تاريخ اليعقوبي 1
Page 1
تاريخ اليعقوبي وهو تاريخ أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح الكاتب العباسي المعروف باليعقوبي المجلد الأول ناشر: مؤسسة ونشر فرهنگ أهل بيت (ع) - قم - خيابان حجت، صندوق پستى 11 - تلفن 27348 دار صادر بيروت
Page 3
بسم الله الرحمن الرحيم .............
........ على آدم، فلم يطاوعه شئ مما خلق الله عز وجل إلا الجنة، فلما رأى آدم ما في الجنة من النعيم قال: لو كان سبيل إلى الخلود؟ فطمع فيه إبليس لما سمع ذلك منه، فبكى ونظر إليه آدم وحواء يبكي، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: لأنكما تفارقان هذا، وما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين.
وكان لباس آدم وحواء ثيابا من نور، فلما ذاقا من الشجرة، بدت لهما سوآتهما، فزعم أهل الكتاب أن مكث آدم في الأرض، قبل أن يدخل الجنة، كان ثلاث ساعات، ومكث هو وحواء في النعيم والكرامة، قبل أن يأكلا من الشجرة فتبدو لهما سوآتهما، ثلاث ساعات، فلما بدت لآدم سوأته أخذ ورقة من الشجرة، فوضعها على نفسه، ثم صاح: ها أنا يا رب عريان قد أكلت من الشجرة التي نهيتني عنها، فقال الله: ارجع إلى الأرض التي منها خلقت، فإني مسخر لك ولولدك طير السماء، ونون البحار.
وأخرج الله آدم وحواء مما كانا فيه، فيما يقول أهل الكتاب، في تسع ساعات من يوم الجمعة، وهبطا إلى الأرض، وهما حزينان باكيان، وكان هبوطهما على أدنى جبل من جبال الأرض إلى الجنة، وكان ببلاد الهند، وقال
Page 5
قوم: على أبي قبيس، جبل بمكة، ونزل آدم في مغارة في ذلك الجبل سماها مغارة الكنز، ودعا الله أن يقدسها.
وروى بعضهم أن آدم لما هبط كثر بكاؤه، ودام حزنه على مفارقة الجنة، ثم ألهمه الله سبحانه أن قال: لا إله إلا أنت، سبحانك، وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم! فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه، وأنزل له من الجنة، التي كان فيها، الحجر الأسود، وأمره أن يصيره إلى مكة، فيبني له بيتا، فصار إلى مكة وبنى البيت، وطاف به، ثم أمره الله أن يضحي له، فيدعوه ويقدسه، فخرج معه جبريل حتى وقف بعرفات، فقال له جبريل: هذا الموضع أمرك ربك أن تقف له به.
ثم مضى به إلى مكة، فاعترض له إبليس، فقال: ارمه! فرماه بالحصى، ثم صار إلى الأبطح، فتلقته الملائكة، فقالت له: بر حجك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك ألفي عام.
وأنزل الله، عز وجل، الحنطة على آدم، وأمره أن يأكل من كده، فحرث وزرع، ثم حصد، ثم داس، ثم طحن، ثم عجن، ثم خبز، فلما فرغ عرق جبينه، ثم أكل، فلما امتلأ ثقل ما في بطنه، فنزل إليه جبريل، ففجه، فلما خرج ما في بطنه وجد رائحة تكره، فقال: ما هذا؟ قال له جبريل: رائحة الحنطة.
ووقع آدم على حواء، فحملت، وولدت غلاما وجارية، فسمى الغلام قابيل، والجارية لوبذا، ثم حملت فولدت غلاما وجارية، فسمى الغلام هابيل والجارية إقليما. فلما كبر ولده وبلغوا النكاح، قال آدم لحواء: مري قابيل، فليتزوج إقليما التي ولدت مع هابيل، ومري هابيل فليتزوج لوبذا التي ولدت مع قابيل، فحسده قابيل أن يتزوج بأخته التي ولدت معه.
