا بعضه؛ فلا يكون تأسيسا، كقول الصمة بن عبد الله بن الطفيل:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا
وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا
وكقول عنترة:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين وإن لم ألقهما دمي
وإذا جاء أول الشعر مؤسسا، لزم التأسيس في باقيه، كقول معدان الكندي:
صفا ود ليلى ما صفا ثم لم نطع
عدوا ولم نسمع به قيل صاحب
فلما تولى ود ليلى لجانب
وقوم تولينا لقوم وجانب
وكل خليل بعد ليلى يخافني
على الغدر أو يرضى بود مقارب
وإلا جاء عيب السناد، كقول حجر بن حية العبسي:
ولا أدوم قدري بعدما نضجت
بخلا لتمنع ما فيها أثافيها
حتى تقسم شتى بعدما وسعت
ولا يؤنب تحت الليل عافيها
لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت
ولا أقوم بها في الحي أخزيها
ولا أكلمها إلا علانية
ولا أخبرها إلا أناديها
فالبيت الثالث غير مؤسس والباقي فيه التأسيس. (6)
والدخيل حرف متحرك بين التأسيس والروي، كنون «الغوانيا»، وحركته إشباع، وفي اختلافها عيب السناد كقول النابغة:
وهم طردوا منها بليا فأصبحت
بلي بواد من تهامة غائر
وهم منعوها من قضاعة كلها
ومن مضر الحمراء عند التغاور
ومما تقدم يعلم أن القافية باعتبار حروفها تسعة أنواع:
لأنها إما مطلقة؛ أي لها وصل، أو مقيدة ليس لها وصل، وكلتاهما مردوفة أو مؤسسة أو مجردة من الردف والتأسيس. والمطلقة بأقسامها الثلاثة إما موصولة بحرف لين وإما بهاء.
فالمطلقة المردوفة الموصولة كقول أمية بن أبي الصلت:
كل عيش وإن تطاول يوما
صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
في رءوس الجبال أرعى الوعولا
الوصل حرف لين.
وكقول عنترة يرثي تماضر زوجة الملك زهير:
جازت ملمات الزمان حدودها
واستفرغت أيامها مجهودها
وقضت علينا بالمنون فعوضت
بالكره من بيض الليالي سودها
الوصل هاء.
والمطلقة المؤسسة الموصولة كقول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا
علي قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري وأجعل هدمها
لعرضي من باقي المذمة حاجبا
الوصل حرف لين.
وكقول طرفة:
فكيف يرجى المرء دهرا مخلدا
وأعماله عما قليل تحاسبه
ألم تر لقمان بن عاد تتابعت
عليه النسور ثم غابت كواكبه
الوصل هاء.
والمطلقة المجردة الموصولة كقول جليلة بنت مرة:
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الذي
يوجب اللوم فلومي واعذلي
الوصل حرف لين.
وكقول طرفة:
تذكرون إذ نقاتلكم
لا يضر معدما عدمه
أنتم نخل نطيف به
فإذا ما جز نصطرمه
والمقيدة المردوفة كقول امرئ القيس:
تطاول الليل علينا دمون
دمون إنا معشر يمانون
وإنا لأهلنا محبون
والمقيدة المؤسسة كقول الحطيئة:
وغررتني وزعمت أن
ك لابن في الصيف تامر
والمقيدة المجردة كقول طرفة:
خالط الناس بخلق واسع
لا تكن كلبا على الناس تهر
وإن التقى ساكنا القافية فهي المترادف، كقول امرئ القيس السابق، وإن كان بينهما حركة فهي المتواتر كقول حطان:
أنزلني الدهر على حكمه
من شامخ عال إلى خفض
وإن كان بينهما حركتان فهي المتدارك، كقول المؤمل:
وكم من لئيم ود أني شتمته
وإن كان شتمي فيه صاب وعلقم
وللكف عن شتم اللئيم تكرما
أضر له من شتمه حين يشتم
وإن كان ثلاث حركات فالمتراكب، كقول طرفة:
ولا أغير على الأشعار أسرقها
عنها غنيت وشر الناس من سرقا
وإن أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أربع فالمتكاوس، كقول العجاج:
أو يبتغوا إلى السماء درجا
وقافيتا المترادف والمتكاوس نادرتان في الشعر.
الباب الخامس
في تاريخ النحو والصرف والاشتقاق
الفصل الأول
في تعريف النحو والصرف والاشتقاق
«النحو»: كان يطلق على ما يعم الصرف؛ فكان يبحث فيه عن أبنية الكلم وأحوالها مفردة ومركبة، وكتب السلف ناطقة بذلك. قال ابن جني في «الخصائص»: «هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذ بعضهم عنها رد إليها. وهو في الأصل مصدر شائع؛ أي نحوت نحوا، كقولك: قصدت قصدا. ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم.» ا.ه.
وقيل: النحو علم بأقيسة تغير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة العرب. ثم عني العلماء بالصرف وأفردوه بالتصنيف لتشعب مسائله، وخصصوه بعلم أبنية الكلم وأحوالها مفردة. فالأبنية: كبناء اسم الفاعل من الثلاثي على فاعل، واسم المفعول على مفعول، واسم التفضيل على أفعل، واسم المكان واسم الزمان على مفعل أو مفعل. والأحوال: كالإعلال والإدغام والحذف والإبدال . وفي «الارتشاف» لأبي حيان: «التصريف ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: جعل الكلمة على صيغ مختلفة لضروب من المعاني.
والآخر: تغيير الكلمة لغير معنى طارئ عليها، وينحصر في الزيادة والحذف والإبدال والقلب والنقل والإدغام.» ا.ه.
وكذا أفردوا النحو بالتأليف وأطلقوه على علم أحوال الكلم، وهي مركبة خاصة كرفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه وتقديم المبتدأ على الخبر في حال، وتأخيره في حال، وحذف أحدهما عند الاقتضاء.
والاشتقاق: أخذ كلمة من أخرى بشرط مناسبتهما معنى وتركيبا، ومغايرتهما في الصيغة، أو هو أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر، والأول باعتبار العمل والثاني باعتبار العلم. والاشتقاق يكون صغيرا إن كان بين اللفظين تناسب في الحروف الأصلية وترتيبها؛ نحو: جذب من الجذب، وكبيرا إن كان بينهما تناسب في الحروف دون الترتيب نحو جذب من الجبذ، وأكبر إن كان بينهما تناسب في نوع بعض الحروف وفي مخارج البعض الآخر كنعق من النهق، وثلب من الثلم، وإذا أطلق الاشتقاق انصرف للصغير.
وقال في «كشف الظنون»: الاشتقاق علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض بسبب مناسبة بين المخرج والخارج بالأصالة والفرعية باعتبار جوهرها، والقيد الأخير يخرج الصرف؛ إذ يبحث فيه أيضا عن الأصالة والفرعية بين الكلم، لكن لا بحسب الجوهرية، بل بحسب الهيئة، مثلا يبحث في الاشتقاق عن مناسبة نهق ونعق بحسب المادة، وفي الصرف عن مناسبته بحسب الهيئة، فامتاز أحدهما عن الآخر، واندفع توهم الاتحاد. وموضوعه: المفردات من الحيثية المذكورة. ومبادئه: كثيرة منها قواعد مخارج الحروف. ومسائله: القواعد التي يعرف منها أن الأصالة والفرعية بين المفردات بأي طريق يكون وبأي وجه يعلم. ودلائله: مستنبطة من قواعد علم المخارج، وتتبع مفردات ألفاظ العرب واستعمالاتها. والغرض منه: تحصيل ملكة يعرف بها الانتساب على وجه الصواب. وغايته: الاحتراز عن الخلل في الانتساب.
واعلم أن مدلول الجواهر بخصوصها يعرف من اللغة، وانتساب البعض إلى البعض على وجه كلي إن كان في الجوهر فالاشتقاق، وإن كان في الهيئة فالصرف، فظهر الفرق بين العلوم الثلاثة، وأن الاشتقاق واسطة بينهما، ولهذا استحسنوا تقديمه على الصرف وتأخيره عن اللغة في التعليم. ثم إنه كثيرا ما يذكر في كتب التصريف، وقلما يدون مفردا عنه إما لقلة قواعده، أو لاشتراكهما في المبادئ، حتى إن هذا من جملة البواعث على اتحادهما. والاتحاد في التدوين لا يستلزم الاتحاد في نفس الأمر، قال صاحب «الفوائد الخاقانية»: «اعلم أن الاشتقاق يؤخذ تارة باعتبار العلم، وتارة باعتبار العمل، وتحقيقه: أن الضارب مثلا يوافق الضرب في الحروف الأصول والمعنى بناء على أن الواضع عين بإزاء المعنى حروفا، وفرع منها ألفاظا كثيرة بإزاء المعاني المتفرعة على ما تقتضيه رعاية التناسب؛ فالاشتقاق هو هذا التفريع والأخذ، فتحديده بحسب العلم بهذا التفريع الصادر عن الوضع هو أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب، فتعرف رد أحدهما إلى الآخر وأخذه منه، وإن اعتبرناه من حيث احتياج أحد إلى عمله عرفناه باعتبار العمل، فنقول: هو أن تأخذ من أصل فرعا يوافقه في الحروف والأصول، وتجعله دالا على معنى يوافق معناه.» ا.ه. والحق أن اعتبار العمل زائد غير محتاج إليه، وإنما المطلوب العلم باشتقاق الموضوعات؛ إذ الوضع قد حصل وانقضى على أن المشتقات مرويات عن أهل اللسان، ولعل ذلك الاعتبار لتوجيه التعريف المنقول عن بعض المحققين، ثم إن المعتبر فيهما الموافقة في الحروف الأصلية ولو تقديرا، إذ الحروف الزائدة في الاستفعال والافتعال لا تمنع، وفي المعنى أيضا إما بزيادة أو نقصان، فلو اتحدا في الأصول وترتيبها كضرب من الضرب فالاشتقاق صغير، ولو توافقا في الحروف دون الترتيب كجبذ من الجذب فهو كبير، ولو توافقا في أكثر الحروف مع التناسب في الباقي كنعق من النهق فهو أكبر ا.ه.
وفي «الارتشاف»: «الاشتقاق أكبر وأصغر؛ فالأكبر: هو عقد تقاليب الكلمة كيفما قلبتها على معنى واحد نحو: القول والقلو والولق والوقل واللقو واللوق على معنى: الخفة والسرعة. والكلم والكمل واللكم واللمك والمكل والملك على معنى: الشدة والقوة. ولم يقل بهذا الاشتقاق إلا أبو الفتح.
والاشتقاق الأصغر: إنشاء مركب من مادة يدل عليها وعلى معناها، كأحمر: من الحمرة. وهذا الاشتقاق أثبته الجمهور في أن بعض الكلم قد يشتق من بعض، ولا بد من اتحاد في الحروف الأصلية على ترتيب واحد وفي المعنى، ويدل على أن اللفظ فرع دلالته على معنى زائد على ما اشتق منه نحو: ضارب وضرب، والأصل في الاشتقاق أن يكون من المصادر، وأصدق ما يكون في الأفعال المزيدة والصفات منها وأسماء المصادر والزمان والمكان، ويغلب في العلم، ويقل في أسماء الأجناس، كغراب يمكن أن يشتق من الاغتراب، وجرادة من الجرد.» ا.ه. وكان للاشتقاق بأقسامه الثلاثة أهمية كبرى في قياس اللغة واستنباطها، وعلى ذلك كان مدار السلف في تدوينها. قال ابن فارس في «فقه اللغة»: «أجمع أهل اللغة إلا من شذ منهم أن للغة العرب قياسا، وأن العرب تشتق بعض الكلم من بعض، وأن اسم الجن مشتق من الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبدا على الستر، تقول العرب للدرع: جنة. وأجنه الليل، وهذا جنين؛ أي هو في بطن أمه، وأن الإنس من الظهور، يقولون: آنست الشيء؛ أبصرته. وعلى هذا سائر كلام العرب.» ا.ه.
وسأل عمرو ابن العلاء أعرابيا عن اشتقاق الخيل، فقال الأعرابي: استفاد الاسم من فعل السير، يريد أن في مشيها خيلاء، فأخذ اسمها من ذلك. وكان الزجاج يقول: الرحل مشتق من الرحيل، والثور إنما سمي ثورا؛ لأنه يثير الأرض. والثوب إنما سمي ثوبا؛ لأنه ثاب لباسا بعد أن كان غزلا.
الفصل الثاني
في تاريخ النحو بالمعنى العام
كان العرب يتكلمون كلاما معربا بالسليقة والطبع، قال أعرابي:
ولست بنحوي يلوك لسانه
ولكن سليقي أقول فأعرب
فلما جاء الإسلام وقضى باختلاطهم مع الأعاجم تولد في لسانهم اللحن، وأول ما ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فخوفا من فساد اللغة وضع الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين أصولا لذلك أعطاها لأبي الأسود الدؤلي، وأمره بأن ينحو منحاها، فصار يتبع ما رسمه له الإمام، ويزيد في هذه الأصول، ويعرض عليه كل ما عن له في هذا الشأن، فكان ذلك مبدأ علم النحو، وصار الإمام يرغب في تعلم هذا العلم، فمما يروى عنه أنه قال:
النحو يصلح من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا أردت من العلوم أجلها
فأجلها عندي مقيم الألسن
لحن الشريف يحطه عن قدره
فتراه يسقط من لحاظ الأعين
ما ورث الآباء فيما ورثوا
أبناءهم مثل العلوم فأتقن
وعلى ما تقدم يظهر أن ذوي العرفان من العرب قبل وضع النحو كانوا يعرفون علم لسانهم بالتلقي والوراثة عن أسلافهم بدون تدوين في كتاب ولا معرفة للألفاظ الاصطلاحية الحديثة، يرشد إلى ذلك حكاية الخنساء وحسان في سوق عكاظ وقد مرت في الشعر، وحكاية النابغة وقينة المدينة السالفة عند الكلام على القافية، وما روي عن عمر ثاني الخلفاء أنه قال: تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل والمروءة. ويقال إن السبب في وضع باب التعجب والاستفهام أن أبا الأسود كان مع ابن ته على سطح بيته، فرأت السماء ونجومها الزواهر وحسن نظامها البديع، فقالت: يا أبت، ما أحسن السماء - بضم النون - فقال: نجومها؛ ظنا أنها تسأله عن أي شيء أحسن مما نظرته فيها. فقالت: يا أبت، أردت التعجب والاستفهام من حسنها وبهجتها! فقال: إذن قولي: ما أحسن السماء! وافتحي فاك. وقيل: إنه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له: يا أبت، ما أشد الحر. متعجبة، ورفعت أشد، فظنها مستفهمة، فقال: شهر ناجر. فقالت: إنما أخبرتك ولم أسألك. وإن السبب في وضع باب العطف والنعت أنه سمع رجلا يقرأ: «أن الله بريء من المشركين ورسوله» بالجر. وتقدم في الكلام على الخط أن هذا أيضا كان سببا في وضع علامات الإعراب. ولما وضع باب «إن» وأخواتها وعرضه على الإمام، أمره بزيادة «لكن»، وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود إلى زياد وهو أمير البصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل. قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنونا. فدعا زياد أبا الأسود وأمره أن يضع ما كان نهاه عنه. ا.ه. وكان أبو الأسود يجلس لتعليم النحو والناس يختلفون إليه للأخذ منه، وكان يزيد فيما وضعه، وكان أعلم الناس بكلام العرب.
يحكى أن غلاما كان يتعلم منه النحو، فقال له يوما: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته حمى فضخته فضخا، وطبخته طبخا، وفتخته فتخا، فتركته فرخا. قال: فما فعلت امرأة أبيك التي كانت تشاره وتجاره وتضاره وتزاره وتهاره وتماره؟ قال: طلقها وتزوج غيرها، فحظيت عنده، ورضيت وبظيت. قال: وما بظيت يا ابن أخي؟ قال: حرف من العربية لم يبلغك. قال: لا خير لك فيما لم يبلغني منها. ومات أبو الأسود في خلافة عبد الله بن الزبير سنة 67. وكان أخذ عنه النحو أناس نقلوه إلى آخرين، وهؤلاء إلى غيرهم، وزادوا في الأصول وفرعوا وخالطوا عرب البوادي واستنبطوا علوم لغتهم من كلامهم، فإن لغات الحضر كان عرض لها الاختلال، وانقسم القوم في بعض المسائل إلى بصريين وهم أهل البصرة، وكوفيين وهم سكان الكوفة - مدينتان مشهورتان بالعراق العربي تسميان: المصرين - فاتسع الأدب في هاتين المدينتين اتساعا عظيما، وتدونت فيه كتب كثيرة، وعنهما انتشر بين أهل العراق والأندلس والمغرب ومصر وغيرهم. (1) نحاة البصرة
فمن نحاة البصرة عنبسة بن معدان: ويقال له: عنبسة الفيل، روى الشعر وتعلم النحو من أبي الأسود، وكان أبرع أصحابه.
ومنهم ميمون الأقرن: أخذ عن أبي الأسود وعن عنبسة فرأس الناس وزاد في الشرح.
ومنهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي: أخذ عن ميمون، وكان أعلم أهل البصرة، وهو أول من علل النحو وقاسه، وكان يرد كثيرا على الفرزدق، ويكلمه في شعره، فقال فيه الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له ابن أبي إسحاق: ولقد لحنت أيضا في قولك: مولى مواليا، وكان ينبغي أن تقول: مولى موال! وتوفي بالبصرة سنة 117 في خلافة هشام بن عبد الملك.
ومنهم أبو عمرو بن العلاء المازني: كان في عصر ابن أبي إسحاق، وكان أعلم الناس بالعربية والشعر ومذاهب العرب، روي أنه سئل عن قوله تعالى :
فعززنا بثالث ، فقال: المعنى شددنا، وأنشد:
أجد إذا ضمرت تعزز لحمها
وإذا يشد بنسعها لا تنبس
1
ويروى عنه قال: كنت هاربا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه علي لفظ «فرجة» هل هو بالفتح أو بالضم، فسمعت قائلا يقول:
ربما تجزع النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال
بفتح الفاء من فرجة، ثم قال: ألا إنه قد مات الحجاج. قال أبو عمرو: فما أدري بأيهما كنت أشد فرحا بقوله: «فرجة» أو بقوله: «مات الحجاج». وتوفي أبو عمرو سنة 154 في خلافة المنصور.
ومنهم عيسى بن عمر الثقفي: أخذ عن أبي عمرو، وكان عالما متفيهقا يتقعر في الكلام ويستعمل غريب الألفاظ، ألف كتابين في النحو أحدهما مبسوط سماه «الجامع»، والآخر مختصر سماه «المكمل»، وفيهما يقول الخليل:
بطل النحو الذي ألفتمو
غير ما ألف عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
فهما للناس شمس وقمر
وتوفي سنة 149 في خلافة المنصور.
ومنهم يونس بن حبيب الضبي: أخذ عن أبي عمرو وسمع من العرب، وكان من أكابر النحويين، له مذاهب وأقيسة تفرد بها، وكان يقصد حلقاته بالبصرة طلبة العربية وفصحاء الأعراب والبادية، وتوفي سنة 183 في خلافة الرشيد.
ومنهم أبو خطاب الأخفش: أخذ عن أبي عمرو أيضا، وهو أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها.
ومنهم الإمام الخليل بن أحمد: أخذ عن أبي عمرو، وعيسى بن عمر، ولم يكن قبله ولا بعده مثله، وكان أعلم الناس وأذكاهم وأفضلهم، قالوا: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل، ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
قال أبو عمرو التوجي: اجتمعنا بمكة أدباء كل أفق، فتذاكرنا أمر العلماء حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبق أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم. وأبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها؛ كتأليفه اللغة في كتاب «العين»، واختراعه للعروض. توفي سنة 160.
ومنهم ثلاثة كانوا في عصر واحد، وكانوا أئمة الناس في النحو واللغة والشعر، منهم أخذ جل ما في أيدي الناس من هذا العلم، وهم: «أبو زيد، وأبو عبيدة، والأصمعي» وكلهم أخذوا عن: أبي عمرو، وعيسى بن عمر، وأبي الخطاب الأخفش، ويونس بن حبيب، وعن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم، مثل: أبي مالك عمرو بن كركرة صاحب النوادر من بني نمير.
وأبو زيد الأنصاري: كان أعلم الثلاثة بالنحو، أخذ عنه أكابر الناس، منهم سيبويه، قال: كان يأتي مجلسي سيبويه وله ذؤابتان، فإذا قال: «وحدثني من أثق بعربيته» فإنما يريدني. ويروى أن أعرابيا وقف على حلقة أبي زيد فظن أبو زيد أنه قد جاء يسأل عن مسألة في النحو، فقال له: سل يا أعرابي! فقال له على البديهة:
لست للنحو جئتكم
لا ولا فيه أرغب
أنا ما لي ولامرئ
أبد الدهر يضرب
خل زيدا لشأنه
أينما شاء يذهب
واستمع قول عاشق
قد شجاه التطرب
همه الدهر طفلة
فهو فيها يشبب
وكبر سن أبي زيد حتى قارب المائة، ومات سنة 214 في خلافة المأمون، ومن مصنفاته كتاب «النوادر» في اللغة، وقد طبع في عصرنا سنة 1314.
وأبو عبيدة كان أعلمهم بأيام العرب وأخبارهم وأنسابهم، وهو أول من ألف غريب الحديث. وأقدمه من البصرة إلى بغداد الوزير الفضل بن الربيع، فلما حضر أنشده فطرب منه ثم دخل إبراهيم بن إسماعيل من كتاب الوزير وجلسائه فأجلسه بجانبه وسأله: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: أبو عبيدة علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه. فبعد أن حياه استأذنه في مسألة، فقال: هات! قال: قال الله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين ، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. فأجابه بأن الله إنما كلم العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. فاستحسن ذلك الفضل وإبراهيم، وكان هذا سببا في أن يضع أبو عبيدة كتابا في مجاز القرآن ، وتوفي سنة 207.
والأصمعي: كان أتقن القوم باللغة وأعلمهم بالشعر وأحضرهم حفظا، وكان الرشيد يسميه: شيطان الشعر. قال الأخفش: ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف. قيل له: أيهما أعلم؟ قال: الأصمعي؛ لأنه كان نحويا. وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: إن الأصمعي ثقة في السنة. وقال الشافعي: ما رأيت بذلك المعسكر أصدق من الأصمعي. توفي سنة 213 في خلافة المأمون، ورثاه أبو العتاهية بقوله:
أسفت لفقد الأصمعي لقد مضى
حميدا له في كل صالحة سهم
تقضت بشاشات المجالس بعده
وودعنا إذ ودع الأنس والعلم
وقد كان نجم العلم فينا حياته
فلما انقضت أيامه أفل النجم
ومنهم: حماد بن سلمة، وأبو بشر عمرو المعروف بسيبويه، والنضر بن شميل المازني، وأبو محمد اليزيدي، وكلهم أخذوا عن الخليل وغيره.
وكان سيبويه أعلم الجميع بالنحو، يروى أن سبب قراءته النحو أنه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه، ليس أبا الدرداء»؛ يعني: لعتبت عليه إلا أبا الدرداء. فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء. فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه، إنما هذا استثناء! فقال: والله لأطلبن علما لا يلحنني معه أحد. ثم مضى وأخذ النحو عن الخليل وغيره حتى برع فيه وفاق، وألف كتابه المشهور وكان يطلق عليه بالبصرة اسم «الكتاب» فقط لشهرته ومكانته، وقد اطلعت على نسخة منه بالمكتبة الخديوية مطبوعة بمدينة باريس سنة 1881 بعد الميلاد
2
فرأيته 571 بابا منها في المبدأ: (1) هذا باب علم ما الكلم من العربية. (2) هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية. (3) هذا باب المسند والمسند إليه. (4) هذا باب اللفظ والمعاني. (5) هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض. ومنها في الآخر: (567) هذا باب الإدغام في الحروف المتقاربة. (568) هذا باب الإدغام في حروف طرف اللسان والثنايا. (569) هذا باب الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه والحرف الذي لا يضارع به ذلك الحرف وليس من موضعه. (570) هذا باب ما تقلب فيه السين صادا في بعض اللغات. (571) هذا باب ما كان شاذا مما خففوا على ألسنتهم وليس ذلك بمطرد .
وليتعرف المطلع لسان المتقدمين في تآليفهم وسيرهم فيها، ذكرت هنا بعض تراجم هذه الأبواب، وأذكر نص باب من أصاغرها وهو: «هذا باب اللفظ للمعاني»: «اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، وسنرى ذلك إن شاء الله تعالى. فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف نحو: وجدت عليه: من الموجدة، ووجدت: إذا أردت وجدان الضالة. وأشباه هذا كثير.» وتوفي سنة 180.
ويحكى أن النضر بن شميل كان بمجلس المأمون، فسأله عن الفرق بين السداد بالفتح والسداد بالكسر، فقال: السداد بالفتح: القصد في الدين والسبيل. والسداد بالكسر: البلغة وكل ما سددت به شيئا. قال له: أوتعرف العرب ذلك؟ فأجاب: نعم، وأنشد قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
ويحكى أن النضر لما مرض عاده رجل يكنى أبا صالح، فقال له: مسح الله ما بك! فقال: لا تقل «مسح» بل قل: «مصح»؛ أي أذهبه الله وفرقه، أما سمعت قول الشاعر:
وإذا الخمرة فيها أزبدت
أفل الإزباد فيها ومصح
فقال أبو صالح: إن السين تبدل من الصاد كما يقال: الصراط والسراط، وصقر وسقر. فقال له: أنت إذن أبو سالح، وتوفي النضر سنة 203.
وكان أبو محمد اليزيدي يصحب يزيد بن منصور خال المهدي يؤدب ولده، فنسب إليه، ثم اتصل بالرشيد فجعله مؤدب المأمون. ويروى أن المأمون سأله يوما عن شيء، فقال: لا، وجعلني الله فداءك. فاستحسن منه زيادة الواو في هذا الموضع ووصله بعطية سنية. وألف اليزيدي كتاب «النوادر» في اللغة، وكتاب «المقصور والممدود»، ومختصرا في النحو، وكتاب «النقط والشكل». وتوفي سنة 202.
ومنهم قطرب ومحمد بن سلام: والأول أخذ عن يونس بن حبيب، وفي الطبقات أنه أخذ النحو عن سيبويه، وهو الذي سماه قطربا؛ لأنه كان يراه بالأسحار على بابه، فيقول له: إنما أنت قطرب ليل. والقطرب: دويبة تدب ولا تفتر. واسمه محمد بن المستنير، وله من التصانيف كتاب «معاني القرآن»، وكتاب «غريب الحديث»، وكتاب «الصفات»، وكتاب «الأصوات»، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «النوادر»، وكتاب «الأضداد»، وكتاب «خلق الإنسان»، وكتاب «فعل وأفعل»، وكتاب «القوافي»، وكتاب «الأزمنة»، وكتاب «المثلث»، وكتاب «العلل في النحو». وتوفي سنة 206 في خلافة المأمون.
وأما محمد بن سلام فأخذ عن يونس وغيره، وفي «الطبقات» أنه أخذ عن حماد بن سلمة، وأنه ألف كتابا في طبقات الشعراء، وروى عنه: الإمام أحمد بن حنبل، وأبو العباس ثعلب، وتوفي سنة 232.
ومنهم أبو الحسن سعيد الأخفش: وكان أعلم من أخذ عن سيبويه، وكان أكبر منه، وهو الذي زاد في العروض بحر «الخبب» كما سبق.
وفي «الطبقات» أن مروان بن سعيد المهلبي سأل الأخفش عن قوله تعالى:
فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان : ما الفائدة من هذا الخبر؟ فقال: أفاد العدد المجرد من الصفة. وأراد مروان بسؤاله أن الألف في كانتا تفيد التثنية فلم فسر ضمير المثنى بالاثنتين مع أنه لا يجوز أن يقال: فإن كانتا ثلاثا أو خمسا. وأراد الأخفش أنه كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا، وإن كانتا كبيرتين فلهما كذا ونحو ذلك، فلما قال:
فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان
أفاد الخبر أن فرض الثلثين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط، فقد حصل من الخبر فائدة لم يحصل من ضمير المثنى. ا.ه.
وله كتاب «الأوسط»، وكتاب «المقاييس» في النحو، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «العروض»، وكتاب «القوافي»، وكتاب «معاني الشعر»، وكتاب «الملوك»، وكتاب «الأصوات» وغير ذلك. وتوفي سنة 215، وقيل سنة 221.
ومنهم أبو عمرو صالح الجرمي: كان فقيها عالما بالنحو واللغة، وأخذ النحو عن الأخفش وغيره، واللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي. قدم من البصرة إلى بغداد وناظر الفراء.
قال المبرد: كان الجرمي أثبت القوم في «كتاب سيبويه» وعليه قرأت الجماعة، وله كتاب في السير عجيب، وكتاب «الأبنية»، وكتاب «العروض»، ومختصر في النحو، وكتاب «غريب سيبويه»، توفي سنة 225.
ومنهم أبو عثمان بكر المازني: كان إمام عصره في النحو والأدب، أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد، وأخذ عنه أبو العباس المبرد. وروى عنه المبرد أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه «كتاب سيبويه»، وبذل له مائة دينار فامتنع. قال: قلت له: جعلت فداك أترد هذه المنفعة مع فاقتك؟ فقال له: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا آية من كتاب الله، ولست أرى أن أمكن منها ذميا. قال: فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلا
أهدى السلام تحية ظلم
فاختلف من كان بالحضرة في إعراب «رجلا»، فمنهم من نصبه وجعله اسم إن، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه، فلما حضر مجلسه سأله عن ذلك، فقال: إنه منصوب على أنه مفعول لمصابكم، فإنه مصدر بمعنى أصابتكم. فعارضه اليزيدي فقال له: إنه بمنزلة: إن ضربك زيدا ظلم، والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول: «ظلم» فيتم. فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار. قال: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟ رددنا لله مائة فعوضنا ألفا. وتوفي المازني سنة 246 بالبصرة.
ومنهم أبو عثمان عمرو الجاحظ: كان عالما أديبا متفننا، لكنه كان مشوه الصورة، ومن أخباره أنه قال: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض أولاده، فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.»
وروي أنه كان يأكل مع ابن الزيات فجاءوا بفالوذجة، فأسرع الجاحظ في الأكل حتى خلا ما بين يديه، فقال له ابن الزيات: تقشعت سماؤك قبل سماء الناس! فقال الجاحظ: لأن غيمها كان رقيقا. ومن أحسن تصانيفه كتاب «الحيوان»، و«البيان والتبيين»، وقد طبع هذا سنة 1313 في مصر.
قال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ ابن العميد الوزير، فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت: سكت أيها الوزير عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله. فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنسانا يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولا، والأدب ثانيا، ولم أستصلحه لذلك. وكان الجاحظ من أئمة المعتزلة، وكان ابن أبي داود يقول: أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه.
وروى المبرد قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه وهو عليل، فقلت له: كيف أنت؟
فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج ولو نشر بالمناشير لما أحس به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه وقد جزت التسعين، وأنشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخ
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
خليق كالجديد من الثياب
وتوفي سنة 255 بالبصرة.
ومنهم أبو العباس المبرد: نزيل بغداد، كان إماما في النحو واللغة، أخذ عن المازني وغيره، وأخذ عنه نفطويه وغيره، وكان حسن المحاضرة مليح الأخبار كثير النوادر، وكان هو وأبو العباس ثعلب الكوفي عالمين متناظرين قد ختم بهما تاريخ الأدباء. ويروى أن المبرد قال حين بلغه أن ثعلبا تكلم فيه بما لا ينبغي:
رب من يعنيه حالي
وهو لا يجري ببالي
قلبه ملآن مني
وفؤادي منه خالي
فلما بلغ ثعلبا ذلك انتهى عن الكلام في المبرد.
وللمبرد تآليف في الأدب منها كتاب «الكامل»، وقد طبع طبعا حسنا في مصر بالمطبعة الخيرية سنة 1308 بعد الهجرة، ولما توفي سنة 285 في خلافة المعتضد نظم فيه وفي ثعلب ابن العلاف:
ذهب المبرد وانقضت أيامه
وليذهبن أثر المبرد ثعلب
بيت من الآداب أضحى نصفه
خربا وباقي النصف منه سيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا
للدهر أنفسكم على ما يسلب
وتزودوا من ثعلب فبكأس ما
شرب المبرد عن قريب يشرب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه
إن كانت الأنفاس مما يكتب
ومنهم أبو بكر محمد المعروف بابن دريد: ولد بالبصرة سنة 223 ونشأ بها، وأخذ عن علمائها، ثم انتقل إلى عمان وسكن بها، ثم عاد إلى البصرة ثم خرج إلى فارس وانتقل إلى بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته سنة 321، فعمره يقرب من المائة، وكان إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، قال المسعودي في «مروج الذهب»: وكان ابن دريد في بغداد ممن برع في زماننا في الشعر واللغة، وقام مقام الخليل، وأورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فمن جيد شعره قصيدته المشهورة بالمقصورة التي مدح بها الشاه ابن ميكال وولديه، وأولها:
أما ترى رأسي حاكى لونه
طرة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جمر الغضا
وله من المؤلفات المشهورة كتاب «الجمهرة» في اللغة وقد تقدم الكلام عليه، وله كتاب «الاشتقاق»، وكتاب «السرج واللجام»، وكتاب «زوار العرب»، وكتاب «اللغات»، وكتاب «السلاح» وغير ذلك.
نحاة الكوفة وأدباؤها
من نحاة الكوفة وأدبائها معاذ بن مسلم الهراء: أستاذ الكسائي وهو أول من وضع التصريف، ولكن لم يظهر له مصنف، وكان صديق الكميت الشاعر، وقد عاش زمنا طويلا يتجاوز المائة، فإنه على الصحيح ولد في أيام عبد الملك المتوفى سنة 86، وتوفي سنة نكبة البرامكة أي سنة 187، وفي هذا قال سهل الشاعر قصيدة منها:
إن معاذ بن مسلم رجل
ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل الده
ر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به:
قد ضج من طول عمرك الأمد
ومنهم أبو جعفر محمد الرؤاسي: وهو ابن أخي معاذ الهراء، وهو أول من وضع من الكوفيين كتابا في النحو سماه «الفيصل»، وأخذ عنه الكسائي أيضا.
ومنهم أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: وهو عالم أهل الكوفة، كان إماما في النحو واللغة والقراءات. والسبب في تعلمه النحو أنه قال مرة: «عييت» بعد أن مشى طويلا، فرد عليه بأن الصواب أن تقول: «أعييت» من التعب، و«عييت» من الحيرة في الأمر، فأنف من ذلك وأخذ يتعلم على معاذ بن مسلم الهراء، ثم ذهب إلى البصرة وأخذ عن الخليل، ثم ذهب إلى البوادي وسمع من العرب، ثم عاد إلى بغداد. وجاء سيبويه من البصرة إلى بغداد، وكان الكسائي يعلم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا، وزعم الكسائي أن العرب تقول: كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة، فإذا هو إياها. فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل: فإذا هو هي. وتجادلا طويلا واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر، فأحضروا عربيا، فوافق الكسائي بإيعاز من الأمين مع أن الحق مع سيبويه. وتوفي الكسائي سنة 189.
ومنهم أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء: كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، أخذ عن الكسائي، وورد بغداد في خلافة المأمون وعلم ولديه، وأمره أن يؤلف كتابا يجمع فيه أصول النحو وما سمع من العربية، فصنف كتاب «الحدود» في سنتين. قال ابن الأنباري: لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان لهم الافتخار؛ إذ انتهت العلوم إليهما. وتوفي الفراء سنة 207 في خلافة المأمون.
ومنهم أبو عبد الله محمد المعروف بابن الأعرابي: كان صاحب لغة، أخذ الأدب عن الكسائي وغيره، وأخذ عنه أبو العباس ثعلب وابن السكيت، وكان يناقش العلماء ويستدرك عليهم، ويخطئ كثيرا من نقلة اللغة، وكان يزعم أن أبا عبيدة والأصمعي لا يحسنان شيئا. وكان يقول: جائز في كلام العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع تلك وينشد:
إلى الله أشكو من خليل أوده
ثلاث خلال كلها لي غائض
بالضاد، ويقول: هكذا سمعته من فصحاء العرب. وكان يحضر مجلسه كثير من المستفيدين، وله مصنفات كثيرة، منها: كتاب «النوادر»، وكتاب «الأنواء»، وكتاب «تاريخ القبائل»، وكتاب «معاني الشعر»، وكتاب «تفسير الأمثال»، وكتاب «الألفاظ»، ولد في السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة؛ أي سنة 150 وتوفي سنة 231.
ومنهم أبو طالب المفضل بن سلمة الضبي: كان فاضلا في الأدب، أخذ عن ابن الأعرابي وغيره، واستدرك على الخليل في كتاب «العين» وصنف في ذلك كتابا، ومن تصانيفه: كتاب «التاريخ في علم اللغة»، وكتاب «المفاخر»، وكتاب «العود والملاهي»، وكتاب «جلاء الشبه»، وكتاب «الطيف»، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «المقصور والممدود»، وكتاب «المدخل في علم النحو». وروى عنه أبو بكر الصولي، وزعم أنه سمع منه سنة 290 (انتهى من ابن خلكان في ترجمة أبي الطيب محمد بن المفضل). والمفضل الضبي هذا غير «أبي عبد الرحمن المفضل بن محمد الضبي» الذي جمع للمهدي أشعارا اختارها سماها ب «المفضليات» وتزيد وتنقص، وأصحها التي رواها عنه ابن الأعرابي؛ فابن الأعرابي متوسط بين المفضلين، ناقل الأدب من هذا إلى ذاك.
ومنهم أبو العباس ثعلب: كان إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه، أخذ عن ابن الأعرابي وغيره، وأخذ عنه: أبو الحسن علي الأخفش، وابن عرفة، وابن الأنباري، وغيرهم. وكان المبرد يقول: أعلم الكوفيين ثعلب.
حكى ثعلب عن العرب: راكب الناقة طليحان؛ أي: راكب الناقة والناقة طليحان، إلا أنه حذف المعطوف لتقدم ذكر الناقة. ومن تصانيفه كتاب «الفصيح»، وهو صغير الحجم كثير الفائدة، وقد طبع في مطبعة وادي النيل بالقاهرة سنة 1285. وتوفي ثعلب ببغداد سنة 291. (2) من اشتهر بالأدب في بغداد
وكان كثير من علماء المصرين ينتقلون إلى بغداد ويسكنونها كما علمت، وممن اشتهر بالأدب في بغداد غير من سلفوا:
يعقوب بن السكيت: كان يؤدب أولاد الخليفة المتوكل، وكتبه جيدة صحيحة منها: «إصلاح المنطق»، ويوجد بالمكتبة الخديوية، وكتاب «الألفاظ»، وقد طبع في سنة 1314، وكتاب في معاني الشعر، وكتاب «القلب والإبدال».
قال أبو الحسن الطوسي: كنا في مجلس أبي الحسن علي اللحياني، وكان عازما على أن يملي نوادره، فقال: تقول العرب مثقل استعان بذقنه. فقال له ابن السكيت وهو حدث: إنما هو مثقل استعان بدفيه؛ يريدون الجمل إذا نهض استعان بجنبيه، فقطع الإملاء. فلما كان المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب: هو جاري مكاشري. فقال له ابن السكيت: وما معنى مكاشري؟ إنما هو مكاسري كسر بيتي إلى كسر بيته، فما أملى اللحياني بعد ذلك. ومات ابن السكيت ببغداد سنة 244.
وأبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري المعروف بابن قتيبة: ولد سنة 213 ببغداد، وقيل بالكوفة، وأقام بالدينور مدة قاضيا فنسب إليها، ثم سكن بغداد، وكان فاضلا ثقة في النحو واللغة والشعر، متفننا في العلوم. وله من التصانيف: كتاب «أدب الكاتب»، وكتاب «المعارف»، وكتاب «طبقات الشعراء»، وكتاب «الميسر والقداح » وغير ذلك، وأقرأ كتبه ببغداد. ويقال إنه ألف كتاب «أدب الكاتب» لأبي الحسن وزير المعتمد، وقد طبع في مصر سنة 1300 بمطبعة الوطن، وقد شرحه البطليوسي. وتوفي ابن قتيبة سنة 276.
وأبو إسحاق الزجاج: كان عالما ماهرا في الأدب، أخذ عن المبرد وثعلب، وأخذ عنه أبو علي الفارسي. ومن مصنفاته: كتاب «الأمالي»، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «العروض»، وكتاب «القوافي»، وكتاب مختصر في النحو، وكتاب «فعلت وأفعلت»، وكتاب «ما ينصرف وما لا ينصرف»، وكتاب «شرح أبيات سيبويه»، وكتاب «النوادر»، وتوفي سنة 316 ببغداد.
وأبو بكر محمد بن السراج: كان إماما جليلا في النحو والأدب، أخذ عن المبرد وغيره، وأخذ عنه أبو سعيد السيرافي، ونقل عنه الجوهري في «صحاحه». ومن مصنفاته المشهورة: كتاب «الأصول في علم العربية»، وكتاب «جمل الأصول»، وكتاب «الاشتقاق»، و«شرح كتاب سيبويه»، وكتاب «الشعر والشعراء»، وتوفي سنة 316.
وأبو عبد الله إبراهيم نفطويه النحوي: ولد بواسط وسكن بغداد وتوفي بها سنة 323، وكان يتبع طريقة سيبويه ويدرس كتابه.
وأبو بكر محمد بن الأنباري: أخذ عن ثعلب، وكان علامة وقته في الأدب، وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «الكافي» في النحو، وكتاب «الأضداد»، وكتاب «الجاهليات»، وكتاب «المذكر والمؤنث»، و«شرح المفضليات» و«السبع الطوال». وتوفي سنة 327.
وأبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي: نشأ ببغداد وأخذ النحو عن أبي بكر بن الأنباري وغيره، وصحب أبا إسحاق الزجاج فنسب إليه، وصنف كتابه المشهور ب «الجمل»، وانتفع به ناس كثيرون، وانتقل إلى دمشق وسكنها وتوفي بها سنة 337.
وأبو محمد عبد الله بن درستويه: أخذ الأدب عن المبرد وابن قتيبة وغيرهما ببغداد، وأخذ عنه جماعة من الأفاضل كالدارقطني. وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «المقصور والممدود»، وكتاب «معاني الشعر»، وكتاب «الإرشاد في النحو»، وكتاب «الهجاء»، وكتاب «أخبار النحويين». وتوفي ببغداد سنة 347 في خلافة المطيع.
وأبو الحسن الفارسي: ولد بمدينة فسا، ثم انتقل إلى بغداد سنة 307. وأخذ عن الزجاج وغيره حتى برع في النحو، ثم أقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان، وكان بينه وبين المتنبي مجالس. ثم انتقل إلى فارس وصحب عضد الدولة بن بويه، وقد علت منزلته عنده حتى قال: أنا غلام أبي علي الفسوي في النحو، وصنف له كتاب «الإيضاح»، و«التكملة» في النحو، وله تصانيف كثيرة غير ذلك، وتوفي سنة 377 ببغداد.
وأبو سعيد الحسن السيرافي: تولى قضاء بغداد وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، شرح كتاب سيبويه، وله كتاب «ألفات الوصل والقطع»، وكتاب «أخبار النحويين»، وكتاب «صنعة الشعر والبلاغة»، وشرح مقصورة ابن دريد، وأخذ اللغة عنه، والنحو عن أبي بكر بن السراج، وكان بينه وبين أبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب «الأغاني» تنافس، فقال فيه هذا:
لست صدرا ولا قرأت على صد
ر ولا علمك البكي بشاف
لعن الله كل نحو وشعر
وعروض يجيء من سيراف
وتوفي السيرافي سنة 360 ببغداد.
واشتهر من الموصل أبو الفتح عثمان بن جني: أخذ الأدب عن أبي علي الفارسي، وكان إماما في العربية، وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «الخصائص»، و«سر الصناعة»، و«التلقين» في النحو، و«شرح ديوان المتنبي» وكان قد قرأه على صاحبه. قال ابن خلكان: ورأيت في شرحه قال: سأل شخص أبا الطيب المتنبي عن قوله:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا
فقال: كيف أثبت الألف في تصبرا مع وجود لم الجازمة؟ وكان الواجب أن تقول: لم تصبر، فقال المتنبي: لو كان أبو الفتح هنا لأجابك! يعنيني. وهذه الألف هي بدل من نون التوكيد الخفيفة؛ كان في الأصل: لم تصبرن، ونون التوكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفا، قال الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
وكان الأصل «فاعبدن»؛ فلما وقف أتى بالألف بدلا من النون. وتوفي ابن جني ببغداد سنة 392.
وكان في عصر ابن جني «علي بن عيسى الربعي»: أخذ في بغداد عن أبي سعيد السيرافي، ثم خرج إلى شيراز وأخذ عن أبي علي الفارسي، ثم عاد إلى بغداد وشرح كتاب «الإيضاح» لأبي علي، وكتاب الجرمي، وصنف كتاب «البديع» في النحو، وتوفي سنة 420 في بغداد.
واشتهر في هذا العصر بالأندلس أبو الحجاج يوسف المعروف بالأعلم: من أهل شنتمرية الغرب، رحل إلى قرطبة سنة 433 وأقام بها مدة، وأخذ عن علمائها، وشرح «الجمل في النحو» لأبي القاسم الزجاجي، وشرح كتاب «أبيات الجمل» في كتاب مفرد، وتوفي سنة 476 بمدينة إشبيلية من جزيرة الأندلس.
واشتهر من المعرة أبو العلاء أحمد المعري: كان إماما واسع الأدب متفننا، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة، ثم على محمد بن عبد الله النحوي بحلب، وقرأ عليه أبو القاسم علي التنوخي، والخطيب التبريزي، وتصانيفه مشهورة منها: ديوان «سقط الزند»، وشرحه «ضوء السقط»، وكتاب «اللامع» في شرح شعر المتنبي؛ ولهذا كان يقول وهو أعمى: كأن المتنبي ينظر إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وديوان «لزوم ما لا يلزم»، ومنه:
لا تطلبن بآلة لك رتبة
قلم البليغ بغير حد مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل
واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه «ذكرى حبيب»، وديوان البحتري وسماه «عبث الوليد»، وديوان المتنبي وسماه «معجز أحمد». ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم كي لا يذبح الحيوان فيؤلمه، والآن يوجد طائفة بأوروبا ترى رأي أبي العلاء المعري، وتقتصر على أكل النبات. ودخل بغداد سنة 398، ثم عاد إلى المعرة وتوفي بها سنة 449، وأوصى بأن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
واشتهر من تبريز يحيى الخطيب التبريزي: وأخذ عن أبي العلاء وأبي محمد الدهان، ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد وله شعر حسن. ومن تصانيفه كتاب: «إعراب القرآن»، وكتاب «الكافي» في علمي العروض والقوافي، و«شرح اللمع لابن جني». وشرح «الحماسة» و«ديوان المتنبي» و«المعلقات» و«المفضليات» و«المقصورة» لابن دريد و«سقط الزند»، وأخذ عنه أبو منصور موهوب الجواليقي، وتوفي سنة 502 ببغداد.
وكان في هذا العصر أبو محمد القاسم الحريري البصري: وكان أديبا فاضلا نحويا منشئا، ومن مصنفاته: «درة الغواص في أوهام الخواص»، و«ملحة الإعراب» وشرحها، و«المقامات المشهورة»، وجاء بها إلى بغداد وادعاها فلم يصدقه أدباؤها، وهذه المصنفات مطبوعة ومشهورة. وكان يقول نقلا عن شيخه: إذا قلت ما أسود زيدا، وما أسمر عمرا ، وما أصفر هذا الطائر، وما أبيض هذه الحمامة، وما أحمر هذا الفرس؛ فسدت كل مسألة منها من وجه وصحت من وجه، فيفسد جميعها إذا أردت التعجب من الألوان، وتصح جميعها إذا أردت التعجب من سؤدد زيد، وسمر عمرو، وهو الحديث بالليل خاصة، ومن صفير الطائر وكثرة بيض الحمامة، ومن حمر الفرس؛ وهو أن ينتن فوها. ومن شعره:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى
عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو العمى
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
وتوفي سنة 516 ببني حرام من البصرة.
واشتهر من نيسابور أبو الفضل أحمد الميداني: صاحب كتاب «الأمثال» المشهورة، وكتاب «نزهة الطرف في علم الصرف»، وهما مطبوعان، وله مؤلفات حسنة غير ذلك. وكان ينشد كثيرا:
تنفس صبح الشيب في ليل عارضي
فقلت: عساه يكتفي بعذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني:
أيا هل ترى صبحا بغير نهار؟!
وتوفي سنة 518 بنيسابور.
واشتهر من هراة إحدى مدن خراسان أبو سعد آدم بن أسد: وكان أديبا فاضلا، ورد بغداد حاجا سنة 520، وقرئ عليه الحديث والأدب، وجرى بينه وبين أبي منصور الجواليقي ببغداد نوع منافرة في شيء اختلفا فيه، فقال الهروي للجواليقي: أنت لا تحسن أن تنسب نفسك؛ فإن الجواليقي نسبة إلى الجمع والنسبة إلى الجمع لا تصح.
وفي «طبقات» الأنباري أن هذا مغالطة؛ فإن لفظ الجمع إذا سمي به جاز أن ينسب إليه كمدائني وأنماري، وتوفي سنة 536.
واشتهر من زمخشر إحدى قرى خوارزم أبو القاسم محمود الزمخشري: وكان إمام عصره في الأدب، وله تصانيف جليلة تدل على علو منزلته وأن لا يدرك شأوه، منها: «الكشاف» في تفسير القرآن الكريم، و«الفائق» في تفسير الحديث، و«أساس البلاغة» في اللغة، و«المفصل»، و«الأنموذج» في النحو، و«المستقصي» في أمثال العرب، و«القسطاس» في العروض، و«ديوان الرسائل»، و«ديوان الشعر»، وكتاب «أسماء الأودية والجبال» وغير ذلك، وقدم بغداد للحج وجاور بمكة زمانا؛ فلذا يقال له: جار الله، وتوفي سنة 538 بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة.
