ركب في طباعهم من الفخر وجب المحمدة، وما انصرفوا إليه من المباهاة بالفصاحة وقوة العارضة وقرب ما بين اللسان والقلب، ونحو ذلك مما اقتضته أحوالهم يومئذ.
وفي هذه السوق كان يخطب الشاعر الفحل بقصيدته، والخطيب المصقع بكلمته، كما فعل عمرو بن كلثوم بطويلته التي سميت بالمعلقة على قول بعضهم إنها مع باقي القصائد السبع المعروفة علقت في هذه السوق أو في الكعبة -وهو من الأكاذيب، وسنفصل أمره في موضعه- وكما خطب قيس بن ساعدة الإبادي حكيم العرب خطبته المشهورة التي شهدها منه رسول الله ﷺ وهو يخطب الناس على جمل أورق. وفيها ضربت للنابغة الذبياني قبة من أدم ليتحاكم إليه الشعراء في أيهم أشعر، وقد أنشده فيها الأعشى والخنساء وحسان في قصة مشهورة١.
ولا يخفى أن مثل هذا الاجتماع العام حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعة اللسانية؛ فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة فيه للمجموع المكون على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين.
هذا أثر قريش في تهذيب اللغة، وبلغتهم نزل القرآن فتكونت به الوحدة اللغوية في العرب، ومنع لغتهم على الدهر أن تضمحل أو تتشعب فتصير إلى ما انتهت إليه لغات الأمم من تباين اللهجات واختلاف مناحي الكلام كما ترى في اللغات العامية العربية، فهي من أصل واحد وقد تتباين حتى يصير هذا الأصل فيها كأنه بعض الجذور الذاهبة في طبقات الأرض خفاء وضعفًا في التأثير.
وكما أن الذي أنزل عليه القرآن نبي العرب، فالقرآن نبي العربية، بحيث لا تجد من فضل لرسول الله على الأنام، إلا وجدت فضلًا في معناه لكلام الله على الكلام.
_________
١ وخلف عكاظ في هذا المعنى الأدبي بعد الإسلام: مربد البصرة، وهو من أشهر محالها، وكان يكون سوق الإبل فيه قديمًا، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الأشراف ومجالس الخطباء يتوافون إليه ساعة من نهار للحديث، والمناشدة والمفاخرة ويجتمع إليهم الناس فيهدر الشعراء ويخطب الخطباء ويتكلم العلماء؛ ولهم مقامات مأثورة ومواقف مشهورة؛ وسنشير إليه في الكلام على الشعر. ولا يعرف من أسواق الكلام غير المربد وعكاظ.
1 / 66