وقد روى بعضهم أن الله عز وجل أنزل لهابيل حوراء من الجنة، فزوجه بها، وأخرج لقابيل جنية، فزوجه بها، فحسد قابيل أخاه على الحوراء،
Page 6
فقال لهما آدم: قربا قربانا! فقرب هابيل من تين زرعه، وقرب قابيل أفضل كبش في غنمه لله، فقبل الله قربان هابيل، ولم يقبل قربان قابيل، فازداد نفاسة وحسدا، وزين له الشيطان قتل أخيه، فشدخه بالحجارة، حتى قتله، فسخط الله على قابيل ولعنه، وأنزله من الجبل المقدس إلى أرض يقال لها نود.
ومكث آدم وحواء ينوحان على هابيل دهرا طويلا، حتى يقال إنه خرج من دموعهما كالنهر. ووقع آدم على حواء، فحملت، فولدت غلاما، بعد أن أتى له مائة وثلاثون سنة، فسماه شيثا، فكان أشبه ولد آدم بآدم، ثم زوج آدم شيثا ، فولد له غلام بعد أن أتت عليه مائة وخمس وستون سنة، فسماه أنوش، ثم ولد لأنوش غلام، فسماه قينان، ثم ولد لقينان غلام، فسماه مهلائيل، فهؤلاء ولدوا في حياة آدم وعلى عهده.
ولما حضرت آدم الوفاة جاءه شيث ابنه وولده وولد ولده، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، وجعل وصيته إلى شيث وأمره أن يحفظ جسده ويجعله، إذا مات، في مغارة الكنز، وأن يوصي بنيه وبني بنيه، ويوصي بعضهم بعضا عند وفاتهم، إذا كان هبوطهم من جبلهم، أن يأخذوا جسده حشمة، فيجعلوه وسط الأرض، وأمر شيثا ابنه أن يقوم بعده في ولدهم، فيأمرهم بتقوى الله وحسن عبادته، وينهاهم أن يخالطوا قابيل اللعين وولده، ثم صلى على بنيه أولئك وأولادهم ونسائهم، ثم مات لست خلون من نيسان، يوم الجمعة، في الساعة التي خلق فيها، وكانت حياته تسعمائة سنة وثلاثين سنة اتفاقا.
Page 7
شيث بن آدم وقام بعد موت آدم ابنه شيث، وكان يأمر قومه بتقوى الله، سبحانه والعمل الصالح، وكانوا يسبحون الله ويقدسونه، وأبناؤهم ونساؤهم ليس بينهم عداوة، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تهمة، ولا كذب، ولا خلف، وكان أحدهم إذا أراد أن يحلف قال: لا ودم هابيل.
فلما حضرت وفاة شيث أتاه بنوه وبنو بنيه، وهم يومئذ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، واخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، وتقدم إليهم، وحلفهم بدم هابيل ألا يهبط أحد منهم من هذا الجبل المقدس، ولا يتركوا أحدا من أولادهم يهبط منه، ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون، وأوصى إلى أنوش ابنه، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأن يتقي الله، ويأمر قومه بتقوى الله وحسن العبادة، ثم توفي يوم الثلاثاء لسبع وعشرين ليلة خلت من آب على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته تسعمائة واثنتي عشرة سنة.
أنوش بن شيث وقام أنوش بن شيث، بعد أبيه، بحفظ وصية أبيه وجده، وأحسن عبادة الله، وأمر قومه بحسن العبادة، وفي أيامه قتل قابيل الملعون، رماه لمك الأعمى بحجر، فشدخ رأسه، فمات. وكان قد ولد لأنوش قينان بعد أن أتت له تسعون سنة.
Page 8
ولما حضرت أنوش الوفاة اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه: قينان، ومهلائيل، ويرد، واخنوخ، ومتوشلح، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من جبلهم المقدس، أو يدعوا أحدا من بنيهم أن يختلطوا بولد قابيل اللعين، وأوصى قينان بجسد آدم، وأمرهم أن يصلوا عنده ويقدسوا الله كثيرا، وتوفي لثلاث خلون من تشرين الأول، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة وخمسا وستين سنة.
قينان بن أنوش وقام قينان بن أنوش، وكان رجلا لطيفا، تقيا، مقدسا، فقام في قومه بطاعة الله وحسن عبادته، واتباع وصية آدم وشيث، وكان قد ولد له مهلائيل بعد أن أتت عليه سبعون سنة.