ومن مفاخر بغداد في هذا العصر أبو منصور موهوب الجواليقي، وهبة الله بن الشجري، وأبو محمد سعيد المعروف بابن الدهان:
فالأول: كان إماما في فنون الأدب، أخذ عن الخطيب التبريزي، وصنف للإمام المقتفي كتابا لطيفا في العروض، وألف «شرح أدب الكاتب»، و«المعرب»، وتتمة «درة الغواص» للحريري وسماها: «التكملة فيما يلحن فيه العامة». وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وتوفي سنة 539 ببغداد.
والثاني: كان إماما في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها، وله كتاب «الأمالي» في فنون الأدب، وكتاب سماه «الحماسة» ضاهى به «حماسة» أبي تمام، وتصانيف في النحو. حكى عن المبرد في بناء حذام أنه اجتمع فيه ثلاث علل: التعريف والتأنيث والعدل، فبعلتين يجب منع الصرف، وبالثالثة يجب البناء. وتقابل ابن الشجري والزمخشري ببغداد، وتوفي سنة 542 ببغداد.
والثالث: كان سيبويه عصره، ومن تصانيفه المفيدة في الأدب: «شرح الإيضاح» و«التكملة»، وشرح «اللمع» لابن جني وسماه «الغرة»، وكتاب «العروض»، وكتاب «الدروس» في النحو، وكتاب «الرسالة السعيدية في المآخذ الكندية» يشتمل على سرقات المتنبي، و«العقود في المقصور والممدود»، و«الغنية في الأضداد». وانتقل من بغداد إلى الموصل، وكانت كتبه قد تخلفت ببغداد، فاستولى الغرق تلك السنة على البلد، فسير من يحضرها إليه، فوجدها قد غرقت، ولما حملت إليه على تلك الصورة بخرها باللاذن لتظهر كتابتها فعمي من ذلك، وأخذ عنه خلق كثير بالموصل، وتوفي سنة 569.
واشتهر من الأنبار - وهي قرية قديمة على الفرات على عشرة فراسخ من بغداد - عبد الرحمن بن محمد الأنباري: سكن بغداد وأخذ عن الجواليقي وابن الشجري، وتفقه بالمدرسة النظامية، وتصدر لإقراء النحو بها، وتبحر في علم الأدب، وأخذ عنه علماء كثيرون، وله في النحو كتاب «أسرار العربية»، وكتاب «الميزان»، وكتاب «طبقات الأدباء»، وقد اقتطفت منه ومن ابن خلكان ما أنا بصدده الآن. ولم يزل مشتغلا بالعلم حتى مات سنة 577 ببغداد.
واشتهر بالأندلس أيضا أبو الحسن علي المعروف بابن خروف الإشبيلي: تخرج على ابن طاهر النحوي الأندلسي، وشرح «كتاب سيبويه» وكتاب «الجمل» لأبي القاسم الزجاجي، وتوفي سنة 610 بإشبيلية .
واشتهر من حلب أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش، (المعروف بابن الصائغ)، كان عالما ماهرا في النحو والصرف، واجتمع في دمشق بالشيخ أبي اليمن زيد الكندي، وسأله عن مواضع مشكلة في العربية، وعن إعراب قول الحريري في المقامة العاشرة: «حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان»، فاستبهم الجواب على الكندي هل الأفق وذنب مرفوعان أو منصوبان أو أحدهما مرفوع والآخر منصوب؟
قالوا: ويجوز في ذلك أربعة أوجه، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب.
قال ابن خلكان: ولما وصلت حلب سنة 626 للاشتغال بالعلم؛ وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين، وكان ابن الصائغ شيخ الجماعة في الأدب قرأت عليه وابتدأت بقراءة «اللمع» لابن جني عليه، وكان حسن التفهيم لطيف الكلام خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون مع سكينة ووقار، وشرح كتاب «المفصل» للزمخشري، و«تصريف الملوكي» لابن جني، وتوفي بحلب سنة 643.
واشتهر بالقاهرة أبو عمرو عثمان المعروف بابن الحاجب: تخرج بها وبرع في علوم العربية وغيرها، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها. قال ابن خلكان: وقد سألته عن مواضع في العربية مشكلة فأجاب أبلغ إجابة، ومن جملة ذلك أن سألته في بيت المتنبي:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
فالآن أقحم حتى لات مقتحم
عن السبب في خفض مصطبر ومقتحم ولات ليس من أدوات الجر، فأطال الكلام وأحسن الجواب. ا.ه. ولم يذكر ابن خلكان صورة إجابة ابن الحاجب عن ذلك خوف الإطالة، وأقول: يجوز في هذا أن يكون الجر بحتى ولات كلا ليست حاجزا كما جروا بالباء في قولهم: «جئت بلا زاد» على رأي، ونصبوا المضارع بأن في نحو: «لئلا يعلم»، وفي «شرح المتنبي» للعكبري في هذا الموضع التاء في لات زائدة، وقد تزاد في الحروف: كثم وثمت ورب وربت، والجر به شاذ، وقد جر به العرب وأنشدوا:
طلبوا صلحنا ولات أوان
فأجبنا أن لات حين بقاء
ا.ه.
ثم عاد ابن الحاجب إلى القاهرة، وأخذ عنه خلق كثير، ومن مصنفاته: «الكافية» في النحو، و«الشافية » في الصرف، وتوفي سنة 646.
وعلى «الكافية» شروح كثيرة من أشهرها: شرح رضي الدين محمد بن الحسن الأسترباذي المتوفى حوالي سنة 690.
وهذا الشرح جليل الاعتبار كثير الفوائد، فيه أشياء لا توجد في غيره، وشواهد هذا الشرح أخذها عبد القادر البغدادي المتوفى بالقاهرة سنة 1093 بنى عليها خزانته المشهورة المسماة «خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب»، وهي واسعة الأرجاء مملوءة بجواهر الأدب، قل أن يوجد كتاب في بابها يحاكيها فهي ضالة الأديب، وقد طبعت بمطبعة بولاق سنة 1299 في أربعة أسفار ضخمة.
واشتهر بدمشق محمد بن عبد الله بن مالك: نشأ بمدينة جيان من الأندلس، ثم انتقل إلى دمشق وأقام بها، وكان بحرا لا يشق عبابه في العلوم، خصوصا في النحو، وتصدر بحلب لإقراء العربية، وكان يجتمع به قاضي القضاة ابن خلكان ويحترمه لعلمه. ومن تصانيفه منظومة «الكافية الشافية» في النحو؛ وهي ثلاثة آلاف بيت وشرحها ثم لخصها في أرجوزة سماها «الخلاصة»؛ وهي ألف بيت ولذا تعرف ب «الألفية»، ونثر هذه في كتاب سماه: «الفوائد النحوية والمقاصد المحوية»، ولتسهيل هذا الكتاب وتكميله صنف كتابا سماه: «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد»، واشتهر كتاب «التسهيل» دون كتاب «الفوائد». ومن تصانيفه أيضا: «الإعلام بمثلث الكلام»، و«عدة اللافظ وعمدة الحافظ»، وتوفي بدمشق سنة 672.
هذا وقد أقبل الناس إقبالا زائدا على «الألفية» يحفظونها ويتعرفون أحكامها؛ ولذا أكثر العلماء من شروحها، فممن شرحها محمد بن ناظمها المتوفى سنة 686 بدمشق، وعبد الله بن عبد الرحمن المشهور بابن عقيل المتوفى بالقاهرة سنة 698، وحسن بن قاسم المصري المتوفى سنة 749 وقد شرح «التسهيل» أيضا، وأبو زيد عبد الرحمن المكودي المتوفى سنة 801، وأبو الفضل عبد الرحمن جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911، وبدر الدين علي الأشموني المتوفى في حدود سنة 900، وهذا الشرح يسمى «منهج السالك إلى ألفية ابن مالك»، ويدرس بالأزهر بعد «شرح ابن عقيل»؛ لأنه أوسع منه وأصعب. ودونوا على هذه الشروح حواشي، فمن ذلك حاشية أحمد بن قاسم العبادي المتوفى سنة 992 على شرح ابن الناظم، وحاشية الشيخ أحمد السجاعي المتوفى سنة 1197 بمصر على «شرح ابن عقيل»، وحاشية الشيخ محمد الخضري الدمياطي المتوفى سنة 1288 على هذا الشرح، وهي أوسع وأنفع من «حاشية السجاعي»، وكلاهما تقرأ بالأزهر، وحاشية الشيخ محمد الحفني المصري المتوفى سنة 1101 بمصر على «شرح الأشموني»، وحاشية الشيخ محمد الصبان المصري المتوفى سنة 1216 على هذا الشرح أيضا، ويقرؤها المنتهون بالأزهر.
ومن إشبيلية علي بن محمد الكتامي أبو الحسن المعروف بابن الضائع: كان إماما في العربية لا يجارى، لازم الشلوبين وفاق أصحابه بأسرهم. أملى على «إيضاح» الفارسي، ورد اعتراضات ابن الطراوة على الفارسي واعتراضات على سيبويه واعتراضات البطليوسي على الزجاجي، ورد على ابن عصفور معظم اختياراته، وله «شرح الجمل»، وشرح «كتاب سيبويه»، جمع فيه بين شرحي السيرافي وابن خروف، وله في مشكلاته عجائب، توفي سنة 680.
وكان من أهل فاس أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود المعروف بابن آجروم الصنهاجي: نسبة إلى صنهاجة؛ وهي قبيلة بالمغرب، المتوفى سنة 723، ولا يؤثر عنه إلا «متن الآجرومية»، وعليها شروح كثيرة؛ منها «شرح الشيخ خالد الأزهري» المتوفى سنة 905، وعليه حاشية للسيد محمد أبي النجا من نحاة القرن الثالث عشر. ومنها شرح الشيخ حسن الكفراوي (نسبة إلى كفر الشيخ حجازي بالقرب من المحلة الكبرى)، الأزهري المتوفى سنة 1202 بالقاهرة، وعليه حاشية للشيخ إسماعيل الحامدي شيخ رواق الصعائدة بالأزهر الآن (سنة 1314)، وهذا الشرح أول كتاب يقرؤه طالب النحو بالأزهر ويقرأ بعده «شرح الشيخ خالد» السابق، ويقرأ بعدهما «الأزهرية» وشرحها للشيخ خالد المذكور، وعلى «الأزهرية» حاشية للشيخ محمد الأمير المتوفى سنة 1232، وحاشية للشيخ حسن العطار المصري المتوفى سنة 1250.
واشتهر من الأندلس أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي: نزيل مصر، كان إمام عصره في فنون الأدب، أخذ عن ابن الضائع وغيره، وأخذ عنه كثير من الأئمة كتقي الدين السبكي، وابن قاسم، وابن عقيل، والسمين. وكان يقرئ الناس «كتاب سيبويه» ومصنفات ابن مالك ويرغبهم فيها ويشرح لهم غامضها. ومصنفاته في العربية كثيرة، منها: «التذييل»، و«التكميل في شرح التسهيل»، وهو مطول، واختصره في كتاب سماه: «ارتشاف الضرب من لسان العرب»، قال الصفدي: لم أره قط إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب أو ينظر في كتاب، وكان ثبتا قيما عارفا باللغة، وأما النحو والصرف فهو الإمام المطلق فيهما، وخدم العلم أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض، وله اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم خصوصا المغاربة، ومن شعره:
عداي لهم فضل علي ومنة
فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن ذلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ومنه:
سبق الدمع بالمسير المطايا
إذ نوى من أحب عني نقله
وأجاد السطور في صفحة الخد
ولم لا يجيد وهو ابن مقلة؟!
ومات بالقاهرة سنة 745.
واشتهر من مصر عبد الله بن هشام الأنصاري: خاتمة النحاة ذوي الآراء والمذاهب، كان إماما لا يبارى، ومصنفاته في النحو تشهد له برفعة المكانة ورسوخ القدم وللناس إقبال عليها، فمنها: «قطر الندى وبل الصدى» وشرحه، و«شذور الذهب في معرفة كلام العرب» وشرحه، ويقرأ «القطر» و«الشذور» بالأزهر قبل «شرح ابن عقيل» على الألفية وبعد «الأزهرية»، ومنها «مغني اللبيب» ورتبه على ثمانية أبواب، الأول: في تفسير المفردات وفيه يذكر حروف المعاني وما أشبهها، والثاني: في تفسير الجملة وذكر أقسامها وأحكامها، والثالث: في ذكر أحكام ما يشبه الجملة، وهو الظرف والجار والمجرور وذكر حكمهما في التعلق، والرابع: في ذكر أحكام يكثر دورها ويقبح بالمعرب جهلها، والخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والسادس في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها، والسابع: في كيفية الإعراب، والثامن: في ذكر أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، وهي إحدى عشرة قاعدة ويندرج تحت كل باب مواد كثيرة تعرف من الاطلاع على فهرس الكتاب. وله أيضا كتاب «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك» وقد نثرها فيه، ويعرف ب «التوضيح»، قال الأمير في حاشيته على المغني هذا: ولد ابن هشام بالقاهرة سنة 708 ولم يأخذ عن أبي حيان، غير أنه سمع منه «ديوان زهير بن أبي سلمى»، ومن شعره:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله
ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا
يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل
وتوفي سنة 761، ورثاه ابن نباتة المصري شاعر الملك المؤيد صاحب مصر وحماة بقوله:
سقى ابن هشام في الثرى نوء رحمة
يجر على مثواه ذيل غمام
سأروي له من سائر المدح سيرة
فما زلت أروي سيرة ابن هشام
تورية بعبد الملك بن هشام صاحب «السيرة». ا.ه.
وقد اعتنى العلماء بمصنفات ابن هشام، فشرحوها وكتبوا عليها الحواشي؛ فمن ذلك: «تحفة القريب في الكلام على مغني اللبيب» لمحمد بن أبي بكر المخزومي الإسكندري المعروف بالدماميني، ولد بالإسكندرية وتوفي بالهند سنة 827، وألف هذا الشرح بأمر السلطان أبي الفتح ناصر الدين محمد شاه الهندي، و«التصريح بمضمون التوضيح»؛ وهو شرح للشيخ خالد الأزهري المتوفى بالقاهرة سنة 905، و«بلوغ الإرب بشرح شذور الذهب» لأبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى بمصر سنة 926، و«حاشية السجاعي» المتوفى سنة 1197 على «شرح القطر»، و«حاشية محمد الأمير» المتوفى سنة 1232، و«حاشية محمد الدسوقي» المتوفى سنة 1239، وكلاهما على «المغني».
واشتهر من مصر أيضا «أبو الفضل عبد الرحمن المعروف بجلال الدين السيوطي»: كان إماما مجتهدا في العلوم كما تشهد بذلك مصنفاته التي تبلغ ثلاثمائة كتاب، أخذ عن تقي الدين الشمني، ومحيي الدين الكافيجي وغيرهما، وقال إنه تبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبديع، وأصل الفلسفة. وقد وصل في هذه العلوم الستة سوى الفقه إلى درجة لم يصل إليها ولا وقف عليها أحد من أشياخه، ومن مصنفاته في فن العربية: كتاب «الأشباه والنظائر النحوية»، وهو كتاب جامع للمهمات مرتب على سبعة فنون كل فن مستقل بخطبة ولقب، وكتاب «الاقتراح» في علم أصول النحو، قال في أوله: هذا كتاب غريب الوضع عجيب الصنع في علم لم أسبق إلى ترتيبه، وهو علم أصول النحو الذي هو بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه. رتبه على مقدمة وسبعة كتب، وشرح «الألفية» و«التوضيح » و«المغني» وشواهده وحشى «الشذور» وغير ذلك، وإن أردت الاطلاع على أسماء مصنفاته فعليك بترجمته في كتابه المسمى ب «حسن المحاضرة»، وتوفي سنة 911.
وفي القرن السابع الهجري، وما بعده إلى وقتنا، هذا مال النحاة في الغالب عن الابتداع في الأصول وقصروا همهم على فهم وتفهيم ما دونه السلف؛ فأكثروا من تصنيف الشروح والحواشي على متونهم كما رأيتهم فعلوا في مصنفات ابن مالك ومصنفات ابن هشام، وقد تغالوا في هذا الأمر حتى كتبوا كتبا على الحواشي سموها التقارير كتقارير شمس الدين محمد الإنبابي، من أكابر علماء القرن الرابع عشر على «حاشية أبي النجاء» على «شرح الشيخ خالد» على «متن الآجرومية»، وعلى «حاشية العطار» على «شرح الأزهرية»، وعلى حواشي «القطر»، وعلى حواشي «الشذور»، وعلى حواشي «ابن عقيل»، وعلى حواشي «الصبان». وقد توفي الشيخ الإنبابي سنة 1313. (3) دراسة النحو في الأزهر
قبل الخوض في ذلك نذكر لمعة من تاريخ هذا الجامع الشهير فنقول: الأزهر مدرسة جامعة واسعة الأرجاء، أنشأها جوهر قائد الخليفة المعز الفاطمي بعد أن فتح مصر سنة 358 واختط مدينة القاهرة، وكان الشروع في بنائه سنة 359، وكمل بناؤه سنة 361، وترتب المتصدرون لقراءة العلم به سنة 380 في عهد العزيز بن المعز. ولقد أخذ الأزهر شهرة واسعة ملأت طباق الأرض؛ فهرعت إليه الناس أفواجا من أقاصي مصر والشام والمغرب والترك والكرد واليمن والهند وغيرها طلبا للعلم والأخذ عن علمائه، وبه لكل طائفة ممتازة منزل يعرف بالرواق، أو جهة تعرف بالحارة بها خزائن من خشب يضع فيها الطلاب بعض مختصاتهم الخفيفة. ويبلغ عدد ما به من الأروقة نحو 22 رواقا، ومن الحارات 15 حارة، ولكل رواق أو حارة شيخ يرجع إليه فيما يختص بطائفته.
وللجامع رحبة سماوية واسعة جدا تعرف بالصحن، بها أربعة صهاريج، وله ست منارات للأذان، وسبع مزاول لمعرفة الوقت، وثمانية أبواب بعد كل باب ذي فرجتين بابين. وما زال ملوك مصر وأمراؤها بعد الخليفة المعز يعتنون بالأزهر ويجددون في بنائه ويوقفون الأرزاق على علمائه وطلابه إلى وقتنا هذا؛ ففي سنة 1190 الأمير عبد الرحمن كتخدا زاد في اتساعه طولا وعرضا قسما عظيما، وهو القسم المرتفعة أرضه قليلا من جهة الشرق، ويشتمل هذا القسم على 50 عمودا من الرخام تحمل مثلها من البواكي، وأنشأ به محرابا ومنبرا جديدين، وفي جهته الجنوبية بنى مدفنا له، ورواقا للصعائدة، وكتابا بأعلاه وبابا كبيرا ذا فرجتين واسعتين بجوار الرواق، ومنارة بجانب الباب، وبالجبهة الغربية من الجامع جدد مدرسة الطيبرسية (1) ومدرسة الأقبغاوية (2)، وبين المدرستين ممشى ينتهي إلى باب كالسابق، وبنى فوق الباب كتابا، وله منشآت بالجامع غير ذلك.
وفي هذا العصر أمر مولانا الخديو الأفخم عزيز مصر عباس باشا حلمي الثاني الأكرم بشراء الأملاك التي تتاخم الجامع من جنوبه الغربي وإدخالها فيه، وبناء عمارة ضخمة في موضعها تشتمل على رواق عظيم ومحل رفيع للمشيخة، فأقيمت العمارة وشيد الرواق فجاء أفخم وأبدع رواق في الأزهر، وسمي بالرواق العباسي، وكذا أمر - حفظه الله - بإنشاء مكتبة نفيسة في محل المدرسة الأقبغاوية، وبتشكيل مجلس لإدارة شئون الأزهر يتركب من رئيس وخمسة أعضاء؛ الرئيس شيخ الجامع، والأعضاء ثلاثة من أفاضل علماء الأزهر، واثنان من العلماء الموظفين في الحكومة. ورئيس المجلس الآن سنة 1314 صاحب الفضيلة الشيخ «حسونة النواوي»، وأعضاؤه أرباب الفضل والعرفان: الشيخ «محمد عبده» القاضي بمحكمة الاستئناف الأهلية، والشيخ «عبد الكريم سلمان» وكيل قلم «الوقائع المصرية» بديوان الداخلية، والشيخ «سليم البشري» شيخ المالكية، والشيخ «مصطفى عز» الشافعي، والشيخ «يوسف النابلسي» شيخ الحنابلة.
ويبلغ عدد علماء ومدرسي الأزهر الآن نحو 190، وعدد الطلبة به يتجاوز ثمانية آلاف، وعليهم ضابط عام يفصل في وقائعهم كما يأمره شيخ الجامع، والضابط الآن هو السيد أحمد الجندي.
والعلوم التي تدرس بالأزهر هي: تفسير القرآن، والحديث، والفقه وأصوله، وعلم الكلام (الإلهيات)، والمنطق، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والقافية وغير ذلك.
ولنرجع إلى ما نحن بصدده الآن فنقول:
يدرسون في الأزهر من كتب النحو: «شرح الشيخ حسن الكفراوي على متن الآجرومية»، ثم «حاشية أبي النجا على شرح الشيخ خالد»، ثم «حاشية العطار على الأزهرية»، ثم «حاشية السجاعي على شرح القطر»، ثم «شرح الشذور» وحواشيه، ثم «حاشية السجاعي - أو الخضري - على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك»، ثم «حاشية الصبان على شرح الأشموني على الألفية»، ثم «المغني» وشروحه وحواشيه، وذلك في نحو ست سنوات، وهذا كله بعد حفظ الطلاب متن الآجرومية ومنظومة الألفية وغيرهما. وكيفية الدراسة أن يعين المدرس لطلبته جزءا من أول الكتاب المراد قراءته يطالعه كل واحد منهم على انفراده أو بالاشتراك مع غيره، ثم يجيئون في اليوم التالي ويجلسون بين يدي شيخهم بهيئة حلقة ويسمعون منه توضيح ما عينه لهم ويناقشونه فيه، هذا يسأل وهذا يعترض على المصنف، وثالث يجيب عنه وهكذا، وكل منهم يجتهد في إظهار علمه في مناقشاته وربما طالع لهذا الغرض حواشي غير المقرر قراءتها، ولا يزال الطلبة في أخذ ورد وتصويب وتخطئة إلى أن ينتهي الدرس في نحو ساعتين، وربما لا يتم الجزء المعين فيعين لهم جزءا آخر ويحصل فيه ما حصل في سابقه وهكذا إلى أن يفرغ الكتاب، وهذه الطريقة تربي فيهم ملكة الجدل والبحث.
دراسة النحو في المدارس
نتقدم أولا بذكر نبذة من تاريخ المدارس في مصر، فنقول: قبل استيلاء محمد علي باشا رأس الأسرة الفخيمة الخديوية على مصر كانت المعارف فيها قاصرة على معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بالكتاتيب التي أنشأها سلاطين المماليك وأمراؤهم، وعلى التخرج من علوم الأزهر السابقة، فكانت هذه الكتاتيب بمنزلة مدارس ابتدائية، والأزهر بمنزلة مدارس ثانوية وعليا، فلما استقام الأمر للباشا بهذه الديار أنشأ عدة مدارس ذات شأن كبير، منها: مدرسة للطب بأبي زعبل، ومدرسة للهندسة ببولاق، ومدرسة للألسن، ومدرسة للزراعة ببلد نبروه، ومدرسة للصناعات، وثلاث مدارس للفنون الحربية. ثم اقتفى أثره في ذلك من خلفه من أمراء هذه الأسرة الخديوية وكذا حكوماتهم وأشراف الأمة؛ فزادوا في المدارس وشيدوا في أركانها وفرضوا لها النفقات إلى أن وصلت إلى ما هي عليه في وقتنا الحاضر من التقدم والنظام، يدير شئونها ديوان عال يرأسه وزير كبير من وزراء الحكومة وله وكيل من كبار الأمراء وأعالمهم ومفتشون ماهرون وكتاب أماثل، وهذا الديوان يسمى ديوان المعارف، ويرأسه الآن (سنة 1314) صاحبا العطوفة والعرفان «حسين باشا فخري»، و«يعقوب باشا أرتين». ويتبع هذا الديوان نحو أربعين مدرسة ابتدائية تعلم فيها القراءة والكتابة والقرآن والنحو والحساب ومبادئ الهندسة والخط ورسم الحروف ورسم الأشكال وصور الأر ض وتقويم البلدان والتاريخ والأخلاق واللغات الإنكليزية والفرنساوية والتركية، وذلك في مدة أربع سنين. وثلاث مدارس تجهيزية تعلم فيها العلوم السابقة مع الاتساع في مسائلها والزيادة في فروعها، ويزاد عليها المعاني والبيان والبديع والإنشا والتاريخ الطبيعي والطبيعة والكيميا والهيئة، وهذا في مدة خمس سنين، ومدرسة للحقوق ومدرسة للهندسة ومدرسة للطب ومدرسة للصيدلة ومدرسة للولادة، ومدرستان للصنائع إحداهما ببولاق والأخرى بالمنصورة، ومدرسة للزراعة بالجيزة، وثلاث مدارس لتخريج معلمين أكفاء.
وفي هذه المدارس الآن ما بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف متعلم، وفيها وفي الديوان 443 موظفا بين رئيس ووكيل ومفتشين وكتاب ونظار مدارس ومدرسين وضباط، وينفق في ذلك كله ما يتجاوز مائة ألف جنيه مصري. وأيضا توجد مدرسة لتخريج ضباط في الجيش تابعة لديوان الحربية. وللأهالي والأجانب مدارس أخرى لا تقل عن مدارس الحكومة في العدد. وهذه وتلك خلاف الكتاتيب المنتظمة وغيرها، وهي كثيرة جدا يزيد عدد ما بها من المتعلمين هي والأزهر وجوامع العلم الأخرى عما في المدارس السابقة كلها.
عود إلى ما نحن بصدده
كان المقرر تدريسه في النحو بالمدارس الابتدائية الأميرية هو كتاب «الفصول الفكرية»، تأليف المرحوم عبد الله باشا فكري، من علماء وأمراء القرن الرابع عشر المتوفى سنة 1307، وكتاب «القواعد الأولية» للشيخ محمد حسين من علماء الأزهر وأساتذة المدارس.
وللمدارس التجهيزية وما فوقها: «شرح ملحة الحريري» للشيخ حسين والي، و«شرح أنموذج الزمخشري» للشيخ محمد عسكر، وشرح «الألفية» للسيوطي، و«أنوار الربيع في النحو والصرف والبيان والبديع» للشيخ محمود العالم. وكان تعليم النحو في هذه المدارس لا يأتي بالثمرة المطلوبة؛ لأن هذه الكتب وإن كانت صحيحة في ذاتها إلا أنها ليست منسوقة في تصنيفها على حسب أعمار الناشئة المتعلمين، ولأن معلمي هذا العلم وإن كانوا عارفين به لا يحسنون طريقة أدائه إلى أذهان الأحداث، ولا يراعون طاقاتهم، فكان هؤلاء يهملونه بسبب ما يعترضهم من الصعوبات في طريق تعلمهم.
فلما أخذ بزمام المعارف صاحب السعادة والدراية يعقوب باشا أرتين سنة 1884 للميلاد وشرع في إصلاح شئونها والسير بها في طرق النجاح أمر كثيرا من ذوي الفضل بتصنيف مؤلفات جديدة في علوم المدارس موافقة للناشئين، وقد أمرني أنا وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح القاضيين الآن بالمحاكم الأهلية، والشيخ مصطفى طموم المدرس بالمدرسة الخديوية بتأليف ثلاثة كتب سهلة المأخذ في النحو مدرجة على حسب أعمار تلامذة المدارس الابتدائية، فألفنا هذه الكتب وقدمناها إلى سعادته، فعرضها على لجنة من أفاضل العلماء فأثنوا عليها، وحلت لديه محل القبول، وأمر بطبعها فطبعت بمطبعة بولاق وانتشرت بين أبناء المدارس وانتفعوا بها انتفاعا زائدا، وأخذت شهرة واسعة، وأجازنا عليها بمائة ليرة مصرية. ثم أمرنا بعد ذلك بتصنيف كتاب رابع في النحو أوسع من الثلاثة المتقدمة، وكتاب خامس في علوم البلاغة للمدارس التجهيزية فصنفناهما، وطبعا وعم نفعهما وأجازنا عليهما بمائة أخرى. وكان معنا في الكتاب الرابع محمود أفندي عمر بدلا من محمد بك صالح، وفي الكتاب الخامس محمد أفندي سلطان أستاذ اللغة العربية بمدرسة الحقوق بدلا منهما.
وليست طريقة تعليم النحو في المدارس كطريقته في الأزهر؛ فإن المعلم فيها لا يحدد جزءا من الكتاب تطالعه التلاميذ من قبل، بل يعطي الدرس أولا في وقته المحدد له والتلامذة يفهمونه منه بدون كبير مناقشة يضيع معها الزمن سدى، ويسألهم أسئلة تثبت ما أخذوه في أذهانهم، ثم يكلفهم بواجب علمي يؤدونه في منازلهم تطبيقا على الدرس الذي سمعوه، وفي اليوم التالي يعيد سؤال البعض في بعض مسائل الدرس السابق، ثم يعطي درسا آخر وهكذا، وفي خلال كل ثلاثة أشهر ما عدا أشهر المسامحة يختبرهم فيما حصلوه من العلم، ويعطيهم درجات على حسب إجاباتهم فيه، وقبل الاختبار يجتهدون في مذاكرته رغبة في الحصول على الدرجات العلى.
الباب السادس
في تاريخ علوم البلاغة
المعاني والبيان والبديع
بعدما نظر علماء السلف في كلام العرب من جهة صحته ودونوا لذلك النحو، تتبعوا كلام البلغاء منهم فرأوا أن تراكيبه تتفاوت بهيئات وخواص تدل على معان ثانوية زائدة عن أصل المعنى، فاستنبطوا من ذلك أصولا دونوها ونوعوها إلى ثلاثة علوم؛ الأول: يبحث فيه عن الخواص والهيئات التي تقتضيها المقامات والأحوال، وسموه «علم البلاغة أو المعاني». والثاني: يعرف به إيراد المعنى الواحد بعبارات مختلفة في وضوح الدلالة عليه، وسموه «علم البيان»، وإن شئت قلت: هو علم يبحث فيه عن التشبيه والمجاز والكناية. والثالث: يبحث فيه عن وجوه تكسو الكلام حسنا، وسموه «البديع». وقد سموا العلوم الثلاثة تارة بالبديع، وتارة بعلوم البلاغة. ومسائل هذه الفنون لم تجئ دفعة واحدة، بل تلاحقت واحدة بعد أخرى ثم رتبت أخيرا.
ويظهر أن أبا عبيدة المتوفى سنة 206 هو أول من صنف في المجاز، فإنه لما سئل بمجلس الفضل بن الربيع عن التشبيه في قوله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
وأجاب بأنه كقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟!
كان هذا سببا في أن يضع كتابا في مجاز القرآن، وقد سبق بسط ذلك في تاريخ النحو.
وعبد الله بن المعتز العباسي المتوفى سنة 296 أول من كتب في البديع، فإنه جمع من وجوهه سبعة عشر نوعا، وقال في كتابه: «وما جمع قبلي فنون البلاغة أحد ولا سبقني إليه مؤلف، ومن أحب أن يقتدي بي ويقتصر على ما اخترعناه فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره.»
وعاصره قدامة الكاتب، فجمع منها عشرين نوعا توارد معه على سبعة منها وسلم له ثلاثة عشر، فتكامل لهما ثلاثون، ثم جمع أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 سبعة وثلاثين في كتابه المسمى ب «الصناعتين». ثم جمع مثلها ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456 في كتابه المسمى ب «العمدة»، ثم أوصلها عبد العظيم بن أبي الأصبع العدواني المصري المتوفى سنة 654 إلى التسعين في كتاب سماه «تحرير التحبير في علم البديع».
ثم جاء صفي الدين عبد العزيز الحلي المتوفى سنة 750 ونظم قصيدة طويلة فيها 140 نوعا باعتبار أصناف التجنيس نوعا واحدا ، وجعل كل بيت منها مثالا لنوع، وذكر اسم النوع البديعي إلى جانب البيت وسماها «الكافية البديعية»، ثم شرحها شرحا لطيفا. ثم حذا الناس حذوه ونظموا بديعيات، منها بديعية عز الدين الموصلي المتوفى في حدود سنة 800، ملتزما في البيت ذكر اسم النوع، وشرحها شرحا وافيا، وتسمى ب «الفتح الآلي في مطارحة الحلي»، ومنها بديعية شرف الدين إسماعيل اليمني المعروف بابن المقري المتوفى سنة 837، جمع فيها 150 نوعا من أنواع البديع، وبديعية الشيخ أبي بكر علي المعروف بابن حجة الحموي المتوفى سنة 837، وتعرف ب «خزانة الأدب» وشرحها، والمولى الناصر هو الذي رسم له بنظمها ملتزما فيها تسمية النوع، ومجاريا فيها الصفي الحلي، وكان يشيد البيت فيرسم له بهدمه، ويقول له بيت الصفي أصفى موردا، فيعيد النظم إلى أن يحكم له بالسبق، كذا ذكر في خطبة الشرح. ومنها بديعية عائشة الباعونية الدمشقية المتوفاة سنة 922، وتسمى ب «الفتح المبين»، وقد شرحتها شرحا مختصرا، والشرح مطبوع مع شرح بديعية ابن حجة سنة 1304 في المطبعة الخيرية بالقاهرة، ومنها بديعية عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143 المسماة «نسمات الأسحار»، وقد شرحها شرحا جليلا متقنا سماه «نفحات الأزهار»، أتى في خطبته على ذكر البديعيات الأربع السابقة، وعاب بديعتي الموصلي وابن حجة، وقد طبع الشرح بمطبعة بولاق سنة 1299.
والشيخ عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 ألف كتاب «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» في المعاني والبيان، ومن كلامه: «إن الكلام الذي يدق فيه النظر ويقع به التفاضل هو الذي تدل بلفظه على معناه اللغوي، ثم تجد لذلك اللفظ دلالة ثانية على المعنى المقصود، فهناك ألفاظ ومعان أول ومعان ثوان.»
وأبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626، ألف كتاب «مفتاح العلوم» قال في مقدمته: «اعلم أن علم الأدب متى كان الحامل على الخوض فيه مجرد الوقوف على بعض الأوضاع وشيء من الاصطلاحات، فهو لديك على طرف الثمام، أما إذا خضت فيه لهمة تبعثك على الاحتراز عن الخطأ في العربية وسلوك جادة الصواب فيها، اعترض دونك منه أنواع تلقى لأدناها عرق القربة، لا سيما إذا انضم إلى همتك الشغف بالتلقي لمراد الله تعالى من كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهناك يستقبلك منها ما لا يبعد أن يرجعك القهقرى، وكأني بك وليس معك من هذا العلم إلا ذكر النحو واللغة قد ذهب بك الوهم إلى أن ما قرع سمعك هو شيء قد افترعته عصبية الصناعة لا تحقيق له، وإلا فمن لصاحب علم الأدب بأنواع تعظم تلك العظمة، لكنك إذا اطلعت على ما نحن مستودعوه كتابنا هذا مشيرين فيه إلى ما تجب الإشارة إليه، ولن يتم لك ذلك إلا بعد أن تركب له من التأمل كل صعب وذلول؛ علمت إذ ذاك أن صوغ الحديث ليس إلا من عين التحقيق وجوهر السداد.»
وقد قسم «المفتاح» إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: في الصرف. والثاني: في النحو. والثالث: في علوم المعاني والبيان والبديع. وعرف المعاني بأنه تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره، قال: وأعني بتراكيب الكلام التراكيب الصادرة عمن له فضل تمييز ومعرفة، وهي تراكيب البلغاء لا الصادرة عمن سواهم لنزولها في صناعة البلاغة. وأعني بخاصية التركيب ما يسبق منه إلى الفهم عند سماع ذلك التركيب. وعرف البيان بأنه معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه أو بالنقصان، ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه. وقد طبع بالمطبعة الأدبية بالقاهرة سنة 1317 للهجرة.
وقد شرح القسم الثالث من «المفتاح» العلامة محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة 710، وسمى شرحه «مفتاح المفتاح»، وشرحه أيضا السيد الشريف علي الجرجاني المتوفى سنة 816، ولخص هذا القسم محمد بن عبد الرحمن القزويني خطيب دمشق المتوفى سنة 739، وسمى كتابه «تلخيص المفتاح»، ثم وضحه في كتاب سماه «إيضاح المعاني والبيان»، وضم إليه ما خلا عنه مما تضمنه «المفتاح» مع زيادات من «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وقد شرح «التلخيص» مسعود بن عمر التفتازاني - المدعو بسعد المتوفى سنة 791 - شرحا واسعا سماه «المطول»، ثم اختصر المطول في شرح يعرف ب «مختصر السعد». وقد شرح «التلخيص» أيضا عصام الدين إبراهيم الإسفراييني المتوفى بسمرقند سنة 951 - وقيل سنة 945 - وسمى شرحه ب «الأطول». وقد أخذ شواهد «التلخيص» الشيخ عبد الرحيم العباسي المتوفى سنة 963، وبنى عليها كتابا جليلا في الأدب يشبه «خزانة الأدب» للبغدادي، وسماه «معاهد التنصيص». وشروح التلخيص الثلاثة السابقة تقرأ بالأزهر بعد كتب النحو، وقد أكثر العلماء من الحواشي على شرحي التفتازاني؛ فمنها على المطول حاشية السيد الجرجاني المتوفى سنة 816، وحاشية حسن چلبي الفناري المتوفى سنة 886، وحاشية عبد الحكيم الهندي المتوفى سنة 1067. ومنها على المختصر حاشية أحمد بن يحيى حفيد السعد المتوفى سنة 906، وحاشية محمد الحنفي المتوفى سنة 1181، وحاشية الشيخ محمد الدسوقي المتوفى سنة 1230.
وأبو الليث السمرقندي من علماء النصف الثاني من القرن التاسع صنف متنا في الاستعارات يعرف ب «السمرقندية»، يقرؤه الطلاب المبتدئون، وقد كتب عليه كثير من العلماء، فمن ذلك «شرح العصام»، و«شرح أحمد الملوي» المتوفى سنة 1181، و«حاشية الشيخ حسن العطار» المتوفى سنة 1250، و«حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري» المتوفى سنة 1267، وعلى «شرح العصام» حاشية لحفيده الشيخ علي المتوفى بمكة سنة 1007، وحاشية للشيخ محمد الصبان المتوفى سنة 1206، وعلى «شرح الملوي» حاشية للشيخ محمد الأمير المصري المتوفى سنة 1232، وحاشية للشيخ محمد الدمنهوري فرغ من تأليفها سنة 1233، وحاشية للشيخ محمد الخضري الدمياطي المتوفى سنة 1288.
ومحمد بن الشحنه التركي المتوفى سنة 815 بحلب له منظومة في المعاني والبيان والبديع، وهي مائة بيت؛ ولذا يقال لها: «مائية المعاني والبيان». ولمحمد بن عبد الحق الطرابلسي شرح عليها سماه «درر الفوائد المستحسنة» فرغ من تأليفه سنة 1109، ولمحمد بن العزى شرح عليها أيضا سماه «مواهب الرحمن» فرغ من تأليفه سنة 1134.
وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911 له أرجوزة سماها «عقود الجمان في علم المعاني والبيان»، قال فيها:
وهذه أرجوزة مثل الجمان
ضمنتها علم المعاني والبيان
لخصت فيها ما حوى التلخيص مع
ضم زيادات كأمثال اللمع
وقد شرحها شرحا حسنا.
والشيخ عبد الرحمن الأخضري له منظومة أيضا سماها «الجوهر المكنون في الثلاثة فنون»، فرغ من نظمها سنة 950، وعليها «شرح حلية اللب المصون»، تأليف الشيخ أحمد الدمنهوري المتوفى سنة 1192. وللشيخ مخلوف حاشية على هذا الشرح فرغ من تأليفها سنة 1265.
والشيخ محمد الصبان المتوفى سنة 1206 له كتاب في البيان يعرف ب «الرسالة البيانية»، وللشيخ محمد عليش المصري المتوفى سنة 1299 حاشية عليها، وكذا للشيخ مخلوف حاشية عليها، وقد طبعت سنة 1285 بالمطبعة الوهبية بمصر، وأيضا للشيخ محمد الإنبابي حاشية كبيرة عليها طبعت ببولاق سنة 1315.
والشيخ حسين المرصفي من أساتذة المدارس المصرية له كتاب جليل في فنون الأدب ويسمى ب «الوسيلة الأدبية»، وقد طبع سنة 1289 بمطبعة المدارس الملكية، وكان - رحمه الله - مع كونه بصيرا واسع الاطلاع في الأدب حسن المحاضرة والنوادر قرأت عليه كتابه هذا بمدرسة «دار العلوم»، وقد جاء في مقدمته ما نصه: «اعلم أن هذه الفنون وغيرها من علوم العربية كما سبقت الإشارة إليه إنما تحصلت لباذلي هممهم في تحصيلها بتتبع الكلم العربي، يسمعونه منهم ويروونه عنهم، وأول من تنبه لاستخراج هذه الفنون واتخاذها معيارا لصناعة الكلام حسب ما تقتضيه الشاعران الشهيران «مسلم بن الوليد» و«أبو تمام حبيب بن أوس الطائي»، ولكن لم يدوناها، وإنما كانا يتحدثان بها ويسميانها البديع، ولما أكثر من استعمال مقتضياتها وتبعهما بعض شعراء ذلك العصر غالب ميلهم مع زخرفة الألفاظ، أخذ الشعر هيئة غير هيئته العربية، حتى إن فحول الشعراء إذ ذاك كانوا يقولون: قد أفسد هؤلاء الشعر بذلك الشيء الذي يسمونه البديع. ولم يزل يتزايد الحديث في ذلك إلى أن جاء عبد الله بن المعتز، وقدامة الكاتب، فوضع كل منهما موضوعا لطيفا، ثم اتسع القول فيه بعد وأقبل عليه كتاب الإنشاء وسموه: البيان.
وهذا أنموذج تأليف الأوائل في هذه الفنون، ابتدأ بعضهم كتابه بقوله: «البلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.» ثم أخذ في بيان كل منها والاستشهاد عليه، وذكر تفاوت البلغاء فيه. ولما اتسعت دائرة القول في العلوم الفلسفية بين المسلمين حتى أفضى بهم التكلم في تخليص العقائد الإسلامية وإزاحة الشبه عنها إلى كشف حقيقة النبوة وبيان جهة إعجاز القرآن، رأى الناس نفع هذه الفنون في معرفة إعجاز القرآن الذي هو برهان الدين الحق، فصارت من العلوم الدينية، واشتغل بها طائفة من الناس وأكثروا فيها من التآليف، وأولهم الشيخ عبد القاهر. وبحسب اختلاف جهات البحث ميزوا الفنون وخصوا كلا بلقب، وهي ثلاثة فنون: فن يبحث عن الألفاظ من حيث كونها مستعملة في معانيها التي وضعت لها أو فيما يناسبها اعتمادا على المناسبات، وسموه «فن البيان»، وفن يبحث عن المركبات من حيث تختلف صورها لاختلاف الأغراض منها، وسموه «فن المعاني»، وفن يبحث عن أحوال تعرض للكلام فتكسبه حسنا وسموه «البديع».» ا.ه.
والشيخ محمد البسيوني من علماء الأزهر وأساتذة المدارس، له كتاب في العلوم الثلاثة سماه «حسن الصنيع»، وقد طبع بمطبعة ديوان المعارف سنة 1301، وكان يقرأ بمدرسة الحقوق.
والشيخ محمود العالم المنزلي، من علماء الأزهر وأساتذة المدارس، المتوفى حوالي سنة 1310، له كتاب جمع فيه خمسة علوم: الصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، وسماه «أنوار الربيع»، وقد طبع في مطبعة بولاق سنة 1302، وكان يقرأ بالمدارس التجهيزية.
والشيخ الفاضل هارون عبد الرزاق، من علماء الأزهر وأساتذة المدارس، له كتاب حسن الصياغة في فنون البلاغة طبع بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1889 للميلاد، وهو رسالة صغيرة كانت تقرأ بالمدارس.
وقد ألفنا أنا وحفني بك ناصف ومحمد أفندي سلطان، والشيخ مصطفى طموم كتاب «دروس البلاغة» لتلامذة المدارس التجهيزية، يقرأ بعد كتبنا النحوية السابقة، وقد طبع بالمطبعة الأميرية سنة 1310.
الباب السابع
في تاريخ المحاضرات
كانت سوق الأدب رائجة في عهد خلفاء بني أمية في الشام والأندلس، وخلفاء بني العباس في العراق؛ إذ كانوا يقربون من مجالسهم أدباء عصرهم ليحادثوهم بما يروح نفوسهم ويشرح صدورهم من قص نوادر غريبة وأخبار عجيبة وإنشاد أشعار رقيقة. وعلى سننهم جرى عمالهم في الأمصار؛ فكان الأديب يبذل وسعه في تعرف أنباء السالفين والحاضرين وحفظ أشعارهم واستحضار ملحهم ولطائفهم ليكون ذا اطلاع واسع واقتدار بارع على أن يحضره بداهة في مجلس الخليفة أو الأمير ما يقتضي الحال ذكره، لينال منه كذا جائزة. وقد دونوا لهذا الغرض مصنفات تجمع نوادر وأخبارا وملحا وأشعارا وغيرها، وسموا معرفة ذلك بعلم المحاضرات، وهو لا ريب نوع خاص من علم التاريخ.
وأساس هذا العلم على ما يقال كتاب «كليلة ودمنة»، الذي ترجمه إلى العربية عبد الله بن المقفع كاتب الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي المتولي الخلافة سنة 137 للهجرة، وهو كتاب يشتمل على حكايات موضوعة على ألسنة الحيوانات، متضمنة حكما وسياسات تهذب الأخلاق والنفوس، وضعه الفيلسوف بيدبا لملك الهند في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد طبع هذا الكتاب أحد علماء الإفرنج الشهير بسلفستر دساسي
Sylvestere de saey
سنة 1816، وطبع أيضا في مطبعة وادي النيل بالقاهرة سنة 1297 للهجرة، وفي مطبعة بولاق، وفي بيروت سنة 1884. وفي عصر الخليفة المنصور هذا صنف محمد بن إسحاق كتاب «المغازي والسير».
ومما دون في المحاضرات كتاب «العقد الفريد» لشهاب الدين أحمد بن محمد الأندلسي، المعروف بابن عبد ربه، المتوفى بقرطبة سنة 328، قال في خطبته: «وبعد، فإن أهل كل طبقة وجهابذة كل أمة قد تكلموا في الأدب وتفلسفوا في العلوم على كل لسان ومع كل زمان، وإن كل متكلم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدمين واختيار جواهر ألفاظ السالفين، وأكثروا في ذلك حتى احتاج المختصر منها إلى اختصار، والمتخير إلى اختيار. ثم إني رأيت آخر كل طبقة وواضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب أعذب ألفاظا وأسهل بنية وأحكم مذهبا وأوضح طريقة من الأول؛ لأنه ناقض متعقب والأول باد متقدم، فلينظر الناظر إلى الأوضاع المحكمة والكتب المترجمة بعين إنصاف، ثم يجعل عقله حكما عادلا قاطعا، فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع طيبة المنبت زكية التربة يانعة الثمرة، فمن أخذ بنصيبه منها كان على إرث من النبوة ومنهاج من الحكمة، لا يستوحش صاحبه ولا يضل من تمسك به. وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب. وإنما لي فيه تأليف الاختيار وحسن الاختصار وفرش لدور كل كتاب، وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء ومأثور عن الحكماء والأدباء.
وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة، فوجدتها غير متفرقة في فنون الأخبار ولا جامعة لجمل الآثار، فجعلت هذا الكتاب كافيا جامعا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامة والخاصة وتدور على ألسنة الملوك والسوقة، وحليت كل كتاب منها بشواهد من الشعر تجانس الأخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها، وقرنت بها غرائب من شعري ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته وبلدنا على انقطاعه حظا من المنظوم والمنثور. وسميته كتاب «العقد الفريد»؛ لما فيه من مختلف جواهر الكلام مع دقة المسلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابا كل كتاب منها جزءان، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا، قد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد. فأولها كتاب «اللؤلؤة في السلطان»، ثم كتاب «الفريدة في الحروب ومدار أمرها»، ثم كتاب «الزبرجدة في الأجواد والأصفاد»، ثم كتاب «الجمانة في الوفود»، ثم كتاب «المرجانة في مخاطبة الملوك»، ثم كتاب «الياقوتة في العلم والأدب»، ثم كتاب «الجوهرة في الأمثال»، ثم كتاب «الزمردة في المواعظ والزهد»، ثم كتاب «الدرة في التعازي والمراثي»، ثم كتاب «اليتيمة في النسب وفضائل العرب»، ثم كتاب «العسجدة في كلام الأعراب»، ثم كتاب «المجنبة في الأجوبة»، ثم كتاب «الواسطة في الخطب»، ثم كتاب «المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة»، ثم كتاب «العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم»، ثم كتاب «اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة»، ثم كتاب «الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم»، ثم كتاب «الزمردة الثانية في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه»، ثم كتاب «الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي»، ثم كتاب «الياقوتة الثانية في الألحان واختلاف الناس فيه»، ثم كتاب «المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن»، ثم كتاب «الجمانة الثانية في المتنبئين والموسومين والبخلاء والطفيليين»، ثم كتاب «الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان»، ثم كتاب «الفريدة الثانية في الطعام والشراب»، ثم كتاب «اللؤلؤة الثانية في الفكاهات والملح».» ا.ه. وقد طبع بمطبعة بولاق سنة 1293.
وكتاب «الأغاني» لأبي الفرج علي الأصفهاني المتوفى ببغداد سنة 356، وهو كتاب جامع لكثير من السير والنوادر والأشعار وأيام العرب وأخبارهم، وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام، وقد بنى كل ذلك على المائة صوت المختارة للخليفة هارون الرشيد العباسي، وهذا الكتاب قل أن يوجد له مثيل، وقد طبع في عشرين سفرا بمطبعة بولاق الأميرية سنة 1285، وطبع السفر الحادي والعشرون من هذا الكتاب في مدينة ليدن سنة 1305.
وكتاب «نثر الدرر» لأبي سعد منصور بن الحسين وزير مجد الدولة رستم بن بويه، من أدباء القرن الرابع، اختصره من كتاب «نزهة الأدب».
وكتاب «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، كان في أوائل المائة الخامسة، وهو كتاب نفيس في سفرين، طبعته جمعية المعارف المصرية سنة 1287 بمطبعة السيد إبراهيم المويلحي.