فلما دنا موته اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه مهلائيل، ويرد، ومتوشلح، ولمك، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، فأقسم عليهم بدم هابيل أن لا يهبط أحد منهم من جبلهم المقدس إلى ولد الملعون قابيل، وجعل وصيته إلى مهلائيل، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم. ومات قينان وكانت حياته تسعمائة سنة وعشرين سنة.
Page 9
مهلائيل بن قينان ثم قام بعد قينان مهلائيل بن قينان، فقام في قومه بطاعة الله تعالى، واتباع وصية أبيه، وكان قد ولد له يرد، بعد أن أتت عليه خمس وستون سنة.
فلما دنا موت مهلائيل أوصى إلى ابنه يرد وأوصاه بجسد آدم، ثم توفي مهلائيل لليلتين خلتا من نيسان، يوم الأحد، على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته ثمانمائة سنة وخمسا وتسعين سنة.
يرد به مهلائيل ثم قام بعد مهلائيل يرد، وكان رجلا مؤمنا، كامل العمل لله، سبحانه، والعبادة له، كثير الصلاة بالليل والنهار، فزاد الله في حياته، وكان قد ولد له أخنوخ، بعد أن أتت عليه اثنتان وستون سنة، وفي الأربعين ليرد تم الألف الأول.
ولما مضى من حياة يرد خمسمائة سنة نقض بنو شيث العهود والمواثيق التي كانت بينهم، فجعلوا ينزلون إلى الأرض التي فيها بنو قابيل، وكان أول نزولهم أن الشيطان اتخذ شيطانين من الانس اسم أحدهما يوبل، والآخر توبلقين، فعلمهما أصناف الغناء والزمر ، فصنع يوبل المزامير والطنابير والبرابط والصور.
وصنع توبلقين الطبول والدفوف والصنوج، ولم يكن لبني قابيل عمل يشغلهم، ولا ذكر لهم إلا أمام الشيطان، وكانوا يركبون المحارم والمآثم، ويجتمعون
Page 10
على الفسق، وكان ذوو السن من رجالهم ونسائهم أشد في ذلك من شبانهم، فكانوا يجتمعون، فيزمرون ويضربون بالطبول والدفوف والبرابط والصنوج، ويصيحون، ويضحكون، حتى سمع أهل الجبل من بني شيث أصواتهم، فاجتمع منهم مائة رجل على أن يهبطوا إلى بني قابيل، فينظروا ما تلك الأصوات، فلما بلغ ذلك يرد أتاهم، فناشدهم الله، وذكرهم وصية آبائهم، وحلف عليهم بدم هابيل، وقام فيهم أخنوخ بن يرد، فقال: اعلموا أنه من عصى منكم أبانا يرد، ونقض عهود آبائنا، وهبط من جبلنا لم ندعه يصعد أبدأ، فأبوا إلا أن يهبطوا، فلما هبطوا اختلطوا ببنات قابيل. بعد أن ركبوا الفواحش.
فلما دنا موت يرد اجتمع إليه بنوه وبنو بنيه أخنوخ، ومتوشلح، ولمك، ونوح، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، ونهاهم أن يهبطوا من الجبل المقدس، وقال: إنكم لا محالة تهبطون إلى الأرض السفلى، فأيكم كان آخر هبوطا فليهبط بجسد أبينا آدم، ثم ليجعله وسط الأرض، كما أوصانا، وأمر أخنوخ ابنه ألا يزال يصلي في مغارة الكنز، ثم توفي يوم الجمعة لليلة خلت من آذار، حين غابت الشمس، وكانت حياته تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة.
أخنوخ بن يرد ثم قام بعد يرد أخنوخ بن يرد، فقام بعبادة الله، سبحانه، ولما أتت له خمس وستون سنة ولد له متوشلح، وأخذ بنو شيث ونساؤهم وأبناؤهم في الهبوط، فعظم ذلك على أخنوخ، فدعا ولده متوشلح ولمكا ونوحا، فقال لهم: إني أعلم أن الله معذب هذه الأمة عذابا عظيما ليس فيه رحمة.
وكان أخنوخ أول من خط بالقلم، وهو إدريس النبي، فأوصى ولده أن يخلصوا عبادة الله، ويستعملوا الصدق واليقين، ثم رفعه الله بعد أن أتت له ثلاثمائة سنة.
Page 11
متوشلح بن أخنوخ ثم قام متوشلح بن أخنوخ بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان لما أتت عليه مائة وسبع وثمانون سنة، ولد له لمك، فأوحى الله إلى نوح في عصره، وأعلمه أنه باعث الطوفان على الناس، وأمره أن يعمل السفينة من الخشب، ولما كملت لنوح ثلاثمائة سنة وأربع وأربعون سنة تم الألف الثاني.
وتوفي متوشلح في إحدى وعشرين من أيلول، يوم الخميس، وكانت حياته تسعمائة وستين سنة.
لملك بن متوشلح فقام لمك بعد أبيه بعبادة الله وطاعته، وكان قد ولد له بعد أن أتت عليه مائة واثنتان وثمانون سنة، وكثرت الجبابرة في عصره، وذلك أنه كان لما وقع بنو شيث في بنات قابيل ولدت منهم الجبابرة.
ثم دنا موت لمك، فدعا نوحا، وساما، وحاما، ويافثا، ونساءهم، ولم يكن بقي من أولاد شيث في الجبل أحد غيرهم إلا هبطوا إلى بني قابيل، فكانوا ثمانية أنفس، ولم يكن لهم أولاد قبل الطوفان، فصلى عليهم ودعا لهم بالبركة، ثم بكى، وقال لهم: إنه لم يبق من جنسنا أحد إلا هؤلاء الثمانية الأنفس، وأسأل الله الذي خلق آدم وحواء وحدهما، ثم كثر ولدهما، أن ينجيكم من هذا الرجز الذي أعد للأمة السوء، ويكثر ولدكم، حتى يملأوا الأرض، ويعطيكم
Page 12
بركة أبينا آدم، ويجعل في ولدكم الملك، وأنا متوفى، ولن يفلت من أهل الرجز غيرك يا نوح، فإذا أنا مت فاحملني، واجعلني في مغارة الكنز، فإذا أراد الله أن تركب السفينة، فاحمل جسد أبينا آدم، فاهبط به معك، ثم اجعله وسط البيت الأعلى من السفينة، ثم كن أنت وبنوك في طرف السفينة الشرقي، ولتكن امرأتك وكنائنك في طرف السفينة الغربي، وليكن جسد آدم بينكم، فلا تجوزوا إلى نسائكم ولا تجز نساؤكم إليكم، ولا تأكلوا ولا تشربوا معهن، ولا تقربوهن، حتى تخرجوا من السفينة، فإذا ذهب الطوفان وخرجتم من السفينة إلى الأرض، فصل أنت عند جسد آدم، ثم أوص ساما أكبر بنيك، فليذهب بجسد آدم، حتى يجعله في وسط الأرض، وليجعل معه رجلا من أولاده يقوم عليه، وليكن حبرا لله حياته لا ينكح امرأة، ولا يبني بيتا، ولا يهريق دما، ولا يقرب قربانا من الدواب، ولا الطير، فإن الله مرسل معه ملكا من الملائكة يدله على وسط الأرض ويؤنسه.
وتوفي لمك لسبع عشرة ليلة خلت من آذار يوم الأحد، على تسع ساعات من النهار، وكانت حياته سبعمائة وسبعا وسبعين سنة.
نوح وأوحى الله عز وجل إلى نوح في أيام جده أخنوخ، وهو إدريس النبي، وقبل أن يرفع الله إدريس، وأمره أن ينذر قومه، وينهاهم عن المعاصي التي كانوا يركبونها، ويحذرهم العذاب، فأقام على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، وحبس نفسه على عبادة الله تعالى والدعاء لقومه، لا ينكح النساء خمسمائة عام، ثم أوحى الله إليه أن ينكح هيكل بنت ناموسا بن أخنوخ، وأعلمه أنه باعث الطوفان على
Page 13
الأرض، وأمره أن يعمل السفينة التي نجاه الله وأهله فيها، وأن يجعلها ثلاثة بيوت سفلا ووسطا وعلوا، وأمره أن يجعل طولها ثلاثمائة ذراع بذراع نوح، وعرضها خمسين ذراعا، وسمكها ثلاثين ذراعا، ويصير حواليها رفوف الخشب، ويكون البيت الأسفل للدواب والوحش والسباع، ويكون الأوسط للطير، ويكون الأعلى لنوح وأهل بيته، ويجعل في الأعلى صهاريج الماء، وموضعا للطعام. فولد له بعد أن أتت عليه خمسمائة سنة.