وكتاب «زهر الآداب وثمر الألباب» لأبي إسحاق إبراهيم المعروف بالحصري القيرواني المتوفى بالقيروان سنة 453، وقد طبع على هامش كتاب «العقد الفريد» المتقدم.
وكتاب «الغرر والدرر» للشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر المتوفى ببغداد سنة 436 وهو ذو ثلاثة أسفار.
وكتاب «ربيع الأبرار ونصوص الأخبار» لأبي القاسم محمود الزمخشري المتوفى سنة 538.
وكتاب «زاد الرفاق» لأبي المظفر محمد الأبيوردي المتوفى بأصبهان سنة 557.
و«أبو قماش» لشرف الدين مبارك بن أحمد الإربلي المتوفى سنة 637 في الموصل، جمع فيه من النوادر ما لا يحصى.
وكتاب «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار» لمحيي الدين أبي بكر محمد المعروف بابن العربي، المتوفى بدمشق سنة 638.
وكتاب «العدد والمعدود» تأليف أبي يحيى زكريا المراغي، من علماء النصف الثاني من القرن السادس، فيه مائة باب، ثمانون منها في خمس مقالات، وعشرون منفردة.
و«ريحانة الأدب» لأبي الحسن علي بن موسى الأندلسي المتوفى سنة 673، جمع فيه بين «عيون الأخبار»، و«مستحسنات الأشعار».
وكتاب «تمام المتون إلى شرح رسالة ابن زيدون» التي كتب بها إلى ابن جهور، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764.
و «التذكرة» لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي أيضا، وهي ثلاثون سفرا جمع فيها نوادر الأشعار ولطائف الأبيات نظما ونثرا.
و«ثمرات الأوراق» لابن حجة الحموي، المتوفى سنة 837، وقد طبع منفردا سنة 1300 بالمطبعة الوهبية، وطبع أيضا على هامش «محاضرات الراغب» السابقة.
و«فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء» لشهاب الدين أحمد الدمشقي المعروف بابن عرب شاه المتوفى بالخانقاه الصالحية من القاهرة سنة 854، وقد نحا منحى كتاب «كليلة ودمنة»، وقد طبع بمطبعة بولاق سنة 1276.
و«روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار» لمحيي الدين محمد بن الخطيب، المتوفى سنة 940، قال في أوله: «لما كان علم المحاضرات علما نافعا لا تدرك غايته؛ استخرجت من بحث فوائده على وجه الاختصار ما عثرت عليه في كتب الأدباء.» ا.ه. واسم الكتاب يدل على انتخابه من كتاب الزمخشري.
و«المستطرف في كل فن مستظرف» لشهاب الدين أحمد الإبشيهي، من علماء القرن التاسع، وقد طبع في بولاق سنة 1285.
وكتاب «طراز المجالس» لأحمد بن محمد الخفاجي المتوفى سنة 1069، وله أيضا كتاب «ريحانة الألباء وزهرة الحياة الدنيا»، ذكر فيه من عاصرهم من الشعراء والأدباء في الشام والمغرب وجزيرة العرب ومصر، وقد طبع بمطبعة بولاق سنة 1273.
وكتاب «نفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن»، لأحمد بن محمد الأنصاري اليمني، من علماء النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري.
الباب الثامن
في تاريخ الإنشاء وفيه اربع فصول
الفصل الأول
في تعريف الإنشاء ووجه تعلمه وأنواعه
الإنشاء في اللغة: الشروع والإيجاد والوضع، نقول: أنشأ الغلام يمشي؛ إذا شرع في المشي. وأنشأ الله العالم: أوجدهم. وأنشأ فلان الحديث: وضعه.
وفي اصطلاح الأدباء: هو صناعة النثر، ويعرف بفن الكتابة؛ فهو يقابل قرض الشعر، ويكون سجعا، وموازن الفواصل، ومرسلا.
فالسجع: يكون ذا فقر متحدة فواصلها في الحرف الأخير؛ نحو:
سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة ؛ فإن الفاصلتين «مرفوعة» و«موضوعة» اتحدتا في العين، فإن كانت ألفاظ الفقرة أو أكثرها مثل ما يقابلها من ألفاظ قرينتها وزنا وتقفية كان السجع مرصعا نحو: «يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.»
والموازن: كالسجع لكن فواصله تتحد في الوزن دون الحرف الأخير؛ نحو:
ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة ؛ فإن «مصفوفة» و«مبثوثة» اتحدتا في الوزن دون التقفية؛ إذ الأولى على الفاء والثانية على الثاء ولا عبرة بتاء التأنيث. وإن كانت ألفاظ إحدى القرينتين أو أكثرها مثل ما يقابلها من الأخرى في الوزن كان الموازن مماثلا؛ نحو:
وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم .
والمرسل: ما جاء من غير توخي تقفية أو وزن، وقد جاء بالثلاثة القرآن، وأحسنها المرسل؛ فإنه يمضي مع النفس، وأسرع إلى الأفهام في أداء المعنى، فإن منشئ السجع قد يضطر إلى تقديم لفظ وحقه التأخير، أو الإتيان بلفظ لا يوافق موضعه كي يتيسر له التقفية أو الوزن، وقد يحذف ما تضيق عبارته عنه فيأتي الكلام معقودا ركيكا، فإن جاءت الألفاظ فيهما على ترتيب المعاني بحيث لا يظهر على الكلام غبار التكلف أو القلاقة؛ فقد امتازا عن المرسل بحسن وقعهما في الأسماع، وهما لا يوجدان في غير العربية.
قال ابن خلدون: «السجع هو الكلام الذي يؤتى به قطعا، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، والمرسل هو الذي يطلق الكلام فيه إطلاقا ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الإسجاع والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن، واستمروا على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه، وخصوصا أهل المشرق، وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو على صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب، ويجب أن تنزه هذه المخاطبات عن هذا المنثور المقفى؛ إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف، وضرب الأمثال، وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب.
والمحمود في الخطابات السلطانية الترسل ؛ وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له، أما إجراؤها على هذا النحو الذي هو من أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل وأولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعة، ويغفلون عما سوى ذلك، حتى إنهم يخلون بالإعراب والتصريف في الكلمات إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان مع صحتها.» ا.ه. بتصرف. وأحسن السجع ما تساوت فيه القرائن وقصرت نحو:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر ، ويليه ما طالت فيه القرينة الثانية عن الأولى طولا لا يخرجها عن الاعتدال، وعكسه غير حسن، فإن السمع يكون متوقعا طول الثانية كالأولى، فإذا قصرت نبا عنها ولم يصل إلى غايته المنتظرة.
وعلى من يريد أن يبرع في صناعة الإنشاء أن يتزود من فنون الأدب، لا سيما اللغة والمحاضرات، ثم يطالع بإمعان نظر منشآت من اشتهروا بالبراعة في هذه الصناعة، ثم ينثر أبياتا شعرية أو يدرس فصولا من كتاب ممتاز ك «مقدمة ابن خلدون»، ويلخص هذه الفصول أو يطوي الكتاب ويكتب من تلقاء نفسه ما علق بذهنه منها، أو يأخذ مثلا سائرا ويبني عليه موضوعا واسعا، أو يكتب قصة سمعها أو يصف منظرا رآه، وفي كل هذا يعرض ما كتبه على منشئ ماهر كي يرشده إلى الصواب. وبالجملة هذه الصناعة لا تصير ملكة إلا بالمرانة والدربة.
والإنشاء أنواع: منها الترسل؛ أي إنشاء الرسائل، وتسمى الكتب أيضا. ومنها التحرير؛ أي كتابة دواوين الحكومات وصحف الأخبار المعروفة بالجرائد. ومنها التأليف؛ أي تصنيف كتب العلوم. ومنها القصص؛ أي وضع القصص أو الحكايات. ومنها الخطابة؛ أي وضع الخطب. ومنها الوصف.
الفصل الثاني
في تاريخ الإنشاء
كانت الرسائل تفتح في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين بكتابة: «من فلان إلى فلان»، سواء كانت الكتابة من أعلى إلى أدنى، أو من أدنى إلى أعلى، أو بين متساويين، وقد يسبق ذلك: «بسم الله الرحمن الرحيم» ويليه: «السلام عليك»، أو «السلام على من اتبع الهدى»، وبعد هذا: «أما بعد؛ فإن الأمر كيت وكيت»، أو «أما بعد؛ فإني أحمد إليك الله وإن الأمر كذا وكذا.» وقد يؤخر السلام في آخر الكتاب.
وكانت عبارة الرسائل سهلة لا يتوخى فيها السجع ولا تزيين فيها الألفاظ إلا إذا جاء ذلك عفوا.
ولما أراد عليه الصلاة والسلام أن يكتب للملوك قيل له: يا رسول الله، إنهم لا يقرءون كتابا إلا إذا كان مختوما. فاتخذ
صلى الله عليه وسلم
خاتما من فضة منقوشا عليه ثلاثة أسطر: «محمد» في سطر و«رسول» في الوسط و«الله» فوق ذلك، وصار يختم به كتبه، وقد اتخذ هذا سنة من بعده.
قال ابن عبد ربه في «عقده» ما نصه: «كان رسول الله يكتب إلى الصحابة وأمراء جنوده: من محمد رسول الله إلى فلان. وكذا كانوا يكتبون إليه يبدءون بأنفسهم. فممن كتب إليه وبدأ بنفسه أبو بكر والعلاء بن الحضرمي وغيرهما، وكذلك كتب الصحابة والتابعين. ثم لم تزل حتى ولي الوليد بن عبد الملك فعظم الكتاب وأمر أن لا يكاتبه الناس بمثل ما يكاتب به بعضهم بعضا، فجرت به سنة الوليد إلى يومنا هذا، إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل؛ فإنهما عملا بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد، والقوم عليه إلى اليوم.» ا.ه.
ولما ارتفع شأن الخلافة الإسلامية وبلغت مبلغها من العظمة والفخار واتسع مجال الأدب، اصطلحوا على ديباجات يصدرون بها كتبهم المقدمة إلى ديوان الخلافة أو ما يتبعها؛ فكانوا يكتبون إلى الخليفة في أول الكتاب: «أدام الله بقاء الديوان العزيز، أو خلد سلطانه، أو نحو ذلك» وإلى الملك: «أطال الله بقاء الملك أو خلد الله ملكه أو ما أشبه»، وإلى الأمير: «أعز الله أنصار الجانب الشريف ، أو أعز الله نصره أو نحوه»، وإلى الوزير: «أدام الله سعادة الوزير، أو خلد مجده أو أسبغ عليه نعمه أو ما شاكله»، ويدعون للقضاة والحكام بعز الأحكام وتأييدها، ثم بعد هذا الدعاء كانوا يمدحون المكتوب إليه بعدة أوصاف تليق بمقامه، ثم يدخلون في أغراضهم المقصودة لهم بمثل هذه العبارات الآتية: «العبد أو المملوك يقبل الأرض، أو الأعتاب الشريفة وينهي ما هو كذا وكذا» أو: «الخادم المطيع يقبل الأيدي الكريمة وينهي ...» أو: «صنيعتكم يتشرف بعرض ما هو كيت وكيت»، أو «الداعي ينهي ما هو ...» وبعد بيان الغرض من الرسالة يختمونها بالدعاء، ويؤرخونها إن كانت في أول ليلة من الشهر بكتابة: «كتب لأول ليلة منه، أو لغرته، أو مستهله»، وفي الليلة الثانية: «كتب لليلة الثانية»، وعلى هذا القياس إلى آخر الشهر. ويكتب في الليلة الأخيرة: «لآخر ليلة منه، أو سلخه، أو انسلاخه»، وإن كتب في اليوم الأول يؤرخون بكتابة: «كتب لليلة خلت، أو أول الشهر، أو غرة الشهر»، وفي الثاني: «لليلتين خلتا»، وفي الثالث: «لثلاث خلون أو خلت»، وكذا إلى «عشر ليال خلون أو خلت»، وفي الحادي عشر: «لإحدى عشرة ليلة خلت أو خلون» إلى الرابع عشر فيكتبون: «لأربع عشرة ليلة خلت أو خلون»، وفي الخامس عشر «للنصف من كذا»، وفي السادس عشر: «لأربع عشرة ليلة بقيت أو بقين» إلى التاسع عشر فيكتبون: «لإحدى عشرة ليلة بقيت أو بقين»، وفي العشرين: «لعشر ليال بقين أو بقيت» وهكذا إلى الثامن والعشرين فيكتبون: «لليلتين بقيتا»، وفي التاسع والعشرين: «لليلة بقيت»، وفي اليوم الأخير: «لآخر يوم من كذا أو سلخه أو انسلاخه». فالليل عندهم سابق النهار وأول الشهر أول ليلة يرون فيها الهلال. قال ابن عبد ربه في «عقده»: «لا بد من تاريخ الكتاب؛ لأنه لا يدل على تحقيق الأخبار وقرب عهد الكتاب وبعده إلا بالتاريخ، فإن أردت أن تؤرخ كتابك فانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه، فإن كان ما بقي أكثر من نصف الشهر كتبت لكذا أو كذا ليلة مضت من شهر كذا، وإن كان الباقي أقل من النصف جعلت مكان «مضت» «بقيت». وقد قال بعض الكتاب: «لا تكتب إذا أرخت إلا بما مضى من الشهر؛ لأنه معروف وما بقي منه مجهول».» ا.ه.
وبعد التاريخ يكتبون على الرسائل أسماءهم، أو يطبعون خواتمهم. فإذا عرض الكاتب على الخليفة أو السلطان أو الأمير الرسالة المرفوعة إليه وأمره أن يكتب على حاشيتها بما يفصل في شأنها فما كتبه كانوا يسمونه توقيعا
1
ومثل هذا في عصرنا يسمى شرحا.
قال ابن خلدون: «ومن خطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله، ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه، فإما أن تصدر كذلك وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة.» ا.ه.
وقال أيضا: «إن الرسائل وغيرها في سالف العصر إلى عهد خلافة بني العباس كانت تكتب في الرق المهيأ بالصناعة من الجلد، ثم طمى بحر التأليف والتدوين وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك؛ فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد، وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت.» ا.ه.
وقال في موضع آخر: «وكانت صناعة الكتابة عند بني العباس رفيعة، وكان الكاتب يصدر السجلات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه، ويختم عليها بخاتم السلطان؛ وهو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته، يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمى طين الختم، ويطبع به على طرفي السجل عند طيه وإلصاقه، ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان ويضع الكاتب فيها علامته أولا وآخرا.» ا.ه. وقال أيضا: «وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية، والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أراد أن يكتب إلى قيصر، فقيل له: إن العجم لا يقبلون كتابا إلا أن يكون مختوما. فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه «محمد رسول الله». قال البخاري: جعل الثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به، وقال: لا ينقش أحد مثله. قال: وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان، ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس، وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد، واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله.
وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه؛ وذلك أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الإصبع، ومنه: تختم؛ إذا لبسه. ويطلق على النهاية والتمام، ومنه: ختمت الأمر؛ إذا بلغت آخره، وختمت القرآن كذلك. ومنه: خاتم النبيين، وخاتم الأمر. ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان ويقال فيه ختام، ومنه قوله تعالى:
ختامه مسك ، وقد غلط من فسر هذا بالنهاية والتمام، قال: لأن آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك، وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السداد؛ لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها، فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك، وهو أطيب عرفا وذوقا من القار والطين المعهودين في الدنيا. فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها؛ وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مداف من الطين أو مداد ووقع على صفح القرطاس بقي أثر الكلمات في ذلك الصفح، وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسما فيه. وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى، وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى؛ لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح عما كان في النقش من يمين أو يسار، فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتنقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام، بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه، كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام ...»
وأما الرسائل التي كانت سائرة بينهم فكانوا يبتدئونها بما يعن لهم مع مراعاة حال المكتوب إليه، فبعضهم كان يبتدئ بنحو: «كتابي إلى فلان أطال الله بقاءه»، أو: «كتابي إلى ولدي العزيز أمتع الله به»، أو: «إلى فلان التاجر أدام الله إقباله»، ثم يقول: «وبعد؛ فكيت وكيت»، ثم ينهي الرسالة بقوله: «والسلام». وبعضهم كان يبتدئ بالسلام والتحية ويبالغ في وصفها، ثم يقول: «نخص بذلك فلان» ويمدحه ويدعو له ثم يقول: «وبعد؛ فالأمر ما هو كذا وكذا»، ثم يتم الكتاب بما يشعر بالانتهاء، ويؤرخون الرسائل ويوقعون عليها كما سبق.
وكانوا يتوخون في هذه الرسائل السجع وتحسين الألفاظ، لكن بعضهم كان يطنب في صدور الكتب ويبالغ في مدح المكتوب إليه ويوجز في الغرض المقصود، وهذا غير حسن في زماننا؛ ولهذا اختاروا الآن في صدور الكتب الرسمية والأهلية ديباجات مختصرة يتلوها الغرض المقصود.
أما الكتب الرسمية في مصر - وإن شئت قلت: الرسائل بين موظفي الحكومة أو كما يقولون الإفادات أو الجوابات - فديباجاتها عربية مشوبة بالتركية، مع أن عبارات الرسائل نفسها عربية محضة، فيكتبون:
لجلالة السلطان:
شوكتلو ولي النعم أفندمز حضرتلريناه.
وللحضرة الفخيمة الخديوية:
دولتلو فخامتلو خديو مصر أفندمز حضرتلري.
وللصدر الأعظم:
دولتلو فخامتلو صدر أعظم أفندم حضرتلري.
ولشيخ الإسلام:
دولتلو سماحتلو أفندم حضرتلري.
وللسر عسكر:
دولتلو عطوفتلو أفندم حضرتلري.
وللمشير:
دولتلو أفندم حضرتلري.
ولذي الرتبة الأولى من الصنف الأول:
عطوفتلو أفندم حضرتلري.
ولذي الرتبة الأولى من الصنف الثاني:
سعادتلو أفندم حضرتلري.
ولذي الرتبة الثانية من الصنف الأول:
عزتلو أفندم.
ولذي الرتبة الثانية من الصنف الثاني:
عزتلو أفندي أو بك.
ولذي الرتبة الثالثة:
رفعتلو أفندي أو بك.
ولذي الرتبة الرابعة:
فتوتلو أفندي.
ولذي الرتبة الخامسة:
حميتلو أفندي.
وجاء هذا من دخول مصر في حوزة الأتراك. ويمكن الاصطلاح على ديباجات عربية خالصة توازي هذه، وقد أخذ بعض الناس في ذلك الآن فكتبوا بدل «دولتلو فخامتلو» صاحب الدولة والفخامة، وبدل «أفندمز» مولانا وغير ذلك .
وبعد هذه الديباجات يدخلون على المقاصد بعبارات وجيزة تليق بالمكتوب إليه مثل: «يرفع هذا للسدة الكريمة العبد الخاضع فلان وينهي ...» أو: «أتشرف برفع هذا للمقام العالي وأنهي ...» أو: «أعرض على مسامع دولتكم ما هو ...» أو: «أحيط عطوفتكم علما بما هو ...» أو: «أقدم هذا لسعادتكم راجيا كذا» أو: «ألتمس من عزتكم كيت وكيت» أو: «أبدي لحضرتكم كذا» وعلامة الانتهاء كلمة «أفندم».
ويؤرخونها بالتاريخ العربي والإفرنجي معا، ويضعونه أسفل الرسالة. والمستعمل الآن في التاريخ أن يكتب عدد ما مضى من أيام الشهر بالرقم وبعده اسم الشهر ثم اسم السنة، وفوقها ما يدل عليها من الأرقام، فيكتب مثلا: «25 شعبان سنة 1314».
ثم يكتبون أسماء وظائفهم ويختمون تحتها. وإن اقتصر المرسل على كتابة الاسم سموا ذلك إمضاء، ويسمون آلة طبع الاسم ختما لا خاتما.
وإن كانت الرسائل الرسمية جوابا عن أخرى ابتدءوها بعد الديباجات بنحو: «طبقا للأمر الصادر في كذا نمرة كذا أو أمر دولتكم» أو: «بناء على أمر عطوفتكم أو سعادتكم» أو: «بناء على ما ورد إلينا من عزتكم» أو: «حيث إن حضرتكم طلبتم كذا».
وأما الرسائل الأهلية الآن فيكتبون في صدورها مثل: «حضرة الفاضل أو الكامل أو الأديب أو المحترم أو العزيز أو الأخ أو صديقنا أو السيد فلان دام بقاؤه أو لا زال ملحوظا بعين العناية أو نحو ذلك». وقد يجمع الكاتب بين وصفين أو ثلاثة، ثم بعد ذلك يذكرون عبارات تفيد إهداء التحية والسلام إلى المكتوب إليه، ثم يدخلون في الأغراض ويتممون الكتاب بنحو: «اقبلوا فائق احترامي، والسلام». ويؤرخونها بالتاريخ العربي أو الإفرنجي، وبعضهم يكتبه أسفل الرسالة وبعضهم يكتبه أعلاها كعادة الإفرنج، ويمضونها بكتابة: «عبدكم فلان أو الخاضع المطيع أو محسوبكم أو صديقكم أو المحب المخلص أو والدكم أو أخوكم أو الفقير إليه تعالى أو الحقير أو نحو ذلك». ومع هذا قد مال أغلب الناس إلى ترك مثل هذا واقتصروا على كتابة الاسم مجردا أو ختمه.
وبعد إنهاء الرسالة رسمية أو أهلية توضع في غلاف يسمى «ظرفا» مصنوعا على صورتها بعد طيها، وأطراف الظروف مصمغة فتبل ويلصق بعضها ببعض، ويكتب عليه عنوان المكتوب إليه، وهو الديباجة المصدرة بها الرسالة.
وعبارة الرسائل الرسمية والأهلية سهلة لا يتوخى فيها السجع، إلا أن أدباء عصرنا يحذون في رسائلهم حذو أدباء السلف ليظهروا فضل أدبهم.
ومن أشهر ما كتب في الرسائل: رسائل أبي الفضل أحمد بن الحسين المعروف ببديع الزمان الهمذاني، المتوفى سنة 393، وقد طبعت بمطبعة الجوائب سنة 1298، وقد كتب عليها شرحا مفيدا الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي، وطبع هذا الشرح سنة 1890 للميلاد في بيروت. ورسائل أبي بكر الخوارزمي، وكان معاصرا للبديع، وقد طبعت بمطبعة الجوائب سنة 1297. ورسالة أبي الوليد أحمد المعروف بابن زيدون الأندلسي المتوفى بإشبيلية سنة 463، وقد أنشأها على لسان ولادة بنت المستكفي في هجاء الوزير أبي عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وعليها شرح جليل لأبي بكر محمد بن نباتة المتوفى سنة 768 يعرف ب «سرح العيون».
ومما ساعد على تقدم صناعة الإنشاء في عصرنا هذا (سنة 1314 للهجرة) صحف الأخبار الحاضرة المعروفة بالجرائد، وإنشاؤها في الجملة مرسل حسن يفهمه العوام ويرضاه الخواص. وأقدم الجرائد العربية المنتشرة الآن في مصر الجريدة الرسمية المعروفة ب «الوقائع المصرية»؛ فإن إنشاءها كان منذ ست وستين سنة في عهد المغفور له محمد علي باشا، ثم جريدة «الأهرام» التي أنشئت من نحو 22 سنة وصاحبها الفاضل «تقلا باشا»، ثم جريدة «الوطن» ومحررها الفاضل «ميخائيل أفندي عبد السيد»، وكلتاهما ظهرت في عهد المغفور له إسماعيل باشا خديو مصر، ثم جريدة «المقطم» التي أنشئت منذ تسع سنين، ومنشئوها الأفاضل: يعقوب أفندي صروف وفارس أفندي نمر وجاهين أفندي مكاريوس، ثم جريدة «المؤيد» وصاحبها الفاضل الشيخ علي يوسف وعمرها نحو ثماني سنين، وكلتاهما ظهرت في عهد المغفور له محمد باشا توفيق خديو مصر.
وأما كتب العلوم فسير التأليف فيها لم يتغير عما كان عليه في العصر السالف، اللهم إلا من جهة حسن الوضع والترتيب والتقريب إلى الأذهان. ومن عاداتهم أن يبتدئوها بخطب مفتتحة بالبسملة والحمدلة والصلاة والتسليم، ثم يقولون: وبعد؛ فكذا وكذا، ويبينون الغرض من تأليف الكتاب، وقد يذكرون فيه اسم الخليفة أو الملك أو الأمير الذي ألف في عصره هذا الكتاب. وبعض معاصرينا لا يستحسنون ذلك وفاتهم أن هذا مفيد في تاريخ العلوم. وفي هذه الخطب المؤلفون يظهرون براعتهم في الإنشاء، ويتوخون فيها تهذيب الكلام وتحسينه بأنواع البديع كبراعة الاستهلال والسجع والجناس، ولهذا أفرد العلماء بعض خطب المصنفات بالشروح.
وأما القصص فمنها ما له خارج يطابقه فيكون من علم التاريخ، ومنها ما هو حكايات مخترعة وضعت لتسلية النفوس وقت الفراغ ككتاب «ألف ليلة وليلة»، وهذا النوع يعرف الآن بالروايات، وقد أكثر من التصنيف فيه معاصرونا اقتداء بالإفرنج، فإنهم في هذا الفن قد حازوا قصبات السبق.
ومن الحكايات الموضوعة «المقامات الأدبية» التي قصد بها منشئوها جمع مواد لغوية في حكايات لطيفة حسنة الأسلوب، يرغب فيها طالب الأدب ويسهل عليه حفظها ويتعرف منها أساليب الإنشاء، ك «مقامات أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني» المعروف ببديع الزمان المتوفى سنة 393، نسب روايتها إلى عيسى بن هشام، ومبنى حديثها إلى أبي الفتح الإسكندري وكلاهما اخترعه وهمه وخياله. وقد طبعت هذه المقامات سنة 1293 بمطبعة الجوائب، وهي إحدى وخمسون مقامة، وقد شرحها شرحا لطيفا الفاضل الشيخ محمد عبده، وقد طبع هذا الشرح في بيروت سنة 1889 للميلاد.
و«مقامات أبي محمد القاسم بن علي الحريري البصري» المتوفى سنة 516 بالبصرة، قال في خطبتها: «وبعد؛ فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان وعلامة همذان - رحمه الله - وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها وكلاهما مجهول لا يعرف ونكرة لا تتعرف، فأشار من إشارته حكم وطاعته غنم إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع ...» إلى أن قال: «وأنشأت خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية والأحاجي النحوية والفتاوي اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري ...» إلى أن قال: «ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات أو أثم رواتها في وقت من الأوقات ... فأي حرج على من أنشأ ملحا للتنبيه لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب؟! وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم أو هدي إلى صراط مستقيم؟!» ا.ه. وقد طبعت في بولاق سنة 1300 للهجرة، وكثير من طلاب الأدب يحفظونها أو بعضها. وقد علق الأدباء عليها شروحا كثيرة من أشهرها الشروح الثلاثة لأبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي المتوفى سنة 619، وقد طبع منها: «الشرح الكبير» في سفرين بمطبعة بولاق سنة 1300.
و«مقامات جمال الدين أبي الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي» المعروف بابن الإشتركوني المتوفى سنة 538، وهي خمسون مقامة أنشأها بقرطبة على منوال «مقامات الحريري»، والتزم فيها ما لا يلزم؛ ولذا تعرف ب «المقامات اللزومية»، وحدث فيها المنذر بن حمام عن السائب بن تمام.
و«المقامات الزينبية» لشمس الدين أبي الندى معد ابن أبي الفتح المعروف بابن صيقل الجزري المتوفى سنة 701، وهي خمسون مقامة على منوال «مقامات الحريري»، نسبها إلى أبي نصر المصري وعزا روايتها إلى القاسم بن جربال الدمشقي. و«مجمع البحرين» وهو ستون مقامة على منوال «مقامات الحريري»، أنشأها الشيخ ناصيف اليازجي المتوفى سنة 1287، وقد طبعت ببيروت سنة 1856 وسنة 1872 للميلاد.
وفي كتابي «قلائد الذهب في فصيح لغة العرب» أنشأت في ألفاظ مادة «جلل» مقامة على منوال «مقامات الحريري»، التزمت في كل سجعة منها أن آتي بكلمة من هذه المادة وتعرف ب «المقامة الجلالية»، وسيأتي ذكرها في الفصل الثالث.
وأما الخطب فلا تزال أحوال الناس في كل عصر تدعو إلى قيام نبلائهم ليخطبوا فيهم بما يقوم معوجهم أو يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم أو يعظهم الموعظة الحسنة أو يستفزهم إلى خير أو يثبطهم عن ضير أو نحو ذلك. وكان الخطباء في العصر السالف يخطبون ارتجالا في الأحوال القائمة بينهم، وقبل الإسلام كانت لهم أسواق يلقون فيها الخطب، وبعده كانوا يلقونها في المحافل والمساجد. وفي عصرنا هذا الخطب الدينية مدونة يحفظها الخطباء ويلقونها كما هي أيام الجمع على المصلين وقت الظهر، وهذه الخطب تسمى ب «المنبرية»؛ لأنهم يلقونها وهم على المنابر. وكثير من العلماء صنف لكل جمعة من كل شهر خطبة خاصة بها، ومصنفات الخطب تعرف ب «الدواوين»، فإذا اتبع خطيب مسجد ديوان خطب خاص؛ تكررت الخطبة الواحدة قدر سني الخطابة.
هذا، وقد جمع السيد المرتضى أبو القاسم على بن الطاهر المتوفى سنة 436 ببغداد المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخطب والرسائل والحكم في كتاب سماه «نهج البلاغة» قال في خطبته: «وقد رأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة؛ أولها: الخطب والأوامر، وثانيها: الكتب والرسائل، وثالثها: الحكم والمواعظ.» وعلى هذا النهج شرح لطيف للقاضي الفاضل الشيخ محمد عبده، طبع في بيروت سنة 1885 للميلاد.
ولأبي يحيى عبد الرحيم المعروف بابن نباتة خطيب حلب المتوفى سنة 374 بميافارقين «ديوان خطب أدبية» عليه شروح كثيرة، منها شرح لعبد اللطيف البغدادي المتوفى سنة 629، ومنها شرح الشيخ طاهر أفندي الجزائري، من أفاضل هذا العصر، وقد طبع هذا الشرح مع الخطب في بيروت سنة 1311. وابن نباتة هذا اجتمع مع المتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان.
وينخرط في سلك الخطب مقالات الزمخشري المعروفة ب «أطواق الذهب في المواعظ والخطب»، طبعت في بيروت في مطبعة جمعية الفنون سنة 1293، وعليها شرح لطيف للشيخ الفاضل يوسف أفندي الأسير. و«مقامات الزمخشري» الوعظية، وقد طبعت بالمطبعة العباسية بمصر سنة 1312، وعليها شرح له. و«مقالات عبد المؤمن» المغربي الأصفهاني المعروفة ب «أطباق الذهب»، قد سلك فيها مسلك الزمخشري في «أطواقه»، وقد طبعت بدار الطباعة ببولاق سنة 1280 للهجرة.
ومن دواوين الخطب المنبرية ديوان شيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926، ويسمى ب «التحفة العلية في الخطب المنبرية». وديوان الشيخ إبراهيم السقا الأزهري، المتوفى سنة 1298، ويسمى «غاية الأمنية في الخطب المنبرية». وديوان الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل المكتبة الخديوية، وقد طبع هذه السنة (سنة 1314) بمطبعة بولاق.
وأما الوصف فطريقة كتابة السلف والخلف فيه كطريقتهم في غيره من حيث ابتكار المعاني وحسنها وتسجيع الكلام وإرساله، إلا أن تجدد المرثيات المبتدعة مع العصور المتوالية والأمكنة المختلفة جعلت صور الإنشاء فيها بديعة الآن عما كانت عليه قبل، فالحضارة والإقليم لهما تأثير عظيم على الوصف الكتابي كتأثيرهما على الشعر، وهذا النوع من أهم أنواع الإنشاء، وفيه تتفاوت أقدار المنشئين، وقد عني به الإفرنج كثيرا تبعا لمدنيتهم.
الفصل الثالث
في شذرات من منشآت السلف والخلف
خطب أبو طالب في محفل زواج النبي
صلى الله عليه وسلم
بخديجة بنت خويلد فقال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا أمناء بيته وسواس حرمه، وجعلنا حكاما على الناس. وإن ابن أخي محمد بن عبد الله من علمتم قرابته، وهو لا يوزن به أحد إلا رجح به، فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل.»
وكتب عليه الصلاة والسلام إلى خالد بن الوليد جوابا عن كتابه له بإسلام بني الحارث وقد أرسل إليهم، وهو: «من محمد رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبرني بأن بني الحارث قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.»
رسالة معزوة إلى أبي بكر وعمر بعثا بها كما قيل إلى علي: روي عن أبي عبيدة أنه قال:
لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار ولحظ بعين الهيبة والوقار، وإن كان لم يزل كذلك بعد هنة كاده الشيطان بها، فدفع الله - عز وجل - شرها ورحض عرها ويسر خيرها وأزاح ضيرها ورد كيدها وقسم ظهر النفاق والفسوق من أهلها؛ بلغ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - تلكؤ وشماس، وتهمهم ونفاس، وكره أن يتمادى الحال وتبدو العداوة وتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة لجاهل مغرور، أو عاقل ذي دهاء، أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان، دعاني فحضرته وعنده عمر بن الخطاب وحده، وكان يدمل أرضه بالسرجين، وكان عمر قبسا له ظهيرا معه يستضيء برأيه، ويستملي على لسانه. فقال لي: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك وعارضيك، ولقد كنت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمكان المحوط والمحل المغبوط، ولقد قال فيك في يوم مشهود: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة.» وطالما أعز الله بك الإسلام، وأصلح فساده على يديك، ولم تزل للدين ملجأ، وللمؤمنين دوحا، ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا، قد أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف، ولئن لم يندمل جرحه بمسبرك ولم تستجب حيته لرقيتك، فقد وقع اليأس وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر من ذلك وأعلق، وأعسر منه وأغلق. والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك، فتأن له يا أبا عبيدة، وتلطف فيه، وانصح لله تعالى ولرسوله
صلى الله عليه وسلم
ولهذه العصابة غير آل جهدا، ولا قال جدا، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك، وبه الحول والتوفيق. امض إلى علي واخفض جناحك له، واغضض من صوتك عنده، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن قد فقدناه بالأمس
صلى الله عليه وسلم
مكانه، وقل له:
البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف، والليل أغلف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق رءوف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والعجب قادح الشرار، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقعة ثقوب العداوة، وهذا الشيطان متكئ على شماله متحبل بيمينه، نافج حضنيه لأهله ينتظر الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة عنادا لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ، ولدينه ثالبا، يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور، ويمني أهل الشرور، ويوحي إلى أوليائه بالباطل والزور، دأبا له مذ كان على عهد أبينا آدم
صلى الله عليه وسلم ، وعادة منه منذ أهانه الله - عز وجل - في سالف الدهر، لا ينجى منه إلا بعض النواجذ على الحق، وغض الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله وعدو الدين بالأشد فالأشد، والأحد فالأحد، وإسلام النفس لله - عز وجل - فيما حاز رضاه، وجنب سخطه.
ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت، وخيف غبه، ولقد أرشدك من أفاء ضالتك، وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقاء معك.
ما هذا الذي تسول لك نفسك؟ ويدوى به قلبك؟ ويلتوي به عليك رأيك؟ ويتخاوص دونه طرفك؟ ويسري فيه ظعنك؟ ويتراد معه نفسك؟ وتكثر معه صعداؤك ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله عز وجل؟ أخلق غير خلق القرآن؟ أهدى غير هدى النبي
صلى الله عليه وسلم ؟ أمثلي يدب له الضراء؟ أو يمشي إليه الخمر؟ أم مثلك ينقبض عليه الفضاء أو يكسف في عينه القمر؟ ما هذه القعقعة بالشنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك جد عارف باستجابتنا لله - عز وجل - ولرسوله - عليه السلام - وخروجنا من أوطاننا وأموالنا وأولادنا هجرة إلى الله تعالى عز ذكره، ولنصرة نبيه
صلى الله عليه وسلم
في زمان أنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة، غافل عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدى بك، وعندها حط رحلك غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل، ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي، ونقاسى أهوالا تشيب النواصى، خائضين غمارها راكبين تيارها نتجرع صابها، ونشرج عيابها، ونسوغ عبابها، ونحكم أساسها ونبرم أمراسها، والعيون تحدج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، ولا ننتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر لنا إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ إلى شيء إلا بعد جرع الغصص معه، ولا نقوم منآدا إلا بعد اليأس من الحياة عنده، فادين في كل ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالأب والام، والخال والعم، والنشب، والسبد واللبد، والهلة والبلة، بطيب نفس وقرور عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن، هذا إلى خفيات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلا، ولولا حداثة سنك لم تكن عنها ناكلا. كيف وفؤادك مشهوم، وعودك معجوم، وغيبك مخبور، والقول فيك كثير؟ والآن قد بلغ الله بك، وأرهص الخير لك، وجعل مرادك بين يديك. وعن علم أقول ما تسمع، فارتقب زمانك وقلص إليه أردانك، ودع التجسس والتعسس لمن لا يضلع إليك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا، فالأمر غض، والنفوس فيها مض، وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا. والله لقد سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن هذا الأمر، فقال لي: «يا أبا بكر، هو لمن يرغب عنه، لا لمن يرغب فيه ويجاحش عليه، ولمن تضاءل له لا لمن ينتفخ إليه، ولمن يقول: هو لك، لا لمن يقول: هو لي.»
والله لقد شاورني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الصهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت: أين أنت من علي؟ فقال: «إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنه.» فقلت له: متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة، وسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خطبت به عنك ورغبته فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء ولا لوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك، وكنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي، ولئن كان عرض بك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقد كنى عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك. وإن يختلج في نفسك شيء فهلم فالحكم مرضي، والصواب مسموع، والحق مطاع، ولقد نقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى ما عند الله - عز وجل - وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حدب، يسره ما يسرها ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها ويسخطه ما أسخطها. ألم تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وخلطائه وأقاربه وشجرائه إلا أبانه بفضيلة، وخصه بمكرمة، وأفرده بخلالة لو أصفقت الأمة عليه لكان عنده إبالتها وكفالتها وكرامتها وغزارتها، أتظن أنه
صلى الله عليه وسلم
ترك الأمة نشرا سدى بددا عدى عباهل مباهل طلاحا مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق، لا ذائد ولا حائط ولا ساقي ولا واقي ولا هادي ولا حادي؟! كلا والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه حتى ضرب الصوى، وأوضح الهدى، وأمن المهالك والمطاوح، وسهل المبارك والمهايع، وشدخ يافوخ الشرك بإذن الله عز وجل، وشرم وجه النفاق لوجه الله تعالى جده، وجدع أنف الفتنة في ذات الله تبارك اسمه، وتفل في وجه الشيطان بعون الله جل ذكره، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل.
وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك في دار واحدة، وبقعة جامعة، إن استقالوني لك وأشاروا عندي بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالهم، والرادع لغاويهم، فقد أمر الله بالتعاون على البر، وأهاب إلى التناصر على الحق، ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل، ونلقى الله عز وجل بقلوب سليمة من الضغن.
وبعد، فالناس ثمامة فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيدا، وطائر الشر واقعا، وباب الفتنة غلقا، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تبيع، والله - عز وجل - على ما نقول وكيل، وبما نحن عليه بصير.
قال أبو عبيدة: فلما تهيأت للنهوض، قال لي عمر: كن لدى الباب هنيهة فلي معك نصيب من القول، فوقفت ولا أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا، وقال: قل لعلي:
الرقاد محلمة، واللجاج ملحمة، والهوى مفحمة، وما منا أحد إلا وله مقام معلوم، وحق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم، وإن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفا، وقارب البعيد تلطفا، ووزن كل امرئ بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره، ولا خيره مكان شره، ولا خير في معرفة مشوبة بنكرة، ولا في علم معتمل في جهل، ولسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان وبين الذنب، وكل صال فبناره، وكل سبيل فإلى قراره. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشي، وكلامها اليوم لفتق أو رتق، فقد جدع الله بمحمد
صلى الله عليه وسلم
أنف كل ذي كبر، وقصم ظهر كل جبار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟ وما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك؟ وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك، والقذاة التي أعشت ناظرك؟ وما هذا الدخس والدس اللذان يدلان على ضيق الباع، وخور الطباع؟ وما هذا الذي لبست بسببه جلدة النمر؟ واشتملت عليه بالشحناء والنكر، لشد ما استسعيت إليها، وسريت سرى ابن أنقد إليها. إن العوان لا تعلم الخمرة، وإن الحصان لا تكلم خبرة، وما أحوج الفرعاء إلى فال، وما أفقر الصلعاء إلى حال! لقد خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والأمر محبس، ليس لأحد فيه ملمس ... ولم يسير فيك قولا، ولم يستنزل فيك قرآنا، ولم يجزم في شأنك حكما، ولسنا في كسروية كسرى، ولا قيصرية قيصر، إنما ذلك لأخدان فارس، وأبناء الأصفر، قوم جعلهم الله جزرا لسيوفنا، وخرزا لرماحنا، ومرمى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا، بل نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الفتق والرتق ، لها من الله عز وجل قلب أبي، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين باصرة. أتظن أن أبا بكر الصديق وثب على هذا الأمر، مفتاتا على هذه الأمة خادعا لها، متسلطا عليها؟! أتراه امتلخ أحلامها، وأزاغ أبصارها، وحل عقدها، وأحال عقولها، واستل من صدورها حميتها، وانتزع من أكبادها عصبيتها، ونكث رشاءها، وأنضب ماءها، وأضلها عن هداها، وساقها إلى رداها، وجعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا، ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا؟ إن كان هكذا إن سحره لمبين، وإن كيده لمتين! كلا والله بأي خيل ورجل، وبأي سنان ونصل، وبأي قوة ومنة، وبأي ذخر وعدة، وبأي أيد وشدة، وبأي عشيرة وأسرة، وبأي تدرع وبسطة؟! لقد أصبح عندك بما وسمته منيع العقبة، رفيع العتبة. لا والله ولكن سلا عنها؛ فولهت إليه، وتطامن لها؛ فلصقت به، ومال عنها، فمالت إليه، واشتمل دونها؛ فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلغه الله إياها، ونعمة سربله الله جمالها، ويد أوجب عليه شكرها، وأمة نظر الله به لها، ولطالما حلقت فوقه في أيام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو لا يلتفت لفتها، ولا يرتصد وقتها، والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة.
وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقك فيما أتاك ربك، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمس من قربك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة لها عرق من الجاهلية، وفرع في الإسلام والشريعة، ومواقف ليس لك فيها من جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة، ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هبع، فإن عذرت نفسك فيما تهدر به شقشقتك من صاغيتك، فاعذرنا فيما تسمع منا في لين وسكون، مما لا تبعده منه، ولا تناضله عليه. ولئن حدثت بهذا نفسك، ليتنخشن عليك ما ينسيك الأولى، ويلهيك عن الأخرى، ولو علم من عرضنا به ما في أنفسنا له وعليه؛ لما سكت، ولاتخذت أنت وليجة إلى بعض الأرب. فأما أبو بكر الصديق فلم يزل حبة سويداء قلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وعلاقة همه، وعيبة سره، ومثوى حزنه، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه، وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدلالة عليه، ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قرابة، لكنه أقرب قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة روح ونفس، وهذا فرق قد عرفه المؤمنون، وكذلك صاروا أجمعين، ومهما شككت فيه فلا تشك أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع لك غدا، والفظ من فيك ما تعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن نفاثك، فإن يكن في الأمد طول، وفي الأجل فسحة فستأكله مريا أو غير مري، وستشربه هنيا أو غير هني، حين لا راد لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك، يمض إهابك، ويفري قادمتك، ويزري على هديك، هناك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك، ودرج من قومك، فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها، ورددت للحال التي استبريتها. ولله تعالى فينا أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجو لضرائها وسرائها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.
قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فمشيت متزملا أتوجى كأنما أخطو على أم رأسي؛ فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمة، حتى وصلت إلى علي - رضي الله تعالى عنه - في خلاء، فأبثثته بثي كله، وبرئت إليه منه ورفقت به، فلما سمعها ووعاها، وسرت في أوصاله حمياها، قال: حلت معلوطة، وولت مخروطة، حل لا حليت التعس أدنى لها من أن أقول لعا:
إحدى لياليك فهيسي هيسي
لا تنعمي الليلة بالتعريس
نعم يا أبا عبيدة، أكل هذا في أنفس القوم، يحتبون عليه ويضطبعون به؟
قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندي، إنما أنا قاض حق الدين، وراتق فتق الإسلام، وساد ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي ، وقرارة نفسي.
قال علي رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدا للخلافة، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما وقذني به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بفراقه، وأودعني من الحزن بفقده، وذلك أني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد لي حزنا، وذكرني شجوا، وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق منه، رجاء ثواب معد لمن أخلص عمله وسلم لعلمه ومشيئة ربه. على أني ما علمت أن التظاهر علي واقع، ولا عن الحق الذي سبق إلي دافع، وإذا قد أفعم الوادي بي، وحشد النادي من أجلي، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين، وفي النفس كلام لولا سابق قول، وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، وخضت لجته بأخمصي ومفرقي، لكني ملجم إلى أن ألقى الله عز وجل، وعنده أحتسب ما نزل بي. وأنا غاد إلى جماعتكم، ومبايع لصاحبكم، وصابر على ما ساءني وسركم؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وكان الله على كل شيء شهيدا.
قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - فنصصت القول على غره، ولم أختزل شيئا من حلوه ومره، وذكرت غدوه إلى المسجد. فلما كان صباح يومئذ وافى علي، فخرق إلى أبي بكر فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زميتا، واستأذن للقيام ونهض، فشيعه عمر؛ تكرمة له واستئثارا لما عنده، فقال له علي: ما قعدت عن صاحبكم كارها له، ولا أتيته فرقا منه، وإنما أقول ما أقول لعلة، وإنى لأعرف مسمى طرفي، ومخطى قدمي، ومنزع قوسي، وموقع سهمي، ولكني قد أزمت على فأسي؛ ثقة بالله في الإبالة في الدنيا والآخرة.
فقال له عمر رضي الله عنه: كفكف غربك، واستوقف سربك، ودع العصا بلحائها، والدلاء برشائها، فإنا من خلفها وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن جرحنا أدمينا، وإن نصحنا أربينا، ولقد سمعت أماثيلك التي لغوت بها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إذا سمعته ندمت على ما قلته ، زعمت أنك قعدت في كسر بيتك؛ لما وقذك به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بفراقه، أفراق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقذك وحدك ولم يقذ سواك؟! بل مصابه أعظم وأعز من ذلك، فإن من حق مصابه ألا يصدع شمل الجماعة بكلمة لا عصام لها، ولا يزرى على أخيارها بما لا يؤمن كيد الشيطان في عقباها. هذه العرب حولنا والله لو تداعت علينا في مصبح يوم لم نلتق في ممساه. وزعمت أن الشوق بك إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره، فمن الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أولياء الله تعالى جده، ومعاونتهم فيه. وزعمت أنك عكفت على عهد الله عز وجل؛ تجمع ما تبدد منه، فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده، والرقة على خلقه، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون إليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر عليك واقع، ولك عن الحق الذي سبق إليك دافع! فأي تظاهر وقع عليك، وأي حق لك ليط دونك، وقد علمت ما قالت الأنصار لك بالأمس سرا وجهرا، وما تقلبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرتك أو أشارت بك، أو وجدنا رضاها عنك؟! هؤلاء المهاجرون، من الذي قال بلسانه تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم في نفسه؟! أتظن أن الناس قد ضلوا من أجلك وعادوا كفارا زهدا فيك، وباعوا الله عز وجل ورسوله
صلى الله عليه وسلم ؛ تحاملا عليك؟! لا والله، ولكنك اعتزلت تنتظر الوحي، وتتوكف مناجاة الملك لك، ذاك أمر طواه الله عز وجل بعد محمد
صلى الله عليه وسلم ، أكان الأمر معقودا بأنشوطة، أو مشدودا بأطراف ليطة؟! كلا والله، إن الغيابة لمحلقة، وإن الشجرة لمورقة، ولا عجماء بعد حمد الله إلا وقد فصحت، ولا عجفاء إلا وقد سمنت، ولا بلهاء إلا وقد فطنت، ولا شوكاء إلا وقد نقحت، ومن أعجب شأنك قولك: لولا سابق قول وسالف عهد لشفيت غيظي! وهل ترك الدين لأحد من أهله أن يشفي غيظه بيده ولسانه ، تلك جاهلية قد استأصل الله شأفتها، ودفع عن الناس آفتها ، واقتلع جرثومتها، وهور ليلها، وغور سيلها، وأبدل منها الروح والريحان، والهدى والبرهان، وزعمت أنك ملجم، فلعمري إن من اتقى الله عز وجل، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراءه.
قال علي رضي الله عنه: والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت بما أقررت وأنا أريد حولا عنه، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشقاق، وبالله سلوة من كل كارث، وعليه التوكل في جميع الحوادث، ارجع يا أبا حفص ناقع القلب، فسيح البال، مبرود الغليل، فصيح اللسان فليس وراء ما سمعته وقلته إلا ما يشد الأزر ويحط الوزر ويضع الإصر، ويجمع الألفة ويرفع الكلفة ويوقع الزلفة، بمعونة الله عز وجل، وحسن توفيقه.
وخطب عمر بن الخطاب، فقال: «أيها الناس، اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضعه يخرقه، فنظر إليه أصحابه فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم عليه، فإن أخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا معه، وهذا مثل ضربته لكم، رحمنا الله وإياكم.»
وكتب إلى أبي موسى الأشعري: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف من جورك. والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم عند ما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة النبي
صلى الله عليه وسلم . اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل للمدعي حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى وأبلغ في العذر. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة، فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالشبهات. ثم إياك والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن به الذخر! فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله - تبارك وتعالى - ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره وأبدى فعله، والسلام عليك.»
ووقع في أسفل كتاب كتبه إليه سعد بن أبي وقاص في بنيان يبنيه بما صورته: «ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر.»
وكتب عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب وكان خرج إلى الينبع وقد أحاط الناس بعثمان: «أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، وطمع في كل من كان يضعف عن نفسه، ولم يغلبك مثل مغلب فأقبل إلي صديقا أو عدوا:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
وإلا فأدركني ولما أمزق!»