ولما فرغ نوح من عمل السفينة، وكان ولد قابيل، ومن اختلط بهم من ولد شيث، إذا رأوه يعمل الفلك سخروا منه، فلما فرغ دعاهم إلى الركوب فيها، وأعلمهم أن الله باعث الطوفان على الأرض كلها حتى يطهرها من أهل المعاصي، فلم يجبه أحد منهم، فصعد هو وولده إلى مغارة الكنز، فاحتملوا جسد آدم، فوضعوه في وسط البيت الأعلى من السفينة، يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من آذار، وأدخل الطير البيت الأوسط، وأدخل الدواب والسباع البيت الأسفل، وأطبقها حين غابت الشمس.
وأرسل الله الماء من السماء، وفجر عيون الأرض، فالتقى الماء على أمر قد قدر، وأخذ الأرض كلها والجبال، وأظلمت الدنيا، وذهب ضوء الشمس والقمر، حتى كان الليل والنهار سواء، وكان الطالع في ذلك الوقت الذي أرسل الله تعالى فيه الماء، فيما يقول أصحاب الحساب: السرطان، والشمس، والقمر، وزحل، وعطارد، والرأس، مجتمعة في آخر دقيقة من الحوت، فاتصل الماء من السماء والأرض أربعين يوما، حتى علا فوق كل جبل خمس عشرة ذراعا، ثم وقف بعد أن لم تبق بقعة من الأرض إلا غمرها الماء وعلاها.
ودارت السفينة الأرض كلها حتى صارت إلى مكة، فطافت حول البيت أسبوعا، ثم انكشف الماء بعد خمسة أشهر، فكان ابتداؤه لسبع عشرة ليلة خلت من أيار إلى ثلاث عشرة ليلة خلت من تشرين الأول.
وروى بعضهم أن نوحا ركب السفينة أول يوم من رجب، واستوت على
Page 14
الجودي في المحرم، فصار أول الشهور يعده، وأهل الكتاب يخالفون في هذا.
ولما استوت على الجودي، وهو جبل بناحية الموصل، أمر الله تعالى ماء السماء فرجع من حيث جاء، وأمر الأرض فبلعت ماءها، فأقام نوح بعد وقوف السفينة أربعة أشهر، ثم بعث الغراب ليعرف خبر الماء، فوجد الجيف طافية على الماء، فوقع عليها ولم يرجع، ثم أرسل الحمامة، فجاءت بورقة زيتون، فعلم أن الماء قد ذهب، فخرج لسبع وعشرين من أيار، فكان، بين دخوله السفينة وخروجه، سنة كاملة وعشرة أيام، فلما صار إلى الأرض هو وأهله بنوا مدينة، فسموها ثمانين.
ولما خرج نوح من السفينة ورأى عظام الناس تلوح غمه ذلك وأحزنه، وأوحى الله إليه: إني لن أرسل الطوفان على الأرض بعدها أبدا. ولما خرج نوح من السفينة أقفلها بقفل ودفع المفتاح إلى سام ابنه، ثم زرع نوح، وغرس كرما، وعمر الأرض.
وإن نوحا يوما لنائم إذ انكشف ثوبه، فرأى حام ابنه سوأته، فضحك، وخبر أخويه ساما ويافثا، فأخذا ثوبا حتى أتياه به، ووجوههما مصروفة عنه، فألقيا الثوب عليه، فلما انتبه نوح من نومه، وعلم الخبر، دعا على كنعان بن حام، ولم يدع على حام، فمن ولده القبط والحبشة والهند.
وكان كنعان أول من رجع من ولد نوح إلى عمل بني قابيل، فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول والبرابط والصنوج، وأطاع الشيطان في اللعب والباطل.
وقسم نوح الأرض بين ولده، فجعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله، واليمن وحضرموت، إلى عمان، إلى البحرين، إلى عالج ويبرين، ووبار، والدو والدهناء، وجعل لحام أرض المغرب والسواحل، فولد كوش ابن حام، وكنعان بن حام النوبة والزنج والحبشة.
ونزل يافث بن نوح ما بين المشرق والمغرب، فولد له جومر، وتوبل، وماش، وما شج، ومأجوج، فولد جومر الصقالبة، وولد توبل برجان، وولد ماش
Page 15
الترك والخزر، وولد ماشج الاشبان، وولد مأجوج يأجوج ومأجوج، وهم في شرقي الأرض من جهة الترك، وكانت منازل الصقالبة وبرجان أرض الروم، قبل أن يكون الروم، فهؤلاء ولد يافث.
وعاش نوح، بعد خروجه من السفينة، ثلاثمائة وستين سنة، ولما حضرت وفاة نوح اجتمع إليه بنوه الثلاثة سام وحام ويافث وبنوهم، فأوصاهم، وأمرهم بعبادة الله تعالى، وأمر ساما أن يدخل السفينة، إذا مات، ولا يشعر به أحد، فيستخرج جسد آدم، ويذهب معه بملكيزدق بن لمك بن سام، فإن الله اختاره ليكون مع جسد آدم في وسط الأرض، في المكان المقدس، وقال له: يا سام!
إنك إذا خرجت أنت وملكيزدق بعث الله معكما ملكا من الملائكة يدلكما على الطريق، ويريكما وسط الأرض، فلا تعلمن أحدا ما تصنع، فإن هذا الامر وصية آدم التي أوصى بها بنيه، وأوصى بها بعضهم بعضا، حتى انتهى ذلك إليك، فإذا بلغتما المكان الذي يريكما الملك، فضع فيه جسد آدم، ثم مر ملكيزدق ألا يفارقه، ولا يكون له عمل إلا عبادة الله، سبحانه وتعالى، وأمره أن لا ينكح امرأة، ولا يبني بنيانا، ولا يهريق دما، ولا يلبس ثوبا، إلا من جلود الوحش، ولا يقص شعرا ولا ظفرا، وليجلس وحده، وليكثر حمد الله، ثم مات في أيار يوم الأربعاء، وكانت حياته تسعمائة سنة وخمسين، كما حكى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما.
Page 16
سام بن نوح وقام سام بن نوح، بعد أبيه، بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له رفخشد، بعد أن أتت عليه مائة سنة وسنتان، ثم انطلق، وفتح السفينة، فأخذ جسد آدم، فهبط به سرا من أخويه وأهله، ودعا أخويه يافثا وحاما، فقال لهما:
إن أبي أوصى إلي وأمرني أن آتي البحر، فأنظر في الأرض ثم أرجع، فلا تتحركوا حتى آتيكم، واستوصوا بأمر أتي وبني خيرا، فقال له أخواه: اذهب في حفظ الله، فإنك قد علمت أن الأرض خربة ونخاف عليك السباع. قال سام:
إن الله تعالى يبعث ملكا من الملائكة، فلا أخاف، إن شاء الله تعالى، شيئا.
ودعا سام ابنه لمكا فقال له ولامرأته: يا وزدق! أرسلا معي ابنكما ملكيزدق يؤنسني في الطريق. فقالا له: اذهب راشدا! فقال سام لأخويه وأهله وولده:
قد علمتم أن أبانا نوحا قد أوصى إلي، وأمرني أن أختم السفينة، فلا أدخلها أنا، ولا أحد من الناس، فلا يقربن السفينة منكم أحد.
ثم إن ساما خرج ومعه ابنه، فعرض لهما الملك، فلم يزل معهما حتى صار بهما إلى الموضع الذي أمروا أن يضعوا جسد آدم فيه، فيقال إنه بمسجد منى عند المنارة، ويقول أهل الكتاب: بالشأم في الأرض المقدسة، فانفتحت الأرضون، فوضعوا الجسد فيها، ثم انطبقت عليه. وقال سام لملكيزدق ابن لمك بن سام: اجلس هاهنا، وأحسن عبادة الله، فإن الله يرسل إليك في كل يوم ملكا من الملائكة يؤنسك، ثم سلم عليه، وانصرف، فأتى أهله، فسأله ابنه لمك عن ملكيزدق، فقال: إنه قد مات في الطريق، فدفنته، فحزن عليه أبوه وأمه.
ثم حضرت ساما الوفاة فأوصى إلى ابنه أرفخشد، ومات سام يوم الخميس لسبع خلون من أيلول، وكانت حياته ستمائة سنة.