وخطب علي بن أبي طالب - عليه السلام - لما خاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة بعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم
خطبة، منها: «أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا عن تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتنى الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت! هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة.»
وكتب للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها عهدا يجمع كثيرا من المحاسن، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها؛ أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله - سبحانه - بقلبه ويده ولسانه؛ فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه، وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات، ويزعها عند الجمحات؛ فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله.
ثم اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك؛ فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه؛ فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله؛ فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع؛ فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير، فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك؛ فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.
وإياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته؛ فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك؛ فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم؛ فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية؛ فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء؛ العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم، وميلك معهم. وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس؛ فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت؛ يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع؛ فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين، ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام؛ فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لا يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخف عليك مئونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا؛ فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على ألا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله؛ فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة.
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإن ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المئونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك؛ فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا. وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده.
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن؛ فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر مدارسة العلماء، ومنافثة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض؛ فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وآله - عهدا منه عندنا محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب؛ لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل؛ فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها؛ فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه.
وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، وظهور مودة الرعية، وأنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدرهم ، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم. فأفسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم؛ فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، فالرد إلى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، ويطلب به الدنيا. ثم انظر فى أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا ، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق؛ فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.
ثم انظر فى حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة، فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقتصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور؛ فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك؛ فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها. ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه؛ فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله - منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف.
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا. واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، وتصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع.» ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها؛ منها: إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك. ومنها: إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك؛ إقامة فرائضه التي هي له خاصة فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوض بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله - حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم؟ فقال : «صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما.»
أما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مئونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة، وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، وإعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شي ء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختان عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه.
ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من عذر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
إياك والدماء وسفكها بغير حلها! فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام؛ فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد؛ لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء! فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى:
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل عمل موقعه . وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم. املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسى عليك؛ لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راغبون. والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله - الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا. والسلام.»
وخطب معاوية على منبر المدينة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق، يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرئ منهم شيعة نفسه. واقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا هذا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق، وفي كل بلاغ ولا مقام على الرزية.»
وخطب الحجاج حين ولاه عبد الملك العراق وأمره أن يحشر الناس إلى المهلب في حرب الأزارقة: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي نزار
كنصل السيف وضاح الجبين
وماذا تبتغي الشعراء مني
وقد جاوزت حد الأربعين؟
أخو خمسين مجتمع أشدي
وتنجدني مداورة الشئون
أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بفعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر الدماء بين العمائم واللحى تترقرق.
قد شمرت عن ساقها فشمري
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي
أروع جراح من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدوا
ما علتي وأنا شيخ جلد
والقوس فيها وتر عرد
مثل ذراع البكر أو أشد
إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التنين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت مع الغاية، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودا، وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم ورماكم بي، فإنه طالما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن البغي وسعيتم في الضلالة. وايم الله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. أما والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، وإياي وهذه الزرافات والجماعات، وقال وقيل وما يقولون وفيم أنتم! والله لتستقيمن على طريق الحق، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده. من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وانتهبت ماله، وهدمت منزله.»
وله أيضا: «يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والمسامع والأطراف والأعضاد والشفاه، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، فحشاكم شقاقا ونفاقا، وإن أشعركم خلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تستشيرونه، وكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يردكم إيمان؟! ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تنسلون لواذا، وتنهزمون سراعا؟! يوم الزاوية، وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليه عنكم إذا وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح، وقصمتكم الرماح يوم دير الجماجم. وما دير الجماجم! به كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق، أهل الكفرات والفجرات، والغدرات بعد الخترات، والثورة بعد الثورات، إن أبعثكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتكم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون نقمة ولا تشكرون نعمة. يا أهل العراق، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه وعزرتموه ونصرتموه ورضيتموه وأرضيتموه؟! يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو نعق ناعق، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ يا أهل الشأم، إنما أنا لكم كالظليم الذاب عن فراخه ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب ويحرسها من الذباب، يا أهل الشأم، أنتم الجبة والرداء، وأنتم العدة والحذاء.»
وكتب عبد الحميد كاتب مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، رسالة لكتاب أوصاهم فيها بمحاسن الآداب، وهي: «أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءات، والعلم والرزانة. بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم؛ فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم! وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم.
أيها الكتاب ، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، مقداما في موضع الإقدام، محجما في موضع الإحجام، مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيا عند الشدائد، عالما بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفى به. يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم. ولا تضيعوا النظر في الحساب؛ فإنه قوام كتاب الخراج. وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها؛ فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب. ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات. وإياكم والكبر والسخف والعظمة؛ فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة. وتحابوا في الله - عز وجل - في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره، وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته. وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه؛ فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه، وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال؛ فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء ، وهو لكم أفسد منه لها، فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشكره، واحتماله، وخيره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك تبعا له عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه، فاستشعروا ذلك وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة، والحرمان والمواساة، والإحسان، والسراء والضراء، فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة!
وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله - عز وجل - وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا؛ فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله، ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرا، وللرعية متألفا، وعن أذاهم متخلفا. وليكن في مجلسه متواضعا حليما، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا. وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة. وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت رموحا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا اتقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها، فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم. والكاتب لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه، ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا، ولا تعرف صوابا، ولا تفهم خطابا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر، وأعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة، ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله.
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه ونباله وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه، فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب. وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة، وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته، فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وآدابه، فإنه إن ظن منكم ظان، أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله - عز وجل - إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقول أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا يكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره. وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته.
وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: من تلزمه النصيحة يلزمه العمل ، وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل؛ فلذلك جعلته آخره وتممته به. تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.»
وكتب وصاية على شخص إلى بعض الرؤساء، فقال: «حق موصل كتابي هذا عليك كحقه علي؛ إذ رآك موضعا لأمله، ورآني أهلا لحاجته، وقد أنجزت الحاجة فصدق أمله.»
وكتب وهو منهزم مع مروان: «أما بعد: فإن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها، ومن عضته بنابها ذمها ساخطا عليها، وشكاها مستزيدا لها، وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها، ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولية، فملح عذبها وخشن لينها، فأبعدتنا عن الأوطان، وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة والطير بارحة، وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعدا، وإليكم وجدا، فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم نرجع إليكم بذل الإسار، والذل شر جار. نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان، فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين.»
ووقع جعفر بن يحيى إلى رجل شكاه بعض عماله: «قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت.»
وكتب الحسين بن الحسن بن سهل إلى صديق له يدعوه: «نحن في مأدبة لنا تشرف على روضة تضاحك حسنا، قد باتت السماء تعلها، فهي مشرقة بمائها حالية بنوارها، فاحضرنا لنكون على سواء من استمتاع بعضنا ببعض.»
فكتب إليه: «هذه الصفة لو كانت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعها، وحث المطي في ابتغائها، فكيف في موضع أنت تسكنه، وتجمع إلى أنيق منظره حسن وجهك وطيب شمائلك؟ وأنا الجواب.»
وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون، طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم.» فلما قرأه المأمون استحسنه، وأمر للجند بعطائهم لسبعة أشهر.
وكتب طاهر بن الحسين لابنه أبي العباس عبد الله المعروف بابن طاهر حين ولاه المأمون من الرقة إلى مصر كتابا جمع فيه كل ما تحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك في الليل والنهار. والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله - عز وجل - وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه، فإن الله - سبحانه وتعالى - قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل فيهم، والقيام بحقه وحدوده عليهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم، ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فهمك وعقلك ونظرك، ولا يشغلك عنه شاغل، فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله عز وجل به لرشدك.
وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه أفعالك؛ المواظبة على ما افترض الله - عز وجل - عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس، وعلى سننها: من إسباغ الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله - عز وجل - فيها، وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، وتصدق فيها لربك ونبيك، واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها كما قال الله - عز وجل - تنهى عن الفحشاء والمنكر. ثم أتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبالمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله - عز وجل - وتقواه، ولزوم ما أنزل الله - عز وجل - في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه، وإتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم قم فيه بما يحق لله - عز وجل - عليك. ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد، وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله - عز وجل - والعاملين به، فإن أفضل ما يزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به منه إلى الله - عز وجل؛ فإنه الدليل على الخير كله والقائد له والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبه مع توفيق الله - عز وجل - يزداد العبد معرفة له وإجلالا له ودركا للدرجات العلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك والأنس بك، والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا، ولا أخص أمنا ولا أجمع فضلا منه، والقصد داع إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، وأثره في دنياك كلها. ولا تقصر في طلب الآخرة والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة ومعالم الرشد، ولا غاية لاستكثار البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومرتبتك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك. وأحسن الظن بالله - عز وجل - تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك.
ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تستكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم، فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم، يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك، فيدخل عليك من الغم في سوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك . ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة. وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله - عز وجل - جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى، وأقم حدود الله - عز وجل - في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك، ولا تهاون فيه، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك. واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به، وإذا وعدت خيرا فأنجزه. واقبل الحسنة وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك. واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهل النميمة، فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها: تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر. وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعز الأشراف بالحق، وواس الضعفاء، وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وانعم بالعدل في سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله! وإياك أن تقول: أنا مسلط أفعل ما أشاء! فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله - عز وجل. وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به.
واعلم أن الملك لله - سبحانه وتعالى - يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا نعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله - عز وجل - من فضله. ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى، والعدل، واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وادخرت في الخزائن لا تنمو، وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم نمت وزكت، وصلحت بها العامة، وتزينت بها الولاة، وطاب بها الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، وفرق منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله - عز وجل - وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساسا لطاعتك، وأطيب نفسا بكل ما أردت. فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ولتعظم خشيتك فيه، وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله. واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه.
وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك! فإن التهاون يورث التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله - عز وجل - وارج الثواب فيه، فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد؛ يزدك الله خيرا وإحسانا، فإن الله - عز وجل - يثيب بقدر شكر الشاكرين، وإحسان المحسنين. ولا تحقرن ذنبا، ولا تمالئن حاسدا، ولا ترحمن فاجرا، ولا تصلن كفورا، ولا تداهنن عدوا، ولا تصدق نماما، ولا تأمنن غدارا، ولا توالين فاسقا، ولا تتبعن غاويا، ولا تحمدن مرائيا، ولا تحقرن إنسانا، ولا تردن سائلا فقيرا، ولا تحسنن باطلا، ولا تلاحظن مضحكا، ولا تخلفن وعدا، ولا تزهون فخرا، ولا تظهرن غضبا، ولا تأتين ندما، ولا تمشين مرحا، ولا تزكين سفيها، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفعن الأيام عتابا، ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا، وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل، ولا تسمعن لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم، وترك الجور عليهم. ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، واجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة الحري، وهو قول الله عز وجل:
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من فيئك حظا ونصيبا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقا، وارض به عملا ومذهبا.
وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، ليذهب الله - عز وجل - بذلك فاقتهم، فيقوى لك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته، فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة الآخر ولزوم العمل به تلق - إن شاء الله تعالى - نجاحا وصلاحا وفلاحا.
واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس يعدل به شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع على مجاريها بتنجيز الحق والعدل في القضاء. واشتد في أمر الله عز وجل، وتورع عن النطف، وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنع بالقسم وليسكن ريحك ، ويقر حدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك ، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم، وتثبت وتأن وراقب وانظر، وتفكر وتدبر واعتبر، وتواضع لربك، وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله - عز وجل - بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقها، وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله توسعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلا وصغارا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال، ولا تكلفن أمرا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة.
واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم، وخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، واستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، واستجررت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة، فتنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا؛ تحمد مغبة أمرك إن شاء الله تعالى.
واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها، فإن أردت أن تأمرهم فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قد أتاه على ما يهوى فأغواه على ذلك وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله - عز وجل - بالقوة. وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك. وافرغ من عمل يومك، ولا تؤخره لغد، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين، فيثقلك ذلك حتى تعرض عنه، وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم. وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مئونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا. وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين - أعزه الله - في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تئويهم، وقواما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى إسراف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما يبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل ذهنه وفكره منها ما يناله به مئونة ومشقة، وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل، وفضل ثواب الآجل كالذي يستفز بما يقربه إلى الله تعالى ويلتمس به رحمته. وأكثر الإذن للناس عليك، وأرهم وجهك، وسكن لهم حراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة، وطيب نفسك، والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدر ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى.
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا، ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية، والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالف ما دعا إلى سخط الله - عز وجل. واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمور كورك ورعيتك. ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقا للحق والحزم فأمضه، واستخر الله - عز وجل - فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه. ولا تمن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين، ولا تصنعن المعروف إلا على ذلك. وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك، فإن الله - عز وجل - مع الصلاح وأهله. وليكن أعظم سيرتك، وأفضل رغبتك ما كان لله - عز وجل - رضا ولدينه نظاما ولأهله عزا وتمكينا، وللملة والذمة عدلا وصلاحا. وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك. والسلام.»
ومن نثر أبي الفضل محمد المشهور بابن العميد، وزير ركن الدولة ابن بويه: «خير القول ما أغناك جده، وألهاك هزله. المرء أشبه شيء بزمانه، وصفة كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه، اجتنب سلطان الهوى وشيطان الميل. المرح والهزل بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد العسر، وفحلان إذا ألقحا لم ينتجا غير الشر.»
وكتب أبو علي عبد الرحيم المصري المعروف بالقاضي الفاضل، وزير صلاح الدين الأيوبي، في صفة قلعة شاهقة: «وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة.»
وكتب إلى عبد الله الطبري: «وصل كتابك، فصادفني قريب العهد بالانطلاق من عنت الفراق، ووافقني مستريح الأعضاء والجوانح من جوى الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف في تغيير الأشكال، وأعتقني من مخالبك إعتاقا لا تستحق به ولاء، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجب معها دركا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل في إخائك بيدي جفائك، ورش على ما كان يضرم في ضميري من نيران الشوق بالسلو، وشن على ما كان يلتهب في صدري من الوجد ماء اليأس، ومسح أعشار قلبي فلأم فطوري بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي فعوض عن النزاع إليك نزوعا عنك، ومن الذهاب فيك رجوعا دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عنها غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حدر النقاب عن صفحات شيمك، وسفر عن وجوه خليقتك، فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك، ورددت إليك ذمم عهدك.»
وكتب ولد ابن العميد أبو الفتح علي كتابا إلى بعض أصدقائه يستهديه شرابا، وهو: «قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاءك يا سيدي ومولاي - رقدة من عين الدهر ، وانتهزت فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام، عدنا كبنات نعش، والسلام.»
وكتب الصاحب ابن عباد إلى صديق له: «نحن يا سيدي في مجلس غنى إلا عنك، شاكر إلا منك، قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت خدود البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فأرات النارنج، وانطلقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأطيار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب، وامتد سحاب الند، فبحياتي إلا ما حضرت فقد أبت راح مجلسنا أن تصفو إلا أن تتناولها يمناك. وأقسم غناؤه أن لا يطيب حتى تعيه أذناك، فخدود نارنجه قد احمرت خجلا لإبطائك، وعيون نرجسه قد حدقت تأميلا للقائك.»
وكتب البديع الهمذاني إلى أبي نصر بن المرزبان: «كنت - أطال الله بقاء سيدي ومولاي - في قديم الزمان أتمنى للكتاب الخير، وأسأل الله أن يدر عليهم أخلاف الرزق، ويمد لهم أكناف العيش، ويوطئهم أعراف المجد، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويركبهم أكتاف العز، وقصاراي أن أرغب إلى الله تعالى في أن لا ينيلهم فوق الكفاية، ولا يمد لهم في حبل الرعاية، فشد ما يطغون للنعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، بما ينظمون من حال، ويجمعون من مال، وتنسيهم أيام اللدونة أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة ساعات الصعوبة.
وللكتاب مزية في هذا الباب؛ فبينما هم في العطلة إخوان كما انتظم السمط، وفي العزلة أعوان كما انفرج المشط، حتى لحظهم الجد لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أو صك جعالة؛ فيعود عامر ودهم خرابا، وينقلب شراب عهدهم سرابا، فما غلت أمورهم حتى أسبلت ستورهم، ولا علت قدورهم إلا خلت بدورهم، ولا اتسعت دورهم إلا ضاقت صدورهم، ولا أوقدت نارهم إلا انطفأ نورهم، ولا زاد مالهم إلا نقص معروفهم، ولا ورمت أكياسهم إلا ورمت أنوفهم، ولا تبجلت عتاقهم إلا فظعت أخلاقهم، ولا صلحت أحوالهم إلا فسدت أفعالهم، ولا حسنت حالهم إلا قبحت خلالهم، ولا فاض جاههم إلا غاضت مياههم، ولا لانت برودهم إلا صلبت حدودهم، ولا علت جدودهم إلا سفل جودهم، ولا طالت أيديهم إلا قصرت أياديهم، وقصارى أحدهم من المجد أن ينصب تخته تحته، ويوطئ استه دسته، ويقف غلامه أمامه ونائبه من الكرم دار يصهرج أرضها، ويزبرج بعضها، ويزوق سقوفها، ويعلق شفوفها، وكفاه من الفضل أن تحمل الغاشية قدامه، وتغدو الحاشية أمامه، وناهيه من الشرف ألفاظ فقاعية، وثياب مشقاعية، يلبسها ملوما، ويحشوها لوما ولوما، وهذه صفة فاضلهم. ومنهم من يحتمل الود أيام خشكاره حتى إذا أيسر جعل ميزانه وكيله، وأسنانه أكيله، وأليفه رغيفه، وأنيسه كيسه، وأمينه يمينه، ودنانيره سميره، ومفتاحه ضجيعه، وصناديقه صديقه، ثم جمع الذرة إلى الذرة، ووضع البدرة على البدرة، فلم يضع النظر من طرفه، ولا الصرة من كفه، ولا يخرج ماله من عهدة خاتمه إلا يوم مأتمه، فهو يجمع لحادث حياته، أو وارث مماته، يسلك في الغدر كل طريق، ويبيع بالدرهم ألف صديق.
وقد كان الظن بصديقنا أبي سعيد - أيده الله تعالى - أنه إذا أخصب آوانا كنفا من ظله، وحبانا من فضله، فمن لنا الآن بعدله؟ إنه - أطال الله بقاء الشيخ - حين طارت على رأسه عقاب المخاطبة بالرئيس، وجلس من الديوان في صدر الإيوان، افتض عذرة السياسة ببعض المختلفة إلي، وجعل يعرضه للهلاك، ويسبب عليه بمال الأتراك، ويشحن داره بالدجالة، ويكده بالفرسان والرجالة. وجعلت أكاتبه مرة وأقصده أخرى، فأذكره أن الراكب ربما استنزل، والوالي ربما عزل، ثم يجف ريق الخجل على لسان العذر، وتبقى الحزازة في الصدر. فما زاده قولي إلا غلوا في تهكمه، وعلوا في تحكمه، وجعل يمسني الجمر في ظلمه، ويبرأ إلي من علمه، وأقول إذا رأيت ذلة السؤال وعزة الرد منه:
قل لي: متى فرزنت سر
عة ما أرى يا بيدق؟!
وما أضيع وقتا بذكره قطعته، هلم إلى الشوق وشرحه، فقد نكأ القلب بقرحه، وكيف أكاد أصف شوقا لا يفرع الدهر فروة حاله، ولا ينتقض عروة انحلاله، فما أولاني أن أذكره مجملا، وأتركه مفصلا.»
وكتب أيضا إلى القاسم الكرجي: «يعز علي - أطال الله بقاء الشيخ الرئيس - أن ينوب في خدمته قلمي عن قدمي ، ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي، ويرد مشرعة الأنس به كتابي قبل ركابي، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة:
وعلي أن أسعى ولي
س علي إدراك النجاح
وقد حضرت داره وقبلت جداره، وما بي حب الحيطان ولكن شغفا بالقطان، ولا عشق الجدران ولكن شوقا إلى السكان. وحين عدت العوادي عنه أمليت ضمير الشوق على لسان القلم معتذرا إلى الشيخ على الحقيقة عن تقصير وقع، وفتور في الخدمة عرض، ولكني أقول:
إن يكن تركي لقصدك ذنبا
فكفى أن لا أراك عقابا»
وكتب إلى أبي عامر الضبي يعزيه: «إذا ما الدهر جر على أناس
حوادثه أناخ بآخرين
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى إذا ساء، ويختص بالنعمة إذا شاء. فلينظر الشامت، فإن كان أفلت فله أن يشمت! ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، من فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره، هل يجد لنفسه أثرا في نفسه؟ أم لتدبيره عونا على تصويره؟ أم لعمله تقديما لأمله؟ أم لحيله تأخيرا لأجله؟ كلا، بل هو العبد لم يكن شيئا مذكورا، خلق مقهورا، ورزق مقدورا، فهو يحيا جبرا، ويهلك صبرا. وليتأمل المرء كيف كان قبلا، فإن كان العدم أصلا، والوجود فضلا، فليعلم الموت عدلا. والعاقل من رفع من حوائل الدهر ما ساء، ليذهب ما ضر بما نفع، وإن أحب أن لا يحزن فلينظر يمنة، فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة، فهل يرى إلا حسرة؟
ومثل الشيخ الرئيس من تفطن لهذه الأسرار وعرف هذه الدار، فأعد لنعمتها صدرا لا يملؤه فرحا، ولبؤسها قلبا لا يطير جزعا، وصحب الدهر برأي من يعلم أن للمتعة حدا، وللعارية ردا.
ولقد نعي إلي أبو قبيصة - قدس الله روحه وبرد ضريحه - فعرضت علي آمالي قعودا، وأماني سودا، وبكيت والسخي بما يملك، وضحكت وشر الشدائد ما يضحك، وعضضت الإصبع حتى أفنيته، وذممت الموت حتى تمنيته، والموت خطب قد عظم حتى هان ، وأمر قد خشن حتى لان، ونكر حتى قد عم حتى صار عرفا، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجنت حتى صار أصغر ذنوبها، وأضمرت حتى صار أيسر غيوبها، وأبهمت حتى صار أظهر عيوبها، ولعل هذا السهم آخر ما في كنانتها، وأزكى ما في خزانتها، ونحن معاشر التبع نتعلم الأدب من أخلاقه، والجميل من أفعاله، فلا نحثه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر، فلير فيهما رأيه إن شاء الله.»
وكتب أبو بكر الخوارزمي إلى ابن سهل سعيد: «وصل كتاب سيدي المنتظر المؤتلف، والمستبطأ المتشوف، بعد أن عاتبت الدهر على تأخره ولمته، وبعد أن ذممت فيه البخت وشتمته، وبعد أن نظرت إليه وهو غائب مثالا، ورأيته في النوم خيالا، وبعد أن عددت له الليالي والأيام عدا، وحسبت في الأوقات والأنفاس ضربا وعقدا، وبعد أن ظننت الظنون بسيدي وبوده، وتوهمت الأيام في وفائه وعهده، وحسبت وأنا أستغفر الله أنه قد أثبت اسمه في جريدة الغدر، وجالس أبناء الدهر، وبعد أن أنشدت فيه:
لم تزل تجهل الخيانة حتى
علمتك الأيام كيف تخون
فويلي إن لم يعف سيدي عني، ولم يغفر لي ما بدر مني، ولم يجعلني في حل من سوء ظني، وفهمته، ولم أزل أكرر قراءته حتى حفظته، ثم تزودت في ذلك حتى حفظت غاية باءاته، وصارت روايته تقطع علي صلاتي وتستهلك أكثر أوقاتي. ثم عرضته على أصدقائي، وأصدقاء ولائي، فما منهم إلا من سألنيه ونافسني فيه واستعارنيه، ونيته أن لا يرد العارية، ولا يؤدي الأمانة. ثم نسخوه، ولو طلبته منهم لما أعادوه.
ذكر سيدي من شوقي إليه ما لم يتكلم فيه إلا عن لساني، ولم يترجم إلا عن شاني، ولقد طويت بعده بساط المدام، ورفعت صحيفة المؤانسة والندام، وطلقت الراح ثلاثا، وفارقت الغناء بثاثا، حتى جفت الأقداح، واستخصتني الراح، ونسي بناني الأترج والتفاح. ولقد ترك سيدي بخروجه رسوم الطرب من إخوانه دارسة، وآثار الفرح طامسة، وديار المنادمة والمجالسة مقفرة، وأطلال المحادثة والمساعدة متنكرة، قد هبت عليها بغتة ريح الأدبار، وطلع عليها نجم البلاء والإقفار، ونفذ فيها حكم الفناء، ولمستها يد العفاء. سألني سيدي عن ذكري له، وكيف لا يذكره من يراه، وإن كان لا يلقاه؟ بل كيف يذكره من ليس ينساه؟ وكيف يسلو عنه من لا يرى عوضا منه؟ وكيف يغب ذكره من لا يفتح عينيه على أكرم منه عليه، وأحب منه إليه. وقد عرفته أنا هجرنا الشراب وأغلقنا هذا الباب، ثم إن شربنا في كل فترة نبوة أو بيعة خلافة فلا نقل إلا تذكاره، ولا تحية إلا أذكاره، ولا حديث إلا أنسنا به كان، ووحشتنا له الآن، ولا اقتراح على المغني الأشعر في أوله ذكر غيبته، وفي آخر تمني أوبته. رد الله تعالى سيدي إلى إخوانه الذين أنا أولهم في المحبة، وإن كنت آخرهم في الرتبة، على حالة يقع الشكر وراء حقها، وتكل مطايا التعديد والبشر في مسافات طرقها، والناس يقولون ردك الله سالما إلى سالمين، وأنا أقول ردك تعالى غانما إلى غانمين، فإن من سعد بلقياك فهو غانم، كما أن من حرم النظر إلى طلعتك فهو غارم. وأرجو أن يتقدم سيدي بوصوله عند الفطر، فيجتمع لي عيدان وفطران، كما اجتمع علي بغيبته صومان، على أن صوم العين أشد من صوم البطن، فإن مسافة صوم العين مجهولة الأمد والعدد، مخوفة الزيادة والمدد، ومسافة صوم البطن يوم وشيك المهلة، قريب العشية من الغدوة. فحصتي من صوم هذه السنة المباركة حصتان، ويومي منه يومان، وتأبى صروف الدهر أن تأتيني إلا مزدوجة في قران، وذلك أني صمت عن النظر إلى طلعة سيدي شهري رجب وشعبان، وصمت عن الطعام والشراب شهر رمضان، وقد قال الخليع الشامي:
سكران سكر هوى وسكر مدامة
فمتى يفيق فتى به سكران؟!
وأنا أقول:
صومان صوم نوى وصوم عبادة
فمتى يعيش فتى له صومان؟!»
وكتب إلى تلميذ له: «وصل كتابك يا سيدي فسرني نظري إليه، ثم غمني اطلاعي عليه لما تضمنه من ذكر علتك، جعل الله أولها كفارة وآخرها عافية، ولا أعدمك على الأولى أجرا وعلى الأخرى شكرا، وبودي لو قرب علي متناول عيادتك، فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك، فلقد خصني من هذه العلة قسم كقسمك، ومرض قلبي لمرض جسمك، وأظن أني لو لقيتك عليلا لانصرفت عنك وأنا أعل منك، فإني بحمد الله تعالى جلد على أوجاع أعضائي غير جلد على أوجاع أصدقائي، ينبو عني سهم الدهر إذا رماني، وينفذ في إذا رمى إخواني، فأقرب سهامه مني أبعد سهامه عني، كما أن أبعدها عني أقربها مني، شفاك الله وعافاك، وكفاني فيك المحذور وكفاك، ورفع جنبك وغفر ذنبك، وآمن سربك وشرح قلبك، وأعلى كعبك.»
وكتب إلى صديق: «الأيام - أيدك الله - بيني وبينك تراجمة لي عن صحة وفائك، وشهود عندي على صدق إخائك، وأقل حقوقك علي يلزمني ألا أشغل لساني بغير شكرك، ولا قلبي إلا بذكرك، ولو تجاوز طبقات أهل مودتك في ميدان المقة، وتنازعوا خصل الأنس والثقة، رجوت أن أكون سابقا ليس له سابق، ولا يذكر معه لاحق، وأن تجلى الغاية مني عن محبة مرباة بالوفاء، وعن شكر مرضع بالدعاء. وقد بلغني خبر سعيك لفلان في العمل الذي هو دون قدره، وإن كان فوق أعمال عصره فشكرتك عنه وإن كان بشكرك أوفى وأملى وبإيفائك حقك أحق وأولى. وأردت أن أكل شكرك إليه، ولا أتطفل فيه عليه، فكرهت أن تطوى صحيفة الشكر ولم يجر لي فيها اسم، وأن تختم جريدة المشاركة ولم يكن لي فيها قسم، فذكرته لك وأنت له أذكر، وشكرتك عنه وهو لك مني أشكر، على أني أرغب بذلك الحر عن التلطخ بأوضار الأعمال، فإنها مزالق أقدام الرجال، ضنا به عن تخاليط الأيام، وصيانة لمحله عن مدانسة الأوهام، ونعمتك عليه مقتسمة بيني وبينه، بل أكثرها لي دونه، فما ظنك بعارفة واحدة تكسبك شكرين، وتستعبد لك حرين. وجدير بمن هطلت عليه سحائب عنايتك، ورفرفت حوله أجنحة رعايتك، أن ينبو عنه سيف الزمان مثلوما، ويرجع عن ساحته عسكر الزمان مهزوما. والله - عز وجل - أسأل أن لا يحرمك نعمة يمد بها إليك عنق ودود، ومنة تفقأ عنك عين حسود.
أخبرت أنك - أيدك الله - تحدث نفسك بزيارتي، وإنه ليسرني أن أخطر ببالك، ويسوءني أن أصير زيادة في إشغالك، ولا تجشم نفسك، فإن خيالك في كل ليلة نائب عندي عنك، وإن لم يكن فيه ولا في الدنيا كلها عوض لي منك.»
ومن «مقامات الحريري» المقامة السادسة المراغية: روى الحارث بن همام، قال: حضرت ديوان النظر بالمراغة، وقد جرى به ذكر البلاغة، فأجمع من حضر من فرسان البراعة، وأرباب اليراعة، على أنه لم يبق من ينقح الإنشاء، ويتصرف فيه كيف شاء، ولا خلف بعد السلف، من يبتدع طريقة غراء، أو يفترع رسالة عذراء، وأن المفلق من كتاب هذا الأوان، المتمكن من أزمة البيان، كالعيال على الأوائل، ولو ملك فصاحة سحبان وائل.
وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلما شط القوم في شوطهم، ونثروا العجوة والنجوة من نوطهم، ينبئ تخازر طرفه، وتشامخ أنفه، أنه مخرنبق لينباع، ومجرمز سيمد الباع، ونابض يبري النبال، ورابض يبغي النضال، فلما نثلت الكنائن، وفاءت السكائن، وركدت الزعازع، وكف المنازع، وسكنت الزماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة وقال: لقد جئتم شيئا إدا، وجرتم عن القصد جدا، وعظمتم العظام الرفات، وافتتم في الميل إلى من فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللدات، ومعهم انعقدت المودات. أنسيتم يا جهابذة النقد، وموابذة الحل والعقد، ما أبرزته طوارف القرائح، وبرز فيه الجذع على القارح من العبارات المهذبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل الموشحة، والأساجيع المستملحة؟ وهل للقدماء إذا أنعم النظر من حضر، غير المعاني المطروقة الموارد، المعقولة الشوارد، المأثورة عنهم لتقادم الموالد، لا لتقدم الصادر على الوار؟ وإني لأعرف الآن من إذا أنشا وشى، وإذا عبر حبر، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده، ومتى اخترع خرع، فقال له ناظورة الديوان، وعين أولئك الأعيان: من قارع هذي الصفاة، وقريع هذه الصفات؟ فقال: إنه قرن مجالك، وقرين جدالك، وإذا شئت ذاك فرض نجيبا، وادع مجيبا، لترى عجيبا. فقال له: يا هذا إن البغاث بأرضنا لا يستنسر، والتمييز عندنا بين الفضة والقضة متيسر، وقل من استهدف للنضال، فخلص من الداء العضال، أو استثار نقع الامتحان، فلم يقذ بالامتهان، فلا تعرض عرضك للمفاضح، ولا تعرض عن نصاحة الناصح، فقال: كل امرئ أعرف بوسم قدحه، وسيتفرى الليل عن صبحه. فتناجت الجماعة فيما يسبر به قليبه، ويعمد فيه تقليبه. فقال أحدهم: ذروه في حصتي، لأرميه بحجر قصتي، فإنها عضلة العقد، ومحك المنتقد، فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامة. فأقبل على الكهل وقال: اعلم أني أوالي هذا الوالي، وأرقح حالي بالبيان الحالي، وكنت أستعين على تقويم أودي، في بلدي بسعة ذات يدي، مع قلة عددي، فلما ثقل حاذي، ونفد رذاذي، أممته من أرجائي برجائي، ودعوته لإعادة روائي وإروائي، فهش للوفادة وراح، وغدا بالإفادة وراح. فلما استأذنته في المراح إلى المراح، على كاهل المراح، قال: قد أزمعت أن لا أزودك بتاتا، ولا أجمع لك شتاتا، أو تنشئ لي أمام ارتحالك، رسالة تودعها شرح حالك، حروف إحدى كلمتيها يعمها النقط، وحروف الأخرى لم يعجمن قط، وقد استأنيت بياني حولا، فما أحار قولا، ونبهت فكري سنة، فما ازداد إلا سنة، واستعنت بقاطبة الكتاب، فكل منهم قطب وتاب. فإن كنت صدعت عن وصفك باليقين، فأت بآية إن كنت من الصادقين. فقال له: لقد استسعيت يعيوبا، واستسقيت أسكوبا، وأعطيت القوس باريها، وأسكنت الدار بانيها، ثم فكر ريثما استجم قريحته، واستدر لقحته، وقال: ألق دواتك وأقرب، وخذ أداتك واكتب:
الكرم - ثبت الله جيش سعودك - يزين، واللؤم - غض الدهر جفن حسودك - يشين، والأروع يثيب، والمغور يخيب، والحلاحل يضيف، والماحل يخيف، والسمح يغذي، والمحك يقذي، والعطاء ينجي والمطال يشجي، والدعاء يقي والمدح ينقي والحر يجزي، والإلطاط يخزي، واطراح ذي الحرمة غي، ومحرمة بني الآمال بغي، وما ضن إلا غبين، ولا غبن إلا ضنين، ولا خزن إلا شقي، ولا قبض راحه تقي. وما فتئ وعدك يفي، وآراؤك تشفي، وهلالك يضي، وحلمك يغضي، وآلاؤك تغني، وأعداؤك تثني، وحسامك يفني، وسؤددك يقني، ومواصلك يجتني، ومادحك يقتني، وسماحك يغيث، وسماؤك تغيث ، ودرك يفيض، وردك يغيض.
ومؤملك شيخ حكاه فيء، ولم يبق له شيء، أمك بظن حرصه يثب، ومدحك بنخب مهورها تجب، ومرامه يخف، وأواصره تشف، وإطراؤه يجتذب، وملامه يجتنب، ووراءه ضفف، مسهم شظف، وحصهم جنف، وعمهم قشف، وهو في دمع يجيب، ووله يذيب، وهم تضيف، وكمد نيف، لمأمول خيب، وإهمال شيب، وعدو نيب، وهدو تغيب، ولم يزغ وده فيغضب، ولا خبث عوده فيقضب، ولا نفث صدره فينفض، ولا نشز وصله فيبغض، وما يقتضي كرمك نبذ حرمه، فبيض أمله بتخفيف ألمه، ينث حمدك بين عالمه، بقيت لإماطة شجب، وإعطاء نشب، ومداواة شجن، ومراعاة يفن، موصولا بخفض، وسرور غض، ما غشي معهد غني، أو خشي وهم غبي، والسلام.
فلما فرغ من إملاء رسالته، وجلى في هيجاء البلاغة عن بسالته، أرضته الجماعة فعلا وقولا، وأوسعته حفاوة وطولا. ثم سئل من أي الشعوب نجاره، وفي أي الشعاب وجاره؟ فقال:
غسان أسرتي الصميمة
وسروج تربتي القديمة
فالبيت مثل الشمس إش
راقا ومنزلة جسيمة
والربع كالفردوس مط
يبة ومنزهة وقيمة
واها لعيش كان لي
فيها ولذات عميمة!
أيام أسحب مطرفي
في روضها ماضي العزيمة
أختال في برد الشبا
ب وأجتلي النعم الوسيمة
لا أتقي نوب الزما
ن ولا حوادثه المليمة
فلو ان كربا متلف
لتلفت من كربي المقيمة
أو يفتدى عيش مضى
لفدته مهجتي الكريمة
فالموت خير للفتى
من عيشه عيش البهيمة
تقتاده برة الصغا
ر إلى العظيمة والهضيمة
ويرى السباع تنوشها
أيدي الضباع المستضيمة
والذنب للأيام لو
لا شؤمها لم تنب شيمة
ولو استقامت كانت ال
أحوال فيها مستقيمة
ثم إن خبره نما إلى الوالي، فملأ فاه باللآلي، وسامه أن ينضوي إلى أحشائه، ويلي ديوان إنشائه، فأحسبه الحباء، وظلفه عن الولاية الإباء.
قال الراوي: وكنت عرفت عود شجرته، قبل إيناع ثمرته، وكدت أنبه على علو قدره، قبل استنارة بدره، فأوحى إلي بإيماض جفنه، أن لا أجرد عضبه من جفنه. فلما خرج بطين الخرج، وفصل فائزا بالفلج، شيعته قاضيا حق الرعاية، ولاحيا له على رفض الولاية، فأعرض متبسما، وأنشد مترنما:
لجوب البلاد مع المتربة
أحب إلي من المرتبة
لأن الولاة لهم نبوة
ومعتبة يا لها معتبة!
وما فيهم من يرب الصن
يع ولا من يشيد ما رتبه
فلا يخدعنك لموع السراب
ولا تأت أمرا إذا ما اشتبه
فكم حالم سره حلمه
وأدركه الروع لما انتبه!
ومن «أطواق الذهب» المقامة الثامنة: «ما أسعدك لو كنت في سلامة الضمير، كسلاسة الماء النمير، وفي النقاء عن الريبة، كمرآة الغريبة، وفي نفاذ الطية، كصدر الخطية، وفي أخذ الأهبة، كالواقع في النهبة! لكنك ذو تكدير، كرجرجة الغدير، ومتلطخ بالخبائث، كخرقة الطامث، وذو عجز وتواني، كمكسال الغواني، وتارك للاستعداد، كالشاك في المعاد.»
ومن «أطباق الذهب» المقالة السابعة والعشرون: «أشرف الأنفاس أحرها، وأفضل الأذكار أسرها، وراء الجهر بالدعاء لام، والذي يحسن إفشاؤه سلام. ترك الذكر يشبه الكبرياء، وإعلانه يوجب الرياء، وإخفاؤه سنة زكرياء، فإذا دعوت الله فعم، ولا تجهر فإنك لا تنادي الصم، إنه لا يسمع بالغضروف، ولا يحتاج منك إلى الأصوات والحروف، هو راحم النمال العمش، ورازق النعاب في العش، يعلم خطرات الأوهام، كما يحصر قطرات الرهام، فيا أيها الملح في الدعاء، ويا جهوري النداء، أتسترزق بالإلحاح والإرهاق، وتقتضي القضيم بالنهاق، للعجول إذا حرص جؤار، وللعجول إذا نهم خوار، وللأتان على الأري نهيق، وللضفدع في الأدي نقيق، والحريص سريع السغب، كثير الشغب، والقانع لا يستنبط الماء بنقرات المعول، والمخلص يدعو بسره لا بحركات المقول. والصبر من الهلع أجمل، والنية أبلغ وأعمل، والصمت من الصراخ أنفع، والفيل من العصفور أشبع، والحوت الصموت أقنع، وزعاق الضفادع أشنع، ولسان الحال أفصح، وبساط الرحمة أفسح، فسبح تسبيح الحيتان في النهر، واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر، وأقل من سؤالك فهو فعال لما يريد، واخفض من ندائك فهو أقرب إليك من حبل الوريد.»
وكتب محمد بن حبيب الحلبي صاحب كتاب «نسيم الصبا»، المتوفى سنة 779 في وصف السماء وزينتها: «أيقظتني ليلة دواعي الهموم، فنظرت نظرة في النجوم، فإذا السماء كأنها روضة مزهرة، أو صرح كنس جواريه مسفرة ، أو غدير تطفو عليه الفواقع، أو بنفسج نور أقاحه لامع ، أو مسح ألقي عليه درر غواص، أو ستر به لعين كل نجم وصواص، أو جمر في خلال رماد، أو كما قال من أجاد:
بساط زمرد نثرت عليه
دنانير تخالطها دراهم
ونهر المجرة يجري في سندسها، ويسري ليسقي ذابل نرجسها، يا له من نهر صفا ماؤه، وعقد على الأفق لواؤه! يتقلب القلب إليه، ويقف طرف الطرف عليه، ويقبل نحوه الدبران، وينصب على شطه الميزان، ويحوم حوله النسران، ويعوم فيه الحوت والسرطان.
والثريا كالكرة أو كجام
أو بنان أو طائر أو وشاح
أو باقة من نرجس، أو كأس يدار في المجلس، أو شمع يتوقد، أو شمس من عسجد، أو شذر منضود، أو كرم أو عنقود، أو عقد لؤلؤ حسن الاتساق، أو أقراط خود ترتعد فرقا من الفراق:
وسهيل كوجنة الحب في اللو
ن وقلب المحب في الخفقان
أو كمصباح تلعب به أيدي الرياح، أو ظامئ يريد أن يرد، أو فارس في حمى الحمى مجتهد، أو مشوق يتبع الآثار، أو غريب لا يزور ولا يزار، أو غريق يدعي قوة السباحة، أو ماجد أنف من الذل فألف السياحة، أو مغاضب يدعى فلا يجيب، أو محب يغض الطرف ويفتحه خوف الرقيب، والجوزاء النيرة كالشجرة المنورة:
كأنها منطقة من ذهب
قد عقدت على قباء أزرق
والفرقدان الهاديان المرشدان:
كأنهما إلفان قال كلاهما
لشخص أخيه: قل فإني سامع
والذراع يذرع شقة الأفق، والجبهة تسجد على مفارق الطرق، والعيوق يعوق عن السير إذا سار، والعواء أعينها نشاوى قد تغشاها خمار، والسماك معتقل رمحه، والنثرة منتظمة كالسبحة، والنعائم تحدوها النعامى، وزهرة الزهرة تضيء بين الخزامى، وبهرام يخجل البهرمان، والإكليل ليس يكل من مسايرة الأظعان، والمقدم لا يتأخر عن الإعناق والإيجاف، والصرفة قد همت مع العسكر بالانصراف:
تمر بواديا ليلا وتطوى
نهارا مثلما طوي الإزار
فكم بصقالها صدي البرايا
وما يصدى لها أبدا غرار
فبينما أنا أسرح في درر الدراري نظري، وأروض في رياضها جواد فكري، وأقدس من هي مسخرات بأمره، وأنزه من هدى خلقه في بره وبحره، إذ هب نسيم السحر، يروي عن أهل نجد أطيب الخبر، فعطر الكون بعرفه، وملك الرق برقته ولطفه، وأهدى الروح إلى الأرواح، وأطرب السمع بأحاديثه الصحاح:
فهو حياة لكل حي
كأن أنفاسه نفوس
فاستبشرت بوروده، وحصلت على الفائدة من وفوده، وسر بمناجاته سري، وقلت له والدموع تجري:
أعد ذكر من حل الغضا يا محدثي
وإن أضرموه بالأضالع والصدر
ولا تنس سكان العقيق وإن هم
على وجنتي أجروه في مدة الهجر
فلما أتممت الإنشاء والإنشاد، وشرعت في طلب الإسعاف والإسعاد؛ تبسم الفجر ضاحكا من شرقه، ونصب أعلامه على منازل أفقه، فانطوى نشر الليل، وكف من غمره الذيل، وارتفت الحجب، وتأججت نار الشهب، واقتنص بازي الضوء غراب الظلام، وفض كافور النور عن الغسق مسك الختام:
وشرد الصبح عنا الليل فاتضحت
سطوره البيض في ألواحه السود
وفلت جيوش الدجى، وحرك النهار منه ما سجى، وجنح جنحه إلى الرحيل، وتلا لسان حال التحويل:
يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .»
وله أيضا في وصف الشمس والقمر: «بكرت يوما بعد أداء الفرض، أتفكر في خلق السموات والأرض، فلمحت المشرق بالنظر، وإذا قرن الغزالة قد ظهر، كأنه جذوة نار، أو قطعة من دينار، أو كأس ستر بعضه بالحباب، أو حسناء غطت وجهها بنقاب، ثم كشفت أستارها، وألقت على الأفق أنوارها، وبرزت كأنها كرة في ميدان، أو مجن دولاب ضمخ بالزعفران، أو مرآة لم تصقل ولم تطرق، أو وجه المليحة في خمار أزرق، أو سبيكة زجاج منتفخة الجوانب، أو بودقة يحرك فيها ذهب ذائب:
وكأنها عند انبساط شعاعها
تبر يذوب على فروع المشرق
فقلت: أهلا بالجارية، التي في طلعتها ما يغني عن الجارية، والعين التي تغار منها العين، والجونة التي وضح منها الجبين، والسراج الوهاج التي تبرجت بها الأبراج. أنت المخصوصة بالشرف والرفعة، أنت واسطة عقد الكواكب السبعة، أنت للحكمة برهان، وللفلك معيار وميزان، أنت الناطقة في صمتها، التي قصر البليغ عن وصفها ونعتها، أنت ملك مقدم ، أنت النير الأعظم، أنت يوح، التي تغدو في مصالح العالم وتروح، أنت ذكا التي ذكت نارها، أنت الضحى التي علا منارها، أنت الشمس، التي بها تعرف الأوقات الخمس، بك ينشر الظل ويطوى، ويشتد النبات بعد ضعفه ويقوى، ويستدل على طريق الصواب، ويعلم عدد السنين والحساب. لما سفرت رافلة في الحلل المعصفرة، محيت آية الليل وجعلت آية النهار مبصرة، وناهيك بها منزلة، وحسبك أن صفاتك في الكتاب منزلة.
ثم تمشت على بساطها، وخطرت في وشيها ورياطها، وسبحت في فلكها مرشدة إلى الحقائق، مظهرة أسرار الساعات والدرج والدقائق:
تسمو إلى كبد السماء كأنها
تبغي هناك دفاع أمر معضل
واستمرت سائرة يحدوها مر النسيم،
والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، فلم يزل فكري يصاحبها، وطرفي يرعاها ويراقبها:
حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت
وقفت كوقفة سائل عن منزل
ثم انثنت تبغي الخدور كأنها
طير هفا لمخافة من أجدل
فلما حجبت عن العيون شخصها، وخطف المغرب من يد المشرق قرصها، واكتحلت جفون الأفق بالنار، وطرد زنجي الليل رومي النهار، بزغ الهلال، بأمر ذي الجلال، كأنه قوس موتور، أو زورق منحدر في بحر الديجور، أو شطر سوار أو منجل معد لحصاد الأعمار، أو خنجر مرهف النصلين، أو نون مرسومة من لجين، أو شفة كأس مائلة، أو مخلب عقاب صائلة، أو قطعة من قيد، أو فخ نصب للصيد، أو حرف جيم، أو عرجون قديم، أو حاجب شيخ أدركه الشمط، أو نعل من حافر أدهم الدجى سقط، أو ذباب سيف خرج من جفنه، أو راكع يعبد من لا يحدث أمر إلا بإذنه. وفي معناه من قصيدة:
وترى الهلال يلوح في أفق السما
يبدو كقوس بالمنى يرميني
أو شبه فخ أو كدملج غادة
وكجانب المرآة والعرجون
وجبين حب بالعمامة قد زها
وكوجه خود بالنقاب مصون
وكناب فيل أو قلامة أنمل
وكزورق وكحاجب مقرون
أو كالسوار أزيل منه البعض أو
قربوس سرج مذهب أو نون
وكشأفة الكأس المخبأ بعضه
ضمن الشفاه ومنجل مسنون
هو منجل الأعمار للحصد الذي
يفني أولي التزيين والتحسين
وإذا مضى سبع تراه كأنه
نصف لتعويذ بدا لعيون
وإذا تكامل صار جاما صافيا
وكأنه من لؤلؤ مكنون
أو غادة قد أسفرت عن وجهها
غنيت عن التحسين والتزيين
هذا هو المشهور في تشبيهه
قدما وذلك جمعه يكفيني
فقلت: مرحبا بمن ثياب مناوئه رثاث، قر عينا ستعود قمرا بعد ثلاث، ثم تصير بدرا، إن في ذلك لذكرى:
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
أنت الزمهرير الذي ليس له في نضارته نظير، أنت الزبرقان الذي له في كل شهر مهرجان. أيها القمر، كم محب طاب له فيك السمر، أيها الواضح الباهر، ما أنت إلا مثل سائر، أيها البدر الكامل، الذي فضله للبرية شامل، لا تأس على ما فاتك من الدرج، ولا يكن في صدرك من الغزالة حرج:
فقد تخمد الشمس الصباح بضوئها
تفاوتت الأنوار والكل رائق
منازلك معروفة، ومحاسنك موصوفة، وشرفك باذخ، وقدمك راسخ، وآياتك ظاهرة، وسفارتك سافرة، كم أوضحت من طريق، وهديت الرفيق إلى الفريق، وذكرت محبوبا لمحبوبه، وبلغت طالبا غاية مطلوبه. أحسن بضوء ذبالتك! وحسبي مثلا بهالتك، جعلك الباري في السموات نورا، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فسبحان من جلا بمحياك حندس الغسق، وأقسم بك في قوله:
والقمر إذا اتسق . قدرك أثيث أثيل، ومحبك نبيه نبيل، ووجهك يا بثينة الحسن جميل:
على رسل فما لك من مجار
إلى رتب العلاء ولا رسيل
فتبارك اسم من ألبسكما أحسن الحبر، وتعالى جد من جعلكما مصباحين لأهل النظر،
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر .
ثم لم يبرح يسري وأنا لا أبرح، وينجلي وأنا أشاهد وجهه الأصبح، إلى أن غاب واختفى، وحسبنا الله وكفى.»
وله أيضا في وصف البحر والنهر: «هزتني رياح الأمل البسيط، إلى امتطاء ثبج البحر المحيط، فأتيت سفينة يطيب للسفر مثواها، وركبت فيها باسم الله مجراها ومرساها، موقنا بأن المقدور صائر، معرضا عن قول الشاعر:
لا أركب البحر أخشى
علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب
يا لها سفينة! على الأموال أمينة، ذات دسر وألواح، تجري مع الرياح ، وتطير بغير جناح، وتعتاض عن الحادي بالملاح. تخوض وتلعب، وترد ولا تشرب. لها قلاع كالقلاع، وشراع يحجب الشعاع، وسكينة وسكان، ومكانة وإمكان، وجؤجؤ وفقار، وأضلاع محكمة بالقار، وجسم عار من الفؤاد، وهو في عين الماء بمنزلة السواد، بعيدة ما بين السحر والنحر، من أحسن الجواري المنشآت في البحر، معقودا بنواصيها الخير كالخيل، لا تمل من سير النهار ولا من سرى الليل:
ما رأى الناس من قصور على الما
ء سواها تسير سير القداح
كأنها وعل ينحط من شاهق، أو عرباض سابق يحثه سائق، أو عقرب شائلة، أو عقاب صائلة. أو غراب أعصم، أو تمساح أو أرقم، أو ظليم نفر في الظلام، أو جواد فر مستنكفا من صحبة الأنام، حاكمها عادل في حكمه، عارف بنقض أمرها وبرمه، يهتدي بالنجوم، ويبتدي باسم الحي القيوم، يبرز من نواتيها في جنود، يشمل إحسانهم أهلها أيقاظا وهم رقود، يتأنقون فيما يعمرون، ويفعلون ما يؤمرون:
يكثرون الصياح حتى كأن الس
فن تجري من خوف ذاك الصياح
فبينما نحن من البحر في قاموسه، كتب الجو حروف الغيم في طروسه، وثارت ريح عاصف، يتبعها رعد قاصف، فمالت بنا الفلك واضطربت، ودنت شفتها من رشف الماء واقتربت، واستمرت ترفع وتخفض، وتقرب وترفض، وتعلو على الأوتاد، وتهيم في كل واد، وتحوم وتحول، وتجود وتجول، وتضرم في الكبود نار ناجر، إلى أن بلغت القلوب الحناجر:
ألا فارجه واخشه إنه
هو البحر فيه الغنى والغرق
ثم نظر إلينا من لا تخفى عليه السرائر، وأمر الجارية بحمل العبيد إلى بعض الجزائر، فلم ندر إلا ونحن تجاه جزيرة، تسر النفوس بمحاسنها الغزيرة، فانحدرت ماضيا إلى بنيها، نائبا عن السفينة وساكنيها، فوجدتها مخضرة الأفنان، مخضلة الكثبان، بها من الياقوت ما يرجع خاسئا مناويه، ومن الأشجار ما يحمل الفواكه والأفاويه، وبين رياضها نهر شديد الخضر، أرضه ذهب وحصباؤه درر، وأمواجه عكن وداراته سرر:
عذب إذا ما عب منه ناهل
فكأنه من ريق خود ينهل
لين الأديم ، مزاجه من تسنيم، يصقله الصبا ويفركه النسيم، فكأنه دروع موضونة ، أو مبارد مسنونة، أو دمع يتسلسل، أو أفاع تتململ، أو ذوب فضة يسيل، أو صفحة سيف صقيل، أو لوح بلور مرقوم، أو رحيق بالمسك مختوم:
وكأن الطيور إذ وردته
من صفاء به تزق فراخا
إن مالت إليه الغصون فالشخوص ترقص في الخيال، وإن كرعت منه الظباء فالغيد يرشفن من ثغور أترابهن الزلال، وإن أشرقت عليه النجوم خلت الفلك يدور في أرجائه، وإن تجلى له البدر حسبته قلبا خافقا بين أحشائه. قال مؤيد الدين الطغرائي:
والشمس إن وافته راد الضحى
حسناء في مرآته ناظرة
أنموذج الماء الذي جاءنا ال
وعد بأن نسقاه في الآخرة
فلبثت فيها مدة، مفكرا فيما رأيت من الفرج بعد الشدة، مؤمنا بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، واقفا على شكر من تجري الفلك في البحر بأمره:
ربما تجزع النفوس لأمر
ولها فرجة كحل العقال
ولم أزل بها في أحسن حال، وأرغد عيش وأنعم بال، إلى أن حرك الله مني ما كان ساكنا، وأدخلني مصر بمشيئته آمنا.»
وكتب المغفور له عبد الله باشا فكري، المتوفى سنة 1307، عن الحضرة الخديوية إلى ملك دارفور: «حمدا لمن ألف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم بنعمته إخوانا في الدين، وصلاة وسلاما على رسول جنابه وسيد أحبابه، وعلى آله وأصحابه، من كافل الديار المصرية وما والاها من الأقطار السودانية، إلى حضرة صفوة السادة الأماجد، الجامع ما تفرق من مكارم المحامد، غرة جبين الشرف الأجلى، وقرة عين المجد الأعلى، بحر الفضل الزاخر، وبدر سماء المحاسن والمفاخر، وفخر الأوائل والأواخر، الملك المعظم، السلطان المفخم، محمد بن الحسين المهدي سلطان مملكة دارفور، حفظه الله بدوام السرور، والسعد الموفور. آمين.
بعد سلام ينبئ عن صريح الوداد، ويخبر عما في صميم الفؤاد، من صحيح المحبة والاتحاد، وتحية يحلو على الألسن حسن تكريرها، ويعبر عن صدق الولاء طيب عبيرها، وشوق يقل عنه البيان، ويكل دونه البنان، وسؤال عن الخاطر العالي أدام الله معاليه، وحف بطوالع السعد أيامه ولياليه. بينما نحن في انتظار ما يرد من الرسائل، والثناء على حسن تلك الشمائل، ورد لنا خطابكم الكريم، فقابلناه بمزيد من التعظيم، وسررنا بحسن صحتكم، وما أبديتموه من لطف مودتكم، فالله يرعى تلك الصحة ويلحظها، ويديم هذه المحبة ويحفظها. وقد أوضحتم أن سلفنا السعيد المنتقل إلى رحمة ربه المجيد - ضاعف الله حسناته وأحله أعالي جناته - كان قد جعل فلانا وكيلا في رؤية أموركم البهية على منهج السداد، ونحن أيضا قررناه في هذه الوظيفة، وأوصيناه بالاهتمام فيما يتعلق بتلك الحضرة الشريفة، وسيجد منا في ذلك حسن المساعدة، ودوام التسهيل والمعاضدة. ثم ما تكرمتم بإرساله مع كريم خطابكم، على يد القاصدين الواردين من عالي جنابكم، قوبل بقبوله عند وصوله، والمبعوث مع القاصدين المذكورين لناديكم الكريم، ما هو موضح بالبطاقة المطوية مع هذا الرقيم، والمرجو أن تتصل بيننا روابط الود على الدوام، كما جمعتنا علاقة الأخوة في الإسلام! وصلى الله على سيدنا محمد بدر التمام، وعلى آله وأصحابه الأعلام، غيوث الأفضال، وغايات الكمال.»
ولما سافر - رحمه الله - إلى مؤتمر المستشرقين بمدينة استكهلم عاصمة مملكة السويد، أرسل خطابا إلى صاحب الدولة رياض باشا، صورته:
دولتلو أفندم حضرتلري
أقدم من تحايا التبجيل والتكريم، ما يليق بذلك المقام الكريم، داعيا بدوام ظلال الإقبال، وجمال الأحوال، وكمال الآمال، أعطر الأرجاء بأريج الثناء، وأستقبل قبلة الإجابة بخير الدعاء. وقبل هذا حررت لسيدي الباشا علي الهمم، مبارك الطلعة المحترم، وذكرت بعض الجهات التي وردناها، في طريق الواجهة التي قصدناها، وكتبت أيضا لبعض الأجلاء، من السادة الأخلاء، ولبثت أنتظر أن يجيبني أحد بسطر أو بعض سطر، ولو بقدر قلامة ظفر، فما جاءني عن الدار ولا غيرها خبر، حتى حررت بالتلغراف لبعض الأصدقاء، فلم يظهر قبل وصولنا إلى السويد أثر. اللهم إلا أني كتبت من باريس يوم العيد، بالتلغراف للمعية السنية قياما بواجب العبودية من التعبيد، والتبريك لجناب ولي النعم الخديو الأعظم السعيد، أبقاه الله ممتعا بأنجاله وجميع آله بعمر مديد وحظ مزيد، مهنأ بالأعياد والمواسم، وثغور المسرة له كمحياه السعيد بواسم، يشيع الماضي مبرورا، ويستقبل الآتي مسرورا، ويكسوها من نوره نورا؛ فجاءني الجواب في بياض اليوم لم يتأخر، مبشرا بالقبول والممنونية.
وذلك لدينا عيد أكبر، وحظ أوفر، وسجدنا لله داعين ومؤمنين، ومسرين ومعلنين، ولم يزل دأبنا في كل موضع حللناه، وموقع نزلناه، نؤدي وظيفة الدعاء أحسن الأداء، وننشر ألوية مدائحه الجليلة عاطرة النشر، ونخلد في المسامع والمجامع طيب الذكر، ونعدد ما نعلم من المآثر الغراء والمفاخر الحسناء، تربو على الإحصاء، ونستتبعها بذكر محاسن أمراء رجاله، الأمناء الموازين له في أعماله، الناسجين على منواله، في محاسن خلاله، وأقمنا في باريس نحو عشرين يوما نراجع ما كتبناه بمصر من المواضيع التي حررناها للعرض على المؤتمر السويدي، ونعيد عليها النظر وفي خلال ذلك نتردد على معرض باريس العام وغيره من المواضع الشهيرة، فشاهدنا من الصنائع والبضائع وأنواع البدائع والنظام والإتقان والإحكام، ما يحتاج في إيضاحه من البيان، وتقريبه للأفهام، إلى مجلدات ضخام، واستخدام أعوام.
وسنذكر في الرحلة - إن شاء الله - مما رأيناه في هذه العاصمة وغيرها ما يبلغه الجهد ويساعد عليه الحال. وفي أثناء تلك المدة أردنا معاينة المدارس الموجودة هنا، فصادفنا الوقت وقت عطلة، فكانت كلها مقفلة معطلة، فلم أحصل على الغرض من ذلك، إلا أني لم آل جهدا في تحصيل قدر كاف من بروجراماتها وقوانينها وترتيباتها عن أنواع متنوعة من ابتدائية وثانوية، وخصوصية بعضها بالشراء وبعضها بالاستهداء، وأحضرت جملة جداول وبيانات عن بعض أدوات التعليم وأثمانها، ومحلات بيعها، وشاهدنا جملة من المدارس المذكورة مختلفة الأنواع، إلا أنها خالية من الدروس والمدرسين والتلامذة، ليس بها إلا البواب وبعض الخدم، فرأينا محلات التدريس وبعض أدوات التعليم. وكان من جملة ما رأيناه مدرسة زراعية سافرنا إليها من باريس بسكة الحديد ورجعنا في يومنا، وكانت مغلقة أيضا، ولم نجد مدرسة من التي رأيناها جاريا فيها العمل إلا مدرسة خاصة بالأطفال الصغار من سن سنتين ونصف وثلاث سنين يقيمون بها إلى سن ستة، ويتولى أمرهم فيها معلمات قد صرن لهن كالأمهات المشفقات، يتحببن إليهم ويتحببون إليهن، ويراعين تعليمهم بطرق سهلة في غاية البساطة واللطافة والملاءمة لحال الطفل، لا يظنها إلا من اللعب والمحادثة.
وقد أحضرنا ترتيبا عنها مفصلا، وأعجبتني الطريقة المتبعة بها جدا. ثم سرنا من باريس إلى لوندرة، وأقمنا بها أياما، ومنها إلى محل المأمورية معرجين على روتردام، ثم ليدن، ثم أمستردام، ثم كولونيا، ثم هامبورج، ثم كوبنهاج، ثم مالمو، وهي أول ثغور مملكة السويد. وفي أثناء مسيرنا منها إلى العاصمة صادفنا من معتبري البلاد من عرف من هيئة ملابسنا المشرقية من الطربوش والعمامة أننا من أعضاء المؤتمر الذين طوحت بهم إلى بلادهم مرامي السفر، فصاروا يتعرفون إلينا ويتقربون منا ويلاطفوننا غاية الملاطفة، ويجملون لنا المقابلة والمعاملة، إلى أن وصلنا إلى استكهلم، ونزلنا الأوتيل. وهناك اجتمعنا بالكونت لاندبرج، فحضر وسلم علينا، ومضينا معه إلى مكتب المؤتمر محل أشغاله، فأطلعنا على المحل المعد لانعقاد المؤتمر في جلساته العامة والخاصة ومواضعنا فيه، وهي في جزء مرتفع عن باقيه بدرج، وبه كرسي للملك وخلف ظهره العائلة الملوكية، وعن يساره موقف من يخطب وكراسي لجلوس الوفد المصري، وعن يمينه بعض وزرائه وسفير العجم في الآستانة العلية؛ محسن خان، والوفد العثماني وبقية وفد العجم، وبين يديه الكتب المهداة إليه. وفي باقي المحل أسفل من هذه الدرجة مواضع باقي الناس أعضاء المؤتمر، والمحل يسع فوق خمسمائة نفس، وفي أعلاه محل مرتفع مشرف عليه لجلوس النساء به، يسع نحو مائة وخمسين. وأعطى الكونت لكل واحد منا علامة العضوية في المؤتمر، وهي شبه وردة من قماش لماع ملون بالألوان الموجودة في علمي السويد والنرويج، مثبتة في شبه زر يجعل في عروة السترة، لبس الملك واحدة منها.
وقد حضر في أثناء وجودنا هناك، فرآنا وعرفه بنا الكونت فسلم علينا بيده واحدا واحدا، وقابلنا بغاية البشاشة، ولما سلم علي أظهر محبته للجناب الخديو المعظم، وشكره على إرسال الوفد، وسروره بحضوري، ولما سلم على أمين بك قال له: أنت ترجماني لوالدك، وفي ثاني يوم وهو يوم الأحد طلبنا إلى سرايته بعربات حضرت إلينا لمقابلته المقابلة الرسمية، ولم تكن المقابلة الأمسية رسمية ، فتوجهنا بالكساوي التشريفية والنياشين كما أشير علينا، فلما دخلنا عليه وجدناه بالكسوة التشريفية والنشانات أيضا، فأعلن المسرة والممنونية والثناء على الجناب الخديو الفخيم، وسلمت إليه المحرر الكريم الخديو، وأجبت قائلا:
مولاي، أقدم لجلال مقامك الرفيع الشأن تحايا التعظيم والإجلال والثناء الفائق من لدن مولاي خديو مصر المعظم، مؤيدا ذلك بتقديم محرر سموه المنطوي على خالص المودة، المتضمن تعييني وتعيين رفاقي الماثلين بين يدي عظمتكم، للحضور في المؤتمر العمومي العلمي الذي توجهت خواطركم الملوكية لانعقاده في هذه المملكة العامرة، لما يترتب عليه من الفوائد المهمة لنشر العلم وتقدمه واتحاده، باشتراك القريب والبعيد والشرقي والغربي فيه، ولم يكن ذلك ليتأتى إلا بتوجه همة الملوك إليه. فلك يا مولاي الفضل الجزيل على ذلك المسعى الجميل، وأختم قولي بتقديم واجب تشكراتي لما نلت من لطف الرعاية الملوكية، لا سيما في هذا الموقف النبيل، لا زال موقع إجلال ومنتهى كمال. وكان ذلك يوم الأحد، أول سبتمبر سنة 1889.
وبعد ذلك انصرفنا، وفي ثاني يوم اجتمع الناس لافتتاح المؤتمر، وحضر الملك في الميعاد المقرر، وحضر الناس وأخذ كل موضعه، فافتتح الملك المؤتمر بخطبة حسنة ألقاها وأجاد فيها وفي حسن أدائها، قال في ضمنها: «إن السلطة قبل كانت للقوة والاستبداد وليست الآن إلا للعلم.» ومضى فيها حتى أتمها واقفا والناس بين يديه وقوف، ثم جلس. وخطب بعده المسيو كريمر وافد النمسا، ثم سفير العجم، فخطب خطبة باللغة الفارسية، ثم وافد السلطنة العلية العثمانية أحمد مدحت أفندي، فتلا مقالة باللغة التركية. ثم أشير إلي، فقمت وأنشدت قصيدة كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس، فأتممتها في الطريق، وبيضتها في استكهلم، فابتدأت أقول:
اليوم أسفر للعلوم نهار
وبدت لشمس سمائها أنوار
ومضيت فيها إلى آخرها، وصفق الناس لكل من خطب، وبالجملة لي ما أتممت الإنشاد، وخاطبني أناس منهم باستحسانها في اليوم، وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها، وسارني بطلب نسختها، فأخذها في الحفلة. وخطب بعد ذلك أناس، منهم الموسيو شفر وافد فرنسا. وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك ليس فيها تقديم موضوعات علمية. ثم قام الملك وودع الحاضرين، وصافح البعض وصافحنا وقال حسنا، وانصرف وانصرفنا، وانفضت الحفلة، وارفضت الجمعية.
وبعد ذلك انقسم المؤتمر إلى فصول متعددة، فكنا في الفصل الأول المعد للغة العربية، وصارت الفصول تجتمع كل يوم وتقدم فيها الموضوعات المعدة للعرض عليها بعد أن يقدم بيانها لكتاب اللجنة إجمالا. ويكون في كل يوم بعد الظهر فسحة ووليمة ونزهة كل مرة في جهة وبكيفية غير التي قبلها. واستمر الحال على ذلك إلى أن انقضى المؤتمر. وفي أثناء انعقاد جلسات فصوله المذكورة قدم مني ومن جميع رفاقي ما أردنا تقديمه مما أعددناه لذلك، وقوبل ما عرض من كل واحد منا بالاستحسان والاعتبار، وقد أبقى واحد منا عنده نسخة مما عرضه بعد تقديم نسخته، وأعطى من معه نشان من بلاده، نشانا من طرف الملك، وأعطيت نشانا من النوع المسمى «وازا» من الدرجة الأولى، فشكرت للملك ودعوت لمولاي ولي النعم الخديو الأكرم.
وقبل قيامنا من استكهلم أولم الملك وليمة خاصة في سرايته دعا إليها خواص أعضاء المؤتمر إلى مائدته الخاصة، وكنت من جملتهم، وقبل الدخول إلى المائدة أعلم كل واحد بموضعه منها وموضع من بجانبيه، فكان عن يمين الملك سفير العجم في دار السعادة، وعن يمين السفير المشار إليه البارون دوكريمر الوافد من طرف النمسا، وكنت عن يمين البارون دوكريمر، وعن يميني الكونت دولاندبرج.
وفي أثناء الطعام، شرب الملك على اسم الجناب الخديو، خاصة بعد الالتفات إلى ناحيتي، فقمت مؤديا رسوم التعظيم والشكر.
وكان كلما صادفني في موضع من المواضع يكلفني بإبلاغ سلامه وشكره للحضرة الفخيمة الخديوية، وكرر القول بمحبته للجناب الكريم وقال: إنه أخي. وعزفت الموسيقى بسلام الحضرة الخديوية مرارا، كان آخرها في آخر مدة المؤتمر بناحية خرستيانيا من مملكة النورويج، فكنا نقوم في أثناء السلام مؤدين شعائر التعظيم والاحترام. وانتهى المؤتمر والمأمورية بحمد الله على خير، وكل واحد ممن معنا في غاية الاستقامة والكمال وانتظام الأحوال، والمحافظة على شعائر ديانته وحكومته وهيئاته وملابس بلاده وإقامة صلاته، داعين للخديو الأعظم ناشرين لمدائحه.
وقد أخذنا في الرجوع إلى الوطن العزيز، ووصلنا إلى ناحية «جوتمبرج»، ومنها نتوجه اليوم إن شاء الله إلى «كوبنهاج»، إلى «برلين»، إلى «ويانة»، إلى «تريستا»، إلى «برنديزي»، إلى «الإسكندرية»، ناذرين بعض الصدقة والصلاة والسلام على النبي عليه السلام إذا حظينا بتقبيل يد جناب خديونا المعظم ولي الإنعام، ولقاء ساداتنا وإخواننا وأحبابنا الكرام، 13 سبتمبر سنة 1889.
وكتب المرحوم الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري في سنة 1301 إلى الشيخ أحمد الحلواني كما جاء في «الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية»:
بسم الله وبحمده
تحية تحيا بها معاهد تنصيص المحبة، وتحلو بها موارد تخصيص الوفاء الذي يفرح به الحبيب نفسه وعينه وقلبه، أرق من خصر ممشوق، لأهيف معشوق، ومن صهبا كعين الديك صفى سلافها الراووق، وأدق من جسم نحله الضنى كجسم محبك، وأكله العنا كمن ابتلي ببينك بعد أن بلي بقربك، وثناء يروق سنا وسناء، ويفوق القمر نورا والشمس ضياء، لحضرة نضرة وجه هذه الأيام، التي لولاها لما عرف فرقا بين الليالي والأيام الأنام، السيد الذي شد الله به أزر السيادة، ومد بمدده على وجه البسيطة بحر السعادة، روض الأمالي والأماني، حضرة الأخ الهمام السيد الحلواني، لا زال يتيه على محبيه تيه الملوك على بعض المساكين، ويليه كل صديق فيه أمين، «آمين».
سيدي، ما الذي أوجب تناسيك لمحبك الذي لم ينس لعهدك، والذي لا يزال على ممر الأيام يرقب إلك، ويرعى ودك؟ وما الذي توهمته في صديقك الفقير الصادق حتى قطعت صدقات رسائلك عنه وهو بها وامق، وبك واثق؟ سيدي، ما هذا التجني، والإغضاء عني؟ سيدي، ما لعرائس كتبك عني استأخرت، ولأوانس فضلك مني استنفرت؟ وإني بها لرءوف شغوف، بحسنها الشفوف. سيدي، ما لك نسيت من لهج بذكرك وذكراك، ولا يتمنى بعد دوام الإيمان إلا دوام محياك؟ سيدي، ما لي لا أرى هدهد كتابك المبين، أم كان من الغائبين؟ لأعذبن خاطري به عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين، يأتيني من سبأ ساحتك بنبأ يقين، يقيني من الجوى، فيقيني أنه شفاء لقلبي الجريح من النوى. أفأن أحاط بما لم يحط به في البلاغة أحد جرد سيف القطيعة لرحم أحبته وأحد؟! أو أن جد درسيس البراعة ما جد، أو مزح، جند خميس الهجران، وصعر خده للإخوان، ومرح؟! كلا، إنه لكتاب كريم، وإن كان ربما شرد ونفر كريم. سيدي، ما لخمائل جمائلك التي كانت تهز أعطافها نسمات الحنين، إلى أسيف بينك الذي به له في كل آن أنين، تسنت ولم تتثن كعادتها؟
وما لشمائلك التي لعبت بها شمول اللطافة، وهي أحلى من الزرافة، وألذ من الكنافة، تجنت ولم ترمقني حور غاداتها، الرافلات في حرائر بهجتها؟ سيدي، ما هذا الدلال وما له من دليل؟ وما ذلك الملال وليس له وجه جميل، بعد دلك الجميل من ذلك الجناب الجليل؟ إن كنت مقصرا فأنت بكل كمال محلق، أو كنت عن الوفاء أقصرت فيما أسلفت فإني الآن على بابك متملق. سيدي، وأبيك، ما هذا الظن بمعاليك، وأخيك وحميك وفيك؟ ما كذا كان أملي فيك! سيدي، كيف أمكن علياك، أن تخرق بغير الإحسان سماء سجاياك؟ ولا سبيل لخرق العوائد ولا مجال، وقد قيل أيضا إن الخرق والالتئام في السموات محال، ولا أزال أقول: سيدي سيدي، حتى يشتد بعودك إلى حنانك إلي ساعدي، ثم أرجع فأقول: سيدي، الحمد لله الذي أنجاك وأنجالك وحباك وأحباك السلامة من ذلك الحادث المهول، والحمد لله الذي كفى الجميع أمره، ولم يجرع أحدا منا مره، فلكم ولنا وللجميع الهناء الأكبر، وله تعالى الحمد والشكر أكثر ما يحمد وأكبر ما يشكر، والله تعالى يمتع الوجود بدوام طلعتكم، التي هي مطالع السعود ما تعطر كل نادي، بالثناء على مقامكم الرفيع من الفقير عبد الهادي.
قال الشيخ عبد الهادي بعد هذه الرسالة ما نصه:
وجواب هذه الرسالة لم يرد لنا، مع أنه كما أشار حضرة الشيخ في جوابه الآتي يعلم أنه أرسله هو وغيره، فكأنما ضن بها بريدها، أو قطع الطريق مريدها. ثم مضت شهور ولم يصلني من ساحة حضرته جواب ما، وكان متن الدورق الذي نظمناه في أسماء الأضداد وتفضل هو بشرحه بطرفه، فأرسله فوجدت في خطبته بيتا كان مخرجا بالهامش، فيه بيان لما درجنا عليه فيه مضروبا عليه، فكتبت له هذه الرسالة، جاعلا سجع نثرها كنظمها، منسوجا على روي واحد، حتى تكون كملبوس الوقت إذا استحسن أهله أن تكون البدلة من لون واحد أو متقارب، مع عدم سآمة السمع لذلك السجع لاختلاف حركاته، والتئام مناسباته فيما أظن، فقلت:
قد أومأت لك باللواحظ عزة
أفيرتجى لك بعد ذلك عزة؟
كلا فما لمتيم أبدا بدت
إلا وقد ضربت عليه الذلة
في مقلتيها فترة تغزو بها
أهل الهوى لا تعتريها فترة
مهما تحركتا فما بمتيم
أبدا حراك هل تحرك ميت؟!
ولقد يشوبهما دلالا سكرة
فتنوب أبطال الصبابة كسرة
من ذا يرى الألحاظ سكرى ثم لا
يغشاه من نظر إليها سكرة؟
من ذا يراها راقصات ثم لا
تعروه من دون اختيار هزة؟
من ذا يرى هذا التغنج ثم لم
يوقعه منه في خيال غنجة؟
يغزو مزجج حاجبيها مهجة
أفتستطيع المرهفات المهجة؟
من ذا يرى هذا التزجج ثم يز
عم أن له مما دهاه نجدة؟
وكأنما الأهداب ترمي في الحشا
شررا له في كل قلب حرقة
هي ريش سهم منية ترمي به
عن قوس حاجبها فتصمي الرمية
من رام نظرة ذلك الحور الذي
حارت لخدعته العقول الفكرة
فليستعد لمحنة تغشاه يا
ويلاه إن غشيته تلك المحنة!
عقباك غير حميدة يا طرف إن
لم تغضضن تسفر إليك حميدة
فالعين تشخص والفؤاد على شفا
جرف له في كل آن أنة
وإذا ذوائبها غدت مسترسلا
ت فالقلوب ذوائب تتفتت
وإذا معاطفها انثنت متمايسا
ت فالعقول ذوائب تتشتت
حركات لطف لا تكاد ترى كأن
جمع التحرك والسكون الميسة
لا تعجبن فإن فيها النشر في
ه الطي فيه القبض فيه البسطة
وبوجنتيها للقلوب جهنم
أبدا وفيها للنواظر جنة
كادت تعبد نهية لي وهي تح
سب أنها كنهى سوائي نهية
لا أنها وعيونها المرضى بأع
ين سيدي ملحوظة مكتنة
السيد الحلوان من بهدى طرا
ئقه اقتدت فنجت لعمري الأمة
وبنوره اهتدت الأفاضل وارتوت
من ذلك البحر المحيط أئمة
وبه ترشحت الفهوم وبان من
طرق البيان حقائق مكنية
وبنحو تصريفات تحريراته
سهلت من الآداب طرق صعبة
وبحسن تحبيرات تحريراته
راقت وساغت للمعارف شرعة
من نظمه انتثرت عقود بلاغة
وفصاحة هي للمعاني عدة
وبنثره انتظمت سموط براعة
وبداعة هي للبدائع بهجة
هو قدوة للعالمين وقرة
للناظرين ومنة هي منية
فيشنف الأسماع منه منطق
عذب به تحيا النفوس الميتة
ويشوف الأبصار منه طلعة
هي للوفود بكل بشر طلقة
وترنح الأبصار منه حكمة
شرعية أو نكتة أدبية
وتروح الأرواح منه رؤية
تغدو بها الألباب وهي روية
وتفرح الأحباب منه خليقة
هي بالثناء وبالسناء خليقة
وتفتح الأبواب أبواب الهدى
منه لعمرك سنة سنية
فلكل عين من سناه قرة
ولكل قلب من هداه هدية
ولكل نفس من علاه منية
ولكل شخص من حلاه حلية
يا سيدي قد كنت أعهد دورقي
في فيه لكن لاحتياج ضبة
فرأيتها لما أتى خفيت وسو
د وجهها المبيض عندك شطبة
قد أفرغت منه وحقك قطرة
رهقته من أن فارقته قترة
هي عند حضرتك الشريفة فلة
لكنها وأبيك عندي قلة
بيت تهدم من مدينة نظمه
لكنه لبني الصناعة قلعة
خطبته مني خطبة فأجبتها
فتروحت بحلاه منه قينة
فامنن عليها بالرجوع لأصلها
فلقد دهتها بالبلاء الفرقة
لا زلت تمحو ثم تثبت ما تشا
ء وأسفرت لك بالأماني العزة
سلام تلوح في مشارق المهارق منه على صدق الإخاء كواكب آيات بينات، وتفوح في رقائق شقائق خده من حق الوفاء بعهده نفحات عنبريات، يراجع به مهديه معاشرة المعاشرة التي بت السيد طلاقها بتا، ويجدد به عهد الود الوثيق الذي لا ترى في سبيله عوجا ولا أمتا. وتحيات أرق من نسمات الصبا إذا تنسمت، وأشرق من بسمات الصبا إذا تبسمت، وأشوق من رف رقيق ثغر عروس زفت، ولف رشيق قد خود رفت غلائها وشفت، آنس من سمر غانية تطوست، تتغنج في سمرها تارة وتتغنى تارات، وأنفس من مائسة تبرجت تنثني معاطفها الرشيقة الرقيقة الحركات، إلى حضرة روضة بصري وبصيرتي، ونضرة طلعة نعمي ونعمتي، السيد الذي بإعرابه بنيت قصور البيان بعد انقضاضها وسورت، وببدائع بدائهه جمعت أشتات المعاني بعد انفضاضها، وصورت مشكاة الشريعة والحقيقة، ومرقاة الطريقة للخليقة على الحقيقة.
سيدي الذي له أشكر أيادي فضل علي توالت، وعوائد بر عني قط ما تناءت ولا توانت، وإليه أشكو شقتي التي بعدت، ومشقتي لبينه الذي رأيت روحي به قد بعدت، وتواني كتبه التي كانت لروحي في كل غدوة غدوة، ومنن تحننه التي كانت تنفس عن النفوس في كل مساء وغدوة. وأظنه - إن شاء الله - يقبل شكايتي، ويقبل علي ممتنا بما به راحتي ورحمتي، فإما منا بعد بعده بالمراسلات، وإما فداء - فداه أبي وأمي - بما هو النعمة الكبرى من المشاهدات. فإني والله - والله أعلم - أعلم أني أحن إلى أثره وعينه حنين الخمس إلى الست، وأحنو على طرائف لطائفه حنو الوالدة على الابن والبنت، وأتشوق إليه تشوق شيبتي لعود عيد رونق شبيبتي، فإن بذلك تفوق وتروق صحتي، ويغوث ولا يعوق به رونق قريحتي.
وماذا عليك أيها السيد إذا جعلت ذلك من جملة مالك من حسنى الحسنات، ومنحت به محبك الذي لا يتسنه وده بتسنه السنوات؟ منحك الله كل ما تمنيت، ونفحك بنفحات قدسه أينما كنت وحيثما انتهيت، آمين. في 13ج سنة 1301.
فورد جواب هذه الرسالة في 22ج سنة تاريخه بما صورته:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيدي، أما توقد أشواقي، فقد صعد الروح إلى التراقي، بل أسالها دمعا من أحداقي، فهي منهلة المآقي، ما بها ولا لها من راقي، فآها لها من حدق، صبحها الدمع ومساها الأرق! وكيف لا يصوب دمعها الغدق، فيقضي بالغرق، هياما بتلك الشمائل التي لو دنت من الصخر لرق وإلا انفلق، أو رنت إلى البحر لأصبح عذبا فراتا يشفي الحرق وإلا انفرق؟ فلو أنه النيل لطاب حتى لا يشتكي منه شرق وإلا احترق. أم كيف لا يعروها شوقا إلى ذلك الخلق الكريم، الذي هو أرق من النسيم، أرق على أرق؟ ثم آها وآها من ذلك الشوق الذي طبخني حتى العرق مرق! وحتى غلى العرق أيضا، فقيل انشلوه من المرق وإلا احترق. ومن العجب أني مع هذا الحال المشروح، أغدو وأروح، ولكن من حلاوة الروح، وربما طار طير وهو مذبوح! فيا حبيبي أكذا؟ ويقول السيد أني طلقت عشرته الشريفة بتا، وكيف وهي التي أمت بها إلى الزمان متا؟ يا أيها السيد، مكره عبدك لا بطل، ولا تؤاخذني في تغيير المثل، فكيف يثبت السيد الطلاق، ولا طلاق في إغلاق باتفاق، ولا أقول بإطباق؟ أيحكم بالتفريق على الطريق، ويدير هذه الكأس على الريق، وذلك خلاف مذهبه، ومما لا يقول، أليس قد علم تعطشي به، لتوطني بمصر، حتى أجلو بقرب مجلسه الكريم، صدأ ما أصابني لبعده من الإصر؟
فأما انقطاع الأخبار، وتواني الأسفار، فذلك شكيتي، وعين قضيتي؛ فقد أرسلت للسيد كتابين، ولم أقف من جوابهما على أثر ولا عين، فهل طارا في مخالب البين، في المابين؟ إذن فما أصنع في سوء البخت، وتربع كيوان فوق التخت، وتصرف الوقت بأنواع المقت؟ لولا ما نتعلل به من استعمال الصبر في انتظار حلاوة الفرج، وعادة الصبر أن يغتال كل حرج. فبينا أنا في صبيحة قد ابتسمت بالصباحة، كوجه المليحة تلألأت منه الملاحة، إذ طلع كوكب تائية السيد البهية التي أربت بوشيها المحبوك، وتبرها المسبوك على كل تائية، ولعمري لقد وردت على العبد مهموما فسلت همه، مغموما فسلت غمه، معتلا فأبرأت عليله، مستهاما فبردت غليله، غافلا فنبهته، جاهلا ففقهته، فقلت لها: أهلا بك من زائرة، على أنك أشرد من غزال سافرة، على أنك أدق من خيال ساحرة، على أن سحرك الزلال حلال، فلوحي للدر شمسة بل للدراري شمسا، وبوحي للتائيات وغيرها نبرز من بدائعك الروائع همسة، فلا تسمعها بعد ذلك إلا همسا، واسطعي على تفننك في بيان بدائع المعاني بذلك المحيا البشيش، حتى تقول أجنحة الطواويس، لا شك أن حسني على بديع تلونه في الريش، واطرفي عين نور الشجر بطرف ألفاظك اليانعة النضرة، واكتمي نفس نسيم السحر بأنفاس معانيك الرائعة العطرة، وامتزجي بالأرواح التي أصبحت تتقاطر عليك، فروحيها بلطف السمر، فإنك من لطائف شمائل منشيك معتصرة ، ثم تفضلي فاهزئي بالمعلقات، واكتبي بصكهن فإنك قد قضيت بأنهن قد صرن مطلقات، واضربي سيارة جرير بفخارة الفرزدق، ولفي نسائج بشار في أبيه وارمي بها في وجه مهلهلات أبي الشمقمق، واضحكي ببواسم جواهرك المنتظمة من تقاطيع ابن بسام، وقطعي عن رأس تقاطيف الجزار مقاطعات اللحام، وأسمعي سجع المطوق رنة سهمك المفوق، واصفعي قفا ما يساميك من أشعار العرب بوجه أشعار العجم، وافعلي بجميعها فعل أبي الطائي بالغنم، ثم هكذا فافعلي وبخدود حسان الأشعار فإنك عزتها، وإن كنت في عشقي جميلا لا كثيرا، فتنعلي سودي فديتك بوجودي، فما يشق لك غبار، ولا تجارين في مضمار.
ثم عندي لك نصيحة فخذيها صريحة، احذري على مالك من الرمزات، أن تسرقها عيون الغواني غمزات، وعلى رقة غزلياتك أن تختلسها مغازلة، وشدة حماسياتك أن تستلها سيوفا للمقاتلة. وصوني مواصيلك عن مقاطيع الشعراء، فإنهم لما أدركهم من حرفة الأدب سراق. وتبرقعي ببراقع التورية إلا عن الأكفاء من ألباب الألباء، ففيهم عن نهزة الأدب مراق. ثم هاتي خبريني عن سر أسألك عنه، فمثلك من يعربه، واصدقيني وإن كان الصدق كالصديق قد عز مطلبه، ولا تقولي: أنا شعر والشعر أعذبه أكذبه! بالله ماذا أراد السيد من زفافك إلي يا أيتها العروس، وأنا كما ترين على حافة القدوس، لا أحسن أن أعض ولا أن أبوس ولا أحوس ولا أدوس؟ فقالت: أراد أن تتمتع بالنظر إلى محاسني الغرا. فقلت: أهان عليه عقلي حتى يبهره بتلك المحاسن بهرا؟ قالت: ورام أن يحيي لك بين أهل الأدب ذكرا. فقلت: سبحان الله، وهل يستحيل السها بدرا؟ قالت: وأحب أن يذكرك بعهد الوداد نظما كما ذكرك به نثرا. قلت: وهل نسيته لحظة فأحتاج للذكرى؟ قالت: واشتهى أن يفرغ عليك حلة أساليب البلاغة، فلعلك أن تكتب على طرازها ولو سطرا؟ فقلت: تلك لعمري رتب تسقط الأماني دونها حسرى، على أن النسر قد عز ابن دأية قسرا، وعشش في وكريه حتى رأيت النجوم منه ظهرا، أفبعد ما صار شيبي بدرا، يبغي عندي من الأدب بدرا، أو من الشعر شعرى؟ وهل أبقت رحى الأيام لبا أو قشرا، أو ترك معصار الدهر خلا أو خمرا؟ اللهم غفرا! قالت: وقصد أن يتعرف لما صنعته بدورقه السرى سرا، فإنك نحرت خطبته نحرا، وكسرت ضبة فمها كسرا. قلت: وقد فهت أنت أيضا بذلك جهرا، وتركت الناس تروي ذلك عنك كما تروي بك برا وبحرا! لا وألحاظ إشارتك السكرى، حين اكتحلت سحرا، فأسرت أبطال الصبابة أسرا، ثم قالوا: أتحبها؟ قلت: بهرا، ما جمشت تلك العذراء، ولا خمشت لها نحرا، ولا أسقطت لفيها درا ولا أرقت لريقها العذب خمرا، وإنما تركت حسنها يقطر قطرا.
بالله متى زادت خطبة عن أربعة وأربعين شطرا؟ ثم بالله كيف صدقت أني أنقض منها سطرا بطرا، وما عهدت عندي غدرا؟ قالت: لعمري لقد أرهقتك عسرا، وأوسعتك زجرا، على أني لم أستبطن لك شرا، ولم أرد بك - لعمري - إلا خيرا، فكيف ترى يميني هذه؟ قلت: برا، وهل أتوهم فيك شيئا نكرا؟! لا وطلعة السيد التي هي للوفود طلعة غرا، لا وحسن تخلصه الذي إن اكتحلت به العيون المرضى فإنها من المرض تبرا. قالت: إذن فقدم للسيد على وجهي شكرا، ومهد له فيما كان عذرا. قلت: قد فعلت؛ فقد زففت إليه عروسا بكرا. قالت: أهي مثلي تائية كبرى؟ قلت: بل كافية صغرى. قالت: ولم تركت الشعراء ينظرون إليك إذ خالفت الروي شزرا؟! قلت: أليست الكاف أخت التاء في أمور جاءت تترى، أليست تلاقيها وتقالبها فيما يجل حصرا؟! قالت: ولكن ما هي هي فلا بد للعدول من نكتة أخرى. فقلت: قد أتممتها في الكأس المروق؛ فأحببت أن تكون للسيد بشرى. قالت: أما هذا فليكن عذرا، فقل: أهي مثلي في محاسني الغرا، وهل تحكيني نثرا أو شعرا، أو كفلا أو خصرا، أو صدرا أو نحرا، أو قدرة أو قدرا؟ قلت: كلا، ولكنها إن لم تؤكل درمكا فتمرا، وإن لم تشرب قهوة فدرا، وإن لم تنظر شمسا فبدرا، وإن لم تسمع معبدا فعمرا، وإن لم تشم مسكا فزهرا. على أني ربما فشرت في ذلك فشرا، وعلى كل حال فما تجيء للبك قشرا، فأنت أسرى وأشد أسرا، وأعظم قدرا. قالت: فانو عن غيري الصوم ثم استيقظ من النوم، وحدث عني القوم، إني سيدة القصائد اليوم.
فاستيقظت من المنام، وقد بلغت المحاورة بيني وبينها حد التمام، فإن لم يؤوله السيد بما يرام، فليسمه على الأقل أضغاث أحلام. والسلام. 26ج سنة 1301.
القصيدة المشار إليها في الجواب
لا يا بثينة والهوى لم أسلك
ولغير ما ترضينه لم أسلك
هاتي فديتك خبريني ما الذي
قدرت أن أسلوه منك فتشتكي؟
أهو ابتسامك أم سلامك أم كلا
مك أو قوامك وهو أصل تهتكي؟!
أهو اللمى وإليه قد وقد الظما؟
آها على رشفات ذاك المضحك!
أهو الرقيق كدين أرباب الهوى
من خصرك المتزهد المتنسك؟
أهو الصحاح من الثنايا تزدهي؟
أهو المراض من الجفون الفتك؟
يا بثن لا والله ما قلبي سلا
يوما هواك نعم سلوت تنسكي
لا والصباح من الجبين المزدهي
لا والدجى من فرعك المحلولك
لا وازدهار الكون مهما أشرقت
شمس الضحى من وجهك المستضحك
بالله قولي كيف تمكن سلوتي؟
أولست أخشى منك سرعة مهلكي؟!
أخشى لحاظك فهو سيف منتضى
أوما إلي اسكن فلم أتحرك
وبسحره قد راعني إذ راقني
فكأنه لفظ الذكي ابن الذكي
السيد النحوي عون الملتجي
والمرتجى غوث اللهيف المشتكي
البارع الندس الذي سبق الورى
مجدا فأصبح في العلا لم يدرك
غواص علم كل علم زاخر
ما للأنام بشطه من مسلك
جواب آفاق الفنون إلى مدى
لم يحكه أحد الورى فيما حكي
صواغ ما سبكت قرائحه من الن
كت النضار طبيب ما لم يسبك
أوما ترى الدنيا غدت محبوكة
بحلى له من قبلها لم تحبك
وسل المطالع والمطالع والوسا
ئل والرسائل ثم لا نتحكك
وعلى يمينك إن دخلت القصر من
باب الفتوح فثم دورقه الزكي
فانهل إذن من كأسه وادخل حدي
قة أنسه وإلى الفواكه فاسلك
وإذا شممت أريج ذاك السيد ال
مفضال ثم فقم إذن وتمسك
وله فبايع فهو بالإجماع في
كل الفنون غدا أجل مملك
وله التزم وبه اعتصم أو فانقصم
وله فمق وبه فثق واستمسك
هو عروة الدين التي لم يعرها
أدنى انفصام في مقام أضنك
هو رونق الدنيا وروق نعيمها
هو صيقل الألباب مما تشتكي
أفديه من يقظ يكاد ذكاؤه
ينساب بشرا في الوجوه الحلك
ثقف إذا أوما إلى العضل التي
أعيت رمى أعضاءها بتفكك
روض إذا فكه استطرت فكاهة
وتراه جد فطار قلب الدوسك
إن راح ينشد قلت: عبد صبابة
أو جاء يرشد قلت: رب تنسك
وإذا أفادك ظل مثل المستفي
د فصرت في وصف المفيد المدرك
خلق له سجد النسيم ولو سرى
حقبا ليدرك لطفه لم يدرك
وانظر إلى الأدب استرق له فإن
قلت اغتدى مملوكه لم تأفك
أما رقيق الشعر فهو عتيقه
والحر يحسن للرقيق الأسلك
والدر راعته دراري نثره
فله بقاع البحر أي تمسك
والورق ما أدت لطافة سجعه
نغما لتحكي السجع بل لتبرك
ما الورق إن سالت رقائق لفظه ال
عربي تمحو عجمة المتترك
اللفظ يخطب والبلاغة منبر
والكون يسمع أو يخط بمألك
فضحت بديهته روية من ترى
فإذا بدت لم يبق بعض تشكك
يجلو بزوغ الشمس من بدهاته
ما الناس من ظلماته في معرك
ولجوده عندي حديث مطرب
قد غار منه البحر بعد تهتك
كم جعفر من فضله يحيى به
من يرتجيه فلا يقول ببرمكي
سقيا لأيام مضت في ظله
قشعت دجى ليل الهموم الأحلك
حيث الطرائف والظرائف والمعا
رف والعوارف في مزيد تشبك
يا عادة الأيام هل لك عودة؟
عودي فعودينا فديت وأوشكي
عودي فعودي قد ذوى ظمأ إلى
تلك العلا وخذي حشاي أو اتركي
عودي لدور الدورق السلسال في
نادي الصفا ولكل ملكي فاملكي
عودي فمولاي اصطفاه لنفسه
ولقد يكون على الأقل مشركي
يا أيها الأستاذ هذا دورقي
ملكي وقد أصلت فيه تملكي
وأبحت لي حور القصور بروضه
فظللت ثم على الأرائك أتكي
أأسومه خسفا وفيه لي المنى
لقد انتهجت إذن سبيل تضنك
أأحوطه بدمي وأثلم ثغره
أيقوم ثلم دون لثم يشتكي
وأبيك ما أسقطت منه درة
فيما علمت وقد عجبت لما حكي
فعقود خطبته بخاتم ربها
متناسقات لم ترع بتفكك
وكما عهدت قصورها العلياء لم
ترتع بنقض لا ولا بتدكك
وعلى افتراض النقض فالأستاذ يب
رم ما اقتضاه رأيه لتورك
ولينظر الأستاذ في البيت الذي
أوما له فقد استفز تشككي
أو فليطوقنا بنعمة رده
إن لم يجده كذاك فلنستدرك
فالبيت ليس لدي إثباتا ولا
محوا ولا عدا ولا نقدا شكي
لا زال ينفحنا بألطف نفحة
فنشم ريا طيب خاطره الزكي
أحمد الحلواني
وكتب الإبياري إلى الحلواني أيضا ردا لكتابين وردا منه يسأل في ذيلهما عن مسائل في الدورق: «سيدي الذي لا أطلب بعد دوام الإيمان إلا دوامه، وأن لا تبرح كواكب السعد والسؤدد إلا أنصاره وخدامه، ورد جوابك الأول والثاني، فكانا أوقع عندي من ضرب المثالث والمثاني، بما أنبآه من خبر سلامة السيد التي هي بهجة مهجتي، وروح روحي وسداد سدتي، وإن كبرا علي كبر تجني حبيب رنق النعاس في لواحظه النرجسية، وحقق أنه من ماء اللطائف مصور، فرأى الدلال مقيسا والمطاوعة غير قياسية ولو مجازية. ولعمري ما يوم العيد عندي، إلا يوم يأتيني من تلك الحضرة كتاب، أو يرد من تلقاء مدين فضلها الباهر سؤال، وإن كنت أبيت منه في ارتباك وارتياب؛ إذ قد وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا وأصبحت لملازمة الأمراض لا تعدم حسناء حالتي المتوهمة ذاما ولا تفقد عيبا، مع ما ينضم لذلك من حرماني الأمد المديد من رؤية طالع طلعتك وتروح روحي بقطف ثمر سمر حضرتك، وكثرة رؤيتي - حاشا من أشرت في كتابك إليهم - من تقذي العين برؤيتهم، وتتجرح القرائح بما يتفق من مجاراة قرائحهم؛ فلذا نحمد الله في كل وقت مرتين، ونلجأ إليه أن يمنح أولئك نفحة رقة تفقأ من غلظتهم كل عين، ولكن لا يزال لطف الله تلمع لي بروقه، وتلمح لقلبي بما أشوقه، من كتب السيد التي تمنع كل بأس عن كل بائس، وتمنح كل فرج وفرح لكل آيس ويائس، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك من قصور نظره. وأبيك إن رسائلك لعيني بصري وبصيرتي لقرة، ولطلعتي وجهي ووجاهتي لغرة ناهيك من غرة، لا أملك وربك العجب لحسن مواقعها، ولا الغبطة لكمال جمال منافعها، فلله تلك الروية وسبحان من سواها، ودقة ذلك النظر الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وإني وحق الله بما تبديه إلي من هذه التنبيهات، لكالنديم يقول في مجلس أنسه النظيم، طاب الصبوح لنا فهات وهات، وهكذا هكذا تكون المحبة الحقيقية، والسنة المحمدية الأحمدية، وإلا فلا وكذا يكون الإيمان اليافع، والعلم النافع، وإلا فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا.