Page 17
أرفخشد بن سام ثم قام ارفخشد بن سام بعبادة الله تعالى وطاعته، وكان قد ولد له شالح بعد أن أتت عليه مائة وخمس وثمانون سنة، وقد تفرق ولد نوح في البلاد، وكثرت الجبابرة والعتاة منهم، وأفسد ولد كنعان بن حام، وأظهروا المعاصي.
ولما حضرت ارفخشد الوفاة جمع إليه ولده وأهله وأوصاهم بعبادة الله تعالى ومجانبة المعاصي، وقال لشالح ابنه: اقبل وصيتي، وقم في أهلك بعدي عاملا بطاعة الله تعالى. ومات يوم الأحد لسبع بقين من نيسان، وكانت حياته أربعمائة وخمسا وستين سنة.
شالح بن أرفخشد ثم قام شالح بن أرفخشد في قومه يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معاصيه، ويحذرهم ما نال أهل المعاصي من الرجز والعذاب. وكان قد ولد له عابر بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه عابر بن شالح، وأمره أن يتجنب فعل بني قابيل اللعين، ومات يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من آذار، وكانت حياته أربعمائة وثلاثين سنة.
Page 18
عابر بن شالح ثم قام عابر بن شالح يدعو قومه إلى طاعة الله تعالى، ويحذر بني سام بن نوح أن يختلطوا بولد كنعان بن حام، المغير دين آبائه، والمرتكب للمعاصي.
وكان قد ولد له فالغ، بعد أن أتت عليه مائة وأربع وثلاثون سنة، ثم حضرته الوفاة، فأوصى إلى ابنه فالغ، فقال له: يا بني! إن ولد قابيل اللعين، لما أكثروا العمل بمعاصي الله، سبحانه وتعالى، ودخل معهم ولد شيث بعث الله عليهم الرجز، فلا تدخل أنت ولا أهلك في ملة بني كنعان.
ومات عابر يوم الخميس لثلاث وعشرين من تشرين الأول، وكانت حياته ثلاثمائة وأربعين سنة، وقيل مائة وأربعا وستين سنة.
فالغ بن عابر ثم قام بعد عابر فالغ ابنه يدعو الناس إلى طاعة الله تعالى، فكان في زمانه اجتماع ولد نوح ببابل، وذلك أن ماش بن ارم بن سام بن نوح صار إلى أرض بابل، فولد نمرود الجبار، ونبيط، وهو أبو النبط، وهو أول من استنبط الأنهار، وغرس الأشجار، وعمر الأرض، وكان لسانهم جميعا السرياني، وهو لسان آدم، فلما اجتمعوا ببابل قال بعضهم لبعض: لنبنين بنيانا أسفله الأرض وأعلاه السماء! فلما أخذوا في البنيان قالوا: نتخذه حصنا يحرزنا من الطوفان، فهدم الله حصنهم، وفرق الله ألسنهم على اثنين وسبعين لسانا،
Page 19
وتفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة من موضعهم ذلك، فكان في ولد سام تسعة عشر لسانا، وفي ولد حام ستة عشر لسانا، وفي ولد يافث سبعة وثلاثون لسانا، فلما رأوا ما هم فيه اجتمعوا إلى فالغ بن عابر فقال لهم: إنه لا يسعكم أرض واحدة مع افتراق ألسنتكم، فقالوا: اقسموا الأرض بيننا، فقسم لهم فصار لولد يافث بن نوح الصين والهند والسند والترك والخزر والتبت والبلغر والديلم وما والى أرض خراسان، وكان ملك بني يافث في ذلك الزمان جم شاذ.
وصار لولد حام أرض المغرب وما وراء الفرات إلى مسقط الشمس.
وصار لولد سام الحجاز واليمن وباقي الأرض.
وكان قد ولد له أرغو بعد أن أتت عليه ثلاثون سنة، وحضرت فالغ الوفاة، فأوصى إلى ابنه ارغو، ومات فالغ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيلول، وكانت حياته مائتي سنة وتسعا وثلاثين سنة.
أرغو بن فالغ ثم قام أرغو بن فالغ بعد أبيه، وقد تفرقت الألسن على اثنتين وسبعين فرقة، لبني سام تسع عشرة فرقة، ولولد حام ست عشرة فرقة، ولولد يافث سبع وثلاثون، وكان في زمانه نمرود الجبار، وكان مسكنه ببابل، وكان الذي ابتدأ بناء الصرح، وأول من عمل التاج، وملك سبعا وستين سنة.