ولقد أود أن يكون وجه الدهر لي في جمال شيمتك، وأماني في إصابة فهمك، وآمالي في جودة قريحتك. وليت دعائي مجابا فأدعو الله بقرب أو اتحاد الدارين، وأن يجعلني ملازما لك ملازمة العرض للجوهر في الدارين، فإن شوقي إلى حضرتك أكثر وأكثر من كل شيء إلا من ذكرك وذكراك، ولهفي عليك أكبر وأكبر إلا من صبرك عني وعدم سماحك بأن أراك، ويروقني أن رأى السيد - حفظه الله - فراش النقد وطيئا فتربع عليه، وفراش القلم مني متهافتا على سراج الجمع بغير تحرير فقص جناحيه. لا والله ما أقول ذلك إلا حقا، أرى به لك يدا لا تزال في عنقي طوقا، وهكذا الإخلاص يكون، والمؤمن مرآة المؤمن كما تفيدون، وقد أثبت عندي في «ذاج» ما لفظه:
ذأجت ماء بهمز بعد معجمة
شربت ما قل أو حتى رويت ظمأ
وقلت في «الفوج»: وفسر الفيج شخص واحد وجماعة ومرحانا ... إلخ، وقد كان غرني فيه تشبيه السيد مرتضى، وكان عدم تأملي فيه غير مرتضى، وبيت الشرح قد قلنا في قافيته - كما فهما - وهو منبئ بأني لم أر فيه التضاد صريحا، بل بحسب ما يفهم من عبارتهم وإلى الآن لم أزل أشم منها تلك الرائحة، فإن غدت لحضرتكم فائحة فتجارة رابحة، وإلا فما مانع من هدم بيته كليا، أولى من أكون فيه بلا موافق دعيا. وأما المطاوعة فلم يطعني اليراع فيها أن يجري بغير ما سبق، فإن كان كافيا وإلا فما تراه أحق.
أسأل الله أن يلقيني بلقياك نضرة وسرورا، ويزيدني بدوام حبك وفضلك فضلا وحبورا، ويوزعني من شكر صنيعتك ما أملأ به وطاب الأيام، وأستروح به إن شاء الله طيب حسن الختام. هذا وحضرات من نوهتم بذكرهم وطيبتم الكتاب بعبير نشرهم يزفون إلى ساحة فضلكم عرائس تحيات، تتهادى في غلائل أشواق متباهيات غير متناهيات، والسلام.»
وكتب القاضي الفاضل الشيخ محمد عبده إلى أحد أصحابه وكان في السجن بسبب الحوادث العرابية في 9 محرم سنة 1300:
عزيزي
تقلدتني الليالي وهي مدبرة
كأنني صارم في كف منهزم
هذه حالتي، اشتد ظلام الفتن حتى تجسم بل تحجر، فأخذت صخوره من مركز الأرض إلى المحيط الأعلى، واعترضت ما بين المشرق والمغرب، وامتدت إلى القطبين فاستحجرت في طبقاتها طباع الناس؛ إذ تغلبت طبيعتها على المواد الحيوانية أو الإنسانية، فأصبحت قلوب الثقلين كالحجارة أو أشد قسوة، فتبارك الله أقدر الخالقين! انتثرت نجوم الهدى، وتدهورت الشموس والأقمار، وتغيبت الثوابت النيرة، وفر كل مضيء منهزما من عالم الظلام، ودارت الأفلاك دورة العكس، ذاهبة بنيراتها إلى عوالم غير عالمنا هذا، فولى معها آلهة الخير أجمعين، وتمحضت السلطة لآلهة الشر، فقلبوا الطباع وبدلوا الخلق وغيروا خلق الله وكانوا على ذلك قادرين.
رأيت نفسي اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه في ليلة داجية غطي فيها وجه السماء بغمام سوء، فتكاثف ركاما ركاما، لا أرى إنسانا ولا أسمع ناطقا ولا أتوهم مجيبا، أسمع ذئابا تعوي وسباعا تزأر، وكلابا تنبح كلها يطلب فريسة واحدة، هي ذات الكاتب. والتف على رجلي تنينان عظيمان، وقد خويت بطون الكل، وتحكم فيها سلطان الجوع، ومن كانت هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين. تقطع الأمل وانفصمت عروة الرجاء، وانحلت الثقة بالأولياء، وضل الاعتقاد بالأصفياء، وبطل القول بإجابة الدعاء، وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء، وحقت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة والأنبياء وجميع العالمين. سقطت الهمم، وخربت الذمم، وغاض ماء الوفاء، وطمست معالم الحق، وحرفت الشرائع وبدلت القوانين، ولم يبق إلا هوى يتحكم وشهوات تقضى ، وغيظ يحتدم، وخشونة تنفذ، تلك سنة القدر، والله لا يهدي كيد الخائنين، وذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أصداف من الشبه، ومقذوفات من التهم، وسواقط من اللمم، ليموهوها بمياه السفسطة، ويغشوها بأغشية من معادن القوة، ليبرزوها في معرض السطوة، ويغشوا بها أعين الناظرين. لا يطلبون ذلك لغامض يبينونه، أو لمستور يكشفونه، أو لحق خفي فيظهرونه، أو خرق بدا فيرقعونه، أو نظام فاسد فيصلحونه. كلا؛ بل ليثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مخطئين، وقد وجدوا لذلك أعوانا من حلفاء الدناءة وأعداء المروءة، وفاسدي الأخلاق وخبثاء الأعراق. رضوا لأنفسهم قول الزور وافتراء البهتان، واختلاق الإفك. وقد تقدموا إلى مجلس التحقيق بتقارير محشوة من الأباطيل، ليكونوا بها علينا من الشاهدين، كل ذلك لم تأخذني فيه دهشة، ولم تحل قلبي وحشة، بل أنا على أتم أوصافي التي تعلمها غير مبال بما يصدر به الحكم أو يبرمه القضاء، عالما بأن كل ما يسوقه القدر وما ساقه من البلاء، فهو نتيجة ظلم لا شبهة للحق فيه؛ لأن الله يعلم - كما أنت تعلم - أنني بريء من كل ما رموني به، ولو اطلعت عليه لوليت منه رعبا أو كنت من الضاحكين!
نعم، حنقني الغم، وأحمى فؤادي الهم، وفارقني النوم ليلة كاملة عندما رأيت اسمك الكريم واسم بقية الأبناء والإخوان المساكين تنسب إليهم أعمال لم تكن، وأقوال لم تصدر عنهم لقصد زجهم في المسجونين، لكن اطمأن قلبي وسكن جأشي عندما رأيت تواريخ التقارير متقادمة، ومع ذلك لم يصلكم شرر الشر، فرجوت أن الحكومة لم ترد أن تفتح بابا لا يذر الأحياء ولا الميتين. قدم فلان وفلان تقريرين جعلا فيهما تبعات الحوادث الماضية على عنقي، ولم يتركا شيئا من التخريف إلا قالاه، وذكرا أسماءكم في أمور أنتم جميعا أبعد الناس عنها، لكن لا حرج عليهما فإني لأراهما من المجانين! ولم أتعجب من هذين الشخصين؛ إذ يعملان مثل هذا الذنب القبيح، ويرتكبان هذا الجرم الشنيع، ولكن أخذني العجب كل العجب غاية العجب بالغ ما شئت في عجبي ؛ إذ أخبرني المدافع عني بتقرير قدمه فلان الذي أرسلت إليه السلام، وأبلغته سروري عندما سمعت باستخدامه، وأنا في هذا الحبس رهين، إلى هذا الوقت لم يصلني التقرير ولكن سيصل إلي، إنما فيما بلغني أنه شهادة بأقبح شيء لا يشهد به إلا عدو مبين. هذا اللئيم الذي كنت أظن أنه يألم لألمي، ويأخذه الأسف لحالي، ويبذل وسعه إن أمكنه في المدافعة عني، فكم قدمت له نفعا، ورفعت له ذكرا، وجعلت له منزلة في قلوب الحاكمين، كم سمعني أقاوم هجاء الجرائد وأوسع محرريها لوما وتقريعا، وأهزأ بتلك الحركات الجنونية، وكان هو علي في بعض أفكاري هذه من اللائمين، كان ينسب فلانا لسوء القصد اتباعا لرأي فلان، وأعارضه أشد المعارضة، ثم لم أنقض له عهدا، ولم أبخس له ودا، وحقيقة كنت مسرورا لوجوده موظفا فما باله أصبح من الناكثين؟! آه، ما أطيب هذا القلب الذي يملي هذه الأحرف، ما أشد حفظه للولاء، ما أغيره على حقوق الأولياء، ما أثبته على الوفاء، ما أرقه على الضعفاء، ما أشد اهتمامه بشئون الأصدقاء، ما أعظم أسفه لمصائب من بينهم وبينه أدنى مودة، وإن كانوا فيها غير صادقين! ما أبعد هذا القلب عن الإيذاء، ولو للأعداء، ما أشده رعاية للود، ما أشده محافظة على العهد، ما أعظم حذره من كل ما توبخ عليه الذمم الطاهرة، ما أقواه إقداما على العمل الحق، والقول الحق، لا يطلب عليه جزاء، وكم اهتم بمصالح قوم وكانوا عنها غافلين! هذا القلب الذي يؤلمونه بأكاذيبهم هو الذي سر قلوبهم بالترقية، وملأها فرحا بالتقدم، ولطف خواطرهم بحسن المعاملة، وشرح صدورهم بلطيف المجاملة، ودافع عنهم أزمانا، خصوصا هذا اللئيم، أفنشرح الصدور وهم يحرجون؟ ونشفي القلوب وهم يؤلمون؟ ونفرحها وهم يحزنون؟ تالله قد أضلوا وما كانوا مهتدين. هذا القلب ذاب معظمه من الأسف على ما يلم بالهيئة العمومية من مصائب هذه التقلبات وما ينشأ عنها من فساد الطباع، الذي يجعل العموم في قلق مستديم، وما بقي من هذا القلب فهو في خوف على من يعرفهم على عهد مودته، فإن تسللوا جميعا بمثل هذه الأعمال، وأصبحوا من مودته خالين، واتخذوه وقاية لهم من المضرة، وجعلوه ترسا يعرضونه لتلقي سهام النوائب التي يتوهمون تفويقها إليهم كما اتخذوه قبل ذلك سهما يصيبون به أغراضهم فينالون منها حظوظهم، فقد أراحوا تلك البقية من الفكر فيهم، والله يتولى حسابهم وهو أسرع الحاسبين.
آه، ما أظن أن تلك البقية تستريح من شاغل الفكر في شئون الأحبة وإن جاروا في تصرفهم. إن طبيعة هذا القلب لطبيعة ناعم الخز إذا اتصل بذي الود، وإن كان خشنا فصعب أن ينفصل ولو مزقته خشونته، وإن هذا القلب في علاقة مع الأوداء كالضياء مع الحرارة، أيما حادث يحدث وأيما كيماوي يدقق لا يجد للتحليل بينهما سبيلا، وأظنك في العلم بثبوت تلك الطبيعة فيه كنت من المتحققين.
أي عزيزي:
الآن وصلني تقرير اللئيم، فقرأته بأول نظرة، ووجدته كما بلغني، وسأرد عليه في بضع دقائق بما يسود وجهه ويخجله إن كان إنسانا، ولكن تصادف فراغ الحبر من الدواة، فسأنتظر بالرد عليه وتتميم رقيمي إليك بعض ساعات فكن من المنتظرين.
رددت على التقرير وكان كل ما فيه الغش والتغرير، وذكر فيه فلانا بأشنع ما يؤاخذ به إنسان في هذه المسألة كما ذكره الخبيثان قبله، ولكن دفعت ما قاله في جانبه أيضا، وأخذت على نفسي كل مسئولية تنسب إليه أو إليكم، فما عليكم إن سئلتم إلا أن تكونوا منكرين، ربما يسألكم «القموسيون» عن معلوماتكم في شئوني أيام الحوادث، فلا يدخل عليكم غش السؤال والإرهاب، ولكن عبروا عما كنتم تشهدون وتعلمون من أفكاري وأقوالي التي كانت تهزأ بالحكومة الفلانية ومن كانوا لها من الطالبين.
إلى هذا الحد قفوا، فإن سئلتم فقولوا: ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. في هذا الوقت وصلني الرقيم مبشرا ببقائكم في مركزكم، فقمت ورفعت يدي ورجلي وناديت: الحمد لله رب العالمين، وأخذني الأسف على حبس فلان، لكن دل إطلاقه على حسن حالة الباقين.
يا عزيزي، أعود إلى ذكر ما لأولئك القوم كأنما قذف بهم من مشاهق جبل، فسقطوا على رءوسهم فغشيهم من شدة الصدمة ما غشيهم، فقاموا ينطقون بما لا يعلمون، ويتكلمون ولا يفهمون. ما بالهم يقذفون من أفواههم أخلاطا أقذر من البلغم، وأمر من الصفراء؟ وكأنما جرعوا جرعة من السم فقلبت أمعاءهم فاستفرغت من حلاقيمهم أخبث ما يحملون. ما بال دنان قلوبهم تفيض من اللؤم بأشد من فيضان بئر برهوت، تقذف بسائلات بشعة الطعم خبيثة النظر كريهة الرائحة، تضطر معانيها للفرار منها؟ لكن أعضاء التحقيق من زكام الحوادث الأخيرة لا يشمون ولا يذوقون، ومن ظلماتها لا يبصرون. هل بطل يا عزيزي ما جاء على لسان النبوات: «الإنسان أسير الإحسان»؟ هل نقض ما جاء من ذلك: «المعروف بذر المحبة يغرسها في أعماق القلوب»؟ هل هدمت قاعدة: «إن الحيوان يقاد بالزمام، والإنسان يقاد بالصنيعة»؟ هل كان خرافا ما قرره الحكماء من الفصول الطويلة تقسيما للمحبة وبيانا لفضائلها ومنافعها في الاجتماع الإنساني الخبيث؟ هل كان خرافا ما حوته الكتب متعلقا بموجبات روابط النوع البشري؟ أم صح كله لكن الناس به جاهلون؟ هل أتأسف أن كنت سباقا إلى الخيرات؟ هل أتأسف أن كنت مقداما في المكرمات؟ هل أتأسف أن كنت شجاعا في الدفاع عن ذوي مودتي؟ هل أتأسف أن كنت أبيا أغار أن ينسب مكروه أو ذل لأولي صلتي؟ هل أستحق العقاب على حبي لبلادي والناس لها كارهون؟ كلا، والله لن يكون ذلك، ولم أزدد في سبيل الفضيلة إلا بصيرة، ولم أزدد في المحافظة عليها إلا ثباتا، ولئن عشت لأصنعن المعروف، ولأغيثن الملهوف، ولأنقذن الهاوي في حفرة الغدر، ولآخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم، ولأتجاوزن عن السيئات ولأتناسين جميع المضرات، ولأبينن لقومي أنهم كانوا في ظلمات يعمهون، ولأظهرن الصديق في أجمل صوره، ولأجلونه للناس في أبهى حلله، ولأثبتن لهم ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة، وأنه جسمك الآخر في حياتك المتحدة، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر، ومصباحك إذا أغسق دجى الهموم، تستضيء به في حل ما انعقد، وتستعين بقوته في تيسير ما عثر، وتذهب به إلى أوج المعالي، والناس من معجزات الصديق يتعجبون.
إنني اليوم أعجز من المقعد عن طلوع النخل، ومن المفلس عن حرية التصرف، وقد صار سقوط الجاه كمرض يصيب الجميل الفاتن، فينحف الجسم ويغير اللون، ويقلص الشفاه، ويضعف القوى، ويقعد عن الحركة، ويبعد عن نيل المطلوب، ويثقل عن الأهل والعشائر في التمريض ويسئمهم إن طال من معاناة العلاج فيصبح المريض منهم في أدنى المنازل، وقد كان ربا وهم له ساجدون، يذهب عنه البهاء وينكسف من وجهه الضياء، وتنكره عن الرؤية أعين العشاق، وتمجه طباع ذوي الأذواق، وتمحي من جبينه تلك الأسطر الجلية العبارة الصادقة النسبة الناطقة بالحق القائلة ها هنا كنز الرغبات، ها هنا منال الحاجات، ها هنا ما يروح الروح، ها هنا ما يقضي وطرا في الأنفس، ها هنا ما يخشى منه على الأرواح والأفئدة، فينحرف عنه السالكون إليه وقد كانوا قبل على آثار غباره يتدافعون. وقيسوا على مرض الجميل مرض صاحب جاه، ولا أظنكم بالقياس تجهلون.
لكن أقول لكم إن الحوادث المريعة سوف تنسى، وإن الشرف سوف يرد، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخستها أن يكون لها من عوده نصيب فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبتي ومن إلى المجد ينجذبون، كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم، ولا أطلب شيئا فوق هذين سوى معونة الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون. أطلت عليك الكلام فلا تسأم، وأظنه آخر كتاب مني إليك في السجن إلا أن يحدث حادث يسمح بالكتابة مرة أخرى، فإن تلاقينا بعد اليوم كانت المشافهة أزكى، وإلا كانت المراسلة أجل وأعلى. ولا تجزع فليس في الأمر ما يفزع، وهو أهون مما يتوهمون، وأسأل الله أن يغض عنكم أبصار الظالمين، ويحفظكم من نكاية الخائنين، ويسر قلبي بالطمأنينة عليكم وعلى سائر الإخوان والأبناء أجمعين.
وجاء في الجريدة الرسمية الصادرة في 26 يناير سنة 1887 من إنشاء حضرة الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان فصل يصف فيه ليلة راقصة في قصر عابدين الخديوي:
باللو سراي عابدين
ليلة الثلاثاء 25 يناير 1887
هي حلية الدهر، وطراز الفخر ، وهي جامعة المسرة والبشر من مبادئها حتى مطلع الفجر، وهي مرايا التحف، ومرائي الطرف، ومظاهر العوائد المستعذبات، ومجالي اللطائف المستبدعات، طاولت وإن لم تطل بياض النهار افتخارا، وعلت حجة نورها على شموسه انتصارا، فبها أفاض الخديو المعظم في سجال نعمه، وأورد من اختارهم موارد بره وكرمه، فظهر للكل في صفات الوالد الحنون، وأولاهم غيث فضله الهتون.
ولقد ظهرت آثار تلك النعم العميمة على ظواهر السراي العامرة، فتلألأت رحبتها بشعل الأساطين على شكل معين، وانتظمت فيها الفوارس والمشاة يحفظون النظام، ويبتدرون السلام، وتحلت وجهها ومداخلها بالأضواء الكهربائية أشكالا وصفوفا، وأنوار الشموع ضروبا وصنوفا.
أما مدخل السراي فكان طريقه مرصع اليمنة واليسرة بأكر النور الأرضية ذوات الألوان الشفافة الدرية، وما يليه مزدانا بالنجف والصحب على أشكال الباقات الريحانية ومن وراء ذلك إلى سلم الصعود إلى مواطن الرياضة والجلوس، فكلها مما يكل لسان القلم إذا أراد التوصيف، ويشق لسانه إن رام التعريف. فيا ما أبهج هذه المرائي الغريبة! ويا ما أعذب ما بينها من تلك المناسبات القريبة! شموع تتلاعب في مرايا تتقابل فتعدد الوحدة وتتوحد الكثرة! وتجتمع الشتيتات وباقات الريحان في الطرقات، تتباهى منثور الزهور في المجتمعات، فما أميلح ما تفاخر به الأخوات!
ولئن كان هذا فوق ما قلناه فما هو بأغرب مما بتلك الحديقة السطحية، وما أدراك ما تلك الحديقة، غرست أشجارها ونجومها فوق سطح الدور الأول بين المرمر والرخام، وفصلت طرقاتها على أشكال هندسية تأخذ بمجامع القلوب استغرابا، ونبتت أعوادها المخضرة تحت السقوف، ولقد كانت الأنوار تغازل هاتيك النباتات وترنو إليها بعين الإعجاب، فتختلس هي منها بعض الضوء، وتعرضها عليها بلونها الزاهي، فيتحلل بينهما الضوء إلى أصوله الأصلية وتتعدد الفروع، فينبهم على الطبيعي تحليل الأضواء، فلا يسعه إلا التسليم بأن فوق كل ذي علم عليم ...
وفي أوائل الساعة الخامسة العربية بدأ المدعوون يغدون زمرا وفرادى، تتلاعب في صدورهم وسامات الشرف وعلامات الامتياز، ولم تكمل الساعة الخامسة حتى كمل عدد من قربهم الخديوي المعظم. ودعاهم ورضي عنهم ورعاهم، وهم نحو الألف والمائتين من سراة آله ورجال دولته وأمراء بلاده الملكية والعسكرية، وعلماء دياره ووجوه رعيته وكبراء نزلاء القطر، وأجلاء القنصلاتات، وضباط الجيش المصري وجيش الاحتلال من الإنجليز، ومشاهير الرؤساء الروحية والأعيان من الأوروباويين على اختلافهم في التبعية والانتماء ما بين ذكران وإناث، على أجمل ما يكون من الزي والهيئات. كل أولئك حلوا تلك الساحة الخديوية الفيحاء آمنين، فلاقوا من الكرم العميم والإجلال والتكريم، ما لا عين رأت ولا خطر على فكر قبل تلك الليلة الغراء ...
وقد تشرف بالمثول لدى الحضرة الفخيمة الخديوية على وجه مخصوص كثير من الأمراء والفضلاء والوجوه والنبلاء والأكارم، بين وطنيين وأجنبيين، ملكيين وعسكريين، من رجال وسيدات، فلاقوا من جنابه الكريم ما لا يكاد يبينه الوصف من الإكرام والتحية والتبجيل، فألان الجانب وسهل الخطاب، وأدخل المسرة على كل ذات تشرفت بالمثول شأن جنابه العالي الذي جبل عليه، وطبعه الكريم الذي فطر به ومال إليه في كل حال.
وفي منتصف الساعة السادسة العربية، فتحت قاعة الرقص فتسابقت إليها غادات الغانيات، يسحبن مطارف الخيلاء، ويتبخترون في حلل الزهو والإعجاب، وتلت عليهن الموسيقى سور الألحان، فطربت بها هاتيك الغزلان، وظهرت آثاره على الجوارح، فماست تلك القدود السمهريات في وسط الميدان حتى أرقصت القلوب ورسمت في ميسانها دوائر ذوات الذنب من الكواكب العلويات، وخطوط النيازك من شهب السموات، فانتصرت الهيئة الإفرنجية الحديثة على تعاليم أرسطو وبطليموس في هذه الفنون، ولم تبق باصرة إلا شخصت إلى هذا الصنع الدقيق بعين الإعجاب والاستحسان.
وبعد منتصف الليل ببضع دقائق فتحت قاعة موائد الكرم (بوفيه)، وإذا هي بغية الطالب وطلبة الراغب، فيها من صنوف المأكل ما تتوق إليه النفوس، وتشتهيه الأرواح، فتوارد عليها كل من جمعهم النادي وأكلوا هنيئا وشربوا ما حلا وطاب مريئا، وتنقلوا بين أكل وشرب وتفكه وتحلية، يترددون كلما تاقت النفوس، ويطلبون ما يشتهون فيجدونه حاضرا بين أيديهم بأسرع من لمح الطرف، وأمضى من حركة الأفكار في المعقولات. وكل من فرغت حاجته منهم خرج إلى الرياضة في الحديقة وفي الطرقات بين القاعات وفي مواطن الاستراحات، وكلها كانت بهجة الناظر وقرة الخاطر، مصطفة في جوانبها الزهور والأنوار على أحسن ما يمكن من بديع الإتقان، ولن يزال الناس كذلك في مرح وفرح ومسرة وابتهاج، يتباهون بعميم كرم الجناب الرفيع، ويتفاخرون في كيفية الثناء على جنابه الكريم، ويرفعون لمقامه المنيف جلائل الشكر والامتنان، حتى مضى بعد نصف الليل ساعتان، فأخذوا في الانصراف.
وجاء في جريدة «الأهرام» الصادرة في 25 أكتوبر سنة 1897 هذا الفصل:
قعود البنات
هذا بحث جديد لم يخض الشرق في عبابه بعد، نزفه إلى أبناء الشرق عامة لما نجد فيه من الفائدة، ونحن نتوقع له الرضا العام لاعتقادنا بأنه من أهم الأبحاث وأخلقها بالتدوين، ولثقتنا بأن الرأي الشرقي سيأنس به ولو بعد حين، فتنجلي الغياهب عن الحقيقة ويعم الجدال فيه، فنتوصل إلى استئصال شأفة داء قد تمكن منا؛ إذ الحقيقة بنت البحث، فنقول:
ليس ما يستحق أن يشغل الخواطر ويحمل على الإشفاق ويدعو إلى اشتغال الكتاب أكثر من شأن تلك البنت التي يمر بها سن الزواج، فتجلس في منزلها تنظر إلى ماضي أيامها، ولا شاغل لها غير حديث النفس ومعاتبة القضاء. ومن العجيب أننا لا نجد من يهتم بشأنها، ولا نرى شاعرا يذكرها، ولا قصاصا يحتفل بها، ولا مرسحا يمثل عنها، بل إن أكثر ذكرهم إنما يكون للمتزوجات أو للآنسات القادمات على الزواج؛ ولعل ذلك لأنه لا يعترض حياتها الساكنة على مقتضى الظاهر ما يدعو إلى مثل هذا الاهتمام، حتى إنه إذا استأثرت بها رحمة الله فلا نجد بين خلقه من يذرف عليها دمعة حزن، أو يودع تلك الزهرة الذابلة بنظرة إشفاق.
أما تلك التي قدر الله عليها أن لا تجري على سنن الله، وقضى عليها أن لا تشترك في الزوجية كسائر أخواتها في الجنسية، فهي لا تزال بعد أن يمضي عليها عصر الشبيبة منغصة العيش لا يروق لها النظر إلى هناء الناس، ولا يطيب لديها إلا الرجوع إلى سابق أيامها، والأسف على شبابها الزائل.
ولسنا نرى في المجتمع الإنساني أشد منها نكدا ولا أتعس حالا ؛ فإن تجملها بالفضيلة وتحليها بشعائر الرفق والحنان وممارستها للأيام، كل ذلك لا يشفع عند الأكثرين بذهاب نضارة وجهها، وانقضاء دولة محاسنها، هذا إذا وقيت العثار في زمن شبابها، وإلا فإن وصمة ذلك العثار لا تزال ملازمة لها طوال العمر حتى تدرج معها في القبر.
وإننا نراها ناحلة الجسم ساهية الطرف، شاحبة اللون، إذا مدت يدها للسلام نجدها باردة كأنما لا يجول فيها دم الحياة، وربما اضطربت واختلجت فلا تجد مخرجا مما هي فيه؛ وذلك لما يخلق فيها القنوط من الضعة، فلا تحسب نفسها من أعضاء ذلك المجتمع، وتظن ألا حق لها بالدخول فيه.
وإن بعض أولئك البنات ينظرن إلى ظل الشباب وقد تقلص، وزهرة الرجاء وقد ذبلت، وأن لا بد لهن من بعض الهناء في هذا الوجود، ولا هناء لهن بعد اضمحلال الشباب، وفوت الأمل، فيعملن على السعي وراء هناء الناس، فإذا لم يتيسر لهن السعادة فهن يهنأن بسعادة الآخرين. غير أن ذلك لا يعبأ به لندوره بينهن، ولسعيهن وراء ذلك الهناء من طريق الاضطرار، فهن ينظرن إليه بالعين، ولا يشعرن به في القلب.
وقد يتولد فيهن بعد ذلك اليأس مبدأ التسليم للقضاء في كل أمر، فإذا رأين مثلا حاجة قد وضعت في غير موضعها أو وقفن على عثرة لأحد فلا يخطئن واضع تلك الحاجة، ولا يندفعن باللوم على ذلك العاثر، بل ينسبن هذا الخلل وتلك العثرة إلى إرادة القضاء؛ ذلك لأنهن يقسن كل أمر عليهن. وإذ كن يعتقدن ألا ذنب لهن في قعودهن فهن لا يخطئن أحدا في ذنب أتاه، ويكتفين بالقول أن ذلك العاثر ما خلق ليكون سعيدا.
ثم إنه يعتريهن ذهول لطيف ينتج عما سبق لهن من الأحلام الكاذبة والآمال الخائبة، فهن قد خطون في هذا الوجود خطوات ملؤها الرغبة والنشاط والأمل والمطامع، فخابت كل مساعيهن؛ ولذلك فإنهن يبدأن بذكر تلك الأيام الزائلة، فلا ينقطعن عن تكراره في كل يوم إلى أن يخيم على تلك الذكرى ضباب الملل، ويرين أن صدى ذلك الصوت الحنون وهو صوت الأمل قد انقطع، فينتبهن إلى اليأس فالخمول، ولا يطيب لهن غير الوحدة والانقطاع عن الناس. وما أشد ما يكون شقاؤهن عندما تبتدئ آثار التجعيد تظهر في تلك الوجنات التي كانت تجرحها خطرات النسيم، ويرون حياة الشباب وقد ماتت في تلك العيون التي كانت تحيي وتميت. فيطرقن الرءوس قانطات، وهن ينظرن إلى المستقبل فلا يجدن غير الفراغ والخلاء. ثم تأتي عليهن تلك الساعة الهائلة، وهي بلوغهن إلى الخامسة والثلاثين من العمر فترتجف أيديهن كأنها تبحث عن طفل تضمه ولا تجده. وينصرف حنان قلوبهن عن الإنسان إلى حيوان يلاعبنه، وطير يأنسن به. وتشتد فيهن الكآبة فربما أفضت إلى الجنون أو إلى الموت، أو أنهن يصبحن كالأطفال فيعجبن لكل أمر وينذهلن لكل ما يبدو لهن وإن لم يكن على شيء مما يوجب الغرابة، فلا يتميزن في شيء عن الأحداث.
وإننا لا نجد ما يحمل على الشفقة مثل تلك الفتاة التي قد ظلمتها الهيئة الاجتماعية فوق ما ظلمها القضاء؛ فإن الرجل العزب قد يبلغ سن الهرم ولا يزال محترما، وأما الفتاة العزبة فلا تلبث أن تخطو سن الزواج حتى يعرض عنها كل إنسان، وتسمج في كل عين. ولا عجب بعد ذلك إذ رأينا النساء ولا سيما الآنسات يحرصن على تنقيص الأعمار! وحبذا لو وقف ظلمهن عند هذا الحد، فإن الفتاة إذا اضطرت إلى الارتزاق من عمل يديها فإنها لا تكافأ عن عملها بنصف ما يكافأ به الرجل ولو تساويا في العمل! فإذا أضفت إلى ذلك ما تقيدها به الهيئة من العوائد والمصطلحات التي تغل يد حريتها، وجدت أنها من أتعس البشر حالا.
هذا ما نقلناه ملخصا عن إحدى الجرائد الشهيرة، نقول إن من أهم واجبات الآباء أن يجدوا أكفاء لبناتهن، وإذا لم يجدن لهن أكفاء فإن قرين السوء خير لهن من القعود.
وجاء في جريدة «المقطم» الصادرة في 23 أغسطس سنة 1897 من إنشاء الفاضل نجيب أفندي الجاويش في هذا الفصل:
القلم في الشرق
حضرات الأفاضل أصحاب «المقطم»
غير خاف على كل ذي عقل صريح أن العلم والكتابة من لوازم التمدن، وأن نوع الإنسان لما كان مدنيا بالطبع وكان محتاجا إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره، اتخذ له طرائق شتى لإيصال مسائل العلوم ومبادئ المعارف وما انتحله من المذاهب تارة علما وتعليما، وتارة محاكاة وتلقينا إلى تكميل نفسه البشرية. والتكميل لا يتم إلا بالعلم بحقائق الأشياء. ولم نجد لهذا العهد الذي أدركناه واسطة أو ذريعة لنقل كافة العلوم وسائر الفنون بأسرع ما يمكن من الوقت للاطلاع عليها، وتهذيب الأخلاق بها، وتشويق النفوس إلى الكمالات الإنسانية وتحريكها إلى حسن الاقتداء والاقتفاء بإمرار النظر إلى آثار الأقدمين والمحدثين إلا الجرائد. والناظر في موضوعي لأول عارض يظن أني أريد الإفاضة في هذا المجال؛ وإنما همي المقصود من هذا المقال البحث في أمر المعارف والتحقيق في شأن الكتابة والتصنيف، وما آل إليه القلم بين ظهرانينا - نحن معاشر الشرقيين- الأمر الذي ساعف عليه بخل الأغنياء وتقتير الموسرين وتقاعدهم عن شد أزر حملة العلم والمؤلفين وتراجعهم عن تنشيط أولئك الذين قد خملوا واستراحوا من حيث تعب هؤلاء الكرام في جمع الدنيا وحشد الأموال.
ولما رأيت هذا العرق من البخل والحرص نابضا على أولئك، قلت مع القائلين اليوم إن القلم لا يزال في الشرق ميتا، والعلم لا يتعدى نفرا قليلا، ولا يكاد يدرك له إلا أثر ضئيل، أو رسم محيل تلقاه ذووه كدا واجتهادا، وتعلموه تأدبا لا تكسبا. وعليه يحق لرجال العلم وحملة الأقلام في الشرق أن يقيموا مأتم العلم، ويعقدوا مناحة الفضل كما فعل علماء ما وراء النهر لما بلغهم أن العلم والحكمة قد توافى إليهما الأخساء وأرباب الكسل، وقالوا: كان يشتغل بهما أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء وينتفع بهم وبعلمهم، ومن ها هنا هجرت الفنون وعلوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها. ونحن اليوم قد غدونا نندب الحالة التي أمسى فيها العلم ساقط المنزلة منحط الرتبة لقلة اعتناء القائمين بأمره، وأصبح القلم حملا على صاحبه، وعبئا على ناقله، ولكساد سوقه وموت الطامعين وإقبالهم على جمع الحطام وكسب الدينار، وتفرغهم لبهارج هذا التمدن الجديد، واشتغال السواد الكبير من أهل البلاد بلغات الغرباء؛ ولهذا السبب الظاهر ضن الأغنياء بفضلات مالهم على فقراء الشعب وتعساء القلم، وقد دخل هؤلاء تحت قول المعري:
أولو الفضل في أوطانهم غرباء
تشذ وتنأى عنهم القرباء
فما سبئوا الراح الكميت للذة
ولا كان منهم للخراد سباء
غير أن الأنظار لا تقف عند حد، ومطامع النفوس لا تنتهي إلى غاية، فقد تزيا به اليوم رهط من المقلدين، واتجر به قوم من المقصرين، فابتذلوا محاسنه وصوحوا زهرته، وقد عرفت جملة من أكابر الكتاب وفحولة المحصلين القائلين قد جاء اليوم الذي يحق لنا فيه أن نقبع في زوايا الخمول ونتستر بمسوح الأسى والانقباض ونهجر المحابر والأقلام؛ لأنه قد تطاول إليها واستلم أعنتها قوم هم أحوج من صبيان المكاتب إلى التعليم! فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار، ولا يعلم أنه يمشي تحت الضعفة الأغرار!
وغير منكر أن الأمة الخارجة من الظلمة إلى النور تكون أشبه بجواد مرتبط في مكان داج، إذا حللت لجامه وواجهته بالنور بغتة عشا بصره، وانبهرت عينه، وأصبح جريه ضربا من العقال. وإذا سئلنا لماذا نحن في تأخر وانحطاط؟ وبلادنا أشبه شيء بنا؟ أجبنا مع العارفين أن الشرقيين لا يزالون بالنسبة إلى غيرهم من الأمم والقبائل أطفالا رضعا يقتضي لهم التدرب والتعلم المقرون بالتربية الصحيحة والتهذيب الخالص، ليدرجوا ويشبوا على الشغف بالعلوم، والكلف بالصنائع والفنون التي تعود على الأمة بالإصلاح والعمارية.
وقد سطا على المشارقة داء عقام أشبه شيء بالبرسام، أو إذا شئت قل السرسام، ونعني به داء المحاسدة والمباغضة، فإن المرء إذا رأى أخاه بالغا حدا قصر هو عنه أعمل الفكر وسهر الليل ليوقعه في أشراك الويل والخسران. وصار الكاتب إذا أطلق العنان لقلمه موضوعا للتهكم والسخرية؛ لأن الناس أصبحوا اليوم كلهم ساسة؛ ولهذا ترى العلماء والخطباء قد هجروا طريقة الفرنجة في الكتابة والتعليم، وضنوا بأفكارهم ونفثات أقلامهم لئلا يصبحوا مضغة في أفواه المتشدقين، ولماظة بين شفاه المدعين، وخرجوا من قول القائل:
وأسوأ أيام الفتى يوم لا يرى
له أحدا يزري عليه وينكر
وقد رأيت طائفة من أولئك الذين يعتقدون في أنفسهم التمييز عن الأتراب والنظر بمزيد من الفطنة والذكاء، قد شرعوا يكتبون من غير نظر وتحصيل، بل بتقليد صادر عن التعثر بأذيال التشبه الصارفة عن صوب الصواب والانخداعات المزخرفة المتلألئة كالسراب. وكل مصدر هذا الاغترار حب الظهور بمظهر التحذلق والتردي ببعض القشور التي التقطوها، والزخارف التي لبسوها، ليظهروا التكايس ببضاعة مزجاة، حتى إذا وضعت تحت مجهر النظر والفحص، وجدت مغشوشة مزجاة. قلت: وما حملني على الانصباب في هذا المضمار وركوب مثل هذا المركب الخشن؟ وخصوصا في جريدة سيارة ك «المقطم» إلا هوى الذود عن عصابة أعنيها بهذه الصبابة، كاشفا القناع عن وجه الحقيقة التي أصبحت اليوم في الشرق كأنها في دار غربة لا يصاحبها إلا أهلها، وما ذلك إلا لاختلاط الأحوال، وتبدل الأشكال، وانبراء الكافة لإنشاء صحف السياسة، ونبذهم مبادئ العلوم والفنون الآيلة إلى رفع منار الأوطان الواقعة تحت مخالب الإفرنج والطارئين من كل حدب.
نعم، لقد كثر المتشبهون واختلفت أحوالهم، وتستر بزيهم المتسترون، وفسدت الأعمال، وكسدت سوق كل حال، ولم يعد يعرف الفاضل من المفضول. ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعا في هذا الفن، مدعيا له على خلوه عن تحصيل آلاته وأسبابه، وقد قيل إن الجهل داء لا ينتهي إليه سقم السقيم.
وقد يندرج في مطاوي هذا الموضوع الجليل مواد جوهرية، وأنظار دقيقة، منها أسباب ذيوع مثل هذه الجرائد المعروفة عند قراء «المقطم» بقلة جدواها، وخفة بضاعة أهلها؛ لأنها لم تنشر إلا لغرض الكسب وحشو المعد والطعن على العلماء وأرباب الفضل. وبالله ماذا يرجى من جرائد ليس في أدمغة أصحابها شعاعة من النور والعلم؟ أسفي على كل من يستهلك زمانه في سفاسف لا طائل تحتها! هكذا يكون شأن البلاد التي لم يثبت قدم أهلها في المعارف الصحيحة والمبادئ الحقة؛ لأن الجرائد ولا مراء من الصناعات الشريفة المقصودة لتهذيب الأفكار وتدريب الأخلاق قبل المنفعة الخاصة، والتي هي على هذا المبدأ القديم أشهر من أن تعرف. حقا، إن هذه العناية الشريفة قد رذلت اليوم حتى صار أكثر الذين يتعاطونها جهلاء يروجون بها أكاذيبهم.
والسبب الثاني الذي هو أس تأخر أهل الشرق: فقدان المبدأ الصحيح من الصدور، وهو دعامة النجاح في المغرب. أما الذين ضحوا الحياة لأجل مبدئهم من الشرقيين فقليل ما هم، ولم تلق منهم أحدا يوما إلا توجع لك مما أصاب الأوطان من الذل والصغار لعدم وجود العدد الكافي من الرجال للقيام بالدفاع عن الشرق وآله. ويقيني أنه لا يمضي ردح من الحين إلا وتهب الليوث من غاباتها؛ لأن الشرق كما أسلفنا في حاجة إلى أهل القلم، ولا حياة لأمة إلا بأعلامها وهداتها، فهم مصابيح العلم وأقمار العرفان.
وعندي كلام كثير عما أصاب المشرق من تمدن أوربا، وما آلت إليه هذه الحركة الفكرية، ووجوب إقامة المجامع العلمية ودرس الفنون والصنائع، والرحلة في طلبها من البلاد البعيدة، وحالة التأليف ومصيره، والحض على عدم الاعتماد على أهل الغنى واليسار في بلاد الشرق؛ لأن هؤلاء لا مأثرة منهم تؤمل ولا خير يرجى:
وظالم عنده كنوز
من أم دفر ومن لهاها
وعذرت حاجة بعسر
على عليل قد اشتهاها
وربما بسطت ذلك في فرصة أخرى لتنشيط بني قومي وتشجيع رهطي على الإقدام والاندفاع في سبيل إحياء مجد القلم وإعادة رونقه الماضي، وتجديد ذكر السلف حتى لا يقال يوما إن العلوم قد دثرت عند الشرقيين ومات القلم بموتهم الأدبي والسياسي، ورحم الله عبدا علم فعمل.
وجاء في جريدة «المؤيد» الصادرة في 28 جمادى الأولى سنة 1317 للهجرة، يصف ليلة ماطرة، ما نصه:
السيل الجارف
حدثنا أهالي القاهرة صباح اليوم ببعض ما نحدثهم عن ضواحيها من عصف الرياح وقصف الرعود وانهمال الأمطار التي لا نعدها إلا سيلا جارفا.
قطنا منذ بضعة أيام عزبة الزيتون، تبعا لإشارة الأطباء فيما هو أجود للأطفال من الهواء، فلم تكد الساعة العاشرة تحين مساء حتى اختفى أديم السماء، واسود وجه الأفق، وأنذرت بروقه بالرعود، ورعوده بالهجوم، فلم تك إلا هنيهة حتى هراق السحاب ما في سقائه من فوق، لا لسراب كاذب رآه ولكن لأن السيل سيأتي بعد قليل من أعالي الجبال جارفا بتياره الشديد كل ما يجده أمامه.
ولا حاجة لأن نطيل على القارئ الشرح، ولكن في قصة ما شاهدنا من المزعجات وما كابدنا من شدائد النازلة مثال صغير يشرح الحادث الكبير.
فليمثل القارئ بيتا صغيرا في زاوية حديقة كبيرة، مساحتها ثلاثة أفدنة، مسورة من جميع جوانبها بإحكام، ذلك هو المنزل الذي كنا نقطنه في تلك الحديقة الرحبة، قد اعتنى بها صاحبها من ذوات العاصمة اعتناء مثله بمثلها.
فلما جادت السحب بوابلها الغزير استيقظنا على دوي الرعد القاصف، وبريق البرق الخاطف، وخرير الماء ينزل على السقف نحو ساعة من الزمان، حتى تأثر السقف ونزلت منه قطرات زادتنا قلقا، وخصوصا على الأطفال.
ولو اقتصر على هذا الحد لقال قراء العاصمة: نحن كابدنا أشد من هذا العناء هولا! ولكن الذي فوجئنا به بعد ذلك فأرانا الموت ألوانا هو أن السيل انقض كأنما هو النيل يفيض من أحد الشلالات الكبرى، وصار صدى هديره يرسل لنا النذير وراء النذير، ودوي سقوط المنازل واحدا بعد آخر يكاد يصعق منا القلوب، فلم نجد بدا من أن نهجر مأوانا ونلجأ إلى الحديقة لنعتصم بسياج من أشجارها، ثم تحققنا عندئذ أن اندلاق السيل قد وصل إلى جنوب الحديقة فجرف السور دفعة واحدة من الشرق إلى الغرب، وهو لا يقل عن مائة متر، وتدفق تيار السيل في عرض الحديقة كلها حتى قطعها إلى الشمال في علو نحو متر ماء، فما استتم خروجنا من محيط المنزل حتى امتلأ ماء وأتلف كل شيء فيه. ثم لم يلبث أن سقط السور الشمالي على مثال سقوط الجنوبي، وبقيت الدار بعد ذلك نحو ثلاث ساعات ثم تقوضت جدرانها الأربع، أما نحن فلم يعصمنا شجر ولم تحمنا ربوة في الحديقة التي كانت كأنها في هذه الحالة واد سحيق، ولكن ألهمنا الله أن نلجأ إلى عجلة الساقية فنعلو سطحها؛ لأنه آمن كل مكان في الحديقة التي صارت لجة تضرب أمواجها بين جنباتها. وهكذا قضينا المسافة بين الساعة الحادية عشرة والساعة السابعة صباحا أشد ما كان يؤلمنا ويؤذينا نزول الأمطار علينا في خلالها مدرارا، وليس بين أيدينا غطاء ولا وطاء إلا وقد أخذ أضعاف حظه من الماء، ثم لم ينجنا من هول ما كنا فيه وسوء عقباه إلا العربات التي جاءتنا باكرا لإنقاذنا من هذه الكربة.
وقد كنت أحسب أن ما نابنا من هول هذه الليلة الدهياء أكثر مما ناب سوانا، ولكني تحققت أن أكثر سكان الجهة الشمالية من عزبة الزيتون قد كانت مصائبهم أدهى وأمر؛ إذ ليس لدى كل واحد منهم ساقية تمكن من الالتجاء إليها فخففت بعض ويلاته. وعلى هذا النمط ينبغي لأهالي القاهرة أن يرثوا لحالة سكان نحو 300 منزل جرفها السيل بما فيها بين عزبة الزيتون والمطرية مما لم يبق معه لحديث القاهرة في هذه الحادثة شأن. لطف الله بعباده وجعل من ماء هذا الحادث الفجائي ريا لبعض شراقي هذا العام، آمين!
وكتب صديقنا الفاضل حفني بك ناصف إلى الفاضل السيد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق، وكان قد زاره يوم احتفال في بيته، فلم يقم بحفاوته:
كتابي إلى السيد السند، ولا أجشمه الجواب عنه، فذلك ما لا أنتظره منه، وإنما أسأله أن ينشط إلى قراءته، ويتنزل إلى مطالعته، وله الرأي بعد ذلك أن يحاسب نفسه أو يزكيها ويحكم عليها أو لها.
فقد تنفع الذكرى إذا كان هجرهم
دلالا فأما ملالا فلا نفعا
زرت السيد ويعلم الله أن شوقي إلى لقائه، كحرصي على بقائه، وكلفي بشهوده كشغفي بوجوده، فقد بعد والله عهد هذا التلاق، وطال أمد الفراق، وتصرم الزمان، وأنا من رؤيته في حرمان، فقيل لي إنه خرج لتشييع زائر، وهو عما قليل حاضر، فانتظرت رجوعه، وترقبت طلوعه، ولم أزل أعد اللحظات، وأستطيل الأوقات، حتى بزغت الأنوار، وارتج صحن الدار، وظهر الاستبشار على وجوه الزوار، وجاء السيد في مركبه، وجلالة محتده ومنصبه ، فقمنا لاستقباله، وهينمنا بكماله، فمر يتعرف وجوه القوم حتى حازاني، وكبر على عينه أن تراني، فغادرني ومن على يساري، وأخذ في السلام على جاري، وجر السلام الكلام، وتكرر القعود والقيام، وأنا في هذه الحال أوهم جاري، أني في داري، وأظهر للناس أن شدة الألفة، تسقط الكلفة.
ومر السيد بعد ذلك من أمامي ثلاث مرات، ومن الغريب أنه لم يستدرك ما فات، وأغرب منه أنه استخلص لنفسه من المجلس أربعة ودعاهم إلى الحجرة فدخلوا معه، فلم يبق إلا القيام والإمساك عن الكلام:
تمرون الديار ولم تعوجوا
كلامكمو علي إذن حرام
وكنت أظن أن مكانتي عند السيد لا تنكر، وأن عهدي لديه لا يخفر، فإذا أنا لست في العير، ولا في النفير، وغيري عند السيد كثير، وذهاب صاحب أو أكثر عليه يسير:
ومن مدت العليا إليه يمينها
فأكبر إنسان لديه صغير
ولا أدعي أني أوازي السيد - صانه الله - في علو حسبه، أو أدانيه في علمه وأدبه، أو أقاربه في مناصبه ورتبه، أو أكاثره في فضته وذهبه، وإنما أقول: ينبغي للسيد أن يميز بين من يزوره لسماع الأغاني والأذكار، وشهود الأواني على مائدة الإفطار، وبين من يزوره للسلام، وتأييد جامعة الإسلام، وأن يفرق بين من يتردد عليه استخلاصا للخلاص، ومن يتردد إجابة لدعوة الإخلاص، وأن لا يشتبه عليه طلاب الفوائد بطلاب العوائد، وقناص الشوارد بنقباء الموالد، ورواد الطرف بأرباب الحرف:
فما كل من لاقيت صاحب حاجة
ولا كل من قابلت سائلك العرفا
فإن حسن عند السيد أن يغضي عن بعض الأجناس، فلا يحسن أن يغضي عن جميع الناس، وإلا فلماذا يطوف على بعض الضيوف، ويحييهم بصنوف من المعروف، ويتخطى الرقاب لصروف، ويخترق لأجله الصفوف، فإن زعم السيد أنه أعلم بتصريف الأقلام، فليس بأقدم هجرة في الإسلام، وإن رأى أنه أقدر مني على إطرائه، فليس بممكن أن يتخذه من أوليائه:
ولا أروم بحمد الله منزلة
غيري أحق بها مني إذا راما
وإنما أصون نفسي عن المهانة والضعة
ولا أعرضها للضيق وفي الدنيا سعة:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فلا يصعر السيد من خده، فقد رضيت بما ألزمني من بعده، ولا يغض من عينه، فهذا فراق بيني وبينه، وليتخذني صاحبا من بعيد، ولا يكلمني إلى يوم الوعيد:
كلانا غني عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
ومني على السيد السلام، على الدوام، ومبارك إذا لبس جديدا، وكل عام وهو بخير إذا استقبل عيدا، ومرحى إذا أصاب وشيعته السلامة إذا غاب، وقدوما مباركا إذا آب، وبالرفاء والبنين إذا أعرس، وبالطالع المسعود إذا أنجب، ورحمه الله إذا عطس، ونوم العافية إذا نعس، وصح نومه إذا استيقظ، وهنيئا إذا شرب، وما شاء الله كان إذا ركب، ونعم صاحبه إذا انفجر الفجر، وسعد مساؤه إذا أذن العصر، وبخ بخ إذا نثر، ولا فض فوه إذا شعر، وأجاد وأفاد إذا خطب، وأطرب وأغرب إذا كتب، وإذا حج البيت فحجا مبرورا، وإذا شيع جنازتي فسعيا مشكورا.
وكتب الفاضل الشيخ إبراهيم اليازجي:
وافاني كتابك العزيز والنفس نازعة إلى ما يزيل نفارها، والقريحة تائقة إلى ما يشحذ غرارها، فكان روضة باسمة الكمائم، فائحة النسائم، قد ردت على النفس انبساطها، وأحيت البادرة فاستأنفت نشاطها، فأنا منه ما بين وشي يخجل طراز العبقرية، وزخرف دونه نضرة السابرية، تناجيني منه رشاقة ألفاظ تفتضح قدود الحسان، وغضاضة أنفاس يغار منها ورد الجنان، ورقة خطاب يشف عن ود صفي، ولطف حفي، وكرم وفي، وعتب أعذب من الماء القراح، وأرق من نسمات الصبا في الصباح، حتى لقد حبب إلي تقصيري، وشفع عند نفسي في قبول معاذيري. على أن ما عندي من الولاء لا يعتريه - معاذ الله - وهن، ولا يخلقه تمادي زمن، أو ترامي وطن، ولكن صروف الأحداث قد قصرت الجهد، وصرفت جواد العزيمة عن القصد. والله يعلم أني لو نزلت على حكم نوازل الدهر، ولم أدافع طلائعها بما بقي من ساقة الصبر، لما كان في همتي إلا كسر اليراع، وهجر المحابر والرقاع. وحسبي من العذر ما أعرفه من حلمك المألوف، وما ألفته من كرمك المعروف، والله أسأل أن يبقيك لي من الدهر نصيبا، ويمتعني بلقائك قريبا بمنه وكرمه.
وكتب الفاضل مصطفى بك نجيب:
الفونوغراف
مثال القوة الناطقة، من غير إرادة سابقة، يقتطف الألفاظ اقتطافا، ويختطف الصوت اختطافا. مطبعة الأصوات، ومرآة الكلمات، ينقل الكلام من ناحية إلى ناحية، نقل كلام عمر - رضي الله عنه - إلى سارية. أشد من الصدى في فعله، في إعادة الصوت على أصله، كأنه الحرف عن يد الطابع، والوتر عن يد الضارب، والقصب عن فم القاصب. يحفظ الكلام ولا يبيده، ومتى استعدته منه يعيده، من غير أن يبقي لفظا في صدره، أو يكتم شيئا من أمره، كأنما حفظ الوديعة، في نفسه طبيعة، فلو تقدم له الوجود في مرتبة الزمن لما احتجنا في الأخبار إلى عنعنة، ولا في الدعاوى إلى بينة، بل كان يسمعنا كلام السيد المسيح في المهد، وصوت عازر من اللحد، وكانت استودعته الفلاسفة حكمتهم، وأنشدوه كلمتهم، فرأينا به غرائب اليونان وبدائع الرومان، وربما سمعنا خطب سحبان، وشعر سيدنا حسان، بذلك اللسان، وأصبح وجود الإنسان، غير محدود بزمن من الأزمان.
لله دره من تلميذ يستوعب ما عند المعلم، ويستخلصه في لحظة، معيدا لقوله ناقلا صوته ولفظه!
لقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
نديم ليس فيه هفوة النديم، وسمير لا ينسب إليه تقصير، تسكته وتستعيده، وتذمه وتستجيده، وتنقصه وتستزيده، وهو في كل هذه الأحوال، راض بما يقال، لا يكل من تحديث، ولا يمل من حديث. نمام كما ينم لك ينم عليك، وينقل لغيرك كما ينقل إليك، فهو المصور لكل فن، المتكلم بكل لغة، المتحدث عن كل إنسان، المؤرخ لكل زمان، الشاعر، الناثر، المغني العازف، لا تعجزه العبارة، ولا يجهده الأداء، ولا يضره اختلاف شكل، ولا تباين أصل، بل تعدت شدة حفظه البشرية من اللغات، إلى حفظ أصوات العجماوات، إلى حركة اصطكاك الجمادات.
فيا لله من أيهما نعجب؟ ولأيهما نطرب؟ أمن الفونوغراف وقد نقل صوتنا كما نطقنا؟ أم من شقيقه الفوتوغراف إذ ينقل صورتنا كما خلقنا ؟ فنرى من في أقصى أقطار الأرض ويرانا وكلانا عن مكانه لم يتحول، ويسمعنا حديثه المعنعن ونسمعه حديثنا المسلسل.
وكتب صديقنا الفاضل حسن أفندي توفيق لبعض أصحابه، وقد لامه على عدم مكاتبته:
عذلت أيها الصديق ولات حين عذل، حيث أملت أن أكون لك كما أنت لي، وأنا ذلك الخدن الذي ملئت جوانحه شوقا، وحشيت أحشاؤه صدقا. أغرك إرجاء المكاتبة؟ أم غرك صمت الأقلام؟ والقلوب كالسبيكة إذا أصدأها السكون فهي خالصة الباطن، أو كجمرة الزند تتأجج وهي مغبرة الظاهر. بل تحكم لديك الشك فحكمت، وكان عهدي بك اليقين. ومع هذا فإني لأشكرك على عذلك، وأحمدك على فضلك، فلا لوم إلا بين أصدقاء، ولا عتاب إلا بين أوداء، وما اختياري بهذا أن أقرع عصاك، بل أن أجعل شكك يقينا في صديق رؤيتك أشهى آماله، ولقاؤك أعظم أمنياته، والسلام.
وكتب الفاضل مصطفى أفندي الدمياطي:
الأناة
ليس في الأناة مظنة العجز ولو أدنت من الفوت، وإنما العجز في العجلة التي تعقبها الندامة، فما أضيع الفرصة إذا انتهزها المرء بلا روية!
ولم لا يكون الإنسان طويل الأناة، بعيدا عن التسرع؟ الغاية فرس جموح لا تراض بغير الحزم والتأني، وما مثل الإنسان عجولا إلا كمن امتطى جوادا لا يقوى على رياضته؛ لأن يده غير قادرة على ضبطه، فتراه عاجزا عن إيقافه عند الحاجة، كذلك المتعجل تراه مدفوعا برغبات لم يرضها، فهي تعدو به ولكن إلى هوة عمق قرارها إذا سقط فيها فلن ينهض منها. فعلام يتعجل المريد؟ بل لماذا يغفل الروية في الأمر؟
نار الروية نار جد منضجة
وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يفضلها قوم لعاجلها
لكنه عاجل يمضي مع الريح
أيريد أن يقطع ولا سكين؟ أو يحصد في إبان البذر؟ أو أن يأكل من الفواكه وهي فجة؟ أو يدخل الدار قبل أن يؤذن له؟ أو يكسر الباب قبل أن يفتح عليه؟ أو أن يعمل بغير الحكمة؟
إذا عزمت على أمر تحاوله
فاسلك من الحزم في تطلابه طرقا
إن الأناة لطرف إن ونيت ونى
عن اللحاق وإن أجهدته سبقا
وكتب الفاضل أحمد بك زكي رسالته الثالثة من كتابه «السفر إلى المؤتمر»، في وصف رومية المدائن، فقال:
يا للعجب يا للعجب! كأني نسيت الكتابة بلغة العرب، أو كأن مقامي بهذا البلد، أضاع اللب وأذهب الرشد، فكيف العمل فكيف العمل؟! وأنا كلما حاولت التحرير أو أخذت في التحبير، استعصى القلم وحرن جواد التفكير، وانهالت علي المطالب انهيالا لا يجعلني أعرف بم يجب الاستهلال؟ ومتى يكون الختام؟ وكيف أتخلص إلى تلخيص شيء من المذكرات الجمة؟ والمفكرات العديدة التي اقتطفتها أو جمعتها على هذه المدينة المختالة في حلل البهاء والجمال، المجللة بما أودع فيها من آثار العظمة ومشاهد الجلال، ففيها العمائر الفاخرة الفائقة، والقصور الواسعة الشاهقة، والمزارات المتعددة المتنوعة، والبقايا الكثيرة مما خلفه فيها القياصرة والإمبراطرة، والقناصل والأمراء، والأشراف والكبراء، والسادات والباباوات، فإنها من يوم نشأتها إلى الآن ما زالت عاصمة السياسة والحل والعقد، وكعبة الديانة الوثنية ثم النصرانية، وكل من يتولى الأمر فيها سعى بما في وسعه لتوسيع نطاقها، وبذل جهده في زخرفتها، بما يوجب له الفخار، ويستبقي ذكره على ممر الأيام، فلذلك ترى شوارعها فسيحة، وميادينها أنيقة، وفي كل ساحة فسقية يتدفق الماء منها، وفيها بأشكال معجبة، وأصوات مطربة، وقد نصبوا فيها كثيرا من المسلات التي استجلبوها من بلادنا، مع أن عاصمتنا القاهرة خلو منها بالمرة (والذي بقي عندنا من المسلات ما زال في موضعه يندب التمدن الذي كان حوله، ويتحسر على عدم العناية به مثل أمثاله في أوروبا وأمريكا). وللمباني في رومية منظر رائق بهيج بألوان زاهية براقة تعجب النظار، وعلى جميع جدرانها وأبوابها ونوافذها ومطلاتها وشرفاتها وأفاريزها ترى التماثيل من النقوش البارزة، والتصاوير المختلفة، والرسوم المتعددة، كأن كل واحد من أهاليها أراد أن يستوقف السائحين والجائلين والرائحين والجائين. بل هذا غرام قام بهم وشغف لازمهم فلا مندوحة لهم عنه؛ لأنك ترى حتى الجزار يزوق حانوته بأغصان الأشجار، ويعرض اللحم على الأنظار مقطعا قطعا، ملتفا أعلاها بقراطيس من الورق الأبيض، تنضم ثنياته إلى بعضها فتجمعها زهرة من الزهر المختلف الألوان. ومثله بائع الخضر في حسن الترتيب وجمال العرض، ولا ينقص عنهما غيرهما، فكل واحد يتفنن فيما يلزم الخلائق بالإقبال عليه.
وقد اغتنمنا فرصة مقامنا بهذا البلد لزيارة ما به من الكنائس التي يضرب بها المثل في الضخامة والفخامة والمتانة والتناهي في الإبداع، واللاتناهي في الإغراب، والتشييد الهائل والزخرفة التي تلهي ولا شك المتعبدين والمتعبدات، وتشغل المتنسكين والمتنسكات بالنظر إليها. وإن العقل ليحار في كيفية تشييدها، ويذعن باقتدار ذلك الذي صورها بالقلم على القرطاس، ثم أبرزها مجسمة على سطح البسيطة، حاوية كمال التناسق، وتمام التناسب، وإحكام الصنع، وإتقان الوضع في كل نوع من جدرانها وعمدانها وسواريها إلى عقودها إلى سقوفها إلى قبابها، حتى إنه لم يترك مقالا لقائل، ولم يدع مجالا لاستعمال ليت ولو. وفوق ذلك فإن للقوم بحفظها عناية لا بعدها ولا قبلها؛ ففي كل كنيسة منها سلالم للتعمير والترميم، والتجبير والتتميم، ومع كثرة الكنائس والبيع بها - فإنها تكاد تناهز نصف الألف - رأينا القوم مشتغلين بتشييد غيرها. وأنت تعلم ما حاق في هذا الزمان بالحكومة البابوية والسلطة الدينية من الضعف والاضمحلال في بلاد أوروبا على العموم وإيطاليا على الخصوص.
هذا وقد زرنا معرض الصور والرسوم، ومصنع الفصوص والفسيفساء في قصر «الفاتيكان»، ورأينا بهما من العجائب والغرائب التي يقصر عن تفصيلها هذا الإجمال. ثم شاهدنا ما بالمدينة من آثار القدماء والمتاحف والمعارض والقصر الملوكي والأطلال القديمة والسراديب المنقورة في قلب الجبل، حيث كان النصارى في مبدأ أمرهم يلجئون إليها أيام الاضطهاد، ويتقون بالاختفاء فيها شر عباد الأوثان.
وقد رأينا في كل ساحاتها وباحاتها وميادينها وبساتينها وفي كافة الأرجاء من منازهها وشوارعها، تماثيل كبارهم وعظمائهم الذين قاموا بخدمة الوطن، وترقية شأن البلاد وتعزيز مقام الأمة، بحيث إن ذكرهم لا يمكن أن يمحوه الزمان، وبذلك عرف الأهلون عالمهم وجاهلهم كبيرهم وحقيرهم مقدار الأجر العظيم الذي يصيبه من ينفع الوطن من أي وجه كان، وبأي عمل كان. ووقف السكان عموما على تواريخ أولئك الذين استفادت منهم البلاد فائدة حسية أو معنوية قليلة أو جليلة، واتخذوهم نموذجا لتهذيب الأبناء الناشئين وتربيتهم على السير في جادتهم ومحاكاتهم في خدمة الأوطان. وهنا ينبغي لي أن أقف قليلا كاسف البال متحسرا على إهمال أهل بلادنا هذا الأمر الذي هو أفضل الأعمال، وأجل ما تشد لأجله الرحال؛ فإن الذي يعلم أنه إذا خدم وطنه عرف قومه قدره، وأجلوا ذكره، وشادوا له الآثار والمباني التي تضمن له عمرا غير العمر الفاني، وتستديم حياته إلى كل جيل، لا شك أنه يضحي النفس والنفيس ويواظب على السعي والعمل لنيل هذا الشرف الذي ليس بعده شرف. ألا ترى أن الكثير من علمائنا وفضلائنا قد انقرض ذكرهم بمجرد دخولهم في رمسهم، اللهم إلا أن يكون لهم كتاب متداول مشهور - وهم الأقلون؟ وهل يصح لي أن أعرف بني وطني الكرام بأن السعي في تخليد ذكر الأماجد الأماثل الذين يخدمون الوطن هو أكبر باعث ينهض بالنفوس، ويحرك العزائم، ويحد القرائح، ويوجب الإقدام على العظائم، فتغتنم الأمة والوطن أجل المغانم ويربحان باجتهاد أفرادهما وسعي أبنائهما، من غير أن يكونا على الدوام في حاجة إلى الأجنبي والدخيل، لا نسير إلا بمشكاة نورهما، ولا نهتدي إلا بهدايتهما وإرشادهما؟ أم آن لنا أن نفطن إلى هذه الحقائق وندرك ما وراءها من المنافع، فنطرح الحسد من نفوسنا، ونسعى جميعا في وجهة واحدة لصالح الوطن العزيز كل بقدر ما عنده، ونعضد بعضنا لنكون كالبنيان المرصوص؟ فلعل أهل بلادنا تهزهم الأريحية المصرية، وتثور فيهم النخوة الوطنية والحمية الأهلية فيتشبهون بأمم أوروبا لنوال الفلاح والنجاح!
أواه! تحدثني نفسي عند كتابة هذه السطور بأن الكثير من القراء لا بد أن يستخف بهذا المقال، ولكني أنادي من له حياة أو كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فتلك لعمرك عواطف وطنية وإحساسات قومية وددت لو يشعر بها أهلي، كما تملكتني حينما رأيت الخاصة والعامة في هذه المدينة واقفين تمام الوقوف على جميع ماجريات أولئك العظماء الذين أقيمت لهم التماثيل والأنصاب، وتزينت بصورهم قصور الملوك وقاعات الدواوين، حتى كان ذلك باعثا للأمة الطليانية على مباراة الأمم العظيمة، ففتحت المعامل الكبيرة، وألفت الشركات الجليلة، وأقدمت على مهام الأعمال فحفظت ثروة البلاد، وروجت الصنائع الوطنية، فاكتسبت أيما اكتساب. نعم، لا ننكر أن الدولة الطليانية واقعة الآن في أزمة مالية وقد برك فيها جمل الفقر، ولكن لها عذر واضح من حيث إنها في وقت قصير أنشأت مواني حربية بحرية، وأنجزت كثيرا من الأعمال العظيمة ذات المنفعة العمومية كي تضاهي الدول الكبيرة والأمم المثرية، فكانت كالزارع ينفق كل ما عنده ثم ينتظر الغلة والريع، وقد بدأت تجني ثمار ما غرست وأخذ الخير يدر عليها، وأظن أنه لا يمضي عليها نحو النصف مائة حتى تنفض ما عليها من غبار الفاقة، وتفيق مما حاق بها من الارتباك والإعسار.
وكأني بك أيها القارئ قد مللت من هذا الاستطراد، وتود مني بدل ذلك أن أكاشفك بما رأيته في هذه البلاد من الأمور العرضية الثانوية، التي قد يكون وراءها فائدة معجلة جزئية يمكن إدخالها في بلادنا، مثل: العربات والسكة الحديدية والبريد والتلغراف والبواخر والشرطة (البوليس)، وما أشبه ذلك من التنظيمات من أنهم يضعون أسماء الشوارع على رقع مربعة من الرخام؛ لكي لا يتطرق إليها البلاء بسرعة، كما حصل عندنا في الأخشاب التي وضعتها نظارة الأشغال في القاهرة بمصاريف باهظة. ولكني أقول لك إن الحر شديد جدا، وإني أقاسي منه أكثر منك من عهد مبارحتي للإسكندرية إلى هذا اليوم، حتى كأني ذهبت إلى أسوان أو السودان، فأعفني من ذلك الآن - عافاك لله - وأعتقد أن الحر في هذا العام بأوروبا أشد منه في كل عام، بل لم يعهد القوم له مثيلا قبل الآن، ولقد كنت أستغرب ذلك في أرض أوروبا حتى قرأت في جريدة «التريبونا» الصادرة في يوم الإثنين 22 أغسطس تلغرافا من باريس، ينبئها بأن اشتداد الحر فوق العادة قد أتلف صحة الجنود وهم يتمرنون في جملة جهات، وآخر من ويانة يقول إن القيظ مستمر فيها وأنه وردت عليها الأخبار من جملة مدائن أن الحر سبب وفيات كثيرة، وأن سبعة من العساكر زهقت أرواحهم من اشتداد الحر، بينما كانوا في مرانتهم، وأن الفلاحين قد اضطروا لترك أعمالهم، وأن الفاكهة قد أصابتها أضرار بليغة. فكيف لا تشفق علي مع ذلك كله؟ وقد كنت أيضا بالأمس (يوم الأحد) أتريض في رومة، ورأيت في منازهها من رأيت وما رأيت، وحسبك مني هذه الإشارة ...
وعرب هذا الفاضل فصلا حكميا نشرته إحدى المجلات الفرنسوية، وكان له وقع عظيم في نفوس قرائها، فأبدع في إنشاء ما عرب، حتى فاق المعرب أصله أسلوبا وأخذا بالقلوب. ويا ليت المعربين ينحون هذا المنحى في معرباتهم! وها هو الفصل بنصه الفائق:
بين المجانين
أسرتي أثيلة في المجد، كثيرة في العد، مشهورة بالنعمة والثراء، ولها من الجاه مكانة علياء. ولي إخوة تحسدهم البدور والأغصان، لما امتازوا به من الرشاقة والجمال، وأما أخواتي فقد خلقهن الله فتنة لذوي الألباب، يسحرن العقول، ويفتكن بالأرواح ... ولا جناح، فلماذا يا ربي أفردتني بالدمامة والبشاعة والسماجة والشناعة بين أفراد هذه الأسرة الباهية الباهرة، الزاهية الزاهرة؟! كأنني عنوان الاختلال والاعتلال في نظام الأكوان، أو مجمع أسباب النفور والاشمئزاز، بل لعنة الرحمن مجسمة في جسد إنسان.
لا أرى أمامي وجهة واحدة أجعلها كعبة آمالي. ويعلم الله أن فؤادي ينطوي على عواطف الحب الشديد، والولاء الصادق، ولكنني لا أجد فردا في الوجود يرضى بأن تحوم حوله أميالي. فلله در الحب والهيام! وأف أف لهذا العالم الذي أنا فيه ينبوع الجزع والفزع! كل من أسعى في التودد إليه والتقرب منه يفر من وجهي مرعوبا مذعورا، بل إن الذين تدفعهم عواطفهم الكريمة وإحساساتهم الشريفة إلى الشفقة علي والرثاء لحالي، لا يلبثون أن يغضوا أبصارهم عني ويولوني ظهورهم، هلعا وفرقا!
وحيثما وليت وجهي، وأينما ساقتني أقدامي، رأيت الجو المحيط بي مشحونا بجراثيم القلى والبغضاء، فقد حكمت علي معاندة القدر، ونحس الطالع، وقبح الطلعة، بأن أهيم وحدي، على وجهي، في بيداء بهماء، ولا أجد فيها وسيلة للنجاة. فالأماني والمسرات وحب الشهرة وغير ذلك من الرغائب التي فطر بقية الناس عليها، هي كلها أمامي دوائر مسحورة، ومناطق مطلسمة، لا أكاد أقترب منها حتى يقذفني الرصد الموكل عليها، بأنواع العذاب ... والهوان والنكال.
معارفي واسعة متنوعة، ومعلوماتي غزيرة متعددة، بحيث يقف دونها أكابر العلماء المشهورين موقف الجهالة والاستفادة. عندي من قوة العزيمة والثبات على النشاط، ما يجعل الراحة في نظري عذابا لا يطاق. فؤادي كله رأفة وحنان، على كافة المخلوقات على الإطلاق، حتى إنني لأشفق على الحشرة الضعيفة، والدودة الضئيلة أن أطأهما بقدمي على غير علم مني.
سبحانك ربي، أنت أرحم الراحمين! ماذا أصنع بهذه المواهب التي أفضتها علي من خزائن علمك، ونفحات فضلك؟ أفلا ينبغي لي الاختلاط بالناس كي تظهر آثارها ومزاياها؟ فلماذا متى اقتربت منهم يصيبني من العذاب أشكال وألوان؟ وأينما نزلت أحاط بي الهزء والسخرية والازدراء؟ وكنت سببا في انخلاع القلوب واضطراب العقول؟ لقد أصبحت وكل خطوة من خطواتي تقودني إلى هاوية عميقة، وغيابة سحيقة، فعيشي زقوم، وحياتي كلها غموم وهموم.
لما أتيت إلى عالم الوجود واستقبلتني القابلة، ألقتني بعنف على الأرض، وفرت صارخة مذعورة! ولما رأتني المرضعة، ارتجفت وهرولت إلى خارج الدار، وهي تقسم بأغلظ الأيمان، أنها لن تحملني على صدرها، ولا تغذوني بدرها! فنظرت إلي والدتي فغشيها من الهم ما غشيها، ووقعت عن كرسيها مغمى عليها، فأدركها والدي؛ وإذ أبصرني، اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه، وصاح: «ما هذا بشرا إن هذا إلا مسخ دميم، ولا يستحق أن يعيش!» فتسامع بي الأطباء، وقالوا: «بل نحفظه مثالا غريبا على غرائب المسوخ وعنوانا على فلتات الطبيعة في التشويه!»
ألا لعنة الله على الأطباء، فهم سبب حياتي، بل أصل ما أقاسيه من بلائي وشقائي! وجاءت عجوز شمطاء، منقطعة عن الأهل والأولياء، فأخذها الحنان علي، وأخذتني، وآوتني، وقامت بتربيتي حتى ترعرعت، فإذا في فؤادي شغف شديد بالمحبة والوداد، فملت بكليتي إلى كل ما وقع عليه بصري، من أرض وعشب وحيوان في الفلاة، وهمت ولوعا بكل شيء من البهيمة التي ترعى تحت أقدامي، حتى الإنسان الذي خلقه الله ليتأمل في بدائع الملكوت، ولو أنه يفزع لرؤيتي، ويفر من أمامي. شغفت بحب الكائنات، من أشرفها وأسماها إلى أحقرها وأدناها. ركعت أمام أمي، وتضرعت إليها أن ترمقني بعين المحبة، فنالها رعب شديد، وخارت قواها وضاع هداها! ذهبت إلى أبي، فنهرني وطردني بنفور واشمئزاز. بل نفر عني حتى أحقر العبيد مفتخرا بشكله الإنسي وظاهره الآدمي، ورفض أن يكون له أدنى علاقة بشخص عليه علائم الغضب السماوي، والسخط الرباني. بل إن الكلب ... الكلب الذي اخترته من أقبح الأنواع وأبشعها، وأشوهها وأشنعها، خاف من وجهي، وأطلق سيقانه للهرب من منظري!
فلما رأيت نفسي طريدا مهجورا، ممقوتا ملعونا، أجمعت رأيي على الوحدة والاعتزال، والمعيشة في بطون الغابات وفوق نواصي الجبال، منفردا حقيرا، كالدودة في الحجر الأصم. وبقيت في عزلتي، أعاني الآلام، تزيدها الأفكار والأشجان، وأقاسي الهموم والأحزان، بسبب النفي من هذا العالم الذي لا ينبغي أن يكون لي فيه نصيب من الحب والوداد.
ولما أصبحت مطرودا من معاشرة الناس، رأيت أن أتفرغ للنظر في عجائب الكون وجمال الطبيعة، وصار همي طول يومي، وسمري في سهري التلقي والتحصيل عن مشاهير الأموات الذين تركوا لنا زبدة أفكارهم، وثمرة أتعابهم، وخلاصة أعمالهم، وأرشدتني الأرض إلى كنوزها وعجائبها، وسلمتني كتب الحكماء مفاتيح علومهم ومعارفهم. فقرأت، ونظرت، وفكرت، حتى انكشفت لي الحقائق من خدرها المكنون، وسرها المكتوم، وانطبعت على صدري بطابعها الرباني، وظهرت لي خفايا الماضي في أتم الظهور، وانكشفت أمامي أسرار الوجود، من غير ما قناع يحجب محياها الوسيم، بل توصلت بطول المراقبة، ودوام الرياضة، وكثرة الاختبار، إلى معرفة المستقبل من الأمور والشئون، ونظمت من القريض الدرر والدراري، ضمنتها خلاصة آرائي وأفكاري، لكن وا أسفاه! كلما ارتقى عقلي واتسع نطاق فكري وصفت قريحتي، ازدادت آلامي شدة وحدة، حينما أراني في هذا العالم - عالم السعادة والحب والهناء - محكوما علي دون سواي بأن أعيش في نكد وكراهة وشقاء، وأن لا أكون محبوبا على الإطلاق، إلى ما شاء الله.
لذلك عزمت على السياحة، لعلي أجد في بعض الأجزاء الأخرى من هذه المسكونة الملعونة أناسا مخلوقين على غير هذه الصورة الربانية، التي جعلت في قومي إعجابا بأنفسهم فاق حدود الأنفة والكبرياء (قلت: قومي! فوا حسرتى! أمثلي له قوم ينتسب إليهم ؟!)
إن الخلائق البشرية على أنواع تفوق الحصر، فلماذا لا أجد أثناء تسياري في أطراف المعمور أناسا يشبهونني ويحبونني؟ ولماذا لا يصيبني أنا أيضا نصيبي من السعادة والهناء؟ فاستودعت الله ذلك الشخص الوحيد الذي عني بي، وأعني به تلك العجوز الشمطاء، وكانت قد أصبحت عمياء بلهاء، فلم تشمئز من وضع يدها المرتعشة على رأسي المشوه الدميم، ثم ودعتني ودعت لي ... ولكنها لم تتمالك من اختتام دعائها بهذه الكلمات: «ليتك يا بني لم تخرج من حيز العدم!» فأفلت من فمي، رغما عني تبسم، يصحبه تهكم، وهرولت مسرعا إلى خارج دارها ...
اتفق لي في بعض الأيام أنني أمضيت النهار كله في حل وترحال، حتى إذا حان الأصيل، وجدت نفسي في منتهى إحدى الغابات، وأبصرت بالقرب منها دارا خلاوية جميلة التفت حولها الأشجار، تفوح منها أعطار الأزهار، وتتناغى فوقها الأطيار، وقد تسلقت أغصان الورد والياسمين على أسوارها، وتشابكت فوقها فروع الدوالي واللبلاب، ونزل على الأزهار ندى المساء، فضاع شذاها، وتأرجت به سائر الأرجاء. فأخذت أستنشق هذا النسيم وهذه الأعطار بشغف وهيام. نعم، بشغف وهيام؛ لأن هذا النعيم على الأقل لم يكن محظورا علي، ممنوعا عني ... وبينما أنا أمتع أنفي بشميم الأريج، وعيني بالمنظر البهيج، إذا بسمعي قد اشترك أيضا في هذا النعيم، فقد استرعاه صوت رخيم في البستان، وأرشدتني رقة النغمة إلى أنه صادر من سرب نساء، فكتمت نفسي، وأصغيت، لا بأذني وحدها، بل بكل حواسي، وإذا بهن يتجاذبن أطراف الكلام، عن الحب والغرام، وعن الصفات والخواص التي تولده في الفؤاد.
وسمعت إحداهن تقول كلمات، كان لها في فؤادي الكليم، سحر عجيب، قالت: «كلا، ليس الجمال في الرجال، هو الذي يجذب فؤادي، ويمتلك قيادي؛ بل الرجل الذي تتوق إليه روحي، وتميل إليه عواطفي، هو الذي يمتاز بسمو المدارك، حتى يتسلط على عقول الآخرين، ويكون له فؤاد كله شغف وهيام، يجعله يستخدم قريحته في خدمة أقل أغراضي، وأدنى مشتهياتي. وخلاصة القول أن الذي أتطلبه هو نابغة الرجال في عصره، بحيث يكون كله وجد وغرام؛ وما عدا ذلك فهو عندي والعدم سيان.» فسألتها إحدى صويحباتها: «أتقدرين أن تحبي رجلا مشوها ممسوخا ولو كان آية الآيات في العواطف والإحساسات؟ أو أعجوبة العصر في الذكاء والفضل؟» فأجابتها الأولى بصوتها الشجي، ولفظها الشهي: «نعم، أشعر من نفسي بهذه القدرة، وإذا كان فؤادي كما أعهده لا يخيب ظني، فإنه يخيل إلي أني أهيم وجدا بالرجل الممتاز بنبيل الخصال، وجليل الصفات، مهما كانت خلقته مشوهة دميمة.»
وكان في سياج البستان ثغرة بين الأغصان، فاسترقت النظر من خلالها كما استرقت السمع من ورائها، لعلي أحظى بنظرة إلى تلك التي نفثت بمقالها روح الرجاء في فؤادي اليئس الحيران، فرأيت في ملامحها ما يدل على شدة التفكير والاستغراق؛ وكانت ذوائبها الذهبية مرسلة على جبينها الوضاح، ولها ظل ممدود على لواحظها الساجية الساحرة، وفي كل حركة من حركاتها دليل على علو النفس ورقة العواطف. بل إن لونها الصافي كان يشف عن صفاء ضميرها، وارتياح روحها. وربما كانت صاحبتي في نظر غيري لا تعد بين ربات الجمال، ولكن عيوني وفؤادي صوروها أمامي ملكا في صورة إنسان. قل لي بعيشك، أين هو الطيف اللطيف يهديك محاسن ولذائذ مثل تلك التي أرسلت إلى قلبي الكئيب شعاعا من الأمل الرباني، بعد أن تولاه اليأس والقنوط؟
لعمري! كانت هذه اللحظة سببا في حياتي؛ فإنني أسرعت بالعودة إلى الغابة، المحدقة بمنزل تلك الغادة، وقاسمت الوحوش في كهوفها، وهنالك صرفت الأيام، وكلها أحلام في الغرام والهيام، وكنت متى أرخى الظلام سدوله وستر ذاتي عن أعين الرقباء، سعيت إلى دارها، وأقمت فؤادي حارسا على كل خطوة من خطواتها في غدوها ورواحها. وكنت أتسلل بين الأغصان، لإمتاع الأسماع بنغمات صوتها الرنان، أما الليالي فكنت أقضيها كلها تحت نوافذ غرفتها، ولم يكن لي حينئذ من هم سوى ترديد التغريد، وكثرة الشكوى من لوعة الجوى؛ فكان صوتي الشجي يوقظها من نومها في أغلب الأوقات، وكانت أينما وضعت أقدامها أثناء تنزهها، ترى قصائدي الغزلية تبث إليها شكوى الضنى، وقسوة الهوى، ودوام الإعجاب بها والتشبيب بحبها.
حتى لقد انتهت بها الحال أن تحركت في نفسها دواعي حب الاستطلاع للوقوف على حقيقة الأمر، وكشف غوامض هذا السر، فوقع خيالها البكر، في أحبولة العشق ... ولا فخر. آه! لماذا لم تيبس يدي؟ ولم يشل ساعدي؟ ولماذا لم ينقبض صوتي في صدري؟ قبل أن تمكنت من جعلها تشاطرني هذه العواطف الغرامية الملعونة؟
أرسلت لها نظمي ونثري، يبثانها وجدي وحزني، وقلت لها إنني سمعت تحاورها مع أترابها، ولكنني أكثر دمامة وأشد تشويها حتى من الأبالسة والعفاريت والشياطين، وإنني أقبح بآلاف من المرات من كل ما صوره أو يصوره الوهم والخيال، وإنما أخبرتها بأنني أتعشقها إلى درجة تقرب من العبادة، وأنها هي الوجود أمامي، وما عداها فهو العدم.
غير أن ألحاني كانت مطربة، ونغماتي شجية بحيث لا يكاد يصدق معها اعترافي بتشويه خلقتي، فأجابتني، وأوجد جوابها عالما جديدا من حولي، عالما كله لذات ومسرات، وأكدت لي أنها لا تنظر إلى الجمال على الإطلاق، ولكن الروح وحدها هي الجديرة بحبها؛ وأن من كان مثلي في رقة التعبير ولطف الشعور، لا يمكن أن تراه بعين المقت والنفور، بل وعدتني بأنها تحبني ولو كنت في الدمامة والبشاعة أكثر مما وصفت لها نفسي.
تعالوا فانظروا، أين تنتهي الحماقة ويسوق الغرور! فإنني صدقت قولها، وتدثرت برداء ستر جسمي كله، واعتمدت على الأيمان التي حلفتها لي بأنها لا تسعى في رؤيتي قبل اليوم الذي أعينه لهذه المكاشفة، بل لهذه المباغتة، فكنت أتجرأ في كل ليلة على التقرب منها، والجلوس بجانبها، في أيكة كثيفة الأشجار، ملتفة الأغصان، بحيث لا يتوصل أحد إلى الوصول إلينا، إلا بعض الأشعة من ضياء القمر.
وكنت أطيل السمر معها، فأشرح لها أسرار الطبيعة، وأفتح خزائن العلوم، وأكشف كنوز المعارف، ولكنني ما كنت لأهمل وصف الوجد والغرام، وشكوى الهوى والهيام، بحيث كنت تارة أتجلى أمامها في مظهر الحكيم العاقل، والفيلسوف الفاضل؛ ثم لا ألبث أن ألبس ثياب المغرم المتيم، والعاشق الولهان ...
وا حسرتاه! لماذا قضيت يا ربي بانصرام هذا الوصال، وسرعة انقضاء هذا الزمن السعيد؟ فإنني ما كدت أتمتع بلذة الحياة حتى قالت لي صاحبتي ذات ليلة: «سافر بعيدا عني، اذهب إلى حيث تجعل الناس مثلي في الإعجاب بك والاشتياق إليك، واجعل لنفسك شهرة فائقة تزكي اختياري، وتؤيد انتقائي، ثم ارجع إلي وطالبني بإنجاز الوعد، والوفاء بالعهد؛ إن العهد كان مسئولا.» فتلهفت فرقا من الفراق، وطلبت منها توثيق عرى الميعاد وتوكيد المقال، فأغلظت الأيمان والأقسام. وفي تلك الدقيقة كان الهواء يلاعب الأوراق، ويداعب الأغصان، ففتح فيما بينهما نافذة أطل القمر منها علينا، وأرسل شعاع ضياء إلينا، فتوسمت في عينيها بريقا من شدة الوجد والهيام، بريقا يدل على أنها لم تحاول المكيدة والخداع، فقد كان نظرها هادئا ومستقرا، ويلوح على ملامحها أنها استسلمت لأمر عظيم، قضت به على نفسها؛ فخفق فؤادي طربا، وانحبس لساني اضطرابا، وأخذت يدها فوضعتها على قلبي هنيهة ... وأنا ساكت ساكن، ثم قبلتها مثنى وثلاث، وانصرفت من حضرتها، فلم تعد تسمع بي مدة أيام طوال ...
اخترت لنفسي خلوة سبرت فيها غور العلوم، وبصرت بالمنطوق منها والمفهوم، وهمت في أودية الشعر، وأرسلت اليراع يحلي الطروس بأبكار أفكاري العالية، وبدائع تصوراتي السامية، وقد كانت كلها متجمعة في خزانة صدري، ثم نشرتها على الملأ من الناس، فقابلوها بإعجاب أيما إعجاب، حنى الفلاسفة رءوسهم أمام فروضي ونظرياتي، وأقروا بالعجز عن مجاراتي، وأما العلماء فسيقتفون أثري إلى ما شاء الله من الزمان، في الطرق الجديدة التي هديتهم إليها، والطرائق المبتكرة التي أهديتهم إياها. ولم أقنع بالبحث في العلوم العالية، والمطالب الغامضة، والمسائل العويصة، بل هلهلت الشعر، ونظمت قلائد القصائد في النسيب والتشبيب، فكانت العذراء تترنم بها وتترنح لها، حتى تلتهب بنار الجوى، فيخرج من احتراق الفؤاد بخار ندي يتلألأ على جبينها الوضاح، ويحمر منه محياها الوضاء. وأجمع الناس من ذكور وإناث، مع اختلافهم في الأعمار والأجناس، والأديان والأوطان، على الإعجاب بهذا النابغة المجهول، الذي جعله الله آية الآيات، وأعجوبة الأعاجيب؛ إذ أتاح له الجمع بين سامي العلم والعرفان، وصافي الفكر والخيال.
حينئذ رجعت إلى صاحبتي، وزرتها بالتكتم المعهود، وأتيتها بالبرهان الصادق، والدليل الصادع، على أنني ذلك الذي طبقت شهرته السبع الطباق، وتحدث بذكره الركبان في الآفاق، وقد كان فؤادها حدثها بذلك، ثم طالبتها بالوعد الجميل، وحسن الجزاء ... واتخذنا الظلام ستارا لاتحادنا. وكانت السماء خالية من النجوم، والأرض ساكنة مطمئنة لا حراك بها
1
ولا عليها، وأوراق الأشجار ثابتة على الأغصان، فاستندت على صدري، ولم تصدر منها أي حركة تشعر بالنفور والاستنكاف. وقد توالت اجتماعاتنا، وتعددت مقابلاتنا ... وكنت سعيدا سعيدا، أغبط نفسي ولا أكاد أصدق حواسي! ولكن ثمرة حبنا المشئوم، أوشكت أن تكشف أمرنا، وتفضح سرنا، بحيث أصبح من اللازم أن أهرب بها، أو أن نوثق ارتباطنا بالاحتفالات الرسمية المقررة بين الناس، كما أكدناه بطبيعة الحال. واستحال علينا التأجيل، فخدعتني بمواعيدها، وأذهبت رشادي بدموعها، وانضم إلى ذلك فؤادي؛ فأغراني وأغواني وأعماني، وحينئذ عقدت النية، واتفقنا على أنها تنظر النظرة الأولى إلى وجه خليلها بل حليلها، ونحن أمام الذي يتولى صيغة العقد الشرعي بيننا.
فلما حل اليوم الموعود، برزت من خدرها في دارها، وليس معها سوى شاهدين، وأبيها المحزون؛ لأنه اضطر إلى الرضا باقتراننا دفعا للفضيحة والعار. وقد كانت صاحبتي هيأتهم لمرأى شخص دميم الخلقة، مشوه الوجه للغاية والنهاية، ولكنها لم يكن في وسعها أن تهيئهم لرؤيتي ... فدخلت الدار وكانت الأنظار كلها - إلا عيناها - موجهة نحوي، شاخصة إلي، فصاح الحاضرون صيحة فزع واضطراب، اهتزت لها جدران الدار، أما العاقد فقد وقع الكتاب من يده، وطفق يهمهم ويتمتم من غير معرفة ولا تمييز، ويقرأ الأوراد والأدعية المخصصة لطرد الجن والعفاريت، ووقع أبوها وقعة لن يقوم منها إلا يوم القيامة، وأما الشاهدان فأسرعا بالهرب إلى خارج الدار وهما لا يصدقان بالنجاة.
وكنا قد اخترنا الليل لهذه الحفلة؛ فكانت الأنوار تضيء الدار بنور ضئيل، تعبث به الريح، فاقتربت من عروسي وهي ترتعش وتبكي، ولم تكن تجسر على رفع بصرها نحوي، وقلت لها: «انظري ها هو زوجك يا سيدتي!» وكشفت نقابها، فانتفض جسمها، وأغمي عليها، فلم تعلم مقدار المصيبة التي حلت بها. أما أنا فلم أرفعها عن الأرض، بل وقفت في مكاني ... ثابتا صامتا؛ إذ قد زال سعدي، وحقت علي لعنة ربي، وتولاني خبال ضاع معه الرشد والصواب، فحملوا العروس إلى مخدعها، وبعد هنيهة امتلأ المكان بالناس قليلا قليلا، وكان القوم ينظرون إلى الوحش بعين الارتياب والارتعاد، فتنبهت لنفسي، وصرخت فيهم صرخة شديدة فولوا الأدبار، فرميت بنفسي إلى خارج الدار، واختفيت في الغابة بين الأشجار.
حتى إذا تكاثف الظلام وحان ميعاد اجتماعنا المعتاد، ذهبت خفية إلى الدار، فرأيت شباك صاحبتي مفتوحا، فتسلقت إلى غرفتها، فلم أجد أحدا فيها، وكانت مع ذلك تسطع بالأنوار، ورأيت مصباحين بالقرب من سرير العروس، فرفعت الكلة (الناموسية)، وإذا هي في عداد الأموات، فلم أنتحب ولم أتوجع ... كلا، بل شعرت بفرح صادر عن قلب كله قسوة وجمود، حينما أبصرت الشخص الوحيد الذي أحبني في هذا العالم مطروحا أمامي، بارد الجسم، فاقد الحراك، عادم الإحساس، هذا الشخص المحبوب الذي سيكون عما قريب وليمة للدود. ثم قلبت نظري في الغرفة فإذا بمائدة مجللة بغطاء أسود، رأيت تحته جثة مولود قد فارقته الحياة، رأيت له أشداقا هائلة مخوفة، وملامحة دميمة قبيحة، وأعضاؤه نحيلة نحيفة، والشعر والوبر نابتان على كل جسده بهيئة فظيعة. والخلاصة أنه تشويه في تشويه، لا يشبه سوى أبيه، فتحققت حينئذ أنه «ابن حلال»، ومن يشابه أبه فما ظلم.
حملت زوجتي وولدي، وذهبت بهما إلى الغابة، واختفيت معهما في مغارة مظلمة عميقة، ونمت بجانبهما ألاعب الديدان التي كانت تسرح وتمرح في جسديهما ... نعم، كنت أشعر بالسعادة أثناء وجودي في المغارة! حتى إذا لم يبق من الجسدين سوى العظم الرميم، دفنت الرمتين الباليتين، وعدت إلى مسقط رأسي.
وجدت أبي قد قضى نحبه، وبقية إخوتي يعللون النفس بأنني قد سبقته ... فطردتهم أجمعين، ووضعت يدي على كافة الأملاك والأموال، وتاقت نفسي لرؤية المرأة التي ربتني ... فأراني الناس قبرها ... فرويته بدموع مرة نابعة من كبد حرى. ولعمري لا أدري كيف أمكنني البكاء عليها، مع أنني لم أجد دمعة واحدة عند فقد امرأتي وولدي!
وعشت في سعادة وراحة بال مدة من الزمان. ولكن الناس توصلوا للعلم بأنني ذلك الفيلسوف المجهول، وذلك الشاعر المفلق الذي ذاع صيته واشتهر فضله، فلم أنل بعد ذلك شيئا من الراحة والسلام؛ إذ أصبحت الخلائق تتوافد علي من كل مكان، وأحاطوا بداري، والسعيد السعيد الذي يحظى بمقابلتي! وكانت الأبصار كلها شاخصة إلي، والضحك والقهقهة محيطين بي، بل أصبحت أتخيل الهواء مشحونا شياطين يتهكمون ويضحكون ... ومن ذلك اليوم لم يتركني الناس وحدي، ولم أتمكن من الخلوة بنفسي ولا ساعة من الزمان ...
هذه حال الدنيا!
وكل الناس مجنون ولكن
على قدر الهوى اختلف الجنون
وكتب الفاضل السيد محمد علي الببلاوي، من خطبه المنبرية:
الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تكن الصدور، الحاكم العدل، جامع الناس ليوم النشور، المنتقم الجبار، يوم لا ينفع مال ولا بنون، أحمده هدى من شاء إلى صراطه المستقيم، وأشكره مستمدا فيض فضله العميم، وأتوب إليه وأنزهه عما يقول المبطلون، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تشفي القلوب من السقم، وأشهد أن محمدا رسول الله أرسله رحمة للأمم. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد ما كان وما يكون.
أما بعد، فيا عباد الله تعهدوا الصدق، فمن تعهده سلم، والزموا الحق فيا فوز من له لزم! واحذروا الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، وإياكم والغش فالغش مرتعه وخيم، ودعوا الفجور فإن الفجار لهم عذاب أليم، وتقربوا إلى الله ألا إن حزب الله هم المفلحون، وقد أمركم الله بالتحاب فما امتثلتم أمره، وزجركم عن التباغض فما رعيتم زجره، ونهاكم عن المعاصي وأنتم عنها غافلون، وكونوا عباد الله إخوانا، وليمدد أحدكم يد الإعانة لأخيه، وليساعده بقدر الإمكان، فالساعي في الخير شريك فيه، واعتبروا بأحوال قوم معكم إلى التعاون سابقون، فرحم الله امرأ أخلص لأخيه النصيحة، وعامل الناس بخلق حسن ونية صحيحة، وطهر ظاهره وباطنه مما اتصف به المنافقون، فتوبوا إلى الله وأنتم في سعة من الأيام، وعجلوا بالتوبة قبل أن يهجم جيش الحمام، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون. (الحديث) اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
وكتب حضرة الفاضل علي أفندي حامد يشكو ويستعطف:
أشكو إليك ما كلت قوتي عن مزاولته، وضعفت عزيمتي عن مقاومته من ركوب متن الاعتساف، والخروج في الأعمال عن جادة الإنصاف، وتشعب دواعي الشقاء والعناء، حتى بلغ السيل الزبى، فصور الهفوات، تقابل بأقصى العقوبات، والحسنة بالسيئة والإكرام بالإيلام، وحسن المجاملة بسوء المعاملة، وليس في مقدوري الاستغناء عن هذه المرتبات القليلة التي أبذل في سبيل الحصول عليها نفيس الحياة للقيام بتلك الأعمال الجليلة، فوجود الحياة عدم، وأحرار الدهر خدم، والأيام لم ترع حقوقا، ولم تبق شروقا، ولم يسلم أحد من تجنيها، ولم تصف لمصافيها ومواليها، وقد أنهيت أملي إلى رحابك، ووجهت رجائي للوقوف على بابك، عله أن يسعده نظر سيدي العالي، ويحقق آمالي فأكون ممن استفتح باب العطايا فبذل الشكر، والله يحب المحسن ويضاعف له الأجر.
وكتبت «المقامة الجلالية» التي سبقت الإشارة إليها، وهي:
حكى الجلالي ابن الخيالي قال: أجلتني الأقدار عن مكة أجل الديار، فجللت عنها قاصدا جلولاء، والأرض قد جللتها السماء، لا أملك دقا ولا جلا، ولا كثرا ولا قلا، ذاكرا:
كل شيء ما خلا الله جلل
والفتى يسعى ويلهيه الأمل
ومعي هاجن جلت عن الولد، وهم جليل طال عليه الأمد، وغلام جلجل وفرس ذو جلجل، وحمار جلال يجل عن الكلال، فتجللنا الدواب بعد أن جللها بالجل الغلام، وسرنا نحمد ذا الجلال والإكرام. فلما قطعنا جل الطريق، سمعنا جلجلة هزبر طليق، وما رأيناه حتى تجلجل منا الفؤاد، وجلجلنا الزناد، وصاح الشيخ: أمر جلل، ينهب الأجل! وتلته الفتاة صارخة: هيا يا قوم إلى الجلى والعين منها:
لجوج إذا سحت سحوح إذا بكت
بكت فأدقت في البكا وأجلت
فأجابها الفتى:
إذا دعوت إلى جلى ومكرمة
يوما سراة كرام الناس فادعينا
ثم عقد في عنقه خيط الجلجل، وهجم على الأسد المجلجل، ورماه فأصاب جلجلان قلبه، فتجلجل في الأرض بذنبه، فشكرنا المولى الجليل، وسرنا حتى أمسينا بوادي الجليل، فأنشدت:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفج وحولي إذخر وجليل؟
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل؟
ثم أصبحنا جالين عن الوادي، فسمعنا جل بن عدي وهو ينادي:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل
وبين النقى أأنت أم أم سالم؟
ثم مررنا على دارة جلجل وحي جلان، فرأينا في عرصاته رعاة يرعون الدقائق والجلائل والثنيان ينشدون:
لنا غنم نسوقها غزار
كأن قرون جلتها العصي
ومعهم إماء سود، يجتللن جلة الوقود، فتقدمت إلى كبير القوم، وبثثت إليه جلاجل نفسي، فما أجلني ولا أدقني، بل أجابني برفع الرأس. وقابلنا في البادية جالة من اليهود، أجلوا عن الحرم المحمود. وعند دخولنا قصبة الجلوليين، فاح علينا من رياضها شذا الجل والياسمين، ونزلنا في مسجدها القاصي، وشرع شيخنا في تدريس مجلة لقمان، فأحاط به قوم أجلاء الشان:
أماجد صيد ذوو تجلة
ترى عليهم للندى برهانا
وبعد الفراغ من الدرس، أخذوا يجلونه بالتحية وانحناء الرأس. وأحلونا من فضلهم دار الكرامة، وخصوه بالدراسة والإمامة.
وكتبت إلى خليل شط مزاره:
كتابي إليك وقد طال بي الانتظار، وشوقي يجل عن الكيف والانحصار، فشخصك دائم المثول أمام إنساني، وعن سواك من الأخلاء ألهاني وأنساني. فلله أيام قضيناها، وليال من الدهر اختلسناها! كان السرور فيها ضاربا خيامه، والأنس ناشرا أعلامه، طوي بساطها وكأن الأمر ما كان، غير أنها زرعت بفؤادي شجرة الأشجان. لكن عودها حليف أوبتك، وتجددها رهين إشارتك. فمتى يقرب المزار، وتنجلي سحب الأكدار؟ فاضرب لعودك أجلا، فالعود لا شك أحمد. واكتب بقربك وصلا، فالوصل أضمن للعهد، وعهدي من خلقك الوفاء وحسن الولاء، فلا تجعل صفقة شوقي إليك خسرا، بل هبني بعد العسر يسرا. والسلام.
وكتبت إلى صديق سافر إلى الأندلس وكنت قد ودعته على ميناء الإسكندرية وقت السفر وأهداني مطبوع صورته (فتوغرافيته):
أخي الشقيق
بينا أنا أفكر فيما أتيح لك من المقدور مذ فارقتنا يوم المرفأ، وامتطيت صهوة البحر الجموح تؤم الأندلس، إذ جاءني البشير بالرسالة والهدية منك، فاطمأن قلبي وسكن روعي ونعم بالي، وهدأ بلبالي، ووئدت بنات صدري بسهام سروري؛ إذ الأولى أنبأتني بركوبك متن السلامة، ونزولك بحبوحة الكرامة، والثانية لما سفرت عنها اللثام، وألفيتها مثال صورتك، سجدت لله شكرا على ما أهديت وأسديت، وكأنك أوحي إليك أن ناظري حسد خاطري على خيالك، فأرسلت له من مثالك، لتفصم عنه آخية الحسد خشية أن يشيب من الكمد. وقد أحطت الصورة بالسور الكلي وموضوعها شخصي، وقد أرسلت لك مع هذا مثالي هدية وتذكارا لي. والسلام.