وكان قد ولد لأرغو ساروغ، بعد أن أتت عليه اثنتان وثلاثون سنة، ولما أتت لأرغو أربع وسبعون سنة من عمره كمل الألف الثالث.
وحضرت أرغو الوفاة، فأوصى ابنه ساروغ، وتوفي أرغو يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من نيسان، وكانت حياته مائتي سنة.
Page 20
ساروغ بن أرغو وقام ساروغ بن أرغو في ولد سام، بعد موت أبيه، وقد كثرت الجبابرة، وعتت في الأرض. وكان في زمن ساروغ أول ما عبدت الأصنام، وكان أول شأن الأصنام أن الناس كان إذا مات لأحدهم الميت الذي يعز عليهم من أب أو أخ أو ولد صنع صنما على صورته، وسماه باسمه، فلما أدرك الخلف الذي بعدهم ظنوا، وحدثهم الشيطان، أنه إنما صنعت هذه لتعبد، فعبدوها، ثم فرق الله دينهم، فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد الطير، ومنهم من عبد الحجارة، ومنهم من عبد الشجر، ومنهم من عبد الماء، ومنهم من عبد الريح، وفتنهم الشيطان وأضلهم وأطغاهم.
وكان قد ولد له ناحور، بعد أن أتت عليه مائة وثلاثون سنة، ولما حضرت ساروغ الوفاة أوصى ابنه ناحور، وأمره بعبادة الله تعالى، ومات ساروغ لثلاث بقين من آب يوم الأحد، وكانت حياته مائتين وثلاثين سنة.
ناحور بن ساروغ وكان ناحور مكان أبيه، فكثرت عبادة الأصنام في زمانه، فأمر الله سبحانه الأرض، فزلزلت عليهم زلزلة شديدة، حتى سقطت تلك الأصنام، فلم يكترثوا بذلك، وأعادوا أصناما مكانها.
Page 21
وفي زمانه ظهر السحر، والكهانة، والطيرة، وذبح الناس أولادهم للشياطين، وجعلت المكاييل والموازين.
وكانت حياة ناحور مائة وثمانيا وأربعين سنة، وكانت جبابرة ذلك العصر عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح، وكانوا قد انتشروا في البلاد، وكانت منازلهم بين أعالي حضرموت إلى أودية نجران، فلما عاثوا وعتوا بعث الله تبارك وتعالى هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، والعمل بطاعته، واجتناب المحارم، فكذبوه، فقطع الله عنهم المطر ثلاث سنين، فوجهوا وفدا لهم إلى البيت الحرام يستسقي لهم، فأقاموا يطوفون بالبيت ويسعون أربعين صباحا.
ثم رفعت لهم سحابتان: إحداهما بيضاء فيها غيث ورحمة، والأخرى سوداء فيها عذاب ونقمة، وسمعوا صوتا يناديهم: اختاروا أيتهما شئتم!
فقالوا: اخترنا السوداء! فمرت، وهي على رؤوسهم، فلما قربت من البلاد قال لهم هود: إن هذه السحابة فيها عذاب قد أظلكم! فقالوا: بل هو عارض ممطرنا، فأقبلت ريح سوداء لا تمر بشئ إلا أحرقته، فما نجا منهم إلا هود، ويقال إنه نجا لقمان بن عاد، وعاش حتى عمر عمر سبعة نسور.
ولما مضت عاد صار في ديارهم بنو ثمود بن جازر بن ثمود بن ارم بن سام ابن نوح، وكانت ملوكهم تنزل الحجر، فلما عتوا بعث الله إليهم صالح بن تالح بن صادوق بن هود نبيا، فسألوه أن يأتيهم بآية، فأخرج الله لهم ناقة من الأرض معها فصيلها، فقال لهم صالح: إن لهذه الناقة يوما ترد فيه الماء، ولكم يوما، فاحذروا أن تصدوها عن الماء! فكذبوه، فقام رجل منهم يقال له قدار، فعقرها وضرب عرقوبها بالسيف، فارتفع فصيلها على نشز من الأرض، ثم رغا، فبعث الله عليهم العذاب، فما فلت منهم إلا امرأة يقال لها الذريعة، وضرب العرب بقدار المثل.
Page 22