وعربت من الفرنسوية إلى العربية ما يأتي:
وصف مساء صيف
ذات يوم حره شواظ من نار، خرجنا وقت الأصيل نلتمس شواطئ الأنهار لنستنشق نسمات العصور، ونشتفي من نفثات الحرور، فجلسنا بقرب الماء، في حديقة غناء، فكان يروقنا رقص الغصون، إذا هب عليها النسيم، ويطربنا هزج السواقي وخرير العيون، عن رنات المثاني وغناء النديم، والشمس قد كست النهر حلة من ذهب، فأخذ يموج ويعجب كل العجب، إلى أن مالت عنه وتوجت رءوس الجبال والأشجار، بتيجان من جلنار. وكلما أخذت الغزالة في الرقاد، ضربت ألوان الخليقة إلى السواد، وأخذ كل راع يئوب بماشيته من مرعاها، ويقودها إلى مأواها. ثم عدنا وقد أخذت تهدأ الأصوات، وتسكن المتحركات، والعلي الأعلى يلحظ الكل بعين رعايته وهم سكون، ويكلأ أرواحهم وما يكنون.
وفي سنة 1308 للهجرة رغب أصحاب جريدة «الأزهر» إلى أهل الأدب أن يكتبوا في موضوعات اقترحوها عليهم، كالشوق والتعارف قبل اللقاء، والتهادي والتقاضي ولطف السؤال والتهاني، فكتب كثير من أدباء العصر في هذه الموضوعات المقترحة.
فمن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ حمزة فتح الله، رسالة في الشوق، وهي:
مولاي، أما الشوق إلى رؤياك فشديد، وسل فؤادك عن صديق حميم، وود صميم، وخلة لا يزيدها تعاقب الملوين، وتألق النيرين، إلا وثوقا في العرى، وأحكاما في البنا، ونماء في الغراس، وتشييدا في الدعائم. ولا يظنن سيدي أن عدم ازدياري ساحته الشريفة ، واجتلائي طلعته المنيفة، لتقاعس أو تقصير، فإن لي في ذلك معذرة اقتضت التأخير . والسيد - أطال الله بقاءه - أجدر من قبل معذرة صديقه، وأغضى عن ريث استدعته الضرورة. وبعد، فرجائي من مقامكم السامي أن لا تكون معذرتي هذه عائقا لكم عن زيارتي، فلكم منة طوقتمونيها ولكم فيها فضل البداءة، وعلي دوام الشكران. والسلام.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان في التهادي:
الإنسان الكامل، المولى الفاضل، دام كماله، وزاد إقباله
كتابي إلى الأستاذ والهدايا تزيد في التواد وتوسع في قوة الارتباط إن كانت لغير من حظرها عليه الشرع القويم، والشيخ مني بمنزلة الأخ من أخيه، أو أنا منه بمثابة الولد من أبيه، ولا داعية لي إليه سوى الصلة به، ولا أريد منه غير الوداد
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى .
وقد اخترت لك من كتب الأدب العربي القديم كتابا حديث العهد بالوجود، بعثته إلى حضرتك معترفا بأنه نموذج فضلك، ومعنى أدبك، يعترف لك مهديه بأنه لاحظ المناسبات، ونظر إلى الرغبات، وقبل أن تشتغل بالبحث فيه عن اسمه والأوصاف، أعلمك بأنه كتاب «المنسوب والمضاف»، فهنيئا له بالشيخ يقدره حق قدره، وهنيئا للشيخ به يزيده في أمره. وإن قبول الأستاذ لهديتي مكفول بحسن أخلاقه، وطهارة أعراقه، وبعلمه بأن النفع بها وهي عنده أعم وأوفى، فله الحمد على ما قبل، والشكر على ما أولى.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل حفني بك ناصف في التهادي:
الهدية في نظر الأصفياء جليلة وإن كانت في نفسها قليلة، ومكانتها خطيرة وإن كانت يسيرة، وسنة حسنة اجتمعت على فضلها الألسنة:
مضت الدهور وأمرها مستحسن
وتعاقبت بمديحها الأيام
اللهم إلا إن لبست جلباب الرياء، وولجت أبواب الارتشاء. ولا مراء أن الأوداء من ذلك براء:
لا يبتغون سوى الوفاء وما لهم
غير البقاء على الصفاء مرام
وما زالت الهدية شعار الأصدقاء، وعنوان تذكار الولاء، كم جددت بين الأصحاب عهود التحاب:
وتعهدت ودا فعاد شتيته
ولشمله بعد البداد نظام
قد وصلتني يد العصا فحبذا الإهداء، وأهلا بتلك اليد البيضاء، وليست هذه أول أياديك علي، ولا أكبر عارفة جاءت من ناديك إلي، وقد أمنت بها النوب، واعتضدت بها على تفريق شمل الكرب.
فإذا طغى بحر الهموم ضربته
بعصاي فاجتازت به الأقدام
تنفلق بها من الأيام صخور، فتنبجس منها عيون السرور، وتلقف ما يصنع الأعداء فتذهب بسحر البغضاء. وإذا اشتد هجير الوحشة نشرت ظلال أنسها، أو عصى فرعون الدهر راعته ببأسها:
فكأنما أوصى الكليم لنابها
حتى يرى آياته الأقوام
وقد فكرت ماذا أقابل به طرفتك؟ وأتلقى به تحفتك؟ إلى أن هداني الله أن يد المنعم إنما تقابل بالأفواه، ليعزز القبول بالقبل، ويؤدى الرسم باللثم، فأرسلت إليك فم سجارة، وجعلته لهذا المعنى إشارة، وقلت:
مولاي كم فاضت يمينك بالندى
حتى غدوت غريق بحر الأنعم
والشكر أوجب أن أقبل راحها
فكنيت عن هذا بإهداء الفم
وقد علمت أن المنظر البهيج يتم بالتدبيج، فاخترت أن يكون مبدؤه كالليل إذا عسعس، ومنتهاه كالصبح إذا تنفس، إيذانا بزوال الشرور بالسرور، ورمزا إلى الخروج من الظلمات إلى النور.
وكتب الفاضل محمود بك أبو النصر في التهادي:
يا أيها المولى الذي
عمت أياديه الجميلة
اقبل هدية من يرى
في حقك الدنيا قليلة
غرة وجه السعود، وقرة عين الوجود، الأمير الجليل:
يا جليل الفضائل، إليك توجه الآمال، ويا جميل الشمائل، بساحتك تحط الرحال، تلك هي الساحة الفيحاء، والشيمة الحسناء، والهمة العلياء، واليد البيضاء، والأعمال التي بها تضرب الأمثال، كم من نعم أسديتها، ومكارم أوليتها، وعلوم أحييتها، فأنت المصدر والمورد، والمقصد والموعد، إليك أقدم تلك الهدية المرضية وأرفع ذلك الكتاب المستطاب، مشفعا في قبوله كرم سجاياك، وعظم مزاياك، وإني وإن كنت أعلم أن مقامك العلي يجل عن أن يرفع إليه مثله، فقد عرفناك متواضعا في علاك، قريبا مع اعتلاك.
دنوت تواضعا وعلوت مجدا
فشأناك انخفاض وارتفاع
كذاك الشمس يبعد أن تسامى
ويدنو الضوء منها والشعاع
وحاشا أن أهدي للقمر نورا، أو للشمس ضياء، أو أبعث ببنية القطر إلى ذلك البحر، ولكني أحببت أن يحظى بلثم بنانك، وينال من كرمك وإحسانك. وقد عهدناك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم، وترتاح لإسداء الجميل كما يرتاح للكرم النزيل، وللشفاء العليل، وما هو إلا من نور فكرك مقتبس، فعساه يحظى بالقبول فأبلغ غاية المأمول. والسلام.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل سلطان أفندي محمد في التعارف:
كتابي إلى مولاي وقد نمى إلي حديث فضائله، ونقلت لي الصبا عبير شمائله، كتاب امرئ دله التواتر على البحر الزاخر، وأرشده أرج النسيم إلى الروض المقيم، فوله بورود شرعته، والاستظلال بدوحته، وائتلاف النفوس إذا كان فطريا، كان ميلها بمجرد الرؤية أو السماع طبيعيا. ومن ثم قدمت التعرف إليه بهذا الخطاب، حتى أرد عليه وقد نظمني في سلك الأصحاب، وسيلقى من قاصده ما يجعله مفزع رأيه وحقيبة سره، ويحقق به ثقته، فيرفع منزلته، ويصبح في مقدمة بطانته، ويشمله بعنايته. والسلام.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل أحمد أفندي سمير في التعارف:
يعلم سيدي أن المودة لا تباع ولا تشترى، وإنما هي نتيجة الاجتماع والتعارف، وقد خلق الله الإنسان مضطرا إليهما؛ لأن انتظام العمران عليهما موقوف، ولهذا شهد العيان بأن المنفرد بأعماله المستبد بآرائه عرضة للخطأ مظنة لعدم الثقة، بخلاف ما إذا كان الاشتراك في الفكر قاعدة للعمل، فلا بد أن الصواب يتمحض منه لضعف التفرد وقوة الاجتماع؛ إذ لا جرم أن المرء كما قيل: قليل بنفسه كثير بإخوانه. وقد سمعت عن السيد وقرأت من آثاره المأثورة ما حببه إلي، وشاقني للتعرف به، لنشترك في منفعة تبادل الأفكار، فإني لا أكتفي بمجرد السماع، ولا أقول إن الأذن تعشق قبل العين، فإنما هي جارحة صغيرة، ولكن كلي ميال إليه، محب لاستجلاء مرآه، عالم أني إذا دخلت إلى موادته من باب التلاقي لا أجد دهري:
يقرب مني كل شخص كرهته
ويبعد عني من إليه أميل
فإن لم يتيسر أن يراني أو أراه، فليسعدني ببضعة أسطر تضمن لي رضاه عن هذه المعرفة الترسلية، لنتراءى بأعين الطروس، قبل أعين الرءوس، ونتجاذب أحاديث المراسلة، إن عزت المقابلة. وقد وقفت عليه خالص ودي، واخترته من بين رجال العصر سعيا لكسب المعالي بمعرفته، فكل امرئ بما كسب رهين، وليس للإنسان إلا ما سعى.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ومن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ أحمد مفتاح في التهادي:
الهدية - غمرك الله بالمعروف - تبسط يد المودة، وتدر بها أخلاف القرب، وتغرس بين المتحابين من الائتلاف بقدر ما تقطع بينهما من شجر الخلاف. وما أنا فيما أهديه إليك إلا كمستبضع تمرا إلى أرض خيبر، أو كالواهب الماء للبحر، والضوء للبدر، والملك لسليمان، والمال لقارون، والحلم لأحنف، والذكاء لإياس، والتفسير لابن عباس. وما ذاك إلا كتاب كما تراه ضرب في الإحكام بسهم، ووعى من الأحكام ما خلت منه مفعمات الأسفار وموجزات الرسائل، فهو كما قيل كل الصيد في جوف الفرا:
تزين معانيه ألفاظه
وألفاظه زائنات المعاني
على أني وإن تطفلت عليك وسقت لك هذا الكتاب، مزدلفا إلى جنابك الرحب ومقامك الأسنى، فقد أصبت كبد الصواب، ووضعته حيث يعرفه أهلوه، ويتقبله من باذله عالموه، علما بأنك عماد العلوم، وأساس الفضائل، لا تغادر شاردة إلا وعيتها، ولا نادرة إلا رويتها، وإلا:
لو كان يهدى على قدري وقدركمو
لكنت أهدي لك الدنيا وما فيها
ومن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ طه محمود في التهاني:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
لقد تقلبت في حلل السراء، حتى ما أشتهي حلة، وتضلعت من كئوس النعماء حتى لا أسأل ساقيا علة، فلم أجد في الحلل الضافية، ولا في المشارب الصافية ألذ ولا أجمل من العافية، وما آب إلي بعد الظعن أعز علي من صحة البدن، ولا رحل عني بعد الإلمام، ضيف أبغض إلي من الآلام. ولو لم يكن إلا بعد الحبيب، أو قرب الطبيب، وإلا قطيعة الوالد أو صلة العائد، لقلت البعد والقطيعة أشهى إلى النفس من القرب والصلة. فماذا يثير من شجنك إذا أصبحت معافى في بدنك؟! وأي شيء مع الصحة رديء أو بدون الصحة جيد؟! ومن أجل هذا كانت العافية أولى ما أهنئ به السيد، فالحمد لله أن عافاك «أيها السيد» وشفاك، ووافاك بأمره من الصحة ما كان جفاك .
وبعد، فلا أطيل بشرح حالي التي رجعت بها من عند السيد يوم عدته، فوجدته بحيث يرجو العدو ويخاف الحبيب، وما هو إلا أن نصبت قدمي مدة من الزمان أستشرف إلى ما يرد علي من نحو سيدي. وقد حالفت السهاد، وخالفت الرقاد، مذ رأيت أن دوحة المجد قد اعتراها ذبول، وأن سيف الشهامة قد أصابه فلول، إلى أن وردت علي البشرى تترى، بأن الله قد أذن لظاعن العافية أن يئوب إلى وطنه، ولنازح القوة أن يثوب إلى بدنه. فلا تسل عما ثاب إلى قلبي من الأفراح ونزح عن صدري من الهموم والأتراح، وما ابتسم من ثغور المكارم، وما تهلل من جباه الفضائل، فأنت تعلم موقع تجلي الكروب من القلوب، وكيف مورد السرور من الوجوه والصدور، وما مقدار الاعتدال بعد الاعتلال. فليهنئك «سيدي» ما كساك الله من ثياب الصحة بعد شكوى ألمت بساحتك، فلم تحجبنا عن سماحتك، وإن حجبت عن صباحتك ولم تصب من حلمك وعلمك، وإن أصابت من جسمك ورسمك. وما كنت في شكواك هذه إلا الذهب، ولا عجب، امتحنه صائغه بشيء من الحرارة ليبين معياره ويظهر مقداره، فإذا هو إكسير، ولا ينبئك مثل خبير، أو الشمس توارت في الحجاب، أو حال بيننا وبينها قزعة سحاب، لنعرف نعمة الله علينا فيها، ولم تلبث السحابة أن تقشعت فاعتدل الجو، وتمحض الصفو، فليطب السيد نفسا وليقر عينا بعظيم فضل الله عليه، وعميم إحسانه إليه، فيما أعاد إليه من الصحة، ومنحه به أعظم منحة:
ولا زال يرفل في حلة
سداها ولحمتها العافية
ومن ذلك ما كتبه الفاضل السيد محمد علي الببلاوي في التعارف:
سيدي، إن مكارم الأخلاق ومعالي الهمم مما تسترق القلوب وتسترق العقول وتمتلك الأرواح وإن لم تتلاق الأشباح. فإني مذ سرى إلي النسيم بأخلاقكم الغراء، وابتسم لي ثغر هذا العصر عن آثاركم الزهراء، وتواترت الأخبار بحبكم للفضل وأهله، وارتياحكم للعلم وذويه وأنا مشغوف الفؤاد بالتعرف بسيادتكم، مشغول البال بالتوصل إلى رياض مودتكم ولعلمي أن للصداقة حقوقا وللمصاحبة شروطا، ربما صعبت على من حاولها، وعزت على من أراد الوفاء بها، كنت أرى الوحدة بي أولى، والانفراد بي أسلم. ولكن ما زالت تنمي إلي أحاسن شمائلكم المشرفة، وتتوارد على مسامعي محاسن سيركم المطهرة، فينمو الوجد ويزداد الشوق:
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وما كنت أجد سبيلا للتعرف ولا سببا للتودد، ولا تجسر نفسي على المراسلة ابتداء، إلى أن رأيت سيدي قد اهتم للأدب فأعلى مناره، ونظر للإنشاء فرفع مقداره، ونصر دولته، وأحيا صولته، وأعاد شبابه، وفتح لأدباء هذا العصر بابه، فعلمت أن الدهر قد ساعدني والفرصة قد أمكنتني، من مصافحة ما أملت، ومصافاة ما أردت، من اجتناء ثمار مودة سيدي والتعرف به والتمسك بأهداب فضائله، والتزود من آدابه، فإن الأدب أحسن ما يستصبح بأنواره، وأشرف ما يتسابق لاقتطاف أنواره، ويحمد التطفل على موائده، ويمدح التنافس في التقاط فرائد فوائده، فجعلت طلب الانتظام، في سلك أرباب الأفلام وسيلة لورود عذب وداده، ونمير التعرف به. فإن رأى سيدي أن يعد نفس حر في عداد معارفه، ويقابل رسالته بما اشتهر من لطائفه، حتى تتمتع بالرؤية الأبصار، كما تمتعت المسامع بطيب الأخبار، كنت مديم الشكر لأفضاله، مستمر الثناء على كماله.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل عبد الله أفندي الأنصاري في التهادي:
المولى - أدام الله وجوده ممتعا بهدايا الأيام، وتحف الأعوام - طالما أوقد من الرفد إلي، ووجه من الخيرات ما أفعم يدي، حتى أصبحت - وله الفضل والمنة - أجر ذيول النعماء على غبراء البأساء، وأجتلي معارف السراء بعوارفه البيضاء التي لا يوازيها ثناء وحمد، ولا يوازيها عطاء ورفد، ولا يطاولها سماء وبحر، ولا يغالبها بؤس وفقر. وإن لي من آلاء السيد - حفظه الله وأدام علاه - ما أينع وأزهر وأورق وأثمر، حدائق قامت لشكره عيدانها، وسجدت لفضله أغصانها، وترنمت طربا، وتمايلت عجبا، بنفحات هي عرفه، وبركات هي عرفه. ولي أمل في جنابه وأنا سليل نعمته، وعهدي بأخلاقه وأنا ابن مودته، أن يمن بقبول ما أهديته، وهو من مال نفسه وثمرة غرسه، باكورة تفاح يرفعها إجلال وإعظام، وتصحبها تحية وسلام.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل محمد أفندي علي المنياوي في التهاني:
لك الهناء بما قد نلت من شرف
وافت بشائره بالقلب فابتهجا
ليرق سعدك، ويحظ جدك، وينعم بالك، ويجزل نوالك، فإن إسداء الفضل عليك بعض ما يرتاح الفؤاد بانتمائه إليك، وقد هبت أرواح البشائر بأريجها العاطر، تروي لنا مرفوع ما ساد بمعناك من الرتب الفاخرة، واتصل بمغناك من المنح الباهرة، التي أخصب غيث سرورها جدب النفوس، وأحيا روض أنسها بعد أن شابه البوس، فازدهت أفنانه وماست عجبا، وهشت ورقه وغردت طربا، وأصبح يانع الزهر باسم الثغر، يفتر عن شكر المنعم وإنعامه، والدهر وتبلج أيامه بما أولى من الفضل، من هو له أهل.
فيا حبذا دهر على ما به أولى
ويا حبذا من منه قد فاز بالجدوى
فلتهنأ ذاتكم الشريفة بهذه الرتبة المنيفة، لا زال كوكب سعدكم بسماء المجد يسمو، وساطع حبوره بسرادق القلب يزهو وينمو. والسلام.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل وفا أفندي في الشوق:
أما بعد سلامي عليك، فهذا كتابي إليك، ينبئك عني، وعن شوقي وعن ودي. ولا أزيدك علما أني ما كتبته من دواة، ولا أجريت عليه قلما، ولكنها دموع وشوق سالت على القرطاس، وجرت على حركات الخواطر والأنفاس، وهبت عليها حرارة كبدي بالأشواق، ووجدي بالفراق، فبينما هي عقيقة حمراء، إذ صارت فحمة سوداء. ألا وإن كتابي هو قلبي ولساني، أما تراه على رقته ولطف عبارته، وصدق طويته بين يديك، مقبلا عليك، ينشره الشوق ويطويه لا يخفي أمرا، ولا يكتم عنك سرا، وتلك صفات لساني وقلبي معك، فما الذي أبتغيه بعد؟! وقد بعثت إليك بالأصغرين، وما أنا إلا بهذين. نعم، أرجو بقاك ممتعا بنعمك؛ لأكون على الدوام محل نظرك. والسلام.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل مصطفى أفندي نصر في التهاني:
أيها العزيز
أكتب إليك والعين قريرة، والنفس مسرورة، والقريحة قد أوسعها الفرح جودة، والفكر قد جلا الصفاء عنه كسادا، واللسان قد أورثه الانشراح طلاقة، والكلم قد يسر الحبور جموحها، ووطأ من أكنافها، والتحرير قد أسلس الجذل قياده، وأدنى ملتمسه، فاللسان يتلو في أساطير القلب سور السرور، وينطلق بما يمليه عليه من آي التهنئة وصيغ التبريك. وهو لا يتكلف لعبارة صوغا، ولا للفظ بحثا؛ إذ قد كفاه طيب الخاطر وابتهاج النفس مؤنة ذلك، وأراحاه من عنائه، فالألفاظ تتسابق إليه، والعبارات تتوارد عليه، والمترادفات تتجمع بناديه، فيختار منها ما طابق واقع الحال، واقتضاه مقتضى المقام. إلا أن الحق أقول إن العبارات ولو تهيأت أسبابها، وتوفرت موادها ضيقة النطاق عن حصر الغرض، غير محيطة بمكنون الضمير في الإعراب. كيف لا وحديث التهنئة أسوقه إلى زهرة الإخوان، وكوكب الأقران، وحلية الأكفاء، قريع دهره في الأدب، منقطع القرين في العلم، إمام أهل الفضل، قدوة أرباب الكمال، من استمسك من الجد بالعروة الوثقى فشغل بالقلوب أمنع مكان، وحل بأسمى منزل فمحضت له الإخلاص، وتمنت له أجزل الصلات، وتحرت له أكمل الرضا؟! وهكذا فليجز الذين أوتوا العلم والفضل. ويا حبذا لو اتبع أولو الفضل سننه، وكان لهم به أسوة حسنة، فالسؤدد غاية الطريق التي اتخذها، والنجح لؤلؤ اليم الذي خاض لجته. فلعمر الصدق إن في الاجتهاد ارتياحه، وفي العمل طيب خاطره، وفي المثابرة سروره، والإقدام دأبه، ومضاء العزيمة ديدنه، والمعارف سبيله، والعلم دليله، والعقل هاديه، والسريرة رقيبة، والنفع مرمى غرضه، والكمال غايته.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل عبد الخالق بك ثروت، في التقاضي:
إليك يا من قد استأسر النفوس بكرمه، واسترق الأحرار بجميل صنعه، وأولى النعم والخيرات، وأسدى المعروف والمبرات، أرفع كتابا تبعثه إلى ناديك العالي عوامل الحاجة وتزجيه إلى ساحتك دواعي الشدة. آمل أن يكون تذكرة بأمري، والذكرى تنفع المؤمنين، وتفكرة بحالي والله لا يضيع أجر المحسنين. فقد كان سيدي - رفع الله قدره وأعلى مرتبته - وعدني، ومثله من يتمسك من الوفاء بالعروة الوثقى، ويقطع حبل الإخلاف بسيف الوفاء، ويطرز خلعة الوعد بوشي العطاء؛ أن يرسل لي من خيراته، ويوليني من آلائه وحسناته، ويضاعف لي من مننه، ويزيدني من عطائه ما أشد به أزري على الزمان، وأطاول به نوائب الحدثان. فقد بارزني الدهر بسيوفه، ورماني بسهامه، وأناخ علي بكلاكله، وقد طال الأمد على حاجتي عند سيدي - أطال الله بقاءه - حتى طار غراب شبابها، وصاح بجانب ليلها، فخفت أن تكون هبت عليها ريح النسيان، وعصفت بها عاصفات الحدثان، فكتبت إلى سيدي ومولاي تلك الرقعة استعجل بها بره، وأستدر بها ضرع عطائه، علما بأن التعجيل يكبر العطية وإن كانت صغيرة، ويكثرها وإن كانت يسيرة، فعسى أن يكون قد لاح نجم النجاح، وهب نسيم الفلاح، فيرسل سيدي إلي سحاب كرمه، ويمطرني من غياث فضله، فترف غصون آمالي بعد ذبولها، وتضحك وجوه مطالبي بعد عبوسها. وأملي في ذلك فسيح؛ فإن سيدي من أكرم الناس نسبا، وأشرفهم حسبا، ومثله جدير بحفظ العهد وإنجاز الوعد، فإن رأى سيدي أن يخفف ثقل الحاجة عني، ويرد ما سلبه الدهر مني، بقطرة من بحر عطائه، ومنة من بعض آلائه، ويجبر ما كسره الفقر من جناحي، ويرد عني النوائب التي لا تفتأ تتولاني، عقدت لساني على مدحه، ووقفت نفسي على شكره، فيحرز من الله أجرا جزيلا، ومني شكرا جميلا، إن شاء الله.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل أحمد أفندي رأفت في التقاضي:
السيد الفاضل - أدام الله علاءه، وأطال بقاءه، وجعله موئل الكرم ومسدي النعم - قد غمرني بنعمائه، وطوقني بآلائه، حتى قصرت حمدي عليه، وأمسكت لساني عن الشكر إلا إليه. وكان من مننه علي، وأياديه البيضاء لدي، أن وعدني أنه يقلدني في أول العام وظيفة عالية، ومرتبة سامية، فاخضل روض الأمل بعد ذبوله، وبزغ كوكبه بعد أفوله، واتسع نطاقه، واستبشر القلب نبيل أمنيته، والحصول على طلبته، واشتد أزري على مقارعة كتائب الزمان، وقوي جناني على صد جيوش الحدثان، وما زالت بي الأيام، حتى حان أول العام، وما تحقق الوعد، أو أوفي العهد. ومثل السيد من إذا وعد وفى، أو تعهد أوفى. ومولاي يعلم أن صاحب الحاجة سيئ الظن بالأيام، مريض الثقة بالأنام؛ فداخلتني لذلك الظنون، وأسلمت خاطري الهواجس، وعاد الدهر مغضبا يقارعني بسيفين، ويطاعنني برمحين ، كأنما يقتص مني جزاء ما جنته يداي من إثم الاستظهار عليه، وأسلمتني زرق الخطوب، وتغشتني سود النوب، وأحدقت بي حمر الكرب، وصبت علي صروف الدهر، فصرت إلى حال لا يحلو، وأنزلت إلى عذاب لا يعذب، وألجأني صفر اليدين، إلى ركوب متن الدين، فصار العناء سميري، والشقاء نجيي، والغموم لزامي، والهموم ندامي، وقرارة الأكدار مقامي، حتى تخيلت أن المنون إلي بالمرصاد، فخفت المصار إلى دار القرار، قبل بلوغ الأوطار:
أفي دين ذي المعروف يجمل أنني
تنوء بي البؤسى ويثقلني العسر
وأنت الذي أعطى المكارم حقها
ولم يحك جدواك السحاب ولا البحر
فعجل فخير البر يحمد عاجلا
وأوف فوعد الحر دين به الحر
هذا ولكني رجعت وحكمت العقل فعذرت السيد، وحملت ذلك على أنه إنما لم يعجل بإنجازه وعده، وإيفاء عهده، إلا لتقليد عبده وظيفة أسمى ومرتبة أعلى، وأرشدني مرشد الحجا أن مثل تلك الرسالة بين يدي حضرته، وأوفدها على محلته، عل مولاي يستدرك ما فات، ويحسن إلى عبده فيما هو آت. فإن شاء ألا يرد طرف هذا الأمل كليلا وصحيحه عليلا؛ عجل لعبده من البر ما يسترق به فؤاده، ويمتلك به قلبه، فملأت بشكره ما بين الخافقين، وأسمعت حمده المشرقين، وأذعته في البر والبحر، وتابعته في السر والجهر، وأن يجد لي سبيلا في التوصل إلى إحدى الطلبتين، وتحقيق إحدى الأمنيتين، رجوته التعجيل بإخباري، فاليأس إحدى الراحتين، ورغبت منه التصريح، فذلك مما يريح.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل عبد العزيز أفندي محمد في التقاضي:
عهدي بالسيد الجليل - أدامه الله - مصدرا للمكارم، تشتق منه صفاتها، ومظهرا للفضائل تتجلى فيه آياتها، سباقا إلى غايات المجد، دراكا لمطالب الحمد، أريحيا لا يصبو إلا إلى إسداء المنن، جوادا لا يطمع طرفه في بث عوارفه إلى ثمن، ما أمه أسير فاقة إلا وألفى لديه كهفا منيعا، وجاها رفيعا، وجنابا مريعا، وما قصده ذو حاجة إلا وصدر عن مورد فضله، شاديا بثنائه معلنا بولائه. فلا هم له إلا ارتياد مواقع النعم، وافتقاد متعلقات الهمم. وإن لي إلى السيد حاجة إن لم يسعف بقضائها، فيا حسرة نفسي وطول شقائها، وليست هذه بأول مرة استمحت فيها عالي مروءته، واستمطرت صيب همته، فإنه طالما طوقني قلائد نعمه، وأرسل علي مدرار كرمه، فليجر في هذه أيضا على عادته، ويقابلني بما عودني من كرامته، ومعاذ الله أن اسأله ما ليس في وسعه، أو أن أستقضيه شيئا يحرص على منعه، ولكنني:
أريد بسطة كف أستعين بها
على قضاء حقوق للعلا قبلي
والذي يكفل لي تلك البسطة أن يقلدني سيدي وظيفة مناسبة لحالتي، حتى تكون لي درعا أتقي بها مهانة الفقر، وسيفا أكف به عوادي الدهر. وما لي والإقسام عليه في إنالتي هذه البغية بنفيس وقت قضيته في خدمة العلم واقتناء أبكاره، وطويل عناء تحملته في مزاولة الأدب، واكتشاف أسراره، ونفس ارتاضت بالفضل، وآثرت غصة الفقر على منة البذل. وله من سنيات الفضائل، وعليات الفواضل، وجليات المآثر، وجليلات المفاخر ما لو أقسم به عليه في إنالة أعز المطالب لألزمه كرم سجاياه بر ذلك القسم، وإجابة دواعي الهمم. فها أنا ذا أقسم على سيدي بهذه الشيم الباهرات، وتلك الأخلاق الطاهرات، أن يغرس عندي هذه الصنيعة، فقد وجد لها مكانا، وأن يسديني تلك المنة حتى لا آلوها شكرانا، وإلا فرأيه في ذلك مسدد إن شاء الله.
ومن ذلك ما كتبه الفاضل حسين أفندي توفيق في التقاضي:
كتابي إلى رب النعماء، واليد البيضاء، وقد أصبحت كما قال الحريري: «خاوي الوفاض، بادي الأنفاض، لا أملك بلغة، ولا أجد في جرابي مضغة.» قد التوى علي أمري، وثقل من حاجتي ظهري، مد الاحتياج علي أطنابه، وسربلني الافتقار إهابه، والدنيا مكدرة بأحداثها، وقصورها منغصة بأجداثها، نعيمها يضفو ولكن لا يصفو، وأنت - كما أعلم - مفرج كربتي، ومنقذي من شدتي، بطرفة من طرف رفدك، ولمحة من لمحات برك، فإن استدررت حلوبة مالك، فقد لاذ غيري بجاهك، ما يممت غيرك وكيف يقصد النهر من جاوز البحر؟! ويحتاج إلى النجم من يسري في ضوء البدر؟! فأستهز عطف جودك، وأستمطر سحاب كرمك. كيف وأنت قبلة المعروف، وملاذ الملهوف، إليك تشد الرحال، وبك تناط الآمال، أولياؤك منك في ظل ممدود، وهناء وسعود، أفأنت الشمس عمت بالإشراق، أو الغيث والى الاندفاق، لكن:
من قاس جدواك يوما
بالسحب أخطأ مدحك
فالسحب تعطي وتبكي
وأنت تعطي وتضحك
نسب الكرم بك عريق، وروض المجد أنيق، أصل راسخ، وفرع شامخ، تهتز للمكارم اهتزاز الحسام، وتثبت أمام الشدائد بثغر بسام:
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
حكمت الآمال في أموالك، واستعبدت الأحرار بفعالك، ينابيع الجود من أناملك تتفجر، وربيع السماح بك ضاحك لا يضجر، فلا زلت مولاي ممتعا بشرف سجاياك وشيمك، مستمدا الشكر من غراس نعمك، ولا زالت الأنام تنفع بتلك الشيم، وتجني ثمار ذلك الكرم، ودمت للمكارم بدر تم لا يناله خسوف، وشمس فضل لا يلحقها كسوف. أطال الله لك البقاء، كتطول يديك بالعطاء، آمين. (1) الأمثال السائرة
مما يعنى به الأديب من كلام العرب؛ الأمثال السائرة المأثورة عنهم، فإنها كما قال الزمخشري: «قصارى فصاحة العرب العرباء وجوامع كلمها، ونوادر حكمها، وبيضة منطقها، وزبدة بلاغتها التي أعربت عن القرائح السليمة، والركن البديع إلى ذرابة اللسان، وغرابة اللسن؛ حيث أوجزت اللفظ فأشبعت المعنى، وقصرت العبارة فأطالت المغزى، ولوحت فأغرقت في التصريح، وكنت فأغنت عن الإفصاح بله الاستظهار بمكانها، والتمنع بجانبها عند الانتظام في سلك التذاكر، وإفاضة أزلام التناظر، وتذاوق بعض أهل الأدب بعضها، وإنها للمحافل إذا حوضر بها بهاء، وللأفاضل متى أوردوها أبهة، وللنثر أنى سلكت أثناءه طلاوة، وللشعر كيف انساقت في تضاعيفه متانة.»
منها: البس لكل حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها. إن البغاث بأرضنا يستنسر. إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا. إياك أعني واسمعي يا جارة. بلغ السيل الزبى. بكل واد أثر من ثعلبه. تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. تقطع أعناق الرجال المطامع. ثار حابلهم على نابلهم. أحشفا وسوء كيلة. الخلة تدعو إلى السلة. يخبط خبط عشواء. دون ذلك خرط القتاد. رجع بخفي حنين. الصيف ضيعت اللبن. تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. أنجز حر ما وعد. رمتني بدائها وانسلت. حسبك من شر سماعه. حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. لا أطلب أثرا بعد عين. لا يحزنك دم هراقه أهله. اليوم خمر وغدا أمر. على أهلها تجني براقش. شنشنة أعرفها من أخزم. ضغث على إبالة. ألق دلوك في الدلاء. كل فتاة بأبيها معجبة. أنف في السماء واست في الماء. كالقابض على الماء. عند جهينة الخبر اليقين. لا تعدم الحسناء ذاما. ألزم للمرء من ظله. يا عاقدا اذكر حلا. قطعت جهيزة قول كل خطيب.
وقد جرت آي من القرآن الكريم مجرى الأمثال، منها:
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ،
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ،
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ،
لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ،
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ،
كل نفس بما كسبت رهينة ،
ما على المحسنين من سبيل ،
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ،
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ،
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ،
ولا ينبئك مثل خبير ،
كل حزب بما لديهم فرحون ،
لا يستوي الخبيث والطيب ،
ولا تزر وازرة وزر أخرى ،
من يعمل سوءا يجز به ،
ولا تبخسوا الناس أشياءهم .
وكذا أحاديث نبوية، منها: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت.» «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.» «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.» «إياك وكل أمر يعتذر منه.» «الحكمة ضالة المؤمن.» «إن من البيان لسحرا.» «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.»
ومن كلام أبي بكر:
إن البلاء موكل بالمنطق.
ومن كلام علي:
المنية ولا الدنية. المرء مخبوء تحت لسانه. قيمة كل امرئ ما يحسن.
وكذا جرت أبيات وشطور من الشعر مجرى الأمثال. فمن ذلك قول طرفة بن العبد في معلقته:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
إذا أنت لم تنفع بودك أهله
ولم تنك بالبوسى عدوك فابعد
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من أيامها فتزود
ولا خير في خير ترى الشر دونه
ولا نائل يأتيك بعد التلدد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
بتاتا، ولم تضرب له وقت موعد
وقول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وإن سفاه الشيخ لا حلم عنده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وقول الشنفرى في لاميته:
لعمرك ما في الأرض ضيقا على امرئ
سرى راغبا أو راهبا أو هو يعقل
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وقول ابن دريد في مقصورته:
من ظلم الناس تحاموا ظلمه
وعز عنهم جانباه واحتمى
وهم لمن لان لهم جانبه
أظلم من حيات أنباث السفا
عبيد ذي المال وإن لم يطعموا
من غمرة في جرعة تشفي الصدى
وهم لمن أملق أعداء وإن
شاركهم فيما أفاد وحوى
من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما
راح به الواعظ يوما أو غدا
من لم تفده عبرا أيامه
كان العمى أولى به من الهدى
من قاس من لم يره بما يرى
أراه ما يدنو إليه ما نأى
من عطف النفس على مكروهها
كان الغنى قرينه حيث انتوى
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثا حسنا لمن وعى
وآفة العقل الهوى فمن علا
على هواه عقله فقد نجا
وقول المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت
على عينه حتى يرى صدقها كذبا
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
لعل عتبك محمود عواقبه
فربما صحت الأجسام بالعلل
لأن حلمك حلم لا تكلفه
ليس التكحل في العينين كالكحل
وما الحسن في وجه الفتى شرف له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى
فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو إساءة مجرم
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا
لمن بات في نعمائه يتقلب
لا تلق دهرك إلا غير مكترث
ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يديم سرورا ما سررت به
ولا يرد عليك الفائت الحزن
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن المودة ما يضر ويؤلم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
وقد عني كثير من الأدباء بجمع أمثال العرب وتدوينها، وأشهرهم: أبو الفضل أحمد الميداني النيسابوري المتوفى سنة 518 للهجرة، فإنه جمع في كتاب سماه «مجمع الأمثال» ما ينيف عن ستة آلاف مثل، بعضها جاهلي وبعضها إسلامي والبعض مولد، ورتبها على حروف المعجم، وذكر قصص وأسباب هذه الأمثال، وهو كتاب جيد في بابه، وقد طبع سنة 1284 بدار الطباعة ببولاق.
وألف أبو القاسم محمود الزمخشري المتوفى سنة 538 كتاب «المستقصى في أمثال العرب»، ويروى أنه ندم على تأليفه لما وقع له كتاب «مجمع الأمثال» للميداني، ورآه يفوق كتابه في حسن التأليف والوضع وبسط العبارة وكثرة الفوائد، وفي المكتبة الخديوية نسخة من «المستقصى» مكتوبة بالقلم سنة 1112.
الفصل الرابع
فيما اشتهر من كتب الإنشاء
من أقدم ما كتب في صناعة الإنشاء كتاب «الصناعتين»؛ أي صناعتي النثر والنظم لأبي هلال العسكري المتوفى سنة 395، وقد رتبه على عشرة أبواب؛ الأول: في البلاغة، والثاني: في تمييز جيد الكلام من رديئه، والثالث: في معرفة صنعة الكلام، والرابع: في البيان مع حسن السبك وجودة الوصف، والخامس: في الإيجاز والإطناب، والسادس: في حسن الأخذ وقبحه وجودته ورداءته، والسابع: في التشبيه، والثامن: في السجع والازدواج، والتاسع: في البديع، والعاشر: في مقاطع الكلام ومباديه.
وألف ضياء الدين أبو الفتح نصر الله الموصلي المتوفى سنة 637 كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» قال في خطبته: «إن علم البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام، وقد ألف الناس فيه كتبا، وجلبوا ذهبا وحطبا، وما من تأليف إلا وقد تصفحت شينه وسينه، وعلمت غثه وسمينه، فلم أجد ما ينتفع به في ذلك إلا كتاب «الموازنة» لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وكتاب «سر الفصاحة» لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي، إلا أن كلا الكتابين قد أهملا من هذا العلم أبوابا، ولربما ذكرا في بعض المواضع قشورا وتركا لبابا ... وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة، وقد بنيته على مقدمة ومقالتين؛ فالمقدمة تشتمل على أصول علم البيان، والمقالتان تشتملان على فروعه. فالأولى في الصناعة اللفظية، والثانية في الصناعة المعنوية.» ا.ه. بحذف. وقد طبع سنة 1282 بمطبعة بولاق. وقد اختصره في كتاب أضاف إليه الرسائل والتقليدات والمكاتبات والمقاطيع المستحسنة، ويوجد هذا المختصر في المكتبة الخديوية.
وشرح «المثل» أبو منصور الجواليقي، وابن أبي الحديد، وسمى شرحه «الفلك الدائر على المثل السائر»، ورد عليه أبو القاسم محمود السنجاري المتوفى سنة 640 في كتاب سماه «نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر». وصنف خليل بن أيبك الصفدي كتابا سماه «نصرة الثائر على المثل السائر»، قال في خطبته إن ابن أبي الحديد أورد مؤاخذات على صاحب «المثل»، ووجدته قد أغفل كثيرا وأخذ قليلا، فأحببت أن أتتبع مواضع المؤاخذات التي تركها.
وألف محمود بن سليمان الحلبي المتوفى سنة 725 كتاب «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» قال في خطبته: «لما جعل الله لي في كتابة الإنشاء رزقا باشرت بسببه من وظائفها ما باشرت، وعاشرت من أجله من أكابر أهلها وأئمتها من عاشرت، ورأيت من مذاهبهم في أساليبها ما رأيت، ورويت عنهم من قواعدها بالمجاورة والمحاورة ما رويت، واطلعت بكثرة المباشرة على طرائق، وألجئت فيها باختلاف الوقائع إلى مضائق أي مضائق، ونشأ لي من الولد وولد الولد من عاناها، وترشح لها من بني من لم أرض له بالتلبس بصورتها دون التحلي بمعناها، فأحببت أن أضع لهم ولمن يرغب في ذلك في هذه الأوراق من فصولها قواعد، وأقيم لهم فيها على ما لم يسع الجهل به من أصولها وفروعها شواهد ليأتوا هذه الصناعة من أبوابها، ويعلموا من طرقها ما هو الأخص بأوضاعها والأولى بها.»
وألف أبو العباس أحمد القلقشندي نزيل القاهرة المتوفى سنة 821 كتاب «صبح الأعشى في كتابة الإنشا»، وهو كتاب جليل في بابه إلا أنه لم يطبع، والنسخة التي بالمكتبة الخديوية ناقصة بعض أجزاء، وفي الجزء الرابع منه مكاتبات عن ملوك مصر، وفي الخامس مقاصد المكاتبات الإخوانيات، وما يكتب به الرئيس إلى المرءوس، والمرءوس إلى الرئيس، والنظير إلى النظير، وفي السادس ما يكتب من الولايات عن الملوك، وقد اختصره في كتاب سماه «ضوء الصبح المسفر وجني الدوح المثمر».
وقد ألف الفاضل سعيد أفندي الخوري الشرتوني كتابا مفيدا سماه «الشهاب الثاقب في صناعة الكاتب»، طبع في بيروت سنة 1884.
وقد ألفت سنة 1306 كتابا في الإنشاء النظري، تكلمت فيه على التفكر في الموضوع والكتابة فيه، وأدرجت في هذه ستة فصول؛ الأول: في صحة الألفاظ، والثاني: في تخير الألفاظ، والثالث: في موافقة اللفظ موضعه، والرابع: في بلاغة الكلام، والخامس: في متانة السياق، والسادس: في عيوب الكلام. وبعد هذه الفصول ذكرت طرق تعليم الإنشاء في المدارس الابتدائية والتجهيزية والعالية ، وقد طبع هذا الكتاب سنة 1306 بمطبعة بولاق الأميرية، وقرظه عدة من الأفاضل، منها ما كتبه صديقنا الفاضل «حفني بك ناصف»، فقال:
أي عذر بعد هذا الكتاب
لعري عن حلية الكتاب
بان وجه الإنشاء فيه ولم يب
ق عسيرا سلوك نهج الصواب
حل بيت الأسماع من غير إذن
وأتى للقلوب من كل باب
ليت شعري هل يبتغي بعد هذا
بينات على انتصار دياب
إلى هنا انتهى ما أردنا إيراده في هذا الكتاب، والحمد لله على التمام، وكان ذلك في 19 شوال سنة 1314 للهجرة.
محمد دياب
المفتش بنظارة المعارف العمومية
حياة المؤلف
من إنشاء ابنه ملتزم طبع الكتاب
لأيام خلت من شهر رجب سنة 1269 للهجرة، من أسرة شريفة، في منوف العلا، ولد والدي العزيز مؤلف هذا الكتاب. ولما بلغ أشده وقرأ وكتب وحسب، بعث به والده إلى الأزهر، فأخذ فقه الشافعي عن الشيخ إبراهيم السقا، والنحو والصرف عن الشيخ عفيفي الباجوري، وعلوم البلاغة والأصول عن الشيخ أحمد شرف الدين المرصفي، والمنطق عن الشيخ الأجهوري الضرير.
وفي أوائل يناير سنة 1874 للميلاد، دخل مدرسة دار العلوم، فتلقى فيها التفسير عن الشيخ أحمد شرف الدين المذكور آنفا، وفقه أبي حنيفة عن الشيخ سليم عمر والشيخ حسونة النواوي، وعلوم الأدب عن الشيخ حسين المرصفي، والدرس التام في التاريخ العام عن مؤلفه أبي السعود أفندي، والحساب والهندسة والهيئة وتقويم البلدان عن يعقوب بك صبري، والطبيعة والكيمياء عن منصور أفندي أحمد، والخط عن محمد بك جعفر. ومدة التعلم هذه كانت نشاطا واجتهادا ومجاراة في ميادين التحصيل، فضرب بسهم في كل علم من هذه العلوم، وسار في طليعة نوابغ المدرسة المعدودين، وكتب موضوعات إنشائية وعلمية تناسب ذلك العصر، أدرجت في المجلة العلمية التي كانت تسمى «روضة المدارس».
وفي 16 يوليو سنة 1876 اختير معلما للنحو في مدرسة أطفال الجند بالقلعة، وكانت تعرف بالخيرية، وكان بها ما ينيف عن ألف تلميذ، فألف لتلاميذه كتاب «الدروس النحوية»، وطبعه سنة 1294 للهجرة.
وفي 21 أبريل سنة 1879 اختير مدرسا للحساب والهندسة في مدرسة «المبتديان» بالناصرية، فألف كتابه المشهور ب «النخبة السنية في الأصول الحسابية»، وطبعته نظارة المعارف مرتين: سنة 1298، وسنة 1300 بعد أن اعتمده مجلس معارفها الأعلى، وعم نفعه جميع المدارس، وعرب من الفرنسوية مسائل تطبيقية على مقالات الهندسة، وطبع منها مسائل المقالة الأولى بمطبعة الهلال سنة 1302. وكذا عرب ألف مسألة رياضية طبعت سنة 1313، وكتابا في الجبر لم يطبع. ومع وظيفته هذه عهد إليه في يناير سنة 1882 تعليم الحساب والهندسة، وتقويم البلدان في مدرسة الآثار القديمة. وفي سنة 1886 اختير مدرسا لدروس الأشياء في مدرسة «المبتديان» السالفة الذكر، فألف فيها كتابا ذا ثلاثة أجزاء، طبع مرات بمطبعة بولاق الأميرية، وكانت دراسة هذه الدروس في مدارس الحكومة وغيرها على طبق ما جاء في كتابه هذا.
وفي نوفمبر سنة 1887 اختير أستاذا لتعليم الإنشاء في القسم العالي من مدرسة المعلمين المسماة الآن ب «المدرسة التوفيقية». (والتعليم في هذه المدرسة على ثلاث درجات: تعليم ابتدائي ومدته أربع سنين، وتعليم ثانوي يرقى عن الأول ومدته كانت أربعا ثم صارت خمسا، والآن هي ثلاث فقط، وتعليم عال أرقى منهما ومدته ثلاث سنين، والغرض من هذا القسم تخريج معلمين أكفاء ليعلموا في المدارس.) والمترجم له كان أستاذ هؤلاء المعلمين في الإنشاء، فصنف من أجلهم كتاب «الإنشاء النظري»، وقرظه كثير من أدباء العصر، وقرره ديوان المعارف لتلامذة المدارس، وطبع في مطبعة بولاق الأميرية سنة 1306. وألف أيضا معجما في اللغة العربية سماه «قلائد الذهب في فصيح لغة العرب»، ولدرك منزلة هذا المعجم في دائرة المعجمات اللغوية يراجع ما كتب بشأنه في باب اللغة من الجزء الأول من «تاريخ أدب اللغة» هذا وما قرظه به كبار العلماء، وطبع منه الجزء الأول بمطبعة بولاق الأميرية سنة 1311. وكان من اللجنة التي عهدت إليها نظارة المعارف تأليف أربعة كتب في النحو، وكتاب خامس في البلاغة، سهلة المأخذ مدرجة على حسب أعمار تلامذة المدارس الابتدائية والثانوية، فألفت هذه الكتب فحازت رضا الكافة، وفتحت الطريق لعلوم الأدب.
وفي سنة 1892 عهد إليه تعليم التاريخ في مدرسة دار العلوم، فألف منه «خلاصة تاريخ مصر القديم والحديث»، وقد أقرته نظارة المعارف واستعملته في بعض مدارسها، وطبع طبعا حسنا في مطبعة بولاق، وعرب من الفرنسوية «تخطيط أوروبا» ولكنه لم يطبع.
وفي فبراير سنة 1893 تعين مفتشا ثانيا للغة العربية في جميع المدارس، وفي خلال مدة وظيفته بالتفتيش ألف كتابه هذا.
ومكافأة على قيامه بوظائفه خير قيام وجه إليه المغفور له خديو مصر توفيق باشا الرتبة الرابعة سنة 1303، وأنعم عليه سمو المولى الخديوي عباس باشا الأفخم بالرتبة الثالثة سنة 1314.
وقد ساح في أوروبا أثناء عطلة المدارس ثلاث مرات سنة 1888، وسنة 1892، وسنة 1896 ابتغاء التزود من اللغة الفرنسوية فاستفاد وأفاد بما عربه منها.
فلنا من هذه الحياة نابغة صرف عصر الشبيبة مجدا في طلب العلوم، سباقا إلى نيل المعارف، فبلغ في الكبر مبلغ علامة متفنن، له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، فياض بعلمه على قومه، أمتعني الله بحياته مدى الزمان. آمين.
كتب لخمسة عشر يوما خلت من شعبان سنة 1318.
محمد رياض دياب
Page inconnue